الجمعة، 2 سبتمبر 2022

موسوعة الدين النصيحة لعلي بن نايف الشحوذ

 

موسوعة الدين النصيحة(1)

 

مقدمة هامة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

{  رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) [طه/25-28] }

أما بعد أيها الأحباب الكرام :

فهذه موسوعة جمعتها تحت عنوان الدين النصيحة فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ».أخرجه مسلم في صحيحه

***********

وهناك موقع بهذا العنوان  http://www.islamadvice.com/

وقد جمعتها منه ومن غيره ، وفيها مقالات ودروس ومواعظ  وعبر مفيدة جدًّا لجميع فئات الناس ، وقسمتها إلى خمسة أجزاء كبيرة

وقد اشتملت على الأبواب التالية :

الباب الأول- ركن النصيحة

الباب الثاني - ركن الذكرى

الباب الثالث- ركن الدعوة

الباب الرابع - ركن العلم

الباب الخامس- ركن  الأسرة

الباب السادس- ركن  الفتوى

الباب السابع- ركن مواسم الخير

الباب الثامن - ركن  العقيدة

الباب التاسع - ركن السلوك

الباب العاشر - ركن  العظات والعبر

الباب الحادي عشر- ركن السير والتراجم

الباب الثاني عشر- ركن العبادات

الباب الثالث عشر- ركن المعاملات

الباب الرابع عشر -ركن الترويح عن النفس

********************

سائلا المولى سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » أخرجه البخاري في صحيحه

****************

جمعه ونسقه وفهرسه

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

في الخامس من شعبان لعام 1427 هـ الموافق ل 30/8/2006 م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الأول- ركن النصيحة

إمامة المرأة للرجال

الأدلة على أن المرأة لا حظ لها في قوامة الرجال وإمامتهم في الصلاة

دليل المجيزين لإمامة المرأة الرجال في الصلاة

أقوال أئمة المذاهب المقتدى بهم

أقوال أئمة المذاهب المقتدى بهم

إمامة المرأة للنساء والأطفال

الخلاصة

النساء ليس لهن نصيب في القوامة على الرجال، بدءاً بالإمامة الكبرى، ومروراً بما دون ذلك، وانتهاءً بالإمامة الصغرى.

هذا ما كان عليه أهل الإسلام وأجمعت عليه الأمة، سوى زلة نسبت إلى أبي ثور سامحه الله، وقد نهانا الشارع عن اتباع الزلات والهفوات، حتى قال الإمام سليمان التيمي رحمه الله: "من تتبع زلات العلماء وسقطاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله".

إلى أن نبتت نابتة في هذا العصر نادت بمساواة المرأة بالرجل في كل شيء تقليداً للكفار، ونبذاً لشرع سيد الأبرار محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ومنكرة لكل الثوابت والمسلمات في هذا الدين، تولى كبر هذه البدعة رجل وامرأة.

أما الرجل فهو الترابي، حيث أجاز للمرأة أن تؤم الرجال، وأن يلتصق ويختلط الرجال والنساء في الصفوف، إلا إذا خشيت الفتنة! هذا من الناحية النظرية.

أما المرأة الرَّجُلة أمينة ودود فقد مارست ذلك عملياً، عندما فاجأت المسلمين لأول مرة في تاريخهم الطويل، حيث خطبت وأمت شرذمة من النساء والرجال في صالة كنيسة من الكنائس بنيويورك بأمريكا، عندما منعتها كل المساجد من أن تدنس منابرها امرأة، وكان ذلك في يوم الجمعة الثامن من شهر صفر 1426هـ.

لقد هدف كل منهما إلى تحرير المرأة المسلمة من الأوامر الشرعية، والعمل على مساواتها بالرجل، ضاربين بالفوارق الشرعية والخَلقية والنفسية بين الجنسين عُرْض الحائط.

ã

الأدلة على أن المرأة لا حظ لها في قوامة الرجال وإمامتهم في الصلاة

الكتاب، والسنة، والإجماع العملي.

فمن الكتاب قوله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ".

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

وقوله: "لا تؤمن امرأة رجلاً".

وقوله: "أخروهن من حيث أخرهن الله".

وقوله إن المرأة تقطع الصلاة إذا مرت، فكيف تقف إماماً؟

أما الإجماع فقد أجمعت الأمة إجماعاً نظرياً وعملياً على عدم جواز إمامة المرأة للرجال، لا في فرض ولا نفل.

ولو جاز لامرأة أن تؤم الرجال لأمتهم عائشة، فهي من أعلم نساء العالمين، ومع ذلك كان يؤمها غلامها ذكوان في صلاة القيام، ولم تحدثها نفسها أن تؤم نساءً دعك من أن تؤم رجالاً.

لهذا كان شرط الذكورية هو الشرط الأساس بعد الإسلام في صحة الإمامة، كبرى كانت أم صغرى.

دليل المجيزين لإمامة المرأة الرجال في الصلاة

على الرغم من أن دعاة تحرير المرأة المسلمة من الأوامر الشرعية حتى تنطلق كما انطلقت المرأة الكافرة، حيث شاركت الرجل في قيادة الجرارات، وكنس الشوارع والطرقات، وزينت بها صالات العرض في المحال التجارية، فديست كرامتها، وانحطت منزلتها، وتخلت عن وظيفتها التي خلقها الله من أجلها: "والمرأة راعية في بيت زوجها" الحديث، إذ أحكامه صلى الله عليه وسلم قاضية على أمة الدعوة كما هي ملزمة لأمة الاستجابة، فنتج عن ذلك أن تفككت الأسر وانحل أمرها، أقول هم لا يأبهون بالأدلة الشرعية قرآناً ولا سنة، إلا أنهم إذا وجدوا ما صادف الهوى، ودلس على العامة والدهماء، دندنوا حوله، لا يميزون بين الصحيح والسقيم، ولا بين الزلات والهفوات والقواعد الشرعية والإجماعات.

عمدتهم في ذلك دليل يتيم سقيم، وهو حديث أم ورقة رضي الله عنها، حيث زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤم أهل دارها من الرجال والنساء، وإمعاناً في التضليل والتلبيس على العامة مثلت دارها بدارفور أوبدار "صباح" في المساحة، كما زعم الترابي.

وما علم هؤلاء أنه ما كان رجل مؤمن يصلي فريضة إلا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن مسعود: "وما كان يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وكان يؤتى بالرجل أي المريض والعاجز يهادى بين الرجلين ليوضع في الصف"، اللهم إلا إن كانوا يعنون بعض المغموص عليهم في النفاق، وحتى هؤلاء كانوا يتظاهرون بالاقتداء به في الصلاة، بل ويخرج بعضهم في الجهاد إمعاناً في التضليل.

هذا الحديث ضعفه الحافظان: ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن حجر في الإصابة.

وقال عنه الباجي في "المنتقى شرح الموطأ": (هذا الحديث مما لا ينبغي أن يعول عليه).

وقال الحافظ ابن حجر كذلك في "تلخيص الحبير": (في إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة).

ومما يدندن به هواة البحث عن الزلات والهفوات بجانب زلة أبي ثور رحمه الله أن الإمام أحمد رحمه الله أجاز للمرأة القارئة أن تؤم الأميين في التراويح شريطة أن تقف خلفهم.

هذا النقل وإن رُوي عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن يخالفه ما عليه المذهب الحنبلي من عدم إجازته أن تؤم المرأة الرجال حتى في النافلة، وإن وقفت خلفهم، ووصف الإمام أحمد لزلة أبي ثور بأنها قول سوء، وقبل هذا وذاك فإن الله لم يتعبدنا باختلافات الرجال وزلاتهم، وما من أحد إلا وهو راد أومردود عليه.

قال في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف في مذهب الإمام أحمد" في شرح هذه المتنة: "ولا تصح إمامة المرأة الرجال": (هذا المذهب مطلقاً، قال في "المستوعب": هذا الصحيح من المذهب، ونصره المصنف، واختاره أبوالخطاب، وابن عبدوس في "تذكرته"، وجزم به "الكافي"، و"المحرر"، و"الوجيز"، و"المنور"، و"المنتخب").

ã

أقوال أئمة المذاهب المقتدى بهم

قال ابن شاس المالكي: (وأما المرأة فلا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء).

وقال صاحب "سبيل السعادة" المالكي رحمه الله، وهو يعدد شروط صحة الإمامة: (أولها الذكورية المحققة، فلا تصح إمامة المرأة ولا الخنثى مشكل، وتبطل صلاة المأموم دون الأنثى التي صلت إماماً).

وقال النووي: (واتفق أصحابنا على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة ولا خنثى.. وتصح صلاة المرأة خلف الخنثى.

وسواء في المنع إمامة المرأة للرجل صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة، فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وسفيان، وأحمد، وداود..

وقال الشيخ أبو حامد: مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة الرجل وراءها إلا أبا ثور، والله أعلم؛ قال أصحابنا: فإن صلى خلف المرأة ولم يعلم أنها امرأة ثم علم لزمه الإعادة بلا خلاف).

وقال ابن مودود الحنفي رحمه الله: (ولا تجوز إمامة النساء والصبيان للرجال، أما النساء فلقوله عليه الصلاة والسلام: "أخروهن من حيث أخرهن الله"، وأنه نهى عن التقديم).

وقال ابن قدامة رحمه الله: (وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجال بحال، في فرض ولا نافلة، في قول عامة الفقهاء).

وقال ابن حزم الظاهري رحمه الله: (ولا يجوز أن تؤم المرأةُ الرجل ولا الرجال، وهذا ما لا خلاف فيه، وأيضاً فإن النص قد جاء بأن المرأة تقطع صلاة الرجل إذا قامت أمَامَه... مع قوله صلى الله عليه وسلم: "الإمامة جُنَّة"، وحكمه عليه السلام بأن تكون وراء الرجل ولابد في الصلاة، وأن الإمام يقف أمام المأمومين ولابد... ومن هذه النصوص يثبت بطلان إمامة المرأة للرجل وللرجال يقيناً).

إمامة المرأة للنساء والأطفال

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين:

الأول: منع الأحناف والمالكية المرأة من الإمامة بالكلية، ولو للنساء والأطفال.

الثاني: أجاز الشافعية ومن وافقهم إمامة المرأة للنساء والأطفال في غير الجمعة، شريطة:

   أن تقف وسطهن.

   وأن لا ترفع صوتها بالقراءة والتكبير.

قال الإمام النووي رحمه الله: (أما صلاتها وصلاة من ورائها من النساء فصحيحة في جميع الصلوات إلا إذا صلت بهم الجمعة تبطل صلاتها).

الخلاصة

لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تؤم رجلاً أورجالاً لا في فرض ولا نفل، ولا يصح لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي خلفها، فمن صلى خلفها فقد بطلت صلاته، وهو آثم.

وإن نوت المرأة إمامة رجل أورجال بطلت صلاتها هي كذلك.

هذا ما عليه أهل الإسلام قديماً وحديثاً، وما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

والله أسأل أن يردنا إليه وجميع المسلمين رداً جميلاً، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يجنبنا الفتن والشذوذ والآثام، وصلى الله وسلم على سيد الأنام، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الكرام، والتابعين لهم بإحسان.

0000000000000000000

الفضائيات وخطرها على الناشئة والمجتمع

المسؤولية في الإسلام فردية وتضامنية، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث عم ثم خص: "والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده"، ثم عم: "وكلكم مسؤول عن رعيته".

لهذا فقد وصى الله الآباء بالأبناء قائلاً: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ".

وأوجب على الأمة الأمر، والنهي، والمناصحة، وجعلها صمام الأمان لها، وجعل خيريتها مرتبطة بذلك: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ"، وأمر بالذكرى، ونهى عن الغفلة.

لهذا كان السلف الصالح يعنون أول ما يعنون بتنشئة أبنائهم وتقويم سلوكهم، فإذا أدرك الطفل ألحق بالكتاتيب ليلقن القرآن الكريم، ثم الحديث، ويقدم له من المتون في فنون الشريعة واللغة، ثم بعد ذلك يلتحق بحلقات العلماء في المساجد.

كان هذا هو الحال إلى أن تسلط الكفار على ديار الإسلام، وعملوا على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير،حيث أنشئت المدارس والجامعات على غرار ما عند الكفار، حيث العناية بالعلوم المدنية، وأغفلت العلوم الشرعية والعربية.

وعندما انتبه البعض لخطورة ذلك، وأنشأوا مدارس ومعاهد أهلية وخاصة، ليعوضوا بها هذا النقص، ويسدوا بها هذا الخلل، ما فتئ أعداء الإسلام يضغطون على الحكام حتى أغلقت جميع مما بقي من هذه المدارس والمعاهد في كل من باكستان والسعودية، بحجة أنها كانت محاضن لتفريغ الإرهابيين كما يزعمون.

وليت الكفار وقفوا عند هذا الحد، بل تعدوه إلى حذف وشطب كل الآيات والأحاديث والآثار التي لها تعلق من قريب أوبعيد بعقيدة الولاء والبراء، أوالتي تبين كفر اليهود والنصارى، أوالتي تنهى عن تقليدهم والتشبه بهم.

محاضن التغريب هذه والمسخ أتت أكلها، وقامت بدورها، حيث خرجت أجيالاً ممسوخين لا يعرفون من القرآن إلا رسمه، ولامن الإسلام إلا اسمه، هم الذين أسند الكفار الأمر إليهم عند خروجهم، ومنحهم تلك البلاد الاستقلال الاسمي، حيث عادوا وواصلوا استعمارها عن طريق وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، التي توجت بالمرئية متمثلة في التلفاز والفضائيات "الاستعمار الإلكتروني".

لقد صدق الكاتب فهمي هويدي حين قال: (خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام 1956م، ولكنه رجع إليها عام 1989م، لم يرجع إلى الأسواق ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسرة نومنا، رجع ليقضي على الدين، واللغة، والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب والترحاب، كنا ننظر إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته والجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد، لا كاستعمار الأرض، وإنما استعمار القلوب، إن الخطر يهدد الشباب، والشابات، والكهول، والعفيفات، والآباء، والأمهات.

إلى أن قال: إن الفرنسيين غادروا تونس عام 1956م وعادوا عام 1989م ليقتحموا كل بيت، وقرروا أن يقضوا داخله 20 ساعة كل يوم، يمارسون تأثيرهم على اللغة، والأخلاق، والفكر، والوعي عند الصغار، والكبار، والنساء، والرجال، والشباب، والفتيات، وإن كان الخطر الأكبر يهدد الجيل كله).

من العجيب الغريب أن يشعر الكفار في فرنسا، واليونان، وكندا، وغيرها من الدول الكافرة بخطورة الغزو الثقافي الأمريكي عليهم، المتمثل في البث المباشر على دولهم، ولا يشعر المسلمون بذلك على الرغم من أنهم هم المستهدفون؟!

إن خطر هذه الفضائيات على الإسلام عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً، وعلى المسلمين ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.

فالخطر عام ولكنه يشتد على الناشئة والصغار، ويظهر ذلك جلياً في الآتي:

1. الفساد العقدي، بالتشكيك في كثير من المسلمات والثوابت.

2. الفساد الأخلاقي، بتزيين الرذيلة وإشاعتها في الذين آمنوا، وإشانة الفضيلة، وقتل الحياء، والعفة، والغيرة.

3. كسر الحاجز النفسي بين المسلمين والكفار، وزعزعة عقيدة الولاء والبراء التي إذا فقدها المسلم فقد كل شيء.

4. ضياع أفضل فترات العمر فترة الشباب في أفلام الكرتون المدبلجة، وفي الألعاب، بدلاً من استغلال ذلك فيما ينفعه في دينه ودنياه.

في دراسة أجريت تحت إشراف مكتب التربية العربي لدول الخليج 1402هـ جاء فيها أن عدد الفاقد التربوي ما بين سن 6 14 خارج البيت يصل إلى 33% من أطفال البلاد العربية، ويصل إلى 75% في الشباب ما بين 15 17، و20%  في الشباب ما بين 18 -24.

وأن قطاعاً من الطلاب قد أمضى أمام التلفزيون في مرحلة الثانوية العامة (15000) ساعة، بينما أمضى في حجرات الدراسة (10800) ساعة.

5. الاهتمام بسفاسف الأمور وتوافهها، نحو الاهتمام بالأغاني، ومشاهدة المسلسلات، والمباريات سيما المشاركة في كأس العالم.

6. الأضرار الصحية الناتجة من الجلوس أمام هذه الأجهزة بالساعات الطوال على البصر والظهر، هل تعلم (أن الضوء الذي يوجهه التلفاز إلى عيوننا إنما توجهه من وراء الشاشة مدافع توليد "أشعة كاثود" بقوة 25000 فولت في الجهاز الملون، وبقوة 15000 فولت في الجهاز الأبيض والأسود... إن مصدر الأشعة السينية المنبعثة من شاشة التلفاز تعتبر مصدر خطر على صحة الإنسان).

7. الآثار السالبة على التحصيل العلمي.

8. التعود على السهر، الذي يؤثر على أداء صلاة الصبح في وقتها، وإلى قلب الليل نهاراً والنهار ليلاً عكس ما شرعه لنا ربنا: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا".

9. العمل على انتشار الجريمة وسط الشباب والمراهقين، ففي دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر أحد الباحثين: (أن 41 % ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة، و47 % يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال).

10.  العمل على تفكيك الأسرة المسلمة كما تفككت الأسرة عند الكفار.

11.  الدعوة إلى النصرانية، حيث توجد شبكات لبرامج نصرانية يشرف عليها مجلس الكنائس العالمي.

هذا قليل من كثير، وغيض من فيض من أضرار الفضائيات الموجهة لإخراج المسلمين من دينهم، ولإشاعة الفاحشة بينهم، فعلى ولاة الأمر من الحكام، والعلماء، وأولياء البيوت أن ينتبهوا لهذا الخطر، ويعملوا على صده، ويحصنوا الناشئة من سلبياته الكثيرة.

والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يكف عنا شر أعدائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

00000000000000000000

هل تعلم أيها الصوفي؟!

هل تعلم أنك تنتسب إلى لبس الصوف

وهل تعلم أنك تدين الله بشيء حادث في الدين؟

هل تعلم أخي أن من حق الله عليك أن تعبده ولا تشرك معه غيره

هل تعلم أن التوسل المشروع له ثلاث وسائل

هل تعلم أن رسولك صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني

هل تعلم أخي الحبيب أن كل الأوراد التي لم يتعبد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودة عليك؟

هل تعلم أخي الموفق لكل خير أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟

واعلم كذلك أنه ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً

واعلم كذلك أن تقسيم الصوفية العلم إلى علم ظاهر وباطن لا أساس له من الصحة

واعلم كذلك أن الولاية ليست بالتوارث، وإنما هي بالإيمان والتقوى

واعلم كذلك أنه ليس كل خارق كرامة

واعلم كذلك أن العلماء هم الأولياء

واعلم كذلك أن الله أثنى عل قوم بقوله: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"

هل تعلم أنه لا يحل لأحد أن ينتسب إلى أي طريقة من الطرق الصوفية القائمة

واعلم أن الأذكار المبتدعة لا تقرب العبد من ربه، بل تباعد بينه وبين الله

اعلم كذلك أن هناك أموراً خُصَّ بها نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم

واعلم أن البناء على القبور، والتعلق بها، والتمسح والدعاء عندها، من سمات عباد الأوثان

واعلم كذلك أنه لا يسع أحد من هذه الأمة أن ترفع عنه بعض التكاليف الشرعية

وأخيراً اعلم أيها الحبيب أننا والله أنصح لك من مشايخك، ومن أتباع طريقتك

قوام هذا الدين النصيحة كما أخبر الحبيب المصطفى والرسول المجتبى صلوات ربي وسلامه عليه، فعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".

انطلاقاً من هذا التوجيه النبوي الشريف، أتوجه بهذه الكلمات إلى كل صوفي، شيخاً كان أم مريداً، قارئاً كان أم أمياً، قريباً كان أم بعيداً، ذكراً كان أم أنثى.

أرجو أن تجد عند الجميع آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً متجردة لله عز وجل، للحق طالبة، ومن التعصب المقيت وتقليد الرجال متحررة.

ومن قبل أرجو ذخرها وثوابها عند من لا تخفى عليه خافية.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

هذه الرسالة عبارة عن أسئلة، واستفسارات، وتنبيهات، مصحوبة بأجوبة وبيانات لها، ربما لم تقرع آذان البعض من قبل، ولم يفكروا فيها، ويشغلوا أنفسهم بها، على الرغم من أهميتها، وحاجبتهم قبل غيرهم إليها.

أقول وبالله التوفيق:

هل تعلم أنك تنتسب إلى لبس الصوف، وليس إلى أهل الصفة، ولا الصف الأول، ولا الصفاء، لأن اللغة لا تجيز ذلك أبداً، أو إلى ناسك جاهلي هو "صوفي بن بشر"؟

ولا إخال عاقلاً يحب أن يُنسب إلى هذا أوذاك، فهلا تسميت بالاسم الذي سماك به ربك؟

"هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ".

ã

وهل تعلم أنك تدين الله بشيء حادث في الدين؟

إذ الصوفية من الأمور المحدثة، حيث لم تظهر إلا في نهاية القرن الثاني أوبداية القرن الثالث الهجري، وقد حذر رسولك صلى الله عليه وسلم من البدع المحدثات، فقد صح عنه أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وصح عنه كذلك: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".

ã

هل تعلم أخي أن من حق الله عليك أن تعبده ولا تشرك معه غيره، ومن حقك عليه إن عبدته ولم تشرك معه غيره أن يدخلك الجنة؟

وهل علمت أن دعاءك واستغاثتك بذوات الأحياء أوالأموات، أوبجاههم، وطلبك للحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله، نحو طلب الولد، والمغفرة، ونحوهما، من باب الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار، والمبطل لجميع الأعمال، المانع من شفاعة سيد الأبرار؟

ã

هل تعلم أن التوسل المشروع له ثلاث وسائل، وما سواها توسل شركي، ممنوع، ممقوت؟

وهي:

1. التوسل إلى الله عز وجل بأي اسم من أسمائه الحسنى، وبأي صفة من صفاته العلا، نحو: يا رب، يا حي، يا قيوم.

2. التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل الثلاثة الذين دخلوا الغار فانسد عليهم، فتوسل كل منهم بصالح عمله، ففرَّج الله عنهم كما أخبر الصادق المصدوق.

3. طلب الدعاء من الحي الحاضر، نحو توسل الأعمى بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث عثمان بن أبي حنيف، حيث طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأعمى أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله بصره.

وكاستسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ولا يظنن خاطئ أن عمر استسقى بذات العباس، إذ لو كان الاستسقاء بذاته لاستسقى عمر بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل من العباس ومن جميع الخلق، بأبي هو وأمي، ولهذا خرج العباس وخرج معه عمر والصحابة، ورفع العباس يده فقال: اللهم ما نزل بلاء إلا بمعصية، ولا رفع إلا بتوبة.. إلخ.

شريطة أن لا يرد الفضل إلى الداعي، ولكن إلى الله.

ã

هل تعلم أن رسولك صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"؟

والإطراء هو المبالغة في المدح والكذب فيه، من ذلك اعتقاد جل الصوفية:

1. أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور، بل جميع الأنبياء من لدن آدم خلقوا من نوره، وهذا منافٍ لما أخبر به الله أنه من بني آدم، وقد خلق الله آدم عليه السلام من طين.

2. أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته قبل موته، يستقبل الزائرين ويصافحهم ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ"، وقال: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ".

مع يقيننا الصادق أن روحه صلى الله عليه وسلم في أعلى الجنان، وأن الله حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء، وأن الحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيا وعن الحياة الآخرة.

3.  اعتقاد كثير من الصوفية أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُرى يقظة بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، بل من المشايخ من يزعم أنه يكلم الله من غير واسطة، وأن بعض الطرق خرج مرسوم إنشائها بأمره، وأنهم أخذوا عنه بعض الصلوات والأذكار، وأنه يحضر الموالد والحوليات، ولهذا نجد البعض يقفون عند قراءة فاصل من المولد العثماني، والبعض إذا جلسوا لذكر الجمعة فرشوا ملاءة، وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس في وسطها، وخلفاؤه الراشدون في أركانه.

هذا الاعتقاد بجانب ما فيه من المخالفة لما كان عليه السلف الصالح من لدن الصحابة ومن بعدهم، حيث لم يزعم أحد منهم أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم مع حاجتهم الماسة لذلك، ومنزلتهم العالية عنده.

فها هي فاطمة رضي الله عنها، كانت تظن أن لها حقاً فيما تركه أبوها صلى الله عليه وسلم، فبيَّن لها أبوبكر أن الأنبياء لا يورثون، ما تركوه صدقة، ولكنها لم تقنع بذلك، فلو كانت رؤياه يقظة ممكنة لرأته فاطمة واجتمعت به، ولرآه خلفاؤه الراشدون، فقد حزبتهم أمور عظام، فلا يمكن أن يحجب عنه أولئك الأخيار مع توفر الدواعي والحاجة الماسة، ويراه الخلوف من هذه الأمة.

قلت: بجانب عدم قيام الدليل على ذلك فإن هذا الاعتقاد فيه من سوء الأدب وعدم توقير الرسول الكريم وإجلاله الشيء الكثير، حيث يزعم هؤلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يأتي إليهم ويزورهم.

ã

هل تعلم أخي الحبيب أن كل الأوراد، والأذكار، والصلوات، والاحتفالات، والموالد، والحوليات التي لم يتعبد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ربهم، والتي لم تكن معروفة لديهم، أنها مردودة عليك بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وقال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

لأن العبادات توقيفية، لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان، لماذا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ لماذا تترك الأذكار والصلوات التي خرجت من في من لا ينطق عن الهوى، وتتمسك بأوراد وأذكار وضعها غيره من البشر؟

قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن ذكر صيغ الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وصفتها: (وأما ما قاله أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة على ذلك "وارحم محمداً وآل محمد"، فهذه بدعة لا أصل لها، وقد بالغال إمام أبوبكر بن العربي المالكي في كتابه شرح الترمذيي إنكار ذلك، وتخطئة ابن أبي زيد، وتجهيل فاعله، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فالزيادة على ذلك استقصار لقوله، واستدراك عليه صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق).

ã

هل تعلم أخي الموفق لكل خير أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف؟

كما أخبر صاحب الشريعة، وأن ما يشيعه بعض الصوفية: "لا تعترض فتطرد"، وزعم البعض أنه لو أمره شيخه بدخول النار لدخلها، ولو أمره بالكفر لكفر، لا أساس له في شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم.

بل جاء في الأثر: "لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنتُ، وإن أساءوا أسأتُ؛ ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، فإنه لا أسوة في الشر".

وقد حذر الشارع كذلك أن يقلد المرء دينه الرجال، لأن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن يعرف الرجال بدورانهم مع الحق حيث دار، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

ã

واعلم كذلك أنه ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً

كما قال مالك الإمام في تفسير قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا"، فالدين تم وكمُل، فماذا بعد التمام إلا النقصان؟!

ã

واعلم كذلك أن تقسيم الصوفية العلم إلى علم شريعة وحقيقة، أوعلم ظاهر وباطن، أوما يعرف بـ"العلم اللدني"، لا أساس له من الصحة

وأن هذا التقسيم ما أنزل الله به من سلطان، ولم يؤثر عن علم من الأعلام، وإنما اخترعه الشيطان على أوليائه ليلبس عليهم، وليتمكن من إضلالهم.

وزعموا أن العلم اللدني يلقن تلقيناً، ولا يحتاج إلى تعليم، ومعلوم من دين الله أن العلم بالتعلم، ولو كان العلم بالتلقين لناله سيد البرية، ولكن علمه جبريل عليه السلام عندما قال له: "اقرأ"، قال: "ما أنا بقارئ.."، قال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، الحديث.

عمدتهم في هذا التقسيم قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وقوله تعالى: "وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا"، وليس في ذلك أدنى دليل.

والقول الراجح أن الخضر نبي من الأنبياء، وأن الله أوحى إليه بأمور لم يوحها لكليمه موسى، ولهذا قال في نهاية القصة: "وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي"، وأن موسى عليه السلام أفضل من الخضر، فهو نبي رسول من أولي العزم، ولكن سبب ابتلائه بذلك أنه خطب يوماً في بني إسرائيل، فقال له رجل: هل هناك من هو أعلم منك؟ فلم يرد العلم إلى الله، ولهذا أمره الله أن يخرج في تلك الرحلة.

والحق كذلك أن الخضر مات، ولو كتب الله الخلود لأحد لكتبه لخاتم الأنبياء والرسل: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ".

وما الحديث الذي يروى في سند العلم اللدني إلا من وضع الكذابين الدجالين.

وما ورد في قصيدة "جل جلاله": "من جبريل فهو روح الله، أوحى لي مختار الله.."، كان اعتماداً على هذا الحديث الموضوع.

ã

واعلم كذلك أن الولاية ليست بالتوارث، وإنما هي بالإيمان والتقوى

قال تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ".

فكل مؤمن تقي فهو ولي لله عز وجل، وطالما أن الناس يتفاوتون في إيمانهم وتقواهم فإنهم لا شك متفاوتون في ولايتهم.

ã

واعلم كذلك أنه ليس كل خارق كرامة

إذ الخوارق منها ما هو من باب الشيطان والاستدراج، ومن السحر، ولهذا فإن ضابط الكرامة الأساسي هو الاستقامة على دين الله، ولهذا ورد عن السلف أن أكبر كرامة هي الاستقامة.

ورحم الله الشافعي عندما قال: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أويطير في الهواء، فلا تصدقوه ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب".

ã

واعلم كذلك أن العلماء هم الأولياء

ولهذا قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي: "إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي".

ولهذا فإن الاشتغال بالعلم الشرعي أفضل من التفرغ للعبادة، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"، وجاء في الحديث: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، وفي رواية: "كفضل القمر على سائر الكواكب"، لأن العلم فضله متعدٍ، أما العابد إن كان يعبد الله على بصيرة فخيره قاصر عليه.

ã

واعلم كذلك أن الله أثنى عل قوم بقوله: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"

مما يدل على أن مسلك الصوفية في منعهم أتباعهم ومريديهم من الجلوس إلى علماء أهل السنة، خوفاً من أن يؤثروا عليهم، فيه ظلم وتعدٍ كبير، وحرمان عظيم لهؤلاء، وهو شبيه بما كان يحذر به المشركون بعضهم بعضاً: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ".

وبما كان يفعله قوم نوح عليه السلام: "وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ".

ورضي الله عن الطفيل بن عمرو الدوسي، عندما حذره أهل مكة وخوفوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وضع الكرسف في أذنيه حتى لا يسمع شيئاً من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن سرعان ما آب إلى رشده، وخاطب نفسه قائلاً: أنا رجل شاعر لبيب، أعرف الحسن من القبيح، فلماذا لا أستمع له؟ فأخرج الكرسف واستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقذف الله الإيمان في قلبه، فلم يمكث هنيهة إلا وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابسط يدك أبايعك.

فليت قومنا صنعوا ما صنع الطفيل، فاستمعوا وانتفعوا.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يدل هذا المنع والتحذير على الإفلاس وعلى ضعف الحجة.

الذين لا تجوز مجالستهم، ولا معاشرتهم، ولا أخذ العلم منهم هم أهل البدع والأهواء، أما أن يحذر من أهل السنة، ويُدعى للجلوس مع أهل الأهواء، فهذا من انقلاب الموازين، وأكبر الخلل في الدين.

ã

هل تعلم أنه لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينتسب إلى أي طريقة من الطرق الصوفية القائمة، أوإلى حزب من الأحزاب العلمانية، ولا إلى أي جماعة من الجماعات، إلا إذا كانت على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في ذلك اليوم في العقيدة، والتصور، والعبادة، والسلوك؟

قد يقول قائل: كيف تقول ذلك، وقد رأينا جماعة دخلوا في هذه الطرق وتركوا ما كانوا عليه من الكبائر والآثام؟

نقول: لا شك أن بعض ذلك حق، وما من شيء يخلو من منفعة قلت أم كثرت، ولكن إذا كانت الأضرار والمفاسد التي تلحق بالمرء بانتسابه إلى هذه الطرق لا تدانيها المنافع التي يحصلون عليها، فخير للمرء مليون مرة أن يبقى على معصية من المعاصي مهما كانت سوى الشرك بالله، من أن يتخلص من هذه المعصية ثم تفسد عقيدته، ويستعيض عن هذه المعصية بالعديد من الممارسات الشركية.

ã

واعلم أن الأذكار المبتدعة التي أحدثها الصوفية، نحو السماع الصوفي، والضرب على الطبول، والرقص، والتواجد، والذكر الجماعي، والذكر بالاسم المفرد نحو "هو، هو"، لا يقرب العبد من ربه، بل يباعد بينه وبين الله

فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة.

ولهذا فإن السماع الصوفي أشد حرمة من الغناء، وإليك هذه الفتوى في السماع الصوفي من أحد أئمة المالكية الكبار، وعلمائهم الأخيار، حتى لا يظن ظان أن النهي عن ذلك قاصر على ابن تيمية ومن والاه، بل هذا مذهب عامة المسلمين، وليعلم الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً أن ليس لهم سلف في الصحابة والتابعين، ولا في أتباع الرسل السابقين، وإنما سلفهم الزنادقة، وعباد العجل أصحاب السامري.

جاء في تفسير قوله تعالى: "فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ"، كما قال القرطبيرحمه الله: (سئل الإمام أبوبكر الطرطوشي المالكي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ واعلم -حرس الله مدته- أنه اجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه:

يا شيخُ كف عن الذنوب              قبل  التفــرق والزلل

واعمل لنفسك صالحـاً               ما دام ينفعك العمــل

أما الشبـاب فقد مضى              ومشيب رأسك قد  نزل

وفي مثل هذا ونحو.

الجواب يرحمك الله مذهب الصوفية بطالة، وجهالة، وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار.

فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم.

هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق).

وقال الطرطوشي كذلك: (وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء ديناً وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد، والجوامع، وسائر البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة، وليس في الأئمة من رأى هذا الرأي).

عقد الإمام ابن القيم رحمه الله مقارنة بين حال هؤلاء القوم عند السماع الرحماني، وبين حالهم عند السماع الشيطاني قائلاً:

خروا على القرآن عند  سمـاعه          صماً وعمياناً ذوي إهمــال

وإذا تلى القاري عليهم سـورة        فأطالها عدوه في الإثقـــال

ويقول  قائلهـم: أطلتَ وليس ذا          عشر، فخفف، أنت ذو إمـلال

هذا، وكم لغو، وكم صخب، وكم         ضحك بلا أدب ولا إجمــال

حتى إذا قام السمـــاع  لديهم          خشعت له الأصوات  بالإجلال

وامتدت الأعناق تسمع  وحي ذا          ك الشيخ من مترنم قـــوال

وتحركت تلك الرؤوس وهزهـا          طرب وأشواق لنيل وصــال

فهنالك الأشـــواق والأشجان          والأحوال لا أهلاً بذي الأحوال

يا أمة لعبت  بدين نبيهــــا           كتلاعب الصبيان في  الأوحال

أشمتموا أهل الكتــاب بدينكم           والله لن يرضوا بذي الأفعـال

قالوا لنا: دين عبـــادة  أهله         هذا السماع فذاك  دين محال

ã

اعلم كذلك أن هناك أموراً خُصَّ بها نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد من الأمة، مهما كانت مكانته وعلت منزلته

نحو:

1. التبرك بما انفصل منه صلى الله عليه وسلم، من شعر، ومن ماء وضوء، فلا يحل لأحد أن يمارس هذا مع أحد من الخلق، ولو جاز هذا لأحد لجاز لخلفائه الراشدين والأئمة المهديين، حيث لم ينقل أن أحداً صنع معهم شيئاً من ذلك.

2.  أن أزواجه تلقب بأمهات المؤمنين، فلا يحل لأحد أن يلقب زوجة أحد من المشايخ بهذا أبداً.

3.     كل نساء الأمة محارم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحل لأحد أن يتشبه به في ذلك فيخلو بامرأة أجنبية.

ã

واعلم أن البناء على القبور، والتعلق بها، والتمسح والدعاء عندها، من سمات عباد الأوثان، وليس من سمات أتباع من نزل عليه القرآن

فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، ولعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج.

ã

واعلم كذلك أنه لا يسع أحد من هذه الأمة مخالفة أمر الله ورسوله، أوالخروج عن شرع محمد صلى الله عليه وسلم، بأن ترفع عنه بعض التكاليف الشرعية

فمن ادعى ذلك أوصدق من ادعاه فقد كفر بما أنزل على محمد.

ã

وأخيراً اعلم أيها الحبيب أننا والله أنصح لك من مشايخك، ومن أتباع طريقتك

فإياك أن تأخذك العزة بالإثم، وأن تستنكف وتستكبر عن قبول نصيحتنا، فالحكمة ضالة المؤمن، ورضي الله عن معاذ عندما قال: خذ الحق وإن جاءك من كافر؛ قالوا: وكيف نعرف أن الكافر يقول الحق، فقال: إن على الحق نوراً، أوكما قال.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق فرده إلى الحق حتى يكون من أهله.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وآله، ومن والاهم بإحسان إلى يوم الدين.

0000000000000000

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان نداء عاجل إلى الأمة الإسلامية: أغيثوا إخوانكم المحاصرين

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

نداء عاجل إلى الأمة الإسلامية: أغيثوا إخوانكم المحاصرين

رب وامعتصمـاه  انطلقت             ملء أفواه الضحايـا اليتم

لامست أسماعهم لكنهــا              لم تلامس نخوة  المعتصـم

"واغوثاه يا حَكَم، قد ضيعتنا، وأسلمتَنا، واشتغلتَ عنا"

أيها المسلمون، حكاماً ومحكومين، أين أنتم من مآسي المسلمين، ومن استغاثات المستغيثات والمستغيثين من إخوانكم المستضعفين في فلسطين، ولبنان، والعراق، وغيرها من بلاد الإسلام، التي عاث فيها إخوان القردة والخنازير، وعباد الأوثان، والعملاء اللئام الفساد، وهتكوا الأعراض، وقتلوا وأسروا الرجال، والنساء، والأطفال؟

أين أنتم من خذلانكم لإخوانكم وإسلامكم لهم لعدوهم؟ أين الأخوة الإيمانية، والنخوة العربية، بل أين الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي؟

عندما استنجدت امرأة مسلمة واحدة أسِرت قائلة: "وامعتصماه"، أجابها في الحال: "لبيك يا أمَة الله، سميعاً دعوتِ، ومجيباً رجوتِ"، ثم هب لنصرتها، ففتح الله على يديه "عمورية".

وما فعله المعتصم فعله الأمير الحَكَم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في 194ﻫ، عندما استغاثت به أسيرة واحدة قائلة: "واغوثاه، يا حكم! قد ضيعتنا، وأسلمتنا، واشتغلت عنا بجهاده في أماكن أخر- حتى استأسد العدو علينا"، فما كان منه إلا أن قفل إلى تلك الناحية التي كانت فيها المرأة، وفك أسرها، وقال لأهل تلك الناحية وللمرأة: "هل أغاثكم الحَكَم؟"، قالوا: "شفا والله الصدور، ونكى في العدو، وما غفل عنا إذ بلغه أمرنا! فأغاثه الله وأعز نصره".

عجباً لإخوان القردة والخنازير أن يثأروا لبضعة أسرى، وأن لا يثأر المسلمون ويغضبوا للملايين من إخوانهم الذين أسروا، وقتلوا، وذلوا، وأهينت كرامتهم.

لا نطلب من حكام اليوم أن يفعلوا ما فعله المعتصم، والحَكَم، وغيرهما، إذ لا قبل لهم بذلك، ولم ينصبوا لما هنالك، ولكن المطلوب منهم أقل من ذلك بكثير:

1. فك الحصار عنهم من الدول المجاورة.

2. مد يد العون والمساعدة.

3. الاعتراض والاستنكار، وإن كان لا يجدي.

4. أن تتوحد كلمتهم في هذه القضايا المصيرية من خلال جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وما شاكل ذلك.

أما العلماء، والخطباء، والدعاة من الأمة، فالمطلوب منهم:

1. توعية الأمة بما يحيط بها من كوارث ونكبات.

2. القنوت المستمر والدعاء والحث عليهما، فالمسلمون الآن في نازلة مستمرة.

3. الحث على الإنفاق على المجاهدين.

أما بالنسبة للعامة:

1. التبرع بما تجود به النفوس.

2. الدعاء، فهو سلاح المستضعفين، وبه يُستنزل النصر من رب العالمين.

وأخيراً نذكر الجميع بأن خذلان المسلم لأخيه المسلم، وإسلامه للعدو من أكبر الكبائر العظام، ومن خذل مسلماً خذله الله في الدنيا والآخرة، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة".

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة

18/6/1427ﻫ

0000000000000000000

الحكم بغير ما أنزل الله

الحكم بغير ما أنزل الله

متى يكون كفراً مخرجاً من الملة ومتى لا يكون؟!

تمهيد

متى يكفر الحاكم المسلم كفراً أكبر، ومتى لا يكفر؟

الأولى

الثانية

الثالثة

الرابعة

الخامسة

السادسة

حالتان لا يكون كفر الحاكم فيهما كفراً أكبر

الأولى

الثانية

شبهة أن الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله لا يكفر إلا إذا استحل ذلك بقلبه، ودحضها

تمهيد

التمكين في هذا الدين موكل بالابتلاء، فلا يُمَكَّن أحد مهما كانت منزلته، وعلت رتبته، حتى يبتلى، ولهذا عندما سُئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للمرء المسلم، التمكين أم الابتلاء؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى.

لو عفي أحد من الابتلاء لعفى الله أنبياءه ورسله وأتباع رسله وحوارييهم، فلا يزال الحال هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا".

الابتلاء يختلف كماً وكيفاً حسب حال المبتلى، وحسب ظروف، وحال العصر الذي يعيش فيه، كما أن سلف الأمة من أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ابتلاهم الله بالفرق الضالة المنحرفة، وبالعقائد الخاسرة، نحو عقيدة الخروج، والرفض، والقدر، والاعتزال، والإرجاء، فوفقهم الله لصدها ودحرها، وثبتهم للقيام بالواجب، وللذب عن عقيدتهم وسنة نبيهم، وقد ظهر ذلك جلياً في فتنة خلق القرآن التي تولى كبرها أئمة الاعتزال، بعد أن غرروا ببعض الخلفاء، حيث وقف أئمة أهل السنة مواقف الرسل والأنبياء، وأرضوا رب الأرض والسماء، إلى أن انجلت تلك الغمة، وانكشفت، وزالت، وعادت الأمة إلى ما كانت عليه.

أخطر أنواع الابتلاءات، وأعظمها ضرراً، وأعمقها أثراً على الأمة، تلك التي تنتج من بعض الشبه التي يثيرها بعض المنتسبين إلى السنة، المنتمين إلى السلف.

على الرغم من تعدد الابتلاءات وتنوعها في هذا العصر بحيث يصعب حصرها، إلا أننا يمكن أن نجملها في الآتي:

1. الغزو الفكري، والعسكري، والسياسي، والاقتصادي، متمثلاً في الحرب الصليبية التي تتولى كبرها أمريكا تحت مظلة التحالف الشيطاني اليهودي الكنسي.

2. ما يقوم به الشيوعيون وأذنابهم من تشكيك في الثوابت والمسلمات، مستغلين المظلة التي حفهم بها إخوانهم من اليهود والنصارى.

3. موالاة بعض المنتسبين إلى الإسلام - زوراً وبهتاناً - للغزاة الصليبيين، متمثلاً في فتح المياه الإقليمية والأجواء لهم، وإنشاء القواعد العسكرية، والتجسس على المسلمين لصالحهم، بل القتال إلى جانبهم، والحكم نيابة عنهم في البلاد التي اغتصبوها، كما هو الحال في أفغانستان والعراق.

4. الحملة الإعلامية الشرسة ضد الإسلام وحماته، التي يقودها العلمانيون والصحفيون الوراقون في الطعن والتشكيك في ثوابت الدين.

5. التسيب الفكري، والفوضى العقدية، التي تولى كبرها نفر من العلمانيين ذوي النكهة الإسلامية، المحسوبين - ظلماً وعدواناً - على الإسلام، مثال ذلك ما قام به الترابي في هذه الأيام من التشكيك في جل الثوابت والمسلمات، وإنكاره لمعظم ما هو معلوم من الدين ضرورة.

6. التوسع والانتشار والتغلغل في ديار الإسلام الذي يسعى إليه الرافضة، تحت مظلة الهيمنة الأمريكية على المنطقة .

7. الفساد العقدي والممارسات الشركية التي ذهبت بنور الإسلام.

8. الفساد الخلقي الذي نراه في وسائل الإعلام المختلفة، وفي الشارع العام في ديار الإسلام.

9. فشو البدع وقلة العلم.

10. بعض الشبه التي رفعها وأثارها بعض المنتسبين إلى السنة منذ حرب الخليج الأولى، منها:

أ. الخلط بين المناصحة العلنية للولاة إذا لم تفد السرية، والخروج المسلح على الحكام، وبينهما ما بينهما.

ب. الزعم بأن الحاكم المسلم الذي يضع دستوراً وقانوناً على غرار دساتير وقوانين الكفار وينبذ شرع الله وراءه ظهرياً لا يكفر ما لم يستحل ذلك بقلبه، حيث علقوا الأمر بمستحيل لا يمكن التثبت والتحقق منه، والحكم في الإسلام على الناس بما ظهر منهم، أما السرائر فلا يعلمها إلا الله.

ج.  زعمهم أن جهاد الدفع عن الدين، والحريم، والديار لا يحل ولا يجوز، دعك من وجوبه، لعلل عليلة هي:

لاختلاف المسلمين.

لقلة عددهم وعتادهم بالنسبة لما لدى الكفار، علماً أن كل الغزوات والحروب التي قادها المسلمون ضد الكفار وانتصروا فيها كان عددهم وعتادهم أقل من عدد وعتاد الكفار.

إلا إذا رفع رايته إمام حاكم.

د. تضليل وتبديع من خالفهم فيما جاءوا به، على الرغم من مخالفته لما عليه أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، هذا بجانب الهجر، والطعن، واللمز، وتحريض الحكام عليهم، وتمليك العلمانيين هذه الشبه، واستغلالها ضد الإسلام وحملته أبشع استغلال، زائداً تحذير الشباب منهم، والسباب، والشتم، والحديث عنهم، وتأليف الكتب والمطويات، كأنه لم يبق للإسلام في هذا العصر عدو سوى هؤلاء العلماء وطلاب العلم والدعاة السنيين، حيث أمن المبتدعة والمفسدون في الأرض، وسلموا من أقلامهم وألسنتهم.

نتج عن ذلك من الأضرار والأخطار على أهل السنة الشيء الكثير، من ذلك:

1. توسيع دائرة الخلاف بينهم، لتعدد المرجعيات واختلافها.

2. تشكيك العامة في علمائهم ودعاتهم، حيث أضحى الكثير منهم في حيرة من أمرهم، عمن يأخذ ويدع.

3. ضياع كثير من الحقوق التي أوجبها الشارع على المسلم لإخوانه المسلمين.

4. أصبح الهم الأكبر لكثير من الشباب التابعين لهذه المجموعة تصنيف العلماء وطلاب العلم، وامتحانهم، والتحذير منهم، بدلاً من أن يشتغلوا بتحصيل العلم المفيد، ويعملوا على تزكية نفوسهم.

5. هذه الحملات المسعورة، غير الموفقة ولاالمأجورة، جعلت الكثير من العامة يستهينون بالعلماء ويتطاولون عليهم.

لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها، فإن خطورة الشبه التي أثارتها هذه الفئة من أهل السنة ضد إخوانهم لا تدانيها جميع المخاطر التي اقترفها الكفار وإخوانهم المنافقون والمفسدون في الأرض، للشرخ الكبير والثلمة العظيمة التي أحدثتها في صفوف الطائفة المنصورة المستهدفة من قبل جميع أعداء الإسلام في الداخل والخارج.

ã

متى يكفر الحاكم المسلم كفراً أكبر، ومتى لا يكفر؟

بعد هذا التمهيد، والمقدمات التي لابد منها عن الظروف والأسباب التي أدت إلى بروز تلك الشبه، وإلى النتائج الوخيمة التي تمخضت عنها، نقول:

إن هذه المسألة جاء فيها من الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي قبل الأسبق للمملكة العربية السعودية، طيب الله ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ما يشفي الصدور، ويريح النفوس، ويدفع الشبه، ويزيل اللبس.

لقد قال فيها قولاً جامعاً مانعاً، ولخصها وفصلها تفصيلاً لا مزيد عليه، في رسالة صغيرة الحجم، عظيمة النفع، جليلة القدر، وهي رسالة "تحكيم القوانين"، ومؤلفها من الأئمة المعاصرين المشهود لهم بسعة العلم، وعمق الفقه، وبعد النظر، وسلامة المنهج، والتجرد للحق، مع غاية الورع، وحسن السمت والدل.

لا يخرج الحاكم المسلم الذي لا يحكم بشرع الله عن واحدة من هذه الحالات الثمانية التي ذكرها الشيخ، منها ست حالات كفر الحاكم فيها كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وهي كما ذكرها الشيخ ملخصة:

الأولى

أن يجحد الحاكم وجوب الحكم بما أنزل الله عز وجل، وجاحد الوجوب لا شك في كفره إجماعاً.

ã

الثانية

لا يجحد الوجوب، ولكنه يعتقد أن الحكم بالقوانين الوضعية والدساتير الأرضية أحسن وأشمل وأتم لما تحتاجه الرعية، سواء كان استحسانه هذا مطلقاً أوفيما استجد واستحدث من أمور، وهذا لا شك في كفره المخرج من الملة، لتفضيله القوانين الوضعية الأرضية على الأحكام السماوية.

ã

الثالثة

أن لا يعتقد أن القوانين الوضعية أحسن من شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه اعتقد أنهما سواء، وهذا كذلك كافر كفراً ناقلاً عن الملة، ولسان حال هؤلاء ما قاله التتار: "رجلان عظيمان: محمد وجنكيز خان".

ã

الرابعة

أن لا يعتقد أن القوانين الوضعية أفضل، ولا مماثلة ومساوية لشرع الله، ولكن اعتقد جواز الحكم بها، ونبذ شرع الله وراءه ظهرياً، وهذا لا شك كافر كفراً مخرجاً من الملة.

ã

الخامسة

وهو أن يضع دستوراً وقوانين، في كل المجالات أم مجالات معينة، على غرار دساتير وقوانين الكفار، ويلزم القضاة أن يحكموا بها، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهذه الحالة هي السائدة في جل بلاد الإسلام، وكفر صاحبها مضاهٍ لكفر من سبقه.

ã

السادسة

التحاكم إلى الموروث عن الآباء والأجداد والمشايخ، من الأعراف والعادات والتقاليد، لقد نعى الله على هؤلاء قولهم: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ".

وهؤلاء لا شك في كفرهم كذلك، وأنه كفر ناقل عن الملة كالحالات السابقة.

ã

حالتان لا يكون كفر الحاكم فيهما كفراً أكبر

هنالك حالتان فقط من هذه الحالات الثمانية يكون كفر الحاكم بغير ما أنزل الله فيهما كفراً أصغر لا ينقل عن الملة، وهو أكبر من الكبائر لتسمية الله له بالكفر، وهما:

الحالة الأولى

أن تحمله شهوته وهواه في قضية معينة أن لا يحكم فيها بحكم الله، مع يقينه أن حكم الله هو الحق، وأنه مخطئ فيما ذهب إليه، ويرجو التوبة والمغفرة.

ã

الحالة الثانية

أن يجتهد الحاكم أوالقاضي في الحكم في قضية من القضايا، ولكنه لا يوفق إلى الوصول إلى الحق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.

وهاتان الحالتان هما اللتان ينطبق عليهما قول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، قال: "كفر دون كفر".

وقوله أيضاً: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه".

قلت: قول ابن عباس هذا لا ينطبق إلا على الدول التي تتحاكم إلى شرع الله، أما جل الدول التي نبذت كتاب الله وراءها ظهرياً، وذلك بعد سقوط الدولة العثمانية في 1925م، وتقسيمها إلى دويلات، وحكمها بدساتير على غرار ما عند الكفار، فلا ينطبق عليها قول ابن عباس أبداً.

ã

شبهة أن الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله لا يكفر إلا إذا استحل ذلك بقلبه، ودحضها

من الشبه الداحضة الباطلة زعم البعض أن الحاكم الذي نبذ كتاب الله وسنة رسوله وراءه ظهرياً، وحكَّم القوانين الوضعية لا يكفر إلا إذا استحل ذلك بقلبه، حيث علقوا كفر من هذه صفته بمستحيل، لأن السرائر والقلوب لا يعلم ما فيها إلا علام الغيوب، وهذه الشبهة تناقض قاعدة من قواعد مذهب أهل السنة والجماعة، وهي أن نحكم على الناس بما ظهر منهم، وندع علم سرائرهم لخالقهم.

ولهذا أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمار بن ياسر رضي الله عنه قتله ذلك الرجل بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، عندما قال له: إنما قالها ليدفع عن نفسه القتل؛ قال له: "هل شققت قلبه؟"، إذ كان يجب عليه أن يحكم عليه بما ظهر منه، ولو كان قالها نفاقاً.

ولذات السبب حكم الله على فرعون وملئه بالكفر لما قاموا وحكموا به من الأعمال الكفرية، مع قوله سبحانه وتعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ"، فبينت هذه الآية استيقانهم داخلياً بما جاء به موسى، ولكن لما جحدوا في الظاهر بلسان الحال والمقال، كما يجحد البعض الحكم بشرع الله بلسان الحال الذي لا يقل دلالة عن لسان المقال، ومعلوم أن هذه الأمة فيها الزنادقة والمنافقون الذين يظهرون ما لا يبطنون، ويقولون ما لا يعتقدون.

نقول لهؤلاء: ماذا تقولون في رجل وضع المصحف على الأرض لا قدر الله وداسه برجله، وعندما سألناه قال: أنا أجل كتاب الله؛ وكان عاقلاً، بالغاً، مختاراً غير مكره، هل يرفع عنه ذلك الكفر وإقامة الحد؟!

وفي رجل يطوف بقبر، ويدعو ويستغيث بصاحب هذا القبر، وعندما سئل قال: أعلم أن الله هو قاضي الحاجات، ولكن هذه وسيلتي إليه، ولا أزال أفعل ذلك ولا أتركه أبداً؛ هل زعمه هذا يرفع عنه الكفر والشرك؟

مما يدل على أن هذه الشبه من تأثير الفكر الإرجائي، وأنها لا علاقة لها البتة بعقيدة أهل السنة والجماعة، أنه لم يشترط ذلك أحد من أهل السنة المقتدى بهم، من أمثال العلماء الأجلاء نحو ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن الوزير، والألوسي، والشوكاني، والسعدي، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأحمد ومحمود محمد شاكر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرهم كثير من المتقدمين والمحدثين.

يقول الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله، معلقاً على أثر أبي مِجْلز، ومحاورته لبعض الخوارج: (الذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بقضائها، فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مِجْلز والنفر من الإباضية؟

ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مِجْلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية معينة بغير حكم الله فيها إما أن يكون حكم فيها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها بهوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكماً خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب وسنة رسول الله.

أما أن يكون في زمن أبي مِجْلز، أوقبله، أوبعده، حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أومؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه.

فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أواحتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب، فإن أصر، وكابر، وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين).

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وقد سئل: هل يعتبر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً؟ قال: (الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله، فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله، ويرى أن ذلك جائز، حتى لو قال إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر، لكونه استحل ما حرم الله.

أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى، أولعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أولأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاصٍ لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر، وظلماً أصغر، وفسقاً أصغر، كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن طاوس، وجماعة من السلف الصالح، وهو معروف عن أهل العلم، والله ولي التوفيق).

جاء في بيان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، بشأن التحذير من كتاب "الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير" لكاتبه خالد علي العنبري، لتبنيه لهذه الشبهة: (فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على كتاب.. وبعد دراسة الكتاب اتضح أنه يحتوي على إخلال بالأمانة العلمية فيما نقله عن علماء أهل السنة والجماعة، وتحريف للأدلة عن دلالتها التي تقتضيها اللغة العربية، ومقاصد الشريعة، من ذلك ما يلي:

1. تحريفه لمعاني الأدلة الشرعية، والتصرف في بعض النصوص المنقولة عن أهل العلم، حذفاً أوتغييراً على وجه يفهم منه غير المراد أصلاً.

2. تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.

3. الكذب على أهل العلم، وذلك في نسبته للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ما لم يقله.

4. دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي، كسائر المعاصي التي دون الكفر، وهذا محض افتراء على أهل السنة، منشؤه الجهل، أوسوء القصد، نسأل الله السلامة والعافية.

وبناء على ما تقدم فإن اللجنة ترى تحريم طبع الكتاب المذكور ونشره وبيعه).

جزى الله هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية خير الجزاء، فقد دفعت هذه الشبه، وبرَّأت أهل السنة منها، وحسمت هذا الجدل، والمماحكة، والمغالطة المقيتة، وجلت الأمر تجلية لا يدفعها إلا مكابر أومقلد متعصب.

هذه الأقوال أقوال أئمة أهل السنة في هذا العصر، لم يشترطوا الاستحلال القلبي، لأن بدعة التحاكم لغير شرع الله لم تعرفها الأمة إلا في هذا العصر، ولذلك المرجع فيها إلى أئمة أهل السنة المحدثين.

أما ما نقل عن شيخنا الألباني رحمه الله أنه قال بعدم كفر الحاكم بغير شرع الله، النابذ له، إلا إذا استحله بقلبه، فهذه زلة، نسأل الله أن يتجاوز عنه فيها، وأن تغمر في حسناته الكثيرة، ولعل الشيخ الألباني رحمه الله لو طال به العمر لغير فتواه هذه كما غير فتواه في عدم كفر تارك الصلاة كسلاً، لما أداه إليه اجتهاده، وإن كانت هذه من المسائل الخلافية، إلا أن القول بكفر تارك الصلاة كسلاً هو الراجح، وقد حسن بعض الأحاديث ثم عاد فضعفها أوالعكس، وهذا من إنصافه وتواضعه.

فلا يحل لأحد أن يقلده في هذه المسألة ولا يقلد غيره، ويدع قول عامة أهل العلم فيها.

أما استدلالهم إلى ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: "وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا" الآية، فهذا خاص بالمكره.

أما الحكام الذين نبذوا شرع الله وراءهم ظهرياً، واستبدلوه بالقوانين الوضعية، فلم يكرههم أحد على ذلك، بل إنهم يتنافسون في تقليد الكفار وفي خطب ودهم.

رافعو هذه الشبه شعروا أم لم يشعروا فهم مدافعون عن باطل، محامون عن بعض الحكام الذين نبذوا شرع الله وراءهم ظهرياً، معادون ومتحاملون على إخوانهم من العلماء من أهل السنة.

ولهذا ففيهم شبه بالخوارج الذين كانوا يقتلون ويؤذون أهل الإسلام ويسالمون أهل الكفر والعدوان، كما وصفهم ابن عباس رضي الله عنهما.

ولهذا عندما طلب الخوارج من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أن يتبرأ من آل بيته حتى يدخلوا في بيعته قال لهم: منذ كم لعنتم فرعون؟ قالوا: لم نلعنه قط؛ فقال لهم: إن وسعكم أن لا تلعنوا فرعون وهو إمام من أئمة الكفر، أفلا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وفيهم الصالح والطالح؟ أوكما قال.

فكذلك نقول لإخوتنا هؤلاء: لماذا لم توجهوا سهامكم هذه إلى أعداء الأمة من الشيوعيين، والمنافقين، والمبتدعين، ولماذا لم تنصحوا لهؤلاء الحكام ليحكِّموا شرع الله، بدلاً من غشكم، وخداعكم، وتضليلكم لهم بأنهم مسلمون مؤمنون، ومن الكفر الأكبر مبرَّأون؟!

اللهم ردنا إليك وجميع إخواننا المسلمين رداً جميلاً، اللهم حكم فينا خيارنا، ولا تسلط علينا شرارنا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي قيَّد الإيمان بالله بتحكيم شرعه، والتزام أوامره، والتسليم له: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا"، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.

00000000000000

أباطيل الترابي المنكرة توجب التكفير والتشهير

رد على مجادلة محمد المختار الشنقيطي عن الترابي ومحاولة دفع الكفر عنه

مآخذ عامة على دفاع ومجادلة الشنقيطي عن الترابي

أولاً: زعمه أن الترابي لم يبح الردة!

ثانياً: زعمه أن الترابي لم يبح الخمر!

ثالثاً: زعم الشنقيطي أن الترابي (لم يسوِّ بين المسلمين وأهل الكتاب في الاعتقاد)

الأدلة على رفع الترابي الكفر عن إخوانه الكفار الكتابيين

رابعاً: زعمه (أنه لا عقوبة دنيوية قانونية على الردة ما لم تتحول إلى خروج سياسي وعسكري على الجماعة)

نماذج لاستخفاف الترابي بعقول أتباعه وغيرهم

أولاً: الجنة مليئة بالحور العين عندما كان في السلطة، وعندما عزل منها خلت منهن

ثانياً: القتال في الجنوب كان مشروعاً عندما كان الترابي الآمر الناهي، وعندما نبذ أضحى غير مشروع

ثالثاً: الإنقاذ كانت هبة الترابي للأمة عندما كان هو خمينيها، وعندما عزل أمست الخطيئة التي لا تغتفر

رابعاً: مصادر التشريع

خامساً: بعد أن أغرته السلطة، وأمن مكر الله، أراد أن يتخلص من كل كبار قادة الحركة الإسلامية

سادساً: تصريحه عندما يُطلب منه أن يعتذر لمن بالغ في إساءته وظلمه، يقول مبرراً وممتنعاً عن ذلك: أنه لم يعتذر ولم يقبل عذراً من أحد قط

سابعاً: حله للحركة الإسلامية المغلوبة على أمرها

نماذج لمنافقة الترابي للمرأة

أولاً: زعمه أن حواء أول الخلق وليس آدم عليهما السلام

ثانياً: أجاز لها أن تلي الإمامة الكبرى، والقضاء، والوزارة، وأن تلي الرجال

ثالثاً: إجازته للمرأة أن تؤم الرجال

رابعاً: ساوى بين شهادتها وشهادة الرجل

خامساً: لقد فضل الترابي الأنثى على الذكر

سادساً: أجاز الترابي للمرأة أن تغزو، وأن تحمل السلاح، وتلبس الملابس العسكرية كما يلبسها الرجال، وتسافر مسيرة ألف كيلو من غير محرم

سابعاً:  رد الترابي كل النجاحات التي حققها الرجال في الدفاع الشعبي في الجنوب للنساء!

ثامناً: أجاز للمراة أن تختلط بالرجال في الصلاة، وفي المدرجات، وفي المكاتب، والرحل الترفيهية

تاسعاً: زعمه أن الحجاب عادة جاهلية

عاشراً: منحها كل الحقوق السياسية كما نالتها أختها الكافرة

مزيد من الكفريات

أولاً: اعتقاده أن النبوة اكتساب

ثانياً: زعمه أنه أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم

ثالثاً: إنكاره للقيامة الجامعة

رابعاً: اعتقاده أن أصل الإنسان قرد

خامساً: مصدر الشرع

سادساً: الحكم في الإسلام

سابعاً: الثابت في شرع الترابي ومن شاكله العبادات، وما سواها  كله متغير

ثامناً: إنكاره لعصمة البلاغ

تاسعاً: زعمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفسر القرآن لهذا العصر

عاشراً: إنكاره لنزول عيسى عليه السلام المتضمن لإنكار رفعه

أحد عشر: إنكاره لعلامات الساعة الكبرى كلها بحجة أن الساعة تقوم بغتة

الثاني عشر: إنكاره لنعيم وعذاب القبر

الثالث عشر: تكذيبه وإنكاره للإسراء والمعراج

الرابع عشر: إنكاره لليلة القدر

الخامس عشر: تشكيكه في عدالة الصحابة، بعد تعديل الله ورسوله لهم

السادس عشر: رده لكثير من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول مما ورد في الصحيحين

السابع عشر: إنكار الترابي للجهاد بنوعيه جهاد الطلب الذي هو أصل الجهاد، وجهاد الدفاع

الثامن عشر: إباحة الترابي للموسيقى والفن بجميع أقسامه، بدءاً من الرقص والتمثيل إلى الغناء

التاسع عشر: تبرؤه من السنة

العشرون: زعمه أنه لا ينبغي للعقيدة أن تكون سلفية

الحادي والعشرون: إباحته لإخوانه المسلمين الكتابيين أن يتزوجوا المسلمات

 

من الطوام العظام والبدع الجسام الدفاع والمماحكة عن أئمة البدع الكفرية.

لقد أوجب الله الذب والدفاع عن المؤمنين عامة، والعلماء بصفة خاصة، فقال: "إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا"، وجاء في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب".

وأخطر من هذا وذاك التشكيك في فتاوى ثلة خيرة من العلماء، ممن لهم معرفة بالواقع، وبالشخص، وبالآثار الخطيرة الكثيرة التي توجب المسارعة بإصدار هذه الفتاوى الموفقة في حينها، حيث لا يحل تأخير البيان عن وقت الحاجة، مع تحذير الشارع من كتمان العلم، وأخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوه ولا يكتمونه.

من ذلك القبيل المحاولة اليائسة التي قام بها محمد المختار الشنقيطي للذب، والدفع، والجدال، والمغالطة لرفع الكفر عن الترابي، مع النيل من أولئك العلماء، والتشكيك في نياتهم، حيث اختزل مهمتهم بأنهم خصوم سياسيون.

وبادئ ذي بدء لابد من التذكير بأنه لا يشك في كفر الترابي بعد الذي صدر منه، وبيان العلماء لمخالفته لما هو معلوم من الدين ضرورة إلا ثلاثة نفر:

1.   كافر أومنافق.

2.   صاحب هوى.

3.   جاهل.

الذي يهمنا أمره من هؤلاء ويعنينا حاله هو الجاهل، أما الكافر والمنافق وصاحب الهوى فلا مجال لإقناعهم بحكم الله عز وجل: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا"، وذلك للأسباب الرئيسة والدواعي التي تحتم إكفاره وتوجب إعلانه والتشهير به التي اقترفها كلها، وهي:

أولاً: مخالفة منهجه كلياً لمنهج أهل الإسلام، وهم أهل السنة، وهو تطوير الدين وتطويعه وتلفيقه حتى يكون مسايراً وموافقاً لما عليه الكفار.

ثانياً: سبه للأنبياء والرسل، نحو زعمه:

1. أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً قبل البعثة، وكان يعبد الكواكب، رداً لقوله تعالى: "إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أولى بالشك من إبراهيم" الحديث.

2. تكراره ضلال الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى الغي، ولله در عمر عندما جلد رجلاً سمعه كرر قراءة سورة "عبس" فاشتم منه رائحة النفاق.

3. وصفه ليونس عليه السلام بأنه شرد، وأنه كان مغاضباً لربه، وظن أن الله لن يقدر عليه.

4. وأن موسى عليه السلام اعترف بخطيئته، مع أن فرعون ورى عن ذلك ولم يصرح، قائلاً: "وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ".

5. تندره بأكل آدم عليه السلام من الشجرة، وذكرها وتكرارها.

ثالثاً: الاستهزاء والسخرية بالرسل، والأنبياء، والدين، والصحابة، والعلماء، وهذا من الكفر البين الواضح، وللترابي من ذلك الحظ الأوفى، قال تعالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ".

صح في سبب نزولها عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء؛ فقال رجل في المجلس: كذبتَ، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن.

قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ".

من أمثلة استهزاء واستخفاف الترابي بالأنبياء، والرسل، والصحابة، والعلماء، بجانب ما سبق ما يأتي:

قال عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: [ده شخص راق، لكن ما تقولوا معصوم، ما بعمل حاجة غلط"، بل قال عنه: [يقول أخبار تطلع غلط].

خلافة عثمان رضي الله عنه عنده فاسدة ليست راشدة.

وقسَّم الصحابة إلى عدول ومجروحين.

وقال عن ابن عباس: [لما زرّوه]، ووصفه بأنه [طفل].

أما استخفافه بالعلماء أمواتاً وأحياءً فحدث ولا حرج:

1.  قال عن علماء السلف: [منهم من هو صالح ومنهم من هو طالح].

2.  وقال عن المجددين: [الكثير منهم يأخذهم الغرور بكسبهم].

3. وقال عن الإمام الماوردي وكتابه "الأحكام السلطانية": [صاحبه راجل مسكين، استكتبه الخليفة، وقال صاحبه: كتبوني ليه].

4. ووصف الشروط التي وضعت لاختيار الخليفة بأنها [منحطة].

5. وقال عن شرط النسب: "الأئمة من قريش"، وهو حديث صحيح: [يا أخوانا ده معقول (!!) ده سخف].

6.  وقال: [المعركة ضدي محض جهل وقلة معرفة بالدين].

7. وقال عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز طيب الله ثراه في كتابه "المرأة": [هناك بعض الدول تحاصر المرأة بين الجدران، ولا تترك لها الفرصة في مشاركة الرجل في الحياة الكريمة، ومن كُتاب وشيوخ منهم من سلب نعمة البصر فلم ير امرأة قط حتى يحكم عليها من تجربته الواقعية].

الشيخ ابن باز رحمه الله عمي بعد سن الثالثة عشرة تقريباً، وهو وإن كان فاقداً لنعمة البصر فقد عوِّض بنعمة البصيرة.

8. وقال عن أنصار السنة: [يتعرضون للقضايا الهامشية مثل تطويل اللحى وتقصير الثياب].

هذه من المظاهر الإسلامية التي حث عليها صاحب الشريعة بقوله: "إن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"، فالحمد لله الذي حبَّب إلينا السنة وأهلها، وكرَّه إلينا الكفرة والمبتدعة.

9. وقال: [ما تمسكوا ليكم فقه اتعمل زمان].

هذه مجرد أمثلة.

رحم الله الإمام أحمد عندما قال: "من وصف عمامة عالم بأنها عُميمة، استهزاءً وسخرية، فقد كفر".

رابعاً: إنكاره لما هو معلوم من الدين ضرورة حتى بلغت الخمسين مسألة، وسنذكرها بعد إن شاء الله.

ã

مآخذ عامة على دفاع ومجادلة الشنقيطي عن الترابي

أولاً: تحامله على الرادين على الترابي، والتشكيك في نواياهم، واعتبارهم مجرد خصوم سياسيين، وإليك أمثلة من ذلك:

1. [إثارة قول خصوم الترابي].

2. [مما يثير الإشكال لدى خصوم الترابي استعماله مصطلحات غربية لم يعتدها جل الدارسين بالجامعات الإسلامية]، أقول: ولا يشرفهم معرفتها.

3. [ومما نسبه إلى الترابي خصومه تحاملاً وسوء فهم، قولهم أنه يبيح الردة (!!!)].

4. [وفي إطار التحامل وسوء الفهم يأتي اتهامهم للترابي بإباحة الخمر].

ليته التزم بعفة اللسان، والتجرد، والتزم أدب الخلاف الذي طالب به.

ثانياً: اعتباره مجرد الخلاف ولو كان صادراً من الفرق المنحرفة دليلاً، ومعلوم من الدين أن ليس كل خلاف يُستراح له ويعمل به.

قال ابن عبد البر رحمه الله: (والخلاف لا يكون حجة في الشريعة)، قال الشاطبي: (وما قاله ظاهر).

قال الشاطبي رحمه الله: (حكى الخطابي في مسألة "البتع" المذكور في الحديث عن بعض الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه، حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه، وأبحنا ما سواه.

قال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا، والصرف، ونكاح المتعة، لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.

هذا مختصر ما قال، والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له، ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة لاتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع، وأقرب أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه).

ورحم الله العالم البطل عبد الله بن المبارك، عندما ناظره أهل الكوفة في النبيذ وجعلوا يستدلون على حله بأقوال وشرب بعض أهل الكوفة له، قال: "دعوا عند الاختلاف الاحتجاج بالرجال"، أوكما قال؛ ولله در الأول حين قال:

ليس كل خلاف يُستراح له              إلا خلافاً له حظ من النظر

ثالثاً: احتجاجه واعتداده بزلات وسقطات وهفوات بعض أهل العلم، ورحم الله سليمان التيمي حين قال: "من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله".

رابعاً: الاعتماد على ظواهر والمتشابه من الآيات القرآنية، وعدم رد ذلك إلى السنة المفسرة المبينة لمراد الله.

خامساً: تشكيكه وإثارته لشبهة قديمة حديثة، وهي الطعن في أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول

بعثاً للشبه القذرة التي أثارها المستشرق المجري اليهودي جولدزهير لعنه الله، التي تلقفها عنه أمثال أبي ريا، وأحمد أمين، وغيرهما من تلاميذ المستشرقين.

سادساً: حسن ظنه المفرط بالترابي، الذي جعله يؤول كل كفريات الترابي ويدرؤها.

هذه المآخذ وغيرها تجعلنا لا نشك لحظة أن هذا الشخص المستميت في الذب والدفع عن الترابي منتسب لنفس المدرسة المنتسب إليها الترابي، وهي مدرسة "العصرانيين"، أوالعلمانيين ذوي النكهة والمزاج الإسلامي.

ã

مغالطات

من المغالطات العجيبة، والمماحكات المريبة، التي حاول الشنقيطي أن يدفع بها عن الترابي، وأن يشين بها سمعة الذابِّين عن دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذين احتسبوا فتواهم عن ضلالات الترابي عند ربهم ومولاهم، ما يلي:

أولاً: زعمه أن الترابي لم يبح الردة!

لقد تعجبت من هذه المغالطة وتحيرت فيها، وتحققت قول من قال: "حبك الشيء يعمي ويصم"، وإلا ما كان له أن يتجرأ على هذا القول.

وقد نشرت الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان، وفقها الله في حكمها على الترابي بالكفر في الكتيب الذي أصدرته "الموقف الشرعي من أباطيل الترابي"، وكذلك نشر بعض أعضائها وغيرهم في الصحف المحلية وغيرها، وبعض القنوات والمواقع، نحو:

1.   ما خالف فيه الترابي ما هو معلوم من الدين ضرورة.

2.  بين شرعنا العتيق وشرع الترابي المبدل.

وهما من إعداد كاتب هذه الأسطر، ما يدل دلالة واضحة على إباحته للردة.

فقد أجاز الترابي للمسلم قبل الكافر أن يبدل دينه إلى أي دين شاء، ومتى شاء، ولا يقال له مجرد "مرتد"، حيث قال: [وأود أن أقول: في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه].

وقال في حوار لمجلة المحرر اللبنانية، متبرعاً بذلك: [وأزيد على كل هذا رأياً، هو رأيي الشخصي، حتى إذا ارتد المسلم تماماً، وخرج من الإسلام، ويريد أن يبقى حيث هو، لا إكراه في الدين، وأنا لا أقول إنه ارتد أولم يرتد، فله حريته في أن يقول ما يشاء].

أبعد كل هذا يقول الشنقيطي: (وهو لم يبحها قط).

أي مغالطة هذه؟ وأي تلبيس وتدليس على العامة الذي ذهب إليه الشنقيطي، فقط من أجل أن يرفع الكفر عن صاحبه؟ وأنى له ذلك؟

ã

ثانياً: زعمه أن الترابي لم يبح الخمر!

من المغالطات المشينة التي وردت في مجادلة الشنقيطي عن الترابي زعمه حيث قال: (وفي إطار التحامل وسوء الفهم يأتي اتهامهم للترابي بإباحة الخمر، وهو لم يبح الخمر قط).

لتعلم أينا المتحامل نحن أم الشنقيطي هاك ما قاله الترابي كما جاء في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة الرأي العام السودانية، زعمه: [أن الخمر لا تصبح أمر قانون إلا إذا تحولت إلى عدوان].

يعني إذا أزعج السكران، أما إذا لم يزعج فلا حرج عليه البتة، كما كان يفعل المستعمر في السودان، فإذا وجد سكران يزعج في الطرقات حبس وعوقب بسبب إزعاجه.

وقال في كتابه "نظرات في الفقه السياسي": [هكذا أرجو أن يكون شأننا مع أهلنا المخمورين، كأننا عند سريان القانون سندخلهم في معتقل واسع يحول بينهم وبين الخمور في مظاهر الحياة العامة، وتتاح لهم لعام رخصة قانونية لتعاطي الحرام في خاصتهم حتى يهيئوا أنفسهم، ثم يقع الحظر وتجف الخمر].

ليس لنا إلا أن نقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوءته: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف".

لقد أعطى الترابي نفسه والدستور العلماني الذي خطه بيمينه حق التشريع للأمة، الذي هو من خصائص رسولها، حيث لا يشاركه أحد في ذلك.

ã

ثالثاً: الطامة الثالثة، والمغالطة الخادعة، زعم الشنقيطي أن الترابي (لم يسوِّ بين المسلمين وأهل الكتاب في الاعتقاد)، ومن ثم فقد تحامل عليه خصومه بأنه رفع الكفر عن أهل الكتاب !!

لقد رفع الترابي الكفر عن إخوانه من الكفار الكتابيين، مهراً لعمالته لهم وتزلفه، حتى يكون أحد البدائل التي تسعى أمريكا أن تحكم بها السودان عن طريقه، كما حكمت أفغانستان بواسطة عميلها حامد كرزاي، والعراق بعلاوي، كما رفع سلفُه مسيلمة الكذاب لعنه الله صلاة الغداة والعشاء عن بني تميم مهراً لوليتهم سَجاع.

لقد منح الترابي اليهود والنصارى الحاليين مرتبتين من مراتب الدين الثلاثة، هما:

1.  مرتبة الإسلام، حيث جاء بمصطلح شيطاني [كتابي مسلم].

2.  ومرتبة الإيمان، حيث وصفهم بالمؤمنين.

ومن ثم أجاز لأحدهم أن يتزوج المسلمة رداً لظاهر القرآن ولإجماع الأمة.

ومن العجيب الغريب أن الشنقيطي لم يستنكر على الترابي شيئاً من ضلالاته إلا اثنين، وهما من أمثل ضلالاته:

1.  إباحته للكافر الكتابي أن يتزوج المسلمة.

2.  أسلوبه الاستفزازي.

وبدعواه هذه يكون قد ناقض نفسه وغالطها.

بقيت مرتبة واحدة من مراتب الدين الإسلامي لم يمنحها الترابي لإخوانه الكفار الكتابيين، وهي مرتبة الإحسان، وربما كان ذلك لعزة وجود هذه المرتبة حتى بين أمة الاستجابة، ولا يبعد أن يكون قد ادخرها لهم إلى حين.

هذا بجانب منحه إياهم أعز شيء يميز أمة الاستجابة، وهي الأخوة الإيمانية: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ".

ã

الأدلة على رفع الترابي الكفر عن إخوانه الكفار الكتابيين

1. ما جاء في كلمة للترابي في أحد مؤتمرات توحيد الأديان المشؤومة التي دنس بها الترابي العاصمة الخرطوم، بعنوان: "الحوار بين الأديان: التحديات والآفاق": [هذه هي دعوتنا اليوم، أن نقيم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندما يطلق في القرآن يقصد به كل كتاب جاء من عند الله]، ولو كان باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ إن كان بقي فيه شيء من الحق.

إلى أن قال: [ وقيام جبهة المؤمنين هو مطلوب الساعة، وينبغي أن لا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية].

2. وصفه لجماهير المسيحية الذين أذاقوا المسلمين الويلات في الحروب الصليبية السابقة بأنها "جماهير مؤمنة" وليست مسلمة.

حيث قال: [استخدم فيها بعض ملوك أوربا شعار الدين، واسم المسيحية، ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيه جماهيرهم المؤمنة].

3. وقال لمجلة المجتمع الكويتية من قبل: [إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا في الجبهة الإسلامية، نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ الديني المشترك، وإننا لا نريد الدين عصبية عداء، ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد].

هل هذا الهراء يصدر من شخص متضلع بمعاني القرآن الكريم كما وصفه الشنقيطي؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

لماذا هذا الدفاع المستميت، والتعصب المقيت لإمام من أئمة البدع والأهواء، وعن شيخ أغضب أهل الأرض والسماء، وسخر من الرسل والأنبياء، واستخف بالصحابة الفضلاء، ونال من علماء الأمة الأجلاء ما لم ينله منهم سلفه عمرو بن عبيد المعتزلي، الذي كان أول من بذر بذرة الاستخفاف بالعلماء؟!

ليس بيننا وبين أهل الكتاب إلا ما قاله ربنا مخاطباً به رسول الرحمة والهدى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما قال مالك الإمام، وقد صلح أولها بالاعتصام بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، لا على غرار فهم أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية وأحفادهم من تلاميذ المستشرقين الخبثاء.

لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، والحنفية السمحة، لا يزيغ عنها إلا هالك.

ولقد أعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة في غيره أذله الله، ومن لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأخيار، والسلف الصالح، فلا وسّع الله عليه في الدنيا والآخرة.

والله ما كنت أعتقد أن مسلماً عاقلاً يكون موالياً للترابي بعد كل ما صدر منه كل هذه الموالاة، ولا دون ذلك، إذ لا يحل لمسلم يؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أن يسلم عليه، أويرد عليه السلام، أويعوده، دعك من أن يتخذه شيخاً.

ولقد صدق الله في قوله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ"، وفي قوله: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ".

فمن صدق الترابي في كفرياته وضلالاته هذه فقد عبده من دون الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال؟"، قال: بلى، قال: "تلك عبادتكم إياهم".

نعوذ بالله من التعصب للرجال، واختيار طاعتهم وموالاتهم وإن أفضت لغضب الجبار.

ينحط البعض في موالاة سادتهم وكبرائهم الذين أضلوهم السبيل إلى درجة لا يمكن تخيلها.

قال الشاطبي رحمه الله: (لقد حكى الفرغاني مُذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته، حتى ادعوا فيه الألوهية).

لله در الإمام الذهبي حين قال: (وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول الأئمة الخالين من الهوى، المتصفين بالورع والعلم).

ã

رابعاً: المغالطة الرابعة، زعمه (أنه لا عقوبة دنيوية قانونية على الردة ما لم تتحول إلى خروج سياسي وعسكري على الجماعة)

واعتبر أن العلماء الذين حكموا بردة وكفر الترابي تحاملوا عليه بأنه أنكر حد الردة ولا يوجد للردة حد في الدنيا، وإنما عقوبة المرتد في الآخرة، آخذاً بأقوال من لا يعتد بخلافهم ولا يؤبه بموافقتهم من العصرانيين، وبعض أهل الأهواء من الأقدمين.

وقد أتي الشنقيطي، ومن قبلُ شيخه الترابي، ومن سبقهم، من خلطهم بين حدين من حدود الله عز وجل، وهما:

1.  حد الردة.

2.  وحد المحاربة.

وبينهما ما بينهما من الفروق.

حيث زعموا أن الردة الفكرية البحتة لا تستوجب حداً ما لم يكن المرتد شاكاً للسلاح، محارباً للأمة، خارجاً عليها.

أجمع أهل العلم على قتل المرتد، حمل السلاح أم لم يحمل السلاح، لأنه بارتداده فهو خارج عن جماعة المسلمين، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل المرتدين ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، فقد قتل ابن خطل صبراً.

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله وهو يعدد الأحكام المستفادة من غزوة فتح مكة: (وفيها من الفقه جواز قتل المرتد الذي تغلظ ردته من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بمكة، فلمـا كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فأمسك عنه طويلاً ثم بايعه، وقال: "إنما أمسكتُ عنه ليقوم إليه بعضُكم فيضرب عنقه"؛ فقال له رجل: هلا أومأتَ إليَّ يا رسول الله؟ فقال: "ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".

قال ابن القيم: فلما جاء به عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حياءً من عثمان، ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتله، فهابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا على قتله بغير إذنه، واستحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان، وساعد القدر السابق لما يريد الله سبحانه وتعالى بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح، فبايعه).

من أقوى الأدلة لدحض هذه الفرية الخبيثة والشبهة القذرة قتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لنفر من الرافضة الشيعة المخذولين، حيث لم يحملوا عليه سلاحاً، ولم يخرجوا عليه، بل عبدوه من دون الله.

عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه أتي بقوم من الزنادقة فحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه".

وكان ذلك عندما خرج من المسجد بباب كندة فسجدوا له، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنت خالقنا ورازقنا؛ فقال لهم: سبحان الله، إنما أنا بشر مثلكم، إن شاء الله رحمني، وإن شاء عذبني؛ فاستتابهم علي ثلاثة أيام، وتهددهم إن لم يتوبوا بالإحراق بالنار، فلم يجدِ، فأمر بحفر الأخاديد، وملأها بالحطب، وأشعلها ناراً، ثم ألقاهم فيها بعدما قتلهم، وقال مرتجزاً:

لما رأيتُ الأمر أمراً منكراً               أجَّجتُ ناري ودعوت قنبراً

من عجيب أهل الأهواء تحكمهم في النصوص وَليّ أعناقها حتى توافق أهواءهم، فقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وكذلك قوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، وكلاهما اتفق الشيخان على صحتهما، وتلقتهما الأمة بالقبول، ثم يأتي هؤلاء ويقولون: لا يقتل المرتد إلا إذا حمل السلاح، ويخلطون خلطاً متعمداً بين حدين مختلفين.

حد الردة لانفراد المرتد عن جماعة المسلمين، ولهذا لقب الشافعي رحمه الله حفصاً الذي كان يعرف بالفرد "بالمنفرد"، وكذلك قال الحسن لواصل عندما خالف جماعة المسلمين وأتى ببدعة المنزلة بين المنزلتين: "اعتزلنا واصل"، وعنى بذلك اعتزاله الحسي والمعنوي.

وحد الحرابة معروف، وعقوبته مختلفة من عقوبة المرتدين.

وهل يعقل أن لا يتبادر هذا الفهم "السقيم" إلى أذهان علي، ومعاذ، وأبي موسى، وخالد، وغيرهم كثير من الصحابة، والتابعين، والعلماء، والأمراء الذين قتلوا العديد من الزنادقة، والدجاجلة، والمرتدين، ويحظى به أولئك الخلوف تلاميذ المستشرقين والمتغربين؟

ألم يسمعوا بقوله: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، حتى يستدرك على الأمة كلها في هذا العصر الذي كثرت في البلايا، وعظمت فيه الرزايا، أمثال الترابي ومن شاكله، ليرفع حد الردة عن الزنادقة، والدجاجلة، والمرتدين، أمثال سلمان رشدي لعنه الله مؤلف كتاب "آيات شيطانية"، الذي قال عنه الترابي: [لو كان عندنا بالسودان لما حكمنا بردته]، مع أن قدوته الخميني الرافضي حكم بردته وأباح دمه!!

فالمرتد عن دين الله يُقتل، ذكراً كان أم أنثى، وما ذهب إليه الأحناف ومن سبقهم أن المرتدة لا تقتل المراد بها الكافرة الأصلية كما بين العلماء ذلك، والحديث الذي روي عن ابن عباس في ذلك ضعيف، وقد ذكرت في كتيب "ما خالف فيه الترابي ما هو معلوم من الدين ضرورة" اثنتي عشرة امرأة ارتددن عن الإسلام فقتلن، فليراجعه من شاء.

قال حافظ المغرب ابن عبد البر المالكي رحمه الله: (كل من أعلن الانتقال عن الإسلام إلى غيره من سائر الأديان كلها طوعاً من غير إكراه وجب قتله بضرب عنقه).

وقال الشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي: (ومن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار، رجل أوامرأة، دعي إلى الإسلام ثلاثة أيام وجوباً، وضيِّق عليه، فإن أسلم لم يعزر، وإن لم يسلم قتل بالسيف.

إلى أن قال: ولا تقبل في الدنيا توبة من سب الله تعالى، أوسب رسوله سباً صريحاً، أوتنقصه، ولا توبة من تكررت ردته، ولا توبة زنديق، وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، بل يقتل بكل حال).

وقال ابن قدامة: (لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل، روي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال الحسن، والزهري، والنخعي، ومكحول، ومالك، والليث، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق).

هذه أقوال أئمة الإسلام، فلا يلتفت إلى أقوال مبتدعة آخر الزمان، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر فلا يضرن والله إلا نفسه.

ã

نماذج لاستخفاف الترابي بعقول أتباعه وغيرهم

من سمات الطغاة المتكبرين الاستخفاف بالآخر مهما كان، ولذلك وصفهم الله عز وجل في شخص كبيرهم وقدوتهم فرعون: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"، وهذه من أخس الصفات التي تميز بها الترابي، مع ازدرائه، واحتقاره، واستهزائه بالأنبياء، والرسل، والصحابة، والعلماء، ومن دونهم، ويظهر استخفاف الترابي بشيعته، والسامعين، والقارئين له في الآتي:

ã

أولاً: الجنة مليئة بالحور العين عندما كان في السلطة، وعندما عزل منها خلت منهن

عندما كان الترابي في السلطة زوّج عدداً من الذين قتلوا في الجنوب نسأل الله أن يتقبلهم عنده شهداء وأن يزوجهم من الحور العين بالحور العين في الزواج البدعي الذي جادت به قريحته "عرس الشهيد"، وعندما نبذه قومه وجفوه أنكر أن يكون في الجنة حور عين.

وقد صرح بذلك في محاضرة له بجامعة القرآن الكريم بأم درمان، حيث قال: [نسوانكم ديل يصلحوهم ليكم، العرجاء يعدلوها]، أوكلام ساقط هابط هذه فحواه.

تكذيباً لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو قوله تعالى: "فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ"، وقوله: "حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ. فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ"، وغيرها كثير.

ولعدم احتفاء الترابي ومن شاكله بالسنة جئناهم بظواهر القرآن، فمن رد ظاهر القرآن فقد كفر، فليس لنا خيار، إما أن نصدق الرب سبحانه في محكم تنزيله، أوالترابي في تبديله.

وبعد..

فهل لمثل هذا التصرف من تبرير سوى محض الاستخفاف بالأتباع، والسامعين، والقارئين؟!

ã

ثانياً: القتال في الجنوب كان جهاداً مشروعاً عندما كان الترابي الآمر الناهي، وعندما نبذ أضحى غير مشروع

إمعاناً في الاستخفاف بالآخرين، لأنهم يصدقون كل ما يقوله، ويجدون له من المبررات مهما كانت درجة تناقضه الكبير.

ã

ثالثاً: الإنقاذ كانت هبة الترابي ورحمته للأمة الإسلامية عندما كان هو "خمينيها"، وعندما عزل أمست الخطيئة التي لا تغتفر له

كما زعم هو وأتباعه ذلك، وقد رجا أن يكون حبسه مكفراً لإتيانه بها!!!

ã

رابعاً: مصادر التشريع

مصادر التشريع عندما كان هو المشرع والمنفذ هي:

1.  العقل.

2.  قرارات الحاكم إن كان هو.

3.  الاجتهاد والإجماع الشعبي الديمقراطي.

4.  القياس الحر الذي لا ضابط له ولا رابط.

أما بعدما نبذ فلم تعد هذه المصادر صالحة، مما يدل على أن الرجل متبع لهواه، ومخالف لربه ومولاه.

ã

خامساً: بعد أن أغرته السلطة، وأمن مكر الله، أراد أن يتخلص من كل كبار قادة الحركة الإسلامية

بحجة أن الأمر آل إلى الشباب، فجمعهم وأعطى كل واحد منهم مصحفاً، قائلاً بلسان الحال: بارك الله فيمن زار وخفف.

ã

سادساً: تصريحه عندما يُطلب منه أن يعتذر لمن بالغ في إساءته وظلمه، يقول مبرراً وممتنعاً عن ذلك: أنه لم يعتذر ولم يقبل عذراً من أحد قط

رداً لما صح عن عمر أنه قال: "أعقل الناس أعذرهم للناس".

ã

سابعاً: حله للحركة الإسلامية المغلوبة على أمرها

بعد أن فرقها شذر مذر، لأنها قامت بدورها، حيث أوصلته إلى السلطة، وله من الحيل والأساليب التي يتوصل بها إلى ما يريده ما يفوق صنع إبليس، مع أن لسان حاله ومقاله في أحيان كثيرة مع الأجهزة الصورية: "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ"، كحال الطاغية فرعون مع ملئه، إلى أن حاق به مكره السيء الذي لا يحيق ويحل إلا بأهله.

ã

نماذج لمنافقة الترابي للمرأة

لقد بلغت منافقة الترابي للمرأة حتى يكبر بها "كومه" درجة لا تخطر على عقل بشر، وسنمثل لذلك ببعض أقواله الكفرية.

أولاً: زعمه أن حواء أول الخلق وليس آدم عليهما السلام

وربما تكون هذه من تجديداته التي لم يسبق عليها، ولا أظن أحداً من الإنس والجن، مسلماً كان أم كافراً قال بذلك.

تكذيباً لظواهر القرآن التي يزعم أنه معتد بها، ويشهد الله ونحن على ذلكم من الشاهدين أنه غير معتد لا بظواهر القرآن ولا بالمتواتر من السنة، وإنما بما وافق الهوى من ذلك ومن غيره من الأحاديث الضعيفة، كحديث أم ورقة الذي صك به الآذان، والزلات والهفوات التي صدرت من بعض أهل العلم رحمهم الله، لسلامة منهجهم وكثرة حسناتهم وجهادهم.

لقد صدق من شبه من هذه صفته البحث والتنقيب عن السقطات والهفوات والتشبث بها بالذباب والجعلان في السقوط على النجاسات، وبالمكنسة أكرم الله القارئين في التقاطها لكبار الأوساخ دون صغارها.

قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا"، ومعلوم من الدين ضرورة أن الخليفة هو آدم عليه السلام وليس حواء، إلا في شرع الترابي المبدل.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه".

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (المراد بالخليفة في الآية آدم، أسنده الطبري من طريق ابن أسباط مرفوعاً).

هذا ما قاله الله، ورسوله، وأجمعت عليه الأمة، أن أول الخلق آدم وخلقت منه حواء.

أما الترابي فقد أنكر هذا المعلوم لثلاث علل عليلة:

1.  تشكيكه في كل ثابت.

2.  منافقة للنساء.

3.  تمشياً مع عقدة التجديد والتطوير المسيطرة على تفكيره.

الشبهة التي رفعها في ذلك ولا إخاله موقناً بها قوله تعالى: "وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا"، بأن الضمير في "زَوْجَهَا" يعود لحواء.

قال القرطبي: (وأزواج جمع زوج، والمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة، قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة).

رحم الله سماحة الشيخ ابن باز، عندما سئل عمن يزعم أن حواء أول الخلق، قال: هذا رجل جاهل؛ قيل له: ليس بجاهل؟ قال: هذا كافر.

ã

ثانياً: أجاز لها أن تلي الإمامة الكبرى، والقضاء، والوزارة، وأن تلي الرجال

تقليداً للكفار، ورداً لقوله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

ولإجماع الأمة العملي، حيث لم تتول امرأة الإمامة، ولا القضاء، ولا الوزارة، ولا غيرها، إلا في عهد الانحطاط هذا الذي نعيشه، والذي أضحى الترابي وأمثاله مفكريه والموجهين له.

وحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، صحيح صريح في موطن النزاع، حيث قال صلى الله عليه وسلم ذلك عندما علم أن الفرس ولوا عليهم بوران بنت كسرى، عندما لم يبق رجل في الأسرة الحاكمة بعد أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملك كسرى كما مزق كتابه، والعبرة كما يقول العلماء بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

لكن الترابي قصر هذا الحديث على بوران والفرس بهواه، وفي مرة زعم: [أن الحديث لم ينه عن تولية المرأة الإمامة الكبرى، ولكنه نفى عمن ولاها الفلاح]!!

من العلل العليلة التي يتشبث بها أهل الأهواء الذين أشربوا حب الكفار، خروج عائشة رضي الله عنها في موقعة الجمل، وكان خروجها بغرض الصلح، وقد أشار عليها بذلك مروان بن الحكم، وليتها لم تخرج، وقد ندمت على خروجها فكانت إذا ذكرته بعدُ أوذكِّرت به بكت حتى بلت خمارها.

وعمل الصحابي إذا خولف فيه فلا حجة فيه لأحد، نقول هذا لأهل الإسلام، أما الترابي ومن شاكله فلا شغل لهم بما يحتج به أهل الإسلام، إذ ليس لهم إلا مصدر يتيم واحد وهو الهوى.

أما ما يدلس به الترابي ويلبس به على البعض من أن عمر رضي الله عنه ولى الشفاء السوق فهذا كذب محض وافتراء، كما قرر ذلك الشيخ الدكتور بكر أبوزيد في كتابه "حراسة الفضيلة"، فإن صح فيكون فيما يتعلق بالنساء، وحاشا عمر أن يصدر منه مثل هذا وهو من الأئمة الراشدين، الهادين، المهتدين.

ã

ثالثاً: إجازته للمرأة أن تؤم الرجال

لقد أجاز الترابي للمرأة أن تؤم الرجال في الفريضة، وأن تقف أمامهم، وأن يلتصقن بهم إلا إذا خشين الفتنة (!!)، وقد رفع لذلك شبهاً منها:

1.  حديث أم ورقة، وهو حديث ضعيف، ولكن الترابي إذا وجد ضالته لا ينظر إلى صحة الحديث وسقمه، إذ أنه لا يأبه بهذا أبداً، ولولا المخادعة والنفاق للعامة لما استدل حتى بهذه الشبهة، ويرد الأحاديث الصحاح التي خرجها الشيخان وأئمة السنة في دواوينهم إذا خالفت الهوى.

2.  بعض السقطات والهفوات، كالزلة التي صدرت من أبي ثور رحمه الله وغفر له، وقد وصف الإمام أحمد قول أبي ثور هذا: بأنه قول سوء؛ مما يدفع النقل الذي دندن به الشنقيطي عن ابن تيمية رحمه الله أن أحمد أجاز للمرأة إن كانت قارئة أن تؤم غير القارئين في التراويح شريطة أن تقف خلفهم.

ومعلوم أن مذهب أحمد رحمه الله لا يجيز للمرأة أن تؤم الرجال كغيره من المذاهب لا في فرض ولا نفل.

ولو جاز لامرأة أن تؤم الرجال في فرض أونفل لجاز لأمنا عائشة رضي الله عنها التي كانت يؤمها غلامها ذكوان في صلاة التراويح.

قال في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" في مذهب أحمد في شرح هذه المتنة "ولا تصح إمامة المرأة الرجال": (هذا المذهب مطلقاً، قال في "المستوعب": هذا الصحيح من المذهب، ونصره المصنف، واختاره أبو الخطاب، وابن عبدوس في تذكرته، وجزم به في "الكافي" و"المحرر"، و"الوجيز"، و"المنور"، و"المنتخب").

كل راد ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل عدم جواز إمامة المرأة للرجال لا في نفل ولا في فرض، ولا لأمِّيين ولا قارئين، فمن صلى خلفها فصلاته باطلة، وإن نوت هي إمامة الرجال بطلت صلاتها، إذ اختلاف العلماء مهما كانت منزلتهم ليس دليلاً يرجع إليه عند التنازع، والله أعلم.

ã

رابعاً: ساوى بين شهادتها وشهادة الرجل

رداً لقوله تعالى: "فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ"، هذا في الأموال لعموم البلوى بها، أما في غير الأموال فلا تقبل شهادة المرأة إلا في الأمور التي لا يطلع عليها الرجال، كشهادة القابلة، والمرضعة، ونحو ذلك.

ã

خامساً: لقد فضل الترابي الأنثى على الذكر

رداً لقوله تعالى: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، ولهذا كانت أمنا عائشة رضي الله عنها تحلف وتقول: "والذي فضل الرجال على النساء باللحى".

وقد علل لذلك بتعليل لا يخطر على بال بشر، بأن المرأة تحمل، الذي هو سبب نقصان دينها، كما قرر ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم.

واختلاف المراة عن الرجل خلقياً، ونفسياً، وشرعياً لا ينكره إلا مكابر، هذه الاختلافات مغروزة غرزاً في المرأة، ليس لها أدنى علاقة بالظروف الاجتماعية كما قال محمد عبده، الذي احتج بقوله الشنقيطي، تبريراً لرد الترابي للقرآن والسنة.

ã

سادساً: أجاز الترابي للمرأة أن تغزو، وأن تحمل السلاح، وتلبس الملابس العسكرية كما يلبسها الرجال، وتسافر مسيرة ألف كيلو من غير محرم

أخذاً بشبهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحمل معه بعض أزواجه للخدمة، وكذلك بعض الصحابة.

عندما استأذنته بعض الصحابيات في الخروج لمداواة الجرحى منعهن، وقال: "لكن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة".

وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّجلة من النساء".

ونهى أم سلمة أن تلوي خمارها على رأسها مرتين حتى لا يشبه عمائم الرجال.

ã

سابعاً: تمادياً في منافقة النساء فقد رد الترابي كل النجاحات التي حققها الرجال في الدفاع الشعبي في الجنوب للنساء!

ثامناً: أجاز للمراة أن تختلط بالرجال في الصلاة، وفي المدرجات، وفي المكاتب، والاجتماعات، والرحل الترفيهية

ورد نجاح الحركة الإسلامية في جامعة الخرطوم لاختلاط الأولاد بالبنات، على العكس من ذلك في جامعة أم درمان الإسلامية.

ã

تاسعاً: زعمه أن الحجاب عادة جاهلية

ومرة قال هو خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، دفعاً لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ".

ã

عاشراً: منحها كل الحقوق السياسية كما نالتها أختها الكافرة

وقد وعد المرأة أن ترشح للولاية الكبرى في السودان، وتوطئة لذلك فقد أجاز لها الإمامة الصغرى.

ã

مزيد من الكفريات

بجانب ما سبق من الأقوال الكفرية، فهناك العديد مما سنشير إليه في هذه العجالة، لييأس الشنقيطي عن المجادلة والدفاع عن شيخه بغير حق، وما خفي أعظم منها:

أولاً: اعتقاده أن النبوة اكتساب

تقليداً للفلاسفة الضلال، وليست اصطفاءً واختياراً كما قال ربنا: "اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ"، لهذا فقد زعم أنه لو جاءته الرسالة لأداها أفضل مما أداها سيد الخلق.

ã

ثانياً: زعمه أنه أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم

وقد تواتر هذا القول منه، وعندما زر تواضع، وقال: إنه أعلم منه في شؤون الدنيا، لأنه متخصص في القانون الدستوري، ويجيد اللغة الفرنسية (!!).

ã

ثالثاً: إنكاره للقيامة الجامعة

معللاً ذلك بقوله: [أين الأرض التي تسع جميع الخلق]!! وإنكاره للقيامة الجامعة يتضمن إنكاره للحساب، والصراط، والميزان، وغير ذلك.

ã

رابعاً: اعتقاده أن أصل الإنسان قرد

مجاملة لدارين، وعندما ووجه بالآيات والأحاديث قال للمعترض: [دع عنك الآيات والأحاديث، أيهما أفضل، أن يكون أصل الإنسان قرد أم طين؟].

ã

خامساً: مصدر الشرع

مصدر الشرع في الإسلام الوحي المنزل من عند الله قرآناً وسنة، وعند الترابي: [وتعلمون أن العلم الإسلامي له مصدران، أحدهما عقلي والثاني نقلي، وهذان المصدران يتحدان في الإسلام ويتناصران، ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر].

ã

سادساً: الحكم في الإسلام

الحكم في الإسلام لله عز وجل: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ"، أما عند الترابي فالحكم للشعب، فهو من عباد الديمقراطية التي أشربها شراباً من الكفار.

فقد قال: [إن أصول الإسلام لا تجعل للفقهاء ولا للعلماء نصيباً من وضع الأحكام الملزمة للمسلمين، فالفقهاء قادة طوعيون، لكن الشعب المسلم أوالجماعة المسلمة لها حق إلزام الفرد بسلطان الشورى يعني الديمقراطية والإجماع الشعبي].

وقال: [فإذاً يمكن أن نحتكم إلى الرأي العام المسلم، ونطمئن على سلامة فطرة المسلمين، حتى لو كانوا جهالاً في أن يضبطوا مدى الاختلاف]، فهو يفضل الجهلة على العلماء حتى يستخف بهم كيف شاء، وحتى لا يعترض عليه معترض.

وقال في نفس المصدر: [ومهما تكن المؤهلات الرسمية فجمهور المسلمين هم الحكم، وهم أصحاب الشأن في تمييز الذي هو أعلم وأقوم].

النظام الديمقراطي لا يقوم إلا على أنقاض الإسلام، ولهذا فإن الكفار الآن يسوقون للديمقراطية في العالم الإسلامي لعلمهم أنها لا تقوم إلا على أنقاض الإسلام.

ã

سابعاً: الثابت في شرع الترابي ومن شاكله العبادات، وما سواها من السياسة، والاقتصاد، ونظام الحكم، والأسرة، كله متغير

فالدين عنده كما هو الحال عند إخوانه أهل الكتاب علاقة أخروية فقط، ولهذا قال: [ما دام الدين من حيث هو خطاب للإنسان وكسب منه واقعاً في الإطار الظرفي، فلابد أن يعتريه شيء من أحوال الحركة الكونية].

وهو نفس الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ".

ã

ثامناً: إنكاره لعصمة البلاغ

ولهذا فإنا نبشر الشنقيطي بأن شيخه الترابي منكر لعصمة الأنبياء بقسميها: عصمة البلاغ والتأسي، حتى لا يجهد نفسه في الدفاع واللجاج، فقد حصر عصمة الأنبياء فقط في عصمتهم من الناس، والذي ندين الله به ويدين به جميع أهل السنة إلا من شذ، أن الأنبياء معصومون من الكذب على الله، ومن الشرك، والكبائر، والصغائر، وكل ما يشين المروءة، قبل وبعد البعثة، ولو كان المجال يتسع لذكرنا العديد من الأدلة على ذلك.

ã

تاسعاً: زعمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفسر القرآن لهذا العصر لأنه لا يعرف ما استجد فيه من علوم

كبرت كلمة تخرج من فيه، ولهذا شرع في تفسير "هواوي" هو التفسير التوحيدي، وقد حذر "لوبيه" التجديد، وهي خلية أنشأها الترابي داخل الحركة الإسلامية المنكوبة في الثمانينات لخدمة فكره المنحرف، من تفاسير السلف وكتب السلف.

ã

عاشراً: إنكاره لنزول عيسى عليه السلام المتضمن لإنكار رفعه

بحجة أن الأحاديث الواردة في أشراط الساعة أغلبها غير صحيحة، وقد قرر ذلك المجادل عنه بالباطل الشنقيطي، فعليهما من الله ما يستحقان.

ونزول عيسى عليه السلام ثابت بالقرآن، وبالسنة، وبالإجماع، رغم أنف الترابي وشيعته، والأحاديث التي وردت في نزوله أحاديث صحيحة وصريحة، وتلقتها الأمة بالقبول، ومن ردها فهو المردود، ومن جرحها فهو المجروح.

نقل الثعالبي رحمه الله في تفسيره الإجماع على ذلك، فقال: (أجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل، ويظهر ملة محمد صلى الله عليه وسلم).

وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: "وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي").

مما يدل على أن الترابي منكر لرفع عيسى قبل نزوله قوله متهكماً: [ليس هو في رحلة في السماء].

ã

أحد عشر: إنكاره لعلامات الساعة الكبرى كلها بحجة أن الساعة تقوم بغتة

والإيمان بأشراط الساعة جزء لا يتجزأ من الإيمان باليوم الآخر، فمن كذب مثلاً بخروج الدابة، وبخروج يأجوج ومأجوج فقد كذب القرآن: "وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ"، وبقوله: "إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ".

وقد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وكذب الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول.

لقد بلغت الجرأة ببعض شيعة الترابي أنه زعم أن عيسى إذا نزل فإنهم سيقاتلونه!!

ã

الثاني عشر: إنكاره لنعيم وعذاب القبر

تمشياً مع تضييق دائرة الغيبيات التي سلكها المبتدعة الأول، المعتزلة، وفي الحقيقة فإنني لا إخال أن الترابي يؤمن بشيء منها، والله حسيبه، إذ لو كان يؤمن بالجنة والنار لما صدر منه هذا الطوفان من الكفر البواح، ونخشى أن يفاجئنا فيما تبقى من عمره بما هو أشد وأنكى مما صرح به الآن، حيث قال لبعض الطيبين من الموالين له عندما احتجوا على تلك الضلالات: [انتم سمعتم شي]، أوكما قال.

فالمكذب بعذاب القبر ونعيمه الحسي فقد كذب القرآن، إذ قال تعالى عن آل فرعون: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"، وبإقعاد الملكين للميت في قبره عندما يتولى عنه أهله، ومحال أن يكون المراد عرض الروح ولا إقعادها، والله سبحانه وتعالى قادر، والقادر لا يعجزه شيء، فالميت قبر أم لم يُقبَر، أكلته السباع أم أحرق وأذري رماداً، فإن الله قادر على أن يوصل إليه النعيم إن كان من أهله، أوالعذاب إن كان من أهل الشقاء.

ã

الثالث عشر: تكذيبه وإنكاره للإسراء والمعراج

رداً لقوله عز وجل: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى"، ولكل الأخبار الصحاح التي خرجت من في النبي صلى الله عليه وسلم.

والإسراء والمعراج كان بجسد وروح النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بروحه فقط، ولا رؤيا منامية، إذ لا إعجاز البتة في الإسراء بالروح أوالرؤيا المنامية.

فالإسراء والمعراج من أكبر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أنكره فالويل له، ورضي الله عن أبي بكر عندما قال له بعض المشركين صباح ليلة الإسراء، وأخبروه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زاد على أن قال: إن كان قال فقد صدق، فقد صدقته فيما هو أكبر من ذلك، أفلا أصدقه في هذا؟! أوكما قال.

فمن كذب بهذه فتكذيبه فيما هو أكبر منها وارد لا محالة.

ã

الرابع عشر: إنكاره لليلة القدر

ومن أنكرها فقد كذب بما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في الوتر من العشر الأواخر" الحديث، ولا حجة في الاختلاف الذي لا يقوم على دليل، وإنما الحجة في الوحي المنزل من القرآن والسنة.

ã

الخامس عشر: تشكيكه في عدالة الصحابة، بعد تعديل الله ورسوله لهم

إذ التشكيك في عدالتهم مفضٍ إلى الطعن والتشكيك في المصدر الثاني من مصادر التشريع، ولم ولن يشكك في عدالة الصحابة إلا زنديق.

ã

السادس عشر: رده لكثير من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول مما ورد في الصحيحين

وتشبثه بالأحاديث الواهية، كحديث أم ورقة، وبالهفوات والسقطات، بل لقد صرح أخيراً أنه لا يعتد إلا بما في القرآن، ومن أنكر السنة فقد كذب القرآن، حيث أمر الله بطاعة رسوله من غير قيد ولا شرط، قائلاً: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا".

رد السنة كلياً أوجزئياً متمثلاً في أحاديث الآحاد من أهم سمات أهل الأهواء قديماً وحديثاً، وهذه من أوائل البدع التي ظهرت في الإسلام على يد أحد إخوانهم من الخوارج، ذي الخويصرة التميمي، ولا يزال شياطين الإنس يتناقلون هذه البدعة، ويتفنون في سبل ردها بحيل يجريها شيخهم إبليس على ألسنتهم وما يخطه بنانهم.

وسنكتفي بمثال واحد من رد الترابي للسنة الصحيحة الثابتة التي تلقتها الأمة بالقبول بهواه، حيث قال عن حديث الذباب الذي خرجه البخاري في صحيحه، أصح كتاب بعد كتاب الله رغم أنف المشككين فيه، في آخر كتاب الطب، حيث قال بوقاحة لا تدانيها وقاحة، وبجرأة شيطانية: [آخذ فيه برأي الطبيب الكافر ولا أخذ فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أسأل عنه عالم الدين]، وفي هذا الكلام الفج تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم واتهام له بالحديث فيما لا يعنيه.

هذا بجانب الاستهزاء والاستخفاف بالمعترضين عليه، فقد قال مرة: [اشووه وكلوه].

والأمر في الحديث أمر إرشاد، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينف نقل الذباب للأوبئة، ولكنه أرشد لكيفية الخلاص من ذلك بأن يغمس جناحه، ولكن نعوذ بالله من الكبر وعمى البصائر.

ã

السابع عشر: إنكار الترابي للجهاد بنوعيه جهاد الطلب الذي هو أصل الجهاد، وجهاد الدفاع

تكذيباً لقوله صلى الله عليه وسلم بأنه "ذروة سنام الإسلام"، ورداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر، حتى يقاتل آخر هذه الأمة المسيح الدجال" تحت قيادة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.

حيث قال مبتدع آخر الزمان الترابي: [هذا القول تجاوزه الزمن، وتخطاه الفكر الإسلامي].

وقال لمجلة المحرر اللبنانية: (نريد الحوار مع الغرب، لا نريد حرباً معه، نريد أن نتحاكم معاً إلى ديمقراطية عالمية).

وقال مصرحاً بنفي جهاد الطلب، متستراً بكلمة حق أراد بها باطلاً: [إن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها، رسالة الفضيلة والسلام، بحد السيف أوبالقنابل والمدافع].

بينما عد الترابي اللعب بكرة القدم جهاداً، ومنح الشهادة للاعب كرة مات في الميدان!

ã

الثامن عشر: إباحة الترابي للموسيقى والفن بجميع أقسامه، بدءاً من الرقص والتمثيل إلى الغناء

بل عد الترابي الغناء سبباً من أسباب دخول الجنة، فقد قال لأحد الفنانين التائبين: [مِمَّ تتوب؟ يمكنك أن تدخل الجنة وأنت تنقرش عودك]، فعاد إلى غنائه وفنه، وإمعاناً في الاستخفاف بالدين زعم أن الآلات الموسيقية في عهده تابت وأنابت إلى الله.

لقد أجمع أهل الإسلام على حرمة الغناء والموسيقى وجميع الملاهي إلا بعض الزلات.

لقد بلغت جرأة الترابي مداها حيث عد الفن بكل أشكاله - رقصاً، وغناءً، وتمثيلاً، وموسيقى قسماً من أقسام التوحيد والعقيدة الإسلامية!! حيث قال: [ منها أن فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعب إيماننا وتوحيدنا، ولا يهيئنا لأن نذكر الله بالجمال وصنعه، ولا نعبده من خلاله].

وقال عن الرقص: [الرقص كذلك تعبير جميل يصور معنى خاصاً بما تنطوي عليه النفس البشرية].

إلى أن قال: [ولا ينكر أن في الغرب رقصاً يعبر عن معانٍ أخرى كريمة].

ويقول أيضاً: [فالتوحيد يتخذ الإنسان وسيلة إلى الله يأخذه بذات خصائصه دون كبت أوتعطيل، ويسخره للعبادة، بل يرقى بطبيعته تلك ليرقى به في قدر العبادة، فلابد إذاً من اتخاذ الفن مادة لعبادة الله].

هذا ما قاله الترابي، وهاك ما قاله أئمة الدين.

قال مالك: "إنما يفعله عندنا الفساق".

وقال الشافعي: "خرجت من بغداد، وقد خلفت فيها شيئاً أحدثه الزنادقة ليشغلوا به الناس عن كتاب الله، وهو التغبير"؛ وهو عبارة عن قصائد زهدية، فكيف بغناء اليوم؟!

وقال أحمد: "ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل".

فهل يا ترى نصدق الله الذي وصفه بلهو الحديث، ورسولنا الذي عده من الكبائر لمن لم يستحله، أما من استحله كحال صاحبنا هذا فقد كفر، ومالك، والشافعي، وأحمد، أم نصدق مبتدع آخر الزمان الترابي؟!

ã

التاسع عشر: تبرؤه من السنة

ما من أحد إلا وهو يدَّعي أنه متبع للسنة، إلا الترابي، فقد تبرأ من السنة، حيث قال: [أنا لست سنياً]، ومن باب التمويه: [ولست شيعياً].

وفي الحقيقة لم أصدقه في شيء قاله كتصديقي له بأنه ليس سنياً، لبغضه وعداوته للسنة ولحملتها ولأي مظهر سني.

ولا يبرر له هذا التبرؤ أنه يعني بالسنة التي عكس الشيعة، لأن هذه هي أساس السنة، ومن أجل مدلولات السنة.

السنة هي الإسلام، هي الشريعة، هي الدين، لهذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".

ونحن نبرأ من كل من تبرأ من السنة.

ã

العشرون: زعمه أنه لا ينبغي للعقيدة أن تكون سلفية

ليست هناك عقيدة إلا العقيدة السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي عقيدة كل من سوى الخوارج، والرافضة، والجهمية، والقدرية، والمعتزلة، ومن شاكلهم من أهل الأهواء.

فقوله هذا فيه محادة لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي"، وهو يحذر من سنته ومن الانتساب إليها وإلى السلف الصالح.

ã

الحادي والعشرون: إباحته لإخوانه "المسلمين الكتابيين" أن يتزوجوا المسلمات

وتوطئة لهذا فقد أباح من قبل لمن أسلمت قبل زوجها أن تجلس معه، رداً للقرآن، والسنة، والإجماع، ومنافقة للكفار.

فمن تزوجت كافراً كتابياً فقد كفرت، وكذلك أولياؤها إن رضوا بذلك، ومن باشر هذا العقد الباطل الفاسد.

وفي الختام نقول للشنقيطي هذا لقد ظلمت نفسك، وخدعت شيخك، وغررت بأتباعه، وكان الواجب عليك أن تنصحه عن هذا الغي، عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً.." الحديث، وإن كنا موقنين أنه لا يحب الناصحين، بدلاً من هذه التبريرات، والجدل، والمماحكات، التي ستسأل عنها وتحاسب عليها حساباً عسيراً.

أين أنت من شيوخ شنقيط، سماحة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي صاحب أضواء البيان رحمه الله، والشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة، والشيخ محمد الحسن الددو حفظهما الله، وغيرهما كثير.

لماذا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ لماذا تترك الأنهار العذبة والعيون الحلوة وترد البرك والحفر؟!

ويل للترابي منك وويل لك من الترابي، وويل ثم ويل لك من هذه الشبه التي أثرتها وغررت بها الترابي وشيعته من الشباب وغيرهم.

أتظن أننا حاسدون للترابي؟ لماذا نحسد الترابي؟ ولأي شيء نحسده؟ ألسقوطه في السياسة بعد سقوطه في الدين؟ العبرة بالخواتيم، لقد ختم الترابي حياته الدينية والسياسة بأسوأ خاتمة.

شهد الله ما رأيته يتكالب على السلطة إلا وقلت: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.

احذروا الغرور، وأن تظنوا بالذين كفروا الترابي لتكفير الله ورسوله له بأنهم "سطحيون"، أو"ظلاميون"، كما وصفهم شيخك، فهم والله أعمق فقهاً، وأزكى نفوساً، وأكثر ورعاً وخوفاً من الله، وأعلم بخطورة أن يرمى أحد بالكفر وهو ليس بكافر.

واعلم أن من لم يكفر الترابي بعد كل ما صدر منه فقد كذب اللهَ، ورسوله، وعلماءَ الأمة، وعند الله تلتقي الخصوم، ومن نواقض الإسلام المعلومة ضرورة أن من لم يكفر الكفار، أوشك في كفرهم، أوصحَّح مذهبهم فقد كفر.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على البشير النذير، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

00000000000000000000

من لم يكفِّر اليهود والنصارى أوشك في كفرهم أوصحَّح مذهبهم فقد كفر

تعقيب على ما كتبه رمسيس اللوز في جريدة الانتباهة

في عدد الإثنين 14 جمادى الأولى 1427 هـ، العدد [128]

من لم يكفِّر اليهود والنصارى أوشك في كفرهم أوصحَّح مذهبهم فقد كفر

دفع ما جاء به القبطي رمسيس اللوز من رفع الكفر عن النصارى، ورد شبهه

تنبيهات

الأدلة على كفر اليهود والنصارى

شبه ودحضها

1. وطء الرسول صلى الله عليه وسلم لجاريته مارية القبطية رضي الله عنها

2. إباحة الإسلام للمسلم عند الضرورة أن يتزوج الكتابية

3. عزل آية: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى عما بعدها"

4. قوله تعالى: "لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ.."

5. قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"

6. حصره للكفر في المعنى اللغوي كما قال الترابي وأسلافه من أهل الأهواء، بمعنى ستر وغطى

نقض قبطي للنصرانية

النصارى اليوم أكثر ضلالاً وأشد عداوة للمسلمين

أقوال بعض أئمة الدين في فساد عقيدة النصارى وضلالهم

 

من الكوارث العظام، والفتن الجسام، أن ينكر البعض ما كانوا يعرفون من دين الله، ويعرفون ما كانوا ينكرون منه، من ذلك رفع البعض الكفر عن اليهود والنصارى، وهو من المسلمات في هذا الدين، بحيث ما كنا نتوقع أن يأتي يوم نحتاج فيه إلى التدليل عليه، وذلك للتسيب الفكري والفوضى العقدية التي تولى كبرها الترابي وغيره في هذا العصر، في السودان خاصة، فقد شرع في نقض عرى الإسلام عروة عروة، بدءاً بالحكم، حيث سن دستوراً مضاهياً لشرع الله، وانتهاء بإنكار كثير من المسلمات والمعلومات من الدين ضرورة، مما جرأ الكفار من الشيوعيين والنصارى ومن شاكلهم أن يستغلوا كفرياته هذه أبشع استغلال، مما حدى بهذا الكاتب النصراني أن يزعم أن النصارى الحاليين ليسوا كفاراً.

ã

وبادئ ذي بدء لابد من التنبيه على الآتي:

أولاً: أن الإكفار ملك لله عز وجل ولرسوله، فمن أكفره الله ورسوله فقد كفر، وما العلماء إلا موقعين عنهما ومبينين لحكمهما.

ثانياً: من نواقض الإسلام المعلومة أن من لم يكفر الكفار، نحو الشيوعيين، واليهود، والنصارى، والهندوس، والبوذيين، والوثنيين، وأشباههم، أوشك في كفرهم، أوصحح معتقدهم فقد كفر.

ثالثاً: من المصائب العظام التشكيك في الثوابت والمسلمات.

رابعاً: هذا الجرم العظيم مسؤول عنه في السودان خاصة الترابي، وبعض الوراقين والصحفيين، فعليهم من الله ما يستحقون.

خامساً: من أوجب واجبات ولاة الأمر من العلماء والحكام الذب والدفع عن هذا الدين، والنصح للمسلمين، ولا يحل لهم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ã

الأدلة على كفر اليهود والنصارى

كفر اليهود والنصارى ثابت بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، وهو معلوم من الدين ضرورة.

ã

فمن الكتاب

1.  قوله تعالى: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ".

2.  وقوله تعالى: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".

3. قوله تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ باللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ".

4. وقوله: " لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

5.  وقوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".

6.  وقوله: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ".

7.  وقوله: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ".

8.  وقوله: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ".

ã

من السنة

1.  خرج مسلم في صحيحه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".

قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: (قوله: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة"، أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما، وذلك أن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، والله أعلم).

2.   وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، يفيض المال حتى لا يقبله أحد".

هذا الحديث أثبت نزول عيسى عليه السلام رغم أنف المنكرين لنزوله، وأثبت كفر النصارى وقتال عيسى لهم، وكسره للصليب، وقتله للخنزير، وعدم قبوله للجزية.

3.     عمل عيسى عليه السلام بشرع محمد صلى الله عليه وسلم دليل على نسخ شريعته بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: صلِّ لنا؛ فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء".

4.   وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً".

5.     وفي رواية: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا أن يتبعاني".

ã

الإجماع

لهذه الأدلة وغيرها كثير أجمعت الأمة على كفر اليهود والنصارى، وعلى كفر من لم يكفرهم أوشك في كفرهم أوصحح مذهبهم، وقد نقل الإجماع في ذلك عدد من أهل العلم.

ولم يرفع الكفر عن اليهود والنصارى إلا المنسلخون من الإسلام.

ã

شبه ودحضها

أثار هذا الكاتب شبهاً في محاولة رفع الكفر عن النصارى، كما فعل إخوانه من المنسلخين عن الإسلام، لابد من دحضها حتى لا يتأثر بها السذج والمفتونون، وإلا فهي مدفوعة بغير دفع، وباطلة من غير رد.

1.    وطء الرسول صلى الله عليه وسلم لجاريته مارية القبطية رضي الله عنها

حيث قال: (لو كانت مارية القبطية كافرة أومشركة فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، تطبيقاً لما جاء في سورة البقرة آية [221] والتي تقول: "وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ").

لم تكن مارية رضي الله عنها عندما وطئها رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة أومشركة، ولكنها كانت حنيفية مسلمة صحابية.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (قال الواقدي: حدثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة عن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب بمارية القبطية، وكانت بيضاء جعدة جميلة، فانزلها وأختها على أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمتا هناك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية، كان من أموال بني النضير.. فكان يأتيها هناك، وكانت حسنة الدين، ووهب أختها شيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن، وولدت مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً سماه إبراهيم.

إلى أن قال الواقدي: ماتت مارية في المحرم 15هـ، فصلى عليها عمر، ودفنها بالبقيع).

ولهذا ترجم لها ابن عبد البر في الصحابيات، وقال: (توفيت مارية في خلافة عمر بن الخطاب، وذلك في المحرم سنة ستة عشرة، وكان عمر يحشر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلى عليها عمر، ودفنت بالبقيع).

ã

2.    إباحة الإسلام للمسلم عند الضرورة أن يتزوج الكتابية

حيث زعم: (إن الإسلام حرم على المسلمين أن يتزوجوا بالمشركات.. في حين أنه ساوى بين المرأة المسيحية والمرأة المسلمة في هذا).

نقول في دحض هذه الشبهة ما يأتي:

   أن حل زواج المسلم بالكتابية هو شبيه بحل أكل المضطر للميتة، بل هذا أخس منه.

   ومع ذلك لا يحل إلا بشروط، هي:

أ. أن تكون ذمية تعيش بين ظهراني المسلمين، أما في دار الكفر فلا يحل نكاحها قط، للمفاسد العديدة المترتبة على ذلك.

ب. أن يخشى الوقوع في الزنا.

ج.  أن يرجو إسلامها.

د.  أن لا تكون زانية.

لم يتزوج من الصحابة كتابية ذمية إلا حذيفة يهودية وكان عمر يأمره بطلاقها إلى أن طلقها، وعثمان رضي الله عنه نصرانية ولكنها أسلمت قبل أن يدخل عليها.

وكان عمر يكره نكاح الذميات، وكان ابنه عبد الله يحرم ذلك، ويقول: "لا أعلم شركاً أكبر من أن تقول إن ربها عيسى!".

يقول الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله معلقاً على قول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ": "والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا":

(وأكثر النساء من تيك الأمم التي تنتسب إلى اليهودية والمسيحية ليس فيهن عفيفات، بل لقد صرن لا يعرفن البكارة، ولا يحرصن عليها، يعاشرن الأخدان دون حياء ولا حرص على عرض، أبحن من أنفسهن لأخدانهن وأحبابهن كل شيء، لا تتزوج امرأة منهن رجلاً إلا بعد أن تعرفه معرفة تامة، ومعرفة داخلية في كل شيء، وبعد أن تكون تقلبت بين أيدي الرجال، إلا النادر الذي لا يؤبه له، ولا حكم له).

ã

8

وقد بين أهل التفسير أن هذه الآيات نزلت في نصارى نجران، وقيل في نصارى جاءوا من الحبشة وأسلموا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال السعدي رحمه الله: (وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم، وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه).

وقال ابن جُزَيّ: (هي في النجاشي، وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبعون رجلاً، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فبكوا.. وقال السهيلي: نزلت في وفد نجران، وكانوا نصارى عشرين رجلاً، فلما سمعوا القرآن بكوا).

ولله در الجصاص حيث قال في "أحكام القرآن له": (ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى، وإخبار أنهم خير من اليهود، وليس ذلك كذلك، لأن ما في الآية من ذلك إنما هي صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول، يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله والرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح، وأشد استحالة، وأظهر فساداً من مقالة اليهود، لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة، وإن كان فيها مشبهة تنقض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه).

ã

4.   ومن الشبه كذلك التي رفعها هذا القبطي محاولاً رفع الكفر عن النصارى قوله تعالى: "لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ.."2

سبب نزول هذه الآيات الكريمات إيمان بعض اليهود أمثال عبد الله بن سلام وغيره، كما قـال ابن عباس: (لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود معهم، قال الكفار من أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: "لَيْسُواْ سَوَاء..").

ã

5.  ومن الشبه التي أثارها هذا النصراني كذلك قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"4، حيث زعم أن الله سوى بين هؤلاء في الأجر والمغفرة (!!!)، تعالى الله عن ذلك علواً عظيماً

هذا كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من آمن بنبيه قبل نسخ شرعته فله هذا الأجر والثواب والمغفرة، أما بعد أن نسخت الشرائع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم فكل من لم يؤمن به ويتبعه فهو كافر.

أما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقيل: هم فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور، وقيل الصابئون أهل دين من الأديان.

ã

6.  ومن الشبه كذلك حصره للكفر في المعنى اللغوي كما قال الترابي وأسلافه من أهل الأهواء، بمعنى ستر وغطى، وزعم أن النصارى يؤمنون بالله

لا شك أن الإله والرب الذي تعبده النصارى ليس هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولو فرضنا جدلاً أنهم يؤمنون بالله الواحد الأحد، فهم كفار طالما أنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

هذه الشبه التي رفعها هذا القبطي لصحة دين النصارى سببها أولاً الجهل بشرع الله، ثم التقليد الأعمى والتعصب المقيت للموروث عندهم، ثم الأخذ بظواهر النصوص وبالمتشابه، وهذا هو شأنهم وشأن غيرهم من الملل الكافرة والفرق المبتدعة، فما من ملة ولا فرقة منحرفة إلا وتجتهد أن تستدل لباطلها من ظواهر القرآن ومتشابهه.

ولهذا قال الشاطبي رحمه الله: (ولذلك لا تجد من الفرق الضالة ولا أحداً من المختلفين في الأحكام، لا الفروعية ولا الأصولية، يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة، وانظر في مسألة التداوي من الخمر في "درة الغواص" للحريري وأشباهها، بل قد استدل بعض النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن، ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل).

ã

7.  زعمه أن قوله تعالى: "وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا"، ساوى بين الصوامع والبيع الخاصة بعبادة النصارى والمساجد الخاصة بعبادة المسلمين

لقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الشبهة من قبل قائلاً:

(وأما قوله: "يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا"، فإنما ذكره عقب ذكر المساجد، والمساجد للمسلمين، وليس المراد بها كنائس النصارى، فإنما هي البيع، ثم قوله: "يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا" إما أن يكون مختصاً بالمساجد، فلا يكون في ذلك إخبار بأن اسم الله يذكر كثيراً في الصوامع، وإما أن يكون ذكر اسم الله في الجميع، فلا ريب أن الصوامع والبيع قبل بعثة محمد كان فيها من يتبع دين المسيح الذي لم يبدل، ويذكر فيها اسم الله كثيراً).

ã

نقض قبطي للنصرانية

أفحم رد وأشد دفع للشبه التي أثارها القبطي رمسيس، ما قاله أحد إخوانه الأقباط في الماضي، مبيناً تناقض العقيدة النصرانية وفسادها، وأنه لا يوجد سبب لتعلق أتباعها بها إلا التعصب والتقليد الأعمى، وليعلم الجميع أن تناقض وفساد عقيدة النصارى مما لا يختلف فيه بعض أتباعها المحقين المنصفين.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط، ممن يظهر دين النصرانية، وكان يشار إليه بالعلم والفهم، فبلغ خبرُه أحمد بن طولون، فاستحضره وسأله عن أشياء كثيرة، من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد أحضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن دليل صحة دين النصرانية، فسألوه عن ذلك، فقال:

دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة، متنافية، تدفعها العقول، وتنفر منها النفوس، لتباينها وتضادها، لا نظر يقويها، ولا جدل يصححها، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها، والفحص عنها، ورأيت مع ذلك أمماً كثيرة، وملوكاً عظيمة ذوي معرفة، وحسن سياسة، وعقول راجحة، قد انقادوا إليها، وتدينوا بها، مع ما ذكرت من تناقضها في العقل، فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا بدلائل شاهدوها، وآيات ومعجزات عرفوها، أوجبت انقيادهم إليها.

فقال له السائل: وما التضاد الذي فيها؟

فقال: وهل يُدرك ذلك أوتعلم غايته؟ منها قولهم:

1.  بأن الثلاثة واحد، وأن الواحد ثلاثة.

2.  ووصفهم للأقانيم والجوهر وهو الثالوثي، وهل الأقانيم في نفسها قادرة عالمة أم لا؟

3. وفي اتحاد ربهم القديم بالإنسان المحدث، وما جرى في ولادته، وصلبه، وقتله، وهل في التشنيع أكبر وأفحش وأخس من إله صلب وبصق في وجهه؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك؟ وضرب رأسه بالقضيب؟ وسمرت قدماه، ونخس بالأسنة والخشب جانباه؟ وطلب الماء فسقي الخل من بطيخ الحنظل؟

فأمسكوا عن مناظرته، لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده).

ã

النصارى اليوم أكثر ضلالاً وأشد عداوة للمسلمين

لا شك أن ضلال النصارى وفساد عقائدهم يفوق ما عليه اليهود، وكذلك عداوتهم اليوم للإسلام والمسلمين لا تدانيها عداوة، ولا أدل على ذلك من الحلف الشيطاني اليهودي الكنسي، ومن الحرب الصليبية الشاملة التي تقودها أمريكا وأذنابها.

هذا بجانب أنهم أصبحوا أداة طيعة لكل ما يريده اليهود، بعد سيطرتهم التامة ونفوذهم الكامل على الكنائس، والمال، والإعلام، ووسائل التجسس، وكل المنظمات العالمية.

ã

أقوال بعض أئمة الدين في فساد عقيدة النصارى وضلالهم

   قال عمر رضي الله عنه: "لقد سبت النصارى اللهَ سباً لم يسبه أحد لا قبلهم ولا بعدهم، إذ نسبوا إليه الصاحبة والولد".

  وقال أبو الطيب بن الباقلاني لأحد الرهبان، وقد سافر إلى قبرص لمناظرتهم: كيف حال الزوجة والأولاد؟ فقال له الراهب: أما تعلم أن الراهب منزه عن الزوجة والأولاد؟ فقال له ابن الباقلاني: سبحان الله، تنزهون الراهب عن الصاحبة والولد، ولا تنزهون الخالق! فبهت الذي كفر.

فأي نحلة أضل من نحلة تنزه الراهب أكثر من تنزيهها لربها وخالقها؟

  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الذي يدين به المسلمون من أن محمداً بعث رسولاً إلى الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه.

إلى أن قال:

ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام).

    وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (ما بأيدي النصارى من الدين باطله أضعاف حقه.. وحقه منسوخ).

  وقال واصفاً النصارى بعد وصفه لليهود: (والصنف الثاني "المثلثة"، أمة الضلال، وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء، بل قالوا فيه ما "تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا"، فقل ما شئتَ في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن.

فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الله ارزقينا، واغفري لنا، وارحمينا!

فدينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم، وينجيهم من عذاب السعير).

  وقال الشيخ محمد بن محمد الطيب المالكي المتوفى 1191هـ، في مناظرته وقد أسرته النصارى بجزيرة قبرص: (بالله عليك، أعيسى كان يعبد الصليب؟ قال: لا، وإنما ظهر الصليب بعد قتله على زعمهم ونحن نعبد شبه الإله؛ فقلت له: بالله عليك ألله شبيه؟ قال: لا؛ فقلت له: يجب عليكم حرق هذه الصلبان بالزفت والقطران؛ فاستشاط غيظاً، وقال لي: كنت أوقعك في المهالك، وأجعلك عبرة، لكن الله أمرنا بحب الأعداء؛ فقلت له: لكن الله أمرنا ببغض الأعداء؛ فقال لي: إذاً شريعتنا كاملة؛ فقلت له على طريقة الاستهزاء: شريعتكم كاملة تعبد الصلبان، وشريعتنا لأنها تعبد الله وحده لا شريك له؛ فاشتد غضبه حتى كان أن يبطش بي، ولكن الله سلم).

وفي الختام أحب أن أبشر هذا القبطي الداعي إلى النصرانية، الزاعم أن النصارى غير كفار، بأن كفره وأمثاله ممن عرفوا الإسلام وسمعوا به أشد من كفر غيرهم، لمعاشرتهم للمسلمين.

وأنه ليس بينهم وبين النار إلا خروج الروح، فعليهم أن يراجعوا أمرهم، وأن يسلموا قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، ويُحال بينهم وبين ما يشتهون، وإن دعاهم الحال إلى أن يكتموا إيمانهم لتعصب قومهم فعلوا.

الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به عبَّاد الصليب وغيرهم، وشرفنا بالانتساب للإسلام، وجعلنا من ملة خير الأنام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم الرسل الأمين، وعلى آله، وصحبه، والتابعين.

000000000000000000

الحلاج قُتل بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صدِّيق

1. معارضته للقرآن الكريم

2. ادعاؤه الألوهية بعد ادعاء النبوة

3. الحلاج حلولي اتحادي يؤمن بحلول الخالق في المخلوقين وباتحاده معهم

4.  كان مشتغلاً بالسحر

5.  قال عن الحج، والصوم، والصلاة:

6.  ذكر رجلان كانا معه من مخاريقه وفجوره الكثير، منها:

7.  كان رافضياً قرمطياً

 

من الآثار السيئة والنتائج الخاسرة للفوضى العقدية والتسيب الفكري الذي شاع في هذه الأيام، الذي تولى كبره الترابي ومن لف لفه من تلاميذ المستشرقين، من إباحة الردة وإنكار حدها بحجة حرية الفكر، استغلال أعداء الدين من الشيوعيين، والمنافقين، وزنادقة الباطنيين، وصوفية الفلاسفة، أعداء الرسل والدين، وضحايا الدراسات الفلسفية والمنطق، ومن شاكلهم من الوراقين والصحفيين لتلك الفوضى أبشع استغلال، حيث بدأوا يشككون في الثوابت والمسلمات، ويجترون الشبه التي أثارها بعض الزنادقة من أهل العصور الماضيات، من أن الزنديق الصوفي الباطني مذموم محمد طه قتل قتلاً سياسياً، بل تعدوا إلى أكثر من ذلك، حيث زعموا أن الحلاج، الحلولي، الاتحادي، القرمطي، قتل قتلاً سياسياً، حيث أنه أراد القيام بثورة على خليفة ذلك الزمان، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

فمحمود محمد طه، والحلاج، وكل الزنادقة والملحدين الذين قتلوا، قتلوا بسيف الشرع الذي لا يخطئ، وحاشا الله أن يسلط هذا السيف على صدِّيق.

فمن بعض الكفريات التي أوجبت قتل الزنديق مذموم محمد طه ما يأتي:

1.  دعواه أنه هو المسيح المحمدي في أول أمره.

2.  ثم ادعى الرسالة، وكتب كتابه "الرسالة الثانية".

3.  ثم ادعى الألوهية، حيث قال لأحد تلاميذه في أخريات أيامه، وقد جاء لوداعه لأنه كان يعمل بأبي ظبي: "لا إله إلا أنا فاعبدني".

4.  إنكاره لوجوب الصلاة المكتوبة، وعدم فعله لها.

5.  زعمه أن الحج وثنية.

وغير ذلك كثير.

أما أدلة كفر الحلاج وزندقته التي دفعت ولاة الأمر من العلماء والحكام إلى قتله، فكثيرة هي الأخرى، ولكن أخطرها ما يأتي:

ã

1. معارضته للقرآن الكريم

قال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة، فكنت أقرأ القرآن، فسمع قراءتي، فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا؛ ففارقته.

وعنه كذلك أنه دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئاً في أوراق، فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن؛ فدعا عليه فلم يفلح بعد.

ã

2. ادعاؤه الألوهية بعد ادعاء النبوة

روى الحافظ الذهبي بسنده إلى أبي القاسم الرازي: قال أبو بكر بن ممشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل معه مخلاة، ففتشوها، فوجدوا فيها كتاباً للحلاج عنوانه: "من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان"، فوجه إلى بغداد، فأحضر، وعرض عليه، فقال: هذا خطي، وأنا كتبته، فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرتَ تدعي الربوبية؟ فقال: لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله وأنا؟! واليد فيه آلة؛ فقيل: هل معك أحد؟ قال: نعم، ابن عطاء، وأبو محمد الجريري، والشبلي؛ فأحضر الجريري وسئل، فقال: هذا كافر، يقتل من يقول هذا؛ وسئل الشبلي فقال: من يقول هذا يمنع؛ وسئل ابن عطاء فوافق الحلاج، فكان سبب قتله.

ã

3. الحلاج حلولي اتحادي يؤمن بحلول الخالق في المخلوقين وباتحاده معهم

من شعره الذي يدل على ذلك:

سبحان من أظهر ناسـوته            سر سنـــا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهــراً             في صـورة الآكل الشارب

حتى لقد عاينه خلـــقه             كلحظة الحاجب بالحاجب

وقد أنشد هذا على ابن خفيف، فقال: على قائل ذا لعنة الله؛ قالوا: هذا شعر الحسين الحلاج؛ قال: إن كان هذا اعتقاده فهو كافر.

ã

4.  كان مشتغلاً بالسحر

فهو كما نقل الذهبي عنه: (كان الحلاج مشعوذاً محتالاً).

ã

5. قال عن الحج، والصوم، والصلاة:

(من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتاً لا يناله شيء من النجاسة، ولا يمكِّن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام، وليطف به كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة، ثم يستدعي بثلاثين يتيماً فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم أوقال: ثلاثة دراهم، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج، وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا أجزأه ذلك عن صيام رمضان، ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك، وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره.

فقال له القاضي أبو عمر: من أين لك هذا؟ فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري؛ فقال له: كذبتَ يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة، ليس فيه شيء من هذا؛ فأقبل الوزير على القاضي، فقال: قد قلتَ: يا حلال الدم، فاكتب ذلك في هذه الورقة، وألح عليه، وقدم إليه الدواة، فكتب ذلك في تلك الورقة، وكتب من حضر خطوطهم فيها، وأنفذها الوزير إلى المقتدر).

ã

6.  ذكر رجلان كانا معه من مخاريقه وفجوره الكثير، منها:

وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان بعد حبسه فذكرت عنه فضائح كثيرة، من ذلك أراد أن يغشاها وهي نائمة، فلما انتبهت فقال: قومي للصلاة؛ وإنما كان يريد أن يطأها، وأمر ابنتها بالسجود له، فقالت: أويسجد بشر لبشر؟! فقال: نعم، إله في السماء وإله في الأرض.

ã

7.  كان رافضياً قرمطياً

لهذه الكفريات مجتمعة ولغيرها، أجمع الفقهاء على كفره، وكذلك جل المتصوفة، فنفذ فيه حكم الشرع.

قال الخطيب البغدادي وغيره: (كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد، فصحب الصوفية، وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس، فبلغه أن الحلاج قد أضلَّ خلقاً من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما يشاء ويختار ويشتهيه، وقال: إنه أحيى عدداً من الطيور.

وذكر يَعْلى بن عيسى أن رجلاً يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب كان يعبد الحلاج، ويدعو الناس إلى طاعته، فطلبه وكبس منزله، فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج، مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود، ووجد عنده سفطاً فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله، وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده، فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج، ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم، فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه في وجهه.

إلى أن قال: فلما انتشر الكلام فيه سُلِّم إلى الوزير حامد فحبسه في قيود كثيرة في رجليه، وجمع له الفقهاء، فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق.

كان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة للهجرة ببغداد.

لقد قال الحلاج قبل قتله: لا يهولنكم هذا، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً.

قال الخطيب: ثم قتل فما عاد.

دعوى أنه قتل قتلاً سياسياً وأنه كان يقود ثورة

من الدعاوى الكاذبة التي يرفعها زنادقة الباطنية ومن شاكلهم أن الحلاج قتل قتلاً سياسياً لأنه كان ينوي القيام بثورة ضد الخليفة العباسي بشبهة حبه للزعامة والتسلط والظهور، ولو كان عل حساب آخرته؛ يكذب هذا الادعاء أسباب، منها:

1.  العقائد والأعمال الكفرية التي كان يعتقدها هذا الرجل، والتي كانت سبباً للحكم عليه بالكفر.

2.  ومنها أن أم المقتدر كانت تعتقد صلاحه لأنه رقاها من مرض فشفيت منه، وكان المقتدر لذلك خائفاً من قتله.

3.  نوعية أتباعه الذين كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته، هذه النوعية لا يمكن الاعتماد عليها للقيام بعمل جاد.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به، حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته).

ما من امرئ صالحاً كان أم طالحاً، مؤمناً كان أم كافراً، إلا وتجد الناس قد اختلفوا فيه وذهبوا فيه مذاهب شتى، وتباينت آراؤهم فيه، واختلفت وجهات نظرهم فيه، ولكن العبرة بقول أهل الحل والعقد.

ولله در الإمام الذهبي عندما قال معلقاً على ما حكاه السلمي: وحكي عنه أي الحلاج أنه رؤي واقفاً في الموقف، والناس في الدعاء، وهو يقول: "أنزهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون": (هذا عين الزندقة، فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون، الذين هم الصحابة، والتابعون، وسائر الأمة، فهل وحدوه إلا بكلمة الإخلاص... فإذا برئ الصوفي منها فهو ملعون زنديق، وهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ولا يعلم بهم، قال تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ"، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين الفارغين، وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته.

فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما ولا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زَغَله، وانتهك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل، أن ما رآه المسلمون صالحاً محسناً فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن ما رآه المسلمون فاجراً، أومنافقاً، أومبطلاً، فهو كذلك.

إلى أن قال: ثم اعلم أن أهل القبلة كلَّهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم وبدعيهم سوى الصحابة لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناجٍ، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصِّديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وعثمان، وعلي، وابن الزبير، وكذلك الحجاج، والمأمون، وبشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جراً من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعتهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة، والتجهم، والرفض، إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم.

فتدبر يا عبد الله نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع، واتق ذلك، وحاسب نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك، والعياذ بالله، أنه كان والحالة هذه محقاً هادياً مهدياً، فجدد إسلامك، واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلاً).

قلت: هذه الكلمة التي قالها الذهبي تنطبق على كل الدجاجلة والزنادقة، أمثال مذموم محمد طه، والترابي، وغيرهما كثير، فما أحسن أثر العلماء على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، والله الموفق للخيرات، والهادي من الضلالات، وصلى الله وسلم على محمد الخاتم للرسل، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم حتى الممات.

00000000000000000000

لم يعد يوم الجنائز ذلكم اليوم المشهود

لقد اختلت الموازين، واختلفت المفاهيم، وخوِّن الأمين، واؤتمن الخائن، وأضحى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، بسبب قلة العلم، وفشو الجهل، لهذا لم يعد يوم الجنائز ذلكم اليوم المشهود المميز بين أهل السنة والجماعة من ناحية، وبين أهل البدع والفسوق من ناحية أخرى، كما كان عند السلف، حيث أضحت جنائز أهل البدع والفسوق تضاهي وتفاخر جنائز أهل السنة إن لم تزد عليها في بعض الأحيان، أقرب دليل وشاهد على ذلك عدد الذين خرجوا في تشييع جنازة الفنان إبراهيم عوض قبل أيام من المسؤولين والعامة، وما قيل من الخطب بعد دفنه وفي تأبينه في عزائه، وما نشرته وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة من مدحه والثناء عليه، مقارنة بما كان عليه سلف هذه الأمة.

سنمثل لذلك بعدد الذين شيعوا جنازة إمام أهل السنة والجماعة، وبين جنائز معاصريه من أهل البدع والأهواء، حتى يتبين الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين سلفنا، فبضدها تتميز الأشياء.

قال الدارقطني: (سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز حين تمر).

قال الحافظ ابن كثير: (وقد صدَّق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان يوم السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد، وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي، مع زهده، وورعه، وتنقيره، ومحاسبته لنفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أوأربعة من الناس.

وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جداً، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

وقد روى البيهقي عن حجاج بن محمد الشاعر أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد.

وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد: دفن اليوم سادس خمسة، وهم: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد.

وكان يوم مات عمره سبعاً وسبعين سنة وأياماً أقل من شهر رحمه الله تعالى).

عدد الذين شهدوا غسله، وشيعوه، وصلوا عليه

حضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، غير أهله وتلاميذه.

شيعه ما لم يعلم عددهم إلا الله، حيث خرج النعش والناس حوله يكتنفونه من كل الجهات، لم يستقر في قبره من بعد صلاة الجمعة إلى ما بعد صلاة العصر.

حرز عدد الذين صلوا عليه بـ 1700000، وقيل 1500000، وقيل 1300000، وقد أعيدت الصلاة عليه مرات ومرات، هذا العدد يمثل في ذلك الزمن كل سكان بغداد تقريباً.

(روى البيهقي وغير واحد من أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحرز الناس، فوجدوا ألف ألف وثلاثمائة ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زُرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد، فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف.

قال البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي يقول: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل).

وقال القاضي أبو يَعْلى في ترجمة أحمد وهو يعدد مآثره: (ما أظهره الله تعالى في حياته من المراتب، ونشر له بعد مماته من المناقب، ورفع له بذلك العلم بين سائر الأمم، فتنافس حين موته في الصلاة عليه العلماء والكبراء، والأغنياء والفقراء، والصلحاء والأولياء.. قال المتوكل وكان غائباً ساعة وفاته لمحمد بن عبد الله بن طاهر نائبه: طوبى لك، صليت على أحمد بن حنبل).

أما ما روي أنه أسلم يوم موته عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس فهذا لا أصل له كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله في السير: هذه حكاية منكرة.

هذا المؤشر اختل في زماننا، حيث لم تعد للسنة المكانة التي كانت لها في الماضي، وحيث أضحى الناس يجاملون في ذلك ولا يراعون جانب الدين والاعتصام بالسنة، بل لقد تعجبت من شيخ من شيوخ العلم المعاصرين عزى في شيخ بن باز، وفي البابا بولس الثالث، وفي إمام من أئمة البدع الكفرية، وأثنى على الجميع، مما يدل على الخلل الكبير الذي أصاب المسلمين في عقيدة الولاء والبراء، حيث لم يميزوا بين أئمة الدين وأعدائه من الكفرة والمبتدعين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اللهم هيئ للأمة الإسلامة من أمرها رشداً، وردها إليك رداً جميلاً، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء"، وهم من بني هاشم، لكفرهم وعنادهم

00000000000000000000

أيها الشباب المسلم ألِلْعَبث واللعب وُجدتم، أم للعبادة والجد خلقتم؟

"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ "

الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى وهملاً، "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ"، ثم نزه نفسه العلية عن الخلق عبثاً ولعباً، فقال: "فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ"، وقال: "أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى".

جاء في تفسيرها عن الإمام الشافعي رحمه الله: معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى.

وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير "عبثاً": (أي مهملين، كما خلقت البهائم، لا ثواب لها ولا عقاب عليها.

ثم نقل عن الحكيم الترمذي: إن الله خلق الخلق عبيداً ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار، كرام من رق الدنيا، ملوك في دار الإسلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق، سقاط، لئام، وغداً أعداء في السجون بين أطباق النار).

وفسر "سدى" بأن يترك في قبره أبداً لا يبعث.

من العجيب أن تفهم وتفطن بعض العجماوات للوظيفة التي خلقت من أجلها، ويغفل عن ذلك المسلم العاقل.

فقد صح عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ذلك: آمنتُ به أنا، وأبوبكر، وعمر؛ قال أبو هريرة: وما هما يومئذ في القوم".

أقول هذا بمناسبة الاهتمام الزائد، والحرص الشديد، من جل شباب المسلمين، وكثير من كهولهم، وبعض شيوخهم على مشاهدة مباريات كأس العالم، حيث احتكرت إحدى الفضائيات "ART" بثها، ولاتسمح لأحد أن ينقل منها إلا مقابل رسوم، ولهذا فكر البعض في الاستفادة من هذا الكسب الرخيص المحرم، حيث يشتري عدداً من أجهزة التلفاز الكبيرة، ويضعها في مكان مغلق، ولا يسمح بالدخول إلا بمبلغ معين.

وقد وردت إلينا بعض الفتاوى تستفسر عن مشروعية هذا الكسب، فكان الرد أن هذا من المكاسب المحرمة على تلك الفضائية خاصة، وعلى غيرها من المؤجرين منها، لأنه لعب ولهو وعبث، وقد نُزِّه المسلم عن اللعب واللهو والعبث، سيما الذي يعده وينظمه الكفار لإفساد شباب المسلمين بعد أن فسد شبابهم، حسداً من عند أنفسهم، وليشغلوا الشباب ويلهوهم عن قضايا أمتهم ومآسيها، فبدلاً من أن يفكر هؤلاء الشباب في وسائل تخليص الأمة من الهيمنة الاستعمارية المتمثلة في الحرب الصليبية التي تقودها أمريكا وأذنابها للقضاء على أي أثارة من علم أوفضل في الأمة، وفي كل المجالات، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإعلامياً؛ وبدلاً من أن يكون هم الشباب وتفكيرهم وشغلهم وقف على كيفية استرداد البلاد التي غزاها الكفار واقتطعوها من ديار الإسلام، الأندلس من قبل، وفلسطين، وكشمير بالأمس، وأفغانستان، والعراق، والشيشان، وغيرها اليوم، وعلى فك أسرى المأسورين من الشيوخ، والنساء، والصبية غير البالغين في سجون غوانتانامو، وأبو غريب، وفي غزة، وفي غيرها، وعلى حماية أعراض المسلمين التي تنتهك جهاراً نهاراً في العراق وأفغانستان وغيرهما، يشتغل بهذه السفاسف المحرمات.

كيف ترضى لنفسك وأنت الشباب المسلم أن تتفرج على فرق كافرة أومسلمة، لاعبة، لاهية، وأن تشجع هذا على ذلك، والكل عابث لاعب؟

لماذا ترضى أن يكون همك في سفاسف الأمور وتوافهها، بدلاً أن تشتغل بمعالي الأمور؟

أيها الشاب، أين أنت من غلام أصحاب الأخدود "ثامر"، الذي غير وجه تاريخ أمته من الوثنية والجاهلية إلى التوحيد والإيمان بجده واجتهاده، وجهاده الكفار والمنافقين، وصبره وعلو همته، على الرغم من صغر سنه؟

وأين أنت من شباب المسلمين الذين كانوا يتدافعون ويتسابقون على الجهاد، جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر؟ بل أين أنت من أسامة بن زيد الذي قاد جيشاً لغزو الكفار وهو دون العشرين من عمره؟

ألم تعلم أيها الشاب أن الشباب هُم أمل الأمة بعد الله عز وجل؟ هل أمنت الموت أن يأخذك وأنت تشاهد هذا العبث واللعب؟

رحم الله الإمام الألبيري عندما قال موصياً ابنه أبا بكر:

ولا تقل الصبا فيه امتهـال             وفكر كم صغيــرٍ قد دفنتَ

ورحم الله القائل:

شباب خنع لا خير فيهــم            وبورك في الشباب الطامحين

ينبغي لولاة الأمور من الحكام والآباء أن يتقوا الله في الشباب، وأن لا يعمدوا على أن يشغلوهم بهذه الملاهي، ومن أكبرها اللعب بالكرة، حتى لا يفكروا في قضايا أمتهم وأوطانهم ودينهم، فالشباب أمانة في أعناقهم يُسألون عنها يوم القيامة، وضياع الشباب ضياع للدين، والوطن، وللأمة.

وليعلموا أن الشباب طاقة، إن لم توجه إلى الخير وجهت إلى الشر:

إن الشباب والفراغ والجدة                 مفسدة للمرء أي مفسـدة

اللهم يسر شباب المسلمين لليسرى، وانفعهم بالذكرى، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم استخدمهم في معالي الأمور ولا تستخدمهم في سفاسفها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين

0000000000000000000

دخول قوات التحالف الكافرة ما هو إلا غزو مغلف للسودان

نتيجة للضربات الموجعة المتلاحقة، والخسائر الكثيرة الفادحة التي منيت بها أمريكا وحلفاؤها في عراق العروبة والإسلام، وفي أفغانستان الباسلة، وغيرهما من البلاد، على يد المقاومين الأشاوس، فكرت أمريكا أن تغير من استراتيجيتها من الغزو المباشر لديار الإسلام، ذي التكاليف الباهظة، والتبريرات الفاسدة، إلى الغزو المغلف، المتمثل فيما يسمى بقوات حفظ السلام.

إذ لا تزال أمريكا وأذنابها مصممون على المضي في حربهم الصليبية ذات الجوانب المتعددة على الإسلام والمسلمين.

وعليه فإنه يجب على ولاة الأمر وعلى العامة أن يحولوا دون دخول هذه القوات بمسمياتها المختلفة، إفريقية كانت أم أوربية، لأن الجميع يأتمر بأمر الكفار، وينفذ مخططاتهم الرامية إلى ضرب الإسلام والعروبة، عن طريق دعم الحركات الإثنية، وحضها وحثها على التمرد وحمل السلاح، ومدها بما تحتاجه من ذلك عن طريق المنظمات الكنسية، وتدويل هذه الخلافات.

وقد شجعهم على ذلك خنوع واستسلام الحكومة في اتفاقية نيفاشا الظالمة، ومن ثم فما إن فرغوا منها إلا وتوجهوا غرباً، حيث أشعلوا نار الفتنة بين الإخوة المسلمين في دارفور، فما كان من الحكومة إلا أن سلكت معهم نفس المسلك الذي سلكته في نيفاشا، وهكذا يستمر هذا المسلك القذر إلى أن تتفتت وحدة السودان، ويقسم إلى دويلات هزيلة  تأتمر بأمر الكفار في كل صغير وكبير، سعياً لوقف المد الإسلامي جنوب القارة الإفريقية، وتمهيداً لقيام الدولة اليهودية من الفرات إلى النيل، ومسخاً لهوية السودان الإسلامية العربية.

من أوجب واجبات الحاكم المسلم الذود عن الدين، والدفاع عن ديار الإسلام، والسعي لفض النزاعات القبلية، وعدم الخنوع والاستكانة للكفار، والاعتماد على الله في ذلك بنصر دينه، وليعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنه لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها برفع راية الجهاد، وقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وإن لم تفعلوا فسيصيبكم ما أصاب إخوانكم في الأندلس، اللهم هل بلغنا، اللهم فاشهد.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبي الملحمة الذي نصره الله على أعدائه بالرعب مسيرة شهر.

000000000000000000

ها أنتم هؤلاء جادلتم عن الترابي في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنه يوم القيامة؟

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ويل للأتباع من عثرات العالم"، قيل: كيف ذلك؟ قال: "يقول العالم شيئاً برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع".

إذا كان هذا بالنسبة لعلماء أهل السنة الأثبات الأخيار، فكيف بالرؤوس الجهال، والأئمة الضلال، الذين يفتون بغير علم فيَضِلون ويُضِلون؟ لا شك أن الأمر أخطر وأخطر.

ولهذا فإنا نقول لشيعة الترابي: ويل ثم ويل للترابي منكم، وويل لكم أضعافاً مضاعفة من الترابي، يوم يتبرأ كل منكم من الآخر.

بدلاً من أن يسعى أولئك الأتباع لنصحه، مع يقيننا التام أنه لا يحب الناصحين، عملاً بنصيحة الرسول الكريم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أوتمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره"، ويأخذوا على يديه، ويردوه عن غيه، يُمالأ على ضلاله، ويُعان على ما فيه هلاكه ودماره، ورحم الله القائل: "عدو عاقل خير من صديق جهول".

لقد سلك هؤلاء المدافعون عن الترابي بالباطل، المتجرئون على الثلة المؤمنة التي نصحت للترابي وللأمة بالسب، والشتم، والسخرية، مسلك أتباع الظلمة، ملأ الطاغية فرعون ومن شاكلهم عندما قالوا عن موسى: "إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ"، "أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ".

ولهذا قال أبو حازم، التابعي الكبير، عندما حاول أحد بطانة الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يصده عن نصح سليمان: "اسكت، إنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ".

نحن والله أنصح للترابي وشيعته من أنفسهم وأهليهم، كما قال الإمام الآمر الناهي ابن أبي ذئب، عندما سأله أبو جعفر عن نفسه بعد أن سأله عن عامل المدينة، فقال له: "أوتعفني؟ قال: لا؛ فقال: ورب هذه البنية، إنك لجائر؛ فأراد أحد بطانة السوء أن يسكته، فنهاه أبو جعفر، فقال ابن أبي ذئب لأبي جعفر: والله إني أنصح لك من ابنك المهدي"، أوكما قال.

لو يعلم المجادلون عن الترابي من سيكون خصمهم وحجيجهم يوم القيامة ما دفعوا عن الترابي ولا بكلمة، بل فروا منه وتبرأوا من أقواله وعقائده تلك، ولهجروه هجراً كاملاً.

هل يعلم هؤلاء المجادلون عن الترابي، المدافعون عنه، أنهم يدفعون عن باطل، وعن كف،ر وضلال، وأنهم محادُّون لله، ولرسوله، وللمؤمنين؟

هل يعلمون أن خصمهم الله ورسوله، ومن حاربه وخصمه الله ورسوله خاب وخسر؟!

لقد أذى الترابي اللهَ، ورسولَه، والمؤمنين، وقد توعد الله المؤذين لهم بقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا".

وتوعدهم بقوله في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب".

ما حجة هؤلاء عندما يخاصمهم إبراهيم عليه السلام الذي اتهمه الترابي بالشرك وعبادة الكواكب، ويونس الذي اتهمه بأنه غاضب ربه، ومحمد الذي زعم أنه أعلم منه، وكان يتندر كثيراً بضلاله، والصحابة الذين جرحهم وآذاهم الترابي، واتهم بعضهم بالخيانة، والعلماء الذين سبهم الترابي سباً لم يسبهم به أحد قبله، ولا شيوخ السوء عمرو بن عبيد، وسيد أحمد خان، وغيرهما من المخذولين: "سذج"، "سطحيون"، "ظلاميون"، ووصف أقوالهم بأنها "منحطة"، "سخيفة"، ونحو ذلك.

أيها المجادلون اتقوا الله في دينكم، وفي أنفسكم، وفي ترابيكم، فالأمر والله جد خطير، والحساب عسير، ترفعوا عن الولاء الحزبي الضيق، وعن موالاة أهل الأهواء، المخالفة لموالاة رب الأرض والسماء، والحذر أن تقلدوا دينكم أحداً من الرؤوس الجهال، فقد نهانا الشارع أن يقلد أحدنا دينه أحداً من العلماء الأخيار، فكيف بتقليد المبتدعة الذين يريدون أن يبدلوا شرع محمد، وأن يطوروه حتى يجاري ما عليه أسيادهم الكفار.

وأخيراً أحب أن أتوجه بهذه الكلمة لإخواني ملاك الصحف، وكتاب الأعمدة، والصحفيين بصفة خاصة، وكذلك وسائل الإعلام الأخرى المشاهدة والمسموعة، أن يتقوا الله، وليعلموا أنهم سيحاسبون على كل كلمة تكتب في صحفهم، وعن كل باطل دوفع عنه في جرائدهم، بينما يَحْرمُون المتعدَّي عليهم وعلى دينهم من مجرد الرد أوالتعقيب، فهم قضاة.

وليتذكروا أنهم مسلمون، وأن واجبهم الذود والدفاع عن هذا الدين، وأنهم على ثغرة من ثغوره، فويل لهم أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وأن لا يخوضوا في المسائل الشرعية، خاصة فيما يتعلق بمسألة التكفير، والتضليل، والتبديع، لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن، وليتقوا دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.

اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ولا عدوان إلا على الكفرة، والمنافقين، والظالمين.

00000000000000000000

ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ أبو النجا

تعقيب على ما كتبه الأستاذ صلاح أبو النجا بعنوان "آراء الترابي ورد جعفر"، بجريدة ألوان العدد [3506]، الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1427هـ، الموافق 9 مايو 2006م.

بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله.

أود أن أجمل تعقيبي على ما كتبه الأستاذ أبو النجا في النقاط التالية:

أولاً: أود التذكير والتنبيه بصفة عامة إلى أن مسائل التكفير، والتبديع، والتفسيق من المسائل التي زلت فيها كثير من الأقدام، وضلت فيها كثير من الأفهام، ولهذا لا ينبغي أن يخوض فيها إلا ذو الاختصاص من العلماء الشرعيين.

ثانياً: أود أن أنبه كذلك إلى خطورة "الحَيْدَة" التي تميزت بها كتابات كل المدافعين عن الترابي، وأبوالنجا ليس بدعاً منهم، فبدلاً من أن يردوا على الحجج الدامغة والبراهين الساطعة التي دفعت العلماء الشرعيين دفعاً لبيان كفر الترابي وإشهاره نصحاً للأمة، وأنى لهم ذلك؟! حادوا عن ذلك، وبدأوا يجترون اعتقاله، وقيادته للحركة الإسلامية، ونحو ذلك من المسائل التي لا علاقة لها البتة بموضع النزاع، وهو إنكار الترابي لما هو معلوم من الدين ضرورة، نحو إباحته للردة وإنكاره لحدها، رفعه الكفر عن اليهود والنصارى، إنكاره لجميع أشراط الساعة الكبرى، إجازته للكافر الكتابي أن يتزوج المسلمة، ازدراؤه وانتقاصه للأنبياء، والرسل، والصحابة، والعلماء، ورده لكثير من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول والإجماع، وغيرها من الكفريات والضلالات التي سطرها بنانه أونطق بها لسانه، هل هذه العقائد كفر أم ليست بكفر مخرج من الملة؟!

فإني والله أربأ بإخواني أن يسلكوا مسلك الكفار وأهل الأهواء، قال الله عز وجل ذاماً مسلك الحَيْدَة هذا عند الكفار: "وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ. فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ".

وكذلك فعل الخوارج عندما جاءهم ابن عباس مناظراً لهم، قال بعضهم: لا تناظروه، إنه من قوم خصمين!!

ورحم الله القائل:

شكونا إليهم خراب العراق               فعابوا علينا لحوم البقـر

فكانوا كما قيل فيما مضى               أريها السها وتريني القمر

فكما أنه لا علاقة بين لحوم البقر وبين خراب ودمار العراق، كذلك لا علاقة البتة بين إنكار الترابي لما هو معلوم من الدين ضرورة الموجب للكفر والزندقة، وبين أنه قاد الحركة الإسلامية وما خرج من معتقل إلا ودخل معتقلاً آخر، ونحو ذلك.

ثالثاً: الحكم في الإسلام بالظاهر، أما النيات فعلمها عند علام الغيوب، فرد الأقوال المعتمدة على الأدلة القاطعة بالتشكيك في النيات أمر لا يقره الشرع ولا يقبله، فكون جعفر حاقد على الترابي أم ليس بحاقد، هذا الأمر لا يمكن لأحد أن يطلع عليه، فمن الظلم أن ترد أقواله بموقفه الثابت القديم من ضلالات وكفريات الترابي، بل ينبغي أن يُشكر ويُحمد من انتبهوا لضلالاته وكفرياته من الستينات مقارنة بمن لم ينتبه إليها إلى الآن.

رابعاً: أوافق أستاذ "أبو النجا" أن الإسفاف والاستهزاء مرفوض، ولكن علينا إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، ونقول لصلاح "البادي أظلم"، وأن الترابي له اليد الطولى في ذلك، وإليك هذه الأمثلة لازدرائه واستخفافه وانتقاصه للرسل، والأنبياء، والصحابة، والعلماء، ولا تقل لي هذه سماعات، "فمن علم حجة على من لم يعلم" كما يقول المحدِّثون، ونحن من هذا المنبر نتحدى الترابي أن ينكر واحدة من تلك الطوام، حتى يعلم الجميع مكانة أولئك المصطفَين الأخيار في قلب الترابي، وإليك ما تيسر من ذلك:

1. تكرار الترابي لضلال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

2. زعمه أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في ربه وكان يعبد الكواكب.

3. أن يونس عليه السلام شرد، وأنه كان مغاضباً لربه.

4. تشكيك الترابي في عصمة الأنبياء حتى في التبليغ، إلا من الناس.

5. تشكيكه في عدالة الصحابة، وتقسيمه لهم إلى عدول ومجروحين.

6. قال عن الإمام الماوردي وكتابه الأحكام السلطانية: (صاحبه راجل مسكين)، ندوة جامعة البحر الأحمر نقلاً من جريدة ألوان، ووصف الشروط التي وضعها الفقهاء للخليفة في كتب الفقه بأنها (منحطة) المصدر السابق.

7. وقال عن شرط النسب: (يا أخوانا ده معقول، ده سخف)، وحديث "الأئمة من قريش" الذي وصفه الترابي بأنه سخف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم الندوة السابقة.

8. وقال: (المعركة ضدي محض جهل وقلة معرفة بالدين) - جريدة الحياة العدد [1080].

9. وقال عن أصول الدين التي يتحدث عنها المسلمون بأنها (ليست من الدين في شيء).

10. وقال عن أنصار السنة: (يتعرضون للقضايا الهامشية مثل تطويل اللحى وتقصير الجلباب) ندوة الميدان الغربي.

11. وقال عن فقهاء السلف: (منهم من هو صالح ومن هو طالح).

12. وقال عن المجددين، ومنهم عمر بن عبد العزيز والشافعي: (كثير من المجددين يأخذهم الغرور بكسبهم) كتاب قضايا التجديد للترابي ص 154.

13. وقال: (الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيراً من قضايا الحياة العامة، وإنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة، ولذلك كانت الحياة تدور بعيداً عنهم، ولا يأتيهم إلا المستفتون) قضايا التجديد ص 196-197.

14. وقال في محاضرة بكلية الطب جامعة الخرطوم في 30/4/1995م، مستخفاً بالفقهاء وساخراً منهم: (الفقهاء ديل، فرائض الصلاة = 9، فرائض الوضوء = 7، ثم قال: ما تمسكوا لكم فقه اتعمل زمان).

15. وقال مستخفاً وساخراً من الإمام ابن باز رحمه الله، في كتاب "المرأة" للترابي: (بعض الدول تحاصر المرأة بين الجدران، ولا تترك لها فرصة في مشاركة الرجل في الحياة الكريمة، ومن كتَّاب وشيوخ منهم من سلب نعمة البصر، فلم ير امرأة قط حتى يحكم عليهم من تجربته الواقعية).

16. وقال: (لو جاءته الرسالة لأداها أفضل مما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم).

17. وقال إنه أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم.

18. وقال: (الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يفسر القرآن لهذا العصر).

هذا قليل من كثير، وغيض من فيض.

خامساً: هل قيام الرجل بأعمال جليلة، لو آمنا بها جدلاً، وتزعمه لحركة إسلامية، يبيح له الإتيان بالطوام العظام، ورد وإنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة؟

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي جاهد، وقاتل، وشهد له من حوله من الصحابة بأنه من أهل الجنة، وكان صلى الله عليه وسلم يقول هو في النار، فتعجب الصحابة من ذلك، ولم يستبينوا قول نبيهم إلا عندما أثخنته الجراح وقتل نفسه! حيث لم يفده جهاده مع ارتكابه لتلك الجريمة، وهي معصية، فكيف بمن أنكر العديد من الأمور المعلومة من الدين ضرورة؟!

وكذلك مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غل شملة قبل تقسيم الغنائم في غزوة تبوك، ثم أبلى بلاء حسناً بعدها وقتل، فشهد له البعض بالجنة، فأخبر الصادق المصدوق أن الشملة التي غلها تشتعل عليه ناراً.

ولهذا قالت عائشة لكعب بن عجرة: لقد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمخالفته في أمر فقهي.

لذلك اشتد نكير أهل السنة على أئمة البدع من المعتزلة وغيرهم، مع أنهم كانوا متزعمين لفرق إسلامية، وكانت لهم مجاهدات لم يأت الترابي بمعشار معشارها، وكانوا غاية في الزهد، نحو عمرو بن عبيد المعتزلي، حيث أجاز الحسن البصري وأبو حنيفة لعنه، مع شهادتهما له بالزهد، حيث قالا: "لعنه الله، ما أزهده"، ولذات السبب كفر الشافعي حفص الفرد، وكان يلقبه بحفص المنفرد عن جماعة المسلمين، وكذلك طرد مالك الإمام أحد تلاميذ عمرو بن عبيد شر طردة.

ولو فرضنا جدلاً أنه كانت للترابي مجاهدات وسابقة، فالعبرة بالخواتيم، فأين هو الآن؟!

سادساً: أرجو من إخواني الكرام أن لا يقلدوا دينهم الرجال، وأن لا تأخذهم الحمية الحزبية، وأن يكون ولاؤهم لله عز وجل، ولرسوله، وللمؤمنين، وأن يدوروا مع الحق حيث دار، وأن يتمسكوا بدينهم العتيق، ويحذروا الأديان المتطورة المبدلة.

سابعاً: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوالي هذا الرجل، بأي نوع من أنواع الموالاة، لا بسلام، ولا زيارة، ولا عيادة ونحوها، ولا يدافع عنه، وإلا فليعلم أنه خان الله، ورسوله، والمؤمنين.

ثامناً: نبشر من صدق الترابي في هذه الكفريات أوشك فيما كان عليه من المسلمات بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي عندما جاءه قبل أن يسلم، وكان نصرانياً، وكان يتلو: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ"، فقال: ما عبدناهم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال، فأطعتموهم؟"، قال: بلى، فقال له: "تلك عبادتكم إياهم".

ولهذا فإنا نقول للموالين للترابي، المجادلين عنه، المشككين في الثوابت، القابلين لما ابتدعه الترابي: تلك عبادتكم إياه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسل

000000000000000000000

تلك عبادتكم إياه

جاء في تفسير قوله تعالى: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ"، في قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، فيما روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير رحمهم الله:

"أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيساً في قومه طيء..

فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ"، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم؛ فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم".

وسئل حذيفة عن قوله: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ"، هل عبدوهم؟ فقال: لا، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في معناها: "إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا".

وقال السدي: "استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم".

ولما كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، فإنا نقول لمن صَدًّق الترابي في أقوال السوء الترابية الكفرية، أوشك فيما كان يعتقده من قبل من شرع محمد صلى الله عليه وسلم: تلك عبادتكم إياه.

ولهذا ختمت الآية: "وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا"، فمن اتخذ معه مشرِّعاً غيره فقد أشرك بالله، وهو أغنى الشركاء.

فمن صدَّق الترابي أوشك فيما كان يعتقده من الشرع في إباحته للردة، وإنكاره لحدها، وفي رفعه الكفر عن اليهود والنصارى، وفي أن أصل الإنسان قرد، وأن حواء أول الخلق وليس آدم، وكذب بأشراط الساعة الكبرى، وفي إجازته للمرأة أن تلي الإمامة الكبرى والصغرى، وأن الجنة ليس فيها حور عين، وما شابه ذلك من كفريات وضلالات أوبعضها، فقد اتخذه مشرِّعاً، وعبده من دون الله، وأصبح حكمه كحكمه.

وإياك إياك أن تقول: إن هذه الضلالات سبق إليها؛ فلا أسوة في الشر، أوتقول: أنا لن أزوج ابنتي ليهودي أونصراني، ولن أأتم بامرأة؛ فسواء في ذلك زوجتَ أم لم تزوج، وصليتَ خلف امرأة أم لم تصل، طالما أنك صدقت ما جاء به الترابي، ولم تنكر عليه وتهجره، فقد كذبتَ بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

فمن قال إن الخمر حلال فهو كافر، شربها أم لم يشربها، ومن قال هي حرام فهو مسلم ولو كان معاقراً لها في كل حين.

نحن موقنون أن ليس كل شيعة الترابي والموالين له موافقين له في كل ما يقول به أوبعضه، لكن مما يجب التنبيه عليه والحذر منه أنه لا تجوز موالاة الترابي بأي درجة من درجات الموالاة، طالما أنه مصر على تلك الأقوال والاعتقادات الكفرية.

فلا يحل السلام عليه، ولا عيادته، ولا إجابة دعوته، دعك من اتخاذه قائداً أورئيساً.

فمن والاه بأي نوع من أنواع الموالاة فقد أغضب الله، ورسوله، والمؤمنين، وليعلم أنه ارتكب إثماً عظيماً، واقترف جرماً كبيراً، وأنه حادَّ وشاقَّ الله ورسوله.

وسواء في ذلك الذي يواليه سراً أوجهراً، أورضي، أوسُرَّ بما قال.

ورحم الله الإمام أحمد، عندما قيل له: هناك رجل يفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية رضي الله عنهما؛ فقال: لا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، ولا يصلي خلفه.

فكيف بمن أنكر ما هو معلوم من الدين ضرورة، وانتقص الرسل الكرام، ونال من الصحابة العظام، وازدرى وسخر من الأئمة الأعلام؟

ورحم الله العالم البطل، عبد الله بن المبارك، عندما رد فساد الدين إلى ثلاث طوائف، أخطرها علماء السوء، الأئمة المضلون، الرؤوس الجهال، الذين يفتون بغير علم فيَضِلوا ويُضِلوا.

حيث قال:

رأيتُ الذنوب تميت القلوبَ             ويورث الذلَّ إدمانُهــا

وترك الذنوب حياة  القلوب             وخير لنفسك عصيانهـا

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ             وأحبارُ سوء ورهبانُهـا

وباعوا النفوس فلم يربحوا              ولم يغل في البيع أثمانُها

لقد رتع القـوم في جيفـة              يبين لذي العقل إنتانُهـا

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

اللهم ردنا إليك وجميع إخواننا المسلمين رداً جميلاً، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم عليك بالجبابرة المتكبرين، وبالدجاجلة الساعين لتبديل وتطوير الدين، اللهم عليكهم فإنهم لا يعجزونك، وصلى الله وسلم على خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وصحبه الأصفياء، وأتباعه الأوفياء

00000000000000000000

نعم للوسطية، ولكن ما هي الوسطية؟

ينادي البعض في هذه الأيام بالوسطية، وقد عقدوا لذلك المؤتمرات، والندوات العلنية بعد السرية، وأنشأوا من أجل ذلك معاهد ومحاضن، للتسويق لإسلام جديد مغاير ومناقض للإسلام الذي بعث به سيد البرية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عبارة عن خلطة بين ما تهواه أنفس أولئك الدعاة المشبوهين، وبين ما أفرزته الحضارة الكافرة، إسلام أمريكي، ليتمكنوا من تفريخ عدد من علماء سوء مفسدين مضلين، وأنصاف دعاة مهرجين مخربين.

يصدق على مثل هذه الدعوات المشبوهة التي تحركها أيد خبيثة معروفة، وينفذها بعض المنافقين والمخدوعين المستغلين، أنها دعوات حق يريدون بها باطلاً، وكلمات صدق يرمى من ورائها إلى تبديل الدين وتطويعه.

الوسطية الحقة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والتابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة الفاضلة، والأعصار الزاهية، قبل أن تنبت الفرق الكلامية، وتظهر العقائد الخلفية، كما جعلهم ربهم: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"، ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين.

ولهذا يمثل الوسطية أهل السنة والجماعة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كما أن المسلمين نقاوة بين الأمم، كذلك أهل السنة نقاوة بين الفرق).

فالوسطية والخيرية إذاً هي الالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في الاعتقاد، والتصور، والعبادة، والسلوك: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم" الحديث، أي الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة.

يعتقد بعض المتفلتين أن الوسطية ما هي إلا التلفيق بين الإسلام وما أفرزته الحضارة المادية الكافرة، كما يزعم دعاتها: الجمع بين الأصل والعصر.

وما هي إلا الأخذ بهفوات وسقطات بعض أهل العلم، والبحث والتفتيش عن الأقوال الشاذة، والآراء المهجورة، وصدق من قال: "من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله".

رموز الوسطية لفيف من العلمانيين والمنافقين ذوي النكهة الإسلامية، أوالمزاج الإسلامي، والعصرانيين، والمنهزمين التوفيقيين، من دعاة إزالة الفوارق بين الأديان، ورفع الكفر عن اليهود والنصارى، والتقارب بين السنة والشيعة، المجيزين لكثير من المحظورات، المحللين لجل المحرمات: الغناء، الموسيقى، التمثيل، التصوير، تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء، الساعين لإشاعة الفاحشة في المجموعات الطاهرة، المتجاسرين على رد سنن خير الأنبياء.

تتضح وسطية أهل السنة، واعتدالهم، وخيريتهم في الآتي:

أولاً: الإيمان بأسماء الله وصفاته، فهم وسط بين المشبهة من ناحية وبين الجهمية المعطلة نفاة الصفات من ناحية أخرى، فمذهبهم إثبات من غير تشبيه، وتنزيه من غير نفي.

ثانياً: في الصحابة، فهم وسط بين الشيعة والخوراج الذين كفروا وفسقوا كثيراً من الصحابة من ناحية، وبين الشيعة وغلاة الصوفية الذين يدَّعون العصمة لبعضهم، فالصحابة عند أهل السنة بشر، ولكنهم أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، تجوز عليهم الكبائر والصغائر كسائر الخلق، مع ندرة حدوث ذلك منهم.

ثالثاً: فقهاء أهل السنة كذلك وسط بين المتعمقين في القياس والرأي من ناحية، وبين نفاة القياس كلياً من ناحية أخرى.

رابعاً: في الشفاعة في الآخرة، فهم وسط بين الخوارج والمعتزلة الذين نفوا عدداً من شفاعاته صلى الله عليه وسلم من ناحية، وبين غلاة الصوفية الذين جعلوا الشفاعة في الآخرة كالشفاعة في الدنيا من ناحية أخرى.

خامساً: في الحكم على الناس، إذ أنهم يحكمون على الناس بما ظهر منهم، ويدعون علم سرائرهم لعلام الغيوب.

سادساً: في الإكفار، فهم وسط بين الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بكل كبيرة من ناحية، وبين المرجئة الذين جعلوا الأمر فوضى والتكاليف عبثاً، الذين يقولون: (لا نكفر إلا من انتفى الإقرار والتصديق من قلبه) من ناحية أخرى، إذ يكفرون من تعاطى سبباً من أسباب الإكفار، ويمنعون الإكفار بكل معصية.

هذه هي الوسطية الحقة، وما سواها تفلت عن الشرع، وسعي لتبديل وتغيير دين محمد صلى الله عليه وسلم.

الأفضل للمرء أن ينسلخ عن دين الإسلام، ويكفر بما أنزل عليه بالكلية، بدلاً عن أن يشرع ديناً ما أنزل الله به من سلطان، تحت مسميات مختلفة، ومصطلحات مفضوحة مختلقة.

لقد ضاق دعاة تطوير الدين وتبديله حتى يماشي ما عليه الكفار بالعتيق ذرعاً، ولهذا سعوا لاستيراد "نظم الحكم" من الكفار كما استورد سلفهم عمرو بن لحي الخزاعي صنماً من الشام، عندما ضاق بالحنيفية السمحة فتولى كِبْرَ تبديلها، كما يريد هؤلاء تولي كِبْرَ تبديل شرع محمد العتيق، ولهذا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر "قصبه"، أي أمعاءه في جهنم.

فهنيئاً لدعاة تبديل الدين، وتبصر بمصير شيخهم شيخ السوء عمرو بن لحي الخزاعي، والله جامع الكافرين والمافقين في جهنم جميعاً.

وليعلم هؤلاء أن دين الله محفوظ، وشرعه باق ما بقيت السموات والأرض، وأنهم بسعيهم الباطل هذا، وعملهم الخاسر، لا يضرون إلا أنفسهم، فهنيئاً لهم برضى الكفار الموجب لغضب الجبار، المفضي إلى الخلود في النار، والويل ثم الويل لمن باع آخرته بدنياه، وربما بدنيا غيره.

اللهم من أرادنا وأراد إسلامنا بسوء اللهم فعليكه فإنه لا يعجزك، وصلى الله وسلم وبارك على محد، وآله، وصحبه، والتابعين لهم من بعده.

00000000000000000

ومنزلة الفقيه من السفيه     كمنزلة السفيه من الفقيه

الحملة المسعورة، والهجمة الشرسة غير المشكورة، التي يقودها أعداء الدين من فلول الكفار من الشيوعيين، والجمهوريين، والمنافقين من ناحية، والجهلة من الإعلاميين من ناحية ثانية، والمخدوعون من ناحية ثالثة، التي تطفح بها الصحف اليومية، وينعق بها في الندوات، والمحاضرات، والمقابلات، ويصرح بها في الجلسات الخاصة، ضد الثلة الناصحة لله، ولرسوله، ولدينه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، الصادعة بالحق، المبينة لحكم الشرع فيمن أنكر ما هو معلوم من الدين ضرورة، أداءً لجزء من الواجب، وعملاً بالميثاق الذي أخذ عليها، يصدق عليها ما قاله الإمام الشافعي لتلميذه المزني رحمهما الله: "يا أبا إبراهيم، العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم"، ثم أنشد الشافعي لنفسه:

ومنزلة الفقيه من السـفيه             كمنزلة السفيه من الفقيه

فهذا زاهد في قـرب هذا             وهذا فيه أزهـد منه فيه

إذا غلب الشقاء على سفيه            تنطع في مخالفـة الفقيه

وما قاله العلامة ابن عقيل رحمه الله: (واكمداه من مخالفة الأغمار، واحصراه من أجل استماع ذي الجهالة للحق والإنكار، والله ما زال خواص عباد الله يتطلبون لتروحهم بمناجاتهم رؤوس الجبال، والبراري، والقفار، لما يَرَوْن من استزراء المنكرين بشأنهم من الأغمار.

وقال أيضاً: الجهال يفرحون بسوق الوقت حتى لو اجتمع ألف أقرع يزعقون على بقرة هراس، لقوي قلبه بما يعتقد أولئك، وينفر قلبه من أدلة المحققين، بهيمية في طباع الجهال لا تزول بمعالجة).

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله مبيناً دركات البدع، وموقف أهل العلم منها حسب حجمها وخطرها على الأمة: (التاسع: تكفير من دل الدليل على كفره، كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية، والقائلين بالحلول كالباطنية، أوكانت المسألة في باب التكفير بالمآل، فذهب المجتهد إلى التكفير كابن الطيب الباقلاني في تكفيره جملة من الفرق).

فما قامت به تلك الثلة المباركة من أهل العلم ليس بدعاً من مسلك العلماء قبلهم، وما قوبلوا به ليس بأشد مما قوبل به أولئك، فها هو الشافعي رحمه الله حكم في أهل الكلام: (أن يحملوا على البغال والحمار، ويضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم على العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام).

فكيف بمن أراد أن يبدل شرع الله، ويغير نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لا يتوهمن متوهم أن مثل هذه الحملات المسعورة تصد المخلصين عن الذب والدفاع عن دينهم وشرع نبيهم، بل والله تزيدهم إصراراً، وصموداً، ومضياً إلى الأمام.

كما أرجو أن لا يكون الترابي أحب إلى شيعته من الحق الأبلج، وأن لا يكون أرسطو الكافر أعقل منهم عندما قال: أفلاطون حبيبنا وأستاذنا، ولكن الحق أحب إلينا منه

000000000000000000

بين شرعنا العتيق وشرع الترابي المبدل

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً.

والحمد لله القائل: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ".

وصلى الله وسلم وبارك على محمد بن عبد الله القائل: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي".

ورضي الله عن عمر ذلكم المُحَدَّث الملهم حين قال: "ستجدون أقواماً يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدُّع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق".

ورحم الله مالكاً الإمام، القائل في تفسير قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ": (ما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم ديناً".

قلت: صدق عمر، إن ديننا لعتيق؛ يقول القحطاني في نونيته:

وشريعة الإسلام   أفضل شرعة            دين النبي الصـادق العـدنان

هو دين رب العالمين و شرعه            وهو القديــم   وسيـد الأديان

هو دين آدم والمــلائك  قبله            هو دين نوح صاحب   الطوفان

وله دعا هود النبي  وصـالـح            وهمـــا لدين الله معتقـدان

وبه أتى لوط  وصاحب مـدين            فكلاهمـا في الدين مجتـهدان

هو دين إبراهيم وابنيه معــاً            وبه نجا من نفحــة النيـران

وبه حمى الله الذبيح من البـلا            لما فداه بأعظـــم القـربان

هو دين يعقوب النبي ويـونس            وكلاهمــا في الله   مبتـليان

هو دين داود   الخليفــة وابنه            وبه أذل له ملـــوك  الجان

هو دين يحيى   مـع أبيه  وأمه            نعم الصبي وحبذا الشيــخان

وله دعا عيسى   ابن مريم قومه            لم يدعهم لعبادة الصـــلبان

والله أنطقه صبياً   بالهـــدى            في المهد ثم سما على الصبيان

وكمال دين الله   شرع  محمـد            صلى عليه منــزل القرآن

هذا العتيق يريد بعض الأشقياء الجُرَّاء على الله أن يبدلوه ويطوروه، تارة بتقسيمه إلى ثابت ومتغير، وتارة بابتداع أصول جديدة، وتارة بدعوى تجديد أصول فهم النصوص، وأخرى بالاقتصار على القرآن ورد كل حديث لم يوافق أهواءهم، أويعرضهم لغضب الكفار ومساءلاتهم، أوحتى يوقعهم في حرج معهم.

لقد ابتكروا من أساليب المراوغة، والخداع، والتشكيك في الأصول والثوابت ما الله به عليم، وهكذا شأن المبتدعين قديماً وحديثاً، فكل من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي إلا بدين مبدل أومنسوخ.

(ولهذا كان الصحابة إذا قال أحدهم برأيه شيئاً يقول: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، كما قال ابن مسعود).

نقول لهؤلاء المشاققين للرسول صلى الله عليه وسلم، والمتبعين لغير سبيل المؤمنين جميعاً: إن تجديدكم وتطويركم مردودان عليكم.

ونقول للمسلمين عامة: عليكم بالعتيق، وإياكم ومحدثات الأمور، واحذروا الرؤساء الجهال، فإنهم دعاة على أبواب جهنم، وعليكم بالعلم، بما كان عليه سلفكم الصالح.

وبعد..

فهل حقاً ديننا يحتاج إلى تجديد وتطوير؟ وهل حقاً ديننا لا يناسب هذا العصر؟ وأن أصوله قاصرة؟ وفقهاؤه سذج؟

هذا وغيره ما يقوله إمام مبتدعي القرن العشرين الترابي، وسنمثل في هذه الصفحات لبعض هذه المقولات الشاذة، لنعلم أن الذي يريده الترابي دين جديد مغاير لما جاء به خاتم الأنبياء والرسل، ومخالف لديننا العتيق، وملفق من ملل وثقافات مختلفة.

لنكون على بينة من أمر هذا الرجل، وليعلم من يدافع عنه أنه يدافع عن دين مبدل، ويتبع شرعاً مشوهاً، ورجلاً مبتدعاً، وداعياً من دعاة جهنم، من أطاعه إلى دعواه قذفه فيها.

بين شرع محمد صلى الله عليه وسلم العتيق وشرع الترابي المبدل

بين شرع محمد صلى الله عليه وسلم العتيق وشرع الترابي المبدل

 

شرع محمد صلى الله عليه وسلم شرع الترابي المبدل

1.  أن أصل الإنسان آدم عليه السلام خلقه من طين بيده وأسجد له ملائكته.  1.  أصل الإنسان قرد، مستدلاً بقياس إبليسي، حيث قال: (أيهما أفضل للإنسان، أن يكون أصله قرد أم طين؟).

2.     أول الخلق آدم عليه السلام.  2.   أول الخلق حواء، منافقة للنساء.

3.     الإيمان بالبعث وبالقيامة الجامعة.  3.  ليست هناك قيامة جامعة، وحجته: (أين الأرض التي تسع سائر الخلق؟).

4.     من ارتد عن الإسلام فقد كفر.  4.  أجاز للمسلم أن يبدل دينه لأي دين شاء، ولا يقال له أنت مرتد، دعك أن يُكفَّر.

5.  المرتد عن الإسلام عقوبته القتل، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، منها: "التارك لدينه المفارق للجماعة" [متفق عليهما].     5.  رفع عن المرتدين حد الردة إلا إذا كانوا محـاربين، خلافاً لمن أقـام حدها على من عبدوه وألهوه، علي بن أبي طالب، وما فعله معـاذ بن جبل أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، وفعله أبو موسى، وغيرهم كثير.

6.  كل من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وغيرهم، بعد بعثته فهو كافر، للعديد من الآيات، وللحديث: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار".

قال أبو موسى الأشعري: "ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في كتاب الله عز وجل، فقرأت فوجدت: "وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ" [هود:14].

رواه الطبراني وأحمد ورجال أحمد رجال الصحيح، مجمع الفوائد ج8/ 264-265]  6.  رفع عنهم الترابي الكفر رداً للقرآن، والسنة، وإجماع الأمة.

أما قوله تعالى: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى" [المائدة:82]، التي يقف عندها أهل الأهواء، ولا يأتون بالتي بعدها: "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" [المائدة:83]، فقد نزلت في نصارى نجران، عندما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلموا على يديه.

7.  مصدر الوحي في شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الوحي المنزل من عند الله قرآناً وسنة: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3-4]، "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا" [الحشر: 7].  7.  وفي شرع الترابي المنفرد عن جماعة المسلمين العقل وما يوافق الهوى من النقل، يقول: (وتعلمون أن العلم الإسلامي له مصدران: أحدهما عقلي، والثاني نقلي، وهذان المصدران يتحدان في الإسلام، ويتناصران، ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر).

[قضايا التجديد نحو منهج أصولي للترابي ص175]

8.  مصادر التشريع في شرعنا العتيق هي:

   القرآن الكريم.

   السنة النبوية.

   الإجماع.

   القياس.

هذا ما كان عليه المسلمون، ولا يزالون حتى تقوم الساعة.  8.   أما في شرع الترابي، فالمصادر هي:

   العقل.

   قرارات الحاكم.

   الإجماع الديمقراطي.

   القياس الفطري الحر.

[المصدر السابق ص211]

هذه هي المصادر المعلنة، أما حقيقة فمصدر التشريع عنده واحد هو الهوى، هذه المصادر فصلها الترابي عندما كان هو الحاكم، لكن بعد عزله من الحكم لابد أن تكون هناك مصادر أخرى جديدة.

9.  الحكم في شرعنا لله: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهَُ" [يوسف: 40].     9.  وفي شرع الترابي للشعب، حيث قال: (إن أصول الإسلام لا تجعل للفقهاء ولا للعلماء نصيباً من وضع الأحكام الملزمة للمسلمين، فالفقهاء قادة طوعيون، لكن الشعب المسلم أوالجماعة المسلمة لها حق إلزام الفرد المسلم بسلطان الشورى يعني الديمقراطية والإجماع الشعبي).

وقال في موضع آخر من نفس الكتاب: (فإذاً يمكن أن نحتكم إلى الرأي العام المسلم، ونطمئن على سلامة فطرة المسلمين حتى لو كانوا جهالاً في أن يضبطوا مدى الاختلاف).

وقال: (ومهما تكن المؤهلات الرسمية، فجمهور المسلمين هم الحكم، وهم أصحاب الشأن في تمييز الذي هو أعلم وأقوم)

[المصدر السابق ص165و213].

10. أهل الشورى أهل الحل والعقد في شرعنا هم العلماء الشرعيون.    10. وفي شرع الترابي الديمقراطي هم العامة والدهماء، من مسلمين، وكفار، ومنافقين.

11. في شرعنا العتيق: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"

[آل عمران: 36].    11. وفي شرع الترابي المبدل الأنثى مساوية للذكر، بل قد تفضله في أحيان لأنها تحمل كما زعم.

12. في شرعنا العتيق لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون بحكم الله عز وجل 12. وفي شرع الترابي قد يقدم الجاهلون الموالون للشيخ على غيرهم من العالمين.

13. في شرعنا الدين كله ثوابت، وإذا استحدث شيء قيس على أصول الدين وقواعده.   13. وفي شرع الترابي هناك ثابت وهو العبادات، ومتغير وهو ما سواها، بل لكل عصر ومصر ما يناسبه من عقائد وتشريعات.

يقول الترابي: (ما دام الدين من حيث هو خطاب للإنسان وكسب منه واقعاً في الإطار الظرفي، فلابد أن يعتريه شيء من أحوال الحركة الكونية..) إلخ.

[قضايا التجديد ص 12 للترابي]

14. في شرعنا الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر، حتى يقاتل آخر هذه الأمة المسيح الدجال تحت قيادة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.     14. وفي شرع الترابي: (هذا القول تجاوزه الزمن وتخطاه الفكر الإسلامي الحديث)، كما جاء في جريدة الأيام، الندوة التلفزيونية التي أجراها مع الترابي الصحفي بشير محمد سعيد رحمه الله.

15. في شرعنا أصولنا كافية وصالحة لكل زمان ومكان. 15. وفي شرع الترابي المبدل: (علم الأصول التقليدي ليس مؤهلاً للوفاء بحاجاته).

[انظر قضايا التجديد للترابي ص 195]

16. في شرعنا أفتى علماؤنا وحكم قضاتنا في الطلاق وغيره، ولا يزالون يفتون ويقضون، وما احتاجوا لعلم إحصاء.   16. وفي شرع الترابي المبدل لا يفتي في الطلاق إلا من له معرفة بالإحصاء، يقول: (وما لم يعرف الفقيه الإحصاء لا يستطيع ترجيح رأي في الطلاق على رأي آخر، باستقراء مدى النتائج التي تؤدي إليها فتواه وخطورتها، وأثرها على سلامة الأمة واستقرارها على مصالح المجتمع).

[قضايا التجديد ص 214]

17. في شرعنا النبوة والرسالة اصطفاء واختيار من الله عز وجل: "اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ" [الحج: 75].     17. وفي شرع الترابي المبدل تقليداً للفلاسفة الضُّلال أن النبوة اكتساب، ولهذا زعم أنه لو جاءته الرسالة لأداها أحسن وأفضل مما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

18. في شرعنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق قاطبة.   18. أما في شرع الترابي فإنه يدعي أنه أعلم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مرة قال هو أعلم منه في شؤون الدنيا لأنه يعرف القانون واللغة الفرنسية، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعلم الفرنسية.

19. في شرعنا عند أهل السنة الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله، وعن الشرك، والكبائر، والصغائر، قبل وبعد البعثة.    19.   وفي شرع الترابي معصومون فقط من الناس.

20. في شرعنا الصحابة كلهم عدول، بتعديل الله ورسوله لهم.   20. وفي شرع الترابي منهم مجرحون، فهو يختار من رواياتهم ما يناسب هواه.

21. في شرعنا المرأة ليس لها حظ في ولاية الرجال، لا كبرى ولا صغرى.  21. وفي شرع الترابي أجاز للمرأة أن تلي الولاية الكبرى والقضاء، وأن تؤم الرجال.

22. في شرع محمد صلى الله عليه وسلم يجب الإيمان بجميع أشراط الساعة الصغرى والكبرى التي أخبر بها الصادق المصدوق، وهذا جزء لا يتجزأ من الإيمان باليوم الآخر.     22. في شرع الترابي التكذيب بجميع أشراط الساعة الكبرى، مع التركيز على إنكار نزول عيسى عليه السلام، مع الاستخفاف بذلك كما زعم: (ليس هو في إجازة في السماء).

23. الغناء والموسيقى في شرعنا محرمات، وقد نقل الإجماع في ذلك عدد من أهل العلم، إلا زلات وهفوات من البعض، والله يغفر لهم، والغناء في شرعنا إنما يفعله ويمارسه الفساق كما قال مالك، وقال أحمد: ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.     23. وفي شرع الترابي المبدل سبب من أسباب دخول الجنة، وقد زعم أن الآلات الموسيقية قد تابت وأنابت على يديه، بل يعتبر الترابي الفن بكل أشكاله: رقصاً، وغناءً، وموسيقى، قسماً من أقسام التوحيد والعقيدة، حيث قال: (إن فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا، ولا يهيئنا أن نذكر الله بالجمال وصيغه، ولا نعبده من خلاله)

[كتاب قيمة الدين رسالة الفن، للترابي، الناشر اتحاد طلاب جامعة القاهرة بالخرطوم].

24. في شرعنا الأنبياء والرسل مكان تقديرنا وإجلالنا، قال تعالى: "وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ" [ص:47].     24. وفي شرع الترابي محل ازدراء واستخفاف وتندر، نحو زعمه:

   أن إبراهيم عليه السلام كان مشركاً، وأنه كان يعبد الكواكب قبل البعثة.

   وأن يونس عليه السلام شرد وكان مغاضباً لربه.

   وفي أحيان كثيرة يردد ضلال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

   تندره بأكل آدم عليه السلام من الشجرة.

25. في شرعنا أوجب الله على الأمة إجلال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتعزيره، وتوقيره: "وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ" [الفتح: 9]. 25. وفي شرع الترابي الضيق بالإكثار من الصلاة والسلام عليه.

26. في شرعنا الرسول صلى الله عليه وسلم مبيِّن لمراد الله في القرآن.    26. أما في شرع الترابي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يفسر القرآن لهذا العصر، لأنه لا يعرف اللغات الأجنبية، ولا علم له بالحاسوب كما زعم.

[من محاضرة له بكلية الطب جامعة الخرطوم في 30/4/1995م].

27. في شرعنا الإيمان أن في الجنة حور عين، مصداقاً لقوله: "حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ" [الرحمن: 72].    27. وفي شرع الترابي ليس هناك حور عين، تكذيباً للقرآن والسنة، ومنافقة للنساء بأنهن فقط نساء أهل الجنة.

28. في شرعنا أن أفضل القرون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم.  28. وفي شرع الترابي التطاول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

29. في شرعنا خلافة عثمان رضي الله عنه راشدة.  29. وفي شرع الترابي خلافة عثمان رضي الله عنه فاسدة.

30. في شرعنا لا تقبل شهادة المرأة إلا في الأموال، لأن البلوى عمت بها، وحتى في الأموال إلا إن كان معهما رجل: "فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ" [البقرة: 282].

وكذلك تقبل شهادتها في المسائل التي لا يطلع عليها الرجال، كشهادة القابلة مع اليمين.  30. وفي شرع الترابي فقد جعل شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل، إن لم تكن زائدة عليه، تكذيباً لكتاب الله عز وجل.

31. في شرعنا الإسراء والمعراج بجسد وروح الرسول صلى الله عليه وسلم، في جزء من ليلة، من معجزات نبينا الكبرى.   31. أما الترابي فقد كذب هذه المعجزة، ورد قوله عز وجل: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ" [الإسراء: 1].

32. في شرعنا الإيمان والتصديق بتحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، مصداقاً لقول حبيبنا: "التمسوها في الوتر من العشر الأواخر".   32. وفي شرع الترابي ليس هناك ليلة قدر كما زعم.

33. في شرعنا لا يحل للكافر الكتابي تزويج المسلمة، لقوله تعالى: "لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ" [الممتحنة: 10].   33. أما الترابي فقد أجاز لليهود والنصارى تزويج المسلمات، رداً لكتاب الله ولإجماع الأمة.

34. حثنا نبينا بالاعتصام والتمسك بسنته فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليه بالنواجذ"، وقال: "ومن رغب عن سنتي فليس مني".  34. أما الترابي فقد رغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ منها بقوله: "أنا لست سنياً"، وتمادياً في الخداع والمراوغة: "ولست شيعياً".

35. لقد حرم شرعنا اختلاط النساء بالرجال الأجانب.  35. وفي شرع الترابي فإن الاختلاط بين الجنسين يعتبر ضرورة من الضرورات، حيث قال في كتيب "المرأة في تعليم الإسلام": (إن عزل الرجال عن النساء مضر بالمجتمع، وينشر فيه الرجس وعدم الطهر).

تكذيباً لقول الله عز وجل: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" [الأحزاب: 33].

36. في شرعنا العمل بالأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول، سيما حديث الصحيحين.     36. وفي شرع الترابي رد كثير من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول، بل التهكم بذلك، كتهكمه بحديث الذباب، الذي قال فيه: (آخذ فيه بكلام الطبيب الكافر ولا آخذ فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أسأل عنه عالم الدين)، والأمر في الحديث أمر إرشاد، ولكن نعوذ بالله من مرض القلوب.

37. في شرعنا في إقامة القصاص والحدود حياة لأولي الألباب. 37. وفي شرع الترابي في إقامة الحدود مصادمة لحرية الفكر، والحرية الشخصية، بدءاً بالردة، ومروراً بحد رجم الزاني، وانتهاءً بحد الخمر، حيث أباح لإخوانه المخمورين أن يشربوا الخمر لمدة عام، وبعد ذلك أن يشربوها فإن لم يزعجوا أحداً فلا حرج ولا حد عليهم.

حيث قال: (هكذا أرجو أن يكون شأننا مع أهلنا المخمورين، كأننا عند سريان القانون سندخلهم في معتقل واسع يحول بينهم وبين الخمور في مظاهر الحياة العامة، وتتاح لهم لعام كامل رخصة قانونية لتعاطي الحرام في خاصتهم، حتى يهيئوا أنفسهم، ثم يقع الحظر وتجف الخمر).

[في كتابه "نظرات في الفقه السياسي ص 171"]

رداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف".

[البخاري وأبو داود].

38. في شرعنا حب العلماء، واحترامهم، وتقديرهم، وإجلالهم من الإيمان.  38. وفي شرع الترابي التطاول على العلماء والاستخفاف بهم أحياءً وأمواتاً من سمات الساعين لتبديل الدين وتغييره، حيث نال منه العلماء من السب، والشتم، والانتقاص ما لم ينالوه من غيره من أهل الأهواء.

39.   الولاء في شرعنا لله، ولرسوله، وللمؤمنين.    39. الولاء في شرع الترابي له ولما ابتدعه من أقوال وآراء، فالمعروف ما عرفه الترابي، والمنكر ما أنكره.

40.   في شرعنا أعقل الناس أعذرهم للناس.  40. أما الترابي فلم يعتذر قط لأحد، وما قبل عذراً من أحد، كما صرح بذلك عدة مرات وافتخر.

41. في شرعنا عقيدة سلفية، وهي متصلة السند إلى جميع أنبياء الله ورسله.    41. وفي شرع الترابي كما قال: (ينبغي للعقيدة أن لا تكون سلفية).

42. في شرعنـا: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْـلاَمُ" [آل عمران: 19].

"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].   42. أما الترابي فهو من دعاة وحدة الأديان، وقد سعى لقيام حزب شيطان سماه زوراً وبهتاناً بالحزب الإبراهيمي، ليجمع فيه بين المسلمين، واليهود، والنصارى.

43. في شرعنا التحذير من زلات وسقطات أهل العلم، ومن شذوذاتهم. 43. وفي شرع الترابي إذا وجد زلة أوسقطة لأحد أهل العلم استند عليها، وبنى عليها ما تهواه نفسه.

44. التقية في شرعنا لدرء خطر الكفار والمنافقين عن الدين، وهي صنو المداراة.     44. أما في شرع الترابي فالتقية وسيلة لإخفاء النيات والعقائد، ولخداع أهل السنة، كما هو الشأن عن الرافضة.

قال الصحافي أمير طاهر في صحيفة الشرق الأوسط: (وهناك مقابلة أخرى مطولة أجراها مع الترابي الصحافي الفرنسي "ألان شيفاليرييه"، وفي هذه المقابلة يقول الترابي: إنه دأب على ممارسة "التقية" لإخفاء النيات والعقائد، باعتبارها وسيلة سياسية مشروعة).

[العدد 7692، الإثنين 12 من رمضان 1420]

45. في شرعنا الحث والحض على كتب السلف وتفاسيرهم.    45. وفي شرع الترابي التحذير من تفسير السلف وكتبهم، حيث جاء في دستور اللوبي التجديدي، وهو عبارة عن خلية سرية أنشأها الترابي داخل الحركة الإسلامية المنكوبة، لبث ونشر آرائه هذه، التحذير من أمهات كتب التفسير: الطبري، والقرطبي، وابن كثير رحمهم الله؛ ولهذا عوضهم الترابي بتفسيره "الهواوي" "التفسير التوحيدي".

46.   الحجاب في شرعنا أمر شرعي. 46.   وفي شرع الترابي عادة عربية ليس إلا.

47. نؤمن في شرعنا أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، وأن نعيم القبر وعذابه حسي، يصيب الجسد والروح معاً.   47. وفي شرع الترابي لا نصيب للجسد من النعيم والعذاب، رداً للقرآن: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" [غافر: 46]، ولحديث إقعاد الملكين للميت في قبره.

 

 

لهذا كله، ولغيره مما لم يبح به بعد، فإن الشرع الذي يريده الترابي ويدعو له مخالف لشرع نبينا وحبيبنا العتيق، وأن الإيمان بما جاء به الترابي يوجب الكفر بما تركنا عليه محمد صلى الله عليه وسلم.

فمن أتى ساحراً وصدقه فيما يقول فقد كذب بما أنزل على محمد، فكيف بمن أتى بالطوام العظام والمخالفات الجسام لما هو معلوم من الدين ضرورة؟

وفي الختام أود أن أذكر الذين يشككون فيما نقول، ويسيئون الظن بكل من رد على الترابي، أننا نتحدى الترابي أن ينكر طامة من هذه الطوام، فإن أنكر فإنا ندعوه إلى مباهلة علنية، فإنا أوإياه لعلى هدى أوفي ضلال مبين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ولعائن الله مصحوبة بغضبه على الدجالين الكذابين، المبدلين لشرعنا، الخاسرين في الدنيا والآخرة

00000000000000000000000

أَوَ يَكْفُر أحد من أهل القبلة؟!

أيها المسلمون، تعلموا قبل أن تتكلموا، وتكتبوا، وتعترضوا

أولاً: مذاهب الناس في الإكفار

ثانياً: نوعا الإكفار؛ الممنوع، والمشروع

أ.  الإكفار البدعي المذموم

أسباب الإكفار البدعي

ب.  الإكفار الشرعي

الكفر المطلق

والكفر المقيد

أنواع الكفر الأكبر

إكفار المعين

نواقض الإسلام

من لم يكفر من أكفره الله ورسوله فقد كذب الله ورسوله

 

يستنكر البعض ويستبشع إكفار أهل العلم لمن أكفره الله ورسوله، والإكفار حكم شرعي، فلا يكفر إلا من أكفره الله ورسوله، بنفي ما أثبتاه، أوإثبات ما نفياه، أوأجمعت عليه الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلالة، أما العلماء الشرعيون فهم فقط موقعون عن الله ورسوله، ولهذا لا ينبغي أن يخوض في هذا إلا أهل الاختصاص، فقد زلت في هذا الباب أقدام، وضلت أفهام.

من عجيب أمر البعض، سيما بعض إخواننا من الصحفيين والإعلاميين، أنهم يخوضون في هذا الأمر، ويتجرأون على أهل الحل والعقد، ويتهمونهم، هذا مع اعترافهم بأنهم ليسوا علماء، وأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن، ولعمري أن هذه لإحدى الكبر.

لهذا يتحتم على أهل العلم تجلية الأمر في مسألة الإكفار هذه بصورة لا تدع مجالاً للشك، وتذهب بالحيرة؛ على الرغم من أن هذا الموضوع كبير ومتشعب، إلا أنني سأشير إلى أهم جوانبه، فأقول:

ã

أولاً: مذاهب الناس في الإكفار

ذهب الناس أهل القبلة في ذلك مذاهب ثلاثة، وسط وطرفي نقيض.

   الوسط هم أهل السنة نقاوة المسلمين.

وطرفا النقيض من أهل الأهواء، وهم:

   الخوارج والمعتزلة من ناحية.

   والمرجئة من ناحية أخرى.

فبينما نجد الخوارج يكفرون بكل ذنب كبير، والمعتزلة يحبطون كل العمل بالكبيرة، نجد المرجئة منعوا التكفير منعاً باتاً، علماً بأن أهل القبلة فيهم المنافقون نفاق الاعتقاد، وفيهم الزنادقة.

ولهذا فإن أهل السنة توسطوا بين القولين، فقالوا لا يكفر أحد بكل ذنب يرتكبه، ولكن من الذنوب والمعاصي القولية، والفعلية، والاعتقادية، ما يكفر من تعاطى شيئاً منها.

وذلك لأن الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين لا يعني العصمة من الكفر.

قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ".

وقال: "يَحْلِفُونَ باللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ".

لو كان الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين يعصم من الخروج منه لعصم الذين ارتدوا أول الإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السَّنية، وقد ذكر الخوارج ومروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية: (فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ثم مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمنة قد يمرق أيضاً من الإسلام).

وقال الشيخ بكر أبو زيد: (لا يجوز لمسلم التحاشي عن تكفير من كفرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لما فيه من تكذيب الله ورسوله).

فما تغني كلمة التوحيد عمن أنكر ما هو معلوم من الدين ضرورة؟

قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: (اعلم أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء.

إلى أن قال: فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب، والسنة، والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.

وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً.

إلى أن قال: ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام، ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب).

إلى أن قال عن قول الإمام الطحاوي: "ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.." إلخ: (رد على المرجئة، فإنهم يقولون: "لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة"، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف).

هاتان البدعتان القديمتان، الجديدتان، النقيضان المتلازمتان، أعني ظاهرتي الخروج والإرجاء، من أوائل البدع التي ظهرت في الإسلام، ومن أخطرها، ولهما آثارهما السيئة على الأمة قديماً وحديثاً، فقد ظهرت بدعة الإرجاء كرد فعل لظاهرة الخروج.

كثير من الناس اليوم يحملون أفكار وعقائد هاتين الظاهرتين من غير انتساب إليهما.

وعلى الرغم من خطورة بدعة الخروج، إلا أن بدعة الإرجاء أشد ضرراً منها، وأعظم خطراً من أختها، وكلاهما خطر ومضر.

ã

ثانياً: نوعا الإكفار؛ الممنوع، والمشروع

وضح لنا أن هناك أقوالاً وأفعالاً واعتقادات كفرية تخرج المرء من حظيرة الإسلام إلى دائرة الكفر، أما المعاصي والذنوب مهما كبرت ما لم يستحلها فاعلها فلا يكفر.

والتفريق بين الذنوب التي يكفر فاعلها وتلك التي لا يكفر متعاطيها أمر عسر، لا ينبغي أن يفتي فيه إلا أهل الحل والعقد من العلماء المتخصصين في هذا الأمر، ولا يحل لأحد أن يخوض في ذلك إن لم يكن من هذا الصنف، وإلا فقد قفا ما ليس له به علم.

ولهذا لابد من إعطاء القارئ الكريم فكرة عامة عن نوعي الإكفار الممنوع والمشروع، وأسباب كل منهما.

ã

أ.  الإكفار البدعي المذموم

هو الذي ابتدعه أهل الأهواء من شيعة، وخوارج، وجهمية، وقلة من الجهلة المقلدين من أصحاب المذاهب الفقهية، وهذا هو الذي لا يجوز تعاطيه، ولا التلاعب فيه، ولهذا شدد الشارع والسلف على المقترفين له، المتهاونين فيه، المتجاسرين عليه.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت إليه".

وعن أبي ذر رضي الله عنه يرفعه: ".. من دعا رجلاً بالكفر، أوقال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه".

ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يرى أن الخوارج شرار الخلق، لتعاطيهم هذا النوع، ولتكفير بعضهم بعضاً لأتفه سبب في البدعة التي ابتدعوها.

ã

أسباب الإكفار البدعي

أسباب الإكفار البدعي كثيرة، ولكن بالاستقراء يمكننا أن نحصرها في الآتي:

1. أن تبتدع طائفة من أهل الأهواء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن علم من الأعلام، كما فعلت الشيعة، حيث كفروا كبار الصحابة لعدم تنصيبهم لعلي خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عندما ابتدعت المعتزلة بدعة خلق القرآن، وكفَّرت وقتلت وعذبت من لم يوافقها على باطلها هذا.

2. الإكفار بارتكاب المعاصي الكبائر وقد ابتدعته الخوارج، وجاراهم في ذلك إخوانهم من المعتزلة.

3. الإكفار بسبب البغي والحسد، كالذي أصاب شيخ الإسلام ابن تيمية.

4. الإكفار بسبب التعصب المذهبي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والرافضة أشد بدعة من الخوارج، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبي بكر وعمر، ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كذباً ما كذب أحد مثله.

إلى أن قال: والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر فسِّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"، قال أبو هريرة: "كنتم خير الناس للناس"، وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس).

ã

ب.  الإكفار الشرعي

كما أن هناك كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وكفراً أصغر لا يخرج عن الملة، فهناك كفر مطلق، وكفر مقيد.

الكفر المطلق

هو الكفر بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

والكفر المقيد

وهو أن يكفر ببعض الكتاب ويؤمن ببعض، فمن كفر بحرف واحد مما جاء به الله عز وجل، أوجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أوأجمعت عليه الأمة فقد كفر.

ولهذا كفر الصحابة جاحدي الزكاة وقاتلوهم، هذا مع إقرارهم بالشهادتين، وإقرارهم بالصلاة، والصوم، والحج، وغيرها من الأعمال.

سواء كان كفره عن جحود وإنكار، أوعن إباء وإصرار.

ã

أنواع الكفر الأكبر

الكفر الأكبر قد يكون بالفعل دون الاعتقاد، وقد يكون بالاعتقاد وإن لم يقترن بفعل وقول، كما قد يكون بالقول، وهو خمسة أنواع:

1. كفر تكذيب.

2. كفر استكبار وإباء مع التصديق: "فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ".

3. كفر إعراض.

4. كفر شك.

5. كفر نفاق.

قال ابن القيم: (وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر نفاق).

ã

إكفار المعين

الإكفار يصح أن يكون عاماً، تقول: من قال كذا، أواعتقد كذا، أوفعل كذا مما هو كفر بواح فهو كافر.

وكذلك يصح أن يطلق الكفر على المعين إذا تعاطى سبباً من أسبابه المعلومة من الدين ضرورة، ولا حرج في ذلك البتة، بل كل الحرج في عدم إكفار من أكفره الله ورسوله إذا توفرت الشروط، وهي:

   البلوغ.

   والعقل.

وانتفت الموانع، وهي:

   الجهل.

   والخطأ.

   والإكراه.

   والتأويل أوالشبهة، والمراد بالتأويل المستساغ، وليس كل تأويل.

قال الشيخ العثيمين رحمه الله في جواب عن سؤال: (هل يجوز أن يطلق على شخص بعينه أنه كافر؟ فأجاب: نعم، يجوز لنا أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر إذا توفرت فيه أسباب الكفر).

وقال الشيخ بكر أبو زيد متع الله المسلمين بصحته: (.. مع العلم بأن الحكم بكفر المعين المتلبس بشيء من هذه النواقض المذكورة موقوف على توافر الشروط وانتفاء الموانع في حقه، كما هو مقرر معلوم).

العبرة ليست في إكفار المعين أوعدم إكفاره، وإنما العبرة هل هذا المعين تعاطى أسباب الكفر أم لم يتعاطاها؟ هل هو جاهل؟ هل هو حديث عهد بالإسلام، هل هو مخطئ في اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، أما إن كان من أهل الأهواء فلا ينظر إلى ما صدر منه.

فالإكفار حكم شرعي، والحكم الشرعي قد يكون مطلقاً وقد يكون معيناً.

لو كان المجال يتسع لمثلنا لذلك من أقوال السلف.

ã

نواقض الإسلام

هنالك نواقض للإسلام توصل إليها أهل العلم بالاستقراء، تتلخص في الآتي:

1.  نفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

2.  إثبات ما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

3. الأمر بما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

4.  النهي عما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وتتلخص هذه الأسباب في جملة واحدة، هي: إنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة.

5.  الاستهزاء بأي أمر من أمور الدين، صغيراً كان أم كبيراً.

ã

من لم يكفر من أكفره الله ورسوله فقد كذب الله ورسوله

هذه النواقض جزء كبير منها حققه الترابي في شخصه كما بين العلماء ذلك في فتاويهم، سيما الاستهزاء والسخرية بالدين، متمثلة في استهزائه وسخريته بالأنبياء والرسل، وانتقاصه للصحابة، وسبه وشتمه للعلماء، بل استهزائه وسخريته بركن من أركان الإسلام وهو الحج، حيث قال ساخراً من الطواف والسعي، وناقل الكفر ليس بكافر: "ماشين.. جايين.. يرمون الشيطان" (!!).

فمن تعاطى سبباً بل أسباباً كثيرة من هذه النواقض، وأتى بما هو مخالف للدين ضرورة، فلم يكفر، فقد كذب الله ورسوله.

ولهذا من نواقض الإسلام المتفق عليها: "من لم يكفر الكافر، أوشك في كفره، أوصحَّح مذهبه، فقد كفر".

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

وفي الختام أتوجه بهذه الكلمات للعلماء الشرعيين في داخل السودان وخارجه، أن يقوموا بواجب البيان والنصح للأمة، وليحذروا المجاملة، والمداهنة، والخوف، وليعلموا أن سكوتهم، بل تبرير البعض لهذه الكفريات، جريمة لا تغتفر، وأن الساكت عن ذلك شيطان أخرس، وهو متوعد أن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، وليعلم أن عذاب الله أشد وأبقى.

ورحم الله الإمام أحمد عندما قال: إذا سكتُّ أنا وسكتَّ أنت فمن للحق؟

وليعلموا أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة مدافعة عن دينها، وذابة عن حياضه، لا يضرهم تخذيل المخذلين، ولا مخالفة المخالفين، ولا تجمع حزب الشيطان الرجيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والخسران المبين على المخذلين، والمثبطين، والخائفين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

00000000000000000000

بين حزب الله وحزب الشيطان

الصراع بين حزب الله وحزب الشيطان، بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والخير والشر، صراع أبدي سرمدي ما دامت السموات والأرض.

لذلك أوجب الله عز وجل على الرسل وأتباعهم مدافعة الباطل، ومقارعة الشر، ومنازلة حزب الشيطان إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.

ليس لحزب الله وأوليائه خيار في ذلك، وإلا لعم الفساد، والخراب، والدمار، ونتج عن ذلك التعاسة في الدنيا والشقاء الأبدي في الآخرة: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ".

وقال: "وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ".

ولذات السبب أوجب الله على الأمة وجوباً كفائياً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تركه الجميع أثموا، وقصر خيريتها عليه: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ".

عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".

وبعد..

عندما سخر الله عز وجل الترابي ليعلن كفره على الملأ، ويجتر الآن ما كان يخفيه ويراوغ فيه من قبل، هرع العلماء أهل الحل والعقد حزب الله في داخل السودان وخارجه لبيان حكم الشرع فيه نصحاً للأمة، وقياماً بواجب الأمانة التي ألقاها الله عليهم، وعملاً بالميثاق الذي أخذ عليهم من قبل، نذكر منها على سبيل المثال:

1.  فتوى مجلس فقهي رابطة العالم الإسلامي بمكة في دورته الأخيرة بأنه زنديق.

2.  فتوى الرابطة الشرعية للعلماء والدعاء بالسودان بردة وكفر الترابي.

3.  فتوى الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين أحد علماء المملكة العربية السعودية حفظه الله بزندقته.

4.  فتوى مجمع الفقه السودان باستتابته عما صدر منه في رده لنزول عيسى عليه السلام وغيره.

5.  فتوى الشيخ يوسف القرضاوي في مخالفته لإجماع الأمة في جواز تزويج المسلمة من الكافر اليهودي أوالنصراني.

ما إن صدرت هذه الفتاوى الموفقة من أهلها إلا وحرك الشيطان حزبه وأزهم أزاً، ليدفعوا عن أحد إخوانهم، ويلبسوا ويدلسوا على العامة، بحجة ظاهرها إنسانيها، وباطنها الكفر البواح والخروج الصراح عن دين الله لمن لم يخرج بعد، وهي حرية الفكر، صنم هذا العصر.

لقد تنادى حزب الشيطان ونطق "الرويبضة" متمثلاً في الآتي:

1.  فلول الشيوعيين.

2.  فلول الجمهوريين.

3.  الكفار من اليهود والنصارى.

4.  بعض قادة الأحزاب العلمانيين (المنافقين).

5.  دعاة حقوق الإنسان الكافر، والمرتد، والزنديق.

6.  أصحاب حمية جاهلية، جاهلين أومخدوعين.

وعزموا على رفع مذكرة لرئيس الجمهورية، في وجه المطالبة الشرعية التي أعلنها العلماء أهل الحل والعقد، ليثنوه عن إقامة حكم الشرع وحماية جناب التوحيد.

الذي نرجوه أن لا يلتفت المسؤولون لهؤلاء المفسدين في الأرض حذر الفتنة وهم ساقطون فيها من قبل ومن بعد، لمجانبتهم لشرع الله، ولمحاربتهم لأوليائه ودفاعهم عن أعدائه.

وليهنأ الترابي بدفاع حزب الشيطان وأوليائه عنه وعن شرعه المبدل، بعد أن رغب عن حزب الله، وأولياء الله، وشرع الله العتيق.

وصدق الله العظيم: "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ. كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْأَبْنَاءهُمْ أَوْإِخْوَانَهُمْ أَوْعَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

ليعلم الجميع أن دفاع هؤلاء الكفار والمنافقين عن الترابي أدل دليل على أن ما جاء به الترابي مخالف لما جاء به البشير النذير، الذي لا يقبل الله قولاً سواه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ورحم الله مالكاً عندما نبه لذلك قائلاً: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، لقد تم الدين، فماذا بعد التمام إلا التبديل والخسران.

وصلى الله وسلم على محمد الذي بيَّن أخص خصائص الدجاجلة المبدلين لشرعه، برد السنن التي تخالف أهواءهم منافقة للكفار، حيث قال: "لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرتُ به أونهيتُ عنه، يقول: لا ندري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".

والحمد لله والصلاة والسلام على من لا مشرع بعده، وعلى آله وصح

00000000000000000000

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

هذا بيان للناس عن حكم الشرع في ردة وكفر الترابي

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وبدع المبتدعين.

وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الذي حذر من الدجاجلة وأخبر بخروجهم، فقال: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً دجالاً"

وبعد..

ما فتئ د. الترابي منذ الستينات يردد ويجتر أقوالاً شاذة، وأفكاراً ضالة، يفتري فيها الكذب على الله، ورسوله، ودينه، يلبس ويدلس بها على الناس، تصب كلها في معين واحد، وهو السعي إلى تبديل الدين وتطويعه حتى يساير ما عليه الكفار اليوم.

عندما نبذه قومه، وعزل من السلطة وهو من هواتها، جن جنونه، ففجر في خصومته، ورفع عقيرته، وأبدى ما كان يخفيه من قبل، تزلفاً للكفار، وخطباً لود الأسياد، فكانت النتيجة هذيانه في ندوة بورسودان، وفي مقابلة قناة العربية، وندوة حزب الأمة الإصلاح، وما تطفح به صحيفة "رأي الشعب" من الضلال المبين والقول المشين.

لهذا وغيره تعين على أهل العلم في هذا البلد خاصة، وفي غيره من دار الإسلام، أن يبينوا حكم الشرع فيما صدر منه، عملاً بالميثاق الذي أخذ عليهم: "وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ".

وخشية من الوعيد الصادر من الصادق الحبيب صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".

وحيث لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فقد صدر هذا البيان، وحرر هذا الحكم، تبرئة للذمة، ونصحاً للأمة، "أن الترابي كافر مرتد"، ما لم يتب عن جميع تلك الأقوال، ويعلن توبته على الملأ مفصلة، يتنصل فيها ويتبرأ عن كل ما صدر منه أمام طائفة من أهل العلم، بحكم قوله تعالى: "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ"، فأهل الأهواء لا تقبل لهم توبة إلا إذا أعلنوها وأشهدوا عليها، وإن كان الزنديق لا تقبل له توبة في الدنيا في أرجح قولي العلماء.

إن الأسباب التي أوجبت صدور هذه الفتوى إنكاره للعديد مما هو معلوم من الدين ضرورة، بنفي ما أثبته الله ورسوله وأجمعت عليه الأمة، أوإثبات ما نفاه الله ورسوله وأجمعت عليه الأمة.

ومنكِرُ ما هو معلوم من الدين ضرورة كفره لا يختلف فيه اثنان، إذا توفرت الأسباب وانتفت الموانع، كحال الترابي، فهو بالغ، عاقل، عالم بما يقول، بل مدعٍ للاجتهاد وكاسر لبابه.

ومن أقواله المؤدية إلى ردته، والتي أشرنا إليها في رسالة الرابطة "الرد على أباطيل الترابي"، ما يأتي:

1. إباحته للردة، وزعمه أن سلمان رشدي ليس كافراً، رداً لقوله تعالى: "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه"، ولقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وذكر منها: "التارك لدينه المفارق للجماعة"، ولإجماع الأمة.

2. رفعه الكفر عن اليهود والنصارى الحاليين، رداً لقوله: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ"، ولقوله: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"، ولقوله: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ".

3.   انتقاصه للرسل والأنبياء، والنيل منهم، نحو زعمه:

أ.  أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً، وكان يعبد الكواكب قبل البعثة.

ب. يردد كثيراً: (ضلال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم).

ج. وأن يونس عليه السلام شرد، وأنه كان مغاضباً لربه.

رداً لكثير من الآيات والأحاديث التي حضت على تعظيم الأنبياء، كقوله تعالى: "وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ"12، "وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ".13

4. زعمه أن حواء أول الخلق وليس آدم عليهما السلام، منافقة للنساء، ورداً لقوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا".

5. أن أصل الإنسان قرد، رداً لما عليه أهل الإسلام.

6. إنكاره لنزول عيسى عليه السلام، رداً لقوله تعالى: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"، وللعديد من الأحاديث التي تواترت تواتراً معنوياً.

7. رده لكثير من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول، نحو حديث الذباب، حيث قال: (إنه يأخذ فيه برأي الطبيب الكافر، ولا يأخذ فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسأل عنه عالم الدين)، تكذيباً للرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر.

8. إنكاره لفضل الذكر على الأنثى، رداً لقوله تعالى: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع"، وزعمه أن المرأة مساوية للرجل، بل هي أفضل من الرجل لأنها تحمل.

9. إباحته للمرأة أن تلي الإمامة الكبرى والقضاء، والوزارة، ونحوها، وأن تؤم الرجال في الصلاة، رداً لقوله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

10. أجاز للكافر أن يتزوج المسلمة، رداً لقوله تعالى: "لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ"، ورداً لإجماع الأمة.

11. زعمه أن شهادة المرأة تعدل شهادة الرجل، رداً لقوله تعالى: "فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ".

12. وصفه للحجاب بأنه عادة عربية، رداً لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ".

13. انتقاصه للعلماء، والإزراء بهم، ووصفهم بأوصاف يندي لها الجبين، والعلماء هم الأولياء، وقد توعد الله من عادى له ولياً: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب".

كل هذه الأباطيل، والضلالات، والأكاذيب أدلتها من أقواله، وكتاباته، ومقابلاته موجودة، والشهود عليها أحياء يرزقون، ولها متحملون، ولأدائها جاهزون، والأدلة على كفر قائلها بجانب ما سبق متوفرة، ولله الحمد والمنة، هذا ما ظهر لنا وما خفي أعظم وأدهى.

وعليه ينبغي لولاة الأمر أن يستتيبوه، فإن تاب وإلا نفذوا فيه حد الشرع، حماية لجناب الدين، وأن يحجروا عليه وعلى كتبه، وأن يُمنع من المقابلات، فهذا من أوجب واجبات الحاكم المسلم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يواليه، وإلا فقد باء بغضب من الله ورسوله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الكفرة، والزنادقة، والملحدين، اللهم احفظ علينا ديننا، وجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى، وعلى آله، وصحبه، ومن والاهم.

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة

17 ربيع الأول 1426ﻫ

0000000000000000000000

"لكنَّ الله أمرنا ببغض الأعداء"

الآثار الخطيرة، والمفاسد الكبيرة، التي نتجت من الحرب الصليبية اليهودية على الإسلام والمسلمين الآن، التي تقودها أمريكا وأذنابها بمعاونة بعض المنسلخين عن الإسلام، بجانب غزو الديار، وانتهاك الأعراض، وإشاعة الرعب والخراب والدمار، وإباحة قتل الأبرياء وحبسهم، واستباحة النساء، لا يعلم مداها إلا الله والراسخون في العلم، بسبب ما ولدته في نفوس البعض من اليأس، والقنوط، والاستكانة، والاستسلام، والخضوع، والرضا بالواقع المرير، والحادث الأليم.

من تلكم الآثار الخبيثة، والنتائج المفزعة المخيفة، ما يأتي:

1. اعتبار جهاد الدفع الذي تمارسه فئة قليلة من المسلمين في كل من فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد التي غزاها الكفار إرهاباً، تقليداً لما قاله ويقوله الكفار، وما تلهج به وسائل الإعلام المختلفة، كافرهم ومسلمهم، إلا من رحم الله.

وجهاد الدفع يجب مع كل بر وفاجر من ولاة الأمر من العلماء والحكام، ولا يحتاج إلى إذن وَالِدَيْن، والعمل على تخذيل وتثبيط المجاهدين بإصدار الفتاوى، والكتب، والنشرات، رداً لقوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ".

وجهاد الطلب لمن غزيت ديارهم فرض عين على أهل تلك الديـار، فإن لم يتمكنوا وجب على من يليهم، وهكذا حتى يشمل سائر المسلمين، وبهذا أجمعت الأمة، وأطبق علماؤها الأقدمون والمحدثون.

2. نفي البعض لمشروعية الجهاد بنوعيه، جهاد الطلب والدفع، بحجة  ظاهرها رحمة وباطنها من قبلها العذاب، حيث قال أشقاهم: ("الجهاد ماض إلى يوم القيامة"، هذا قول تجاوزه الزمن)، رداً لقوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ".

وقوله: "وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً".

وقوله: "انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ".

وقوله: "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ".

قال صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه؛ فأعادوا عليه مرتين أوثلاثاً، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه؛ ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله".

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلما سمع هيعة أوفزعة طار على متنه، يبتغي القتال أوالموت مظانه"، أي حيث يظن وجوده.

3.  الدعوة إلى توحيد الأديان أوالتقارب بينها.

4.  الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار، ليس على أساس أنهم أهل ذمة.

5. هروع البعض للتلفيق بين الإسلام وما أفرزته الحضارة المادية الكافرة في هذا العصر تحت شعارات مختلفة، ذات مدلول واحد، ومقصد خاسر، نحو:

أ.  الجمع بين الأصل والعصر.

ب. الدعوة إلى الوسطية القائمة على أنقاض قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم"، قوامها البحث والتفتيش على الأقوال الشاذة، والسقطات، والزلات، التي أنشئت من أجلها معاهد، وأقيمت الندوات والمحاضرات.

الوسطية هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والتابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة الفاضلة، وهي لا تحتاج أن تنشأ لها معاهد، فهي معروفة معلومة.

6.  إنزال هذه الحرب الصليبية الدينية في دائرة صراع الحضارات، وهذا من باب التدليس والتلبيس، فهي حرب بين الحق وهو الإسلام والباطل وهو ما دونه، وبين الخير والشر، وهي حرب أبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

7.  اتباع أسلوب التنازلات عن الأصول والمسلمات، وقد حسم الله ذلك بقوله: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ".

8.  وأخيراً وليس آخراً زعم البعض: "أن المسلمين لا يبغضون الكفار، فلماذا يبغضنا الكفار، ويحاربوننا، ويغزوننا؟!"، الذي يصب وينساب في دائرة التنازلات التي ابتلي بها البعض، بغرض أن يكف الكفار عن أذاهم للمسلمين أويخففوا منه.

لو كانت هذه الدعاوى والمزاعم صادرة من العوام لكان أمرها سهل، ولكن خطورتها في تبني بعض أهل العلم والمنتسبين إليه لها، مما يحتم الرد عليها وبيان مخالفتها لما جاء به صاحب الشريعة الغراء، والحنيفية السمحة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، سيما والمسلمون الآن في حالة من الضعف والخوار والاستكانة لم تحدث من قبل، ولهذا فإنها تصادف هوى في نفوسهم فيتلقفونها، بجانب موافقتها، ومباركتها، وتشجيعها، والحث عليها من قبل ولاة الأمر من الحكام.

لهذا ينبغي للعلماء وطلاب العلم أن يقوموا بواجب النصح لإخوانهم، وأن يأخذوا بأيديهم قبل فوات الأوان وحلول الندم، ونزول الخسران.

وعلى الرافعين لهذه الدعاوى والمزاعم أن لا يستنكفوا عن قبول النصيحة، وأن يتهموا آراءهم واجتهاداتهم، سيما ونحن في عصر فتن وبلاء.

وليعلموا أننا مرجحون لسلامة النيات، وأن ذلك نتيجة اجتهادات وموازنات، لكن يجب على الجميع أن يتذكر، والذكرى تنفع المؤمنين، ويستحضر هذه المسلمات:

أولاً: أن هذا الدين قوامه الابتلاء، ولو نجا من ذلك أحد لنجا الرسل والأنبياء وأتباعهم: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ".

وقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة".

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا خير فيمن لا يبتلى في هذا الدين".

وقال مالك رحمه الله: "لا تغبطوا أحداً لم يُبتل في هذا الدين".

وقد أمرنا ربنا أن نسأله العافية، وأن لا نتمنى ملاقاة العدو، وأن نثبت إذا لقيناه، كما صح بذلك الخبر.

ثانياً: لقد تكفل الله سبحانه بحفظ هذا الدين قرآناً وسنة من الناحية النظرية، فقال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، وأوجب على الرسل وأتباعهم أن يقوموا بحفظه من الناحية العملية، بالأخذ بالعزائم، فلو أخذ الجميع بالرخص وآثروا العاجلة على الفانية لتزعزعت ثقة كثير من الأتباع في هذا الدين.

ولهذا قال سحرة فرعون للطاغية فرعون: "فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا".

وثبت وزير الملك، والراهب، والغلام في قصة أصحاب الأخدود، ونتج عن ثباتهم إيمان كل الحضور، فلولا أخذهم بالعزيمة لما دخل الناس في دين الله أفواجاً.

ثالثاً: لابد من الثبات على المبادئ، والحذر من الروغان والتقلبات، فالمؤمن لا يروغ كما يروغ الثعلب.

رابعاً: أن لا نستعجل النتائج، ولنرع ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب، حيث قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

خامساً: ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

سادساً: الحذر لا يغني عن القدر.

سابعاً: لا يتوهم من متوهم أن ضعف الأمة وعجزها يحتم الشفقة عليها، ومن ثم يبيح تلك التنازلات حفاظاً على الأمة، حتى لا تستأصل عن آخرها، فإن للدين وللأمة رباً يحميهما.

أود أن أختم هذه الخواطر بثبات عالم واحد، وهو شاب أسره النصارى بجزيرة مالطة في القرن الثاني عشر الهجري، كما جاء في ترجمته في "سلك الدر" للشيخ محمد المرادي.

والعالم الشاب هو الشيخ محمد بن محمد الطيب المالكي، المتوفى 1191هـ، لتقارن بين سلوك علماء السلف وسلوك بعض علمائنا، ردنا الله وإياهم إلى الحق رداً جميلاً، عند حدوث الفتن، علماً بأنه كان أسيراً مغلوباً على أمره، وقد صدر منه ما كان يمكن أن يودي بحياته في تلك المناظرات التي خاض غمارها لولا لطف الله، وصدق نيته، وثباته، بينما أولئك النفر آمنون مطمئنون، ومع ذلك فقد صدر منهم ما يندي له الجبين، ويحير الحليم، وإلى الله المشتكى.

ورحم الله القاضي عبد العزيز الجرجاني حين قال:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم               ولو عظموه في النفوس لعُظِّما

ولكن أذلوه جهاراً ودنســـوا               محياه بالأطماع  حتى تجهمـا

ولهذا صدَّرتُ هذا الموضوع بما قاله لأحد مناظريه من الرهبان، عندما قال له: "كنت أوقعك في المهالك، وأجعلك عبرة، لكن الله أمرنا بحب الأعداء"، فرد عليه في شجاعة العالم، وثبات المؤمن: "لكن الله أمرنا ببغض الأعداء".

كيف لا، وقد قال الله عز وجل: "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْأَبْنَاءهُمْ أَوْإِخْوَانَهُمْ أَوْعَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

وإذا كان شرعنا أمرنا ببغض أهل البدع والأهواء، فكيف بالكفرة والمشركين التعساء؟! ولله در أبي الوفاء ابن عقيل، عندما عدَّ تمعُّر الوجوه والعبوس في وجوه أهل البدع أقوى دليل وأعظم برهان على مكانة الإيمان في القلب، فقال:

(إذا أردتَ أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعرى عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون، هذا يقول: "حديث خرافة"، والمعرى يقول:

تَلوْا باطلاً وجَلوْا صارماً                      وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم

يعني بالباطل كتاب الله عز وجل، وعاشوا سنين، وعظِّمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برود الدين في القلب).

قال ابن مفلح: (وهذا المعنى قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله).

قال عنه الشيخ خليل المرادي: (ولد بالمغرب الأقصى، وحفظ القرآن وهو ابن ثمان سنين، ثم اشتغل في حفظ المتون على والده، وقرأ عليه "الأجرومية"، وعلى الشيخ محمد السعدي الجزائري "السنوسية"، ومنظومة في العبادات مختصة في المسائل الفقهية، ودرَّس "السنوسية" للطلاب قبل أوان الاحتلام، ورحل من بلاده في البر إلى طرابلس الغرب وما وجبت عليه صلاة ولا صيام، ومن طرابلس ركب البحر إلى الجامع الأزهر، فطلب العلم بمصر سنتين وثمانية أشهر.

ثم سافر لزيارة والدته في البحر، فأسره الفرنج، وذهبوا به إلى مالطة مركز الكفر، ثم نجاه الله تعالى بعد سنتين وأيام، وناظرته رهبان النصارى مناظرة واسعة، وكان فيهم راهب له دراية بالمسائل المنطقية والعربية، ويزعم أن همته بارعة، وكانت مدة المناظرة نحو ثمانية أيام، فأخرسهم الله وأكبتهم، ووقعوا في حيص بيص، فمن جملة مناظرتهم معه في ألوهية عيسى أن قال كبيرهم: يا محمدي، إن حقيقة عيسى امتزجت مع حقيقة الإله فصارتا حقيقة واحدة.

قال: فقلت له: لا يخلو الأمر فيهما قبل امتزاجهما أن تكونا قديمتين أوحادثتين، أوإحداهما قديمة والأخرى حادثة، وكل الاحتمالات باطلة، فالامتزاج على كل الاحتمالات باطل، أما على الأول فإن الامتزاج مفضٍ للحدوث قطعاً، لأنه تركيب بعد إفراد، وكل تركيب كذلك لا محالة حادث، والحادث لا يصلح للألوهية، وأما الثاني فظاهر البطلان، وأما الثالث بوجهيه فباطل أيضاً لأن القديمة منهما بعد الامتزاج يلزم حدوثها، والحادثة منهما بعده يلزم قدمها، فيؤدي إلى قلب الحقائق، وقلبها محال، ويلزم أيضاً اجتماع الضدين، وهو باطل باتفاق العقول.

ولما سُقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا في هذا الطريق قال لي كبيرهم: عقولنا لا تصل لهذا الأمر الدقيق؛ فقلت له: هذا عندنا من علوم أهل البداية لا من علوم أهل النهاية؛ فبهت الذي كفر وعبس واكفهر، قلت لكبيرهم: بالله عليك، أعيسى كان يعبد الصليب؟ قال: لا، وإنما ظهر الصليب بعد قتله على زعمهم ونحن نعبد شبيه الإله؛ فقلت له: بالله عليك، ألله شبيه؟ قال: لا؛ فقلت له: يجب عليكم حرق هذه الصلبان بالزفت والقطران؛ فاستشاط غيظاً وقال لي: كنت أوقعك في المهالك وأجعلك عبرة، لكن الله أمرنا بحب الأعداء؛ فقلت له: لكن الله أمرنا ببغض الأعداء؛ فقال لي: إذاً شريعتنا كاملة؛ فقلت له على طريقة الاستهزاء: شريعتكم كاملة لأنها تعبد الأصنام والصلبان، وشريعتنا ناقصة لأنها تعبد الله وحده لا شريك له؛ فاشتد غضبه حتى كاد أن يبطش بي، ولكن الله سلم لمزيد اللطف بي.

ثم إن كبيرهم قال لي: يا محمدي، إني رأيتُ في كتبكم الحديثة أن نبيكم انشق له القمر نصفين، فدخل نصفه من كم ونصفه من الكم الآخر، وخرج تاماً من جيب صدره، ومساحة البدر مثل الدنيا ثلاث مرات وثلث، وهي ثلاثمائة وثلاث وثلاثون سنة وثلث، فما هذه الخرافات؟ فقلت له: أما ورد أن إبليس جاء لسيدنا إدريس وهو يخيط بالإبرة وبيده قشرة بيضة، وقال له: أيقدر ربك أن يجعل الدنيا في قشرة هذه البيضة؟ فقال لي: نعم ورد ذلك؛ فقلت له: كيف يقدر؟ فقال: إما أن يكبر القشرة أويصغر الدنيا؛ فقلت له: سبحان الله، تحلونه عاماً وتحرمونه عاماً، وإذا سلمتَ هذا فلِمَ لا تسلمه لنبينا؛ فغص بريقه واصفر وعبس وتولى فقتل كيف قدر، وهذا الجواب مني من باب إرخاء العنان للإلزام، وإلا فدخول نصفي البدر في الكمين باطل عند جميع المحدثين الأعلام، لكن كبيرهم لا يعرف اصطلاح علمائنا ذوي المقام العالي، فلو أجبته ببطلانه لقال لي: رأيته في كتبكم؛ فلا يصغي لمقالي، فلذلك دافعته بالبرهان القطعي العقلي لأنه لا يمتثل بعد ما رآه للدليل النقلي.

ثم إن كبيرهم في ميدان البحث أنكر نبوة نبينا السيد الكامل، وقال: إنه عندنا مَلِك عادل؛ فقلت: ما المانع من نبوته؟ فقال: نحن لا نقول بها، وإنما نقول بشدة صولته؛ فقلت له: أليس النبي الذي أتى بالمعجزات وأخبر بالمغيبات؟ فقال كبيرهم: أي معجزة أتى بها وأي مغيبات أخبر بها؛ فسردت له بعض المعجزات وأعظمها القرآن، وذكرت له بعض المغيبات، فقال لي: رأيت البخاري من علمائكم ذكر بعضها، ثم قال لي: إنما علمه ذلك الغلام؛ يشير لقوله تعالى: "أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ"، فقلت له: بالله عليك، لسان ذلك الغلام ماذا؟ قال: أعجمي؛ فقلت له: بالله عليك، لسان نبينا ماذا؟ قال: عربي؛ قلت له: بالله عليك، نبينا يقرأ ويكتب أم أمي؟ قال: أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ فقلت له: بالله عليك، هل سمعت عربياً يتعلم من عجمي؟ قال: لا؛ فأفحم في الجواب وانقطع عن الخطاب.

ثم قال لي: كيف يقول قرآنكم: "يَا أُخْتَ هَارُونَ"؟ وبينه وبينها ألف من السنين؟ فقلت له: أنت أعجمي لا تعرف لغة العرب كيف مبناها؛ فقال لي: وكيف ذلك؟ فقلت له: يطلق الأخ في لغتهم على الأخ النسبي وعلى الأخ الوصفي، والمراد هنا الثاني، ومعنى الآية: يا أيتها المتصفة عندنا بالعفة والديانة والعبودية مثل هارون الموصوف بتلك الصفات الكاملة؛ وهذا المعنى في لسان العرب شائع، وفي مجاراتهم ومجاري أساليبهم ذائع، فوقف حمار الشيخ في الطين.

ولما رآني صغير السن، وكان سني إذ ذاك نحو تسع عشرة سنة، قال لي: تصلح أن تكون مثل ولد ولدي، فمن أين جاءتك هذه المعرفة التامة؟ فقلت له: جميع ما سألتني عنه هو من علوم البداية، ولو خضت معي في مقام النهاية لأسمعتك ما يصم أذنيك، وفي هذا القدر كفاية، فترك المناظرة ورجع القهقري، وشاع صيتي في مالطة بين الرهبان والكبراء، وكنت إذا مررت في السوق يحترموني، وما خدمت كافراً قط، وكان سبب خلاصي رؤيا مبشرة، من يومها ركبت سفينة النجاة متوجهاً للإسكندرية، ثم منها لمصر القاهرة.

ثم سافرت للحجاز مراراً، ودخلت اليمن، وعمان، والبحرين، والبصرة، وحلب، ودمشق، وتوجهت للروم، ثم ألقيت عصا التسيار في بيت المقدس، وجاءتني الفتيا وأنا لها كاره.

ومراسلاته وأشعاره كثيرة، وكانت وفاته في القدس سنة 1191هـ، رحمه الله تعالى).

0000000000000000000000000

عام الرمادة، ومواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه والعظات والعبر المستفادة

أكبر الابتلاءات التي حدثت في عهد عمر رضي الله عنه

متى كان هذا العام؟ وكم استمر؟

لِمَ سُمِّيت بهذا الاسم؟

الأدلة على شدة تلك المجاعة وقسوتها

مواقف عمر رضي الله عنه للحد من خطر تلك المجاعة

أولاً: الدعاء، والتضرع، والابتهال

ثانياً: استسقاؤه عدة مرات

ثالثاً: اعتماده بعد الله على موارد بيت المال وما عند أهل المدينة

رابعاً: طلب الغوث من الأمصار - الأقاليم

خامساً: تدبير عمر وإشرافه وقيامه بنفسه على غوث الملهوفين

سادساً: مواساته للرعية في هذه المجاعة

العظات والعبر من تلك المواقف

المواقف العظام، والأحداث الجسام، هي التي تبين معادن الرجال.

لقد ابتلي عمر رضي الله عنه ببلاءات كثيرة، وامتحن بامتحانات عسيرة، نجح فيها كلها، توجت باستشهاده رضي الله عنه، تصديقاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى الرجل على قدر دينه".

ولقوله صلى الله عليه وسلم كذلك: "إن الله إذا حب عبداً ابتلاه".

أكبر تلك الابتلاءات التي حدثت في عهده

1. طاعون عمواس عام 18هـ، الذي فني فيه عدد كبير، ولولا أن الله ألهم عمر أن لا يدخل بمن معه من المسلمين فيه لكانت الخسائر أفدح بكثير.

2. وعام الرمادة، في آخر سنة 17هـ، إلى أول سنة 18هـ.

فما هو عام الرمادة؟ ولم سُمي بهذا الاسم؟ ومتى كان ذلك؟ وما هي المواقف والتدابير التي اتخذها عمر إلى أن انجلت تلك الغمة؟ وما هي الدروس والعبر التي يمكن أن تستفاد من تلك المواقف؟

ã

للإجابة على تلك الأسئلة نقول وبالله التوفيق:

عام الرمادة

وما أدراك ما عام الرمادة؟ إنه عام جدب وقحط، نتجت منه مجاعة ضربت أرض الحجاز.

ã

متى كان هذا العام؟ وكم استمر؟

بدأت هذه المجاعة من أواخر عام 17هـ إلى أول سنة 18هـ، واستمرت لمدة تسعة أشهر.

ã

لِمَ سُمِّيت بهذا الاسم؟

رد الحافظ ابن كثير وغيره تلك التسمية لأسباب:

1.  اسوداد الأرض من قلة المطر حتى عاد لونها شبيهاً بالرماد.

2.  أوكانت الريح تسفي تراباً كالرماد.

3.  أولأن ألوان الناس أضحت مثل الرماد.

وقد يكون العام سُمِّي بهذا الاسم لتلك الأسباب مجتمعة.

ã

الأدلة على شدة تلك المجاعة وقسوتها

منها ما يأتي:

1. ما أخرجه الطبري من خبر عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كانت الرمادة جوعاً شديداً أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر".

2. وقال الحافظ ابن كثير: "وقد روينا أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السؤَّال سألوا فلم يعطوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون".

3. قال نافع مولى الزبير: سمعتُ أبا هريرة يقول: "يرحم الله ابن حنتمة، لقد رأيته عام الرمادة، وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت في يده، وإنه ليعتقب هو وأسلم، فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريباً؛ قال: فأخذت أعقبه، فحملناه حتى انتهينا إلى صرار، فإذا صرم نحو من عشرين بيتاً من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، قال: فأخرجوا لنا جلد الميتة مشوياً كانوا يأكلونه، ورمة العظام مسحوقة كانوا يسقونها، فرأيت عمر طرح رداءه، ثم ائتزر فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، وأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها، حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك".

4. تجمع بالمدينة من غير أهلها حوالي ستين ألفاً من العرب، وبقوا عدة أشهر ليس لهم طعام إلا ما يقدم لهم من بيت مال المسلمين، ومن أهل المدينة.

ã

مواقف عمر رضي الله عنه للحد من خطر تلك المجاعة

لقد اتخذ عمر رضي الله عنه العديد من التدبيرات الحازمة، ووقف مواقف كريمة نبيلة، لم يستطعها أحد ممن جاء بعده، فقد صدق علي رضي الله عنه عندما قال له: "لقد أتعبتَ من بعدك"، يعني من الأئمة العدول، أمثال عثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، ومن شاكلهم، أما غيرهم من الحكام كثير فكأن الأمر بإقامة العدل لم يعنهم، وكأنهم غير مخاطبين بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث.

وقوله: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة".

وقوله: "من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة".

وبوصفه صلى الله عليه وسلم للإمارة بأنها: "أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".

مواقف عمر المشهودة، وقراراته الحازمة، وتصرفاته الحكيمة، التي كان لها الفضل بعد الله عز وجل في أن تمر هذه المجاعة، على الرغم من شدتها وقسوتها، من غير أن تخلف قتلى وخسائر في الأرواح، التي أصَّل فيها عمر للعمل الغوثي، كثيرة جداً، وسنشير إلى أهم تلك المواقف، وإلا فحياة عمر بعد إسلامه وخلافته كلها مواقف مشرِّفة، ولحظات مضيئة، وصفحات بيضاء ناصعة، وأيادٍ كريمة على إخوانه المسلمين.

ã

أولاً: الدعاء، والتضرع، والابتهال

أول تلك المواقف، وأهم تلك التدبيرات، تضرعه إلى الله عز وجل، وابتهاله له، واستغاثته به وحده، لعلمه ويقينه أنه هو مسبب الأسباب، وكاشف الكرب، وميسر ومذلل الصعاب، ليرفع هذا البلاء، ويزيل تلك الضراء، ويغيث العباد والبلاد.

البلاء والمصائب التي تحل بالعباد والبلاد قد تكون بسبب ما اقترفته الأيدي: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"، "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"، والغرض تطهيرهم وتكفير سيئاتكم.

وقد يكون نزول البلاء لرفع الدرجات، ولنيل المقامات في دار الكرامات، كحال عمر هذه.

والجميع ليس لها من دون الله كاشف ولا مزيل ولا رافع.

والعاقل لا يبرئ نفسه، ويمنيها، ويزكيها، بل يتهمها ويلومها: "وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ"، وهكذا كان حال عمر رضي الله عنه.

  خرج ابن سعد في طبقاته من خبر سليمان بن يسار قال: "خطب عمر بن الخطاب الناس في زمن الرمادة، فقال: أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السخطى عليَّ دونكم، أوعليكم دوني، أوقد عمتني وعمتكم، فهلموا فندع الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا المحل.

قال: فرئي عمر يومئذ رافعاً يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس ملياً، ثم نزل".

  وأخرج أيضاً ابن سعد من خبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي".

ã

ثانياً: استسقاؤه عدة مرات

السُّنة إذا قحطت البلاد وأجدبت أن يفزع الإمام ورعيته إلى صلاة الاستسقاء التي شرعها لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وسار على طريقه خلفاؤه من بعده.

فها هو عمر رضي الله عنه استسقى لقومه عدة مرات، ولم يياس من تكراره وإعادته إلى أن كشف الله عنهم تلك الغمة.

  خرج عمر مرة يستسقي، فنادى في الناس فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: "اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحيي العباد والبلاد".

  وعن خوات بن جبير قال: "خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك؛ فما برح من مكانه حتى مطروا، فقدم أعراب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، بينا نحن في وادينا في ساعة كذا، إذ أظلتنا غمامة، فسمعنا منها صوتاً: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص".

  روى ابن أبي الدنيا بسنده إلى الشعبي قال: "خرج عمر يستسقي بالناس، فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت! فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا".

ثم قرأ: "وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ".

  وروى الطبراني بسنده إلى أنس: "أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي بقوله: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ قال: فيُسقون".

استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما من أقوى الأدلة على عدم جواز الاستغاثة بذوات الأنبياء والصالحين ولا بجاههم، أحياء أوأمواتاً، إذ لو كان جائزاً لما عدل عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، أفضل وأكرم على الله من العباس رضي الله عنه.

وعمر رضي الله عنه استسقى بدعاء العباس وليس بذاته وجاهه، لأن العباس قال في استسقائه: "اللهم ما نزل بلاء إلا بمصيبة، ولا رفع إلا بتوبة"، ثم دعا ودعا معه عمر ومن كان خرج معهما.

وهذا قسم من أقسام التوسل المشروع، وهو التوسل بدعاء الحي الحاضر، هذا بجانب التوسل بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، وبالأعمال الصالحة، وما سواها شرك أكبر صرف، ولهذا وجب التنبيه عليه.

وكذلك حديث الأعمى هو من هذا القسم المشروع، لأنه توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم.

ã

ثالثاً: اعتماده بعد الله على موارد بيت المال وما عند أهل المدينة

من المواقف الكريمة والتدبيرات الحازمة الحكيمة اعتماد عمر رضي الله عنه في أول الأمر على موارد بيت المال، وعلى ما جادت به نفوس أهل المدينة من المهاجرين والأنصار الأطهار، حيث لم يلجأ إلى طلب الغوث من الأقاليم والأمصار إلا بعد أن نفذ كل ما بحوزته وما بحوزة أهل المدينة، فالاعتماد بعد الله على النفس وعلى الموارد المحلية من حسن التدبير، وسبب من أسباب النجاح الكبير الذي حققه عمر في هذه المحنة.

  قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وهو يؤرخ لعام الرمادة: "كان عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعاً شديداً.. وجفلت الأحياء إلى المدينة، ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المؤمنين، فأنفق فيهم من حواصل بيت المال، مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفذه".

ã

رابعاً: طلب الغوث من الأمصار - الأقاليم

عندما نفذت موارد بيت المال، ونفذ ما عند أهل المدينة، لجأ عمر رضي الله عنه إلى طلب العون من عماله، ولم يلجأ لذلك إلا في حال الاضطرار، وهكذا ينبغي على المسلم أن يصبر على اللأواء ولا يسأل الناس، لا لنفسه ولا لغيره، إلا في حال العجز التام، فآخر العلاج الكي، ورحم الله أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسألوا أحداً شيئاً أبداً، منهم أبو بكر وحكيم بن حزام.

على الرغم من هذا الضيق لم يلجأ عمر رضي الله عنه لطلب الغوث إلا بعد رؤيا منامية رآها بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه.

  روى سيف بن عمر عن سهل بن يوسف السلمي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني عشرة.. فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار، حتى أقبل بلال بن الحارث المزني، فاستأذن على عمر، فقال: أنا رسول رسول الله إليك، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عهدتك كيساً، وما زلت على ذلك، فما شأنك؟ قال: متى رأيت هذا؟ قال: البارحة؛ فخرج فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين، ثم قال: أيها الناس، أنشدكم الله هل تعلمون مني أمـراً غيره خير منه؟ فقالـوا: اللهم لا؛ فقـال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية؛ قالوا: صدق بلال، فاستغث بالله ثم بالمسلمين؛ فبعث إليهم وكان عمر عن ذلك محصوراً فقال عمر: الله أكبر، بلغ البلاء مدته فانكشف، ما أذن لقوم في طلب إلا وقد رفع عنهم الأذى والبلاء.

وكتب إلى أمراء الأمصار أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم، وأخرج الناس إلى الاستسقاء، وخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشياً، فخطب وأوجز، وصلى، ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وارض عنا؛ ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران، ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عماله أبا عبيدة وأبا موسى الأشعري وغيرهما يطلب منهم الغوث".

  قال سيف بن عمر: "كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف راحلة من طعام، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فلما فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين، إنما أردت اللهَ وما قِبَله، فلا تُدْخِل علي الدنيا؛ قال: خذها فلا بأس بذلك إن لم تطلبه؛ فأبى، فقال: خذها فإني قد وليتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، فقال لي مثل ما قلتُ لك، فقلت له كما قلتَ لي، فأعطاني؛ فقبل أبو عبيدة وانصرف إلى عمله".

  وروى ابن كثير: "فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد؛ وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: يا غوثاه لأمة محمد؛ فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة".

  قال الحافظ ابن كثير: (هذا الأثر جيد الإسناد، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أويكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم، والله أعلم).

ã

خامساً: تدبير عمر وإشرافه وقيامه بنفسه على غوث الملهوفين

من المواقف الخالدة لعمر، والتدبيرات الناجحة له في عام الرمادة، جعل مشرفين وأمراء على كل ناحية من نواحي المدينة، يوافونه بحال القوم وحاجتهم، ويجتمعون عنده في كل مساء، ويشرفون على تقسيم المؤن والأطعمة، ويتفقدون أحوال كل جهة، حتى لا تتضارب الاختصاصات، ويطمع البعض في حقوق غيرهم.

  أخرج ابن سعد من خبر زيد بن أسلم عن أبيه قال: "لما كان عام الرمادة تجلبت العرب من كل ناحية، فقدموا المدينة، فكان عمر بن الخطاب قد أمر رجلاً يقومون عليهم، ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، فكان يزيد بن أخت النمر، وكان المِسْوَر بن مخرمة، وكان عبد الرحمن بن عبد القاري، وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود.

فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا عند عمر، فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وكان كل رجل منهم على ناحية من المدينة، وكان الأعراب حلولاً فيما بين رأس الثنية، إلى رابح، إلى بني حارثة، إلى بني عبد الأشهل، إلى البقيع، إلى بني قريظة، ومنهم طائفة بناحية بني سلمة، هم محدقون بالمدينة.

فسمعتُ عمر يقول ليلة، وقد تعشى الناس عنده: أحصوا من تعشى عندنا؛ فأحصوهم من القابلة، فوجودهم سبعة آلاف رجل؛ وقال: أحصوا العيال الذين لا يأتون، والمرضى، والصبيان؛ فأحصوا فوجدوهم أربعين ألفاً.

ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهم فأحصوا، فوجد من تعشى عنده عشرة آلاف، والآخرين خمسين ألفاً، فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قوم من هؤء النفر بناحيتهم يخرجون إلى البادية، ويعطونهم قوتاً وحملاناً إلى باديتهم".

  وفي خبر أبي هريرة السابق  أنه رأى عمر عام الرمادة يحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت، وأنه ليعتقب هو وأسلم، قال: فلما رأيته أخذت أعقبه، فحملنا حتى انتهينا إلى صرار، فإذا صرم نحو عشرين بيتاً من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد.. فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر، فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، وأرسل إلى المدينة، وجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم.

ã

سادساً: مواساته للرعية في هذه المجاعة

هذا الموقف من أجل وأنبل المواقف التي وقفها عمر في هذا العام، إذ واسى رعيته مواساة كاملة، حيث لم يتميز عليهم بشيء قط، حتى أذهب الله عنهم ذلك الكرب، وإليك نماذج من مواساته لرعيته:

  خرج ابن جرير الطبري بإسناده عن عدد من الشيوخ قالوا: "أصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينة وحولها.. فآلى عمر ألا يذوق سمناً، ولا لبناً، ولا لحماً، حتى يحيى الناس من أول الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أول الحيا، فقدمت السوق عُكة من سمن ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبرَّ الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين؛ فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً؛ وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم!".

  وخرج ابن سعد من خبر عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده قال: "كان عمر يصوم الدهر، قال: فكان زمان الرمادة إذا أمسى أتي بخبز قد سرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها، فأتي به، فإذا فدر من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرنا اليوم؛ قال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام؛ قال: فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا يرفأ! احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت يثمغ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، فأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم".

ã

العظات والعبر من تلك المواقف

العظات والعبر التي يمكن أن تستخلص من تلك المواقف الخالدة، والتدبيرات والخطط الحازمة، التي وقفها عمر وخطها في هذه المحنة، فيها كثير من العبر، والمواعظ، والفوائد، التي ينبغي للمسلمين حكاماً، ومنظمات غوثية، وأفراداً، أن يستفيدوا منها ويقتدوا بها فيما ينزل بهم من نوازل، وتعتريهم من خطوب.

وإليك طرفاً من ذلك:

أولاً: أن البلاء ليس قاصراً على الأشرار، بل الأخيار أشد بلاء من الأشرار.

ثانياً: الاعتماد والتوكل على الله عز وجل.

ثالثاً: الدعاء والتضرع هو سبيل المستضعفين وسبب لتفريج الكروب وكشف الخطوب.

رابعاً: الاعتماد على الموارد الذاتية بقدر الإمكان.

خامساً: أن سؤال الناس لا يحل إلا عند الضرورة.

سادساً: التخطيط السليم والتدبير الحكيم من أنجح الطرق للخروج من الأزمات.

سابعاً: يجب وجوباً عينياً على الرعاة مواساة الرعية فيما نزل بهم من بلاء، وهذا أكبر معين لهم لتحمل البلاء والصبر عليه.

ثامناً: الإشراف التام، والمحاسبة الدقيقة من شأن الحاكم الحازم، العادل، العاقل.

تاسعاً: لا يجوز اللجوء إلى الجمعيات والمنظمات الكنسية، وعند المسلمين ما يغني عن ذلك، فهم يمدون العون بالشمال ويبثون سمومهم وتنصيرهم باليمين.

عاشراً: خطورة الهجرة العشوائية، ولهذا عندما انفرجت الأزمة أمر عمرُ أهل البادية أن يرجعوا إلى باديتهم، وكلف من يشرف على رجوعهم، وقام بما يحتاجه الرجوع.

ولك أن تقارن بما قام به عمر في هذا الشأن، وبقاء من هجَّرهم الجفاف في السبعينيات إلى أطراف الخرطوم، وهم إلى الآن في أحياء عشوائية نتج عنها كثير من الأضرار، حيث هجر كثير منهم رعيهم، وزراعتهم، وديارهم، وعاشوا في معسكرات، وتشاغلوا بالمهن الهامشية، حيث لم يستفد المسؤولون في ذلك العهد من أن الهجرة العشوائية أضرارها كثيرة، سيما وقد نتج منها في عهد المهدية مجاعة "سنة ستة" المشهورة 1306ﻫ.

فلله در عمر من إمام عادل، وفقيه بارع، وعبقري ملهم.

حادي عشر: ينبغي للمنظمات الغوثية الإسلامية أن تعنى بهذه التدابير والخطط الناجحة التي سلكها عمر، وأن تتوسع فيها، وتدرسها، وتلقنها للعاملين فيها والمنتسبين إليها، فهو أول من أصَّل وقعَّد في هذا الشأن، بدلاً من أن نكون عالة على المنظمات الكنسية.

فقد أعزنا الله بالإسلام، وأغنانا بما شرعه لنا على لسان ولد عدنان، وأمدنا بالسياسات الشرعية والممارسات العملية في عهود الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن تبعهم من الولاة العاقلين.

واللهَ أسألُ أن يحفظ علينا ديننا، وأن يجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، والكوارث، والزلازل، والمحن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى، وخاتم الأنبياء، وعلى آله وأصحابه الأوفياء، وعلى من تبعهم بإحسان ما تعاقب الملوان

000000000000000000000

حكم مالك وأتباعه في السماع الصوفي، والرقص، والتواجد

العبادات توقيفية، ولهذا فإن الله جلت حكمته لا يقبل عبادة إلا ما شرعه لنا على لسان نبيه، وتعبده بها هو وأصحابه الكرام، والسلف العظام، فما كان عليه هو وأصحابه هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، ولهذا قال مالك: ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

فما من عبادة إلا ولها شرطان، هما:

1. الصدق، وهو ميزانها الداخلي: "وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ".

2. والمتابعة، وهو ميزانها الخارجي: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، كما صح بذلك الخبر.

من عجيب أمر البعض إضافتهم كل رزية، ونطيحة، وموقوذة إلى مذهب مالك رحمه الله، ذلكم الإمام المبجل والفقيه المعظم، فإذا أنكرتَ عليهم ما أحدثوه من بدع، نحو الاستغاثة بالأحياء والأموات، والتبليغ من غير حاجة، والدعاء الجماعي دبر الصلوات المكتوبات، والتنبيه قبل أذان الفجر، والتسحير في رمضان، ونحو ذلك، اعترض عليك بأنا نحن مالكية!!

وما علم هؤلاء المساكين أن مالكاً رحمه الله كان من أشد الأئمة بغضاً للبدع، وكان حرباً شعواء على أهل الأهواء، ولهذا كان كثيراً ما ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنة            وشر الأمور المحدثات البدائع

وأثر عنه قوله كذلك: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها"، وضبط مذهبه بضابط متين وهو قاعدة "سد الذرائع".

لهذا وغيره أحببت أن أذكر إخواني المسلمين في السودان وخارجه بحكم وفتاوى مالك وتلاميذه وأئمة مذهبه في السماع الصوفي، والرقص، والتواجد، ونحو ذلك من ممارسات الصوفية، ليعلم الجميع أن النهي والتحذير عن ذلك، وتبديع وتضليل فاعله ليس قاصراً على فئة معينة من العلماء، ابن تيمية، وتلاميذه، والوهابية، وإنما هذا مما أجمعت عليه الأمة قاطبة، وأطبقت عليه الفقهاء سلفاً وخلفاً، إلا ما شذ وزل.

لقد طمت البلوى وعمت بهذه البدع المنكرات، وجبن الكثير من العلماء وطلاب العلم عن بيان مخالفتها لشرع الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى، حتى أضحت ديناً يوالى ويعادى عليها، بل نافقهم البعض بشهود ذلك وحضوره، ووصف من يعترض عليها بأنه قالٍ وجافٍ لإمام الهدى: "كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا".

وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالعلي الأعلى، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحابته والتابعين.

ã

نماذج من فتاوى مالك، وتلاميذه، وأئمة مذهبه في السماع الصوفي، والرقص، والتواجد

1.  قال مالك رحمه الله: (فما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم ديناً، وإنما يعبد الله بما شرع).

2.  قال الونشريسي: (حكى عياض عن التنيسي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيراً، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون.

فقال مالك: أصبيان هم؟

قال: لا.

قال مالك: أمجانين هم؟

قال: لا، قوم مشايخ، وغير ذلك عقلاء.

فقال مالك: ما سمعت أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا إلا أن يكون مجنوناً أوصبياً.

قال الونشريسي: فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام، ثم يقال: فلو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبيان لكان أخف عليهم، مع ما فيه من إسقاط الحشمة، وإذهاب المروءة، وترك هدى أهل الإسلام، وأرباب العقول، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتعبد به، وأن فاعله أفضل من تاركه، هذا أدهى وأمر، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة، وذلك من أعظم البدع المحرمات، الموقعة في الضلالة، الموجبة للنار، والعياذ بالله).

3.  وقال مالك: (من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة).

4.  وقال الإمام الشافعي رحمه الله، وهو من تلاميذ الإمام مالك: (أسِّس التصوف على الكسل).

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (خلفت ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة، ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله، وسنة رسول الله، يسمونه "التغبير").

نقل الونشريسي عدداً من أقوال أهل العلم المالكية وغيرهم في حكم الرقص والسماع الصوفي، منها:

5.  سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن ذلك، فأجاب: (الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلا للنساء).

6.  وسئل الشيخ صالح أبو فارس عبد العزيز بن محمد القيرواني تلميذ أبي الحسن الصغير عن قوم تسموا بالفقراء، يجتمعون على الرقص والغناء، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاماً أعدوه للمبيت عليه، ثم يصلون ذلك بقراءة عُشر من القرآن والذكر، ثم يغنون ويرقصون ويبكون، ويزعمون في ذلك كله أنهم على قربة وطاعة، ويدعون الناس إلى ذلك، ويطعنون على من لم يأخذ بذلك من أهل العلم، ونساء اقتفين ذلك أثرهم، وعملن في ذلك على نحو عملهم، وقوم استحسنوا ذلك وصوبوا فيه رأيهم، فما الحكم فيهم، وفيمن رأى رأيهم، هل تجوز إمامتهم وتقبل شهادتهم أم لا؟ بينوا لنا ذلك.

فأجاب بعد حمد الله والصلاة على رسوله: (الجواب فيه ما قاله بعض أئمة الدين من علماء المسلمين الناصحين، حين سئلوا عن ذلك، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: "أن بني إسرائيل افترقت على اثنين وسبعين فرقة، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، إثنان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة"، وقد ظهر ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من افتراق أمته على هذه الفرق، وتبين صدقه صلى الله عليه وسلم وتحقق، ولم يكن أحد في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأمية الجاهلة الغبية، الذين ولعوا بجمع أقوام جهال، فتصدوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة، وعقولهم قاصرة، فدخلوا عليهم من طريق الدين، وأنهم لهم من الناصحين، وأن هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبين، فصاروا يحضونهم على التوبة، والإيثار، والمحبة، وصدق الأخوة، وإماتة الحظوظ والشهوة، وتفريغ القلب إلى الله بالكلية، وصرفه إليه بالقصد والنية، وهذه الخصال محمودة في الدنيا فاضلة، إلا أن الذي في ضمنه على مذهب القوم سموم قاتلة، وطامات هائلة، وهذه الطائفة أشد ضرراً على المسلمين من مردة الشياطين، وهي أصعب الطوائف للعلاج، وأبعدها عن فهم طرق الاحتجاج، لأنهم أول أصل أصلوه في مذهبهم، بغض العلماء والتنفير منهم، ويزعمون أنهم عندهم قطاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق، فمن كان هذه حاله سقطت مكالمته، وبعدت معالجته، فليس للكلام معه فائدة، والمتكلم معه يضرب في حديد بارد، وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم، لعله يسلم من عاديتهم، وينجو من غاويتهم.

واعلموا أن هذه البدعة في فساد عقائد العوام أسرع من سريان السم في الأجسام، وأنها أضر في الدين من الزنى، والسرقة، وسائر المعاصي والآثام.

إلى أن قال:

ثم ضرر المعاصي إنما في أعمال الجوارح الظاهرة، وضرر هذه البدع إنما هي في الأصول والعقائد الباطنة، فإذا فسد الأصل ذهب الفرع، وإذا فسد الفرع بقي الأصل، يرجى أن ينجبر الفرع، وإن لم ينجبر الفرع لم تذهب منفعة.

ثم إن الذي يغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته يكون عليه وزره ووزر من استن بسنته.

إلى أن قال:

فلا يغتر أحدكم بما يظهر من الأوهام والخيالات، من أهل البدع والضلالات، ويعتقد بأنها كرامات، بل هي شرك وحبالات، نصبها الشيطان ليقتنص بها معتقد البدع ومرتكب الشهوات، وإنما تكون من الله الكرامة لمن ظهرت منه الاستقامة، وإنما تكون الاستقامة باتباع الكتاب والسنة، والعمل بما كان عليه سلف هذه الأمة، فمن لم يسلك طريقهم، ولم يتبع سبيلهم، فهو ممن قال الله فيهم: "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى".

فمن حرف كتاب الله، أوترك العمل به، أوعطله، فقد افترى على الله كذباً، واتخذ آيات الله هزواً ولعباً، فإذا رأيتم من يعظم القرآن فعظمه، وإذا رأيتم من يكرم العلماء وأهل الدين فأكرموه، قال الله العظيم: "وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ" الآية، ومن رأيتموه خالف القرآن فارفضوه واهجروه في الله وأبغضوه، ومن رأيتموه يجانب العلماء فجانبوه، فإنه لا يجانبهم إلا ضال مبتدع، غير مقتدٍ بالشرع ولا متبع، فإن الشرائع لا تؤخذ إلا من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

إلى أن قال:

وأما ما ذكرتموه من أفعالهم، واشتغالهم بالرقص والغناء والنوح فممنوع غير جائز، قال الله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ" الآية، قال ابن مسعود: هو الغناء، والذي لا إله إلا هو؛ يرددها ثلاث مرات، وهو قول مجاهد وعطاء: من كانت له جارية مغنية فمات لم يصَلَّ عليه، لقول الله عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ" الآية).

قال مالك في المدونة: (وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنوح وعلى كتابة ذلك؛ قال عياض: معناه نوح المتصوفة وإنشادهم على طريق النوح والبكاء، فمن اعتقد في ذلك أنه قربة لله تعالى فهو ضال مضل، ولا يعلم المسكين أن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، والله تعالى لم يبعث أحداً من الأنبياء باللهو والراحة والغناء، وإنما بعثوا بالبر والتقوى).

7.  وأجاب الواغليسي عن ذلك قائلاً: (قد نص أهل العلم فيما ذكرت من أحوال بعض الناس من الرقص والتصفيق على ذلك بدعة وضلال، وقد أنكره مالك، وتعجب ممن يفعل ذلك).

8.  وقال القرطبي في رده على هذا الجواب: (إن ذلك مما لا يختلف على تحريمه، وقد انتهى التواقح بأقوام إلى أن قالوا: إن تلك الأمور من أبواب القرب، وصالح الأعمال، وإن بذلك يتم صفاء الأوقات، وسنيات الأحوال، فنعوذ بالله من البدع والضلال).

9. وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله، وقد سئل عن حال طائفة ينتمون إلى التصوف والفقر، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى الغناء والضرب بالأكف والشطح، هكذا إلى آخر الليل، ويأكلون في أثناء ذلك طعاماً يعده لهم صاحب المنزل، ويحضر معهم بعض الفقهاء، فإذا تكلم معهم في أفعالهم تلك يقولون: لو كانت هذه الأفعال مذمومة ومحرمة شرعاً لما حضرها الفقهاء.

قال بعد حمد الله والثناء عليه: (والجواب والله الموفق للصواب، أن اجتماعهم للذكر على صوت واحد، إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم، ولا عرف ذلك قط في شريعة محمد عليه السلام، بل هو من البدع التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالة، وهي مردودة، ففي الصحيح أنه عليه السلام قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، يعني فهو مردود وغير مقبول، فكذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول.

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وفي رواية: "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار"، وهذا الحديث يدل على أن صاحب البدعة في النار.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وعن الحسن البصري أنه سئل وقيل له: ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة، لا يطعنون على أحد، نجتمع في بيت هذا يوماً فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربنا، ونصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين؛ فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين، وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح فليس من الدين، فقد كانوا أحرص على الخير من هؤلاء، ولو كان فيه خير لفعلوه.

ثم ذكر كلام مالك السابق.

ثم قال:

وأما ما ذكرتموه من شأن الفقيهين الإمامين، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئاً من ذلك، وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادح في عدالتهما، فلا يصلى خلف واحد منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك، ويظهر عليهما أثر التوبة، فإنه لا يجوز الصلاة خلف أهل البدع، نص على ذلك العلماء.

وعلى الجملة فواجب على من كان قادراً على تغيير ذلك المنكر الفاحش القيام بتغييره، وإخماد نار الفتنة، فإن البدع في الدين هلاك، وهي في الدين أعظم من السم في الأبدان، والله الواقي بفضله، والسلام على من يقف على هذا من كاتبه: إبراهيم الشاطبي).

10. وأجاب الفقيه الصالح أبو عبد الله الحفار على السؤال السابق ما نصه: (الحمد لله والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجواب مستعيناً بالله أن هذه الطائفة المنتمية للتصوف في هذا الزمان، وفي هذه الأقطار، قد عظم الضرر بهم في الدين، وفشت مفسدتهم في بلاد المسلمين، لا سيما في الحصون والقرى البعيدة عن الحضرة هنالك، يظهرون ما انطوى عليه باطنهم من الضلال، من تحليل ما حرم الله، والافتراء على الله وعلى رسوله، وبالجملة فهم قوم استخلفهم الشيطان على حل عرى الإسلام وإبطاله، وهدم قواعده، ولسنا لبيان حال هؤلاء، فهم أعظم ضرراً على الإسلام من الكفار، وإنما يقع الجواب على حال ما ذكر في السؤال على تقدير سلامة عقيدته، وعدم تعرضه لما دخل فيه غيره ممن ننبه عليه، بل نقتصر على ما ذكر من الغنا وسماعه، فحال هذه الطائفة المسؤول عنها أخف بالنسبة إلى الطائفة الأولى وأحسن، وما فيهم حسن، لكنهم قوم جهلة، ليس لديهم شيء من المعارف، ولا يحسن واحد منهم أن يستنجي ولا يتوضأ، دع ما سوى ذلك، لا يعرف ما فرض الله عليه، بهيمة من البهائم في دينه، وما أوجب الله عليه في يومه وليلته، ليس عنده من الدين إلا الغنا والشطح، وأكل أموال الناس بالباطل، واعتقاده أنه على شيء، وهذا كله ضلال من وجوه، أعظمها أنهم يوهمون على عوام المسلمين، ومن لا عقل له من النساء، ومن يشبههن في قلة العقل من الرجال، أن هذه الطريقة التي يرتكبونها هي طريقة أولياء الله، وهي من أعظم ما يتقرب به إلى الله، فيَضلون ويُضلون، وفي ذلك افتراء على الله، وعلى شريعته وأوليائه.

إلى أن قال:

وأما حضور الفقهاء معهم، وقولهم لو كنا على غير طريقة مرضية لما حضرها الفقهاء معنا، فيقال: إن حضور الفقهاء معهم ليس بدليل على الجواز، ولا عدمه دليل على المنع، ولا يُعرف الحق بالرجال، بل الرجال يُعرفون بالحق، فالفقيه إذا حضر معهم ووافق واستحسن فعلهم فهو مثلهم، بل هو شر منهم، وهو باسم الفسق أولى منه باسم الفقه، وإن حضر ليرى تلك الطريقة وما تنطوي عليه حتى يحكم بما يشاهد من أحوال أهلها، ثم بعد ذلك يحكم عليها بما يقتضيه الفقه، فحضوره حسن، وإن كان حضوره على جهة تفريج النفس، كما يحضر الإنسان مجالس اللهو واللعب، فإن تكرر ذلك منه على هذا الوجه فذلك مسقط لعدالته، وإن كانت فلتة فلتقل عثرته، ولا يعد للحضور معهم، فيكون مثلهم، على ما أشار إليه قوله تعالى: "فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ" الآية، فمن كثر سواد قوم فهو منهم).

11. وقال ابن لب المالكي رحمه الله، وقد سئل عن رقص الفقراء بالمساجد، فقال: (أما رقص الفقراء في المساجد، فإن ذلك مما يجب أن تنزه المساجد عنه، لأنها بيوت الله في أرضه، أسست على التقوى ليتقرب إلى الله فيها بالطاعات، ووظائف العبادات، قال تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ" الآية، وما جاء في الحديث من لعب الحبشة في المسجد بالحراب، فقد قال العلماء في ذلك إنما أبيح لما فيه من المثاقفة، وتدريب الجوارح على معاني الحروب، وهو من باب الإرماء والأخذ في الاستعداد، مع ما كان في ذلك من استئلافهم، وتأنيسهم، وترك تنفيرهم).

12.  قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ" الآيات، في الرد على الصوفية في رقصهم وتواجدهم: (وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره، ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضياً حكمه كحكمهم، وقد مضى هذا المعنى في آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال.

وسئل الإمام أبوبكر الطرطوشي المالكي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ واعلم، حرس الله مدته، أنه اجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه:

يا شيخ كف عن الذنوب             قبل التفــرق والزلل

واعمل لنفسك  صالحـاً            ما دام ينفعك العمــل

أما الشبـاب فقد مضى             ومشيب رأسك قد  نزل

وفي مثل هذا ونحوه.

الجواب رحمك الله: مذهب الصوفية بطالة، وجهالة، وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، قاموا يرقصون حواليه، ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة، ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق).

ã

تتلخص هذه الفتاوى في الآتي:

1. أن الصوفية من البدع المحدثة، حيث لم تظهر إلا بعد انقراض القرون الثلاثة الفاضلة، ومن ثم لا يحل الانتساب إلى طريقة من الطرق الصوفية.

2. أن الرقص والتواجد الذي يمارسه بعض الصوفية ورثوه من أصحاب السامري، عندما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، فقاموا حواليه يرقصون ويتواجدون كما يفعل هؤلاء الآن.

3.  أما الضرب على الطبول "النوبة والطارات"، وقد حلت محلها الآن الآلات الموسيقية، فأول من أحدثها الزنادقة ليشغلوا بها المسلمين عن كتاب الله تعالى، وقد أفلحوا ونجحوا في ذلك، فالذي يتعبد الله بالسماع الصوفي فهو محيي لسنة الزنادقة، ومميت لسنة خاتم الأنبياء والرسل وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.

4.  أن هذا العمل من المنكرات التي يجب على ولاة الأمر أن يمنعوها، ولا يمكنوا أحداً من ممارستها، لا في المساجد، ولا في المواليد، والحوليات، وغيرها.

5.  أن الجلوس ومشاهدة هذه المنكرات لا يحل أبداً، إلا لمن أراد أن يرد عليهم.

6. على هذا أجمعت الأمة قاطبة، أعني إجماع أهل الحل والعقد وهم العلماء، بما في ذلك الأئمة الأربعة المقتدى بهم، أما العامة والدهماء فلا اعتبار بإجماعهم ولا ردهم.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله صادق الوعد المبين، والويل لمن خالف سنته، وتنكر لطريقته، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ورحم الله مالكاً حيث كان كثيراً ما ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنة            وشر الأمور المحدثات البدائع

ورحم الله من شبه السنة بسفينة نوح عليه السلام، فمن ركب فيها نجا، ومن لم يركب هلك.

فمن لم يسعه ما وسع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والتابعين لهم من السلف والخلف، فلا وسَّع الله عليه دنيا وأخرى، ومن طلب الهدى في غير شرعه صلى الله عليه وسلم أضله الله.

اللهم أحينا على سنته، وأمتنا عليها، وارزقنا حبه وحب من يحبه، واجمعنا به في دار كرامتك، واسقنا من حوضه حين يُبعد عنه المبدلون المغيرون لسنته.

00000000000000000000

" إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "نصيحة إلى ولاة الأمر

أولاً: التوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام

ثانياً: الحذر من سياسة الموازنات والتنازلات

ثالثاً: رد المظالم

أ. ظلم أكبر

ب. ظلم أصغر

يتمثل ظلم ولاة الأمر للرعية في الآتي

الأمور التي ينبغي للدولة أن تعيد فيها النظر، لرفع المعاناة والظلم عن العامة كثيرة، وفي مقدمتها

رابعاً: الفساد الخلقي

خامساً: الخوض في مال الله بغير حق

سادساً: مراقبة وسائل الإعلام

سابعاً: التخلي عن الأفكار المنحرفة والأقوال الشاذة

ثامناً: فتح المجال للكفار

تاسعاً: التضييق على العلماء، والأخيار، والمحتسبين

خاتمة

قوام هذا الدين النصيحة، كما قال الصادق المصدوق: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".

فدل الحديث على أن النصيحة ليست قاصرة على شريحة من الأمة دون أخرى، بل النصيحة لولاة الأمر من العلماء والحكام أولى منها لغيرهم من العامة، لأن بصلاحهما تنصلح العامة، وبفسادهما تفسد العامة.

ورحم الله القائل:

نسأل اللهَ   صلاحــاً          للـولاة   الرؤســاء

فصلاح الدين والــد          نيـا صلاح  الأمـراء

فبهم  يلتئم  الشمـــ          ـل على بعد  التنـاء

وبهم  قامت حدود الله          في أهـل العـــداء

وهم  المغنـون  عنـا          في  مواطين العـداء

وذهاب العلـم عنــا          في ذهـاب العلمـاء

فهـم  أركان  دين الله          في الأرض الفضـاء

فجزاهم ربهـم عنـا          بمحمـود الثنـــاء

ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله كما روى عنه عبد الصمد بن يزيد البغدادي: "لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام؛ قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى صيرتها في نفسي لم تحزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاحه صلاح العباد والبلاد؛ قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ فسر لنا هذا؛ قال: أما صلاح البلاد فإذا أمن الناسُ ظلم الإمام عمروا الخرابات ونزلوا الأرض، وأما العباد فينظر إلى قوم من أهل الجهل، فيقول: قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره، فيجمعهم في دار خمسين خمسين، أقل أوأكثر، يقول للرجل لك ما يصلحك، وعلم هؤلاء أمر دينهم، وانظر إلى ما أخرج الله عز وجل من فيهم مما يزكي الأرض فرده عليهم، قال: فكان صلاح العباد والبلاد؛ فقبَّل ابن المبارك جبهته وقال: يا معلم الخير، من يحسن هذا غيرك؟".

وحاجة ولاة الأمر من الحكام خاصة للنصيحة في هذا العصر الذي تكالبت فيه قوى الشر والعدوان على الإسلام والمسلمين من كل جانب، وعزموا على القضاء عليه وعلى مسحه وطمسه، وشرعوا في غزو دوله دولة دولة، لا تدانيها حاجة.

ولا تظنن أخي الكريم أن هذا ليس وقتاً للنصيحة، إذ النصيحة ليس لها وقت، فهي واجبة في كل وقت وحين، سيما عند نزول المصائب، وحلول الفتن.

قبل البدء في المقصود أود التذكير بهذه السنن الشرعية التي لا تتغير ولا تتبدل، وكلها مقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي:

أولاً: أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

ثانياً: أن النصر من عند الله: "وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"، فعلينا أن نستمده منه وألا نتكل على أنفسنا وقوتنا: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا".

ثالثاً: أن نصر المؤمنين على أعدائهم مشروط بنصرهم لربهم ولدينهم: "إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ".

رابعاً: لابد من الأخذ بالأسباب: "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ".

خامساً: أن المسلمين في جميع غزواتهم وحروبهم مع الكفار التي انتصروا فيها لم يكونوا متفوقين على الكفار لا في عددهم ولا في عتادهم.

سادساً: أن الجهاد هو طريق النصر لهذه الأمة، إذ لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وكان صلاح أولها بالغزو والجهاد، ولذلك لقب نبيها بنبي الملحمة، فما كان يرجع من غزوة إلا وهو يستعد لأخرى، وقد تخللت غزواته السبعة عشرة حوالي خمس وثلاثون سرية، وقال: "وجعل رزقي تحت ظل سيفي".

سابعاً: أن الله سبحانه وتعالى لا يصلح عمل المفسدين مهما زينوه وزخرفوه.

ثامناً: أن التوبة النصوح تجب ما قبلها.

تاسعاً: أن الغاية في الإسلام لا تبرر الوسائل، فالوسائل الخبيثة المحرمة لا يمكن أن تكون وسيلة إلى خير قط.

عاشراً: أن الله عز وجل حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً، كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا".

وعليه، فإذا قررنا وعزمنا على النصر على الأعداء، والدفع عن ديننا، وأرضنا، وحريمناً، وثرواتنا، وتحرير ديارنا، وقراراتنا، والانعتاق من الاستكانة والخضوع للكفار، فلابد من رفع علم الجهاد، والعمل والاستعداد ليوم المعاد، رجاء إحدى الحسنيين، الشهادة، أوالنصر والغنيمة، هذا هو الطريق الذي لا سبيل سواه إلا بُنَيَّات الطريق.

سلوك هذا الطريق يحتم علينا حكاماً ومحكومين الآتي:

ã

أولاً: التوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام

والندم على ما فات، والعزم على أن لا نعود إليه، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة نصوح، كما قال العباس رضي الله عنه عندما خرج يستسقي للمسلمين.

ثانياً: الحذر من سياسة الموازنات والتنازلات

فقد جرت على الأمة الويلات والدمار، وجرَّأت عليهم الكفار، حيث غفل الساسة عن قول ربهم عز وجل: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ".

علينا أن نعلم جميعاً أننا بين أمرين لا ثالث لهما: الثبات على ديننا الذي تركنا عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، العتيق لا المبدل المحرف، مهما كانت النتائج، أوالتخلي عنه بالكلية، الجالب لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.

من عجيب أمر الحكام زعمهم أنهم مكرهون على قبول هذه التنازلات، والرضوخ لهذه الاتفاقيات والمساومات، وأقل ما يقال عن ذلك أن هذا وهم، ولو فرضنا جدلاً أنهم أكرهوا على قبول ذلك لما جاز لهم قبوله، ولو أدى إلى قتلهم، لأن الله رخص لمن خشي القتل أن يتلفظ بكلمة الكفر إن كان قلبه مطمئناً بالإيمان: "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، وحتى في هذه الحـال الأولى الأخـذ بالعزيمة، كما أخذ بهـا بلال، وعبد الله بن حذافة السهمي، وحبيب بن زيد الذي قطعه مسيلمة لعنه الله إرباً إرباً ليقول: أشهد أن مسيلمة رسول الله، فأبى، وآثر القتل والتقطيع على التلفظ بهذه الكلمة، وغيرهم كثير.

وإذا كان لا يحل للمكره المهدد بالقتل أن يُقدِم على الزنا لما فيه من المفاسد المتعدية، ولا أن يفدي نفسه بالإقدام على قتل مسلم، فكيف يحل لحاكم أن يفدي نفسه دعك عن كرسيه بدين الله عز وجل وبمصالح الأمة كلها؟!

ومن عجائب الاستدلال على هذا السلوك الخاطئ المشين استدلال البعض بما حل بحكومة الطالبان!! فما حل بحكومة الطالبان وبأفغانستان من الدمار، والقتل، وإشاعة الرعب والفاحشة في الذين آمنوا مسؤولية حكام المسلمين عامة، وحكام باكستان خاصة، لخذلانهم لدين الله ولإخوانهم وجيرانهم المسلمين، حيث فتحوا أجواءهم للغزاة الغاشمين، وتجسسوا على إخوانهم من المسلمين، فباءوا بغضب الله، والملائكة، والناس أجمعين.

أما الطالبان فقد طبقوا شرع الله وحكموا به لمدة سبع سنوات، لم يتنازلوا ولم يساوموا ليبقوا في الحكم، فقد أدوا الواجب وثبتوا على الحق، ولم يستكينوا كما استكان غيرهم وأصابهم ما أصاب الطالبان وزيادة.

ثم أين هؤلاء من موقف مهاجرة الحبشة، جعفر وصحبه، مع قلتهم وضعفهم واضطرارهم، عندما أراد عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وكانا وقتها مشركَيْن أن يكيدا بهم، وأن يوقعا بينهم وبين النجاشي، ثبتوا ولم يتنازلوا قط، وذلك عندما أرسلتهما قريش بهدايا ثمينة للنجاشي وبطارقته، ليُسْلِم المهاجرين إليهم، أويطردهم ولا يأويهم في بلده.

فقالا: "أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت".

إلى أن قالت أم سلمة راوية هذه القصة: "ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض، ماذا تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائن في ذلك ما هو كائن".

وهذا هو الشاهد من تلك القصة.

وعندما لم تجدِ هذه المكيدة فكر عمرو بن العاص في مكيدة أخرى أشد من الأولى، كما قالت أم سلمة عندما أقر النجاشي بما جاء به ودعا إليه محمد وأصحابه قائلاً: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً"، فقال عمرو بن العاص: "والله لآتينه غداً أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم".

قالت: "ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه؛ قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: فلم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال فيه الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائن في ذلك ما هو كائن".

أبعد هذه المواقف، والثبات على المبادئ، يجيز أحد من الحكام يؤمن بالله واليوم الآخر لنفسه أن يتنازل عن شيء من شرع الله، أويتخلى عنه بسلوك طريق الموازنات والتنازلات، الذي جر على الأمة كل الويلات، أكثر هذه الاتفاقات وبالاً على الإسلام والمسلمين اتفاقية كامب ديفيد، وأوسلو، ونيفاشا، تلك الاتفاقات المشؤومة المجحفة الظالمة، التي أزالت الحواجز النفسية بين الكفار والمسلمين، وجرأت أعداء الله على الأمة ومكتسباتها.

لو لم يكن لاتفاقية نيفاشا إلا فتنة دارفور لكفاها سوءاً، إذ هي ثمرة خبيثة من ثمارها.

ã

ثالثاً: رد المظالم

إذا أرادت الأمة الخروج من هذا النفق المظلم، والتخلص من تلك الفتن العمياء، والدواهي الصماء التي حلت بنا بما كسبت أيدينا، ينبغي علينا رد المظالم والتخلص منها، رعاة ورعية.

والظلم ظلمان:

أ. ظلم أكبر

وهو الشرك: "يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"، وهو أن يتخذ المرء مع الله نداً يصرف إليه شيئاً من العبادة، كالدعاء الذي هو مخ العبادة وأسها، والاستغاثة، والذبح، والنذر، والتحاكم لغير شرع الله، المتمثل في إقرار دستور السودان لسنة 1426هـ.

لقد كثرت الممارسات الشركية في بلادنا، وتبنت الدولة، واحتضنت، ومولت، ومدت كثيراً منها، إن رغباً أورهباً، وبعلل عليلة، نحو كسب أتباعهم، أوبأن ذلك كان واقعاً.

فالواقع إن كان مخالفاً للشرع فيجب على الحكام إزالته، وإن لم يستطيعوا إزالته فأضعف الإيمان أن لا يرعوه مادياً ولا معنوياً بالمشاركة في الحوليات، والموالد، ونحوها، وأكبر شاهد على ذلك شهود كبار المسؤولين لحولية البرعي في قاعة الصداقة قبل أيام.

إن من أوجب واجبات الحاكم حماية جناب التوحيد، ومحاربة الابتداع في الدين، وهذا قبل الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة: "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ".

ولا يظنن متوهم كما سبق أن هذا ليس وقت مناصحة، إذ المناصحة ليس لها وقت، فهي تتعين إذا حدث ما يوجبها، فلا يصح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

في موقعة شقحب: (لما جاء السلطان إليها لاقاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجعل يشجعه ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار، قال: يا لخالد بن الوليد!

فقال له شيخ الإسلام: لا تقل هذا، بل قل: يا الله! واستغث بالله ربك، ووحِّده وحده تنصر، وقل: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين! وما زال يطل تارة على الخليفة المستكفي بالله، وتارة على الملك الناصر بن قلاوون، ويهدئهما، ويربط جأشهما، حتى جاء نصر الله والفتح، وقال للسلطان: أنت منصور فاثبت!

فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله؛ فقال: إن شاء الله تحقيقاً، لا تعليقاً! فكان كما قال).

وكذلك نصح شيخ الإسلام لبعض القبوريين في بداية هجوم التتار على الشام، حيث قال قائلهم:

يا خائفين من التتـر               لوذوا بقبر أبي عمر

لوذوا بقبر أبي عمر               ينجيكم من الخطـر

فقال له شيخ الإسلام: والله لو كان أبو عمر حياً لما استطاع أن يفعل شيئاً ونحن في هذا الفساد العقدي والخلقي وعدم الاستعداد؛ فأخذ ينصح، ويوجه، ويحض على القتال والجهاد، حتى نصرهم الله على الأعداء.

فإذا كان شيخ الإسلام نصح للخليفة الحاكم في حال القتال ومواجهة العدو فكيف بمن سواه في حال الأمن أوالخوف؟!

ب. ظلم أصغر

وهو ظلم العباد بعضهم لبعض، وهو قسمان:

   قسم صادر من ولاة الأمر.

   وقسم صادر من العامة على بعضهم.

وكلاهما يجب رده والتخلص منه.

والظلم الصادر من ولاة الأمر أخطر على العباد والبلاد من ظلم بعضهم لبعض، ولهذا يجب على ولاة الأمر من العلماء أن ينصحوا فيه للحكام، ويكرروا فيه النصح، ولا ييأسوا من ذلك.

ã

يتمثل ظلم ولاة الأمر للرعية في الآتي

   فرض الضرائب والرسوم الباهظة

لا شك أنه يجوز لولي الأمر أن يفرض رسوماً على المستطيعين إذا دعى الحال، ولم تف موارد الدولة لحماية الثغور وصد العدو الصائل خاصة، وللقيام بالخدمات العامة، بشروط:

1.  أن لا يكون فيها إجحاف على الرعية.

2.  أن تفرض على المستطيعين دون الفقراء.

3.  أن يجتهد في ترشيد ما لديه من أموال.

4. أن يبدأ بنفسه إن كانت له أرصدة أوكانت له ممتلكات وعقار، فعليه أن يبيعها، فإن لم تف بعد التدبير، والإرشاد، والاقتصاد على الضروريات، جاز أن يفرض ما يمكنه من القيام بالواجبات.

5.  أن لا تكون هذه الرسوم ثابتة، وفي ازدياد مضطرد، ولكن حسب الحال.

قال إمام الحرمين: (فإذا مست الحاجة إلى استمداد نجدة الدين وحرسة المسلمين من الأموال، ولم يقع الاجتزاء والاكتفاء بما يتوقع على المغيب من جهة الكفار، وتحقق الاضطرار في إدامة الاستظهار، وإقامة حفظ الديار، إلى عون من المال مطرد دار، ولو عين الإمام أقواماً من ذوي اليسار، لجر ذلك حزازات في النفوس.. وإذا رتب على الفضلات والثمرات والغلات قدراً قريباً، كان طريقاً في رعاية الجنود والرعية مقتصدة مرضية.

ثم إذا اتفقت مغانم، واستظهر بأخماسها بيت المال، وغلب على الظن اطراد الكفاية، إلى أمد مظنون ونهاية، فيغض حينئذ وظائفه، فإنها ليست واجبات توقيفية، ومقدرات شرعية، وإنما رأيناها نظراً إلى الأمور الكلية، فمهما استظهر بيت المال واكتفى، حط الإمام ما كان يقتضيه وعفا، فإن عادت مخايل حاجة، أعاد الإمام منهاجه).

وعندما فرض أحد حكام المماليك رسوماً على العامة لمد الجنود وسد الثغور، اعترض عليه الإمام النووي قائلاً: عندك الكثير من العقار والبساتين، بع هذه، فإن لم تف بحاجة الجند فافرض على العامة.

من أوجب الواجبات على أهل العلم نصحهم لولاة الأمر، وسعيهم لرفع الظلم عن المظلومين من الرعية، إذ السكوت عن ذلك من المهالك الردية.

لم يقتصر دفاع العلماء على المسلمين، بل تعداه إلى المناداة برفع الظلم حتى عن أهل الذمة الذين يعيشون في الدولة الإسلامية، ومن أشهر العلماء الذين عرفوا بذلك:

ابن أبي ذئب.

الإمام الأوزاعي.

الإمام النووي.

شيخ الإسلام ابن تيمية.

القاضي أبو يوسف.

العز بن عبد السلام.

وغيرهم كثير، من ذلك:

روى الخطيب البغدادي بسنده إلى محمد بن القاسم بن خلاد قال: (قال ابن أبي ذئب للمنصور: يا أمير المؤمنين قد هلك الناس، فلو أعنتهم بما في يدك من الفيء؟ قال: ويلك، لولا ما سددت من الثغور، وبعثتُ من الجيوش، لكنتَ تؤتى في منزلك وتذبح، فقال ابن أبي ذئب: فقد سد الثغور، وجيَّش الجيوش، وفتح الفتوح، وأعطى الناس أعطياتهم من هو خير منك؛ قال: ومن هو، ويلك؟ قال: عمر بن الخطاب؛ فنكس المنصور رأسه، والسيف بيد المسيب، والعمود بيد مالك بن الهيثم، فلم يعرض له، والتفت إلى محمد بن إبراهيم الإمام، فقال: هذا الشيخ خير أهل الحجاز).

ولهذا كان الإمام أحمد يفضله ويقدمه على مالك، لتقدمه عليه في الأمر والنهي.

ومن الذين كانوا يتبنون مصالح العامة ويدافون عنها، ويعملون على رفع الظلم عن المظلومين، والمعاناة عن الفقراء والمساكين، الإمام الأوزاعي.

فقد كتب مرة للخليفة المهدي العباسي: أن المرتبات التي تصرفها الدولة لأهل ساحل الشام المرابطين لا تفي بحاجاتهم الضرورية، مع أنهم يقفون على ثغور الإسلام البحرية المطلة على البحر الأحمر.

كذلك كتب للمهدي عندما غلت الأسعار بمكة، وكان ولياً لعهد أبيه المنصور، يطلب إعانتهم وإلا هلكوا جوعاً، مذكراً له بما كان يقوم به عمر بن الخطاب عام الرمادة عندما حلت المجاعة بالمسلمين، إذ كان إدامه الزيت مثل العامة، وكان يخاطب نفسه عندما كانت تغرغر من الجوع قائلاً: غرغري ما تغرغرين، والله لا تأكلين إلا كما يأكل الناس.

كذلك لما أجلى صالح بن علي المتوفى 151هـ والي الشام لبني العباس نصارى أهالي جبل لبنان بجريرة بعضهم، كتب إليه الأوزاعي قائلاً: (كيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: "من ظلم معاهداً، أوكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه").

كذلك ممن عنوا بمصالح الضعفاء والفقراء من المسلمين وغيرهم القاضي أبو يوسف، تلميذ الإمام أبي حنيفة، فهو (ممن اهتم بالمستضعفين من الفلاحين، ودافع عنهم، وطالب بتحقيق العدالة في معاملتهم، ومحاسبة الجباة إذا أساءوا إليهم، وذلك في كتاب "الخراج" الذي ألفه للخليفة العباسي هارون الرشيد).

وممن عنوا بهذا الأمر كذلك الحافظ ابن كثير، صاحب التاريخ والتفسير، المتوفى 774 هـ، عندما وقف في مواجهة المرسوم السلطاني بمصادرة أملاك أهل الذمة داخل البلاد، انتقاماً لما صنعه الفرنج في هجومهم على الإسكندرية 767 هـ، فنصح ابن كثير السلطان بتعطيل القرار لمخالفته الشريعة، والتزم السلطان به.

ومن الذين كانوا يعملون لرفع الظلم عن العامة العز بن عبد السلام، عندما داهم التتار بلاد الشام (ضاقت بالسلطان وعساكره الأرض، استشاروا الشيخ عز الدين رحمه الله، فقال: اخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر؛ فقال السلطان: إن المال في خزائني قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار؛ فقال له الشيخ عز الدين: إذا أحضرتَ ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته سكة ونقداً، وفرقته في الجيش، ولم يقم بكفايتهم، ذلك الوقت اطلب القرض، أما قبل ذلك فلا؛ فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ، وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة، بحيث لا يستطيعون مخالفته، فامتثلوا أمره، فانتصروا).

الذي مكن العلماء من القيام بهذا الواجب العظيم احترام وتقدير الحكام لهم، وتقريبهم منهم، لا كما يفعل حكامنا اليوم، فهم مقربون للعلمانيين، ومبعدون للعلماء الشرعيين، إلا لمن انصهر في بوتقتهم، ودافع وبرر لكل ما يقومون به.

ولخطورة الظلم وضرره المتعدي على العامة والخاصة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة.

ã

الأمور التي ينبغي للدولة أن تعيد فيها النظر، لرفع المعاناة والظلم عن العامة كثيرة، ولكن في مقدمتها ما يأتي

1.  فئات الضرائب، سيما على محدودي الدخل، مما يدخلها في دائرة المكوس المحرمة شرعاً.

2.  فئات "الجمارك"، فهي باهظة جداً، مما يدخلها كذلك في دائرة المكوس المحرمة شرعاً.

3.  رسوم ترخيص السيارات الجدد، وتجديدها للخاص والتجاري على حد سواء.

4.  غرامات المخالفات المرورية.

5.  رسوم المياه.

6.  سعر الكهرباء.

7. التعدي في أخذ الزكاة، بأخذ الزكاة من أموال لا تجب فيها الزكاة، نحو الخضر، والفواكه، والعلف، والمال المستفاد، اعتماداً على الأقوال المرجوحة والشاذة.

8.  أسعار الوقود.

هذا كله مع التشديد والتعسف في تحصيلها وإنزال العقوبات بمن عجز عنها.

أيها الحكام ارحموا من في الأرض يرحكمكم من في السماء، واحذروا دعوة المظلوم التي تفتح من أجلها السماء.

عندما حبس خالد بن برمك وولده قال: يا أبت، بعد العز صرت في القيد والحبس؟ فقال له: يا بني، الذي حبسنا دعوة مظلوم ظلمناه، سرت بليل ونحن عنها غافلين، ولكن الله تعالى لم يغفل عنها.

قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق ما أصاب البرامكة من الذل والهوان بعد العز والإكرام: (وكان الناس ينبذونهم بعد التسابق على أبوابهم، ويعتلونهم بعد الاستئناس بهم، فهل من مدكر بما حصل؟ وهل يعرف الناس قدر الدنيا، فيتقوا الله تعالى في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي جيرانهم، وفي مجتمعهم، ويتورع القوي من ظلم الضعيف؟

توق دعا المظلوم  إن  دعـاءه              ليرفع فوق السحب  ثم  يجاب

توق دعا من ليس   بين دعـائه              وبين إله العالمين  حجــاب

ولا تحسبن الله    مطرحــاً له              ولا أنه لا يخفى عليه خطاب

فقد صح أن قـال   وعــزتي              لأنصرن المظلوم وهو مئاب

فمن لم يصدق  ذا  الحديث فإنه              جهول  وإلا عقله  فمصـاب).

أخرج ابن عبد الحكم من رواية أبي حبيب قال: (وكان رجل ممن كان يخرج مع عمرو بن العاص حين خرج من الشام إلى مصر أصيب جمله، فأتى عمراً يستحمله، فقال عمرو: تحمل مع أصحابك حتى نبلغ العامر، فلما بلغوا العريش جاء فأمر له بجملين، ثم قال له: لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكوا وهلكتم).

فالعدل واجب مع المسلم والكافر، وفي السخط والرضا، كما أن ذكر الله واجب بالقول والجنان.

ã

رابعاً: الفساد الخلقي

الفساد الخلقي هو صنو الفساد العقدي، وهو سبب من أسباب الخذلان.

قدم وفد على عمر بن الخطاب بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار؛ قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار؛ فقال: إننا لله! أوقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره!! والله إن كان هذا إلا عن ذنب أحدثتموه بعدي، أوأحدثته بعدكم، ولقد استعملت يَعْلى بن أمية على اليمن أستنصر لكم بصلاحه.

فالمعاصي بريد الكفر.

لقد انتشر الفساد الخلقي، فقد خرجت النساء كاسيات عاريات، واختلطن بالرجال في المدرجات، والحافلات، والاحتفالات، وانتشرت الملاهي، واستحل الغناء والموسيقى، بل أقيمت إذاعات خاصة للسماع بنوعيه الصوفي وغيره، وزينت الشوارع والمحال بالصور العاريات.

فإذا أردنا النصر على الأعداء فلابد من إيقاف هذا كله، ونهي الناس عن ذلك، وردع المصرين عليه، وحبس القائمين عليه.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت                    فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

عندما سئل مالك عن الغناء قال: إنما يفعله عندنا الفساق؛ وقال عنه أحمد: ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل؛ وقد أجمعت الأمـة على تحريمه، ونقل الإجمـاع العديد من أهل العلم، منهم ابن القيم، ومنهم ابن حجر الهيثمي، والطرطوشي المالكي، وغيرهم كثير.

ولهذا فلا يلتفت لبعض الزلات والهفوات التي صدرت من بعض أهل العلم، كابن حزم، وكالصوفية في إباحة السماع الصوفي، الذي هو أشد حرمة من الغناء، لأنهم يظنون أنه يقربهم إلى الله، وهو يباعد بينهم وبين الله، ويبغِّضهم إلى الله عز وجل.

ã

خامساً: الخوض في مال الله بغير حق

ويتمثل ذلك في أمرين، هما:

1.  عدم محاسبة المتعدين على المال العام محاسبة شديدة صارمة.

2.  عدم ترشيد الإنفاق، نحو:

   الإنفاق على دواوين الحكومة وبعض مؤسساتها.

   الاحتفالات السنوية العديدة.

   الإسراف في الإنفاق على مؤتمر الأفارقة الفائت هذا، وعلى الخرطوم عاصمة الثقافة.

رحم الله عمر بن الخطاب، الذي حج عشر حجات، وكان منزله تحت ظل شجرة، وفي موسم من المواسم قال لغلامه: كم أنفقنا في هذا الموسم؟ قال له: سبعة عشر درهماً؛ فقال له: ويحك، لقد أنهكنا بيت مال المسلمين!

وعندما جاء الشعراء المداحون بعد تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة حجبهم عنه، ولم يسمح إلا لجرير بعد شفاعة رجاء بن حيوة فيهم، فدخل ومدحه بقصيدة، وقال له: لا أجد لك في بيت المال حقاً، ولكن أملك مائتي درهم أعطيك نصفها.

وتذكروا أيها الحكام قول نبيكم: "ربَّ متخوض في مال الله اليوم له النار غداً".

هل تعلمون أيها المسؤولون أن ورثة الخليفة عمر بن العزيز كانت سبعة عشر ديناراً لا غير؟!

ã

سادساً: مراقبة وسائل الإعلام

من المصائب التي جرتها اتفاقية نيفاشا المشؤومة والدستور العلماني على الإسلام وأهله في السودان أن فتح المجال للكفار والمنافقين والمفسدين في الأرض، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا في سائر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فقد أضحى يعرض ويكتب ويشاهد في تلك الوسائل من الكفر البواح، نحو إباحة الردة، وإنكار حدها، وتمجيد الزنادقة، والاحتفاء بذكرى إقامة الحد عليهم، محمود محمد طه مثلاً، والدعوة إلى الرذيلة المتمثلة في بث المسلسلات، ونشر الصور العاريات، والمجلات الفاضحات، وشغل الوسائل السمعية والمرئية بالأغاني والسماع الصوفي، وكلها من الكبائر المحرمات.

كل هذا يحدث على مرأى ومسمع من المسؤولين، بغير رقابة ولا محاسبة.

ومن العجيب أن يكون الشغل الشاغل لإحدى الفضائيات، النيل الأزرق، محاربة سنة من سنن الفطرة التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ختان الأنثى السني، وجعل ذلك من العادات الضارة التي تبرعت المنظمات الكنسية على محاربتها تحت مظلة الختان الفرعوني المحرم شرعاً وذي المضار العديدة.

بل إن ما ينشر ضد السودان كبلد وأمة من الشيوعيين وأذنابهم ومن السياسيين الموتورين مما يندي له الجبين، بل غدوا يصرحون بشماتتهم على الإسلام والمسلمين، وعلى السودان كبلد وكأمة من غير حياء، ولا وجل، ولا خوف من الله، ولا من المسؤولين، تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، حيث أضحت هذه الوسائل وسائل هدم للعقيدة والثوابت والأخلاق، وللإضرار بأمن الأمة القومي وبمصالح البلد.

واستوى في ذلك بعض المنتسبين إلى الإسلام مع المنسلخين عنه، فالكل يعمل على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، الإسلام بالسودان الجديد المتنكر للدين.

ã

سابعاً: التخلي عن الأفكار المنحرفة والأقوال الشاذة

على الرغم من صرف الترابي عن سدة الحكم إلا أن فكره المنحرف، وآراءه وأقواله الشاذة، وممارساته في السياسة هي السائدة، سيما في جوانب:

1. إقرار الدستور العلماني، إذ دستور 2005م هو نفس دستور 1998م، زائداً ماجاء من سوءات في اتفاقية نيفاشا الجائرة الظالمة.

2.  المرأة.

3.  الفن.

4.  النظرة الحزبية الضيقة.

5.  المراوغات السياسية.

6.  الغايات تبرر الوسائل.

7.  إقصاء أهل الدين، وتقريب العلمانيين، والشيوعيين، والنفعيين.

8.  انعدام الشورى.

9.  عدم المحاسبة.

10.  اتباع سياسة التنازلات والمساومات.

11.  تقديم الولاء للأشخاص الحاكمين على الولاء لله والدين.

12.  عدم الالتفات وعدم الحرص على النصيحة.

ã

ثامناً: فتح المجال للكفار

من المآخذ الخطيرة على هذا الوضع فتح المجال للكفار تحت مظلة المنظمات الكنسية العديدة، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، التي أصبحت أداة طيعة للأمريكان وأذنابهم من البريطان وغيرهم، إذ أضحى وجود الكفار في الخرطوم دعك عن الجنوب ودارفور وجوداً ملحوظاً أكثر من وجودهم قبل 1956م، وأصبحوا يجوبون العاصمة والأقاليم من غير رقيب ولا حسيب، يصورون، ويتجسسون، ويرصدون، ويغرون ضعاف النفوس بالمال والمناصب، ويفسدون الأخلاق، مستغلين في ذلك حاجة الفقراء، والمرضى، والمعوزين.

وفي ذلك خطر عظيم على الدين وعلى الوطن وعلى النظام الحاكم.

ã

تاسعاً: التضييق على العلماء، والأخيار، والمحتسبين

في مقابل ذلك نجد تضييقاً ومراقبة ومحاسبة على العلماء، وطلاب العلم، والأخيار، والمحتسبين، حيث لا يستطيع أحدهم أن ينكر منكراً أويعمل على إزالته صراحة إلا عد عمله هذا من التدخل في شؤون الآخرين، وهو منافٍ لحرية الفكر ولسياسة السودان الجديد (!!) الذي يريدون فيه أن يكون المنكر فيه معروفاً والمعروف منكراً، والسنة بدعة والبدعة سنة، وختان الأنثى السني من العادات الضارة التي تنبري لمقاومتها المنظمات الكنسية المشبوهة، وتحرم وزارة الصحة ممارسته، وتعلن عقوبة من يفعله، بينما يشجع هؤلاء إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، متمثلاً في تشجيع الاختلاط، والتبرج، والتفسح، والحد من سلطان النظام العام، الذي يعمل لصيانة الأخلاق، وللسعي لتطهير المجتمع من الرذائل والفواحش.

ã

خاتمة

وفي الختام أسأل الله أن تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وعقولاً سليمة.

واعلموا أيها المسؤولون أننا والله أنصح لكم من أهليكم، وخاصتكم، ومستشاريكم.

ورحم الله ابن أبي ذئب عندما سأله أبوجعفر المنصور قائلاً: ما تقول فيَّ؟ مرتين أوثلاثاً، فقال: ورب هذه البنية إنك لجائر.

ورحم الله أبا جعفر المنصور حيث لم يستنكف من هذه النصيحة، بل عندما أخذ الربيع بلحية ابن أبي ذئب انتهره أبو جعفر قائلاً له: كف يا ابن اللخناء؛ وأمر له بثلاثمائة دينار.

ثم قال ابن أبي ذئب لأبي جعفر المنصور: والله إني أنصح لك من ابنك المهدي.

إي وربي إنه أنصح له من أهله، ووزرائه الذين يزينون له الباطل.

والحذر الحذر الحذر أن تظنوا أن هذه الكلمات خرجت من متشدد، خاصة ونحن نعيش في عصر تيه، حيث التدليس والتلبيس تحت كلمات الحق التي يريدون بها باطلاً، نحو الدعوة إلى الوسطية تارة، والجمع بين الأصل والعصر تارة أخرى، التي أنشئت من أجلها المعاهد، وأقيمت الندوات، وعقدت المؤتمرات لتضليل الناس، ولطمس الحقائق، وتضييع الشرائع.

إذ الوسطية ما تركنا عليه سيد البرية، وصحبه الأخيار، حيث قال واصفاً الفرقة الناجية المنصورة التي تكون على ما كان عليه هو وأصحابه في ذلك اليوم، فما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

فقائل هذه الكلمات من الأمة الوسط حقاً، حيث دعى ويدعو إلى ما كان عليه السلف الصالح، والخلف الفالح، ومن سواهم ما هم إلا دعاة إلى أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها، والله علىما نقول وكيل وشهيد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك"، ورضي الله عن عمر القائل: "لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن طلب العزة في غيره أذله الله".

فالحذر الحذر من بُنَيَّات الطريق، ومن دعاة التنازلات والتلفيق، فهي بضاعة بائرة، وسلعة خاسرة: "ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".

000000000000000000

أيها السنيون احذروا أحفاد ابن سبأ، وابن العلقمي، وأبي طاهر القرمطي... الشيعة

فسيرة الشيعة في أئمة وعامة أهل السنة تتلخص في الآتي

الشواهد والأدلة على ذلك في الماضي والحاضر

أولاً: ما قام به أبو طاهر القرمطي يوم التروية في موسم حج 317هـ من قتل أهل الحرم وحجاج بيت الله الحرام

ملخص ما قام به هذا الرافضي الخبيث كما ذكر ابن كثير، والذهبي، وغيرهما

ثانياً: ما فعله الرافضة العبيديون بالعلماء في شمال إفريقيا

ثالثاً: مـا قـام به الرافضة بقيادة الوزير الرافضي ابن العلقمي من تعـاون وتجسس لصالح هولاكو التتري 656 ﻫ

ما قام به الرافضة في العراق من تهيئة الجو للغزاة، والتجسس لصالحهم على المقاومين، والعمل على قتلهم

أوجه الشبه بين غزاة عراق العروبة والإسلام بالأمس واليوم

 

الحمد لله الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، الذي يمهل ولا يهمل، الحكم العدل، لا معقب لحكمه، ولا رادَّ لفضله، وصلى الله وسلم على نبيه الخاتم، الذي حذر من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، القائل: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة، ولعائن الله مصحوبة بغضبه على المبغضين لأئمة الهدى، ومصابيح الدجى، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ما غاب نجم وأضاء سماء.

وبعد..

فإن الجرائم البشعة، والأعمال الكفرية القبيحة، التي قام بها الرافضة في عراق العروبة والإسلام في هذه الأيام، من موالاتهم الكفار، وتجسسهم لصالحهم ضد المسلمين الأخيار، والحكم نيابة عنهم، إمعاناً في الذل والحقار، وهدم بيوت الله، وقتل المصطفين الأخيار من العلماء، والخطباء، وأئمة المساجد الفضلاء، والمؤذنين الأبرياء، لتدل دلالة واضحة على أن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما فعله أحفاد ابن سبأ، وابن العلقمي، وأبي طاهر القرمطي، لا يقل عما قام به سلفهم الطالح ضد الإسلام والمسلمين، وهذا كله يصدق المثل القائل: "العصا من العصيّة، ولا تلد الحية إلا حية".

ما حل بعراق العروبة والإسلام في هذا العصر على أيدي تتار ومغول هذا العصر الأمريكان وأذنابهم من البريطان، ومن والاهم من المنتسبين إلى الإسلام، في حربهم الصليبية ضد الإسلام والمسلمين، لا يقل عما حل به على يد التتار في سنة 656هـ، وما حل من قبل بحرم الله وحجاج بيته في موسم 317هـ، على يد الطاغية أبي طاهر القرمطي لعنه الله ومن والاه، لنعلم جميعاً أن الرفض ملة واحدة، وعقيدة خاسرة، وأن عداوتهم للسنة وأهلها لا تدانيها عداوة، وأن كل النكبات التي حلت بالإسلام والمسلمين في الماضي والحاضر وراءها أيد خبيثة من هؤلاء القوم، بما في ذلك ما حل بأئمة الهدى من آل البيت، علي وبنيه الحسن والحسين رضي الله عنهم، كما بيَّن ذلك العلماء الثقات، والمؤرخون الأثبات، ابن تيمية، والذهبي، وابن كثير، وابن العربي، وما المآتم والعويل الذي يفعلونه ويقيمونه في كل عام إلا شعور بذلك الذنب العظيم، والجرم الكبير، وخداع، وغش للسذج والمغفلين من أهل السنة.

بل يغني عن هذا وذاك حكم أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين فيهم، ولا ينبئك مثل خبير، فقد ابتلي هذا الإمام الكبير بأخس طائفتين في الوجود، وأخطر بدعتين في الإسلام، الرفض الشيعة والخروج، فالرافضة عبدوه، وادعوا العصمة له ولآل بيته، وخذلوه، والخوارج كفروه وقتلوه.

ã

فسيرة الشيعة في أئمة وعامة أهل السنة تتلخص في الآتي

1. بغضهم وانتقاصهم، بل وتضليلهم وتكفيرهم لكبار الصحابة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وحفصة، وغيرهم، وقد أمروا بالترضي عليهم، بل لهم ورد يومي، وبئس الورد المورود، وناقل الكفر ليس بكافر: "اللهم العن صنمي قريش، وطاغوتيهما، وابنتيهما"، ويعنون بذلك أبا بكر، وعمر، وعائشة، وحفصة رضي الله عنهم.

ولله در الإمام ابن القيم وهو يعلق على آخر آية من سورة الفتح: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ": (ثم ذكر سبحانه رسولَه وحزبَه الذين اختارهم له، ومدحهم بأحسن المدح، وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل، فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة، والإنجيل، والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم: إنهم متغلبون، طالبو ملك ودنيا، ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هديهم، وسيرتهم، وعدلهم، وعلمهم، ورحمتهم، وزهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة، قالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء؛ وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم، والرافضة تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها، و"مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا").

2. خداع أهل السنة ومنافقتهم، عملاً بـ"التقية"، فهم يستبيحون الكذب على أهل السنة إلى أن يتمكنوا.

3. التنسيق مع الكفار والمنافقين وسائر أعداء الدين ضد أهل السنة، (تنسيق وتعاون الوزير الرافضي ابن العلقمي مع هولاكو التتري، وتنسيق الشيعة في العراق مع الغزاة الأمريكان والبريطان في هذا العصر).

4. اغتيال أئمة أهل السنة قديماً وحديثاً، (وما يجري الآن في العراق أكبر شاهد على ذلك، وقبل حين اغتيال العالم الباكستاني السني الشيخ إحسان إلهي ظهيري).

5. هدم وحرق مساجد أهل السنة وتدميرها، ورعاية المشاهد والحسينيات الذي يجري الآن في العراق على مسمع ومرأى من الحكام العملاء في العراق، وتوجيه من الغزاة، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال عن الرافضة: (يخربون المساجد ويعمرون المشاهد).

6. تكفير أهل السنة ووصفهم لهم بالوهابية، والتكفيريين.

7. قتل أهل الإسلام، وإهانتهم، وإذلالهم، والتجسس عليهم، وموالاة واحترام وإجلال الكفرة والمنافقين.

ã

الشواهد والأدلة على ذلك في الماضي والحاضر

الأدلة على ما ذكرنا لا تحصى كثرة، ولكن سنشير إلى طرف من ذلك، وفي ذلك غنى وكفاية لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد.

من ذلك:

أولاً: ما قام به أبو طاهر القرمطي يوم التروية في موسم حج 317هـ من قتل أهل الحرم وحجاج بيت الله الحرام

يقول الحافظ ابن كثير المفسر الكبير، والمؤرخ القدير وهو يؤرخ لعام 317هـ، تحت باب "ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم، وما كان منهم إلى الحجيج": (فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة، وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة وهو يقول:

أنــــا الله  وبالله  أنــــا                يخلق الخلق وأفنيهم أنــــا

فكان الناس يفرون منهم، فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً، بل يُقتلون وهم كذلك، فيطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:

ترى المحبين صرعى في ديارهم                كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم في الحرم وفي المسجد الحرام).

ã

ملخص ما قام به هذا الرافضي الخبيث كما ذكر ابن كثير، والذهبي، وغيرهما

1. هدم قبة زمزم.

2. قلع باب الكعبة وأخذه معه.

3. نزع كسوة الكعبة، وشققها بين أصحابه.

4. أمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقلعه، فسقط على أم رأسه إلى جهنم مذموماً مدحوراً.

5. قلع الحجر الأسود وأخذه معه إلى الإحساء، وجلس عنده مدة اثنتين وعشرين سنة، ثم ردوه بعد ذلك في 339هـ، وقالوا: أخذناه بأمر ورددناه بأمر؛ أي أمر شيطاني، لعله من العبيديين الذين كانوا يحكمون مصر وشمال إفريقيا لأنهم هم الذين أمروهم بذلك، لأن هذا الصنيع زاد من بغض وكراهية المسلمين لهم، وكشف عن باطنهم الخبيث.

6. قتلوا أكثر من ثلاثين ألفاً من الحجاج وغيرهم من أهل الحرب.

7. قتلوا أمير مكة ومن معه الذين خرجوا يطلبون منه رد الحجر الأسود إلى مكانه.

8. لم يكن هناك حج هذا العام ولم يقف أحد بعرفة.

9. نهبوا أموال الحجاج وأهل مكة.

10. دخل عدو الله أبو طاهر بحصانه الحرم وبال فيه.

11. سبي الحريم والذرية.

12. استبطأ عقوبة الله وسخر من حلمه، حيث قال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من السجيل؟ أين قوله: ومن دخله كان آمناً؟ فردَّ عليه أحد العلماء وقال له: المراد بهذه الآية: على الحكام والأمراء أن يؤمِّنوا من دخله.

13. قال بعض الأسرى من المحدثين: إن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة، وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر، قال: فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقول في محمدكم؟ فقلت: لا أدري؛ فقال: كان سائساً؛ ثم قال: ما تقول في أبي بكر؟ فقلت: لا أدري؛ فقال: كان ضعيفاً مهيناً، وكان عمر فظاً غليظاً، وكان عثمان جاهلاً أحمق، وكان علي ممخرقاً، ليس عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم، أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة؟ ثم قال: هذه كله مخرقة؛ فلما كان من الغد قال: لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحداً؛ ذكره ابن الجوزي في "منتظمه".

وقال الذهبي: (عدو الله ملك البحرين، أبو طاهر القِرْمطي الأعرابي الزنديق الذي سار إلى مكة في سبعمائة فارس، فاستباح الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة يصيح:

أنــــا الله  وبالله  أنــــا                يخلق الخلق وأفنيهم أنــــا

فقتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وسبى الذرية، وأقام بالحرم ستة أيام.

بذل السيف في سابع ذي الحجة، ولم يعرِّف تلك السنة).

ã

ثانياً: ما فعله الرافضة العبيديون بالعلماء في شمال إفريقيا

قال الإمام الذهبي: (قال أبو الحسن القابسي، صاحب الملخص: إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد، ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فقال سهل الشاعر:

وأحل دار النحر في أغـلالِه                      من كان ذا تقوى وذا صلوات

ودفن سائرهم في المنستير، وهو بلسان الفرنج: المعبد الكبير، وكانت دولة هذا بضعاً وعشرين سنة.

إلى أن قال: وفي أيام المهدي، عاثت القرامطة بالبحرين، وأخذوا الحجيج، وسبوا واستباحوا حرم الله، وقلعوا الحجر الأسود، وكان عبيد الله يكاتبهم، ويحرضهم، قاتله الله).

هذه قتلة جماعية واحدة، هذا بجانب العديد من علماء أهل السنة الذين استباح هؤلاء الخبثاء دماءهم، وأموالهم، وأعراضهم.

ã

ثالثاً: مـا قـام به الرافضة بقيادة الوزير الرافضي ابن العلقمي من تعـاون وتجسس لصالح هولاكو التتري 656 ﻫ

كان لتعاون وتحريض وتجسس هذا الوزير الخائن لهولاكو أكبر الأثر في غزو بغداد وتدميرها، وقتل الخليفة العباسي وسائر العلماء، والقضاة، والمشايخ، ويتمثل ذلك في الآتي:

1. قلص الجيش من مائة ألف إلى عشرة آلاف، ومن تبقى لم يعطهم استحقاقاتهم، مما اضطرهم إلى التسول في الأسواق وعلى أبواب المساجد، كما قال ابن كثيـر: (وذلك كله عن آراء الوزيـر ابن العلقمي الرافضي).

2. خرج إلى معسكر هولاكو وبيَّن له مواطن الضعف، وحدد له المسالك التي يمكن أن يسلكها.

3. أخرج له الخليفة، والعلماء، والقضاة، والصلحاء، فقتلهم جميعاً قبل أن يدخل إلى بغداد، بحجة مصالحة هولاكو.

قال ابن كثير: (فخرج بأهله أي الوزير وأصحابه، وخدمه، وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو لعنه الله، ثم عاد، فأشار على الخليفة بالرجوع إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة، على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة، والفقهاء، والصوفية، ورؤوس الأمراء والدولة، والأعيان)، فقتلوا جميعاً بما فيهم الخليفة وأهل بيته شر قتلة.

4. أشار على هولاكو ألا يصالح الخليفة قائلاً: (متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أوعامين، ثم يعود الأمر على ما كان عليه قبل ذلك.

5. أشار على هولاكو بقتل الخليفة وآل بيته.

ã

ما قام به الرافضة في العراق من تهيئة الجو للغزاة، والتجسس لصالحهم على المقاومين، والعمل على قتلهم

لقد قام الرافضة في العراق بالتعـاون مع بعض المنافقين من الأكـراد والنفعيين بما قـام به ابن العلقمي وزيادة، من حيث:

1. التعاون والتنسيق مع الغزاة قبل دخولهم العراق.

2. كشفوا لهم مواطن الضعف.

3. التجسس على أبطال المقاومة وإدلال الكفار الغزاة عليهم.

4. اغتيال العلماء، والدعاة، والأئمة من أهل السنة.

5. الحكم نيابة عن الغزاة.

6. العمل على الدفاع وحماية الغزاة.

7. هدم مساجد أهل السنة، وإحراقها، واغتيال أئمتها ومؤذنيها.

8. التعتيم على خزايا الغزاة وجرائمهم.

ã

أوجه الشبه بين غزاة عراق العروبة والإسلام بالأمس واليوم

ما أشبه الليلة بالبارحة، والتاريخ يعيد نفسه من حيث الغزاة، والعملاء، والأغراض، والوسائل، ومن حيث المقاومين والضحايا الشرفاء.

1. فمن حيث قائد الغزو، فكلاهما هولاكو وبوش نمرودي، فرعوني، هاماني، ملؤه الحقد، والغرور، والصلف، والكبر.

2. ومن حيث الجنود فهم مرتزقة، مكرهون، مستعبدون للدراهم والدنانير أشقياء.

3. ومن حيث عقائدهم فهم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء.

4. ومن حيث الوزراء والمستشارون فهم في الحالين خونة.

5. ومن حيث العملاء فالجميع رافضة خبثاء، ومنافقون تعساء، وبائعون لآخرتهم بدنيا غيرهم بؤساء.

6. ووسيلة الجميع الإفساد في الأرض، وإزالة الأمن، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا والتمكين للعملاء.

7. ومن حيث الدوافع الهيمنة على الثروات، وتأمين الظهر لهم وللربائب والعملاء.

8. ومن حيث المقاومة فقوامها أبطال أهل السنة من الشباب الأوفياء الأقوياء.

9. ومن أسر من الأبطال فمصيره إلى القتل، أوالتعذيب، والحبس، وإهانة كرامته وإنسانيته، والتمثيل به، في المرتين سواء.

10. والمقاومون في كلا الحالين لم يجدوا عوناً إلا من رب الأرض والسماء.

11. التضييق على أهل السنة والتمكين للرافضة الخبثاء.

12. إشاعة الرعب والخوف في نفوس الأبرياء.

13. استباحة قتل المسلمين، حيث تراوح عدد القتلى في الماضي بين الثمانمائة والمليونين، وفي الحاضر لا يُعلم عددهم للتعتيم الإعلامي.

والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على نبي الملحمة، الداعي إلى تطهير العقائد، وتحرير العباد من عبادة الأهواء، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله، وصحابته الأوفياء، ومن سار على هديهم واقتدى بهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلينا وعلى كل من والا

0000000000000000000000

أيها السنيون السلفيون انتبهوا واتحدوا فأنتم المعنيون

الحرب الصليبية التي تشنها أمريكا وأذنابها وعملاؤها الآن في كل المسارات، عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، وإعلامياً، واجتماعياً، وحضارياً، تحت شعار كاذب ومصطلح خاسر هو محاربة الإرهاب، المعني بها أولاً وأخيراً الإسلام، متمثلاً في أهل السنة، نقاوة المسلمين، وهم كل ما سوى أهل الأهواء، وفي طليعتهم السلفيون، لحرصهم على دينهم وتمسكهم به، إذ هم الطائفة المنصورة، والفئة الظاهرة غير المدحورة، بشهادة الصادق المصدوق: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة وهم على ذلك"، "ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"، قالوا: ما الواحدة؟ قال: "ما أنا وأصحابي عليه اليوم".

وقد جزم الإمام أحمد وغيره أنهم هم أهل العلم بالحديث والآثار.

فأهل السنة هم الطائفة الوحيدة التي تعنى:

1.  بالعلم الشرعي، وتشتغل به، وتعمل على بثه ونشره.

2.  تصحيح العقائد من أدران الشرك.

3.  تعمل للتمكين لعقيدة الولاء والبراء.

4.  تسعى لتحقيق الواجبات الكفائية، التي إذا تركتها الأمة كلها أثمت، نحو:

أ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ب. رفع راية الجهاد المتمثل في جهاد الدفع، فهي رافعة للحرج عن جميع الأمة.

5.  تمارس وظيفة الدعوة إلى الله، التي هي وظيفة الأنبياء، والرسل، وورثتهم من بعدهم.

أما من سواهم، فهم إما أهل بدع كبرى أوصغرى، نحو:

1.  الرافضة والمرجئة.

2.  القبوريون.

3.  المنافقون، علمانيون بنكهاتهم المختلفة: قومية، وطنية، إسلامية.

4.  أهل فسق وفجور.

5.  أصحاب سلطان.

فهذه الأصناف ليس منها خوف على الكفار، ولا يضيرهم أن يحكموا بشرع الله المصفى أوبما سواه، بقدر ما يهم كثير منهم ممارساته لطقوسه، وأوراده، ورقصه، وتواجده، والبعض يريد تحقيق ما تهواه أنفسهم، والبعض الآخر لا يهمه إلا كرسيه وسلطانه.

أما فساد العقائد والأخلاق، واختلاط النساء بالرجال، وفشو البدع والمحدثات، والجهل بالمسلمات، والنصح للولاة، والعمل على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتزكية النفوس، ونحو ذلك فلم تشغل بالهم.

لذا عليهم أن يتحدوا، ويأتلفوا، ويجدوا، ويجتهدوا في الدفاع عن دينهم، والذود عن حياضهم، وصيانة حريمهم ونسائهم، وتوعية من يليهم، والأخذ بيد الظالم، حتى لا يعم البلاء، ولا يستجاب للدعاء، فالعاقل من اتعظ بغيره من العباد والبلاد، والجاهل من تمنى على الله الأماني، إلى أن يصبح عبرة للحاضر والباد.

اللهم ارفع البلاء، وأزح عنا الغلاء، اللهم لا تجعل للكافرين والمنافقين علينا وعلى المؤمنين سبيلاً، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى غيرك طرفة عين، ولا أقل من ذلك، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين

0000000000000000000

من الكفر البيِّن تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام تعبدي

مباحث في السياسة الشرعية

من الكفر البيِّن تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام تعبدي

"أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"

1.  المسار العسكري

2.  المسار التشريعي

3.  المسار التطبيعي

أ. عقيدة الإرجاء

ب. صدور كتاب من شيخ أزهري يؤصل لهذا الانفصام

ج. شبهة أن الحاكم لا يكفر وإن وضع دستوراً وقانوناً على غرار ما عند الكفاروحكم به، ما لم يعتقد إباحة ذلك بقلبه!!!

إقصاء الإسلام عن كل مناحي الحياة

ثالثة الأثافي

الخلاصة

 

الرافعون لهذا الشعار والداعون له صنفان:

1.  كفار ومنافقون.

2. وجهلة مغفلون منهزمون، أوتوا من تأثرهم بالمصطلحات والشعارات التي يرفعها أعداء الإسلام، هذا بجانب الانهزام النفسي، والاستكانة، والتقليد للكفار، فطالما أضحت النصرانية عبارة عن علاقة أخروية لا علاقة لها بشؤون الحياة الدنيا فما الذي يحول بيننا وبين ما صنعوا؟!

ولظنهم أن الإسلام السياسي هو من اختراع وخيال الجماعات الإسلامية، ولا أصل له في الإسلام، وذلك لغياب تحكيم شرع الله في كثير من البلاد منذ أمد بعيد.

والصنف الثاني هم الذي يعنينا شأنهم، أما الكفار والمنافقون فقد حدد الله عز وجل العلاقة بينهم وبين المؤمنين عند نزول قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ".

الإسلام كل لا يتجزأ، فمن جحد أي أمر مما ثبت عن الله ورسوله مهما كان هذا الأمر، دعك عن تحكيم شرع الله، فقد كفر: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا".

"أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".

"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ".

ما أسرع ما ينسى الناس أويتناسوا!!

كان الإسلام هو المنظم لجميع شؤون الحياة، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً مع قصور في جوانب عدة حيث لا يوجد تشريع غيره، إلى أن تآمر أعداء الإسلام من اليهود، والنصارى، والمنافقين، وقضوا على الدولة العثمانية في 1924م، ومن ثم تقسيمها إلى دويلات صغيرة بحدود سياسية وهمية، متكلفة، واستعمار الكفار لها، بعد ذلك أقصي الإسلام عن الساحة، وحصر في دائرة الأحوال الشخصية "فقه الأسرة"، ووضعت دساتير على غرار دساتير الكفار في فرنسا وغيرها، وأنشئت المحاكم التي تحكم بما يناقض شرع الله، وعمل الكفار على مسخ الأمة الإسلامية عقدياً، وسياسياً، وأخلاقياً، وعلى انسلاخها عن دينها عن طريق التعليم غير المرشَّد، والإعلام الإباحي.

هذا بجانب ما أحدثه التتار حيناً من الدهر، وإن اقتصر عليهم هم ولم يجاريهم في باطلهم هذا أحد من أهل الإسلام.

قال المقريزي رحمه الله في "الخطط" وهو يؤصل لمصلطح السياسة الذي ابتلي به المسلمون في هذا العصر: (واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة، حتى انتشرت بمصر والشام، وذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتار في بلاد الشرق، لما غلب الملك "أونك خان"، وصارت له الدولة، قرر قواعد وعقوبات، أثبتها في كتاب سماه "ياسة"، ومن الناس من يسميه "ياسق"، والأصل في اسمه "ياسة"، ولما تم وضعه كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، حتى قطع الله دابرهم.

وكان جنكيز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فكان "الياسة" حكماً بتاً في أعقابه، لا يخرجون عن شيء من حكمه.

ثم قال بعد ذكر أمثلة من سخافات هذه "الياسة": وجعل حكم "الياسة" لولده "جقتاي بن جنكيز خان"، فلمامات التزم من بعده من أولاده وأتباعهم حكم "الياسة"، كما التزم أول المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك ديناً لم يعرف عن أحد منهم مخالفته).

مما يدل على أن التغيير الذي أحدثه جنكيز خان، على الرغم من خطورة ما جاء به، وأنه لأول مرة في تاريخ الإسلام يُسن قانون على أنقاض الإسلام، إلا أن أثر ذلك كان محدوداً، لم يتعد هذه الفئة، فظل المسلمون على ما كانوا عليه، إلى أن صرف الله هؤلاء القوم عن ديار الإسلام، ما قاله الحافظ ابن كثير في تاريخه، مبيناً أن التحاكم لغير شرع الله بسن قوانين من وضع البشر كفر بواح مخرج عن الملة، وممثلاً لذلك بما وضعه جنكيز خان وألزم به أتباعه:

(وكما كان يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذة من ملكهم "سنكز خان" الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.

ثم قال: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى "الياسا" وقدمها عليه؟! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين).

وبما قاله الشيخ أحمد شاكر معلقاً على ما قاله الحافظ ابن كثير: (إن المسلمين لم يبلوا بهذا قط فيما نعلم من تاريخهم إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلامُ التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شريعته، وزال أثر ما صنعوا، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيء الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره).

لأن الإسلام كان قوياً في النفوس، والدين قد باشرت بشاشته القلوب، لم يستطع أحد من الناس أن يحول المسلمين على ما هم عليه عن وجهتهم الشرعية، بل لقد أثر المسلمون في أولئك الغزاة، وحولوهم إلى قوة ضاربة استطاعت أن تقيم دولة إسلامية في مناطق سيبيريا، خضعت لها روسيا البيضاء، وذلت، ودفعت لها الجزية عن يد وهي صاغرة لمدة ستة قرون.

وهذا يدل على أن الخطر ليس في الانهزام العسكري، وإنما في الانهزام النفسي، عندما يسيطر اليأس والقنوط على القلوب، ويزرع الفزع في النفوس.

هذا التقسيم الخبيث لم يكن وليد لحظة، وإنما كان نتيجة عمل دؤوب، وتخطيط بعيد المدى، ومحاولات شتى، وقد مر بمراحل عدة حتى استحكمت حلقاته، وقطف أعداء الدين ثماره، وتجرع المسلمون حنظله وعلقمه.

كانت مجهودات أعداء الإسلام للوصول إلى ما وصلوا إليه تقوم على مسارات عدة:

ã

1.  المسار العسكري

المتمثل في غزو التتار لديار الإسلام، وفي الحملات الصليبية المتعددة التي توجت بالمؤامرة التي شاركت فيها جميع قوى الشر للقضاء على الدولة العثمانية، وبالحرب الصليبية في هذا العصر، بقيادة أمريكا وأذنابها.

ã

2.  المسار التشريعي

المتمثل في وضع البدائل من الدساتير والقوانين، وقد بدأ هذا المشوار بـ:

أ.   "الياسق، أوالياسة"، ذلكم البرنامج الشيطاني الذي وضعه جنكيز خان.

ب.    وضع الدساتير والقوانين على غرار الدستور الفرنسي وما شاكله.

ã

3.  المسار التطبيعي

وتمثل ذلك في الآتي:

أ. عقيدة الإرجاء

التي قصرت الإيمان على مجرد التلفظ بالشهادتين، أوالتصديق بالقلب، أومجرد المعرفة بالخالق.

لقد تسربت هذه العقيدة الخبيثة إلى الفرق الكلامية، نحو فرقتي الأشاعرة والماتريدية، اللتان ينتسب إليهما العديد من المسلمين، بجانب قطاع كبير يحمل نفس الفكر ويدافع ويجادل عنه من غير انتساب إليه.

على الرغم من أن عقيدة الإرجاء من البدع التي ظهرت في أول الإسلام، وأنها صنو عقيدة الخروج، لأنها ظهرت كرد فعل لها، إلا أن آثارها السلبية الكبيرة لم تظهر إلا في هذا العصر، وذلك لأسباب أهمها:

   ضعف العلم الشرعي.

   الفساد العقدي.

   إقصاء الإسلام عن الساحة.

   ضعف الوازع الديني.

   غلبة النعرات العرقية والوطنية.

ã

ب. صدور كتاب من شيخ أزهري يؤصل لهذا الانفصام

من الأسباب الرئيسة التي وطأت ومهدت لهذا الانفصام، ولهذا التقسيم الجائر، صدور كتاب للشيخ المصري علي عبد الرازق في 1925م إثر سقوط الدولة العثمانية، حيث سقطت في 1924م، ندد فيه بالخلافة الإسلامية، وزعم فيه أن الإسلام ليس فيه نظام للحكم، وإنما هو عبارة عن شرائع تعبدية.

وبلغت جرأته أقصاها حيث أراد أن يؤصل لهذا التقسيم والانفصام في الدين، وطالت جرأته الخلافة الراشدة، فقد وصف الخليفة الراشد أبا بكر الصديق بأنه كان "أول ملك في الإسلام"، وأن "ملكه قام على أساس القوة والسيف"، وأن ذلك كان "أمراً مفهوماً للمسلمين حينما كانوا يتأمرون في السقيفة عمن يولونه أمرهم".

لقد كان لصدور هذا الكتاب أثر سيء، حيث تلقف ما جاء فيه من مزاعم وشبه أعداء الإسلام، لأنهم وجدوا فيه ضالتهم المنشودة، وكأن لسان حالهم يقول: "وشهد شاهد من أهلها"، و"وجدناها وجدناها".

لقد رد على هذه المزاعم الباطلة عدد من الذابِّين عن دينهم، منهم على سبيل المثال محمد ضياء الدين الريس في كتابه "الإسلام والخلافة في العصر الحديث"، وكتاب "النظريات السياسية الإسلامية" لمحمد ضياء الدين أيضاً.

على الرغم من أن الدولة العثمانية كانت عليها مآخذ، أهمها:

1. الفساد العقدي الذي كان متمثلاً في الممارسات الشركية وعدم الحد من ذلك.

2. الفساد الإداري.

3. الظلم الذي طال بعض الرعية.

وقد حدث ذلك واستشرى في عهد شيخوختها وهرمها، أما إيجابياتها فكثيرة جداً، منها:

1.  الفتوحات التي قام بها السلاطين الأوائل في شرق أوربا وغيرها.

2.  حصر الدولة الصفوية الرافضية من التوسع والانتشار.

3.  توحيد كل البلاد الإسلامية في دولة واحدة، وإن خرجت بعض الجيوب منها عملياً، ولكنها كانت تدين لها اسمياً.

4.  الأضرار التي لحقت بالأمة بعد سقوطها لا تساوي شيئاً بالنسبة لتلك المفاسد العظيمة التي أعقبت سقوطها.

5. المحافظة على الأراضي الإسلامية، حيث لم يتمكن اليهود من إقامة دولتهم إسرائيل، ذلكم النبت الشيطاني، إلا بعد أن قضوا على الخلافة العثمانية.

ولهذا رثاها العالَمُ الإسلامي في شخص شاعر العروبة وأمير الشعراء في وقته أحمد شوقي، مكفراً بذلك عما صدر منه من هجاء للسلطان عبد الحميد بمرثية عظيمة، جاء فيها:

عادت أغاني العرس رجع نواح              ونعيتِ بين معالم الأفــــراح

كفنتِ في ليل الزفــاف بثوبه               ودفنتِ عند تبلج الإصبــــاح

ضجت عليك مآذن و منــابر               وبكت عليك ممالك و نـــواح

الهند والهة و مصر حــزينة               تبكي عليك  بمدمع سحــــاح

والشام تسأل والعراق و فارس               أمحا من الأرض الخلافة مـاح؟

هتكوا بأيديهم قلادة فخــرهم               موشية بمواهب الفتــــــاح

نزعوا عن الأعناق خير قلادة                ونضوا عن الأعطاف خير وشاح

ã

ج. شبهة أن الحاكم لا يكفر وإن وضع دستوراً وقانوناً على غرار ما عند الكفار وحكم به، ما لم يعتقد إباحة ذلك بقلبه!!!

هذه الشبهة ثمرة من ثمار فتنة الخليج، علقت بأذهان ثلة من أهل العلم وطلابه من أهل السنة، وهي عبارة عن ردة فعل لأمور متوهمات، منها الخلط غير المتعمد بين إسداء النصح لولاة الأمر من غير تشهير، وبين الخروج عليهم، وبينهما ما بين المشرق والمغرب، علماً بأن من أهم قواعد أهل السنة المميزة لهم أنهم يحكمون على الناس بما ظهر منهم من أعمال وأقوال، أما ما أخفته الضمائر والسرائر فهم غير مسؤولين عنه، لأنه من باب التكليف بما لا يطاق، الذي نزهت عنه هذه الشريعة.

وقد أحدثت هذه الشبهة فتنة عظيمة وشرخاً، وزرعت سوء الظن بين صفوف العاملين في مجال الدعوة، وعددت المرجعيات، ووسعت دائرة الخلاف.

لكن مشايخنا ممثلين في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وفقهم الله -  سرعان ما هرعوا وبينوا خطل هذه الشبهة بياناً شافياً، فقضوا على هذه الفتنة في مهدها في فتاوى عدة، والذي يتعلق ببحثنا هو بيان من لجنة البحوث العلمية والإفتاء بشأن كتاب بعنوان "الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير" لكاتبه خالد علي العنبري، حيث قالوا عنه:

(الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد..

فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على كتاب بعنوان "الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير" لكاتبه خالد العنبري، وبعد دراسة الكتاب اتضح أنه يحتوي على إخلال بالأمانة العلمية فيما نقله عن علماء أهل السنة والجماعة، وتحريف للأدلة عن دلالتها التي تقتضيها اللغة العربية، ومقاصد الشريعة، ومن ذلك ما يلي:

1.  تحريفه لمعاني الأدلة الشرعية، والتصرف في بعض النصوص المنقولة عن أهل العلم، حذفاً أوتغييراً، على وجه يُفهم منها غير المراد أصلاً.

2.  تفسير مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.

3. الكذب على أهل العلم، وذلك في نسبته للعلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ما لم يقله.

4. دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام، إلا بالاستحلال القلبي، كسائر المعاصي التي دون الكفر، وهذا محض افتراء على أهل السنة، منشؤه الجهل، أوسوء القصد، نسأل الله السلامة والعافية.

وبناء على ما تقدم، فإن اللجنة ترى تحريم طبع الكتاب المذكور، ونشره، وبيعه، وتذكر الكاتب بالتوبة إلى الله تعالى، ومراجعة أهل العلم الموثوقين، ليتعلم منهم، ويبينوا له زلاته.

ونسأل الله للجميع الهداية، والتوفيق، والثبات على الإسلام والسنة، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو: عبد الله بن عبد الرحمن الغديان

عضو: بكر بن عبد الله أبو زيد

عضو: صالح بن فوزان الفوزان

الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ).

ã

إقصاء الإسلام عن كل مناحي الحياة

بسقوط الدولة العثمانية، وتقسيمها مستعمرات على الدول الكافرة، والسعي من أول وهلة لإبعاد الإسلام عن كل مناحي الحياة، وحصره في الشعائر التعبدية، وفي دائرة الأحوال الشخصية، التي قامت القيامة عليها في هذه الأيام، وسعت بعض الدول الإسلامية في المغرب العربي وغيره إلى تغيير فقه الأسرة، حتى تنتظم العلمانية كل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعائلية؛ كانت معاول الهدم الأساسية التي استخدمها المستعمر لهذا التغيير ما يأتي:

1.  تغيير النظام التعليمي، بحيث أصبح على غرار ما عند الكفار.

2.  استخدام وسائل الإعلام المختلفة لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ولتغيير سلوك الرجال والنساء.

3.  الفن بمناشطه المختلفة: السينما، المسرح، الغناء، التمثيل، وما شاكل ذلك.

4.تشجيع قيام الأحزاب العلمانية التي كانت شر خلف لشر سلف، فلم يخرج المستعمر حتى اطمأن إلى أن الأمور ستؤول إلى من رباهم على يديه.

5.  سن الدساتير والقوانين الوضعية التي حلت محل الشريعة الإسلامية.

6.  التضييق على العلماء، والمصلحين، والدعاة، بالسجن، والحبس، والقتل، والتشريد، والهجرة إلى الخارج.

7.  تشجيع الفساد العقدي والأخلاقي، ورعايته، وتهيئة الجو له.

8.  العمل من أول وهلة على إخراج المرأة من بيتها، وتحللها من القيود الشرعية، بحجة تحريرها ومنحها حقوقها السياسية.

ã

ثالثة الأثافي

عندما اطمأن أعداء الإسلام من شيوعيين ومنافقين ومستغفلين إلى أن الجو تهيأ لهم زادت جرأتهم، ورفعوا عقيرتهم منادين بإبعاد الإسلام عن الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، إلى أن وصل الأمر إلى آخر المعاقل، وهو فقه الأسرة، ولهذا بدأوا يصرحون بما كانوا عنه يعرِّضون، ويظهرون من الكفر والنفاق ما كانوا يبطنون؛ وقد زاد في جرأتهم سيطرة أوليائهم من الكفار على زمام الأمور في البلاد الإسلامية، بعد شروع أمريكا في حربها الصليبية، وغزوها للدول الإسلامية واحدة تلو الأخرى، بمعاونة الخونة والمافقين، واستسلام جل حكام العالم الإسلامي وخضوعهم لها.

ماذا يعني تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام تعبدي؟

يعني ذلك الكفر بجل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، متمثلاً في:

1.     الكفر بكل آيات وأحاديث الأحكام.

2.     الكفر بالتحاكم لغير شرع الله عز وجل.

3.     استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

4.     التعاسة والمعيشة الضنكة في الدنيا.

5.     الردة عن الإسلام.

6.     الخيانة بتضييع الأمانة التي أورثنا إياها سلفنا الصالح.

7.     الجرم الذي سترتكبه الأمة بضياع نشئها والأجيال القادمة.

8.     استحقاق نزول الكوارث، والمحن، والفتن، بما كسبت أيدينا.

9.     سلوك مسلك اليهود والنصارى في التحريف والتبديل.

10.   الخسران المبين في الدنيا والآخرة.

11.   العودة إلى الجاهلية.

قال تعالى: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء، والأهواء، والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يصنعونها بآرائهم وأهوائهم.

إلى أن قال: فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"، أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ"، أي ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء).

ويقول الشيخ أحمد شاكر، ناعياً على الأمة تنكبها لدينها، واستبدالها الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأن الحال التي آل إليها أمر المسلمين في هذا العصر أسوأ من الحال التي غزا فيها التتار ديار الإسلام، وشرعوا فيها قانونهم المسمى "بالياسق": (ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه بذلك "الياسق" الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها أناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري"! ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً"، و"جامداً"، إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة.

إلى أن قال: إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائناً من كان في العمل بها، أوالخضوع لها، أوإقراراه، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه.

ألا فليصدع العلماء بالحق غير هايبين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين).

ã

الخلاصة

أن المناداة بحصر الإسلام في الأمور التعبدية، وجعله كالنصرانية، بتقسيمه إلى إسلام سياسي وآخر تعبدي، واعتقاد ذلك، من الكفر البواح المخرج عن الملة.

والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يرد كيد أعدائنا، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفنا مؤمنين، غير خزايا ولا مفتونين، وصلى الله وسلم على الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه وعنا معهم أجمعين

0000000000000000000

الاعتراف بالآخر كلمة حق يُراد بها باطل

أصناف الأمة

علاقة المسلم بالمسلم مستور الحال

عند الاختلاف

علاقة المسلم بالمبتدع

علاقة المسلم بالكافر

الخلط بين الأمور العقدية والعلاقات الشخصية

اختلاف المسلم مع المسلم

انصر أخاك ظالماً أومظلوماً

يرفع البعض في وجه أهل العلم شبهة عدم الاعتراف بالآخر، ورجوعهم إلى ما يقوله الآخر، مهما كانت درجة مخالفة قول الآخر للحق.

إذ الحق عند الله واحد لا يتعدد، كما هو مذهب العامة من أهل العلم المقتدى بهم، وكل مجتهد إن كان من أهل الاجتهاد أوالاتباع فهو مأجور، فإن وافق قوله الحق فله أجران، وإن جانب الحق فله أجر، أما الزعم بأن كل مجتهد مصيب فخطأ شائع.

لا إخال شريعة من الشرائع السماوية أوالأرضية اعترفت بحق الآخر كما هو في شريعة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جميع الخلق مسلمهم وكافرهم من أمته، فالمؤمنون المصدِّقون هم أمة الاستجابة، والكافرون المعاندون هم أمة الدعوة.

والكل من قبل ومن بعد عبيد الله عز وجل، بما في ذلك عبيد السوء المشركين التعساء.

والكل في الإسلام له حقوق وعليه واجبات، فبقدر أدائه للواجبات التي عليه ينال حقوقه، ويحصل على حظوظه.

ã

أصناف الأمة

1.  مسلمون، وهم قسمان:

أ. أهل سنة.

ب. وأهل قبلة

2.  مبتدعة، وهم قسمان:

أ. أصحاب بدع صغيرة.

ب. وأصحاب بدع كفرية كبيرة.

3.  كفار ومنافقون نفاق اعتقاد.

لقد جمع الله بينهم في مواطن: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"، "إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا"، "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"، لوحدة مصيرهما في الآخرة.

والكفار أقسام:

أ. ذميون.

ب. معاهدون.

ج. محاربون

ولكل قسم من هذه الأقسام حقوق وواجبات تختلف عن حقوق وواجبات القسمين الآخرين.

ã

علاقة المسلم بالمسلم مستور الحال

فالمسلم إن كان من أهل السنة، وهم كل من سوى أهل البدع من رافضة، وخوارج، ومرجئة، ونحوهم، وهم الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، والتصور، والمنهج، والسلوك، والعبادة، على الأقل من الناحية النظرية، كما جاء في وصف الفرقة الناجية: "الذين يكونون على ما أنا عليه وأصحابي اليوم".

وهؤلاء تجب موالاتهم موالاة كاملة بقدر الطاقة، أما إن كان المسلم من أهل القبلة، وقد عرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا".

فأهل القبلة اسم جامع لكل من نطق بالشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، ولم ينكر أمراً من أمور الدين المعلومة ضرورة، فإن جحد أمراً معلوماً من الدين ضرورة، وعلِّم بخطورة ذلك، وأزيلت عنه الشبه، ولم يرجع، فهذا ليس بمسلم.

وأهل القبلة تجب موالاتهم بقدر تمسكهم بالدين، ولجميع المسلمين سنيهم وأهل القبلة منهم الحقوق الكفائية التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ã

عند الاختلاف

عند الاختلاف على المسلمين جميعاً أن يردوا الأمر إلى الله ورسوله، إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة بحكم الله: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"، " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا"، وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".

الذي يحدث، أن كثيراً من المسلمين لا يلتزمون بذلك عند التنازع، لأسباب مختلفة، منها:

1.  الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.

2.  التأويلات المرجوحة والفاسدة لبعض النصوص الصحيحة.

3.  التقليد والتعصب لبعض الأئمة والقادة.

4.  اعتقاد البعض أن الاختلاف الخالي من الدليل حجة، ولهذا فله أن يتخير من أقوال الأئمة ما يشاء، وهذا هو عين اتباع الهوى.

5.  التشبث ببعض الزلات والسقطات لأهل العلم.

6.  ومنهم من تأخذه العزة بالإثم، ويستنكف عن قبول الحق.

7.  ومنهم من يعتقد أن الحق هو ما عليه عامة الناس الأغلبية.

8.  تقسيم البعض البدع إلى حسنة وقبيحة.

9.  التعصب للتقاليد والأعراف: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ".

10.  تباين المرجعيات واختلافها في هذه العصور المتأخرة.

هذه أهم الأسباب التي وسَّعت دائرة الخلاف بين المسلمين، وجعلت البعض يرمي بعض العلماء وطلاب العلم بأنهم لا يعترفون بالآخر، ويردون ذلك إلى الكِبْر والتعالي عليهم.

ã

علاقة المسلم بالمبتدع

البدع دركات، بعضها أخس وأقبح من بعض، منها بدع صغيرة، وأخرى متوسطة، وثالثة كفرية، وكلها ضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة".

فمن حيث النوع فالبدع نوعان:

1.   بدع ليست كفرية.

2.   وبدع كفرية.

ومن حيث أتباعها فهم نوعان كذلك:

1.   متسترون ببدعتهم.

2.   داعون مجاهرون ببدعتهم.

فأصحاب البدع غير الكفرية يعاملون معاملة أهل القبلة في الحقوق والواجبات، ويوالون بقدر قربهم من السنة.

أما أصحاب البدع الكفرية، فالمستترون يعاملون بما ظهر منهم، أما المجاهرون الداعون لبدعتهم فهؤلاء يجتهد في نصحهم وإرشادهم وإزالة الشبه العالقة بهم، فإن رجعوا إلى رشدهم فبها ونعمت، وإن أصروا هُجروا هجراً يكون زجراً لهم ولأمثالهم.

ولا ينبغي أن يجامل هؤلاء على حساب الدين، فسلوك أهل السنة مع هذا الصنف واضح، ومفاصلتهم لهم واجبة، وهي من أفضل القرب.

وليس لهجر أهل البدع حد، ولكن يختلف باختلاف الحال.

ومناظرة ومجادلة أهل البدع لا يخوض فيها إلا الراسخون في العلم، المتمكنون في الفقه والفهم.

ã

علاقة المسلم بالكافر

علاقة المسلم بالكافر حددها ربنا سبحانه وتعالى، حيث قال: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".

هذا فيما يتعلق بالكافر مشركاً كان أم كتابياً، فالكتابي يخيَّر بين:

أ. الدخول في الإسلام.

ب. البقاء على كفره مع دفع الجزية.

أما المشرك فلا يُقبل منه إلا الإسلام.

ومن رحمة الله عز وجل بالكفار أن أمرنا بدعوتهم، وشرع لنا الجهاد جهاد الطلب لإنقاذهم من النار، فالجهاد رحمة للمؤمنين والكافرين: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"، فترك المسلمين لجهاد الطلب فيه ظلم لهم وللكفار.

وعندما يُطلق الجهاد يراد به جهاد الطلب، حيث يخرج المسلمون يطلبون من الكفار الدخول في الإسلام، ويقاتلون من حال بينهم وبين العباد.

هذا كله بعد دعوتهم إلى الإسلام، وإمهالهم ثلاثة أيام، وتخييرهم بين ثلاثة أمور: الإسلام، الجزية، أوالقتال.

فالكفار بطوائفهم الثلاثة حقوقهم محفوظة مبينة في مظانها، ذميين كانوا أم معاهدين أم محاربين، وليت المسلمين يجدون معشار ما يجده الكفار من المسلمين.

ã

الخلط بين الأمور العقدية والعلاقات الشخصية

يخلط كثير من الناس بين العلاقات الشخصية الإنسانية وبين المسائل الدينية العقدية على وجه الخصوص، وبينهما ما بينهما من الفروق.

فالمسلم مطالب بحسن المعاملة مع الكافر غير المحارب، ومع المبتدع غير المعلن، فكيف مع المسلم مستور الحال؟! فالرفق، والتلطف، والحكمة، والموعظة الحسنة طريق الدعوة إلى الله.

قال تعالى: "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، وقال: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"، وقال: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل ذات كبد رطبة أجر".

لكنه في نفس الوقت نهى عن موالاة الكفار ولو كانوا أولي قربى: "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْأَبْنَاءهُمْ أَوْإِخْوَانَهُمْ أَوْعَشِيرَتَهُمْ".

مما يدل على الفارق بين الإحسان وحسن معاملة الكفار غير المحاربين من ناحية، وتوليهم والاعتراف بما يصدر منهم من كفريات من ناحية أخرى.

أما الكفار وأصحاب البدع الكفرية المعلنين والداعين لها، والفسقة المجاهرين بفسقهم، فلا مجال للاعتراف بما يقولون، ولا مجرد السماع إلى كفرياتهم وضلالهم، إلا لمن استطاع أن يرد عليهم ويغلظ لهم، عملاً بقوله تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".

ã

اختلاف المسلم مع المسلم

الاختلاف إما أن يكون:

1.   خلاف تنوع، فهذا الأمر فيه سهل ما لم يبغ أحد الطرفين على الآخر، فإن بغى أحدهما على الآخر فهنا يحدث ما لا تحمد عقباه.

وخلاف التنوع هذا على الرغم من أن منه ما هو راجح وما هو مرجوح، لكن ينبغي أن يسعنا فيه ما وسع سلف الأمة، حيث يكتفى فيه ببيان الراجح، ولا يتعدى الأمر فيه الهجر والمقاطعة.

2.  أما خلاف التضاد فالحق فيه واحد، نحو إمرار آيات وأحاديث الأسماء والصفات كما جاءت، من غير تأويل، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأن التأويل باطل ومردود مهما كان الدافع لذلك.

ومن أمثلة خلاف التضاد المحرم إباحة الغناء والموسيقى، وتولي المرأة الإمامة الصغرى والكبرى، لشذوذ من قال بذلك، وقد نهى الشارع الحكيم عن تتبع الشذوذات، والزلات، والهفوات.

أما المطالبة بالاعتراف بالآخر الذي يتمسك بتلك الزلات والهفوات، ويرد بها الأخبار الصحيحة المتواترة، فهذا من باب الظلم والجهل بمقاصد الشريعة.

فالذين يلومون في ذلك هم أولى باللوم، ويصدق عليهم قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت".

فثبت أن مرادهم بالاعتراف بالآخر الاعتراف بـ:

1.  الملل الكافرة، والأديان المحرفة المنسوخة.

2.  بالكفر والضلال.

3.  بالبدع والمحدثات.

4.  بالفجور والفسوق.

5.  بالتحلل والتفسخ من الثوابت.

6.  المداهنة والمنافقة.

7.  بموالاة من أمرنا الشارع بمعاداته، وهجره، وإبعاده.

8.  بالأخذ بالسقطات والزلات.

ألا يدل ذلك كله على أن المراد برفع هذا الشعار هو التلبيس، والتدليس، وطمس الحقائق، ونصرة الباطل، على العكس والنقيض مما أرشدنا إليه نبينا.

ã

انصر أخاك ظالماً أومظلوماً

فإن كان مظلوماً نصرته ممن ظلمه، وإن كان ظالماً أخذت بيده ونهيته عن الظلم، فذلك نصرك إياه، كما جاء في الحديث الصحيح، أما أن تنافقه، وتجامله، وتداهنه على حساب الشرع، فهذا لا يحل.

فالاعتراف بالآخر مهما كان نوعية هذا الآخر، ومهما كان الصادر منه كفراً، وضلالاً، وفسقاً، وفجوراً، مناقضٌ لهذا التوجيه النبوي.

وثمة آخر، وهو أن الآخر هذا إما أن يكون على حق فلا يضره رفض الآخرين له، وإما أن يكون على ضلال وخطأ فلا تنفعه موافقة جميع الخلق، بل تزيده خبالاً على خباله، بدخوله في الوعيد: "ومن سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً"، كما صحَّ بذلك الخبر.

الدعوة إلى الاعتراف بالآخر وإن كان كافراً، أومبتدعاً، أوفاسقاً، وإن كان ما جاء به كفر، وضلال، وخطأ، مخالف لما كان عليه سادات العلماء المقتدى بهم، أمثال الحسن، وأيوب، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم كثير، إذ لم يقف هؤلاء عند عدم الاعتراف بالآخر، بل تعدوه إلى اللعن، والهجر، والطرد.

   روي عن الحسن وأبي حنيفة أنهما قالا عن المعتزلي عمرو بن عبيد: "لعنه الله، ما أزهده"، فلم يمنعهما الاعتراف بزهده عن لعنه وطرده من رحمة الله.

   وطرد مالك أحد تلاميذ عمرو بن عبيد شر طردة من مجلسه، وقال له: "ما أراك إلا ضالاً"، وأمر بإخراجه من مجلسه.

   ورفض أيوب السختياني مجرد الاستاع لآية أوحديث من مبتدع، وعندما قال له المبتدع: اسمع مني كلمة؛ قال له: "ولا نصف كلمة، إما أن تقوم وإما أن أقوم".

   وزجر الشافعي حفصاً المعتزلي ولعنه، وقد جاء لعيادته، عندما قال له: عرفتني يا أبا عبد الله؟ قال له: "لا عرفك الله، ولا حيَّاك، ولا بيَّاك".

   ومنع عمر بن عبد العزيز دخول شعراء المبتدعة المتزلفين عليه، أمثال الفرزدق وجرير.

   ومن قبل جلد عمر وحبس صبيغاً لمجرد سؤاله عن المتشابه من القرآن، الذي لا يتعلق به حكم من الأحكام الشرعية، نحو سؤاله عن "الذاريات".

ولولا خوف الإطالة لأتينا بالعديد من النماذج التي تبين فساد هذا الادعاء وبطلانه، وأن عدم الاعتراف والرجوع إلى قول الآخر إذا كان مناقضاً للدين ومخالفاً للدليل الصحيح الصريح قربى إلى الله عز وجل.

اللهم أرنا الحق حقاً  وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وجنبنا اتباعه، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد القائل: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

0000000000000000000000

حرية الفكر صنم هذا العصر

أظهرت الأعمال الكفرية التي حثت عليها ونشرتها إحدى الصحف الدينماركية، وتناقلتها بعض الصحف في عدد من الدول الأوربية، أن الصنم الذي يعبده الكفار وطائفة من المنتسبين إلى الإسلام هو حرية الفكر، حيث برر المسؤولون في ديار الكفر لهذا العمل الإجرامي بحرية الفكر، وأنه لا ينبغي للدولة أن تحجر على أحد فيما يود نشره، ولو كان ماساً بسيد الأنبياء والمرسلين.

وليت القوم صادقون في هذا الادعاء، وليتهم أوفياء لإلههم "حرية الفكر"، ولكن دلت التجارب أنهم يشركون معه الصنم الأكبر، والإله الأخطر، الهوى: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا".

والأدلة على كذب هذا الافتراء لا تحصى كثرة، يمثل ذلك:

1.  اغتصاب اليهود لفلسطين.

2.  غزو أمريكا وأذنابها لأفغانساتان والعراق.

3.  حظر امتلاك الأسلحة النووية على المسلمين وإباحة ذلك للربيبة إسرائيل.

4.  منعهم المسلمين من رفع الأذان بمكبرات الصوت في أمريكا وأوروبا.

5.  منع وزير التعليم الفرنسي لفتاة مسلمة من دخول الجامعة لأنها غطت رأسها بفوطة.

6.  التعتيم الإعلامي، متمثلاً في ضرب أمريكا لمكتبي قناة الجزيرة في كل من بغداد وأفغانستان.

7.  رفع شعار معاداة السامية لكل من يعادي اليهود قتلة الرسل وأعداء الملة والدين.

وهذه مجرد أمثلة، ولو استرسلنا في إيراد المواقف التي تدل على سقوط الكفار في رفع شعار صنم الديمقراطية وحرية الفكر لاحتجنا إلى صفحات وصفحات.

هذه الدعوة الكافرة الكاذبة تقوم على أنقاض الدين الإسلامي: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ"، "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، لأنها سوَّت بينه وبين الأديان المحرفة المنسوخة من ناحية، وبينه وبين زبالات البشر من ناحية أخرى، وفي هذه التسوية خلل كبير وظل عظيم، فبجانب أنها كفر، فهي ظالمة، إذ من المعلوم ضرورة أن الفكر البشري منه ما هو طيب وهوما وافق الشرع الرباني، ومنه ما هو خبيث وهو ما ناقض الشرع.

ليس من الغريب أن يتخذ الكفار الهوى إلهاً، متمثلاً في حرية الفكر، وتقديس الديمقراطية، فليس بعد الكفر ذنب، ولكن الغريب العجيب أن يقلد طائفة من المنتسبين إلى الإسلام ذلك، بله بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، وإلى قيادات الجماعات الإسلامية، حيث تجدهم يجادلون، ويدافعون، وينافحون عن عقائد كفرية، وأعمال إجرامية، بدعوى حرية الفكر، والاعتراف بالآخر وإن أتى بالكفر البواح.

الأسباب التي دفعتهم لذلك كثيرة ومتعددة، لكن يمكن إجمالها في الآتي:

1.  الجهل المصحوب بالغرور والكبر.

2.  الخلط المتعمد وغير المتعمد بين الشورى الإسلامية والديمقراطية اللادينية.

3.  ردود أفعال من ممارسات بعض الحكام في دار الإسلام، مقارنة بالحرية المتاحة عند الكفار.

4.  التقليد والتشبه بالكفار.

5.  استغلال الكفار واستخدامهم لهم، من حيث يشعرون أولا يشعرون، وتبنيهم لهم، وفتح المجال لحضور المؤتمرات.

6.  الزخم الإعلامي، والتضليل، والتدليس الذي تولى كبره الشيوعيون وأذنابهم.

ليس من الغريب أن يخطئ الإنسان أويضل أويضلل، ولكن الغريب أن لا يفيق من ذلك من ذاته، وإذا نبِّه لم يتنبه، فمن لم تنبهه هذه التناقضات والكيل بمكاييل عدة فمتى ينتبه؟!

ورحم الله علياً عندما تمثل بهذا البيت، عندما نصح شيعته فلم يستجيبوا لنصحه إلا بعد فوات الأوان:

بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى                   فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

أما قومنا فلم يستبينوا النصح لا ضحى الغد ولا بعد غد، فقد عموا وصموا عن قبول الحق، ثم عموا وصموا كثيراً، فهم في جهالاتهم يترددون، وبناصحيهم مستخفون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فالعاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه، لكن هذا شأن وطريق كل من عبد هواه، واتخذه إلهاً يعبده من دون الله، إذ حرية الفكر تعني في مصطلح الشرع عبادة الهوى، فقد سبق القرآن هذه المصطلحات: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً".

وإلا فهل هناك من مجال للمقارنة بين:

1.  الوحي المنزل من عند الله وبين زبالات البشر؟

2.  دين الله الناسخ المهيمن وبين الأديان المحرفة المنسوخة؟ حتى يُدعى إلى تسويتها والتصالح معها سلمياً؟

3.  وبين من يعبد الله ويعبد هواه؟

4.  وبين من يعمل لآخرته ومن يبيع آخرته بدنياه، بل بدنيا غيره؟

5.  وبين من يعتد بشرع الله، ومن يطلب العزة فيما سواه؟

6.  وبين من يؤمن بجميع الكتاب ومن يتخير منه ما يهواه؟

7.  وبين من يحب الله ورسوله والسلف، ومن يحب الكفار، ويفضل هديهم وكلامهم وكلام المتكلمين والفلاسفة السفهاء؟

8.  وبين من يريد الرجوع إلى الدين الخالص ومن يريد الجمع بين المتناقِضَين، بين الأصل والعصر؟

من المصائب التي ابتلينا بها في هذا العصر تسمية الأشياء بغير مسمياتها من باب التدليس والتضليل، وترك المصطلحات الشرعية، نحو:

1.  غلبة مصطلح "العلمانيين" على المصطلح الشرعي "المنافقين".

2.  غلبة مصطلح "الغربيين" على المصطلح الشرعي "الكفار".

3.  غلبة مصطلح "المستنيرين" على المصطلح الشرعي "المتفلتين".

4.  غلبة مصطلح "حرية الفكر" على المصطلح الشرعي "اتباع الهوى.

5.  غلبة مصلطح "مفكر" في أحيان كثيرة على المصطلح الشرعي "مبتدع" أو"ضال".

هذا على سبيل المثال لا الحصر، فلابد من رد الأمور إلى نصابها، والرجوع إلى المصطلحات الشرعية، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وبالصراحة والوضوح، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

هذا الدين قوامه الصدق والوضوح، ولا يقبل التنازلات، ولا تصلح فيه المداهنات، والمخادعات، والترضيات، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وهو آتٍ، وكل آتٍ قريب.

اللهم إنا نسألك الصدق في القول، والعمل، والاعتقاد، وصلى الله وسلم على محمد خير العباد، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم إلى يوم المعاد.

0000000000000000000

من شك في كفر وردة محمود "مذموم" محمد طه أوصحَّح ما يعتقده فهو كافر مرتد

الحمد لله الذي ختم النبوة والرسالة بمحمد القائل: "لن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً"، فمذموم أحد أولئك الدجاجلة، بل هو من أئمتهم، وصلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم، ولعائن الله مصحوبة بغضبه على من أراد منافسته، أوشينه، أوانتقاصه.

الفوضى الفكرية والعقدية المتمثلة فيما يُنشر في وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، من إباحة الردة وانكار حدها، ليس لها شبيه ولا مثيل من قبل قط، نحو التشكيك في كفروردة "مذموم" محمد طه، والاحتفاء بذكرى ردته، ومحاولة بعث وإحياء الحزب الذي كان يتزعمه، بحجج متهافتة، نحو حرية الفكر، وأنه قتل قتلاً سياسياً، وحكم عليه بقوانين "سبتمبر" كما يزعمون، وقد حكم بردته قبل ذلك عدة مرات ولكن لم ينفذ الحكم.

"فمذموم"، عليه من الله ما يستحقه، قتل بشرع الله، وبحد الإسلام، بعد أن وُجِّهت إليه تهم الردة العديدة وأقرَّ بها، نحو زعمه أن الصلاة رفعت عنه، وأنه رسول الرسالة الثانية، وأنه هو المسيح المحمدي، واستتيب وما كان ينبغي أن يُستتاب، فجزى الله الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، والقضاة الذين حكموا بذلك، وكل من ساهم وشارك في ذلك خير الجزاء، وليعلم الجميع أن هذا من أرجى أعمالهم عند الله عز وجل، وأن شانئهم هو الخاسر.

ولله در العالم الشاعر الشيخ أحمد البيلي عندما أنكرعلى بروفسير عبد الله الطيب - سامحه الله ـ زعمه أن محموداً عنده شهيد، حيث قال:

إذا المرتد حوكم وفق نص               وقيل هو الشهيد فبافتئات

وفي قتل المبدِّل شرع  طه               نذيراً للملاحدة العصـاة

"فمذموم" عند أهل الإسلام قاطبة كافر، مرتد، مفسد في الأرض، ومن شك في كفره وردته، ووصفه بأنه شهيد، وسعى لبعث كفره وضلالاته، ونشر ذلك في وسائل الإعلام المختلفة، إن كان جاهلاً يُعََلم، وإن كان مكابراً معتقداً بصحة ما قاله ويعتقده "مذموم" فهو كافر مرتد كذلك، فمن لم يكفِّر الكفار، أوشك في كفرهم، أوصحَّح مذاهبهم فقد كفر، كما هو مقرر عند أهل الإسلام.

لم يكن تعجبنا واستغرابنا في التشكيك في كفر وردة مذموم ومن يدين بما جاء به أقل من تعجبنا واستغرابنا للتبريرات التي قالها بعض المسؤولين الكفار في أوربا للكفريات التي نشرتها تلك الصحيفة الدنماركية، التي تناقلتها عنها بعض الصحف في فرنسا، وألمانيا، وأسبانيا، وغيرها بدعوى حرية الفكر، فالكل خارج من مشكاة واحدة، مشكاة العلمانية النتنة.

فإباحة الردة، وإنكار حدها، وإدعاء الرسالة، ورد ما هو معلوم من الدين ضرورة، كل ذلك كفر بواح، وصدوره ممن كان منتسباً إلى الإسلام أشد، وأخطر، وأضرُّ على الإسلام والمسلمين من صدوره من الكفار الأصليين، فإن لم يستطع المسلمون أن يحموا دينهم ويثأروا لرسولهم في ديارهم فهم أعجز من أن يفعلوا ذلك بمن تحميهم قوى الكفر وحماة الوثنية.

والحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلاَّ على الكفرة والمنافقين.

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

الثالث من محرم 1427ﻫ

000000000000000000000000

لا خير في أمة لا تثأر لرسولها المجتبى ولحبيبها المصطفى

حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا

عقوبة سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا

الأدلة على كفر وقتل سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤذيه في نفسه وآل بيته

أولاً: الآيات التي تدل على كفره ولعنه

ثانياً: السنة القولية، والعملية، والتقريرية على قتله وعدم استتابته ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة

ثالثاً: الإجماع

موقف الأمة الإسلامية من الأذى والانتقاص الذي أصاب رسولها صلى الله عليه وسلم بالمساخر الكركيترات التي نشرت في إحدى الصحف الدينماركية

أولاً: العلماء

ثانياً: حكام المسلمين

ثالثاً: المسلمون الذين يعيشون في تلك الديار

رابعاً: عامة المسلمين: موردين، وتجار، ومستهلكين

حكم هؤلاء الكفار الذين ارتكبوا هذا الجرم والذين ازدادوا كفراً على كفرهم

ملحق: قائمة بأسماء البضائع الدنماركية التي ينبغي مقاطعتها

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من جعله الله كيداً للكافرين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وبعد..

من أوجب الواجبات وأحق الحقوق لرسولنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة ما يأتي:

1.  محبته، وإجلاله، وتقديره أكثر من المال، والأهل، والولد لمن أراد أصل المحبة، والنفس لمن أراد كمال المحبة: "وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ.." الآية.

ومحبته صلى الله عليه وسلم في اتباعه والذب عن جنابه، ليس بالرقص والتواجد، لا ولا بالسماع وإنشاد القصائد، إذ هو فعل عبَّاد العجل، والزنادقة، والخبل.

2.  الذب والدفاع عن جنابه صلى الله عليه وسلم بكل غالٍ ورخيص، من غير أن تأخذهم في ذلك لومة لائم.

3. إنزال أقصى العقوبات الشرعية على كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، أوأزواجه، أوآله وأصحابه، سواء كان أذاه بالقول، أوالعمل، أوالاعتقاد، تصريحاً كان أم تلميحاً، مسلماً كان هذا المؤذي أم كافراً: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا".

إذ حقه علينا أوجب من حق الآباء، والأمهات، والبنين، والبنات.

ã

حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا

سب الرسول صلى الله عليه وسلم وأذاه كفر ظاهر وباطن، سواء اعتقد حل ذلك أوحرمته، وسواء كان السب والأذى تصريحاً أوتلميحاً، بالقول، أوالعمل، أوالاعتقاد، وسواء كان بالفعل أوالترك، وسواء كان مقراً بما جاء به أومنكراً، مؤدياً للواجبات وممتنعاً عن المحرمات أم لا، جاداً كان أم هازلاً، رجلاً كان أوامرأة، بل من شك في كفره فقد كفر.

وهذا إجماع منعقد عند سلف الأمة وخلفها من أهل السنة.

قال إسحاق بن راهويه: (قد أجمع المسلمون أن من سبَّ اللهَ ورسوله، أودفع شيئاً مما أنزل الله، أوقتل نبياً، أنه كافر وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله).

وقال سُحنون: (ومن شك في كفره كفر، ونص على ذلك غير واحد من الأئمة، أحمد، والشافعي، وغيرهما، قال: كل من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر).

ã

عقوبة سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا

عقوبة سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا هي:

1. القتل، وهذا واجب أئمة المسلمين، وإن لم يتمكن من قتله أهدر دمه، مسلماً كان أم كافراً، ذمياً كان أم معاهداً أم محارباً، ولا تقبل له توبة في الدنيا، ولا يسقط عنه الحد بالتقادم، نحو سلمان رشدي وأمثاله من الزنادقة المارقين.

2. اللعن، والسب، والدعاء عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.

ã

الأدلة على كفر وقتل سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤذيه في نفسه وآل بيته

أولاً: الآيات التي تدل على كفره ولعنه

1.  "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا".

2.  "قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ".

3.  "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا".

4.  "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ".

5.  "أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ".

6. "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ"، قيل إن سبب نزولها أن أبا قحافة سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أبوبكر قتله.

ã

ثانياً: السنة القولية، والعملية، والتقريرية على قتله وعدم استتابته ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة

1.  أن رجلاً كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من يكفيني عدوي".

2.  وفي الصحيحين عن عائشة ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً"، فقال سعد بن معاذ: "أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه"، ولم ينكر النبي على سعد ذلك.

3. روى الشعبي عن علي رضي الله عنه: "أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها".

قال ابن تيمية: (وهو حديث جيد، وهو متصل، لأن الشعبي رأى علياً، ولو كان مرسلاً فهو حجة وفاقاً، لأن الشعبي صحيح المراسيل، ليس له مرسل إلا صحيح.

وقال: وهذا صريح في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على قتل الذمي، والمسلم والمسلمة إذا سبا بطريق الأولى).

4.  ما روى ابن عباس: "أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه، فأخذ المغول، ووضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر دمها".

قال الخطابي: (فيه أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، لأن السب ارتداد).

قال ابن تيمية: (فهذا دليل على أنه اعتقد أنها مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كافرة، فإن في الحديث أن سيدها كان ينهاها مراراً، ولو كانت مرتدة لما جاز وطؤها وإبقاؤها مدة طويلة).

5.  قـوله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد أذى الله ورسوله؛ فقـام محمد بن مَسْلمَة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم؛ قال: فأذن لي أن أقول شيئاً؛ فأذن له، فأتاه فقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وعنَّانا؛ فلما سمعه كعب قال: وأيضاً والله لتَمَلنَّه.." الحديث، فقتلوه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان كعب قد هجا النبي صلى الله عليه وسلم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتله، فأتى أصحابُ كعب رسولَ الله، فقالوا: إنه قد اغتيل وهو سيدنا، فقال رسول الله: إنه لو قرَّ كما قرَّ غيره لما أوذي، لكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا قتل.

فذلت يهود وحذرت من يوم قتل كعب بن الأشرف.

وكان كعب معاهداً فلما سب نقض عهده، والذمي من باب أولى، والمسلم بالأحرى).

قلت: لو فعل المسلمون اليوم ما فعله محمد بن مَسْلمَة لذلَّ اليهود والنصارى اليوم كما ذلوا بالأمس، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

6.  ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبَّ نبياً قتِل، ومن سبَّ أصحابه جُلِد"، وظاهره قتله من غير استتابة.

7.  ما روي عن عبد الله بن أبي برزة قال: "أغلظ رجل لأبي بكر الصديق، فقلت: أقتله؟ فانتهرني، وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

استدل به جماعة من العلماء على قتل سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم أبو داود، وإسماعيل بن إسحاق، وأبو بكر بن عبد العزيز، والقاضي أبو يَعْلى، وغيرهم.

8.  عن ابن عباس قال: "هجت امرأة هي العصماء بنت مروان من خَطْمَة النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: من لي بها؟ فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله؛ فنهض فقتلها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا ينتطح فيها عنزان".

9.     قصـة أبي عفك اليهـودي، لعنه الله، وكان قد هجـا النبي صلى الله عليه وسلم، فقـال سالم بن عمير: "علي نذر أن أقتله".

10. أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه غلام من خزاعة فشجه، وكان قد ندر رسول الله دمه أي أهدره.

11. حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومولاة بني هاشم، وكانتا لابن خطل، فقتلت إحداهما واختفت الأخرى.

12. عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، وقيل له: ابن أخطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه"،  جرمه أنه ارتد بعد إسلامه وكان يهجو رسول الله ويأمر جاريتيه تغنيان بذلك.

13. "أمره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بقتل ابن الزِّبَعْرَى"، وهذا من أجود المراسيل كما قال ابن تيمية، لأنه من مراسيل سعيد بن المسيب.

ã

ثالثاً: الإجماع

أجمعت الأمة سلفاً وخلفاً على كفر وقتل سابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، من غير استتابة في أرجح الأقوال، مسلماً كان أم كافراً، ذكراً كان أم أنثى، جاداً كان أم هازلاً.

قال الإمام أحمد: (من شتم الرسول صلى الله عليه وسلم أوانتقصه، مسلماً كان أوكافراً، فعليه القتل ولا يُستتاب).

وقال القاضي عياض: (كل من سبه، أوعابه، أوألحق به نقصاً في نفسه، أونسبه، أودينه، أوخَصْلة من خِصاله، أوعرَّض به، أوشبهه بشيء على طريق السب له والإزراء عليه، أوالغض منه والعيب له، فهو سابٌّ له يقتل، تصريحاً كان أوتلميحاً، وكذلك من لعنه، أوتمنى مضرة له، أودعا عليه، أونسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أوعيَّبه في جهته العزيز بسخف من الكلام، وهُجْر ومنكر من القول وزور، أوعيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أوغمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه.

قال: وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من أصحابه رضي الله عنهم وهَلمَّ جَرَّا؛ قال مالك: من سبه قتل ولم يستت؛ قال ابن القاسم: أوشتمه أوانتقصه قتل كالزنديق).

ثم ذكر القاضي عياض عدداً من الزنادقة الذين عرضوا بذلك أوصرحوا، فكفروا وقتلوا من غير استتابة، من ذلك:

رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مر رجل قبيح الوجه واللحية، فقال: تريدون تعرفون صفته؟ هي صفة هذا المار.

ومنها رجل قال: النبي كان أسود.

ومنها رجل كان في أثناء مناظرته يسميه "اليتيم"، و"ختن حيدرة".

قال الشافعي: كل تعريض فيه استهانة فهو سب.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: فيمن تنقصه أوبرئ منه، أوكذبه فهو مرتد.

ã

موقف الأمة الإسلامية من الأذى والانتقاص الذي أصاب رسولها صلى الله عليه وسلم بالمساخر "الكركيترات" التي نشرت في إحدى الصحف الدينماركية

لا خير في أمة لا تثأر لرسولها، ولا تغار لمن كان سبباً بعد الله عز وجل في خروجها من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية والرشاد.

يجب على المسلمين حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، قريبين وبعيدين عن موطن الحدث أن يهبوا للذب عن نبيهم، والنصح له، زجراً لهذه الفئة الكافرة الخاسرة ولأمثالهم ممن تحدثه نفسه أن يفعل مثل فعالهم: "وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا".

وعملاً بقول رسولها صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

هل هناك منكر أعظم وأجل من أن يُنتقص رسول الإسلام، ويُنال من قدره، ويستهزأ ويسخر منه على صفحات الصحف الفاجرة، وأن تجرى لذلك مسابقات، وأن يمنح أولئك المجرمون الجوائز على هذا الجرم الشنيع والعمل القبيح؟!!

الدافع الأول لهؤلاء تهاون المسلمين في قتل من سبق هؤلاء من الزنادقة، أمثال سلمان رشدي لا سلمه الله ولا أرشده، وغيره من المارقين الهاربين إلى دول الكفر، حيث يجدون الحماية والرعاية.

فواجب الأمة إزاء هذا العمل الإجرامي، والفعل الشيطاني، بشرائح مجتمعها المختلفة ما يأتي:

أولاً: العلماء

1.  إصدار الفتاوى بقتل هؤلاء الرَّسامين، وأصحاب الجريدة الفاجرة التي تولت كبر هذا الذنب، وإهدار دمهم.

2.  توعية الأمة وتبصيرها بخطورة ذلك، وتنبيهها لما يجب أن تقوم به فور سماع مثل ذلك.

ثانياً: حكام المسلمين

عليهم مقاطعة هاتين الدولتين:

1.  دبلوماسياً، بسحب البعثات الدبلوماسية.

2.  وتجارياً، بقطع التعامل التجاري معهما.

ã

ثالثاً: المسلمون الذين يعيشون في تلك الديار

عليهم السعي للاقتصاص من أولئك المجرمين بشتى الطرق، وعليهم إصدار الفتاوى بإهدار دمهم، ولا ينبغي أن يثنيهم الحرص على البقاء في تلك الدول عن الإقدام على ذلك.

ã

رابعاً: عامة المسلمين: موردين، وتجار، ومستهلكين

عليهم مقاطعة كل البضائع الدنماركية والنرويجية، بعدم استيرادها، وعدم بيع ما بمحلاتهم منها.

وهذا أضعف الإيمان في حق هذا الرسول الكريم.

ã

حكم هؤلاء الكفار الذين ارتكبوا هذا الجرم والذين ازدادوا كفراً على كفرهم

القتل من غير استتابة، وإهدار دمهم، ولا يقبل في مثل هذه المواطن توبة ولا اعتذار، لا منهم ولا من حكوماتهم ولا منظماتهم.

والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وأن ينتقم من أعدائنا، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

ã

ملحق: قائمة بأسماء البضائع الدنماركية التي ينبغي مقاطعتها

5-7

 

التي رمزها في العلامة التجارية يبدأ بـ 7 - 5 :

1.  حليب نيدو.

2.  حليب دانو.

3.  زبدة لورباك.

4.  سمن لورباك.

5.  جبنة البقرات الثلاث.

6.  جبنة بوك.

7.  جبنة الموزاريلا.

8.  حلويات كندر.

9.  منتجات شركة Arla.

10.  دهانات سيبكو.

11.  منتجات الشركة العربية الدنماركية للبويات Dyrup.

12.  ألعاب شركة ليجو.

13.  منتجات الشركة الدنماركية للمضخات.

14.  نظارات Lindberg الدنماركية.

15.  عصير سنتوب، سن كويك، سن كولا.

16.  عصائر ومنتجات KDD.

17.  منتجات شركة Danfoss.

18.  جل للشعر، رغوة وشامبو، منتجات عناية بالقدم، صابون وكريمات تفتيح البشرة، مزيل للعرق، مبرد للقدم، سبراي بخاخ، ملمع شفاه شازد، مكياج، أدوات تجميل.

0000000000000000000

تعقيب على ما جاء في ندوة د. الترابي ببورسودان

الأسباب التي دفعت د. الترابي إلى ذلك

المخالفات والشبه التي أثارها د. الترابي ودحضها

الأولى: إباحته للردة وإنكار حدها

أما الشبه التي رفعها في إنكار حد الردة فهي

دحض هذه الشبه

الثانية: تجويزه للمرأة أن تلي الإمامة الكبرى والصغرى

الشبه التي رفعها لتولي المرأة الإمامة الكبرى

دحضها

الشبهة التي رفعها لتجويز إمامة المرأة للرجال في الصلاة ودحضها

ثالثاً: عيسى عليه السلام نازل في آخر الزمان رغم أنف منكري السنة وجاحدي حجيتها

رابعاً: زعمه أنه ليس سنياً ولا شيعياً

خامساً: انتقاصه لأقضى القضاة الماوردي رحمه الله

شروط الإمامة عند أهل السنة

أدلة اشتراط النسب

نبذة عن هذا الإمام الجليل

ما يدل على كذب ما نسبه الترابي للماوردي من أن الخليفة هو الذي أملى عليه أن يكتب ما يوافق هواه

أدلة اشتراط النسب

نبذة عن هذا الإمام الجليل

ما يدل على كذب ما نسبه الترابي للماوردي من أن الخليفة هو الذي أملى عليه أن يكتب ما يوافق هواه

سادساً: دعواه أن باب الاجتها قد قفل

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهَّال الناس بما يشبَِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين، وصلى الله وسلم على محمد إمام المتقين، وسيد الغر المحجلين، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.

وبعد..

الطوام العظام، والمخالفات الجسام، التي جاء بها د. الترابي في بورسودان، قليل من كثير مما يعتقده، وتفوه به لسانه، وخطه بنانه من قبل، نحو:

أولاً: إجازته للمسلم أن يرتد عن دين الإسلام أنى شاء، وإلى أي ملة أراد، ولا يقال له مجرد مرتد.

ثانياً: إنكاره حد الردة.

ثالثاً: إنكاره للقيامة الجامعة، بحجة أين الأرض التي تسع جميع الخلق!!

رابعاً: إنكاره لعصمة الأنبياء عليهم السلام إلا من الناس، والنيل منهم، نحو زعمه أن إبراهيم كان مشركاً قبل البعثة.

خامساً: تشكيكه في عدالة الصحابة، وانتقاصه لهم، نحو زعمه "أن ابن عباس - رضي الله عنه عندما زروه"، ووصفه لابن عباس رضي الله عنهما "بأنه طفل"، كأن الطفل لا يكبر.

سادساً: زعمه أن اليهود والنصارى الحاليين ليسوا كفاراً، رداً لقوله عز وجل: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ" الآية*، ولقوله: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ"*، ونحوهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار"*، قال أبو موسى: ما قال رسول الله إلا في كتاب الله، فوجدت: "وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ"*.

سابعاً: دعوى توحيد الأديان تحت مظلة الملة الإبراهيمية، فقد دنس الخرطوم بعقد عدة مؤتمرات لذلك.

ثامناً: رده لكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تلقتها الأمة بالقبول، نحو حديث الذباب الذي قال عنه: أعمل فيه بقول الطبيب الكافر، ولا آخذ فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أسأل عنه عالم الدين (!!).

تاسعاً: إباحته للغناء والموسيقى، بل اعتبار ذلك عبادة من العبادات التي توجب دخول الجنة، وهناك فرق بين من يغني ويستمع ويعلم أن ذلك حرام، فهذه معصية، وبين من لا يتعاطى شيئاً من ذلك ويرى ذلك حلالاً، لأنه إنكار لما هو معلوم من دين الله؛ وتحريم ذلك ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، سوى بعض الزلات التي صدرت من ابن حزم، والله يغفر له ويسامحه، فمن تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله، فويل لمن أضحى همه البحث والتفتيش عن الزلات والسقطات، ولله در من شبه هذا الصنف بالذباب والجعلان في سقوطه على العذرة والنجاسات، وبالمكنسة في التقاطها للأوساخ.

عاشراً: إنكاره لجهاد الطلب، بزعمه أن "الجهاد قائم إلى يوم القيامة" هذا قول تجاوزه الزمن.

لقد رددت ورد غيري على كل الطوام والضلالات في عدد من المؤلفات المباركات، التي بيضنا بها الصفحات وأزلنا بها الشبهات، التي نرجو ذخرها في الحياة وبعد الممات، وقد نالنا من ذلك ما نالنا، ووصفنا بسبب ذلك بالعمالة للكفار، وبأني قبضت ثمن ذلك مقدماً، وذلك عندما كان الجميع يسبحون بحمده، ويرجون وصله ونفعه، ويخافون قطعه وقلوه، إن رهباً أورغباً.

ولكن عندما نزع عنه الملك نزاع الملك ممن يشاء امتنعتُ عن الكتابة عنه والرد عليه، بل حبست بعض المطبوع منها، ولولا أن الله أخذ العهد على العلماء وطلاب العلم أن يبينوا الحق، وحذر ونهى عن كتمانه، وعن تأخير البيان عن وقت الحاجة لما كتب هذا التعقيب.

قبل دحض هذه الشبه التي أثارها د. الترابي، على الرغم من أنها داحضة ومدفوعة من غير دفع وباطلة عن آخرها، أود أن أقول إن الحركة الإسلامية مسؤولة مسؤولية كاملة عن كل ما صدر من هذا الرجل من عقائد باطلة، وأفكار منحرفة، سيما خريجو الجامعات الإسلامية، والمنتسبون إلى العلم الشرعي، الأحياء منهم والأموات، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: لتمكينهم إياه من القيادة طيلة هذه المدة.

ثانياً: محاولة تبريرهم لكل ما يصدر منه من عقائد وأفكار منحرفة بحجج أوهى من خيط العنكبوت، نحو: هذه آراء وأفكار شخصية!

ثالثاً: سكوتهم عن ذلك، مع اعترافهم بأن ما جاء به مخالف لما هو معلوم من الدين ضرورة، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

رابعاً: خذلانهم لمن أنكر عليه ذلك.

خامساً: العزل، والتضييق، والهجر لكل من حاول الاعتراض على هذه العقائد والأفكار، ولو من خلال القنوات الرسمية.

سادساً: التشكيك في النوايا، والاتهام بالعمالة لكل من رد عليه.

ã

الأسباب التي دفعت د. الترابي إلى ذلك

في اعتقادي أن الأسباب التي دفعت الترابي لاعتقاد هذه العقائد المخالفة لما هو معلوم من الدين ضرورة ما يأتي:

أولاً: عدم اعتداده بالسنة واحتفائه بها إذا خالفت الهوى بحجج واهية يرفعها أهل الأهواء دائماً، نحو عدم اعتدادهم بأحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول، وبأن هذا الحديث يخالف ظاهر القرآن، ونحو ذلك من الشبه التي أملاها الشيطان على أوليائه القدامى والمحدثين.

ثانياً: الأخذ بالمتشابه من الآي، وعدم رده إلى المحكم منها.

ثالثاً: شعوره وتوهمه بأنه مجدد ومفكر، فلابد أن يأتي بجديد.

رابعاً: تقليده وتشبهه بالكفار.

خامساً: منافقته ومجاملته للمجتمع، سيما المرأة.

سادساً: الاستخفاف بالاتباع.

ã

المخالفات والشبه التي أثارها د. الترابي ودحضها

سنشير في هذه العجالة إلى أخطر الشبه والمخالفات التي أثارها د. الترابي في ندوته السالفة الذكر في إيجاز، لأن المجال لا يتسع، ومن أراد المزيد فليرجع إلى ذلك في مظانه من مؤلفاتنا وغيرها، وإلى كتب ومؤلفات أئمة السنة من قبل.

ã

الأولى: إباحته للردة وإنكار حدها

الشبه التي رفعها د. الترابي في إباحته للمسلم أن يرتد عن دين الله الحق إلى أي دين باطل أنى شاء ظاهر قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"*، والقول الراجح في تأويل هذه الآية أنها منسوخة بآيات القتال والسيف، والقول الثاني أنها متعلقة بالكافر الكتابي الأصلي، فله أن يسلم، وله أن يظل على كفره وضلاله، ولا تتناول بحال من الأحوال المسلم الذي ارتد عن الدين الحق.

ã

أما الشبه التي رفعها في إنكار حد الردة فهي

1.  أن المرتد ردة فكرية بحتة لا يقتل، وإنما يقتل الذي يحمل السلاح ويحارب جماعة المسلمين.

2.  إذا أخذنا بظاهر هذا الحديث يقتل من بدَّل دين النصرانية بالإسلام.

3.  أن هذا الحديث يعارض ظاهر العديد من الآيات.

ã

دحض هذه الشبه

  الدليل على أن المرتد يُقتل سواء حمل السلاح أم لم يحمله قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعدد من الرافضة المخذولين لاتخاذهم إياه رباً وإلهاً.

فقد خرَّج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدين* عن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة، فأحرقهم؛ فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"*، حيث أقر ابن عباس علياً في قتل المرتدين.

"وكان هؤلاء الزنادقة سجدوا لعلي وهو خارج من المسجد بالكوفة، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنت خالقنا ورازقنا؛ فقال لهم: سبحان الله، إنما أنا بشر مثلكم، إن شاء رحمني وإن شاء عذبني؛ فاستتابهم ثلاثة أيام، وتهددهم إن لم يتوبوا بالإحراق بالنار، فلم يُفِد، فأمر بحفر الأخاديد، وملأها بالحطب، وأشعلها ناراً، ثم ألقاهم فيها، وقال مرتجزاً:

لما رأيتُ الأمر أمراً منكراً               أججتُ ناري ودعوتُ قنبراًً"*

فهل يا ترى أن علياً لم يفهم المراد من قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"؟!!

أما الزعم بأننا لو أخذنا بظاهر هذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه"، لقتلنا من بدَّل دين النصرانية بالإسلام، فنقول: النصرانية، واليهودية، والشيوعية ليست أدياناً، وإنما الدين عند الله هو الإسلام، فما هذا التلبيس والتدليس؟!

ولو كان الأمر فيه متسع لذكرنا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والأئمة المهديين للمرتدين، القدامى والمحدثين، وفي هذا كفاية وغنى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد.

ã

الثانية: تجويزه للمرأة أن تلي الإمامة الكبرى والصغرى

الشبه التي رفعها لتولي المرأة الإمامة الكبرى

1.  أن حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، حادثة عين، خاص فقط ببوران بنت كسرى من النساء، وبالفرس من الأقوام.

2.  وفي مرة قال: الحديث نفى الفلاح فقط، وليس فيه منع المرأة من أن تكون قيمة على الرجال.

3.  وبأن بلقيس الكافرة حكمت قومها عُبَّاد الشمس.

4.  أن المرأة المعاصرة نالت من الشهادات العليا والتعليم ما لم تنله النساء في الماضي.

ã

دحضها

   بالنسبة للشبهة الأولى، فإن "قوم" و"امرأة" نكرتان تفيدان العموم، وقصر هذا على بوران بنت كسرى وعلى الفرس تحكم وحكم بالهوى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة، ولا يمكن أن يُخصص قوله وحكمه إلا بدليل صحيح صريح.

   أما عن الشبهة الثانية، فإذا نفِي الفلاح عن القوم فما يبقى لهم سوى الخسران؟!

   وأما بلقيس فقد كانت كافرة تحكم قوماً كافرين، ولو فرضنا أنها مسلمة، فشرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وقد نسخت كل الشرائع بشرع خاتم الأنبياء.

   أما دعوى أن المرأة المعاصرة نالت من العلم ما لم تنله حتى الصحابيات، فهذا من باب المكابرة ومنافقة النساء ومجاملتهن، وإلا فقد كانت عائشة رضي الله عنها فقيهة، ومفسرة، وأديبة، ونسَّابة، وطبيبة، ومع ذلك لم تحدثها نفسها بالإمامة، كبرى ولا صغرى.

الحمد لله الذي عافى الأمة عن مخالفة أمر ربها ورسوله، حيث لم تول امرأة قط على رجال في عصورها المختلفة إلا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وابتلي فريق منهم بتقليد الكفار والتشبه بهم، هذا مع اعتراض الراسخين في العلم على ذلك الصنيع المنكر، وعدم رضى عامة المسلمين بذلك، تحقيقاً لما صح في الأثر أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة قط.

في عصور الانحطاط في عهد المماليك*، عندما تولت "شجرة الدر" وكانت زوجاً لنجم الدين السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه، حيث قتلته "شجرة الدر" واستولت على الحكم 648ﻫ، لم يكن توليها مقبولاً من العلماء ولا من ولاة الخليفة العباسي.

فقد اعترض على توليها وأعلن ذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، وكتب الخليفة العباسي في وقته كتاباً إلى أهل مصر يعاتبهم على هذا الصنيع، إذ لم يكن سلطانه عليهم كاملاً، لانفراد المماليك بمصر والشام في ذلك الوقت، قائلاً: "إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً"، وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولية "شجرة الدر" ثمانون يوماً، اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة؛ فأشاروا على "شجرة الدر" أن تتزوج كبير المماليك، وهو "الأتابك أيبك" التركماني، وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها عن السلطة*.

وكذلك الأمر عندما أقام المماليك دولة لهم في دلهي بالهند سنة 602ﻫ، وكان أول ملوكهم "إيلتش" الذي اعترف به الخليفة في بغداد، وبعد وفاته 634 هـ تولت ابنته السلطة، فاعتُرض عليها وقُتِلت*.

هذا كله يدل على أن الدافع الرئيس لتجويز ذلك تقليد الكفار ليس إلا.

ã

الشبهة التي رفعها لتجويز إمامة المرأة للرجال في الصلاة ودحضها

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لأم ورقة رضي الله عنها أن تتخذ مؤذناً، وأن تؤم نساء وصبيان دارها ومن جاورها، فالحديث فيه مقال، وقد حسنه الألباني، ولو صح لما دل على الذي رمى إليه د. الترابي، حيث ما كان رجل بالغ يصلي في بيته ويتخلف عن جماعة المسلمين، وعن الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا منافق معلوم النفاق، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه؛ وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا افتقدنا الرجل في صلاة الصبح والعشاء ليوم واحد أسأنا به الظن أن يكون قد نافق؛ لأن صلاة الجماعة حكمها الوجوب على الرجال من غير ذوي الأعذار في أرجح قولي العلماء.

ولو جاز لامرأة أن تؤم الرجال لجاز لعائشة رضي الله عنها، ولكنها كان يؤمها غلامها ذكوان في صلاة القيام.

قال ابن شاس المالكي في عقد الجواهر*: (وأما المرأة فلا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء، وروى ابن أيمن جوازها)، أي للنساء، كما أجاز إمامتها للنساء والأطفال الشافعي وأحمد، شريطة أن تقف وسطهن، وتجهر أدنى الجهر.

وقال صاحب سبيل السعادة المالكي* وهو يعدد شروط الإمامة: (أولها الذكورية المحققة، فلا تصح إمامة المرأة، ولا الخنثي المشكل، وتبطل صلاة المأموم دون الأنثى التي صلت إماماً)، هذا إذا لم تنو إمامة الرجال، أما إذا نوت إمامة الرجال بطلت صلاتها وصلاة من أمته منهم.

وقال النووي في المجموع*: (واتفق أصحابنا على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة.. هذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة، فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وسفيان، وأحمد، وداود.. وقال الشيخ أبو حامد: مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة رجل وراءها إلا أبا ثور.. فإن صلى خلف المرأة ولم يعلم أنها امرأة ثم علِم لزمه الإعادة بلا خلاف).

عندما أعلم أحمد رحمه الله بقول أبي ثور هذا قال: "هذا قول سوء"، إي وربي إنه قول سوء، على الرغم من أنه سقطة وزلة، لتلقف أصحاب الأهواء له.

ليس لما ذهب إليه الترابي من سلف أسوة وقدوة سوى زلة أبي ثور هذه وسقطته، والله يغفر له، وإلا في:

  غزالة الخارجية زوج شبيب الخارجي، وقيل هي أمه، والراجح أنها زوجه، قال ابن حزم الظاهري رحمه الله في الفِصَل*، وكذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن*: (جميع أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة إلا فرقة من فرق الخوارج وهي الشبيبية نسبة إلى شبيب بن يزيد الشيباني).

قال البغدادي عنهم في الفَرْق بين الفِرَق*: (إنه مع أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفهم، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت).

وروى الذهبي في تاريخ الإسلام*: (أنها امرأته، استخلفها بعده، فدخلت الكوفة، وقامت خطيبة، وصلت الصبح بهم في الجامع، فقرأت في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بآل عمران).

    وفي أمينة ودود، الأمريكية التي أمت بعضاً من الرجال والنساء في صالة كنيسة.

فهنيئاً لمن كانت أسوته غزالة وأمينة، وسلفه "الشبيبية".

قلت: لقد بلغت منافقة د. الترابي للنساء مداها، ويتمثل ذلك في الآتي:

1. أجاز لها أن تلي الإمامة الكبرى والقضاء، وأن تكون وزيرة، ووالية، وضابطة، ونحو ذلك.

2. أن تؤم الرجال.

3. أن حواء أول الخلق وليس آدم عليهما السلام.

4. أنكر أن يكون في الجنة حور عين، رداً لقوله عز وجل: "حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ. فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ"*، وإنما نساء الدنيا هن نساء أهل الجنة.

5. رد كل الانتصارات التي حققها الرجال في الدفاع الشعبي إلى النساء دون الرجال.

والليالي من الزمان حبالى               مثقــلاتٍ يلدن كلَّ جديد

وأخطر من هذا كله تصديق بعض النساء لهذه الأماني الكاذبة.

ã

ثالثاً: عيسى عليه السلام نازل في آخر الزمان رغم أنف منكري السنة وجاحدي حجيتها

من جملة ما أنكره الترابي مما هو معلوم من الدين ضرورة في بورسودان ومن قبل، نزول عيسى عليه السلام، وجميع أشراط الساعة، على الرغم من أن نزوله ثابت بـ:

   القرآن.

   والسنة.

   والإجماع.

فمن القرآن قوله تعالى: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"*، عندما ينزل ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية.

ومن السنة ما صحَّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبل أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبوهريرة رضي الله عنه: واقرأوا إن شئتم: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"*.

وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فبينما هو كذلك أي المسيح الدجال إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء.." الحديث*.

وأحاديث نزول عيسى عليه السلام في غاية الصحة، فهي في الصحيحين وغيرهما، وتلقتها الأمة بالقبول، ولهذا أجمعت الأمة على نزوله.

وعندما ينزل عيسى لا ينزل بشريعته المنسوخة، ولا بشرع جديد، وإنما ينزل بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تعارض بين نزوله وبين ختم محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة.

أما بالنسبة للشبهة التي رفعها الترابي وأنكر من أجلها نزول عيسى عليه السلام: "فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ"*، فالوفاة هنا بمعنى النوم، فالقرآن يوضح بعضه بعضاً، قال تعالى: "اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا" الآية*، وقال صلى الله عليه وسلم: "النوم أخو الموت"، فالله أنامه ثم رفعه إليه، أما قوله: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ"*، فالواو لا تفيد الترتيب وإنما تفيد العطف.

والمؤمنون الصادقون المصدِّقون بنزول عيسى لا يمنعهم ذلك من العمل والسعي للتغيير ورد الأمة إلى ما كان عليه رسولها وصحبه الكرام، عن طريق الجهاد الذي ينكره د. الترابي، وعن طريق رفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن طريق إحياء السنن التي أميتت، وعن طريق الدعوة إلى الله على بصيرة، إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

ã

رابعاً: زعمه أنه ليس سنياً ولا شيعياً

الشيء الواحد الذي أوافق فيه د. الترابي وأصدقه فيه أنه ليس سنياً، إذ عداوته للسنة ولأتباعها لا تدانيها عداوة إلا عداوة الرافضة، والتبرؤ من السنة بأي معنى من معانيها تبرؤ من الإسلام ورسوله ومما جاء به، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن رغب عن سنتي فليس مني" الحديث، فالسنة هي الشريعة، هي الإسلام، هي الدين، نسأل الله أن يحيينا ويميتنا عليها.

قدوته في ذلك الخميني عندما جاء إلى الحكم، وأراد أن يضلل السذج من المسلمين، ويخدعهم في إيران وخارجها، فقال: "أنا لست سنياً ولا شيعياً".

أما زعمه أنه ليس شيعياً فهذا من باب الخداع، فمحبته للخميني، وإعجابه به، وفتحه المجال للرافضة في السودان عندما كان الآمر الناهي، تدل على عدم صحة هذا الزعم.

ã

خامساً: انتقاصه لأقضى القضاة الماوردي رحمه الله

إعجاب د. الترابي بالديمقراطية الغربية، وتقليده للكفار في ذلك، جعله ينقم ويحقد على الذين أصَّلوا للنظام الشوري الإسلامي الذي ما قام النظام الديمقراطي إلا على أنقاضه، إذ وصف هذا الإمام العظيم والفقيه الكبير بأوصاف يندي لها الجبين، وسيقتص له منه الجبار يوم الدين، يوم يقوم الناس ليوم لا ريب فيه للحساب والقصاص.

فقد وصفه مرة بأنه "ساذج".

وفي هذه المرة بأنه "مسكين".

وبأنه دمية في أيدي السلاطين يؤصل لهم ما يبغون.

ووصف شروط الإمامة التي أجمعت عليها الأمة ولم يشذ فيها الماوردي بأنها "شروط منحطة" و"سخيفة".

وسبب غيظ الترابي وحنقه على فقهاء الإسلام أمثال الماوردي وغيره من الأئمة الأعلام الذين أصلوا لنظام الحكم في الإسلام ووضعوا تلك الشروط العظام من أجل أمور، منها:

   شرط الإسلام، إذ لم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، والترابي ومن والاه يريدون أن يجعلوا لهم سبيلاً.

   قصرهم اختيار الحاكم أوالخليفة على العلماء أهل الحل والعقد دون العامة والدهماء، كما هو الحال عند الكفار في النظام الديمقراطي.

   اشتراط الذكورية في ولاية المسلمين.

أما شرط النسب وما أثاره حوله من شبه ساذجة فالغرض بذلك التهويش والإثارة، وإلا فما من عاقل يقول إنه يجب على الدولة إن لم يوجد فيها قرشي أن تستورد قرشياً من مكة أوغيرها.

ã

شروط الإمامة عند أهل السنة* هي

1.  الإسلام.

2.  التكليف، أي البلوغ والعقل.

3.  الذكورية.

4.  الحرية.

5.  العلم.

6.  سلامة الحواس، كالسمع، والبصر، واللسان.

7.  سلامة الأعضاء.

8.  الشجاعة والحزم.

9.  الرأي السديد.

10.  النسب.

هذه الشروط قد تتوفر كلها في الحاكم أوجلها، منها ما هو شرط صحة كالإسلام والذكورية، ومنها ما هو شرط كمال، ولهذا أجاز أهل السنة إمامة المفضول مع وجود الفاضل.

ويُلتزم بها إذا تم اختار الحاكم بالطريقة الشرعية المثلى، أن يختاره أهل الحل والعقد، أما إذا تغلب الحاكم على الحكم أواختير بطريقة الكفار التي يتساوى فيها المسلم والكافر، والعالم والجاهل، والذكر والأنثى، فلا مجال لتطبيقها، كما هو الحال الآن.

ã

أدلة اشتراط النسب

استدل أهل السنة على هذا الشرط بالآتي:

1. "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" الحديث، رواه البخاري في الأحكام باب الأمراء من قريش.

2. "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"، رواه البخاري في الأحكام، وليس المراد حقيقة العدد.

3. "الناس تبع لقريش في هذا الشأن"، رواه البخاري في المناقب، ومسلم في الإمارة.

4. "الأئمة من قريش"، رواه أحمد وصححه الألباني.

ولهذا أجمعت الأمة على هذا الشرط، ولم ينكره إلا أهل الأهواء قديماً وحديثاً.

قال الإمام النووي: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين فمن بعدهم)*.

وبهذا قال الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك من لا يؤبه باتفاقهم، كالخوارج والمعتزلة ومن قلدهم.

هذا إذا وجد قرشي توفرت فيه شروط الإمامة الأخرى، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف)*.

أما إذا لم تتوفر الشروط في القرشي، فمن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه، كما أخبر الصادق المصدوق.

ã

نبذة عن هذا الإمام الجليل*

   هو أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، نسبة إلى عمل الماورد وبيعه الذي كان يشتغل به بعضُ أجداده.

   ولد بالبصرة 364ﻫ، وتوفي 450هـ عن ست وثمانين سنة.

   مصنفاته:

   الحاوي الكبير مطبوع في عشرين مجلداً، وقد وزع على عشرة طلاب لتحقيقه في درجة الدكتوراة.

   الأحكام السلطانية.

   أدب الوزير.

   الإقناع.

   كتاب البيوع.

   الكافي في شرح مختصر المزني.

   النكت والعيون.

   الأمثال والحكم.

   كتاب في النحو.

   أدب الدنيا والدين.

   المقترن.

   نصيحة الملوك.

   المرتبة في طلب الحسبة.

   ثناء العلماء عليه:

   قال ابن خيرون: كان رجلاً عظيم القدر، أحد الأئمة، له التصانيف الحسان في كل فن.

   وقال الخطيب البغدادي: كان ثقة من وجوه الفقهاء والشافعيين.

   وقال ياقوت في معجم الأدباء: كان عالماً بارعاً متفنناً.

ã

ما يدل على كذب ما نسبه الترابي للماوردي من أن الخليفة هو الذي أملى عليه أن يكتب ما يوافق هواه

آخذاً ذلك من قول الماوردي رحمه الله: (أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته)، كما جاء في مقدمة الأحكام السلطانية.

(وذلك عندما طلب الخليفة أن يُزاد في ألقاب جلال الدولة ابن بُوَيْه: "شاهنشاه الأعظم ملك الملوك"، وكان ذلك في سنة 429 هـ، وخُطب له بذلك، فأفتى بعض الفقهاء بالمنع، وأنه لا يقال "ملك الملوك" إلا لله، وتبعهم العوام، ورموا الخطباء بالآجُرّ.

وكتب إلى الفقهاء في ذلك، فكتب الصَّيْمَري الحنفي: إن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية؛ وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: بأن إطلاق ملك الملوك جائز، ومعناه ملك ملوك الأرض؛ قال: وإذا جاز أن يقال "قاضي القضاة"، جاز أن يقال "ملك الملوك"؛ ووافقه التميمي من الحنابلة.

وأفتى الماوردي بالمنع، وشدَّد في ذلك، وكان الماوردي من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عنه، فطلبه جلال الدولة، فمضى إليه، فلما دخل قال له: أنا متحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني، لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي)*.

ã

سادساً: دعواه أن باب الاجتهاد قد قفل

يتباكى د. الترابي على قفل باب الاجتهاد، وفي الحقيقة فإن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه إلى قيام الساعة، بنوعيه المطلق والمقيد، لمن توفرت فيهم شروطه، وامتلكوا أدواته.

وقفل باب الاجتهاد لا يملكه أحد من الخلق طالما بقي من عمر الدنيا شيء، فالاجتهاد في الأمور المستجدات والتي ليس فيها نص من الوحي، أما ما فيه نص، أوانعقد إجماع الأمة عليه، خاصة في عهود الأمة الفاضلة، فلا مجال للاجتهاد فيه؛ وهذا القسم المحظور هو هدف أدعياء التجديد، وبغيتهم من رفع تلك الراية، حتى يتمكنوا من مجاراة أعداء الدين ويأمنوا مخالفتهم.

ومشكلتنا اليوم ليست في فتح باب الاجتهاد أوقفله، ولا في عدم وجود مجتهدين، ولكن المشكلة في الجسارة والجرأة، واقتحام بل وكسر باب الاجتهاد من أدعياء لا يملكون من أدوات الاجتهاد شيئاً، ولم يتوفر فيهم شرط واحد من شروطه الكثيرة التي بينها أهل العلم المختصون بذلك.

والشرط العمدة في المجتهد هو أن يكون من أهل السنة والجماعة، أي أن يكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، والتصور، والمنهج، والسلوك؛ فأهل الأهواء ليسوا أهلاً للاجتهاد، وليسوا مؤتمنين على دين الله أن يفتوا فيه أويُدَرِّسوه، دعك من أن يجتهدوا فيه.

فالاجتهاد، وهو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال، مصدر من مصادر التشريع الخمسة، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاجتهاد، فلابد من وضع ضوابط له حتى لا يتلاعب به المتلاعبون، ويدعيه المفترون، ويسطو عليه المتطفلون.

والذين قالوا بقفل باب الاجتهاد من أهل العلم كان مرامهم قفل باب الاجتهاد في وجه هؤلاء، وفي الأمور المسلمات، وما فيه نص صحيح صريح، أوانعقد عليه الإجماع؛ أما المستجدات فلا سبيل للحكم عليها إلا عن طريق القياس والاجتهاد، ولا أدل على ذلك من شروع بعضهم في بعض الافتراضات التي لم تقع بعد، وقد كره ذلك الأئمة أمثال مالك وغيره.

من علامات الساعة تطاول الأواخر على الأوائل، ولعن آخر هذه الأمة وانتقاصها لأولها.

لم يعلن الله حربه على أحد إلا على ثلاثة أصناف من البشر:

1. المرابين التعساء، عبدة الدراهم والدنانير.

2. وقطاع الطرق المفسدين في الأرض.

3. والذين يعادون أولياء الله من العلماء، أتباع الرسل، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي ولياً فقد آذنته في الحرب" الحديث القدسي.

ولهذا قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله ناصحاً لإخوانه المسلمين، ومحذراً من الطعن والتشكيك في العلماء العاملين، والأئمة المهتدين: (اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"*.

اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، واحشرنا في زمرة المتقين، ووفقنا لاتباع سبيل المؤمنين، وجنبنا سبيل المشاقين لله، ورسوله، والمؤمنين، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ولا عدوان إلا على الظالم

00000000000000000000000

وقفات مع أخطر مخالفات دستور السودان 1426ﻫ - 2005م للإسلام

هذا بيان للناس

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

وقفات مع أخطر مخالفات دستور السودان 1426ﻫ - 2005م للإسلام

 

أولاً: المواطنة!!

الوقفة الثانية: مع مصادر الدستور

ثالثاً: إباحة الردة وإنكار حدها

رابعاً: تسوية اللغة العربية بغيرها من الرطانات الأجنبية والمحلية

خامساً: عدم الالتزام بشروط الإمامة الكبرى في الإسلام

سادساً: المساواة بين الذكر والأنثى

سابعاً: الولاء في الدستور للوطن وليس لله عز وجل

 

الحمد لله الذي جعل الدينَ قواماً، ومحمداً للمرسلين قائداً وإماماً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، والقرآنَ على الكتب السماوية مهيمناً، والإسلامَ للأديان السابقة ناسخاً، والمسلمينَ على الأمم الماضية شهداء عدولاً.

والحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، ولم يكلفهم شططاً.

الأمة الإسلامية لا تحتاج إلى وضع دستور ولا إلى سنِّ قانون، إذ دستورها كتاب ربها وسنة نبيها: "تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبداً، كتاب الله وسنتي" ، يستمد منهما ولاة أمرها من العلماء، والحكام، والقضاة الفتاوى والأحكام، ويقيسون على أصولهما الجامعة ما استجد واستحدث من قضايا، وأحداث، وأحكام.

لهذا قال معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مرشداً ومعلماً، وقال له: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رســـول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهـد رأيي لا آلو؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله".

فإن أبى المسلمون إلا التيسير، لضعف الهمم أوالتقليد لغيرهم والتشبه بهم بمن نهانا الشارع الحكيم من التشبه بهم وهم الكفار: "ومن تشبه بقوم فهو منهم"، وأرادوا أن يضعوا دستوراً وقانوناً على غرار دساتير الكفار وقوانينهم، فينبغي لهذا الدستور أن يكون مستمداً من عقيدة وهوية الأمة، ومحققاً لطموحاتها، وملبياً لرغباتها، وحامياً لعقيدتها، وحارساً لدينها وعرضها وشرفها.

وبعد..

فهذه وقفات سريعة مع أخطر مخالفات الدستور للإسلام، نكتبها نصحاً للأمة، وتبرئة للذمة، وتذكيراً للأئمة، ومعذرة إلى ربنا، ولعلهم يتقون ويرعوون، وإجابة لكثير من الأسئلة والاستفسارات بلسان الحال والمقال، عملاً بقوله تعالى: "وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"، وخوفاً وحذراً من قوله صلى الله عليه وسلم: "من سُئل عن علم ثم كتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة"، إذ الساكت عن الحق شيطان أخرس.

واللهَ نسألُ أن تجد آذاناً صاغية لدى المسؤولين والمقررين لهذا الدستور، وأن تنبه الغافلين من المسلمين لما يحاك بهم، وبإسلامهم، وحريمهم، وأعراضهم، وأوطانهم من المخاطر العظيمة، والمخططات والمؤامرات اللئيمة، وأن يحفظ علينا ديننا، وأن يدفع عنا الشرور والآثام، ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ã

أولاً: المواطنة!!

أولى هذه الوقفات، وأخطر تلك المخالفات، وأضر هذه الموجهات على الإطلاق على الإسلام، اعتبار المواطنة أساس الحقوق والواجبات المتساوية لكل السودانيين، مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، كما ورد في المادة [7-(1)]: [تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيينِ].

ومعلوم من الدين ضرورة أن حقوق المسلمين وواجباتهم تختلف عن حقوق الكفار وواجباتهم، ولهذا قال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ".

فالذي يساوي بين البشر عربيهم وعجميهم، وأسودهم وأبيضهم، الكلمة السواء، وهي كلمة التوحيد، وليس الوطن، ولا الجنس، ولا اللغة، هذه من الأبجديات والمسلمات التي لا يجادل فيها إلا مكابر، ولا ينكرها إلا جاهل، ولا يلبس بها إلا منافق.

إذا كانت المواطنة ليست أساساً للحقوق والواجبات لدى الكفار، أصحاب الدين المنسوخ المبدل، في أوروبا وأمريكا وغيرها، حيث توجد بعض الفروق الظاهرة والخفية بين طوائف المجتمع المختلفة، فكيف يسوَّى بين المسلم والكافر وقد قال تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقد ميَّز الله بين المسلمين أنفسهم: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".

بل حقوق وواجبات ومسؤوليات الذكر المسلم تختلف عن حقوق وواجبات الأنثى المسلمة، قال الله عز وجل على لسان أم مريم: "وليس الذكر كالأنثى".

فالمسلم جنسيته عقيدته، وصدق القائل:

أبي الإسلام لا أب لي ســـواه         إذا افتخروا بقيس أو تميــــم

والقائل:

إن يختلف مـــاء الوصــال          فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد

أو يختلف نسب يؤلف بيننـــا          دينٌ أقمنـــاه مقام  الوالـــد

هذه الدعوة الخبيثة التي بدأ التأصيل والتقعيد لها بل وتضمينها في الدستور ثمرة خبيثة من ثمار العلمانية، ومن ثمار تقليد الكفار والتشبه بهم.

قال تعالى: "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا".

لقد أمر الله بهجر الأوطان، وترك الأموال، ومفاصلة الأولاد والأهل والعشيرة إذا لم يتمكن المسلم من تحقيق عبوديته لربه فيها ومعهم، فقد أوجب الله ورسوله الهجرة من مكة عندما كانت دار حرب إلى المدينة، وقال مبكتاً على المستطيعين على الهجرة ولم يهاجروا، الذين فتنهم مشركو مكة: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا. وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً".

ولذات السبب نهى وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى ديار الكفر والعيش بين ظهرانيهم لغير ضرورة دينية.

وإن كان للأخوة حقها في كل شيء في النسب وغيره، فالأخوة الإيمانية حقها فوق كل حق.

"فالمسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه".

"وكل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله".

"والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

"وحق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".

والمسلم لا يُقتل بكافر، والمسلم لا يرث الكافر ولا يرثه الكافر، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فأنى يساوي الكافر المسلم؟!

لا يعني هذا إباحة أموال الكفار وأعراضهم بغير قيد ولا شرط، فكما أن للمسلمين حقوقاً وواجبات فكذلك للكفار ذميين ومعاهدين حقوقاً وواجبات، وقد نعم الكفار الذميون والمعاهدون في عهود الإسلام  كلها بما لم ينعم به المسلمون عندما غزا الكفار ديار الإسلام، كما هو الحال في فلسطين، وأفغانستان، والعراق الآن: (فالشريعة المحمدية، والديانة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وبها يدين الله كل عاقل، لما اشتملت عليه من عبادة الله الكريم المتفضل على خلقه، بما أسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، ولأنها ذات قوانين تسع الناس أجمعين، ولا تتعارض مع المدنية الفاضلة، ولا تمنع من الحضارة الحقة، ولا تجعل لأحد سيطرة على أحد إلا بمقتضى القانون الذي به تباح الدماء، وتنتقل العروض والممتلكات والمنافع من إنسان لآخر).

فجعل المواطنة هي مناط المساواة في الحقوق والواجبات في الدستور يعتبر ناقضاً من نواقض الإسلام، قبل ما يتضمنه من الظلم والتعدي على الغالبية المسلمة المغلوبة على أمرها.

ã

الوقفة الثانية: مع مصادر الدستور

تقول المادة [5-(1)]: [تكون الشريعة وإجماع الشعب مصدراً للتشريعات].

و[5-(2)]: [يكون الإجماع الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني، بما فيها تقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان مصدراً للتشريعات].

الذي تولى كبر وجرم ووزر هذه النواقض وتلك الطوام هو واضع دستور 1998م، عليه من الله ما يستحقه، فقد ذلل الصعاب، ويسر المهمة لمفوضية الدستور، وقد كُتبت وقتها ردود كثيرة عليه دللت على علمانية الدستور ومخالفته لشرع الله المصفى.

فالدستور قد جمع بين السوأتين وحاز الضلالتين: دستور 98 العلماني واتفاقية "نيفاشا" الظالمة المجحفة، الغامطة لحق الأغلبية المسلمة، المحققة لطموحات الأقلية الكافرة، حيث قلبت الموازين، وأخلت بالمفاهيم، التي نفذت تحت مظلة الهيمنة الآحادية والسيطرة الاستعمارية.

مصدر التشريع في الإسلام واحد، وهو الوحي المنزل من عند الله قرآناً وسنة، والقياس والإجماع مستمدان منه، والله سبحانه أغنى الشركاء، فمن أشرك معه أحداً غيره في العبادة أوفي التشريع تركه وشركه.

فالأعراف، والعادات، والتقاليد ليست من مصادر التشريع في شيء، وإنما هي قواعد يُرجع إليها في تفسير بعض النصوص المطلقة، نحو قوله تعالى: "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، وفي تقدير النفقة وحاجة الزوجة والأولاد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لهند عندما قالت له: إن أبا سفيان رجل مسِّيك، لا يعطيني ما يكفيني وعيالي؛ في بيعة النساء عند قوله عز وجل: "وَلا يَسْرِقْنَ": "خذي ما يكفيك وعيالك بالمعروف"، أوكما قال.

ويرجع إليها كذلك في المباحات التي لم تأمر بها الشريعة ولم تنه عنها.

قال الإمام السيوطي رحمه الله: (اعلم أن اعتبار العادة والعرف رُجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثرة).

ثم مثَّل لذلك بسِنِّ الحيض، والبلوغ، وأقل الحيض والنفاس وأكثره، والنجاسات المعفو عنها.

وقال ابن النجار: (وضابطه كل فعل رُتِّب عليه الحكم ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة، كإحياء الموات، والحرز في السرقة، والأكل من بيت الصَّدِيق، وما يعد قبضاً، وإيداعاً، وإعطاء، وهدية، وغصباً، والمعروف في المعاشرة، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة، وأمثال هذه لا تنحصر).

أما أن تكون مصادر مستقلة فلم يقل بذلك أحد من أهل العلم أبداً.

قال الدكتور عمر سليمان الأشقر: (عندما يدقق الباحث النظر في مباحث الأصوليين والفقهاء يعلم يقيناً أن العرف ليس دليلاً مستقلاً من أدلة الفقه الإســــلامي، وقد خلص إلى هذه النتيجة عَالِمَان معاصـــران).

والعرف ينقسم إلى قسمين: عرف صالح وهو ما وافق الشرع، وعرف فاسد وهو ما عارض الشرع.

أما الإجماع الشعبي فلا قيمة له في الشرع، فلو أجمعت الأمة بأسرها وإن كان الله عافى هذه الأمة أن تجتمع كلها على ضلالة على أمر فيه مخالفة شرعية لم يزدها إجماعها هذا إلا ضلالاً وخبالاً.

أما الإجماع المعتبر فهو إجماع أهل الحل والعقد من علماء الشرع، سواء كان إجماعهم إجماعاً صريحاً بالقول، أوإجماعاً سكوتياً.

وهذه البلية ما هي إلا ثمرة خبيثة من ثمار تقليد الكفار الأعمى، والتشبه المقيت بهم في كل شيء، والخلط المتعمد وغير المتعمد بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية الزائفة، واغترار كثير من المسلمين بذلك وافتتانهم بها، حتى أشربوا حبها وحب من يحبها.

ومما يدل على زيف الديمقراطية الغربية اللادينية ما جرى في الجزائر وتركيا عندما جاءت الديمقراطية بمن لا يهواهم الكفار، تدخلوا دخولاً سافراً، وأوحوا إلى عملائهم للقضاء على هذين النظامين، وعندما جاء الانقلاب العسكري ببرويز مشرف رحبوا به وحموه على الرغم من قيامه على أنقاض نظام ديمقراطي.

مما يدل على أن الحق لا يعرف بالكثرة مدح الله سبحانه وتعالى للقلة، وأن الجماعة قد تكون متمثلة فيمن فارق الجماعة.

قال تعالى: "وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ".

وقال على لسان قوم فرعون: "إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ".

ã

ثالثاً: إباحة الردة وإنكار حدها

تقول المادة [36]: لا يجوز توقيع عقوبة الإعدام إلا كقصاص أوكعقوبة على الجرائم بالغة الخطورة وفقاً للقانون].

هذه المادة فيها تلميح بإباحة الردة وتصريح بإنكار حدها، وكذلك رجم الزاني المحصن، وفيها رد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، والثيب الزاني"، ولقوله كذلك: "من بدَّل دينه فاقتلوه".

حد الردة هو السياج المنيع والحرز المتين لهذا الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنه لو لم يُقتل ذلك المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص، ويمنعهم من الخروج عنه).

وفي ذلك دعوة صريحة لضعاف النفوس أن يرتدوا عن الإسلام وينضموا للأحزاب الكافرة، وفي هذا محادة لله ولرسوله، وناقض للإسلام، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

ã

رابعاً: تسوية اللغة العربية بغيرها من الرطانات الأجنبية والمحلية

تقول المادة [8-(1)]: [جميع اللغات الأصلية السودانية لغات قومية يجب احترامها، وتطويرها، وترقيتها).

[8-(2)]: [العربية هي اللغة القومية الأوسع انتشاراً في السودان].

[8-(3)]: [تكون اللغة العربية باعتبارها لغة رئيسية على الصعيد القومي واللغة الإنجليزية اللغتين الرسميتين لأداء أعمال الحكومة القومية ولغتي التدريس في التعليم العام].

وفي هذا ظلم وتعدٍ على لغة القرآن والإسلام، ولغة غالبية سكان السودان - فصحى وعامية - بما في ذلك جنوب السودان، حيث تعتبر العامية العربية هي اللغة المشتركة بين سكان الجنوب دعك عن سكان بقية الأقاليم.

اللغة هي رمز قوة الأمة ورمز عزتها، وفي إضعافها إضعاف لدين الأمة، وطمس لهويتها، وضياع لثقافتها، لهذا فإن الكفار يحرصون على نشر لغاتهم، ويبذلون في ذلك كل غالٍ ورخيص، ولا يسمحون للغة غير لغتهم أن تكون هي اللغة الرسمية أوإحدى اللغات الرسمية، وما يمارسه الفرنسيون في غرب وشمال غرب إفريقيا للتمكين للغتهم تحت شعار "الفرنكفونية" ليس ببعيد عنا، فلماذا نرضى الدنية في ديننا ولغتنا؟

ماذا يبقى للأمة الإسلامية إذا حورب دينها ولغتها وحوصرا بالعلمانية والرطانات الأجنبية والمحلية؟

تمنع كثير من الدول الكافرة تدريس غير لغتها في مرحلة الأساس، بينما نحن نتساهل في ذلك ونتنافس ونمكن من تدريس اللغة الإنجليزية في مرحلة الأساس حتى تنافس اللغة الأم وتضعفها.

فالقرآن نزل باللغة العربية، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالعربية، ولا سبيل لمعرفة أسرار هذا الكتاب وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير التمكن من اللغة العربية.

من مخاطر تدريس لغات الكفار للنشء المسلم في مراحل التعليم العامة أن دراسة هذه اللغات لا تتم إلا بدراسة آدابها وثقافاتها اللادينية الكافرة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (واللسان تقارنه أمور من الأخلاق والعلوم، فإن العادة لها تأثير عظيم فيما يحبه الله ورسوله أوفيما يكرهه).

لقد حذرنا رسولنا من التشبه بأهل الكتاب، ويشمل ذلك التشبه بهم في ألسنتهم، وأعيادهم، وزيهم، وعاداتهم، وما شاكل ذلك.

لم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من أصحابه أن يتعلم رطانة يهود إلا لزيد بن ثابت رضي الله عنه، لأنه خشي من تحريفهم وتلبيسهم.

ولهذا وردت كراهية تعلم رطانات العجم عن عمر وعلي رضي الله عنهما.

فهل هناك ظلم أكبر من أن تسوى لغة يتحدثها أكثر من 90% من سكان البلد برطانات الكفار من أجانب ومحليين وغيرهم، وأن تناصفها اللغة الإنجليزية الصبغة الرسمية في دواوين الحكومة؟!

هذا بجانب بعث وإحياء رطانات الأمم الوثنية السابقة للإسلام.

ã

خامساً: عدم الالتزام بشروط الإمامة الكبرى في الإسلام

حيث لم يُشترط في إمام المسلمين أهم شرطين، وهما:

1.  الإسلام.

2.  والذكورية.

وقد أغفل الدستور هذين الشرطين عن قصد.

جاء في المادة [53] تحت أهلية الرئيس: [يتعين على المرشح لمنصب رئيس الجمهورية أن يستوفي الشروط التالية:

أ. أن يكون سودانياً.

ب. أن يكون سليم العقل.

ج. ألا يقل عمره عن أربعين سنة.

د. أن لا يكون قد أدين في جريمة تتعلق بالأمانة أوالفســــــاد الأخلاقي خلال السنوات السبع السابقة].

أول شرطين ينبغي أن يتوفرا فيمن يلي إمامة المسلمين الإسلام والذكورية، فالكافر لا ينبغي له أن يكون إماماً للمسلمين ولا نائباً للإمام، أوأن يتولى ولاية من الولايات مهما كانت صغيرة أوكبيرة، لا وزيراً، ولا والياً، ولا مديراً، عملاً بقوله تعالى: "وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً".

وكذلك المرأة لا تكون والية، ولا وزيرة، ولا قاضية، فلا قوامة للنساء على الرجال في الإسلام، قال تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ".

وقال: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً".

وقال: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ".

وقال: "لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ".

وقال صلى الله عليه وسلم عندما علم أن الفرس ولوا عليهم بوران بنت كسرى، حيث لم يجدوا رجلاً من تلك الأسرة: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، و"قوم" و"امرأة" كلاهما نكرة تفيد العموم.

فالكافر والمرأة كذلك لو اختارهما جميع المسلمين دعك عن الأغلبية لما حل لواحد منهما أن يلي أمر المسلمين، بل الحاكم المسلم إذا اقترف فسقاً في أثناء ولايته عُزل تلقائياً.

والدليل على ذلك أنه لم تل امرأة ولاية في الإسلام، لا قاضية، ولا وزيرة، في عصور الإسلام السابقة إلى سقوط الدولة العثمانية في عام 1925م، واستعمار البلاد الإسلامية، وكل ما ينسبه الذين أشربوا حب الكفار والتشبه بهم من أن بعض أهل العلم أجاز للمرأة أن تلي القضاء ونحو ذلك فهو من باب الكذب المحض.

فالمسلمون لا يتولى أمرهم إلا مسلم، وكذلك دار الإسلام لا يحكمها إلا مسلم، لأن وظيفة الإمام الأساسية حفظ الدين وحمايته والدفاع عنه، فهل يمكن للكافر أن يحمي حمى الدين؟

قال تعالى: "االَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ".

ما هي الحاجة والضرورة التي تجعل المشرِّع يعمل على تمكين الكفار من السيطرة والهيمنة على المسلمين؟

لماذا يصر الكفار في بلادهم على أن يكون الرئيس كاثوليكي أوبروتستانتي إن كانت الأغلبية كاثوليكية أوبروتستانتية مثلاً ويُنص على ذلك في الدستور، ويفرضوا على المسلمين بواسطة عملائهم أن يحكمهم غير مسلم؟!! سوى الإمعان في الإذلال للمسلمين؟

أما اشتراط أن لا يقل عمر ولي الأمر عن أربعين سنة فليس لذلك مبرر إلا تقليد الكفار والتشبه بهم وتقديم الولاء لهم، وإلا فقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وعمره 37 سنة، وكان أنجح حاكم بعد الخلفاء الراشدين، حتى عُد خامس الخلفاء الراشدين، ومعاذ بن جبل شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، وكان عمره وقتها 27 سنة.

وكذلك اشتراط أن لا يكون أدين في جريمة تتعلق بالأمانة أوالفساد الأخلاقي خلال سبع سنوات لا مبرر له، حيث أن الإسلام والتوبة تجبان ما قبلهما إذا صدق الإنسان في توبته، فالإسلام يجب أعظم جرم وذنب وهو الإشراك بالله عز وجل، أفلا يجب الفساد المالي والأخلاقي؟! ولكنه الاستعباد والتقليد للكفار الذي أعمى البصائر قبل الأبصار.

ã

سادساً: المساواة بين الذكر والأنثى

من المخالفات الشرعية الكبيرة التي نص عليها الدستور الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل، وإلى إخراج المرأة من بيتها وجعلها سلعة رخيصة للكلاب البشرية.

حيث نصت المادة [15-(2)]: [على الدولة تحرير النساء من الظلم وتقرير المساواة بين الجنسين وتشجيع دور النساء في الأسرة وفي الحياة العامة].

ولأهمية هذا الأمر في نظر واضعي الدستور القدامى والمحدثين فقد اتفق عليها الجميع ونصوا عليها في دستور 98 وفي بروتوكولات تقسيم السلطة.

ومعلوم أن المراد بالمرأة المرأة المسلمة التي لا تزال محافظة وملتزمة بالأوامر الشرعية.

ومن العجيب الغريب أن تكون دعوى تحرير المرأة من القيود الشرعية ومشاركتها للرجل في كل المجالات الشغل الشاغل لأعداء الإسلام في المنظمات الدولية، حتى عقدوا لذلك العديد من المؤتمرات: مؤتمر القاهرة، ومؤتمر بكين، الذي تمخض فولد حية وهي اتفاقية "سيداو".

ومن المعلوم في دين الله ضرورة أن المرأة تختلف عن الرجل خَلقياً، وشرعياً، ونفسياً، وهذا الذي يقره العقل، والدين، والعرف، والتقاليد السليمة، ومع ذلك فإن دعاة تحرير المرأة من الكفار، وعملائهم، وصنائعهم، والسذج من المسلمين والمسلمات سادرون في غيهم، مصممون على تحقيق غرضهم أن تخرج المرأة وتسفر وتتبرج كما فعلت النساء في الجاهليات القديمة والحديثة.

لقد حسم الله عز وجل هذه القضية حيث قال مقرراً ذلك على لسان والدة مريم ابنة عمران عندما ولدت مريم، وقد كانت نذرت إن ولدت ولداً ذكراً أن تجعله سادناً للكنيسة، فعندما ولدت مريم عليها السلام قالت معتذرة: "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى".

ومراد دعاة تحرير المرأة بالمساواة المساواة الكاملة في كل الأمور، سيما بالنسبة للمسلمات، في الآتي:

1. الحقوق السياسية: أن يكون لها حق الانتخاب والترشيح في النظام الديمقراطي العلماني، وحق تولي الإمامة الكبرى وما دونها من القضاء، والوزارة، والإمارة، من غير تميز للرجل عليها، وفي تولي الإمامة الصغرى، إمامة الصلاة، كما فعلت أمينة الأمريكية، عليها من الله ما تستحق.

رادين قول الله عز وجل: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء".

وقول رسوله الكريم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

ورادين لإجماع المسلمين، ومسفهين لأقوال أهل الحل والعقد.

2. تسويتها مع الذكر في الميراث: رداً لقول الله عز وجل: "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ"، وقد صرح بذلك بعض الأشقياء وألمح إليه بعض الخبثاء.

3. تسويتها مع الذكر في الولاية في النكاح: التي شرعها ربنا صيانة للمرأة، وإكراماً وإعزازاً لها، وحماية للأعراض من تلاعب المتلاعبين، رادين قول الرسول الكريم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" الحديث، وكذلك قوله: "لا تزوج المرأةُ المرأة، ولا تزوج المرأةُ نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها".

4. تسويتها مع الرجل في الخلوة والاختلاط: في المعاهد، والجامعات، والأسواق، والمركبات، والاحتفالات، رداً لقوله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ".

5. في تحريم التعدد على الرجال: حتى تساوى النساء بنص القانون، رداً لقوله تعالى: "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ".

أما الزنا والفاحشة فهي مباحة، سعت بعض الدول الفاجرة إلى التقعيد والتأصيل للشذوذ والنص عليه في القوانين والدساتير، فقد ظهر الجنس الثالث والرابع نتيجة لتقليد الكفار والتشبه بهم حتى في بعض ديار الإسلام.

مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، "ولو أتى أحدُهم أي الكفار أمَّه علانية لأتى أحدُكم أمَّه علانية"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.

6. التسوية بين الذكر والأنثى في القوامة على الأبناء: بل في حال الانفصال يكون الحق كاملاً للمرأة، سيما إن كانت كتابية كافرة، وحرمان الأب المسلم من أن يشرف على أبنائه ويتولى تربيتهم والعناية بهم، حتى تتمكن الزوجة الكافرة من تهويد أوتنصير أومسخ الأبناء.

ومزيد بشارة للمولعين بالزواج من الكافرات وهو لا يحل إلا بشرط أن تكون ذمية تعيش بين المسلمين، أما إن كانت تعيش في دار الكفر فلا يحل له زواجها، والذمية يجوز زواجها إن خشي الوقوع في الزنا، فحل زواج الكافرة مثل حل أكل المضطر للميتة، أوأن يرغب في إسلامها.

وإلا فلا يحل له نكاح الكافرات، مع هذه المخاطر عليه وعلى أبنائه.

من تلك المخاطر:

أ. استحواذ الزوجة الكافرة على الميراث وحرمان كل الورثة بنص قوانين الكفار.

ب. من حقها قانونياً أن تحرق زوجها الميت في أي محرقة تشاء، ولا يعترض عليها معترض من أهله وذويه.

ج. عيش أبنائه في بلاد الكفر وحملهم لجنسية تلك البلاد، وانقطاعهم غالباً عن أهليهم وأرحامهم.

د. احتمال ارتدادهم إن كانوا مسلمين، إن لم يكن الجيل الأول فالثاني أوالثالث وارد.

ﻫ. يمنع من الزواج عليها.

و. غالباً أن يتم الزواج في الكنيسة.

ز. لا يستطيع أن يزوج أحد أبنائه أوبناته قبل سن الثامنة عشرة.

ح. احتمال أن يتزوج إحدى بناته أوكلهن الكفار.

7. التسوية بين الرجل والمرأة في حق الانفصال الطلاق بل يريدون أن يسلبوا الرجال من هذا الحق الذي منحهم إياه رب العالمين ويملكوه للنساء.

8. السعي لتحديد النسل: بحجة الانفجار السكاني، وتيسير وتوفير موانع الحمل عن طريق هيئة الصحة العالمية، رداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"، الحديث.

9.  الدعوة إلى إباحة الإجهاض: بل إلى ضرورته بغرض تنظيم الأسرة وما شاكل ذلك.

أخطر ما في سن مثل هذا القانون "التسوية بين الرجال والنساء" من غير اعتبار للدين، والخلق، والأعراف والتقاليد الصحيحة ما يأتي:

أ. إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا من أهم مطالب الكفار، حسداً من عند أنفسهم.

ب. تغيير قانون الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية، وقد بادرت بعض البلاد بذلك، على سبيل المثال تونس، والجزائر في طريقها الآن لتغيير هذا القانون، وقد وجه رئيسها بذلك، وفي ذلك ضرر لا يدانيه ضرر، حيث كانت دائرة الأحوال الشخصية في المحاكم هي الوحيدة التي تلتزم الشرع، أما في غير تلك الدائرة فإن المسلمين يُحْكَمُون فيها بالقوانين الوضعية.

لهذا فإن الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة تسعى لتحقيق هذا الهدف بإلزام الدول الإسلامية بالاشتراك في تلك المؤتمرات والتوقيع عليها والالتزام بها، نحو اتفاقية "سيداو".

ج. العمل على تفكيك الأسرة كما تفككت عند الكفار، وهي النواة الأولى للمجتمع المسلم، وذلك بعدم اشتراط ولاية الرجل في النكاح، وتشجيع ما يعرف بالزواج العرفي الذي هو صنو نكاح المتعة المحرم وأخو الزنا، مستغلين لذلك بعض الهفوات والسقطات التي صدرت من بعض أهل العلم حين أجاز للمرأة أن توكل من يزوجها من كفء.

د. تولي المرأة الولايات الكبرى كالإمامة ونحوها، وقد سنت هذه السنة السيئة بعض الأشقياء في بعض البلاد الإسلامية، باكستان وبنجلاديش، فعلى من سنها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

ﻫ. تولي المرأة القضاء، بل تسنمها للوظائف العليا فيه، محكمة الاستئناف، كما هو الحال في السودان.

و. إضعاف القوامة على الأبناء والزوجات، وإشاعة الفوضى في الأسر مما يؤدي إلى تفككها.

ز. ضعف الغيرة لدى الرجال، وإذا فقد الرجل غيرته على دينه وحريمه وعرضه فقد أعز ما يملك، وأصبح وجوده كعدمه، ولهذا أخبر الصادق المصدوق: "أن الديوث لا يدخل الجنة ولا يجد ريحها"، أوكما قال.

ح. تفشي ظاهرة الطلاق، باغترار بعض النساء بهذه القوانين، مما يؤدي إلى تعاليهن ونشوزهن على أزواجهن، الذي ينتج عنه الطلاق، وتفكيك الأسرة، وتشريد الأبناء.

ã

سابعاً: الولاء في الدستور للوطن وليس لله عز وجل

من المخالفات العظيمة والمخاطر الجسيمة التي وردت في الدستور أن يكون ولاء المسلم أولاً لوطنه، ويدافع عن الوطن ولو أدى إلى ضياع الدين، وأن يتجاوز الفوارق الدينية !!!

كما جاء في المادة [23-(1)]: [على كل مواطن سوداني أن يدين بالولاء لجمهورية السودان].

وفي المادة [23-(ب)]: [ينبذ العنف، ويشجع بدلاً منه الانسجام، والإخاء، والتسامح بين كل أهل السودان، تجاوزاً للفوارق الدينية، والإقليمية، واللغوية، والقطاعية، والطائفية].

والمسلم ولاؤه لله عز وجل أولاً وأخيراً، ودفاعه عن وطنه ودياره على أساس أنه وطن إسلامي وديار إسلامية.

لكن إذا تعارض الدفاع عن الوطن مع الدفاع عن الدين والعقيدة فلا مجال للمقارنة.

لقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر من مكة إلى المدينة مخاطباً لمكة: "لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"، ولكن عندما تصادم حبه لوطنه مع حبه لدينه وولائه لربه وخالقه ركل حب الوطن جانباً، وخرج منها غير آسف لخروجه منها.

ومن عجيب أمر واضعي الدستور، وأمرهم كله عجب، دعوتهم لنبذ الفوارق الدينية وعدم اعتبارها في العلاقات بين أفراد الوطن الواحد، ومعلوم من الدين ضرورة أن الأخوة الإيمانية لا يعادلها شيء من الروابط والوشائج.

قال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ".

وقال: "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْأَبْنَاءهُمْ أَوْإِخْوَانَهُمْ أَوْعَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

أما الذين يقدمون حب الوطن وحب الجنس والطائفة على الدين فأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله "أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ".

قال تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".

وقال: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ".

لقد حقق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدة الولاء والبراء أكمل تحقيق، فقد كان حبهم لله، وبغضهم لله، وكانوا يقدمون أخوة العقيدة والدين على أواصر النسب، والوطن، والجنس، ونحوها.

فقد قال عمر رضي الله عنه عندما استشار رسولُ الله أصحابَه في أسرى بدر: أرجو أن تمكنني من قتل خالي، وتمكن علياً من قتل أخيه عقيل، حتى يعلم المشركون أنه لا هوادة في قلوبنا عليهم.

وكذلك قال مصعب بن عمير، وقد مر على أخيه لأمه وأبيه أبي عزيز وهو أسير عند أحد الأنصار: اشدد عليه فإن له أماً ستفديه منك بمال كثير؛ فقال له أبوعزيز: أتقول هذا وأنا أخوك؟! فأشار إلى الأنصاري قائلاً: بل هذا أخي دونك.

وكذلك فعل الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه عندما رجع مسلماً إلى زوجه وأبيه، حيث قال لكل منهما عندما جاء مرحباً بقدومه: إليك عني، فلستُ منكَ ولستَ مني، لقد فرَّق الإسلامُ بيني وبينك؛ إلى أن اغتسلا وأسلما فسلم عليهما.

لهذه المخالفات ولغيرها فإن هذا الدستور مرفوض شرعاً، ولا ينبغي أن يقر ويجاز ويحكم به مسلم، فمن حكم به أورضي أن يُحكم به فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فالمطلوب من ولاة الأمر أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر في تلك المخالفات وغيرها، وأن يحكموا المسلمين بشرع ربهم وسنة نبيهم، وأن يخيروا الكفار بين التحاكم إلى شرعنا وهذا هو الراجح وبين أن يتحاكموا إلى غيره من القوانين الوضعية الجائرة، التي هي سبب تعاسة البشر في الدنيا وتحقيق شقائهم في الآخرة.

أما المسلم فليس له الخيار: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ".

"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا".

"أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ".

"وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.. الظَّالِمُونَ.. الْفَاسِقُونَ".

ولو أقرته الأمة بأسرها لم يفده ذلك شيئاً، وهو مخالف لشرع الله، ومصادم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

وتعتبر إجازته والعمل به خيانة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، وللوطن.

اللهم هل بلغنا، اللهم فاشهد.

والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة ولد عدنان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

ذو القعدة 1426ﻫ

0000000000000000000000

لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني

هذا بيان للناس

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني

 

شرع ختان الأنثى لعلتين هما

فوائد ختان الأنثى السني

الختان للذكر والأنثى من سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب".

بعد أن أجمع العلماء على وجوب ختان الذكر، وعلى مشروعية ختان الأنثى، اختلفوا في حكم ختان الأنثى على أقوال هي: واجب، سنة، مكرمة؛ أرجحها أنه واجب كختان الذكر، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشافعي، وسُحنـون من المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، وشيخ الإسـلام ابن تيميـة، وابن القيم، والشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي المتوفى 1050هـ، وغيرهم كثير من الأقدمين والمحدثين، واستدلوا على وجوب ختان الأنثى بالآتي:

1.   ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"، وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الأنثى.

2. ما خرجه أبوداود وغيره من أهل السنن عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل".

3. وعن ابن عمر قال: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم نسوة من الأنصار، فقال: "يا معشر الأنصار اختضبن غمساً، واخفضن ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكم وكفر المنعمين"، أي الأزواج.

4.  وقال مالك: "من الفطرة ختان الرجال والنساء".

والعلة في ختان الذكر تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والعلة في ختان الأنثى تعديل شهوتها، فإنها إن كانت غلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، ويالها من علة عظيمة وحكمة كريمة.

ولهذا يقال في المشاتمة: يا ابن القلفاء! لأن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، كما قال شيخ الإسلام مفتي الأنام ابن تيمية في مجموع الفتاوى.

وبادئ ذي بدء لابد من التذكير والتنبيه على أننا عندما نقول بوجوب ختان الأنثى نعني بذلك الختان السني، وهو أن يقطع شيء يسير وهو أعلى الجلدة التي كعرف الديك.

أما الختان الفرعوني فهو حرام، ويكفيه سوء نسبته إلى إمام من أئمة الكفر وإلى ملة وثنية، بجانب الأضرار البليغة والمخاطر الكثيرة الناتجة منه، نحو:

1.  مخاطر الولادة والنزيف.

2.  إضعاف الشهوة عند المرأة.

3.  عدم تحقيق المقصود للزوج.

فالحاملون على الختان السني نوعان، منهم من يخلط بين الختان السني والفرعوني، ومنهم من لا يعرف سوى الختان الفرعوني، ويمثل ذلك ببعض استشاريي أمراض النساء والتوليد، ومنهم أصحاب الأغراض الخبيثة، والأهداف السيئة، المنفذون لخطط الكفار، الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، نحو الجمعيات والمنظمات المدعومة بواسطة المنظمات الكنسية العالمية.

فالحكم على الشيء جزء من تصوره، إذ لا يحل لأحد أن يحكم على شيء وهو لا يعرفه ولا يميز بينه وبين غيره، فمن جهل شيئاً عاداه.

قال الماوردي الشافعي: (وأما خفض المرأة فهو قطع جلدة في الفرج فوق مدخل الذكر ومخرج البول على أصل كالنواة، ويؤخذ منه الجلدة المستعلية دون أصلها).

قال الدكتور محمد علي البار معلقاً على ما قاله الماوردي: (هذا هو الختان الذي أمر به المصطفى، وأما ما يتم في مناطق كثيرة من العالم ومنه بعض بلاد المسلمين، مثل الصومال، والسودان، وأرياف مصر، من أخذ البظر بأكمله، أوأخذ البظر والشفرين الصغيرين، أوأخذ ذلك كله مع أخذ الشفرين الكبيرين، فهو مخالف للسنة، ويؤدي إلى مضاعفات كثيرة، وهو الختان المعروف باسم الختان الفرعوني، وهو على وصفه لا علاقة له بالختان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم)7.

ã

شرع ختان الأنثى لعلتين هما:

1.  لإزالة النتن الذي يكون في أعلى البظر، قال ابن منظور رحمه الله في مادة "لخن"8: (اللخن قبح ريح الفرْج، وامرأة لخناء، واللخناء التي لم تختن، وفي حديث عمر: يا ابن اللخناء، هي التي لم تختن، وقيل اللخن النتن).

2.  تقليل شهوة المرأة، ولهذا يقال في المنابذة: يا ابن الغلفاء؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا يقال في المشاتمة يا ابن الغلفاء، فإن الغلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتار ونساء الفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود بالاعتدال، والله أعلم)9.

وفي ذلك تقليل لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

وفي ذلك تقليل لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

ã

فوائد ختان الأنثى السني

قال دكتور البار: (لذا فإن الضجة المفتعلة ضد ختان البنات لا مبرر لها، لأن المضاعفات والمشاكل ناتجة عن شيئين لا ثالث لهما: الأول مخالفة السنة، الثاني إجراء العملية بدون تعقيم ومن قبل غير الأطباء).

ثم عدد فوائد ختان الأنثى السني، ملخصها10 ما يلي:

1. اتباع السنة.

2. ذهاب الغلمة والشَّبق تعديل الشهوة.

3. منع الالتهابات "الميكروبية" التي قد تجتمع تحت القلفة للأنثى.

4. تقليل حدوث إصابات سرطان الفرج عند المختونين رجالاً ونساء.

5. تقليل الإصابات بالأمراض الجنسية الناتجة من الزنا واللواط، مثل الهربس، والقرحة الرخوة، والورم المغبني، والزهري.

6. نيل الحظوة عند الزوج.

من العجيب الغريب أن جل المنادين بمنع ختان الأنثى سنياً، والداعمين له مادياً، من المنظمات الكافرة والمشبوهة، ومن المنافقين الذين ليس لهم غرض في الدين، ولا يحق لهم الحديث عن حكم من الأحكام الشرعية، أما القليل من المخدوعين والمضللين، نحو بعض استشاريي النساء والتوليد وغيرهم، فقد أصابتهم ردة فعل من الختان الفرعوني المحرم شرعاً، ذي الأضرار البليغة والمخاطر الجسيمة، فقد ناقشنا كثيراً منهم، فهم لا يميزون بين الختان السني المشروع والختان الفرعوني المحرم، ولا يحل لأمثالهم الجهل بذلك أوالتجاهل.

ومما يحز في النفس تجرؤ هؤلاء على أهل الحل والعقد من العلماء والاختصاصيين في هذا الشأن شرعياً ومهنياً، كالدكتور البار، والدكتور عبد الله با سلامة، والطبيبة الماهرة ست البنات حفظها الله ووفقها، ومحاولة سن قانون يحرم ممارسة الختان السني، وأن يتولى البعض في وزارة الصحة مثل هذا العمل المشين والتصرف اللئيم، منفذين لبرامج الكفار وما جاء في مؤتمراتهم التي غرضها تغيير فقه الأسرة في الإسلام، بدءاً بالختان السني، ومروراً بتحريم التعدد، وانتهاء بإلغاء ولاية الآباء على بناتهم في الزاوج تمكيناً للزواج العرفي الذي هو أخو الزنا.

ومما تجدر الإشارة إليه كذلك ويجب التنبيه عليه أنه لا يحل لأحد أن يتكلم أويفتي عن مشروعية الختان وعن حكمه للذكر أوالأنثى إلا إن كان من أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين، أما منظمة الصحة العالمية، ووزارة الصحة، والمجالس الطبية، والاستشاريون في مجال أمراض النساء والتوليد، فليس من حقهم أن يحرِّموا أويحللوا شيئاً من ذلك أويمنعوا أويبيحوا، لأنهم ليسوا من أهل ذلك الشأن، ويمكن لأهل الفتوى من العلماء الشرعيين أن يستفسروهم إن دعت الضرورة عما يقع تحت دائرة اختصاصهم.

وقد ساءنا جداً ما صدر من المجلس الطبي في وزارة الصحة السودانية، حسب ما نشر في جريدة الرأي العام العدد [3002]، الجمعة 6 من ذي القعدة 1426ﻫ، الموافق 6 يناير 2006م، الصفحة الأولى، من تحريم إجراء عمليات ختان الإناث، بدعوى سد الذرائع وقفل الأبواب التي قد تؤدي إلى مضاعفات، مثل التتنوس وغيره، وهذه دعوة باطلة، إذ هذه المضاعفات قد تحدث للذكور كذلك، ولم يستثن القرار الختان السني الذي هو من سنن الفطرة.

هذا مع صدور فتوى من المجمع الفقهي السوداني بمشروعية ختان الإناث السني.

حيث ضرب المجلس الطبي بفتوى المجمع الفقهي عرض الحائط، بل سخروا منها، بلسان الحال والمقال، وهذا والله العظيم من المصائب العظام، والفتن الطوام، أن يمنع المسلمون من تطبيق سنة من سنن نبيهم التي أمر بها وحث عليها، وأجمع العلماء على مشروعيتها وإن اختلفوا في حكمها، ولو فرضنا جدلاً أنها سنة ومكرمة لما جاز للمجلس الطبي أن يمنع مسلماً أراد أن يتعبد ربه بذلك ويعف بناته، خاصة مع إجازة أهل الحل والعقد لها، ممثلة في المجمع الفقهي.

ينبغي للمجمع الفقهي أن يحمي فتاواه وقراراته من تلاعب المتلاعبين، وإلا فما فائدتها؟ وينبغي للمسؤولين أن يتقوا الله في دينهم، وفي أنفسهم، وفي أعراض المسلمين، وأن لا يجعلوا الحبل على الغارب، ويتركوا الناس يستغلوا سلطانهم لتحقيق مآربهم وأهوائهم، ولإرهاب العلماء والدعاة والمصلحين، ولمحاربة السنة تحت شعارات باطلة نحو "محاربة العادات الضارة"!! إذ ليس أضر على الإسلام والمسلمين من رافعي هذه الشعارات.

فهذه بداية الدخول في النفق المظلم، ومقدمات التغيير المؤلم لسمات السودان المسلم، أن يحارب الدين ودعاته، ويمكَّن للكفر وحماته، بسن القوانين وإرهاب الصالحين.

أين المجلس الطبي ممن يمارسون الإجهاض من الأطباء والقابلات، ويعالجون بالسحر، والشعوذة، وبالمحرمات؟

هل منظمة الصحة العالمية أحرص على نساء المسلمين من رسولهم، وعلمائهم، ومن آباء هؤلاء البنات وأوليائهم؟

وهل هم أنصح لله، ولرسوله، وللمؤمنين من أنفسهم؟!

والله لو كان منع الختان السني للنساء خيراً لما تصدرته هيئة الصحة العالمية والمنظمات المشبوهة، ولما نادى به بعض من لا خلاق لهم من العلمانيين والمنافقين، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.

ولهذا فإننا نقول بملء أفواهنا: لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني.

فليتق الله المسؤولون في وزارة الصحة وغيرهم، وليعملوا على إيقاف هذه الحملات الجائرة، ومن عد هذه السنة من العادات الضارة، والله الموفق للصواب، وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على النبي الهادي، وصحبه، والأتباع.

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة

14/12/1426ﻫ

0000000000000000000000

الوعيد الشديد لمن هنّأ أوشارك في أعياد عبّاد الصليب

بمناسبة أعياد الميلاد

الوعيد الشديد لمن هنّأ أوشارك في أعياد عبّاد الصليب

الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أهم ما تعتد به الأمم والشعوب، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فهي من جملة الشرع والمناهج والمناسك، قال تعالى: "ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً"، ولهذا عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً، يوم الأضحى ويوم الفطر"، وكان هذا أول شيء شرع في تغييره وتبديله، لأن هذا من صميم الشريعة.

هذا فيما يتعلق بالأعياد السنوية، أما بالنسبة للعيد الأسبوعي للمسلمين - إذ ليس للمسلمين سوى هذه الأعياد الثلاثة - وهو الجمعة التي هدى الله لها الأمة المرحومة، وحرم منها الأمتين الغضبية والملعونة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقرير ذلك: "نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غدٍ".

إذا كانت الأمة أجمعت، وهي لا تجتمع على ضلالة، واتفق أهل الحل والعقد فيها على أنه لا يجوز أن يُمَكَّن أهلُ الذمة من إظهار  أعيادهم، وذلك لما شرطه عليهم عمر رضي الله عنه، فمن باب أولى وبالأحرى أنه لا يحل لمرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشارك الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم في أعيادهم بأي صورة من الصور، مهما كان هدفه، نحو:

1.  أن يهنئهم بأعيادهم.

2.  أويدخل كنائسهم في أعيادهم.

3.  أويشاركهم في احتفالاتهم ويشاهد مهرجاناتهم.

4.  أويُهدي إليهم، أويتقبل هداياهم.

5.  أورضي ذلك ولم ينكره بقلبه، وهو أضعف الإيمان.

لما يقتضيه ذلك من أمرين خطيرين هما:

أولاً: موالاة الكفار التي هي كفر بحكم الله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم.." الآية.

ثانياً: التشبه بهم، الذي هو صنو الموالاة، وهو كفر كذلك بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن تشبه بقوم فهو منهم"، "خالفوا المشركين".

وأقل درجات هذا الفعل القبيح، والعمل المشين، والسلوك المهين، الحرمة التي قد تفضي إلى الكفر.

قال شيخ الإسلام مفتي الأنام: (ولا ريب أن الموافقة في هذا الأعياد قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروط، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية، وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم، لأن تلك العلامات وضعية ليست في الدين، وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر.

وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه).

وقال أيضاً: (فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر).

ومما يدل على ذلك من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة، والتابعين، وأئمة الدين، بجانب ما سبق ما يأتي:

"والذين لا يشهـدون الزور"، فقد أوِّل الزور بأنه "الشعـانين" عيد من أعيـاد الكفار - كما قـال ابن سيرين، وقال الربيع بن أنس: "إنه أعياد المشركين.

وعن عمر رضي الله عنه: "إياكم ورطانة العجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم".

وعن عمر رضي الله عنه قال: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم".

عن ابن عمرو رضي الله عنهما: "من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشر معهم".

وعن علي رضي الله عنه أنه كره موافقتهم في اسم العيد الذي ينفردون به، فكيف بموافقتهم في العمل؟

قال ابن تيمية: (وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد).

وقال أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي المتوفى 476ﻫ في كتابه "عمدة الحاضر وكفاية المسافر": (فصل: لا يجوز شهادة أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مُهَنَّا، واحتج بقوله: "والذين لا يشهدون الزور").

وقال الخلال في جامعه باب "في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين": (وذكر عن مُهَنَّا قال: سألتُ أحمد عن شهود هذه الأعياد، مثل طور بابور وقيل دير هارون ودير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون؟ قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق فلا بأس).

والله أسأل أن يعصمنا وجميع إخواننا المسلمين من الزلل، وأن يثبتنا وإياهم على الحق ويعيننا عليه، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "وجعل الذل والصغار على من خالف أمري"، ورضي الله عن عمر القائل: "لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن أراد العزة في غيره أذله الله".

000000000000000000000

الأعياد وعلاقتها بالعقائد والشرائع

صور مشاركة الكفار في أعيادهم

الأدلة على ذلك

من القرآن

من السنة والآثار

أقوال العلماء في ذلك

الإجماع

فتاوى

مشاركة المسلم للكفار في أعيادهم المنسوخة والمبتدعة فيه من المضار ما الله به عليم

الخلاصة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وبعد..

العيد كما يقول أهل اللغة يطلق على المناسبة التي تعود وتتكرر على وجه معين، وفي وقت معتاد، وقد يكون سنوياً، أوشهرياً، أوأسبوعياً، وغالباً ما يكون مصحوباً بعبادات دينية، وعادات وتقاليد اجتماعية، فهو أمر تعبدي توقيفي، لا يجوز الزيادة فيه ولا النقصان منه.

والأعياد منها ما هو:

1.     شرعي، وهي ثلاثة: هي عيد الفطر والأضحى السنويان، والجمعة الأسبوعي.

2.     ومنها ما هو بدعي، نحو الموالد، والحوليات، والرجبية، وغيرها.

3.     ومنها ما هو جاهلي.

4. ومنها ما هو صليبي وثني، وهكذا.

وأعياد الكفار تشمل كل يوم أومكان لهم فيه اجتماع، سواء كان مما نسخ في شرعهم أوابتدعوه وأحدثوه من جملة ما أحدثوه.

والأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، وتعتد به الأمم والشعوب، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فهي من جملة الشرع، والمناهج، والمناسك، قال تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا".

ولهذا عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً، يوم الأضحى والفطر"، وكان هذا من أوائل الأمور التي شرع في تغييرها.

هذا بالنسبة لأعياد المسلمين السنوية، أما عيد المسلمين الأسبوعي فهو الجمعة، إذ ليس للمسلمين عيد لا في الدنيا ولا في الآخرة سوى هذه الأعياد الثلاثة، حيث هدى الله هذه الأمة المرحومة إليه، وحرمت منه الأمتان اليهودية والنصرانية، فقد صح عنه أنه قال: "نحن الآخِرون، السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد".

هذه الأعياد الثلاثة للمسلمين يحدث فيها من السرور، والبر، والإحسان، وصلة الأرحام والجيران الشيء الكثير، والنفع العميم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

أما الكفار والمبتدعة على الرغم مما ابتدعوه من أعياد واخترعوه من مناسبات، كادت أن تغطي كل الشهور والأيام، نحو عيد الميلاد، وشم النسيم، وعيد الخميس، والنيروز، والمهرجان، وعيد الأم، والطفل، والعمال، والحب، والشجرة، والميلاد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نحو عيد الاستقلال، واليوم الوطني، فإن حياتهم تزداد يوماً بعد يوم تعاسة وشقاء، ولا أدل على ذلك من هذه الحروب والعداء، وتعاطي المسكرات والمخدرات، ليهربوا بها من واقعهم المرير ومستقبلهم القاتم، مما نتج عنه تفشي الانتحارات التي أصبحت سمة لمجتمعات الكفار.

الحمد لله الذي جعل أيام الطائعين كلها أعياداً وأفراحاً، وأعياد الكافرين كلها وبالاً وخبالاً عليهم وعلى من قلدهم فيها وتشبه بهم.

من الأمور التي عمت بها البلوى في هذا العصر وعظمت فيها المحنة تشبه طائفة من المسلمين بالكفار، المفضي إلى غضب الجبار، على الرغم من تحذير الشارع عن ذلك: "ومن تشبه بقوم فهو منهم"، المؤدي إلى موالاتهم: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ".

والابتداع في دين الله ما لم يأذن به الله مع حكمه صلى الله عليه وسلم بأن المحدثات مردودة على أصحابها لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، أي لا فرضاً ولا نافلة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية البخاري: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

لقد نهى الشارع الحكيم عن التشبه بالكفار، الكتابِيِّين والمشركين، القدماء منهم والمحدَثين، وأمر بمخالفتهم في مسائل عديدة، العلة في أكثرها مجرد المخالفة، إذ مخالفة الكفار دين وقربى.

ã

صور مشاركة الكفار في أعيادهم

من تلكم المجالات التي نهى الشارع الحكيم فيها الأمة من التشبه بالكفار الأعياد، لأنها إما أن تكون منسوخة أومبتدعة، ويشمل النهي المجالات الآتية على سبيل التمثيل لا الحصر:

1.  الدخول معهم في كنائسهم في يوم عيدهم.

2.  تهنئتهم بها.

3.  أن يشاركهم المسلم في احتفالاتهم ويشاهد مهرجاناتهم.

4.  أن يهدي لهم أو يقبل هداياهم في تلك الأعياد.

5.  أن يبيع لهم ما يعينهم على تلك الاحتفالات.

6.  أن يكري لهم سيارة، أومركبة، أومحلاً، أووسيلة من الوسائل.

7.  أن يؤجر نفسه لتقديم خدمة لهم في تلك الأعياد.

8.  أن يوسع على أهله وعياله في تلك الأعياد.

9.  توزيع الحلوى وأطباق الطعام.

10.  عليه أن يمنع من يعول من مشاركتهم لهم بأي صورة من الصور.

ã

الأدلة على ذلك

من القرآن

1.  قوله تعالى: "وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ"، وقوله: "وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ"، فعن ابن سيرين: أن الزور هو "الشعانين"، وقال الربيع بن أنس: أنه أعياد المشركين، وعن عكرمة: هو لعب كان لهم في الجاهلية، وهذه الأقوال كلها متقاربة ذات مدلول واحد.

2.  وقوله تعالى: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"، ولا شك أن مشاركة المسلمين لهم في أعيادهم بأي صورة من الصور فيها موالاة لهم.

3.  "وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، وليس هناك إثم وعدوان أكبر من إقرار الكفار على ذلك.

ã

من السنة والآثار

1.  قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن تشبه بقوم فهو منهم"، وفي مشاركتهم في أعيادهم المنسوخة والمبتدعة تشبه بيِّن واضح.

2.  "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: من".

3.  وعن عمر رضي الله عنه قال: "إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم" .

4.  وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكما بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر" الحديث وقد مر.

5.  روى أبو داود عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: "أن رجلاً نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر بلابِبُوانة، فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا؛ قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

6.  قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا"، وهذا الحديث يقتضي حصر أعياد المسلمين فيما شرع لنا.

7.  وعن عتبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى عيد لنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب"، فدل على أن ما سوى ذلك ليس من أعيادنا ولا شأن لنا بها.

8.  ما روته أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم"، وهذا نص صريح في مخالفة أهل الكتاب.

9.  وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: "من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم".

10.  وعن عمر رضي الله عنه: "اجتنبوا أعداء الله في عيدهم".

11. وذكر البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد، عن عطاء بن دينار قال: قال عمر رضي الله عنه: "لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم".

ã

أقوال العلماء في ذلك

1.  قال عبد الملك بن حبيب: سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم، فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه.

2.  وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له، ورآه من تعظيم عيده، وعوناً على كفره.

3.  وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مُهَنَّا.

4.  وقال الخلال في "الجامع" باب كراهية خروج المسلمين في أعياد المشركين: وذكر عن مُهَنَّا قال: سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام، مثل دير أيوب، وأشباهه يشهده المسلمون؟ يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الضحية، والبقر، والبر، والدقيق، وغير ذلك، يكونون في الأسواق ولا يدخلون عليهم بيعهم؟ قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس.

5.  وقال ابن القيم: وفي كتب أصحاب أبي حنيفة: من أهدى لهم يوم عيدهم بطيخة بقصد تعظيم العيد فقد كفر.

6.  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا ريب أن الموافقة في هذه الأعياد قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروط، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية، وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس "الزنار" من علاماتهم، لأن تلك العلامات وضعية ليست من الدين، وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر.

وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه).

7.  وقال ابن القيم: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم، وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أوتهنأ بهذا العيد، أونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام، ونحوه.

وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية، أوبدعة، أوكفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه.

وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنباً لمقت الله، وسقوطهم من عينه، وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم، فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً، ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق).

ã

الإجماع

لهذا أجمعت الأمة على حرمة ذلك، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

ã

فتاوى

1.  أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية بالنهي عن ذلك في الفتوى رقم [8848] بما نصه: (لا تجوز مشاركة النصارى في أعيادهم، ولو شاركهم فيها من ينتسب إلى العلم، لما في ذلك من تكثير عددهم والإعانة على الإثم، قال تعالى: "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ").

2.  فتوى الشيخ العثيمين رحمه الله، وقد سئل عن حكم مشاركة المسلم للمسيحيين في أعيادهم المعروفة "الكريسماس"، فقال: (بسم الله، تهنئة الكفار بعيد "الكريسماس" أوغيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه "أحكام أهل الذمة").

ثم علل لهذه الحرمة بالآتي:

لما فيها من إقرارهم على ما هم عليه من شعائر الكفر والرضى به.

هذه الأعياد إما منسوخة وإما مبتدعة.

لما في ذلك من التشبه بهم.

ثم ختم فتواه بأن فاعل ذلك آثم وإن فعل ذلك تودداً، أوحياءً، أومجاملة، أولغير ذلك.

ã

مشاركة المسلم للكفار في أعيادهم المنسوخة والمبتدعة فيه من المضار ما الله به عليم

على سبيل المثال:

   إقرارهم على باطلهم.

   تعظيم هذه المناسبات الوثنية الممقوتة.

   مداهنة الكفار، وفي ذلك تقوية لهم وتثبيتاً لهم على باطلهم.

   خوف نزول السخطة عليهم وعلى من شاركهم في ذلك.

   تكثير سواد الكفار.

   تعظيم البلية بمشاركة بعض المنتسبين إلى العلم.

   رعاية الدولة لهذه الاحتفالات، وتنظيمها لهم، ومشاركة بعض المسؤولين في ذلك، وحمايتها من الطوام العظام، لأن الواجب في حقها منع ذلك، والحيلولة دون حدوثه وإعلانه.

   اتخاذ هذه الأعياد عطلة رسمية للدولة والعاملين.

   المشابهة في الظاهر قد تؤدي إلى ائتلاف واتفاق بمرور الزمن.

عجباً للمسلمين، بدلاً من أن ينتهوا عن مشاركة الكفار والجاهليين في أعيادهم واحتفالاتهم شرعوا يقلدونهم ويتشبهون بهم في ابتداع وإحداث أعياد ومناسبات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن علم من الأعلام المقتدى بهم، نحو:

   عيد الاستقلال.

   اليوم الوطني.

   الاحتفال ببعض المناسبات الدينية: أول السنة الهجرية، الرجبية، غزوة بدر، ونحو ذلك.

   الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أسبوعياً وسنوياً.

   الاحتفال بأعياد ميلاد الكبار والصغار.

ã

الخلاصة

أولاً: الأعياد من العبادات الدينية والشعائر التعبدية، ولهذا لا يجوز أن يُزاد على ما شرعه لنا رسول الهدى.

ثانياً: مشاركة المسلم الكفار في أعيادهم لا تحل أبداً بأي صورة من الصور، ومهما كان الدافع لذلك.

ثالثاً: أقل درجات مشاركة المسلم للكفار في أعيادهم الدينية الحرمة.

رابعاً: قد تنتهي المشاركة والموافقة في تلك الأعياد إلى الكفر في الجملة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

خامساً: أن الاهتمام بأعياد الكفار والأعياد البدعية تقلل من شأن وأهمية ومكانة الأعياد الشرعية، فالبدع لا تقوم إلا على أنقاض السنن.

سادساً: وفي ذلك من الضرر والمضاهاة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم ما فيه.

سابعاً: سكوت أهل العلم عن خطورة مشاركة المسلمين للكفار في أعيادهم هو الذي ضلل كثيراً من الناس، ومكن لتلك الاحتفالات، وأدى إلى إشاعتها بين عامة المسلمين.

والله أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعزنا بالإسلام، ولا يذلنا بالتشبه والاقتداء بأعداء الرحمن، أولياء الشيطان، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين الكرام.

00000000000000000000

مذاهب العلماء في حكم صلاة المنفرد خلف الصف

أدلة المصححين لصلاة المنفرد خلف الصف

أدلة المانعين، المبطلين لصلاة المنفرد خلف الصف

أقوال العلماء

أرجح الأقوال

ذهب أهل المقتدى بهم رحمهم الله في صلاة المنفرد خلف الصف إلى أقوال هي:

1.     صلاته صحيحة وإن وجد فرجة في الصف الذي يليه، روي ذلك عن زيد بن ثابت من الصحابة، وعن الحسن البصري، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك، وداود، وأبي حنيفة، ومالك.

2.     تصح مع الكراهة، وهذا ما ذهب إليه الشافعية إن لم يجد فرجة.

3.     لا تصح وعليه الإعادة، روي ذلك عن النخعي، والحكم، والحسن بن صالح، وابن المنذر، والمشهور عن أحمد وإسحاق أنها لا تصح إلاّ إذا كبَّر خلف الصف ثم مشى واصطف مع غيره.

4. تصح صلاته من غير كراهة إذا لم يجد فرجة، وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد التي رجحها شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر تلاميذه.

ã

أدلة المصححين لصلاة المنفرد خلف الصف

استدل المجيزون، المصححون لصلاة المنفرد خلف الصف بالآتي:

1.     حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه وسلم راكع، قال: فركعت دون الصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصاً ولا تَعُد"، وفي رواية: "فلا تُعِد".

2.

وحديث ابن عباس أنه صلى عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم.

ã

أدلة المانعين، المبطلين لصلاة المنفرد خلف الصف

استدل المانعون، المبطلون لذلك بالآتي:

1.     حديث وابصة بن معبد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة" .

2.

وحديث علي بن شيبان قال: "صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فانصرف فرأى رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف الرجل فقال له: استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف".

ã

أقوال العلماء

قال البراذعي في تهذيب المدونة: (ومن صلى خلف الصفوف منفرداً فلا بأس بذلك، ويقف حيث شاء، ولا يجبذ إليه أحداً، فإن فعل فلا يتبعه وهذا خطأ من الذي فعله، وخطأ من الذي جبذه، ومن دخل المسجد وقد قامت الصفوف، قام حيث شاء، إن شاء خلف الإمام، أوعن يمينه، أوعن يساره، وتعجب مالك ممن قال: يمشي حتى يقف حذو الإمام).

وقال ابن عبد البر في الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار عن صلاة المنفرد خلف الصف:( قد اختلف العلماء في ذلك قديماً، فقال مالك: لا بأس أن يصلي الرجل خلف الصف وحده، وقد كره أن يجذب إليه رجلاً؛ وقال أبوحنيفة، والشافعي، وأصحابهما، والليث بن سعد، والثوري: إنْ صلى رجل خلف الصف وحده أجزأته؛ وقال الحسن بن حيّ، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأكثر أهل الظاهر: لا يصلي الرجل خلف الصف وحده، وإن فعل فعليه الإعادة.)

وقال النووي في المجموع شرح المهذب عن مذاهب العلماء في صلاة المنفرد خلف الصف: (قد ذكرنا أنها صحيحة عندنا مع الكراهة، وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري، ومالك، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، وحكاه أصحابنـا أيضاً عن زيد بن ثابت الصحـابي، والثوري، وابن المبـارك، وداود، وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، حكاه ابن المنذر عن النخعي، والحـكم، والحسن بن صالح، وإسحاق، وقال: وبه أقول؛ والمشهور عن أحمد وإسحاق: أن المنفرد خلف الصف يصح إحرامه، فإن دخل في الصف قبل الركوع صحت قدوته، وإلاّ بطلت صلاته.

إلى أن قال: واحتج أصحابنا بحديث أبي بكرة وبحديث ابن عباس، وحملوا الحديثين الواردين بالإعادة على الاستحباب جمعاً بين الأدلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة للذي خلف الصف"، أي لا صلاة كاملة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بحضرة الطعام"، يدل على صحة التأويل أنه صلى الله عليه وسلم انتظره حتى فرغ، ولو كانت باطلة لما أقره على الاستمرار فيها، وهذا واضح).

قلت: ما قاله النووي فيه نظر، فقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته حتى فرغ منها ثلاث مرات، وفي كل مرة كان يقول له: "صلِّ، فإنك لم تصل"، فلم يدل إقراره على صلاته على صحتها.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (الذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، منهم من لم يبلغه، أولم يثبت عنده، والشافعي رآه معارَضَاً بكون الإمام يصلي وحده، وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم، وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف.

وأما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين، فإنه يحمل كل حديث على وجهه، ولا يرد أحدهما بالآخر، فيقول في مثل هذه: المرأة إذا كانت مع النساء صلت بينهن، وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم، وإن كانت وحدها، لأنها منهية عن مصافة الرجال، فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافاتهم، كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن، لأنه أستر لها، كما يصلي إمام العراة بينهم، وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أمَّ أن يتقدم بين يدي الصف).

وقال الحافظ ابن حجر عن صلاة المنفرد خلف الصف: (وذهب إلى تحريمه أحمد، وإسحاق، وبعض محدثي الشافعية، كابن خزيمة، واستدلوا بحديث وابصة.. واستدل الشافعي وغيره بحديث أبي بكرة على أن الأمر في حديث وابصة للاستحباب، لكون أبي بكرة أتى بجزء من الصلاة خلف الصف، ولم يؤمر بالإعادة، لكن نهي عن العود إلى ذلك، فكأنه أرشِد إلى ما هو أفضل، وروى البيهقي من طريق المغيرة عن إبراهيم فيمن صلى خلف الصف وحده قال: صلاته تامة، وليس له تضعيف، وجمع أحمد وغيره بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن حديث أبي بكرة مُخَصِّص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفرداً خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة، وإلا فتجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان، واستنبط بعضهم من قوله: "لا تعد"، أن ذلك الفعل كان جائزاً ثم ورد النهي عنه بقوله: "لا تعُد"، فلا يجوز العود إلى ما نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه طريقة البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام".

إلى أن قال: قوله "لا تعُد" ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين، من العود، وحكى بعض شراح المصابيح أنه رُوي بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويرجح الرواية المشهورة ما تقدم من الزيادة في آخره عند الطبراني: "صلِّ ما أدركتَ، واقض ما سبقك"، وروى الطحاوي بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف، حتى يأخذ مكانه من الصف").

ã

أرجح الأقوال

الذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم السابقة القول الرابع، وهو الرواية الثانية عن أحمد، وقد رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر تلاميذه من الأقدمين، ومن المحدثين العلامة عبد الرحمن السَّعْدي، والشيخ العثيمين رحم الله الجميع، والشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله، وذلك توفيقاً بين الأحاديث.

وعليه من جاء ووجد فرجة وجب عليه الدخول فيها، ولا تصح صلاته منفرداً، سواء كانت الفرجة عليها سجاد أم لا، إن كان الناس يصلون في برحة المسجد، أما إن لم يجد فرجة فيصلي خلف الصف منفرداً ولا إعادة عليه، وينال التضعيف الذي يناله من شهد الجماعة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد رفع الله الحرج عن هذه الأمة، أما أن يطلب منه:

   أن يجذب أحداً من الصف.

   أويتخطى الرقاب ويشوش على المصلين ليبحث عن فرجة في الصفوف الأمامية.

   أويذهب ليصطف إلى جنب الإمام.

فهذا كله من باب التكليف بما لا يطاق، وقد نُزِّهت الشريعة عن ذلك.

لا شك أن الاصطفاف مع المصلين من واجبات الصلاة، فإذا لم يتمكن المصلي من ذلك سقط عنه هذا الواجب، إذ ليس أمامه إلا أن يصلي خلف الصف، أوينتظر آتٍ، وقد يتأخر، وقد لا يأتي حتى يفرغ الإمام من الصلاة، وفي ذلك ضرر بليغ على هذا الرجل الذي سعى إلى المسجد وحرص على صلاة الجماعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: (إن الإمام لا يشبه المأموم، فإن سنته التقدم لا المصافة، وسنة المؤتمين الاصطفاف، نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفرداً، فهذا قياس قول أحمد وغيره، ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها، فيسقط بالعجز في الجماعة، كما يسقط غيره فيها، وفي متن الصلاة).

وقال الشيخ عبد الرحمن السَّعْدي رحمه الله: (الأقوال المعروفة في هذه المسألة ثلاثة:

تجويز صلاة الرجل المنفرد خلف الصف، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، وقد احتجوا بما ذكرتم.

ومَنْعُ ذلك مطلقاً في حال العذر وغيره، وهو قولكم، للحديث الذي ذكرتم، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه.

والقول الثالث، وهو الرواية الأخرى عن أحمد اختارها شيخ الإسلام وأكثر تلاميذه.

وهو القول الصحيح، والتفصيل: وهو أنه لا تصح صلاة الفذ خلف الصف من دون عذر.. كما إذا وجد الصف ملزوزاً ليس فيه موضع يقف فيه، وهذا به تجتمع الأدلة، وهو الذي تدل عليه أصول الشرع وقواعده، ويدخل في الأصل العظيم المتفق عليه، - وهو أن جميع واجبات الصلاة وشروطها المتفق عليها والمختلف فيها تجب مع القدرة عليها، وتسقط مع العجز عنها، ولا يستثنى منها شيء، فلأي شيء يستثنى منه هذا الواجب؟

إلى أن قال: ومما يدل على صحة هذا القول أنه قد ثبت ثبوتاً لا مرية فيه وجوب صلاة الجماعة، وأنه لا يحل للرجل ترك الجماعة مع القدرة عليها، فإذا فرضنا رجلاً وجد جماعة يصلون، ولم يجد في الصف موقفاً، ودار الأمر بين أن يترك الجماعة ويصلي وحده منفرداً، وبين أن يصلي خلف الصف ويدرك الجماعة وهو يقدر على إدراكها، كان صلاته مع الجماعة الواجبة هو المتعين، وليس من الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة عجز الإنسان عن وقوفه في الصف).

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله وقد سئل عن هذه المسألة: (هذه المسألة لها ثلاثة أوجه إذا جاء الإنسان ووجد أن الصف قد تم:

فإما أن يصلي وحده خلف الصف.

وإما أن يجذب أحداً من الصف فيصلي معه.

وإما أن يتقدم فيصلي إلى جنب الإمام الأيمن.

نقول المختار من هذه الأمور أن يصف وحده خلف الصف، ويصلي مع الإمام، وذلك لأن الواجب الصلاة مع الجماعة وفي الصف، فهذان واجبان، فإذا تعذر أحدهما وهو المقام في الصف، بقي الآخر واجباً وهو صلاة الجماعة، فحينئذ نقول: صلِّ مع الجماعة خلف الصف لتدرك فضيلة الجماعة.

إلى أن قال: فهذا الرجل الذي أتى المسجد والصف قد تم، ولم يكن له مكان حسي في الصف، سقطت عنه حينئذ المصافة، ووجبت عليه الجماعة..

وأما أن يجذب أحداً ليصلي معه فهذا لا ينبغي لأنه يترتب عليه ثلاثة محاذير:

فتح فرجة في الصف.

نقل هذا المجذوب من المكان الفاضل إلى المكان المفضول، وهو جناية عليه.

تشويش صلاته).

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.

000000000000000000000000

حكم الهجرة إلى ديار الكفار، والعيش بين ظهرانيهم، والتجنس بجنسية إحدى الدول الكافرة

من أفتى بحرمة ذلك

الأدلة على حرمة ذلك

النواقض والمخاطر المترتبة على التجنس بجنسية إحدى الدول الكافرة

من الأمور التي عمت بها البلوى وطمت في هذا العصر، حرص طائفة من شباب المسلمين، سيما النوابغ منهم في مجال الفيزياء، والرياضيات، والطب، ونحو ذلك، وشيوخهم على العيش في دار الكفر، والاجتهاد في نيل جنسياتهم، والتشبث بذلك.

أغراض أولئك القوم متباينة، وجلها لا يخرج عن دائرة حظوظ الدنيا الفانية.

   فمنهم المعجب بحضارتهم وبطرق معايشهم، الراغب في تقليدهم وهؤلاء أحط وأخس الجميع.

   ومنهم من همه رغد العيش، ودافعه لذلك الحصول على تعليم أبنائه، وضمان علاجهم، واستقرارهم مادياً.

   ومنهم من غرضه جمع المال وكنزه.

   ومنهم من غرضه الدعوة إلى الله عز وجل.

   ومنهم المضطر الذي لم يجد بلداً يأويه من بلاد الإسلام، فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فمكره أخاك لا بطل.

وهذا الصنف الأخير هو الوحيد الذي يحل له العيش في دار الكفر إلى حين، وكذلك من ذهب لتحصيل علم أوعلاج لم يجده في ديار المسلمين، أولتجارة، وعليهم أن لا يركنوا إلى ذلك، لأن الضرورات تبيح المحظورات، أما من سواهم فلا يحل لهم العيش والبقاء في تلك الديار وإن كان غرضهم وهدفهم الدعوة إلى الله، لأن علة التحريم الكفر، خشية أن يرتد أحد من أصلابهم، من أبنائهم أوأحفادهم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أوينصِّرانه، أويمجِّسانه"، والعيش في البيئات الكافرة مدعاة لذلك، هذا بجانب مظاهرتهم للكفر والكافرين، وتشبههم بأعداء الملة والدين، وصدهم مسلمي تلك البلاد عن الهجرة الواجبة عليهم إلى دار الإسلام إن تيسرت لبعضهم أولأحدهم، الآن أومستقبلاً.

ã

من أفتى بحرمة ذلك

ما فتئ العلماء يحذرون ويفتون بخطورة ذلك في جميع العصور، قبل وبعد الهجرة العكسية، منهم على سبيل المثال لا الحصر:

1.العلامة ابن حزم رحمه الله، حيث قال: (قد علمنا أن من خرج من دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم: "أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر.

إلى أن قال: فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل  مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم.

وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم عليه، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره).

وقال في موضع آخر: (من لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب، هذا أقل أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه لجماعة الإسلام وانحيازه لأرض الشرك).

لا شك أن المضطرين للسكنى والتجنس حكمهم يختلف، قال تعالى: "إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ..."، فهناك فرق بين من اضطر لذلك ودفع إليها دفعاً وبين من ذهب طائعاً مختاراً لها.

2. ابن رشد رحمه الله، حيث قال: (فصل: فإذا وجب بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، أن على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر، ويلحق بدار المسلمين، ولا يثوي بين الكافرين، ويقيم بين أظهرهم، لئلا تجري عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم، حيث تجري عليه أحكامهم في تجارة أوغيرها، وقد كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يُسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء مريض الإيمان).

3. الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي الفقيه المالكي المتوفى 914هـ، وقد كتب في ذلك فصلاً بعنوان: "أسنى المتاجر في بيان من غلب على وطنه النصارى فلم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر"، قال الونشريسي: (ومن خالف الآن في ذلك أورام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم، فجوز هذه الإقامة، واستخف أمرها، واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم، ومسبوق بالإجماع الذي لا سبيل لمخالفته وخرق سبيله).

4.  الشيخ عثمان دانفوديو في رسالة له مكتوبة بخط اليد.

5. سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام كما هو حاصل في بلاد تونس آنذاك وما يتضمنه هذا التجنس من إنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة، والوقوف مع الكفار عسكرياً لقتال المسلمين، فكان جوابه: (إذا كانت الحال كما ذكر في هذا السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول الجنسية ردة صريحة، وخروج عن الملة الإسلامية، حتى أن الاستفتاء فيها يعد غريباً في مثل البلاد التونسية التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال من الأمور المعلومة من الدين ضرورة.

إلى أن قال: إن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام خروج من الإسلام، فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته، ويكفي في هذا أن يكون عالماً بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام الإسلام، فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أوقبيلة وجب قتالهم حتى يرجعوا).

6.  وجاء في فتوى لجنة مصر برئاسة الشيخ علي محفوظ على سؤال: "ما قول العلماء في مسلم تجنس بجنسية أمة غير مسلمة، اختياراً منه، والتزم أن تجري عليه أحكام قوانينها بدل أحكام الشريعة، ويدخل في هذا الالتزام أن يقف في صفوفها عند محاربتها ولو لأمة مسلمة، كما هو الشأن في التجنس بالجنسية الفرنسية الآن في تونس؟".

الجواب: (إن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال، هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولا شك أن شيئاً واحداً من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بالردة، ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت).

7.  وقال الشيخ يوسف الدجوي عندما استفتي في هذه المسألة: (إن التجنس بالجنسية الفرنسية، والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء حتى الأنكحة، والمواريث، والطلاق، ومحاربة المسلمين، والانضمام إلى صفوف أعدائهم، معناه الانسلاخ من جميع شرائع الإسلام، ومبايعة أعدائه على أن لا يعود إليه، ولا يقبلوا حكماً من أحكامه بطريق العهد الوثيق، والعقد المبرم.

إلى أن قال: وإنا نرى شبهاً كبيراً بين من يختار أن يسير على شريعة الفرنسيين دون شريعة المسلمين، وبين جبلة بن الأهتم الغساني حين لطم الفزاري فأراد عمر أن يقتص منه، فلم يرض بحكم الدين، وفر إلى الشام مستبدلاً الإسلام بالمسيحية).

8.  ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (والإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج، ونحوهم من المعطلين للربوبية والألوهية، وترفع شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح، والتكبير، والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم فيهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر والرضوان، فالإقامة بين أظهرهم والحالة هذه لا تصدر من قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان).

9.    والشيخ محمد بن سُبَيِّل إمام وخطيب المسجد الحرام حفظه الله، كما جاء في بحثه الذي نشر بمجلة المجمع الفقهي.

ã

الأدلة على حرمة ذلك

استدل المحرمون لهجرة المسلم إلى دار الكفر والسكنى بين ظهرانيهم من غير ضرورة ملحة بالآتي:

   قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا".

فإن كان هذا الوعيد في أهل البلد الأصليين من المسلمين، فكيف بهجرة المسلمين من دار الإسلام إلى دار الكفر، الهجرة العكسية؟!

فالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وكذلك هجر المعاصي والذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".

وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترط عليَّ فأنت أعلم، قال: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين" ، فقد ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مفارقة المشركين بأركان الإسلام، حيث قرنها بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وبما خرجه الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل - أي الدية - وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقوم بين أظهر المشركين"، قالوا: يا رسول الله ولِمَ؟ قال: "لا تتراءى نارهما".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أوجامعهم فهو منهم".

إذا كان هذا الوعيد فيمن يعايش الكفار والمسلمين إلى حين، فكيف بمن يرغب ويحرص على التجنس بجنسيتهم، والاندماج في مجتمعهم، والخضوع إلى قوانينهم ودساتيرهم، لا شك أنه أشد وأخطر؟ كما أن أهداف المهاجرين تختلف، كذلك أهداف المتجنسين بجنسيات الكفار تختلف.

ã

النواقض والمخاطر المترتبة على التجنس بجنسية إحدى الدول الكافرة

نواقض الإسلام والمخاطر والمخالفات الشرعية المترتبة على تجنس المسلم بجنسية إحدى الدول الكافرة والمشركة عليه، وعلى زوجه، وذريته، وأحفاده من بعده لا تحصى كثرة، ولكن نشير إلى أخطرها:

1.     أخطرها إجبار المتجنسين للدخول في الجيش، وعلى التجنيد الإجباري، ومن ثم أن يخوضوا كل الحروب التي تخوضها البلاد المتجنسين بجنسيتها ولو كانت ضد الدول الإسلامية، كما حدث الآن في العراق وأفغانستان.

2.     إلزام سائقي سيارات الأجرة - وهو عمل مفضل للشباب المسلم المهاجر لكثرة عائده أن يوصلوا من يركب معهم إلى الكنائس، ومحلات الخنا، والخمارات، ونحوها.

3.     قد يطلب منه التجسس على إخوانه المسلمين.

4.    الالتزام بقوانين الكفار، ونبذ شرع الله في فقه الأسرة، في الزواج، والطلاق، والميراث.

5.     الأطفال في تلك الدول الكافرة ملك للدولة، ولا ينبغي لأوليائهم أن يمنعوهم من ممارسة كل ما يهوونه بطريق مشروع وغير مشروع، أو يجبروهم على طاعة، فلا يستطيع الأب المسلم المتجنس بل المقيم أن يضرب ولده على الصلاة مثلاً، رداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروهم بها لسبع، واضربوهم عليها لعشر".

6.     لا يمكَّن الولي من تزويج ابنته إلا إذا بلغت السن القانونية عندهم، أما الزنا واتخاذ الصَّديق فهذا من المباحات.

7.     في حال الزواج بكتابية كافرة  يمكن لزوجه الكافرة مثلاً:

   أن تحرق زوجها إذا مات في أقرب محرقة وأرخصها، فقد أحْرِق سوداني متزوج من كافرة، فعندما جاء البعض ليعزي فيه قدمته لهم رماداً في قارورة.

   حرمان جميع الورثة من ميراثه سواها وأبنائها.

   تستأثر بالأولاد وتحول بينهم وبين أوليائهم وعشيرتهم.

   في حال الانفصال يحال بين الزوج المسلم وبين أبنائه، ولا يمكًّن من الاقتراب منهم، دعك من أن يتولى تربيتهم أويصحبهم معه إلى بلده، إذ لا يسمح بذلك قانون تلك البلاد.

8.     احتمال أن تتزوج البنت بكافر أومشرك إن شاءت، وقد حدث للعديد منهن، وهذا هو الزنا بعينه.

9.    احتمال ارتداد أحد من صلبه ولو في الأجيال المتأخرة.

10. تعلق الأبناء والبنات بالعيش هناك، وعدم الخروج من تلك البلاد، بسبب الجهل وقلة الوازع الديني.

11. تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

12.  عدم التمكن من إظهار كثير من الشعائر الدينية، رفع الأذان بمكبرات الصوت، ورفع الصوت بالتكبير في الأعياد وأيام التشريق.

13. ألفة الممارسات الشركية والمعاصي.

14. مشاركة الكفار في أعيادهم ومناسباتهم.

15.  التجنس بجنسية الكفار والعيش بين ظهرانيهم مدعاة لموالاتهم، ومظاهرتهم، والتشبه بهم، وقد توعد الله ورسوله المظاهرين للكفار والمشركين والمتشبهين بهم.

16. نبذه بلسان الحال إن لم يكن بالمقال لشرع الله عز وجل، وتفضيله لشريعة عباد الصلبان والأوثان.

17. تكثير سوادهم، خاصة في دول أسكندنيفيا وكندا حيث قلة السكان.

18.  حرمان بلاد المسلمين من خيرات ذوي الكفاءات منهم.

19. موالاة الكفار.

20. عمل بعضهم في خدمة الكفار، سائقاً أوطباخاً مثلاً، وهذا لا يحل.

21. إذا عزم المهاجر على الرجوع تمردت عليه زوجه وأولاده، لاستمرائهم العيش هناك.

22.  المهاجرون إلى ديار الكفار والمتجنسون بجنسياتهم سيما المتدينون منهم أصبحوا أسوة لغيرهم في الشر، وسنوا سنة سيئة، وقد توعَّد الشارع من سن سنة سيئة.

23.  زادت المخاطر، واشتد الخطب بعد الحرب الصليبية التي شنتها أمريكا وحلفاؤها على الإسلام والمسلمين الآن، في ديار الإسلام والكفر على حد سواء، حيث ضيِّق على المسلمين، وحُرموا الحرية التي كانت تمكنهم من أداء الواجبات الشرعية، وجرت محاولات تغيير للقوانين في بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا، وغيرها، حتى يحدوا من تمسك المسلمين بدينهم، ولا أدل على ذلك من منع الفتيات المسلمات المتحجبات من دخول الجامعات، والقيام بإغلاق بعض المساجد، وطرد أئمتها، والحظر عليهم وعلى أموالهم.

24.  تدجين بعض المهاجرين والمتجنسين كما دجن إخوانهم المستكينون من المسلمين من قبل في الأندلس.

هذا قليل من كثير، ونذر يسير من شر مستطير.

والله أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجنبنا الاستنكاف والاستكبار عن قبول النصيحة، وأن لا يجعلنا فتنة للذين كفروا، ولا للذين آمنوا، إنه جواد كريم.

والحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الكرام، ورضي عن عمر الفاروق القائل: "لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن أراد العزة في غيره أذله الله".

0000000000000000000

ختان الإناث بين شريعة الإسلام وقانون حقوق الإنسان

استدل الموجبون لختان الأنثى

شرع ختان الأنثى لعلتين

فوائد ختان الأنثى السني

ختان الذكر والأنثى - الختان السني - من سنن الفطرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس"، وذكر منهن الختان.

وعليه فلا يحل لأحد أن يتكلم عنه أويحكم عليه إلاّ العلماء الشرعيون، أما غيرهم من منظمة الصحة العالمية، ولجان حقوق الإنسان، وكذلك استشاريي النساء والتوليد، فلا ينبغي لهم الخوض في ذلك أبداً.

ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وإلاّ فهو يكون من عداد "الرويبضة"، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الروييضة"، قيل: وما الروييضة؟ قال: "الرجل التافه في أمر العامة".

فختان الأنثى السني أجمعت الأمة على مشروعيته، وإن اختلفوا في حكمه، من الوجوب وهو الراجح لما سنذكر من الأدلة، إلى السنة، إلى المكرمة.

قال بوجوب ختان الأُنثى من العلماء المقتدى بهم على سبيل المثال لا الحصر من يأتي: الإمام الشعبي، ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، الأوزاعي، الشافعي، يحيى بن سعيد الأنصاري، الإمام أحمد في المشهور عنه، سحنون من المالكية، شيخ الإسلام ابن تيمية، العلاّمة ابن القيم، والشيخ منصور بن يونس البهوتي المصري الحنبلي المتوفى 1051هـ.

وأما من قال بسنيته فالإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد في رواية عنه.

ã

استدل الموجبون لختان الأنثى بالآتي:

1.  صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاوز الختان الختان"، وفي رواية:" إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"

2.  قوله صلى الله عليه وسلم لخاتنة الأنصار أم عطية رضي الله عنها:" اخفضي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل"

3.  وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم نسوة من الأنصار، فقال: "يا معشر الأنصار، اختضبن غمساً، واخفضن ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكن وكفر المنعمين"، والمنعم الزوج.

4.  وقال مالك:" من الفطرة ختان الرجال والنساء".

قال الماوردي الشافعي: (وأما خفض المرأة فهو قطع جلدة في الفرج فوق مدخل الذكر ومخرج البول على أصل كالنواة، ويؤخذ منه الجلدة المستعلية دون أصلها).

قال الدكتور محمد علي البار معلقاً على ما قاله الماوردي: (هذا هو الختان الذي أمر به المصطفى، وأما ما يتم في مناطق كثيرة من العالم ومنه بعض بلاد المسلمين، مثل الصومال، والسودان، وأرياف مصر، من أخذ البظر بأكمله، أوأخذ البظر والشفرين الصغيرين، أوأخذ ذلك كله مع أخذ الشفرين الكبيرين، فهو مخالف للسنة، ويؤدي إلى مضاعفات كثيرة، وهو الختان المعروف باسم الختان الفرعوني، وهو على وصفه لا علاقة له بالختان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم).

ã

شرع ختان الأنثى لعلتين هما:

1.  لإزالة النتن الذي يكون في أعلى البظر، قال ابن منظور رحمه الله في مادة "لخن" :( اللخن قبح ريح الفرْج، وامرأة لخناء، واللخناء التي لم تختن، وفي حديث عمر: يا ابن اللخناء، هي التي لم تختن، وقيل اللخن النتن).

2.  تقليل شهوة المرأة، ولهذا يقال في المنابذة: يا ابن الغلفاء؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا يقال في المشاتمة يا ابن الغلفاء، فإن الغلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتار ونساء الفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود بالاعتدال، والله أعلم).

وفي ذلك تقليل لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

ã

فوائد ختان الأنثى السني

قال دكتور البار: (لذا فإن الضجة المفتعلة ضد ختان البنات لا مبرر لها، لأن المضاعفات والمشاكل ناتجة عن شيئين لا ثالث لهما: الأول مخالفة السنة، الثاني إجراء العملية بدون تعقيم ومن قبل غير الأطباء).

ثم عدد فوائد ختان الأنثى السني، ملخصها ما يلي:

1.  اتباع السنة.

2.  ذهاب الغلمة والشَّبق تعديل الشهوة.

3.  منع الالتهابات "الميكروبية" التي قد تجتمع تحت القلفة للأنثى.

4.  تقليل حدوث إصابات سرطان الفرج عند المختونين رجالاً ونساء.

5. تقليل الإصابات بالأمراض الجنسية الناتجة من الزنا واللواط، مثل الهربس، والقرحة الرخوة، والورم المغبني، والزهري.

6.  نيل الحظوة عند الزوج.

من العجيب الغريب أن جل المنادين بمنع ختان الأنثى سنياً، والداعمين له مادياً، من المنظمات الكافرة والمشبوهة، ومن المنافقين الذين ليس لهم غرض في الدين، ولا يحق لهم الحديث عن حكم من الأحكام الشرعية، أما القليل من المخدوعين والمضللين، نحو بعض استشاريي النساء والتوليد وغيرهم، فقد أصابتهم ردة فعل من الختان الفرعوني المحرم شرعاً، ذي الأضرار البليغة والمخاطر الجسيمة، فقد ناقشنا كثيراً منهم، فهم لا يميزون بين الختان السني المشروع والختان الفرعوني المحرم، ولا يحل لأمثالهم الجهل بذلك أوالتجاهل.

ومما يحز في النفس تجرؤ هؤلاء على أهل الحل والعقد من العلماء والاختصاصيين في هذا الشأن شرعياً ومهنياً، كالدكتور البار، والدكتور عبد الله با سلامة، والطبيبة الماهرة ست البنات حفظها الله ووفقها، ومحاولة سن قانون يحرم ممارسة الختان السني، وأن يتولى البعض في وزارة الصحة مثل هذا العمل المشين والتصرف اللئيم، منفذين لبرامج الكفار وما جاء في مؤتمراتهم التي غرضها تغيير فقه الأسرة في الإسلام، بدءاً بالختان السني، ومروراً بتحريم التعدد، وانتهاء بإلغاء ولاية الآباء على بناتهم في الزاوج تمكيناً للزواج العرفي الذي هو أخو الزنا.

فليتق الله المسؤولون في وزارة الصحة وغيرهم، وليعملوا على إيقاف هذه الحملات الجائرة، ومن عد هذه السنة من العادات الضارة، والله الموفق للصواب، وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على النبي الهادي، وصحبه، والأتباع

0000000000000000

أيها الشاب المسلم إذا قلد البعضُ الفنانين والفسقة، فاقتد أنت بنبيك والسلف البررة

الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لعبادته التي شرعها لهم على لسان أنبيائه ورسله، الذين ختموا بخير الأنام، ونسخت شرائعهم بشريعة ولد عدنان، القائل: "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني"، والقائل: "والذي نفسي بيده ما يسمع بي من يهودي ولا نصراني ثم لا يتبعني إلا دخل النار".

ورضي الله عن سلمان بن الإسلام القائل: "لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى آداب الخراءة وقضاء الحاجة".

ما من يوم يصبح إلا ويزداد المؤمن يقيناً بصدق نبوة هذا النبي الكريم، بينما يزداد المنافق والمرتاب شكاً، وذلك بصدق نبوءته وتحقق معجزاته الخبرية وتواليها.

يمثل ذلك أصدق تمثيل تشبه طائفة من المسلمين بالكفار من كتابيين ومشركين، الذي أخبر به الصادق المصدوق: "لتركبن سنن من كان قبلكم.."، على الرغم من تحذيره ونهيه من التشبه بهم: "من تشبه بقوم فهو منهم".

أقول ذلك بمناسبة تقليد وتشبه بعض شبابنا هداهم الله لأحد الفنانين الكفرة في ترك شريط أوخط من لحيته، طائعين مختارين، فرحين مستبشرين بذلك، متسابقين متنافسين، وتذكرت ساعتها أن العمل الواحد يمكن أن يكون سنة، ويمكن أن يتحول إلى بدعة، يمكن أن يكون مرضاة للرب، ويمكن أن يكون مدعاة لسخطه وغضبه، يمكن أن يكون نعمة، ويمكن أن ينقلب نقمة على صاحبه، يمكن أن يكون سبباً لنيل الأجر والثواب، وربما كان سبباً لكسب الوزر والعقاب، لاختلاف النيات والمقاصد، ولتباين المقتدَى والمتأسَّى بهم، وذلك لأن الأعمال في الإسلام لها ميزان ظاهر وهو اتباع السنة وموافقتها، وميزان باطن وهو الصدق والإخلاص.

ليس للمسلم قدوة ولا أسوة إلا في الأنبياء، والمرسلين، والسلف الصالح، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا"، "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ... لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ".

وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسن الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة".

وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني أبابكر وعمر رضي الله عنهما.

وقال ابن مسعود رضي الله عنهما: "من كان مستناً فليستنَّ بمن قد مات، بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولنصرة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".

وقال الشافعي رحمه الله في رسالته التي رواها عنه الزعفراني: (هم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أوحكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إذا اجتمعوا، أوقول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله".

لقد نهى الإسلام وحذر أتباعه عن التقليد، تقليد الأئمة، دعك عمن سواهم من الرؤوس الضلال، والرؤساء الفجار، فكيف بتقليد الفسقة من الكفار؟!

وهكذا فعل الأئمة المقتدى بهم، ومن قبل عاب الله على المشركين الأوائل تقليد الآباء والأجداد، والتمسك بالتقاليد، والعادات، والأعراف: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ".

جاء في الأثر عن ابن مسعود: "لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنتُ، وإن أساءوا أسأتُ؛ ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، فليس في الشر أسوة".

ولهذا قال أهل العلم: لا فرق بين بهيمة تقاد ومقلد.

والتقليد مأخوذ من القلادة التي تقاد بها الدابة.

وإذا كان بعض أهل العلم شكا وبكى من تقليد البعض لأمثال أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الأخيار، فكيف بمن يقلد الآباء، والأجداد، والرؤوس الجهال، والمنتسبين إلى العلم من غير الفقهاء الحكماء، بله والمبتدعة والفسقة من الكفرة الفجرة؟!

يقول الإمام منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي المالكي رحمه الله:

عذيري من قوم يقولـــون  كلما         طلبت دليلاً: هكذا قـــال مالك

وإن عدت قالـوا: هكذا قال أشهب         وقد كان لا يخفى عليه المسـالك

فإن زدت قالـوا: قال سُحنون مثله         ومن لم يقل ما قـــال فهو آفك

فإن قلت: قال اللهُ، ضجوا وأكثروا         وقالوا جميعاً: أنت قرن مماحك

وإن قلت: قال الرسولُ،  فقولهـم:         أتت مالكاً في ترك ذاك المسـالك

وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله:

لا فرق بين مقلد وبهيمـــــة           تنقاد بين جنادل ودعـــــاثر

تباً لقــــاضٍ ولمفتٍ لا  يرى           عللاً ومعنى للمقال الســــائر

فإذا اقتديتَ فبالكتاب وسنــــة           المبعوث بالدين الحنيف الطاهـر

ثم الصحابة عند  عدمك  سنــة           فأولاك أهلُ نُهى وأهل بصــائر

وكذاك إجماع الذين  يلونـــهم           من تابعيهم كابراً عن كابــــر

إجماع أمتنا وقول  نبينــــا          مثل النصوص لذي الكتاب الزاهر

وإذا الخلاف أتى  فدونك  فاجتهد           ومع الدليل فمل بفهم وافــــر

والشر ما  فيه فديتك أسـوة           فانظر ولا تحفل بزلة  ماهـــر

وبعد أخي الحبيب.

إذا تمسك البعض بقول بعض الأئمة، فتمسك أنت بالكتاب وما صح من السنة، وإذا نقب البعض وفتش عن الزلات، والهفوات، والسقطات، فنقب أنت عن الصحاح القطعيات، وإذا سلك البعض بُنَيَّات الطريق، فاسلك أنت جادته تفوز في يوم الوعيد، وإذا اتخذ الناس الرؤوس الجهال، وشيوخ السوء الضلال، المفتونين الأغمار، فاتخذ أنت أئمة السنة الأخيار، وإذا أخذ الناس العلم من كل من هب ودب، فتثبت أنت فيمن تأخذ عنه دينك، فإن العلم دين كما قال مالك وغيره من العلماء الناصحين الأطهار، وإذا قنع البعض بالتعصب والتقليد، فلا تقنعن إلا بالاتباع والدليل، وإذا اكتفى البعض بالبرك والجداول، فلا تقنع أنت إلا بالأخذ من المنابع، وإذا أحب البعض المبتدعة والفسقة، فأحب أنت الأنبياء، والرسل، والعلماء، والصالحين البررة، واعلم أن المرء مع من أحب، وإذا حاول البعض أن يشبِّه ويلبِّس عليك بالاحتجاج بالرجال، فرد عليه بما رد به على أمثالهم عليٌّ رضي الله عنه، حين قال له بعضهم: لو كنتَ على حق لما خرج عليك طلحة والزبير؛ فألقمه حجراً وأسكته أبداً: "يا هذا إنك ملبوس عليك، الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".

وبما قاله العالم الرباني والبطل المتفاني عبد الله بن المبارك رحمه الله على بعض من استحلوا شرب النبيذ بشرب بعض أهل العلم له.

قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: (وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: كنا بالكوفة فناظروني في ذلك يعني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه؛ فاحتجوا، فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة ، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه، قال ابن المبارك: فقلت للمحتج في الرخصة: يا أحمق! عد أن ابن مسعود لو كان ها هنا جالساً فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة، كان ينبغي لك أن تحذر، أوتحير، أوتخسى؛ فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي - وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام ؟ فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء، وطاوس، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً؛ قال: فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام؛ قال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً، فماتوا وهم يأكلون الحرام؟ فبقوا وانقطعت حجتهم).

قال الشاطبي: والحق ما قال ابن المبارك، فإن الله تعالى يقول: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ"، فإذا كان بيناً ظاهراً أن قول القائل مخالف للقرآن أوللسنة لم يصح الاعتداد به، ولا البناء عليه، ولأجل هذا يُنقض قضاء القاضي إذا خالف النص أوالإجماع، مع أن حكمه مبني على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر، ولا يُنقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين، لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه، ولكن يُنقض مع مخالفة الأدلة، لأنه حكم بغير ما أنزل الله).

وكذلك عن ابن المبارك قال: "أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني، لا تنشد الشعر! فقلت: يا أبتِ كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد؛ فقال لي: أي بني! إذا أخذتَ بشرِّ ما في الحسن وبشرِّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشرُّ كله".

وإذا تشبه البعض بالكفرة والفسقة من الفنانين والممثلين، فتشبه أنت بالرجال الصالحين، فإن التشبه بالرجال فلاح ونجاح.

اللهم نوِّر البصائر، وأصلح الضمائر، ونقِّ السرائر، ووفق للاتباع، وجنب الابتداع، وصلى الله وسلم على من ترك أمته على المحجة البيضاء، والحنفية السمحة، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم، المقتفين لآثارهم، كلما ذكرك الذاكرون الأخيار، وغفل عن ذكرك الغافلون، وما تعاقب الليل والنهار

000000000000000

العدالة ليست شرطاً في الآمر الناهي

يحجم كثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه مقصر في نفسه، ويظن ويعتقد أنه لا يحل له أن يأمر بما لا يأتيه، أوينهى عما هو واقع فيه، بل ينكر أشد الإنكار على الذين يأمرون وينهون مع تقصيرهم، مستدلاً ببعض الآيات، والأحاديث، والآثار، نحو:

قوله تعالى: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ".

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما خرجه مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون".

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قُصْبَهم في نار جهنم، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا".

ومن الآثار قول أبي الأسود الدؤلي:

وغير تقي يأمر الناس  بالتقـوى             طبيب يداوي النـاس وهو سقيم

يا أيها الرجل المعلم غيـــره              هلا لنفسك كان ذا التعليـــم

لا تنه عن خلـــق وتأتي مثله             عار عليك إذا  فعلت عظيــم

وابدأ بنفسك فانههـا عن غيهـا              فإن انتهت عنه  فأنت حكيــمُ

فهناك يقبل إن وعظتَ ويُقتـدى              بالقول منك وينفع  التعليـــم

وقول أبي العتاهية:

وصفتَ التقى حتى كأنك ذو تقى              وريح الخطايا من ثناياك تسطع

وقول منصور الفقيه:

إن قوماً يأمرونــــــــا               بالذي لا  يفعلونـــــــا

لمجــــــــانين وإن هم               لم يكونوا  يُصْرعونـــــا

وقول الجماز:

ما أقبح التزهيد من واعـــظ               يُزَهِّدُ الناس ولا يزهـــــدُ

لو كان في تزهيده صادقـــاً               أضحى وأمسى بيته المسجــدُ

إن رفض الدنيا فما بــــاله               يستمنح الناس و يسترفــــدُ

والرزق مقسـوم على ما  ترى              يناله الأبيضُ والأســـــود

فالتوبيخ والزجر هذا الذي ورد في القرآن، والسنة، والآثار، في ترك فعل البر وأعمال الخير، لا بسبب الأمر بالبر والمعروف والنهي عن المنكر والقبيح، فهذان أمران مختلفان، وما لا يفعل كله لا يترك جله، فالآمر الناهي غير الملتزم بما يأمر ولا المنتهي عما ينهى، يؤجر ويثاب على أمره ونهيه، ويعاقب ويؤنب على تقصيره؛ هذا مذهب أهل السنة قاطبة، وهو الذي يؤيده الدليل ويطلبه الواقع.

لا شك أن الأكمل، والأفضل، والأجدى، والأنفع في الأمر والنهي أن يأتمر الإنسان بما يأمر به، وينتهي عما ينهى وينكر.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ": "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ..": (اعلم وفقك الله أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها، وبخهم به توبيخاً يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة).

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكمه الوجوب على قدر الطاقة، وعلى هذا أجمعت الأمة، قال تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".

ترك الأمر والنهي سبب لنزول البلاء، ولحجب الدعاء، ولاستحقاق اللعن والطرد من رحمة الله، قال تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ"، ثم بين علة ذلك: "كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ".

قال القرطبي عن قوله: "لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ": (ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم، يذم من فعل فعلهم).

خَرَّجَ أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك؛ ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبَه وقعيدَه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ.." إلى قوله: "فَاسِقُونَ"؛ ثم قال: "كلا، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أوليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم".

هذا الحديث من أقوى الأدلة على هجر أهل البدع والمعاصي بعد أن يبين لهم الحق، وتزال عنهم الشبهة، فمن استطاع أن يزيل المنكر بيده وجب عليه ذلك، فمن لم يستطع أنكر بلسانه، فإن لم يقو على ذلك تعين عليه الإنكار بالقلب ومفارقة أولئك القوم وهجرهم وعدم مخالطتهم، وإن خاف من المفارقة سها ولها عن أقوالهم وأفعالهم، واشتغل بذكر الله بلسانه أوبقلبه.

الله عز وجل ليس بينه وبين أحد من الناس نسب، وما أصاب بني إسرائيل لتركهم الأمر والنهي، وتهاونهم في هجر أهل البدع والمعاصي، يوشك أن يصيب هذه الأمة.

قال المفسر ابن عطية رحمه الله مبيناً حكم الأمر والنهي، وأن العدالة ليست شرطاً في ذلك، فالكل مطالب به عدلاً كان أم غير عدل: (والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه، ونهى بمعروف، وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه، وأن لا يخالط ذا المنكر.

وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً، وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله "يتناهون" و"فعلوه" يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي).

وردت عدة آثار عن السلف المقتدى بهم تدل على أن العدالة ليست شرطاً في النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله بعد أن ذكر عدداً من الآثار التي تحذر المتهاونين عن فعل البر: (ومع هذا كله فلابد للإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ والتذكير، ولو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، لأنه لا عصمة لأحد بعده.

لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب          فمن يعظ العاصين بعد محمد؟!)

ثم أورد عدداً من الآثار في هذا المعنى :

روى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تتناهوا عنه كله".

قيل للحسن البصري: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل؛ فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟! ودَّ الشيطان أنه ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم يَنْه عن منكر.

وقال مالك عن ربيعة قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر؛ قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟!

من ذا الذي ما أســاء قط               ومن له الحســـنى فقط؟

خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوماً، فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه.

وكتب عمر إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتاباً يعظه فيه، وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا، وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذاً لتواكل الخير، وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذاً لاستحلت المحارم، وقلَّ الواعظون والساعون بالنصيحة في الأرض.

الشيطان وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف و لا ينهى عن منكر، وإذا أمرهم أحد أونهاهم عابوه بما فيه، وبما ليس فيه، كما قيل:

وأعلِنَت الفواحش في البـوادي               وصـار الناس أعوان المريب

إذا ما عبتُهم عابــــوا مقالي              لما في القوم من تلك العيـوب

وودوا لو كففنا  فاستوينــــا              فصار الناس كالشيء المشوب

وكنا نستطب إذا مرضنــــا               فصـــار هلاكنا بيد الطبيب

وكان بعض العلماء المشهورين له مجلس للوعظ، فجلس يوماً فنظر إلى من حوله وهم خلق كثير، وما منهم إلا من رَقَّ قلبه، أودمعت عينُه، فقال لنفسه فيما بينه وبينها: كيف بك إن نجا هؤلاء وهلكتِ أنتِ؟! ثم قال لنفسه: اللهم إن قضيتَ عليَّ غداً بالعذاب فلا تعلم هؤلاء بعذابي صيانة لكرمك، لا لأجلي، لئلا يقال: عذب من كان في الدنيا يدل عليه، إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه وسلم: اقتل ابن أبَيٍّ المنافق، فقال: "لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"، فامتنع عن عقابه لما كان في الظاهر ينسب إليه، وأنا على كل حال فإليك أنسب.

وقال الخليل بن أحمد رحمه الله:

اعمل بعلمي وإن قصرتُ في عملي            ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري

اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيراً مما يظنون، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ولا تفضحنا بين يديك.

اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك، فاغفر لنا ما دون ذلك.

وصلى الله وسلم على خير من أمر، ونهى، ودعا، وصبر، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم إلى يوم الدين.

000000000000000000000

أين أنت يا والي الخرطوم من هذه المهازل؟

صور النساء المتبرجات السافرات يدنسن شوارع الخرطوم

لقد هالني جداً تعليق صور مضاءة لنساء متبرجات سافرات، وهن يحملن جوالات بشرائح "Mobitel" في شارع بري ، حيث دنسن الشارع وشوهنه، وآذين المارة، وجرحن صيامهم، وانتهكن حرمة شهر الصيام، وذلك ليلة الأربعاء الخامس عشر من رمضان المبارك وأنا عائد ليلاً من زيارة أحد المرضى بمستشفى ساهرون، من أجل دعاية لتلك الشركة؛ هذا العمل القبيح، والتصرف المشين، والدعاية الرخيصة المحرمة، يتحمل جرمها ويبوء بوزرها ثلاث جهات، هي:

1. أولئك الفتيات وأولياء أمورهن إن كن مسلمات، اللاتي بعن آخرتهن بثمن بخس، وتعرضن لغضب الله ولعنته ولعنة عباده، ورضي أولياؤهن بالدياثة.

2. المسؤولون عن الشركة: قسم العلاقات العامة، المباشرون لذلك، وكبار المسؤولين.

3. أولياء الأمر، وفي مقدمتهم والي الخرطوم، إن كانوا علموا وصرحوا فتلك مصيبة، وإن عملت من غير علمهم وتصريحهم فالمصيبة أعظم، والبلية أكبر.

ما كنت أظن أن يبلغ الجشع والحرص على اكتناز الأموال ببعض الناس إلى درجة أن يعميهم ويصمهم عن هذا المنكر، بحيث لم يميزوا بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمعروف والمنكر، ضاربين عرض الحائط بالقيم والأخلاق، وشعور الخيرين، وبحرمة هذا الشهر، بحيث لم ينتبهوا أن مثل هذه الممارسات تذهب بأجر الصوم، وأن العائد من تلك الدعاية المحرمة محرم، وعار وشنار.

قال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين"، فهل هناك مجاهرة بمعصية ومحاربة الله ورسوله أكبر من نشر الفساد في الأرض، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا؟

هذا المنكر العظيم، والإثم الكبير، والجرم الخطير إنكاره متعين على ولاة الأمر من العلماء والدعاة، وتغييره واجب على ولاة الأمر من الحكام والمسؤولين، وإن قصر هؤلاء فعلى العامة تقع المسؤولية، فالمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

إنما الأمم الأخـلاق ما بقيت                   فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ماذا يبقى للأمة إذا فسدت عقائدها، وخربت تصوراتها، وانتهكت أعراضها، وذهب حياء نسائها، وانعدمت غيرة رجالها، وألفت المنكرات، واستوت عندها الحسنات والسيئات؟ أين الأمة من قول نبيها وتحذيره إياها: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء، وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء"؟

السكوت عن ذلك وإقراره فيه هلاك لجميع الأمة، فعن النعمان بن بشير يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً".

وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعون فلا يُستجاب لكم".

مسؤولية إزالة المنكرات مسؤولية تضامنية بين الحكام، والعلماء، والعامة: "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.." الحديث، وقوام هذا الدين النصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، كما أخبر الصادق المصدوق، والاستنكاف عن قبول النصيحة من المهلكات، فليس في العلماء والعامة خير إن لم يقولوها، وليس في الحكام خير إن لم يقبلوها ويعملوا بها، والله أسأل أن يوفق ولاة أمر المسلمين من العلماء والحكام للقيام بالواجب وأن يعينهم عليه.

00000000000000000000

أيها الحكام أين أنتم من سلفكم الصالح في عدم الأخذ بالظنة وفي عدم التجسس واتباع العورات؟

الظن المنهي عنه

الأخذ بالظاهر وعدم تتبع العورات

مقارنة بين ما كان عليه حكام السلف والحكام الحاضرين في هذا الشأن

أولاً: النهي عن التبليغ عما يوغر الصدور

ثانياً: معاملة المخالفين لهم

أ.  ذو الخويصرة التميمي يعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ب. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يخالف معاوية وعثمان في تأويل الكنز

ج. كان ابن مسعود يخالف عمر رضي الله عنهما في أكثر من مائة مسألة

ثالثاً: معاملتهم للخارجين عليهم الحاملين للسلاح

رابعاً: خير الأمراء أقربهم إلى العلماء، وشر العلماء أقربهم إلى الأمراء

خامساً: عدم تتبع عورات الناس عامة، والجِلَّة من العلماء خاصة

سادساً: عدم الأخذ بالظنة

سابعاً: الخوف والحذر من التفاف الشباب حول بعض المشايخ

ثامناً: التجسس لا يكون إلا على أعداء الدين من الكفار والمنافقين، والمفسدين في الأرض

تاسعاً: من ليس معنا فهو ضدنا

عاشراً: الضيق والخوف من النقد

 

المراقب لحال الدول اليوم يجد أن لأجهزة الاستخبارات نصيب الأسد في تسيير الأمور فيها، وفي توجيه سياستها، وخططها، واستراتيجيتها، لا فرق في ذلك بين الدول المسلمة والكافرة، حيث أضحى حكام المسلمين يقلدون الكفار ويتشبهون بهم إن رغباً أورهباً في كثير من الأمور، ويبذلون في ذلك من المال العام ما الله به عليم.

لا شك أنه يجوز للدولة المسلمة أن تعمل لحماية دينها، ومقدساتها، وأمنها القومي، وأمن رعاياها، والحفاظ عليهم مما يخرب العقائد، ويفسد الأخلاق والسلوك، وأن تتخذ من العيون ما يمكنها من ذلك حسب الضوابط الشرعية التي بينها صاحب الشريعة.

ولا شك كذلك أن للمسلم على أخيه المسلم حاكماً كان أومحكوماً حقوقاً، وعليه واجبات لابد من رعايتها، من تلك الحقوق حرمة دينه، وعرضه، وماله على كل مسلم: "كل المسلم على المسلم حرام؛ ماله، وعرضه، ودمه".

ومنها كذلك عدم الأخذ بالظنة، والتجسس على مستوري الحال عامة، وأهل العلم والفضل والصلاح خاصة، وعليهم أن يتأسوا بذلك ويقتدوا برسولهم، وخلفائه الراشدين، والأئمة المهديين الذين اقتفوا آثارهم، بدلاً من تقليدهم للكفرة، والسفلة، والمنافقين.

لقد رسم الإسلام لولاة أمر المسلمين خطة لو ساروا عليها في رعاياهم وألزموا أنفسهم بها لسعدوا وسعدت رعيتهم، وكانوا من خيار الأئمة: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم".

من ذلك نهي الإسلام أتباعه عن سوء الظن، والتجسس على الصالحين والمستورين، وتتبع عوراتهم، والبحث والتفتيش عن زلاتهم، وهذا النهي يتناول ولاة أمر المسلمين قبل عامتهم.

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا"، وقال: "لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا"، وقال: "وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً".

وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أوكدت أن تفسدهم".

وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أوتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً؛ فقال: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ظننتَ فلا تحقق، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا تطيرتَ فامض".

وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".

وروي عنه: "إن الله حرَّم على المسلم دمه، وعرضه، وأن يظن به ظن السوء".

ã

الظن المنهي عنه

الظن الذي نهت عنه الآية وحذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم، هو التهمة التي لا سبب لها يوجبها.

قال القرطبي رحمه الله مميزاً الظن الذي يجب اجتنابه: (والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لم تعرف له إمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث).

ã

الأخذ بالظاهر وعدم تتبع العورات

المراد من قوله تعالى: "وَلا تَجَسَّسُوا.." الآية، الأخذ بما ظهر، والنهي والتحذير عن تتبع عورات الناس، سيما مستوري الحال، وأصحاب الهيئات من العلماء والصالحين.

قال القرطبي رحمه الله: (ومعنى الآية: خذوا ما ظهر، ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله).

والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس وهو الملك صاحب سر الخير، كما قال أهل اللغة.

ã

مقارنة بين ما كان عليه حكام السلف والحكام الحاضرين في هذا الشأن

أولاً: النهي عن التبليغ عما يوغر الصدور

كان صالحو الحكام ينهون أن ترفع لهم أحاديث الناس، لتسلم صدورهم.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُبَلِّغُني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".

لذات السبب قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لجلسائه وخاصته كما روى الإمام الأوزاعي عنه: "من صحبني فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج عن صحبتي والدخول عليَّ".

أما الآن فإن التقارير، بحق وباطل، ترفع عمن يتوهمون منه ريبة من العلماء، والدعاة، وأئمة المساجد، بطريقة دورية إلى ولاة الأمر، مما يوغر صدورهم، ويزرع الحقد في قلوبهم نحو إخوانهم الأخيار، بل أنشئت أقسام خاصة في أجهزة الاستخبارات للتجسس ومتابعة عورات هؤلاء، ويعينون فيها أناساً بأوصاف مخصوصة، ويجتهدون في اختراق بعض مرتادي مساجدهم، ودروسهم، ومحاضراتهم، وفي ذلك من الفساد، والإفساد، وتتبع العورات ما الله به عليم، وما نهى عن الرسول الكريم.

بل يعتقد بعض رجال الاستخبارات إذ ليسوا كلهم سواء - أن خطر هؤلاء المتدينين أشد من خطر الكفار والمنافقين على الأنظمة الحاكمة، بسبب ما يهولون ويضخمون من خطرهم، ويؤولون من أقوالهم وتصرفاتهم، مما لم يخطر ببال أحد منهم، فقط لانتقادهم لبعض المخالفات الشرعية.

ã

ثانياً: معاملة المخالفين لهم

كان حكام السلف يتحملون المخالفين ويصبرون عليهم، ولا يضيقون بهم أبداً، ولا يتسبب هذا الخلاف في حرمانهم من أي حق من حقوقهم التي شرعها لهم الإسلام وبينها رسوله.

فحمل الحاكم الرعية على ما يراه، وكذلك رئيس الجماعة أوالحزب، من سمات الطغاة والمتكبرين، وأسوتهم في ذلك الطاغية الجبار فرعون لعنه الله عندما قال: "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ".

وإليك نماذج من تلك المعاملات:

أ.  ذو الخويصرة التميمي يعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذو الخويصرة التميمي، ذلك الأعرابي الجلف يعترض، وعلى من؟ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، حيث قال له: اتق الله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك، أولستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟!"، ثم أردف بعد ذلك محذراً منه: "إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، يعني الخوارج.

ومعلوم أن الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد لما يقول كفر: "فَلْيَحْذَرِالَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْيُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، وقد أول الإمام أحمد الفتنة بالشرك.

ومع ذلك كله لم يراقبه ويتجسس عليه، ولم يعتقله، ولم يحرمه من حق من الحقوق.

ب.    أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يخالف معاوية وعثمان في تأويل "الكنز"

ذهب العامة من أهل العلم وهو الحق إلى أن المراد بالكنز في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"، هو المال الذي لم تؤد زكاته، أما ما أديت زكاته فليس بكنز مهما بلغ، وإلى هذا ذهب شيخ الصحابة في عصره عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

وذهب أبو ذر إلى أن الكنز هو ما زاد على حاجة الإنسان اليومية، ولهذا كان كثيراً ما يعترض على  معاوية رضي الله عنه عندما كان عاملاً على الشام من قِبَل عثمان رضي الله عنه، فكتب بذلك إلى عثمان: إن كان لك حاجة في الشام فخذ إليك أبا ذر.

فكتب إليه عثمان أن احضر إلى المدينة، فحضر، فناظره في ذلك فثبت على ما يعتقده، فتركه، ولم يضيق عليه، ولم يثرب عليه، ولم يتتبعه، حتى استأذن عثمانَ رضي الله عنه أن يخرج إلى الربذة، فأذن له عثمان، لا كما يدعي بعض من لا خلاق له، من سفهاء الأدباء والمؤرخين، أن عثمان نفاه، بل كان خروجه إلى الربذة بمحض اختياره، وكان عثمان يجله ويقدره لعلمه بصدقه.

ولذات السبب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر أن يتأمر على اثنين، أوأن يتولى مال يتيم.

ج.      كان ابن مسعود يخالف عمر رضي الله عنهما في أكثر من مائة مسألة

ومع ذلك كان عمر يثني عليه ويقول: "كُنَيف ملئ علماً"، وكان ابن مسعود يثني على عمر ويمدحه، وعدَّ موته ثلمة في الدين.

ã

ثالثاً: معاملتهم للخارجين عليهم الحاملين للسلاح

كانت معاملة حكام السلف للخارجين الحاملين للسلاح دعك عن المخالفات في الرأي معاملة كريمة تجلى فيها عدلهم وإنصافهم، ويمثل ذلك ما يأتي.

أ.  مناظرتهم لهم بالحسنى، فقد ناظرهم علي، وناظرهم ابن عباس، ورجع منهم أكثر من ألفين، وناظرهم عبد الله بن الزبير في إمارته على الحجاز، وناظرهم عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس.

روى ابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز له أن أحد عمال عمر كتب إليه قائلاً: (بلغني أن ناساً من الحرورية جمعوا بناحية الموصل، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أعلمه بذلك، فكتب إليَّ يأمرني أن أرسل إليه منهم رجالاً من أهل الجدل وأعطهم رهناً، وخذ منهم رهناً، واحملهم على مراكب البريد إليَّ، ففعلت ذلك، فقدموا عليه فلم يدع لهم حجة إلا كسرها، فقالوا: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك وتلعنهم وتتبرأ منهم؛ فقال عمر: إن الله لم يجعلني لعاناً، ولكن إن أبقى أنا وأنتم فسوف أحملكم وإياهم على المحجة البيضاء؛ فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فقال لهم عمر: إنه لا يسعكم في دينكم إلا الصدق، منذ كم دنتم الله بهذا الدين؟ قالوا: منذ كذا وكذا سنة؛ قال: فهل لعنتم فرعون وتبرأتم منه؟ قالوا: لا؛ قال: فكيف وسعكم تركه؟ ألا يسعني ترك أهل بيتي، وقد كان فيهم المحسن والمسيء، والمصيب والمخطئ؟! قالوا: قد بلغنا ما هاهنا؛ فكتب إليَّ عمر: أن خذ من في أيديهم من رهنك يعني ودع من في يدك من رهنهم وإن كان رأى القوم أن يسيحوا في البلاد على غير فساد على أهل الذمة ولا تناول أحد من الأمة فليذهبوا حيث شاءوا، وإن هم تناولوا أحداً من المسلمين وأهل الذمة فحاكمهم إلى الله.

ب.   عندما تجمع الخوارج لقتل عليّ رضي الله عنه والخروج عليه كان يُخْبَر بذلك حتى يداهمهم ويقضي عليهم في أول الأمر، فكان يقول: دعوهم حتى يخرجوا؛ فلم يبادرهم بالقتال حتى قتلوا رسوله وشرعوا في قتال المسلمين.

ج.  عندما سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج ماذا قال عنهم؟ حيث قالوا له: هل هم كفار؟ قال: بل من الكفر فروا؛ فقالوا: هل هم منافقون؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً؛ فقالوا: من هم؟ فقال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.

د.  وكان هارون الرشيد يسعى ويحرص على الاجتماع بسفيان الثوري على الرغم من علمه برأيه فيه، وكان سفيان يتأبى عليه، ويختفي منه.

أين حكامنا من هذا السلوك القويم، ومن هذا العدل والإنصاف للمخالف، بل للخارج المحارب الذي شهر السلاح وبدأ بالقتال؟!

نرى حكامنا اليوم هدانا الله وإياهم يدنون العلمانيين ويثقون بهم، وينفرون من إخوانهم في الدين، نراهم يمدون الجسور ويصبرون على محاورة الكفار والمنافقين، وتضيق صدورهم من مجرد وجود هؤلاء الأخيار فقط لأنهم ينصحون وينبهون على بعض المخالفات الشرعية.

ما الذي يجعل حكامنا اليوم يصلون أهل البدع الكفرية، المجاهرين ببدعهم، الداعين لها، ويقطعون بعض إخوانهم من أهل السنة لبعض الوشايات والظنون الفاسدة والتقارير الكاذبة؟

أيُّ الفريقين أولى بالصبر عليه، وباحتمال جفائه، وقد مدح الله أولياءه بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين؟!

سبب ذلك كله بعض وزراء السوء والبطانة الفاسدة، والتقارير التي مبناها على الفروض والظنون والتخمين، التي أوغرت الصدور، وساءت بسببها الظنون.

ã

رابعاً: خير الأمراء أقربهم إلى العلماء، وشر العلماء أقربهم إلى الأمراء

كان حكام السلف حريصين على الاقتراب من العلماء، بل كان القراء وهم العلماء، شيوخاً وشباباً، أصحاب مشورة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز عندما كان أميراً على المدينة، وبعد أن ولي الخلافة.

وقد وصى عبد الملك بن مروان الحجاج عندما كان عامله على الحجاز أن لا يخالف لابن عمر أمراً، وكان أبوجعفر المنصور، والرشيد، وغيرهما من الحكام العدول يحرصون على زيارة العلماء بالمدينة، أمثال مالك، وابن أبي ذئب، وغيرهما.

ونكتفي بمثال واحد لأن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك:

(كان أول طلب لسليمان بن عبد الملك وأول سؤال له بعد أن قدم المدينة يريد الحج: هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا له: أبوحازم؛ فأرسل إليه، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين، وأي جفاء رأيتَ مني؟ قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني.

قال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل هذا اليوم، ولا أنا رأيتك؛ فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب الزهري، فقال له: أصاب الشيخُ وأخطأتُ.

قال سليمان: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت؟

قال: لأنكم أخربتم الآخرة، وعمرتم الدنيا، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.

قال: أصبتَ، يا أبا حازم، فكيف القدوم غداً على الله؟

قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.

فبكى سليمان، وقال: ليت شعري، مالنا عند الله؟

قال: اعرض عملك على كتاب الله.

قال: وأي مكان أجده؟

قال: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم.

فقال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟

فقال: رحمة الله قريب من المحسنين.

قال سليمان: فأي عباد الله أكرم؟

قال: أولو المروءة والنهى.

قال له سليمان: فأي الأعمال أفضل؟

قال أبو حازم: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم.

قال سليمان: فأي الدعاء أسمع؟

قال أبو حازم: دعاء المُحْسَن إليه إلى المُحْسِن.

قال: فأي الصدقة أفضل؟

قال: للسائل البائس، وجهد المقل، ليس فيها مَنٌّ ولا أذى.

قال: فأي القول أعدل.

قال: قول الحق عند من تخافه وترجوه.

قال: أي المؤمنين أكيس؟

قال: رجل عمل بطاعة الله، ودل الناس عليها.

قال: فأي المؤمنين أحمق؟

قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره.

قال سليمان: أصبتَ، فما تقول فيما نحن فيه؟

قال: يا أمير المؤمنين، أوتعفني؟

قال له سليمان: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليَّ.

قال: يا أمير المؤمنين، إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عَنْوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاً لهم، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، فقد ارتحلوا عنها، فلو شعرتَ ما قالوه، وما قيل لهم؟

فقال له رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم.

قال أبو حازم: كذبتَ، إنما أهلك فرعونَ هامانُ، وهامانَ فرعونُ، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.

قال له سليمان: كيف لنا أن نصلح؟

قال: تَدَعون الصلف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسوية.

قال له سليمان: كيف لنا بالمأخذ منه؟

قال أبو حازم: تأخذه من حله، وتضعه في أهله.

قال له سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا، فتصيب منا ونصيب منك؟

قال أبو حازم: أعوذ بالله.

قال سليمان: ولِمَ ذاك؟

قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات.

قال له سليمان: ارفع لنا حوائجك؟

قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة.

قال سليمان: ليس ذلك إليَّ.

قال أبو حازم: فما لي إليك حاجة غيرها.

قال: فادع لي.

قال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى.

قال له سليمان: عظ.

قال أبو حازم: قد أوجزتُ، وأكثرتُ، إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فما ينفعني أن أرمي عن قوس ليس لها وتر.

قال له سليمان: أوصني.

قال: سأوصيك وأوجز، عظِّم ربك، ونزِّهه أن يراك حيث نهاك، أويفقدك حيث أمرك.

فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار، وكتب إليه: أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير.

فردها عليه، وكتب إليه: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً، أوردي عليك بذلاً، وما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؟!

وكتب إليه أن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليها رعاء يسقون، ووجد من دونهم جاريتان تذودان، فسألهما، فقالتا: "لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ"، وذلك أنه كان جائعاً خائفاً، لا يأمن، فسأل ربه ولم يسأل الناس، فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان، فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة، وبقوله، فقال أبوهما شعيب: هذا رجل جائع، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه؛ فلما أتته عظمته وغطت وجهها، وقالت: "إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا"، ولم يجد بداً من أن يتبعها إنه كان ما بين الجبال جائعاً مستوحشاً، فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق على ظهرها، وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى، فلما عيل صبره ناداها: يا أمة الله، كوني خلفي وأريني السمت بقولك ذا.

فلما دخل على شعيب فإذا هو بالعشاء مهيأ، فقال له شعيب: اجلس يا شاب فتعش؛ فقال له موسى: أعوذ بالله؛ فقال له شعيب: لِمَ؟ أما أنت جائع؟ قال: بلى، ولكني أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من ديننا بملئ الأرض ذهباً؛ فقال له شعيب: لا يا شاب فإنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام؛ فجلس موسى فأكل.

فإن كانت هذه المائة دينار عوضاً لما حدثتُ فالميتة، والدم، ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه، فإن كانت لحق في بيت المال فلي فيها نظراء، فإن ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة).

قلت: إن كان الحكام أمثال سليمان والعلماء أمثال أبي حازم جاز الدخول، ومع هذا أبى أبو حازم الدخول ونيل الجوائز منهم.

ã

خامساً: عدم تتبع عورات الناس عامة، والجِلَّة من العلماء خاصة

كان مسلك السلف الصالح على عكس ما نراه من مسلك حكام اليوم في هذا الجانب على وجه الخصوص، فكانوا حريصين كل الحرص على عدم تتبع عورات الناس والتجسس عليهم، والاجتهاد في تجريمهم وتلبيس التهم لهم، وقد ابتكرت أجهزة الاستخبارات في ذلك كل ما من شأنه أن يوصلهم إلى أغراضهم، مهما كانت الوسيلة محرمة أوغير محرمة، منافية للمروءة والأعراف أم لا، فالغاية في نظرهم مشروعة مبررة لاتخاذ أي وسيلة.

يدل على ذلك ما يأتي:

أ.  قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "حرستُ ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، إذ تبين لنا سـراج في بيت بابه مجـافٍ على قـوم لهم أصـوات مرتفعة ولَغَط، فقـال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شُرَّب، فما ترى؟! قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: "وَلا تَجَسَّسُوا"، وقد تجسسنا، فخرج عمر وتركه.

ب.   وقال أبو قِلابة: حُدِّث عمر بن الخطاب أن أبا مِحْجَن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبومِحْجَن: إن هذا لا يحل لك! قد نهاك الله عن التجسس؛ فخرج عمر وتركه.

ج.   وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبد الرحمن يَعُسَّان إذ تبينت لهما نار، فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني، وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! فقال عمر: من هذه منك؟ قال: امرأتي؛ قال: فما في هذا القدح؟ قال: ماء زلال؛ ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين! قال الله تعالى: "وَلا تَجَسَّسُوا"؛ قال: صدقت.

د.    وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي برجل، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً؛ فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.

ه.    وعن أبي الدرداء معلقاً على حديث معاوية السابق: "إنك إذا اتبعتَ عورات الناس أفسدتهم": "كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها".

و.   روى البخاري في صحيحه بسنده عن همام قال: كنا مع حذيفة، فقيل له: إن رجلاً يرفع الحديث إلى عثمان؛ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قتات"، وفي رواية: "نمام".

قال الحافظ ابن حجر: (وقيل الفرق بين القتَّات والنمَّام أن النمام الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات الذي يتسمع من حيث لا يُعلم به، ثم ينقل ما سمعه، إلى أن قال: قال الغزالي ما ملخصه: ينبغي لمن حملت له النميمة أن لا يصدق من نم له، ولا يظن بمن نم عنه ما نقل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له، وله أن ينهاه، ويقبح من فعله، وأن يبغضه إن لم ينزجر، وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فينم هو على النمام فيصير نماماً.

قال النووي: وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية، وإلا فهي مستحبة، أوواجبة، كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصاً ظلماً فحذره منه، وكذا من أخبر الإمام أومن له ولاية بسيرة نائبه مثلاً، فلا مانع من ذلك).

ز.   قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لمزاحم مولاه: "إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أوفعلاً لا تحبه، فعظني عنده وانهني عنه".

ح.   قال عطاء بن السائب: "قدمت من مكة، فلقيني الشعبي فقال: يا أبا زيد أطرفنا مما سمعت؛ قلت: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط يقول: لا يسكن مكة سافك دم، ولا آكل ربا، ولا مشاءٌ بنميم؛ فعجبت منه حين عدل النميمة بسفك الدماء وأكل الربا، فقال الشعبي: وما يعجبك من هذا؟ فهل تسفك الدماء وتركب العظائم إلا بالنميمة؟".

ط.   عاتب مصعب بن الزبير الأحنف بن قيس على شيء بلغه عنه، فاعتذر إليه الأحنف من ذلك ودفعه، فقال مصعب: أخبرني بذلك الثقة؛ فقال الأحنف: كلا أيها الأمير، الثقة لا يبلغ.

ي.   وذكِرَ السعاةُ عند المأمون، فقال رجل ممن حضر: يا أمير المؤمنين لو لم يكن من عيبهم إلا أنهم أصدق ما يكونون، أبغض ما يكونون إلى الله، لكفاهم.

ك.   أتى رجل الوليد بن عبد الملك وهو على دمشق لأبيه، فقال للأمير: عندي نصيحة، فقال: إن كانت لنا فأظهرها، وإن كانت لغيرنا فلا حاجة لنا فيها؛ قال: جار لي عصى وفر من بعثه؛ قال: أما أنت فتخبر أنك جار سوء، فإن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقاً أقصيناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئتَ تركناك؛ قال: بل تتركني.

ل.   وسأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم تنحوا؛ فلما تهيأ الرجل للكلام قال له: إياك أن تمدحني فإني أعرف بنفسي منك، أوتكذبني فإنه لا رأي لكذوب، أوتسعى بأحد إليَّ، وإن شئت أن أقيلك أقلتك؛ قال: أقلني.

م.    وقال ذو الرياستين: قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز، فامقت الساعي على سعايته، وإن كان صادقاً للأمة في هتك العورة، وإضاعة الحرمة، وعاقبه إن كان كاذباً لجمعه بين هتك العورة، وإضاعة الحرمة، مبارزة لله بقول البهتان والزور.

ã

سادساً: عدم الأخذ بالظنة

صدق من قال: كم خسر العالم بمقتل عمر، ولكنه كم ربح بإرساء قاعدة من القواعد الجليلة، وتمكين مبدأ من المبادئ العظيمة، وهو عدم الأخذ بالظنة.

وكذلك نقول: كم خسر العالم الإسلامي أيضاً بقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على يد المجرم الأثيم، عبد الرحمن بن مُلجِم، ولكن كم ربح بعدم الأخذ بالظنة.

فالمبادئ هي الباقية، والأشخاص مهما كانت مكانتهم ذاهبون، وفقد الأشخاص وإن كانوا أمثال عمر وعليّ أهون من التعدي على المبادئ، والأصول، والثوابت.

فعندما قال أبولؤلؤة قبحه الله لعمر: لأصنعنَّ لك رحاً يتحدث عنها من بالمشرق ومن بالمغرب؛ قال عمر في الحال: لقد تهددني العلج؛ وكان من أصحاب الفِرَاسات التي لا تكذب، ومن أصحاب النبوءات التي لا تخطئ، لأنه كان من المحدَّثين الملهمين، كيف لا وقد نزل القرآن موافقاً لما قال في سبعة مواضع، وأيَّد تلك الفراسة رؤيا رآها، حيث رأى ديكاً أحمر نقره عدة نقرات، ومع ذلك لم يأمر باعتقاله، ولم يراقبه بالعيون، لأن الأمر لا يعدو الظن، وإن كان من عمر رضي الله عنه.

وما فعله عمر مع أبي لؤلؤة المجوسي فعله عليّ مع ابن مُلجم الخارجي.

روى ابن عبد البر في الاستيعاب في "معرفة الأصحاب" له في ترجمة عليّ بسنده عن ابن سيرين عن عبيدة قال: (كان علي رضي الله عنه إذا رأى ابن ملجم قال:

أريد حيـاته ويريد قتـلي                      عَذِيرَكَ من خليلك من مراد

وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يقول: ما يمنع أشقاها، أوما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا؛ يقول: والله ليخضبن هذه من دم هذا ويشير إلى لحيته ورأسه، خضاب دم لا خضاب عطر.

وذكر عمر بن شبَّة عن أبي عاصم النبيل وموسى بن إسماعيل عن سكين بن عبد العزيز العبدي أنه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن بن ملجم يستحمل علياً، فحمله ثم قال:

أريد حيـاته ويريد قتـلي                      عَذِيرَكَ من خليلك من مراد

أما إن هذا قاتلي؛ قيل: ما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد.

وأتي عليّ رضي الله عنه فقيل له: إن ابن ملجم يسم سيفه، ويقول: إنه سيفتك بك فتكة يتحدث بها العرب؛ فبعث إليه: فقال له: لم تسم سيفك؟ قال: لعدوي وعدوك؛ فخلى عنه، وقال: ما قتلني بعد).

هكذا فإن علياً فدى مبدأ عدم الأخذ بالظنة بنفسه الغالية، وبروحه الطاهرة، كما فعل عمر رضي الله عنهما.

أين حكامنا من هذا الإنصاف ومن هذا التجرد؟ أليس الجميع مخاطباً بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"؟

هذا لو كان ظنهم مثل ظن أولئك القوم، كيف وظنهم أقرب إلى الوهم والتخرصات، بل في بعض الأحيان يأخذون، ويعاقبون، ويسجنون، وربما يقتلون بظن لم يصدر ولم يخطر ببال المظنون به؟!

أليس الرب الذي يجتمع إليه هؤلاء وهؤلاء واحد؟ لماذا يغلِّبون سوء الظن؟ ولماذا يستعجلون الحكم على الناس؟ فقط لأنهم أقوياء؟ لماذا لا يتذكرون قوة الله عز وجل وجبروته، وأنه يمهل ولا يهمل، وأنه مجيب لدعوة المظلومين ولو بعد حين، وكل حين قريب.

ã

سابعاً: الخوف والحذر من التفاف الشباب حول بعض المشايخ

من أكثر الأمور التي تخيف حكامنا اليوم، ويحذرون منها أشد الحذر، تجمع الشباب والتفافهم على بعض المشايخ، وحرصهم على حضور خطبهم، ودروسهم، وندواتهم، وهذا من الأسباب الرئيسة التي تجعلهم يشددون الرقابة، ويرصدون العيون على أولئك المشايخ، ومن ثم تجدهم يسعون وبشتى الطرق إلى إبعاد الشباب عنهم، وينفقون الأموال الطائلة على الوسائل التي تلهي الشباب عن ذلك، من ذلك الاهتمام بالرياضة، والفن، وإنشاء المسارح، والبرامج الترفيهية، وتغذية وسائل الإعلام المرئية بالأفلام "المدبلجة"، التي تحوي من الفساد العقدي، والفكري، والسلوكي، ما الله به عليم، وتنشر ثقافة وفكر الأقوام الكافرين.

ظناً منهم أن تجمع الشباب حول المشايخ والدعاة فيه خطر على أنظمتهم كما يزين لهم ذلك أعداء الإسلام، من الكفار والمنافقين، من وزراء، ومستشارين، وغيرهم.

وما علم هؤلاء أن الفساد العقدي والأخلاقي خطره أشد، وضرره أكبر على تلك الأنظمة: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا"، " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ".

ألم يعلم هؤلاء أن احتضان الأنظمة لأهل البدع والأهواء، ولأئمة الفسق والفجور من الممثلين، والفنانين، واللاعبين، وأن زيارة الأضرحة، وإقامة الحوليات التي يشارك فيها ويدعمها بعض المسؤولين، أخطر على أنظمتهم من أولئك الشباب الملتزم الملتف على بعض المشايخ؟

خوف الحكومات من التفاف قلة من الشباب حول بعض المشايخ أشد من خوفهم من انغماسهم في الخنا والفجور، بل من تعاطيهم للمخدرات والمسكرات.

الغلو والتشدد الذي تخافه الأنظمة ما الذي يولده، ويغذيه، وينميه؟

الفساد العقدي، والتسيب الخلقي هما من أكبر عوامل ظهور تلك البدعة، فالبدعة لا ينتج منها إلا بدعة.

حسب علمي ومعرفتي بكثير من المشايخ والدعاة أنهم أزهد الناس في الحكم، وإنما هدفهم الإصلاح، والعمل على إقامة شرع الله والتمكين له.

وفي اعتقادي أن خطر العلمانيين المنافقين على هذه الأنظمة أشد من خطر العلماء والدعاة.

ومن العجيب الغريب إنكار البعض على بعض الدعاة حرصهم على الحكم، أما حرص غيرهم من العلمانيين المنافقين فلا حرج عليه، ويحتجون على ذلك بأن الإسلام ليس فيه نظام للحكم، وإنما مثل النصرانية تماماً متعلق بالآخرة.

لماذا لم يخف ولاة أمر المسلمين من السلف من تجمع والتفاف الشباب وغيرهم على المشايخ والعلماء؟ ولماذا لم يكن ذلك سبباً لعداوتهم لأولئك المشايخ الذين استطاعوا أن يجذبوا إليهم الشباب، حتى كانت لهم مواكب في المواسم وغيرها تضاهي مواكب ولاة الأمر؟

كان لابن عباس رضي الله عنهما موكب في الموسم يقارب أويفوق موكب معاوية رضي الله عنه.

وأطلت زبيدة رحمها الله من النافذة على موكب عظيم، فقالت: مع من هذا الموكب؟ فقالوا: مع سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث؛ فقالت: والله هذا هو الملك، لا ملك الرشيد بالشُّرَط ونحوهم.

وكان لكثير من العلماء أعداد كبيرة من طلاب العلم ومن المشيعين لهم، إذا خرجوا أودخلوا، ولم يثر ذلك كله حفيظة الحكام نحوهم، ولم تأخذهم الغيرة والحسد، وما كانوا يخافون أن يكون خلف ذلك مؤامرات لسحب البساط من تحت أقدامهم.

ã

ثامناً: التجسس لا يكون إلا على أعداء الدين من الكفار والمنافقين، وإلا على المفسدين في الأرض

السنة أن يجعل الحاكم المسلم العيون على الكفار، والمنافقين، والمبتدعين، والمفسدين في الأرض، وألا يسلط ذلك على الأخيار ويدع الفجار.

بل لقد بلغت الحال أن يتجسس بعض المسلمين على إخوانهم المسلمين لصالح الكافرين، وأن ينسقوا معهم ويتعاونوا فيما بينهم، ويقاتلوا تحت رايتهم، ويحكموا نيابة عنهم، وهذا من نواقض الإسلام البينة، مهما كان المسوغ والمبرر الذي يرفعه القائمون بذلك.

لقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نُعيم بن مسعود، وقد كان حديث عهد بالإسلام، أن يذهب ويخذِّل المشركين، وأن يوقع بينهم وبين حلفائهم من اليهود.

قال عنه ابن عبد البر في "الاستيعاب": (وهو الذي خذَّل المشركين وبني قريظة حتى صرف الله المشركين بعد أن أرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها، خبره في تخذيل بني قريظة والمشركين في السير خبر عجيب، وقيـل إنه الذي نزلت فيه: "الَّذِينَ قَـالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّـاسَ قَدْ جَمَعُـواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ"، يعني نُعيم بن مسعود وحده).

قال الحافظ ابن حجر معلقاً على ترجمة البخاري "باب ما يكره من النميمة": (كأنه أشار بهذه الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافراً مثلاً، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم).

أضحى هم بعض رجال الاستخبارات في كثير من البلاد الإسلامية مراقبة الشباب الملتزمين بدينهم، المحافظين على صلاة الجماعة في المساجد، المتمسكين بالمظاهر الإسلامية، حتى أضحى صلاة الشاب الصبح في المسجد يومين على التوالي من الجرائم العظيمة، مع إعطاء الحرية الكاملة للشباب الضائع، المشغول بالفواحش والخنا، المتعلق قلبه بالمسارح والأندية الليلية، الحريص على قضاء العطل في مواخير أوربا وبين مومساتها وخماراتها.

ã

تاسعاً: من ليس معنا فهو ضدنا

ابتلي كثير من المسلمين سيما المنتسبون للجماعات والأحزاب، إسلامية كانت أم علمانية، بقصر النظر، وضيق الأفق، بحيث أصبحوا يحكمون على كل من ليس معهم فهو ضدهم، خاصة لو كان معهم ثم تخلى عنهم لجماعة أخرى، أوفضَّل أن يعمل لحاله، وصُنِّف من المعادين، وضيِّق عليه أيما تضييق، وحُرم من كثير من الحقوق التي منحها إياه الإسلام، أوالنظام والقانون العام، بينما نجد الإسلام جعل حقوق الأخوة الإيمانية لكل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكان مقراً بكل ما جاء به الحبيب المصطفى، لا يمنعه عدم ولاؤه للحاكم أوللحزب المنتمي له الحاكم من حق، ولا يلزمه بواجب، سوى ما أوجبه الشارع على الرعية نحو ولاة أمرها.

هذا السلوك الذي ساد مجتمعات المسلمين الآن مغاير ومخالف لما كان عليه سلفهم الصالح.

عندما بويع لعلي رضي الله عنه بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان أحق بها وأهلها، ودخل العامة في بيعته، تأخر نفر عن مبايعته البيعة الخاصة في أول الأمر، فلم يثرب عليهم، ولم يعنف، ولم يعاقب، بل تركهم، وعندما سئل عنهم قال حقاً وصدقاً.

قال الحافظ ابن عبد البر: (بويع لعليّ رضي الله عنه بالخلافة يوم قتل عثمان رضي الله عنه، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته منهم نفر، فلم يهجهم، ولم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل.

وفي رواية أخرى: أولئك قوم خذلوا الحق، ولم ينصروا الباطل).

وما فعله علي مع من لم يبايعه سلكه أبو بكر رضي الله عنه من قبل.

بل لقد أثنى عليّ رضي الله عنه على الزبير وطلحة بعد مقتلهما في موقعة الجمل، وترحم عليهما، وقد خرجا لقتاله، وقال: بشِّر قاتل ابن صفية أي الزبير بالنار؛ وأكرم عائشة أيما إكرام، وردها إلى المدينة معززة مكرمة مع عدد من نساء الكوفة، وأمر ولديه الحسن والحسين أن يشيعاها ويقدماها.

ã

عاشراً: الضيق والخوف من النقد

النصيحة قوام هذا الدين، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".

ولهذا كان الأخيار من حكام المسلمين يحبون أن ينصحوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه مخاطباً الأمة: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، وكان عمر رضي الله عنه يدعو لمن دله على عيوبه قائلاً: "رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي".

بينما نجد كل حكامنا يستنكفون عن قبول النصيحة، سيما إن جاءت من أهل العلم.

لا شك أن الأصل في النصيحة أن تكون سراً، للحاكم والمحكوم، ولكن إن لم تجدِ المناصحة السرية فلا مانع من الجهر بها، خاصة فيما يتعلق بالمخالفات الشرعية المجمع عليها.

ومن عجيب أمر حكامنا أنهم يغضون الطرف عما يكتبه أعداء الدين من الكفار من شيوعيين، ومنافقين، وموتورين، من الكفر البواح، ومن النقد اللاذع المجحف لتصرفات بعض المسؤولين، بينما يراقبون ويسجلون جل ما يقوله العلماء والدعاة مهما كان موضوعياً.

مبررين لسكوتهم عن الكفر البواح بحجة الانفتاح، وأن الحريات مكفولة للجميع، والله يقول: "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ".

أضعف الإيمان أن يسمح لأهل العلم أن يبينوا الحق، وأن يردوا على تلك الكفريات والشبه، حتى لا يضل الناس، وقد أخذ الله الميثاق عليهم بذلك: "وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ".

لماذا يباح الكلام للكفار، والمنافقين، والمفسدين، ويحرم منه العلماء، والدعاة، والصالحون:

حــرام على بلابــل الدوح              حلال على الطير من كل جنس؟!

لماذا يستأسد المسؤولون على إخوانهم المسلمين، ويخافون ويجبنون أويسكتون عن أعداء الدين، حتى ينطبق عليهم قول القائل:

أسد عليَّ وفي الحـروب نعامة              فتخاء  تنفر من صفير الصافـر

هلا برزتَ إلى غزالة في الوغا              بل كان قلبك  في جناحي طائـر

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والآثام، وردهم إليك رداً جميلاً.

اللهم أمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وحكم فينا خيارنا، واصرف عنا شرارانا.

والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وصلى الله وسلم على نبي الملحمة، وصحبه، وتابعيهم الأخيار الأطهار

000000000000000000000000000

ويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه، ولا يهلك على الله إلا هالك

"كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟

قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" الحديث

فضائل الله على هذه الأمة كثيرة، وآلاؤه عظيمة، من ذلك أن عوضها عن قصر أعمارها بالنسبة لمن سبقها من الأمم بكثرة مواسم الخير، وبمضاعفة الأجور والحسنات، وبرفع الحرج عنها، والآصار والأغلال التي كانت على من قبلها.

من ذلك تضعيف الحسنات، وغفران الزلات، وتبديل السيئات حسنات.

فمن جاء بحسنة واحدة فله أحد ثلاثة أمور:

   إما عشر أمثالها.

   وإما سبعمائة ضعف.

   وإما إلى ما شاء الله.

لا فرق بين الإنفاق في سبيل الله وغيره، بل هناك أعمال يوفى أصحابها بغير حساب، كالصوم.

ومن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هَمَّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة، وإن تركها من أجل الله كتبت له حسنة.

ومن اقترف سيئة فله أحد ثلاثة أمور كذلك:

   إما أن تكتب له سيئة.

   وإما أن يغفرها الله له.

   وإما أن تستبدل له حسنة.

قال تعالى: "مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ".

وقال: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".

وقال: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".

وقال: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ".

وفي الخبر المرفوع: "الحسنة بعشر أمثالها أوأزيد، والسيئة واحدة وأغفر، فويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه".

آية البقرة السابقة تبين أن التضعيف إلى سبعمائة ضعف وإلى ما شاء الله خاص بنفقة الجهاد في سبيل الله، والخبر يوضح أن الزيادة على العشرة يشمل جميع أعمال الخير، وليس هذا على الله بعزيز.

قال القرطبي رحمه الله: (ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، واختلف العلماء في معنى قوله: "وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء"، فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هي إعلام بأن الله يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.

قلت: وهذا القول أصح).

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (فجزاء السيئة سيئة واحدة مثلها، وجزاء الحسنة على أقل التقديرات عشرة أمثال، فمن غلبت آحادُه عشراتِه فلا خير فيه، ولا يهلك على الله إلا هالك، لأن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، هيأ الله فيها طريق الجنة ويسرها تيسيراً عجيباً، رفع فيها الأثقال والآصار والتكاليف، من شق عليه السفر فليفطر، وليقصر الصلاة، ومن لم يقدر على الصلاة قائماً صلى قاعداً، وهكذا في أنواع التخفيف، فمع هذا فالحسنة تكتب له بعشر حسنات، والسيئة إنما تكتب عليه واحدة مثلها، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، بل قد تكون حسنة إن كان تركه لها لأجل ابتغاء مرضاة الله.

فهذه الآيات من أعظم المبشرات للمسلمين، لأن جميع حسناتهم عند الوزن الذي قال الله: "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ"، إذا كانت حسنتك تضاعف عشر مرات، وسيئتك إنما تجازى بسيئة واحدة مثلها، ففي هذا أعظم البشارة للمسلمين، وعليهم أن يكثروا من الحسنات، ومن الحكم العظيمة وجوامع الكلم قوله صلى الله عليه وسلم: "واتبع الحسنة السيئة تمحها").

لقد كثر الله سبل دخول الجنة ويسرها حتى جعلها أقرب لأحدنا من شراك نعله لمن وفقه الله، وكذلك النار أقرب لأحدنا من شراك نعله لمن لم يلطف به ربه، وأتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني الكاذبة.

فالسعيد من جد وشمَّر، وحاسب نفسه، وراقب حاله، وأكثر من الحسنات، وحذر من السيئات، واستعان على ذلك بكثرة التوبة والإنابة لرب الأرض والسموات، وعافاه الله من التسويف.

اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول أوعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول أوعمل، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على من دل أمته على كل خير، وحذرهم ونهاهم عن كل شر، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، إلى أن تكتمل العدتان.

000000000000000000

توبة من بيده مال حرام

التوبة هي وظيفة العمر، وهي واجبة من جميع الذنوب والآثام، فمن تاب من بعضها سوى الشرك وبقي على بعضها قبلت توبته عما تاب عنه عند أهل السنة، أهل الحق والعدل.

يجب التعجيل بالتوبة ويحرم التسويف، وتتعين التوبة عند الكبر، وعند نزول المرض، سيما المخيف، وقبل الشروع في أي عبادة من العبادات، نحو الصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، ونحوها.

وها نحن مقبلون على شهر رمضان، نسأل الله أن يبلغنا إياه، فحري بكل مسلم أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً من جميع الذنوب والآثام، صغيرة كانت أم كبيرة، فلا كبيرة مع توبة واستغفار، ولا صغيرة مع غفلة وإصرار.

الذنوب التي تجب التوبة منها قسمان:

قسم متعلق بحقوق الله عز وجل، وهذا يشترط فيه أربعة شروط، هي:

1.  الإقلاع عن الذنب في الحال.

2.  والندم على ما مضى.

3.  والعزم على أن لا يعود إليه إلى أن يعود اللبن إلى الضرع.

4.  أن يفارق قرناء السوء ورفقاء المعصية.

وقسم متعلق بحقوق الآدميين، وهذا تشترط فيه الشروط السابقة زائداً رد المظالم إلى أهلها، مالية كانت أم غير مالية، كالغيبة والنميمة، أواستعفاء أصحابها، أوورثتهم إذا هلكوا، وإن تعذر ذلك أوخيف من حدوث ضرر أكبر فالمداومة على الدعاء والاستغفار لهم بظهر الغيب.

من جملة ذلك فإن توبة من بيده مال حرام لا تتم ولا تقبل إلا برد ما بيده من هذا المال الحرام إلى أهله أوورثتهم إن وجدوا، أوالتصدق عنهم إن تعذر أواستحال الوصول إليهم.

والمال الحرام كل ما اكتسبه الإنسان عن طريق غير مشروع، نحو الأموال التي يكسبها المرابون، والسحرة، والسراق، والخمارون، والنهاب، والمختلسون، والمغتصبون، والفنانون، والموسيقيون، والمشعوذون، والمرتشون، والرائشون، ومن شاكلهم.

فإن كان قدر المال الحرام معلوماً رده، وإن استوعب ماله كله أوزاد عليه، ولا يحل له أن يحبس منه شيئاً إلا قدر ما يحل للمضطر من مال غيره، والحد الأدنى مما يستتر به في صلاته، وهو ما يستر ما بين السرة والركبة.

فإن علم أصحابه أوورثتهم رده إليهم، وإلا تصدق به على الفقراء والمساكين عنهم، وليس له ولا أجر المناولة.

كل هذا أفضل له من السداد بالحسنات والسيئات، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات من ظلمهم وطرحت عليه، ثم طرح في النار، كما أخبر الصادق المصدوق: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ".

قال القرطبي رحمه الله: (قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال فيما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أوأربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته، فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس، وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجوز له أن يأخذه من مال غيره إن اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه، وفارق هاهنا المفلس في قول أكثر العلماء، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء، بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه، وما هو هيئة لباسه، وأبو عبيدة وغيره يرى أن لا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة، وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته.

ثم كل ما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو، ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه).

وما أخذ من المال العام بغير وجه حق، قل أم كثر، ولو كان مسواكاً، هو أشد حرمة وأعظم إثماً لأنه تعدى فيه على حقوق جميع الأمة، وكان في ذلك من المفسدين في الأرض، الظالمين للخلق.

ولا يحل ذلك إذن الحاكم أوالمسؤول، لأنه لا يملك هذا، وإنما هو وكيل عن الأمة وخليفة عن الله عز وجل، وإثم الحاكم الذي يعطي من لا يستحق العطاء، أويعلم ويسكت ولا يحاسب على ذلك، لا يقل من إثم الآخذ إن لم يزد عليه.

فليحذر الحكام الذين يتخوضون في مال الله بغير حق، وليتذكروا وقوفهم بين يدي العزيز الجبار، وليسمعوا إلى ما قاله عمر رضي الله عنه لغلامه في موسم من مواسم الحج: كم أنفقنا في هذا الموسم؟ فقال له: سبعة عشر درهماً؛ فقال له: ويحك، لقد أنهكنا بيت مال المسلمين؛ وقد حج عشر حجج، وكان إمام المسلمين، وكان منزله تحت شجرة.

وليكن لهم القدوة في عمر بن عبد العزيز، الذي لم يخلف بعده إلا عدداً من الدراهم لا يتجاوز أصابع اليدين والرجلين.

اللهم إن لك علينا حقوقاً كثيرة، فما كان لك فاغفره لنا، وما كان لخلقك فتحمله عنا، اللهم إنا أطعناك في أحب الأمور إليك وهو التوحيد، ولم نعصك في أبغض الأمور إليك وهو الشرك، فاغفر لنا ما دون ذلك.

وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله صادق الوعد الأمين، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.

0000000000000000000000

تباً لعبدة الشيطان وتباً لمن عبد سوى الرحمن

لم يكتف البعض بطاعة الشيطان، وموالاته، وتزيينه الباطل، على الرغم من تحذير الله لنا، وتذكيرنا بعداوته الأبدية: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا".

وعلى الرغم كذلك من خذلان الشيطان وخداعه لأوليائه السابقين واللاحقين: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

ذكر أهل السير عن قريش وهي خارجة لملاقاة حزب الله في بدر: (ولما عزموا على الخروج ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سُراقة بن مالك المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا والشيطان جارٌ لهم، لا يفارقهم، فلما تعبوا للقتال، ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء، فرَّ ونكص على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون.

وروى الطبراني في معجمه الكبير والهيثمي في مجمع الزوائد عن رفاعة بن رافع قال: لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحـارث بن هشام وهو يظنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر، ورفع يديه وقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي.

بل بلغ الخبل والهبل ببعض الناس أن سموا أنفسهم بعبدة الشيطان، بل بلغت بهم الجرأة في العراق المغصوب أن يكون لهم ممثلون في الأجهزة التي أقامها الأمريكان لتقوم نيابة عنهم في حكم تلك البلاد، وحق لهم أن يطالبوا بذلك، وأن يمثلوا، فهم أحق بهذه الأجهزة العميلة وأهلها.

وبضدها تتميز الأشياء، بينما نجد بعض حزب الله المتقين وجنده المفلحين منهم من لا يأبه بالشيطان تصديقاً بقول الرحمن: "إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا"، ولهذا كانوا يستخفون به، ويزدرونه، ولا يخافونه أبداً.

قال التابعي الجليل أبوحازم رحمه الله: ما الشيطان حتى يُهاب؟ فوالله لقد أطيع فما نفع، وعصى فما ضر.

وكان أحد السلف يتمثل له الشيطان بصورة حية في محل سجوده، فإذا أراد السجود نحاه بيده، ويقول: والله لولا نتنك لم أزل أسجد عليك.

وقال بعض العلماء: لولا أن الحق سبحانه وتعالى أمرنا بالاستعاذة منه ما استعذت منه لحقارته.

بل من عباده المخلصين من كان يخيف الشيطان، فقد روي في مناقب عمر عن الصادق المصدوق: "أنه ما سلك فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً غيره".

وورد بسند حسن: "أن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه".

بهذا يتضح لك الفرق بين حزب الشيطان، عبدة الأهواء، والأوثان، والصلبان، والحيوان، والشيطان، وبين حزب الله:

"اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ... لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْأَبْنَاءهُمْ أَوْإِخْوَانَهُمْ أَوْعَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

رضي الله عن عمرو بن الجموح، فقد كان له صنم يعبده قبل إسلامه، فغاظ شباب بني سلمة الذين سبقوه إلى الإسلام ذلك، فكانوا يعمدون إليه ليلاً فيطرحونه في بعض الحفر التي فيها عَذَر الناس، فيصبح فيأخذه وينظفه ويطيبه، وفي مرة غسله وطيبه، ثم جاء بالسيف فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلما أمسى ونام، عدى عليه الشباب الصادقين، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر فيها عَذَر من أعذار بني سلمة، فلما أصبح عمرو ووجده على هذه الحال، وكلمه قومه، فأسلم وحسن إسلامه، وندم على ما كان، فقال:

والله لو كنت إلهـاً لم تكن                أنت وكلب  وَسْطَ بئر في  قرن

إني لملقاك إلهـاً مستـدن                الآن  فتشناك عن سـوء الغبن

الحمـد لله العلي ذي المنن                الواهــب الرزاق ديان الدين

هو الذي أنقذني من قبل أن                أكـون في ظلمة قبـر مرتهن

بأحمد المهدي النبي المؤتمن

فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، وعافانا مما ابتلى به غيرنا، وفضلنا على كثير من الإنس والجان، وصلى الله وسلم وبارك على من أوجب طاعته على كل إنس وجان، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم ما تعاقب الملوان.

0000000000000000

العمليات الجهادية الاستشهادية بين المجيزين والمانعين

الأدلة على مشروعية هذه العلميات الاستشهادية الجهادية

أقوال بعض أهل العلم في جواز انغماس المسلم في صف العدو وإن غلب على ظنه القتل

 

اختلف أهل العلم في العمليات الاستشهادية التي يقوم بها بعض المجاهدين المغلوبين على أمرهم دفاعاً عن دينهم وحريمهم، وأعراضهم، وأوطانهم، بعدما تخلى عنهم إخوانهم المسلمون وخذلوهم، وأسلموهم لعدوهم، بل ظاهر بعض المنتسبين إلى الإسلام الكفار على المسلمين، بأن دلوهم على عوراتهم، وقاتلوا إلى جنبهم، إلى قولين، هما:

1. أن هذه عمليات انتحارية وليست استشهادية، والانتحار حرام، ومن ثم فلا تجوز.

2. أن هذه العمليات عمليات استشهادية، وأنها من النوازل التي أملتها الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية، وأنها تجوز بشروط، وهي:

أ. أن يكون المسلمون في حالة جهاد مع الكفار، سواء كان جهاد طلب أودفاع، كما هو الحال الآن في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وجنوب الفلبين، وغيرها من البلاد المغصوبة.

ب. أن يمارس ذلك مسلم يبتغي بذلك النكاية بالعدو وإرهابهم.

ج. أن يبتغي بهذا العمل وجه الله عز وجل.

د . أن يغلب على ظنه النكاية بالكفار وإرهابهم.

ﻫ . أن لا يكون الدافع له اليأس والقنوط والتخلص من الحياة.

وبادئ ذي بدء لابد من أن نقرر حقيقة، وهي أن هذه العمليات من النوازل الحرجة، وأن الحكم عليها بالجواز أوعدمه من الأمور التي تحتاج إلى تأنٍّ وإلى بصيرة، ومعرفة بالواقع والملابسات المحيطة بها، والظروف التي دفعت إليها، ولهذا لابد من التريث، وعدم الاستجابة لردود الأفعال.

وكذلك ينبغي أن ينحصر الحكم في مشروعية هذا العمل أوعدم مشروعيته، أما أن يتخطاه بالحكم بالشهادة لفاعله نفياً أوإثباتاً فهذا مما لا يعلمه إلا علام الغيوب، فالمطلوب معرفة هل هذا العمل مشروع أم لا؟ هل له سند في الشرع والنظر أم لا؟ أما أن نشهد على فاعله بالشهادة أونحرمه منها فهذا تحكم وتقوُّل على الله عز وجل.

من الذين نُقِل عنهم أنه حكم بعدم مشروعية هذه العمليات، وأنها داخلة في دائرة الانتحار سماحة الشيخ محمد بن صالح العثَيمين رحمه الله في كتاب "فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة"، مستدلاً على ذلك بقوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً"، ودافعاً لدليل واحد من عدة أدلة للمجيزين لذلك، وهو دلالة غلام أصحاب الأخدود للملك الغشوم على كيفية قتله، بأن قتل الملك إياه كان سبباً لإسلام أمة، وفي صنيع هؤلاء لا يُسْلِم أحد، بل تشتدُّ الوطأة على المستضعفين من إخوانهم، وفيما قاله الشيخ رحمه الله نظر، لأن هذه العمليات الجهادية لها أغراض عديدة وفوائد كثيرة، يرجوها القائمون بها من:

1.  النكاية بالعدو.

2.  وإرهابهم وزرع الخوف والرعب في قلوبهم.

3.  واستنزاف طاقات العدو.

4.  وجعلهم يعيشون في قلق وعدم استقرار، مما يدفع كثيراً منهم إلى الفرار والانسحاب.

وكل ذلك وغيره كائن إن شاء الله بسبب هذه العمليات الاستشهادية المباركة.

فاستشهاد غلام أصحاب الأخدود لم يقتصر على إسلام كل الحاضرين، وإنما أرهب الملك وأخافه، وزعزع سلطانه، ودك أركان دولته، وفضَّ الناس من حوله.

ومما يُحمد لسماحة الشيخ العثيمين رحمه الله أنه رجا لمن فعل ذلك متأولاً عدم المؤاخذة، حيث قال: (ولكن من فعل هذا مجتهداً ظاناً أنه قربة إلى الله عز وجل فنسأل الله تعالى أن لا يؤاخذه لأنه متأول جاهل).

وهذا مما يدل على أن هناك فرقاً عنده بين المنتحر والمتأول جواز هذا، ومما لا شك فيه أن المتأولين لجواز هذا الأمر منهم أهل علم وفضل.

وقول الشيخ رحمه الله في شرح حديث قصة أصحاب الأخدود، محدداً الفوائد المستنبطة منه: (إن الإنسان يجوز أن يغرِّر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه)، وما قرره الشيخ هو الذي تحققه العمليات الجهادية الاستشهادية.

الأدلة على مشروعية هذه العلميات الاستشهادية الجهادية

السوابق والمواقف التي يمكن أن تقاس عليها هذه العمليات الاستشهادية كثيرة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

1.  دلالة غلام أصحاب الأخدود الملك الغشوم على كيفية قتله بالتفصيل الدقيق، كما صحَّ الخبر بذلك، بل إن العمليات الجهادية الاستشهادية فيها زيادة على ما قاله الغلام الذي نتج منه قتله هو فقط، بينما هذه العمليات تؤدي إلى هلاك عدد من الكفار هلاكاً حسياً مع هلاك المتلبس بها، وهذا من أقوى الأدلة على مشروعية هذه العمليات المباركة.

2.  ما فعله البراء بن مالك رضي الله عنه في حرب مسيلمة، حيث طلب أن يُحمل على رؤوس الأسنة ويُلقى به داخل الحديقة، ففتحها وقتل منهم عشرة، ثم قُتل بعد أن جُرح بضعاً وثمانين جرحاً، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، كما روى ذلك البيهقي وغيره من أهل السنن.

3.  انغماس عمرو بن معد يكرب يوم القادسية في صف العدو، كما في سراج الملوك للطرطوشي وغيره، كما قال ابن النَّحاس رحمه الله.

4.  ما خرجه أحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه عندما أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل.

يقول سلمة: "ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي وهو وحده فجعلت أرميهم وأعقر بهم، فلا يقبل عليَّ فارس إلا عقرت به، فجعلت أرميهم وأنا أقول: أنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع أي يوم هلاك اللئام - قال: فألحق برجل منهم فأرميه وهو على رحله، فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه نفذ كتفه - فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع؛ فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، وإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذلك شأني وشأنهم، أتبعهم وأرتجز".

فرد كل ما أخذوه، والعديد من أسلحتهم ودوابهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحاً له: "خير فوارسنا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة"، قال: "فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعاً".

قال الشهيد البطل ابن النحاس رحمه الله المتوفى 814هـ، في كتابه القيم: "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام" في الجهاد وفضله، معلقاً على صنيع سلمة هذا: (وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده، وإن غلب على ظنه أنه يقتل وهذا هو شاهدنا وإذا كان مخلصاً في طلب الشهادة كما فعل الأخرم الأسدي رضي الله عنه، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه، ولم ينه الصحابة عن مثل فعله).

5.  ومما يدل على مشروعية العمليات الجهادية الاستشهادية وإن اختلفت كيفيتها بلبس حزام متفجر لأنه أصبح هو الوسيلة الوحيدة لإرهاب العدو اليهودي الصليبي الجبان اللئيم، الذين رضعوا اللئامة والحقد كابراً عن كابر.

إن لم يكن إلا الأسنة مركباً              فما حيلة المضطر إلا ركوبُها

فالضرورات تبيح المحظورات، ما فعله البطل المجاهد بُسْر بن أرطأة في الروم عندما كمن لهم عدة مرات، فلم يفد ذلك، إذ رمى بنفسه في كنيسة كان فيها عدد من مقاتلة الروم، كما فعل البراء بن مالك، فصرع منهم ثلاثة قبـل أن يدركه أصحـابه، فتعجب من فعله بعض الأسـرى، فناشـدوا المسلمين: من هذا؟ فقالـوا: بُسْر بن أرطأة؛ فقالوا: والله ما ولدت النساء مثله.

وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص: أن افرض لمن شهد الحديبية مائتي دينار، وأتمها لنفسك، وأتمها لخارجة بن حذافة لضيافته، ولبشر بن أرطأة لشجاعته.

6.  ومما يدل على مشروعية هذه العمليات الجهادية وإن تعددت وسائلها ما خرجه ابن عساكر بإسناده عن محمد بن عائذ قال: قال الوليد بن مسلم: أخبرني شيخ من أهل حمص أنه أدرك بها شيخاً رومياً من فرسان الروم الذين كانوا بحمص أعور، قال: فقيل له: سله عن سبب عوره؟ فقال: إن المسلمين لما ساروا إلى حمص نزلوا بحيرة قدس على نهر الأرُند العاصي فبعثني بِطْريقُ حمص في ثلاثين من فرسانه، وأمرنا أن نستبطن نهر الأرُند حتى ندنو من عسكر المسلمين فنأتيه بأسير أوخبر، قال: فخرجنا فاستبطنا بطن الوادي، فلما دنونا من العسكر إذا رجل من جيزة النهر أي ناحية النهر الأخرى منقعاً فرسه في النهر، ورمحه إلى جانبه، فلما رآنا وضع سرجه على فرسه وركب، وتناول رمحه، فظننا أنه قد ذعر منا، وأراد أن يبدرنا إلى العسكر.

قال: فرمى بها أي الفرس في جرية الماء، فجعلنا نتعجب من جرأته على النهر وعلينا، فخرجت به فرسه من النهر، وانتفضت به، فلما انتهى إلى الجرف الذي يلينا أرادها على الوثوب به فلم يتهيأ لها، فقام على سرجه ووضع الرمح فاتكأ عليه ووثب، فإذا هو قد علا الجرف وصاح بها، فإذا هي معه، فوثب عليها، ثم أقبل إلينا فالتف بعضنا إلى بعض، فشد علينا، ففرق بيننا، وخلا برجل فدق ظهره، والتف بعضنا إلى بعض، وشد علينا ففرق بيننا وخلا برجل فدق ظهره، ففعل ذلك مراراً.

فلما رأينا ذلك ولينا منهزمين إلى المدينة، فأتبعنا، فكلما لحق رجلاً قتله، حتى لم يبق منهم غيري، ودنا من باب حمص، وقد رأى من كان ببرج الباب ما كان يصنع، فأخرجوا فوارس إلينا، فلما رأيت الفوارس ظننت أنه قد هابهم وانصرف، فالتفت لأعرف ما صنع، فإذا سنان رمحه في عيني، والتفت به الفرسان فقتلته، فأقبل جماعة من المسلمين في طلبه فانتهوا إليه صريعاً، ودخلنا المدينة فأسمعهم يقولون: مسحل مسحل أي الشجاع الذي يعمل وحده فدفنوه في طائفة من دير، فبها سمي ما هناك: دير مسحل.

7.  وفيما فعله سالم مولى أبي حذيفة عندما حفر لنفسه حفرة ودخل فيها إلى نصفه، فقاتل حتى قتل في قتال المرتدين، أقوى دليل على مشروعية تلك العمليات الاستشهادية، وإن اختلفت الوسيلة.

8.  وكذلك ما فعله البطل الهمام علي بن أسد عندما غزا المسلمون الروم في البحر، فقرنوا مراكبهم بمراكب العدو، فقال علي: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً؛ فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فما زال يضربهم وينحازوا، ويضربهم وينحازوا، حتى مالوا في شق واحد فانكفأت عليهم السفينة، فغرق وعليه درع حديد.

9.  ومن الشواهد على جواز هذه العمليات الجهادية ما فعله ذلكم الفارس في حرب القسطنطينية عندما انغمس في صف العدو وحده ليخرقه، فقال البعض: ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ فبيَّن لهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن التهلكة هي في الركون إلى الدنيا وترك الغزو والجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله.

أقوال بعض أهل العلم في جواز انغماس المسلم في صف العدو وإن غلب على ظنه القتل

أورد الإمام المجاهد ابن النحاس في كتابه السابق الذكر بعد أن ذكر العديد من الأقوال والأفعال مما يدل على جواز ذلك أقوالاً لبعض أهل العلم المجيزين لها، فقال: (اعلم أن العلماء رضي الله عنهم اختلفوا في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو الكثير وحده، وانغماسه فيهم، وقد تقدم من الأدلة أقوالاً وأفعالاً على استحباب ذلك وفضله ما فيه كفاية.

إلى أن قال:

   قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في الإحياء في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل، وإن علم أنه يقتل، وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً ذلك في الأمر والنهي عن المنكر، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف أوالعاجز، فذلك حرام، وداخل في عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقتل حتى يقتل، أوعلم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة، وحبهم للشهادة في سبيل الله، فتكسر بذلك شوكتهم".

كل هذه الأغراض تحققها العمليات الجهادية الاستشهادية، فهي تقتل من العدو ما شاء الله أن تقتل، وتزرع الرعب والخوف والفزع في قلوبهم، وتكسر شوكتهم، وتذل غطرستهم وغرورهم.

وقال الرافعي والنووي وغيرهما: التغرير بالنفس في الجهاد جائز، ونقل أي النووي في شرح مسلم الاتفاق عليه، ذكره في غزوة ذي قِرْد.

وقال النووي معلقاً على ما فعله عمير بن الحَمَام حين أخرج التمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل.

قال النووي: (فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة، وهو جائز لا كراهة فيه عند جماهير العلماء).

وما العمليات الجهادية الاستشهادية إلا تغرير بالنفس وتعرض للشهادة، إذا صلحت النية.

قال الشافعي رحمه الله تعالى: قد بورز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة المشركين يوم بدر، بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم إياه بما في ذلك من الخير إن قتل.

قال البيهقي: هو عوف بن عفراء، ذكره ابن إسحاق، ثم ذكر في الباب قصة عمير بن الحمام، وأنس بن النضر، وغير ذلك).

قلت: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لعوف بن عفراء أن ينغمس في صف العدو ويحمل عليهم وهو حاسر لا سلاح معه، فكيف بمن هو لابس لحزامه وشاك لسلاحه؟!

قال القرطبي في تفسيره: (واختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب، وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد - بن أبي بكر الصديق وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم، إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن له قوة فذلك من التهلكة، وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بَيِّنٌ في قوله تعالى: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله".

وقال ابن خويزمنداد المالكي -: (فأما أن يحمل الرجل على مائة، أوعلى جملة العسكر، أوجماعة اللصوص، والمحاربين والخوارج، فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه يقتل، ولكنه سينكي نكاية أويؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز، ولماتحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحَجَفة وألقوني؛ ففعلوا، فقالتهم وحده وفتح الباب).

قلت: لا أشك قط أن الأبطال الأوائل أمثال البراء وغيره لو تيسرت لهم الأحزمة المتفجرة هذه للبسوها، إذ لا فرق في النتيجة بين أن يُحْمَل على أسنة الرماح ويُلقى به في وسط العدو وهو مقتول لا شك في ذلك، وبين أن يلبس حزاماً يتفجر به في وسط الأعداء.

أما وصف هذه العمليات بأنها عمليات انتحارية غرض القائم بها قتل نفسه فهذا من باب الظلم البين، وذلك لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فهذا من باب التسوية بين المتضادين، وهو قياس مع الفارق الكبير.

وقال محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة -: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين، وهو وحده لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة، أونكاية العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عَرَّض نفسه للتهلكة من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرأة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه لا يبعد جوازه إذا كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت النفس لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم"، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

قلت: على الرغم من أن هذه العمليات من النوازل القابلة للاجتهاد، وأنه لا ينبغي لمن لم ير جوازها أن يثرب على من يرى مشروعيتها أوضرورتها، ولا ينبغي أن تقاس على العمليات الانتحارية بحال من الأحوال، فقياسها على العمليات الانتحارية فاسد من عدة وجوه، أهمها اختلاف النية والهدف.

والذي يترجح لدي جوازها بالشروط التي أسلفتها، وذلك لأسباب:

1. للشواهد والمواقف المشابهة لها من بطولات المسلمين في جهادهم للكفار، التي ذكرنا طرفاً منها.

2. أن الضرورات تبيح المحظورات.

3. أنها أضحت الوسيلة الوحيدة المتاحة للدفاع عن الدين، والعرض، والوطن، وعن المستضعفين من بعد تخلي إخوانهم عنهم وخذلانهم إياهم، إذ لا وسيلة غيرها متاحة للمستضعفين.

4. أثبتت جدواها بأن زرعت الرعب والخوف في قلوب الكفار.

5. أن غاية الجهاد بذل النفوس والمهج رخيصة في ذات الله عز وجل، وفي العمليات الاستشهادية تحقيق تام لهذا الهدف.

6. البديل عنها مع هذه الظروف الراهنة الاستكانة والخضوع والانكسار للكفار.

7. عملاً بالقاعدة الجليلة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

هذا مع علمنا التام للمحذورات التي فيها، والتضحيات العظام التي تحدث من جرائها.

والله أعلم بالصواب، وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على رسولنا القائل: "لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة"، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام علينا وعلى جميع عباد الله الصالحين، لا ينال سلامنا الكفار والمنافقون.

0000000000000000000000000

العمليات الجهادية الاستشهادية  حكمها، شروطها، فضلها، ثوابها

الحمد لله القائل: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون"، وصلّى الله على محمد القائل: "من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل أو الموت مظانه".

وبعد..

فإن العمليات الجهادية جائزة ومشروعة، بل قد تستحب أو تجب في بعض الأحيان إذا توفرت الشروط الآتية:

  أن يمارسها مسلم.

  أن يكون المسلمون في حال حرب وجهاد، سواء كان جهاد طلب أو جهاد دفاع، كحال المسلمين اليوم في كل العالم سيما في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وجنوب الفلبين وغيرها.

  أن يبتغي بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

أن يتيقن أو يظن ظناً مؤكداً أنها تنكي بالعدو وتثخن جراحه.

الأدلة على مشروعيتها بهذه الشروط

الأدلة على مشروعية هذه العمليات الجهادية الاستشهادية إذا توفرت الشروط السابقة كثيرة، وهي:

عامة

من ذلك قوله تعالى: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" ، وقوله: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد" ، وقوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون" ، وبعثه صلى الله عليه وسلم رجلاً واحداً سرية، فعل ذلك مع عدد من أصحابه.

خاصة

أما الأدلة الخاصة فكثيرة جداً، وسنذكر شيئاً منها، ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الشهيد ابن النحاس :

  عندما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه البعض، فرد عليهم عمر وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية: "ومن الناس من يشري نفسه".

  عندما ألقى مدرك بن عوف نفسه في صف العدو، فقال الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة، قال عمر: كذب أولئك ولكنه اشترى الآخرة بالدنيا.

  ما فعله أنس بن النضر في أحد.

  وروى أحمد بإسناد صحيح: "...ورجل غزا في سبيل الله، فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، فرجع حتى يهريق دمه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه".

خرج البيهقي في سننه  عن محمد بن سيرين أن المسلمين انتهوا إلى حائط ، قد أغلق بابه فيه رجال من المشركين، فجلس البراء بن مالك على ترس وقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم؛ فرفعوه برماحهم فألقوه من وراء الحائط، فأدركوه قد قتل منهم عشرة"، قبل أن يُقتل رضي الله عنه.

ما رد به أبو أيوب على من قال لمن ألقى بنفسه في صف العدو في فتح القسطنطينية: " ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ قال: لا، ولكنها نزلت فينا نحن معشر الأنصار عندما عزمنا على الإقامة في أموالنا وترك الجهـاد؛ فالمراد بالتهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الجهاد، وقيل المراد بها القنوط من رحمة الله، بأن يقول الرجل: لا يغفر الله لي؛ والله أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام.

000000000000000000000000

ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً

. الأخذ بظواهر القرآن

2. جعل العقل البشري حكماً على نصوص الوحي

3. تقسيمهم السنة إلى قطعية الدلالة وظنية الدلالة متواتر وآحادي

4. التوسع في التأويل

5. المصلحة

6. رفع راية التجديد التخريبي

7. الثابت والمتغير

8. تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية

9. تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان

10.  تتبع الرخص، والزلات، والهفوات

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا".

وصلى الله على محمد القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك"، والقائل: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي"، والقائل في حديث الافتراق: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم".

ورحم الله مالكاً القائل: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، والقائل: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، وصدق من قال: "ما لم يعرفه البدريون فليس بدين".

وقد صلح أول هذه الأمة بتمسكهم بكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وبما أجمعت عليه الأمة في قرونها الثلاث الفاضلة.

على الرغم من ذلك نجد طوائف من الخلف ومنذ القدم يحاولون التمرد على ذلك، ويسعون إلى التفلت عن بعض ما تركنا عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم، حسب مقتضيات عصرهم وما يواجهون من ضغوط، ولهذا تختلف الشعارات والمبررات التي يستترون خلفها للتخلص من بعض ما لا تهواه أنفسهم، وما لا يقوون على الصمود عليه أمام التحديات التي تواجههم.

من تلك التبريرات التي رفعها أهل الأهواء قديماً وحديثاً ما يأتي:

1. الأخذ بظواهر القرآن

وعدم الاستعانة بالسنة المفسرة والمبينة لتلك الظواهر: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ"، وبلغة العرب وأساليبها التي نزل بها القرآن: "قُرْآنًا عَرَبِيًّا"، كما صنعت الخوارج.

2. جعل العقل البشري حكماً على نصوص الوحي

فما قبلته عقولهم قبلوه، وما رفضته عقولهم رفضوه أوأولوه تأويلاً مذموماً فاسداً، نحو "رؤية المؤمنين لربهم، عذاب القبر، آيات الوعد والوعيد".

3. تقسيمهم السنة إلى قطعية الدلالة وظنية الدلالة "متواتر وآحادي"

الذي ردوا بسببه كل ما لا تهواه نفوسهم من الأخبار الصحيحة الصريحة، مع أن الأحاديث المتواترة تواتراً لفظياً لا تزيد على أصابع اليدين والرجلين، وهو أثر سيء من آثار علم الكلام، وهذا مسلك المعتزلة ومن قلدهم في باطلهم هذا من الفرق المبتدعة.

4. التوسع في التأويل

وإفراغ كثير من نصوص الوحي من مدلولاتها، كما فعلت المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، والتأويل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم مرفوض، فالمحمود الذي هو يمعنى التوضيح والبيان والتفسير، نحو قول ابن جرير: "تأويل قوله تعالى..".

والمذموم نحو صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي لقرينة، نحو تأويل جل صفات المولى عز وجل الذي هو مساوٍ للتحريف والتعطيل، ولهذا قالوا: "كل تأويل تحريف، وليس كل تحريف تأويلاً".

نتج عن هذه البدعة المنكرة تقسيم المسلمين إلى مدرستين، هما:

أ.  مدرسة الحَرْفيين، النصوصيين، المتشددين، كما يزعمون، وهم الذين يأخذون بمدلول النص الظاهر.

ب. ومدرسة المستنيرين، الذين يأخذون بمقاصد الشريعة ولا يجمدون عند ألفاظ النصوص، وإنما حظهم من النصوص الذوق والمزاج.

مستدلين على هذا التقسيم الجائر بعدم تثريبه صلى الله عليه وسلم على أي واحدة من الطائفتين عندما قال لهم بعد الخندق: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"، عندما نزل عليه جبريل وأمره بغزوهم وإجلائهم.

فعندما دخل وقت العصر اجتهدت طائفة وصلت، وأبت الأخرى أن تصلي العصر إلا في بني قريظة ولو اشتبكت النجوم، وهؤلاء هم المصيبون، المحقون، المأجورون مرتين.

وعدم تثريب الرسول صلى الله عليه وسلم على إحدى الطائفتين ليس فيه إقرار لهما جميعاً، لأن الحق عند الله سبحانه واحد لا يتعدد، وهذا الذي عليه العلماء المحققون من أهل السنة، كمالك، والشافعي، وأحمد، كما نقل ذلك عنهم ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله".

ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "لا يصلين أحدُكم العصر إلا في بني قريظة"، كان يعني شيئاً واحداً، وهو أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، ولكن عندما اجتهد البعض في أمر قد انقضى لم يثرب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لم يثرب على عمار بن ياسر عندما تمرغ بالتراب قبل أن يعلم بكيفية التيمم، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة.

وهذا من أفسد التعليلات، أن تقسم الأمة الإسلامية هذا التقسيم الجائر الظالم بسبب حادثة عين، وأن يذم وينتقص الملتزمون بالنصوص الشرعية، ويمدح المتفلتون الرادون لحكمه صلى الله عليه وسلم المتوعدون بقوله عز وجل: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْيُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "، وكما قيل: رمتني بدائها وانسلت.

5. المصلحة

من التبريرات التي زينها الشيطان لبعض أوليائه لرد النصوص الصحيحة الصريحة ما يعرف بـ"المصلحة"، التي تقدر بحسب الهوى، مستدلين على ذلك بكلمة حق أرادوا بها باطلاً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا ضرر ولا ضرار"، وأول من ابتدع ذلك وتلقفها منه الناعقون رجل نكرة مهجـور يدعى الطوفي، كان حنبلياً في الظـاهر رافضياً محترقاً في البـاطن، قال عنه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في ذيل طبقات الحنابلة: (وكان مع ذلك كله شيعياً منحرفاً في الاعتقاد عن السنة، حتى أنه قال في نفسه:

حنبلي رافضي أشعـــري؟          هذه إحـــد العبـــر).

وخلاصة هذه الدعوى أن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع إذا عارضتها.

لقد خلف سلف الطوفي هذه الشبهة واستغلوها أسوأ استغلال في رد كثير من النصوص، والتشويش على العامة من المسلمين، وعلى رأس أولئك الشيخ محمد عبده وتلاميذه من بعده، وما علم هؤلاء أن المصلحة كل المصلحة في موافقة النصوص في العبادات والمعاملات على حد سواء.

6. رفع راية التجديد التخريبي

لقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعد أمته بأن الله يبعث ويهيئ لها في كل مائة عام من يجدد لها دينها ويردها إلى الحق: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".

والتجديد المراد يتمثل في إحياء السنن التي أميتت، وإخماد البدع التي نبتت، وهذا هو الذي قام به مجددا القرن الأول والثاني: عمر بن عبد العزيز، والشافعي، ومن تلاهما من علماء أهل السنة.

أما التجديد البدعي التخريبي، وهو التلفيق بين ما جاء به الإسلام وما أفرزته الحضارة المادية الكافرة، وذلك برد كل ما يوقع هؤلاء في حرج مع الكفار، نحو إباحة الردة وإنكار حدها، والدعوة إلى توحيد الأديان السماوية، والتعايش السلمي بين أتباعها، وما شابه ذلك، ويقوم به تلاميذ المستشرقين من المنافقين والمتزيين بالدين.

7. الثابت والمتغير

من الدعاوي التي ترد بها بعض السنن دعوى الثابت، ويعنون به العبادات، والمتغير، ويعنون به كل شيء سوى العبادات من المعاملات وغيرها، هذا القسم في زعمهم قابل للأخذ والرد، وللتغيير والتبديل من حين لآخر، ويحكم كل ذلك الهوى.

لقد فاقت جرأة هؤلاء جرأة الذين يقسمون الدين إلى لباب وقشور، ويعنون بالقشور المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى، والحجاب، والنهي عن الإسبال للرجل.

ويشمل هؤلاء وأولئك قول الله عز وجل: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ".

ورحم الله مالكاً عندما استفتاه البعض واستبطأ رده، فقال له: هذه مسألة يسيرة، فلم تتأنى فيها؟ فقال راداً عليه: ليس في الدين أمر يسير، حيث قال الله لنبيه: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً".

وكل هذا من باب التحكم والجرأة على دين الله، ولا يقدم على ذلك إلا جاهل مغرور.

ألم يسمع هؤلاء تحذير الله للأمة في شخص رسولها: "وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، وقد جاء في حديث جبريل: "هذا جبريل أتاكم ليعلكم دينكم"، ومما ورد فيه بعض أشراط الساعة الصغرى.

8. تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية

من التبريرات الشيطانية التي جادت بها قريحة بعض الأشقياء لرد ما لا تهواه أنفسهم من الأخبار تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وليس هناك ميزان لذلك سوى الهوى، ومعلوم عند أهل الإسلام أن السنة غير التشريعية هي قاصرة على الأخبار، وليس لها تعلق بالأحكام لا من قريب ولا من بعيد.

فكل ماأقر عليه رسولنا ولم يُنسخ حتى مفارقته لهذه الحياة الدنيا فهو تشريع، منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، أوحرام، أومكروه، أوجائز.

تشبثوا لهذه الشبهة بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التأبير، ولكنه ظن ظناً، فقال: "لا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل"، وبهذا ردوا حديث الذباب وغيره.

9. تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان

من ذلك تشبث المتفلتون بما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" عن تغير الفتوى واختلافها بتغير الزمان، والمكان، والعادات، والتقاليد، الذي دفع الإمام ابن القيم رحمه الله إلى تلك المقولة جمود بعض فقهاء زمانه على التقليد؛ ومثل ذلك بالآتي:

أ.  تأخير إقامة الحد بأرض المعركة.

ب.  عدم إعطاء عمر رضي الله عنه للمؤلفة قلوبهم من الزكاة.

ج.  عدم إقامة حد السرقة على غلمان حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.

د.  قاعدة رفع الحرج وأن الضرورات تبيح المحظورات.

وليس في هذا ولا غيره رد لنص صحيح صريح.

10.  تتبع الرخص، والزلات، والهفوات

التي أباحوا عن طريقها الغناء، والموسيقى، وتولي المرأة القضاء، ونحو ذلك، هذه التبريرات الأخيرة ابتلي بها أهل هذا العصر، واتخذوها متكئاً لرد كثير من النصوص التي لا توافق أهواءهم، وتوقعهم في حرج مع الكفار، وذلك بسبب الاستكانة، والخوف، والخور الذي أصاب ضعفة الإيمان من هيمنة الكفار وانفرادهم بالسيطرة على العالم.

وهؤلاء أحد ثلاثة نفر:

   إما منافق خالص.

   وإما منافق متظاهر بالإسلام.

   وإما مسلم ساذج تابع لكل ناعق.

وهذا كله وغيره يدل على عظم الابتلاء الذي ووجه به الإسلام وجنده المخلصون من قبل أعدائه الحاقدين، وأبنائه الجاهلين.

واجب العلماء الدفع عن هذا الدين، ورد شبه المنحرفين، والصمود في وجه الكفار والمنافقين، والاعتصام بحبل الله المتين، واستنزال النصر من مالك النصر: "وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ".

والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يثبت أقدامنا، وينصرنا على عدونا، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان وزمان أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.

00000000000000000

ما أطيب الإسلام وأحسنه، وما أخبث الكفر وأقبحه

وما أكرم السنة وأضل البدعة

ويا فوز الموحدين ويا شقاء المشركين

وما أسعد المتَّبعين وما أتعس المبتدعين

الحمد لله الذي حكم فعدل، وقضى فأحكم، فلم يسوِّ بين الحق والباطل، ولا بين الطيب والخبيث، ولا بين العالم والجاهل، فقال: "أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ"، وقال: "قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ"، وقال: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ"، وضرب الأمثال، وأورد الأخبار، وقصَّ القصص للعبرة والاعتبار.

من أصدق الأمثال وأجلاها تمثيله للإيمان بالشجرة الطيبة المثمرة، والكفر بالشجرة الخبيثة النكدة: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ".

وصلى الله وسلم على رسوله القائل: "ومن رغب عن سنتي فليس مني".

ما أطيب كلمة التوحيد، وما أخبث كلمة الكفر وما أنتنها، فمن قبحها وخبثها ونتنها أن الكافر الأصلي والمرتد لا يريدان أن يوصفا بذلك، أويرميا بها.

فإذا وصفت الكافر والمنافق بما وصفه به ربه، وبما يعتقده، بأنه كافر أومنافق، غضب عليك، وثار، وانتفشت أوداجه، بينما أنك لم تعد وصف الله لهم، وحكم الله عليهم: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ"، " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"، "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا"، "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ".

بينما يفرح المؤمن ويُسرُّ إذا وصف بذلك، بل لا يرضى بغير الإسلام ديناً، ولا بالإيمان بديلاً، ولا أن يسمى بغير الاسم الذي سماه إياه به ربه: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ".

وكذلك الأمر بالنسبة للسنة والبدعة، فما من أحد من أهل القبلة إلا ويدعي الانتساب إلى السنة والاعتصام بها، مهما كانت درجة مخالفته لها، وذلك لأن السنة هي الإسلام، هي الشريعة، ولذلك حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على التمسك بها والعض عليها، فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

ما أكرم السنة وأحبها إلى النفوس، وما أضل البدعة وأكرهها، حتى أن أئمتها الكبار المنشئين لها والمقلدين لا يحبون أن ينسبوا إليها أويوصفوا بها، وحق لهم كرهها وبغضها، ولكن ادعاء السنة وحده لا يكفي، والتنصل من البدعة لا يخلص منها ولا ينفع صاحبها.

وخطورة البدعة تكمن في الآتي:

أولاً: لا يقبل الله لصاحب البدعة عمل، لا صرفاً ولا عدلاً، أي لا فرضاً ولا نفلاً، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

ثانياً: من العسير أن يتوب صاحب البدعة عن بدعته.

ثالثاً: البدعة على من سنها أولاً، وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزار متبعيه شيئاً، كما صح في ذلك الخبر، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، لأنه أول من سن القتل".

رابعاً: إثم البدعة مركب، لأنه ما من بدعة إلا وتقوم على أنقاض سنة.

خامساً: البدعة تعتبر تشريعاً مضاهياً لشرعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن لؤي الخزاعي يجر قصبه في النار، لأنه أول من غيَّر ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، بأن سيَّب السائبة وبحر البحيرة.

سادساً: من شؤم البدعة على الرغم من تفاوتها، إذ هناك بدع كفرية، وأخرى محرمة، وأخرى مكروهة، إلا أنها كلها ضلال، لا فرق بين صغيرها وكبيرها، وحقيرها وجليلها.

قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: والله إني لأحبك في الله؛ فقال له ابن عمر: "والله إني لأبغضك في الله، لأنك تبغي في أذانك وتأخذ عليه أجراً"، والمراد بالبغي في الأذان التمطيط، وكان مذهب ابن عمر أن المؤذن يحتسب ولا يأخذ أجرة.

ودخل ابن عمر مسجداً ليصلي فيه الصبح، وكان معه مجاهد، فثوب المؤذن التثويب البدعي، وهو أن يقول بين الأذان الثاني والإقامة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم؛ فما كان من ابن عمر إلا أن قال لمجاهد: هيا بنا نخرج من هذا المسجد الذي ابتدع فيه هذه البدعة؛ ومعلوم أن الخروج من المسجد بعد الأذان لا يجوز إلا بعد الصلاة أولأمر هام ضروري.

وعطس رجل بحضرة ابن عمر، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ فقال له ابن عمر: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: أين هذه البدع التي أنكرها ابن عمر وزجر منها بالنسبة للطوام العظام والبدع الكفرية الجسام التي يمارسها قطاع كبير من المسلمين اليوم، كالاستغاثة بالأموات، والتمسح بقبور الصالحين، والطواف حولها، ومن الرقص، والتواجد، والضرب بالطبول، والنذر، والذبح، والخوف، والرجاء لغير رب الأرض والسماء، ولا يعترض على ذلك أحد.

والويل لمن حذر من ذلك ونبه عليه، فإنه يوصف بالكفر والضلال، وببغض الأولياء والصالحين، وبالابتداع في الدين، ويهجر ويعزل.

بل يظن البعض أن المرء إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وصلى، وصام، عُصم من الشرك والابتداع، بل لا يعترف البعض أن هناك شركاً أوابتداعاً، وإن كانت هناك بدع فهي بدع حسنة، نحو الحوليات والموالد.

حدث كل ذلك لسكوت العلماء وطلاب العلم، ومنافقتهم للواقع، وإيثارهم للسلامة، ومجاراة الحكام والمسؤولين لتلك العوائد، بل دعمها والمشاركة فيها.

ومن ثم لا يحل لك أن تصف شخصاً بأنه أشرك أوابتدع مهما اقترف من أسباب ذلك، وهذا من باب المكابرة، ولا يغير في المضمون شيئاً، فهناك شرك وتوحيد، وسنة وبدعة، والشرك بين، وأسبابه واضحة، ومظاهره معلومة معروفة.

وكذلك السنة معلومة، والبدعة معروفة، ولذلك احتال أهل البدع على ما ابتدعوه بأن حسنوها بعقولهم، ولم يستطيعوا أن ينكروا أنها بدعة، وقد حكم صاحب الشريعة على كل البدع بالضلال، وقضى عليها بالبطلان.

فمن أراد السلامة فعليه أن يسلك سبيلها، وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ومن أراد سوى ذلك فعليه ببنيات الطريق، ولن يضر والله إلا نفسه، ولن يخدع إلا شخصه، والكيِّس من راجع نفسه وحاسبها واتهمها، والجاهل المغرور من أتبع نفسه هواها، وقلد دينه الرجال، وعطل عقله، وأغفل العمل بالآثار.

فمن كان على ما كان عليه رسول الهدى وصحبه الأبرار فهو الموحد السني، ومن خالف ما كان عليه فهو المشرك المبتدع، ورحم الله مالكاً عندما قال: ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

فمن تعبد الله بعبادة لم يتعبده بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام فهي البدعة المردودة التي حذر منها رسول الإسلام.

اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق فرده إلى الحق حتى يكون من أهله.

اللهم بصِّر الجاهل، واهد الضال، ورد الغاوي، واغفر الزلات، وبدل الحسنات سيئات، وعجل بقبول التوبات، وجنبنا الغرور والمكابرات، وصلى الله وسلم على نبي الشفاعات وماحي الضلالات، وعلى آله وأصحابه ومن والاهم وحذر من البدع والمخالفات

000000000000000000000

الحق لا يُعرف بالكثرة ولا بالرجال، ولكن بالأدلة والآثار

من المصائب العظام، والطوام الجسام، انقلاب الموازين، واختلال المفاهيم، وقلة الفقه في الدين، ويزداد الأمر سوءاً إذا صحب ذلك بغرور، واستكبار، وتعالٍ، واستظهار بقوة وسلطان.

مما عمت به البلوى في هذا العصر، واشتدت به الكربى على أهل العلم، ما غلب على الأفهام، وطبع في الأذهان، وشاب عليه الكهول، وشب عليه الغلمان، أن الحق يعرف بالكثرة، على الرغم من قوله تعالى: "وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ"، وقوله: "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"، وقوله: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ"، وقوله: "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ"، وقال فرعون عن موسى وقومه: "إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ".

ورضي الله عن ابن مسعود حين قال: "الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك"، وقد تكون الجماعة في مخالفة الجماعة، أي الكثرة.

ولذات السبب أطلق البعض على الأشاعرة في الماضي أهل السنة، لكثرتهم وانتشارهم، وفي ذلك تجاوز، في عهد صلاح الدين الأيوبي وما بعده، والسنة لا تعرف بالكثرة، وإنما باتباع الدليل وموافقة ما كان عليه السلف، ومخالفة العقيدة الأشعرية للعقيدة السنية أوضح من أن يدلل عليها.

وازداد هذا الفهم تعقيداً عندما تعلق كثير من المسلمين بالنظام الديمقراطي الذي قلدوا فيه الكفار، حتى أضحى عند البعض ديناً يوالون عليه ويعادون، فقد أشربوا حب هذا النظام اللاديني، ولم يسلم من هذا الفهم السقيم والمرض الخبيث الخطير حتى الجماعات الإسلامية، إذ أصبحت تعتد به، وتفصل عن طريقه حتى في الفتاوى الشرعية والأحكام الفقهية، فما رأته الأغلبية أياً كان نوعه فهو الحق وهو الصواب، ومن خالفه فكأنما خالف صريح الكتاب، أوصحيح السنة، أوما أجمعت عليه الأمة، بل أشد، إذ لا يعبأ البعض بمخالفة السنة الصحيحة، ولا يتردد في رد الآثار إذا خالفت الهوى واصطدمت مع الإجماع الشعبي، الذي عد مصدراً أساساً للدستور مع الأعراف والتقاليد جاهلية كانت أم بدعية.

ونتج عن هذا الفهم المغلوط والاعتقاد المعكوس خلل كبير وفساد خطير، وكان سبباً للتفرق، والتشرذم، والاختلاف، وأصبح المتمسك بالكتاب، والسنة، والإجماع هو المنبوذ المنفرد، والذي يكون على ما عليه العامة مهما كانت مخالفته للأصول هو المرضي عنه والمرجى للقيادة، والتدريس، والفتوى، والاستشارة.

من مخالفات الديمقراطية للإسلام ومناقضتها لما جاء به رسوله تسويتها بين المسلم والكافر، والذكر والأنثى، والعالم والجاهل، والبر والفاجر، فأهل الحل والعقد في شرعها سواء مع الفسقة من الفنانين، والممثلين، والمرابين التعساء، والعلماء فيها حقوقهم دون حقوق الجهلاء، والعقلاء فيها لا فرق بينهم وبين السفهاء، وشرعة رب السماء مساوية إن لم تكن دون زبالة أذهان المشرعين للقوانين الوضعية التعساء.

وظهرت بدعة الخط العام للجماعة، فمن قبله قبل، ومن رفضه رفض وركل، بل ربما عد البعض هذا الخط موافقاً ومطابقاً للخط الذي خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أوله عندكم وآخره في الجنة"، فأخذ يوالي ويعادي من أجله، ويحب ويبغض، ويقبل ويرد بسببه، لموافقته للهوى.

ولهذا إن قال قائل قولاً مخالفاً لما ألفته الجماعة وارتضته العامة، أوأفتى فتوى مغايرة لما تهواه، أوجاء برأي معاكس للمعهود المعروف، أنكر عليه أشد الإنكار، وثرب عليه، وضيق عليه أيما تضييق، وإن دعا الحال حجِّم ومنع من الفتوى والتدريس، بدعوى الغلو والتشدد، وخوف الفتنة وشق الصف، والحرص على لمِّ الشمل، وما علم هؤلاء أنهم المتفلتون، وفي الفتنة ساقطون وهم لا يشعرون، وهكذا يزين الشيطان الباطل، ويلبس على الناس الحق، ويسعى للتهويش والتفريق، ويحسبون مع ذلك أنهم يحسنون صنعاً، ويقدمون معروفاً، ويرجون فلاحاً وصلاحاً، ونسوا أوتناسوا أن الفلاح كل الفلاح في الاعتصام بالكتاب، والسنة، والإجماع، وفي الثبات على ذلك، وفي اتهام الرأي دائماً وأبداً، وفي اتخاذ السلف الصالح قدوة وأسوة، فما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

اللهم ألف بين القلوب، وبصِّر بالعيوب، واهد إلى المطلوب، وجنبنا التعصب، والهوى، والتقليد، والاستعلاء، وأذهب عنا الغل والبغضاء، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "كل أمتي يدخلون الجنة  إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى ذلك؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، وعلى آله وأصحابه الأصفياء، والتابعين الأوفياء، ورضي الله عن علي حين قال: "الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، ونسأله أن يعافينا مما بنا من أدواء.

000000000000000000000

الفروق الأساسية بين السياسة الشرعية والسياسة الجاهلية

أخطر الفروق بين السياسة الشرعية والبدعية الجاهلية

نماذج لسلوك بعض الساسة الشرعيين مقارنة بسلوك بعض الساسة الجاهليين

لا شك في صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، وبقائه الدين الخاتم المهيمن ما بقي الملوان، رغم أنف الكفار والمنافقين، وشك، وشنشنة، وانهزام، واستكانة المنتسبين إليه، كيف لا ولم ينتقل رسوله إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن دلهم على كل خير، وحذرهم ونهاهم عن كل شر، فقد جاءهم بخيري الدنيا والآخرة بحذافيرها، ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه، ولهذا ختم به الأنبياء، ونسخت شريعته سائر شرائع الأرض والسماء.

يستحيل لمن علم أمته آداب الأكل، والشرب، وقضاء الحاجة أن يتركهم سدى هملاً في الحكم، والسياسة، والاقتصاد، ونحو ذلك، يتخبطون ويتكففون ما عند الكفار من زبالة أذهانهم، وفتات موائدهم، ولكن "َمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ".

كما أن هناك رأي، وعرف، وقياس صالح وآخر فاسد، ومصالح مرسلة وأخرى ملغية، كذلك هناك سياسة شرعية، عادلة، مرضية، وسياسة جاهلية، باطلة، جائرة، بدعية، ومن ثم فهناك ساسة شرعيون قدوة، وهم الأئمة المهديون، أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومن شاكلهم، وساسة جورة، جاهليون، بدعيون، وهم كثر، لا كثر الله منهم، ويمثل هذا الصنف قادة الأحزاب السياسية السودانية أصدق تمثيل.

فبينما تعرف السياسة الشرعية في الإسلام بأنها كل فعل يكون فيه صلاح المسلمين وإبعاد لما فيه فساد لهم.

قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله معرفاً السياسة الشرعية: (ما كان فعلاً يكون معه الناس اقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي).

بينما السياسة في شرع الجاهليين المحدثين كل ما يتوصل به إلى تحقيق المصالح الآنية.

لذلك ليس بين النوعين من توافق، بل هما مختلفان اختلافاً كاملاً، وبينهما من الفروق ما الله به عليم، وسنشير إلى أخطرها مع التمثيل.

فالسياسة الشرعية غايتها والهدف منها حماية الدين والأخلاق، وتأمين الناس، ورعاية مصالحهم الدنيوية، والحكم فيهم بالسوية، والعدل في القضية، أما السياسة الجاهلية فهي لا ترعى لا مصالح دينية ولا دنيوية، ويدل على ذلك الفساد العقدي والأخلاقي، والمعاناة في المعايش التي غيرت السلوك والعادات التي لا تخفى على أحد.

فإلى أخطر تلك الفروق بين السياسة الشرعية والبدعية الجاهلية، العادلة والجائرة الباطلة:

ã

أخطر الفروق بين السياسة الشرعية والبدعية الجاهلية

السياسة الشرعية السياسة الجاهلية البدعية

1. الاعتصام فيها بالكتاب، والسنة، والإجماع.   1. عمل برامج حزبية علمانية، وليتهم ملتزمون بما جاء في تلك البرامج العلمانية.

2. الثبات على المبادئ. 2. التفلت والروغان حتى مما يخطه البنان وينطق به اللسان.

3. الإيمان بجميع ما أنزل الله على رسوله.     3. الإيمان ببعض الكتاب إن وجد، والكفر عملياً بجله.

4. الغايات والوسائل شرعية.  4. الغاية تبرر الوسيلة.

5. حماية الدين، والمحافظة عليه، والغيرة على محارم الله، ورعاية حقوق المسلمين.    5. تحقيق المصالح الخاصة وإن تعارضت مع مصلحة الدين والوطن.

6. التحاكم إلى شرع الله المصفى.  6. استبدال الذي هو أدنى القوانين الوضعية، بالذي هو خير شرع الله المصفى.

7. التجرد وعدم المحاباة. 7. المحسوبية والمحاباة.

8. سعة الصدر. 8. الضيق بالرأي المخالف.

9. الوفاء بالعهود والمواثيق. 9. الغدر والخيانة بما عاهدوا عليه الله في الأزل، وما عاهدوا عليه أتباعهم.

10. النصح للرعية.     10. الغش للرعية والأتباع.

11. رفع المعاناة عن الأمة بقدر الطاقة.     11. العمل على زيادة المعاناة.

12. تقليد المناصب يعتمد على الدين والتقوى.   12. الاستلطاف والموالاة للمسؤولين والقادة، ولو كان عاجزاً خائناً.

13. الزهد في الدنيا والتقلل منها. 13. الحرص على الفانية وتضييع الباقية.

14. حماية العقيدة، والأخلاق، والسلوك.     14. رعاية الفساد العقدي وعدم المبالاة بتحسين الأخلاق والسلوك.

15. المحاسبة الدقيقة للولاة والمسؤولين.     15. التساهل والتفريط في محاسبة المققصرين خاصة إن كانوا من المقربين.

16. الحرص على المال العام.     16. الخوض في المال العام من غير رقيب.

17. العمل على إحياء السنة وإماتة البدعة.     17. رعاية البدع والمبتدعين، ومحاربة السنن والمتنسنين.

18. العناية بأهل العلم والفضل.  18. رعاية الفسقة والمبتدعة من الفنانين والممثلين ونحوهم.

19. رفع راية الجهاد وحماية الثغور.   19. السعي لإبطال هذه الفريضة وإنكارها والتنصل منها.

20. العناية بالحسبة والأمر والنهي.   20. ترك الحبل على الغارب، بل معاقبة من يتصدى لمنكر.

ã

نماذج لسلوك بعض الساسة الشرعيين مقارنة بسلوك بعض الساسة الجاهليين

1.  عندما عزل عمر سعداً وخالداً، صارا جنديين من جنود المسلمين، ولم يخرجا عن طاعة أمير المؤمنين، وكان عمر يقول: ما عزلت سعداً لخيانة ولا عجز.   1.  بينما نجد البعض يكون وزيراً، فإذا عُزل من الوزارة ذهب تواً إلى فنادق ومواخير نيروبي وأسمرا وغيرهما ليكون معارضاً للنظام، ليس لاي سبب إلا لأنه فقد ذلك المنصب، وليت الأمر اقتصر على الأفراد، بل نجد الأحزاب كلها من غير استثناء، ومن غير فرق بين إسلاميها وعلمانيها، ولا بين عقديها وطائفيها، إن لم تكن مشاركة في الحكم فهي تلقائياً في المعارضة، ولهذا ما من حزب من تلك الأحزاب إلا وتعاون ونسق مع الشيوعيين وجبهة التحرير، بل وصل الأمر أن الشيوعيين عندما خطب ودهم الشعبي لم يقبلوا ذلك إلا بعد أن يعلن الشعبي توبته أمام الملأ ويتبرأ من كل برامجه الإسلامية السابقة ويدين نفسه.

2.  أبوذر الغفاري رضي الله عنه، الذي لم تظل الخضراء ولم تقل الغبراء أصدق لهجة منه، والذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أمة وحده، عندما كان بالشام في خلافة عثمان وإمرة معاوية له، وكان مذهبه أن لا يدخر المرء شيئاً زاد عن حاجته، كتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك حاجة في الشام فأحضر أبا ذر إليك؛ فاستجاب أبوذر وجاء المدينة، ثم استأذن عثمان في أن يخرج إلى الربذة باختياره، ولم ينفه عثمان إليها كما يقول المغرضون، لم يفجر أبوذر ولم يخاصم، واعتزل الناس.   2.  بينما نجد البعض إذا اختلف مع الحاكم في أمر من الأمور فجر في خصومته، وبالغ في عداوته، ليس لذلك الشخص، وإنما للدين والوطن.

3.  عندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجر كعب بن مالك وصاحبيه، انتهز ملك الروم ذلك، وأرسل إليهم أن هلم إلينا، فما كان من كعب رضي الله عنه إلا أن سجر كتابه في التنور، واعتبر ذلك من الفتن العظام.  3.  بينما نجد كثيراً من ساستنا إذا اختلف مع أحد الحكام ذهب مباشرة ووضع يده في يد الكفار، وأصبح عميلاً لهم مقابل أن يأويه الكفار، وأن يمدوه ويعينوه للقضاء على هذا العدو، وما علم المسكين أن موالاة الكفار ناقض من نواقض الإسلام.

4.  بينما عمر رضي الله عنه يحبس صبيغاً لسؤاله عن المتشابهات، نحو "الذاريات ذرواً"، ولم يسمح له بالخروج إلا بعد أن تاب توبة نصوحاً عن ذلك، وكتب إليه عامله بالعراق بذلك.  4.  نجد الزنادقة والسفهاء من الأدباء والمنافقين من الصحفيين يشككون في المسلمات، ويطعنون في الثوابت، وينالون من بعض الأنبياء، ولا يُسألون، دعك من أن يُحاسبوا على ذلك من قبل ولاة أمرنا وساستنا.

5.  بينما نجد علياً رضي الله عنه يحرق طائفة من الرافضة المخذولين بعد أن قتلهم، ليس لأنهم خرجوا عليه، بل لأنهم ألهوه، فعندما خرج من المسجد بعد صلاة من الصلوات قالوا له: أنت خالقنا ورازقنا (!!) فقال لهم: سبحان الله، إنما أنا بشر مثلكم، آكل وأشرب، وأهزم في الحرب؛ فاستتابهم ثلاثة أيام، فلم يرجعوا، فحفر الأخاديد، وأوقد فيها النار، وألقاهم فيها بعد أن قتلهم، وقال مرتجزاً:

لما رأيتُ الأمر أمراً منكراً

أجَّجتُ ناري ودعوت قنبراً  5.  نجد كثيراً من ساستنا هدانا الله وإياهم يمارسون بعض الممارسات الشركية، إن اعتقاداً أونفاقاً، ويبجلون المبتدعة، ويدنونهم، ويقربونهم، ويكثرون  من زيارتهم، بل ما من حاكم إلا واتخذ له شيخاً وتبناه واعتقد فيه، وهذا سلوك مشين من ساستنا وولاة أمرنا، إذ الواجب عليهم حماية جناب التوحيد، لا رعاية الشرك.

6.  الإمساك عن المال العام، والحرص عليه، فقد حج عمر رضي الله عنه وهو خليفة عشر حجات، وكان ينزل تحت ظل شجرة، وفي موسم من المواسم قال لغلامه: كم أنفقنا في هذا الموسم؟ فقال الغلام: 17 درهماً؛ فقال له: ويحك، لقد أنهكنا بيت مال المسلمين.

وجاء الشعراء للدخول على عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة، فلم يأذن لأحد منهم، وبعد لأي أذن لجرير، وعندما طلب منه أن يعطيه قاسمه مائتي درهم كانت له، وقال: لا أجد لك في بيت المال حقاً.   6.  بينما نجد ساستنا اليوم يخوضون في مال الله، ويتصرفون فيه بغير وجه حق.

7.     النصح للرعية والشفقة عليها.  7.  الغش للرعية والكذب عليها، وتخديرها بالأماني الكاذبة، والوعود الفارغة، غافلين عن قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة"2، وفي رواية: "ما من عبد يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرَّم الله عليه الجنة".3

8.  عدم التميز بين الرعية في شيء، فقد كان عمر رضي الله عنه لا يأكل إلا الخبز بالزيت كما كان يأكل الرعية، ويقول مخاطباً بطنه: "قرقري ما شئت أن تقرقري، والله لا تأكلين إلا كما يأكل الناس".  8.  بينما نجد الفارق الكبير بين مستوى معيشة القادة والمسؤولين وبين ما عليه العامة من رعيتهم.

9.  إحياء السنن وإماتتة البدع، كما فعل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، حتى لقب بمجدد القرن الأول.    9.  بينما نجد ساستنا المحدثين يميتون السنن ويحيون ويشجعون البدع، فكم من سنة أماتوها، وكم من بدعة أحيوها؟!

10. إكرام العلماء واستشارتهم، لأنهم هم أهل الحل والعقد، فقد كان القراء شيوخاً وشباباً أهل مشورة عمر، وكان مجلس شورى عمر بن عبد العزيز عندما كان عاملاً على المدينة يتكون من فقهاء المدينة السبعة وغيرهم، وعندما ولي الخلافة كان مستشاروه أمثال رجاء بن حيوة، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وأشباههم.     10. بينما نجد ساسة وقادة اليوم يقربون العلمانيين، ويقصون العلماء الربانيين، ويحيط بهم عدد من وزراء السوء من كل جانب، والمستشارون الخونة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، مخالفين بذلك ما صح عن عائشة رضي الله عنها ترفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إذا نسي ذكره، وإذا ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إذا نسي لم يذكره، وإذا ذكر لم يعنه".4

وقد صدق التابعي الجليل أبوحازم عندما قال: "إنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ".

11. رد المظالم إلى أهلها، ولو كانوا من أقرب الأقـربين، كمـا كان يفعل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.  11. التهاون والتساهل في رد الحقوق إلى أهلها، خاصة إن كانت له صلة بهم وبأعوانهم.

12. إقامة الحدود الشرعية، والغيرة على محارم الله، والعدل في القضية، والإنصاف بين الرعية، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، وحذراً من قوله: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه".   12. تعطيل الحدود، فكم من حد عطلوه، وكم من عرض انتهك، وكم من فرْج استبيح، وكم من حقوق ضُيعت، وأموال سُرقت، بسبب عدم تطبيقهم لشرع الله، بل بإنكاره، والهجوم عليه، ووصفه بالوحشية.

ã

هذا قليل من كثير، وغيض من فيض، ولو كان المجال يسمح لأتينا بالعديد من الفوارق، ولذكرنا الكثير من النماذج، التي تدل على الفرق الواسع والبون الشاسع بين السلف الصالح والخلف الناكب عن طريقهم، المعجب بالكفار، المتشبه بهم، السائر على آثارهم، المقلد لخطاهم.

أما آن لقادتنا أن يرعووا، ولساستنا أن يهتدوا ويقتدوا بهدي السلف الصالح! أما آن لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق! أما آن لهم أن يتذكروا الموت، ويحذروا الفوت، ويتداركوا ما يمكن تداركه؟! ألا يخشون سبة الدهر وخزي الدنيا والآخرة؟ ماذا يأملون وفيما يفكرون؟ أفأمنوا مكر الله؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، وإلام يتعلقون بالسلطة، وقد أضاعوا الدنيا والآخرة، وخسروا الباقية والفانية؟

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على البشير النذير، وعلى آله وصحابته والتابعين.

00000000000000000000

يا أيها المؤمنون احذروا كيد الكفار والمنافقين

لقد أمر الله الأمة في شخص رسولها صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين، وبالإغلاظ عليهم، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"، والجهاد يكون بالنفس، والمال، وباللسان، والبنان، والجنان، وهو واجب على قدر الطاقة.

وأمر كذلك بمدافعة الشر، ومقارعة الباطل، ومقاومة الفساد، فقال: "وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً"، لعلمه الأزلي أن الكفار والمنافقين لن يهدأ لهم بال ويقر لهم قرار إلا بالقضاء على الإسلام.

لهذا أوجب الله على هذه الأمة أن تحمي دينها، وأن تغار لمحارم ربها وخالقها، وأن تحافظ على مثلها وأخلاقها، فهو رأس مالها في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

الدين رأس المال فاستمسك به            فضياعه من أعظم الخسـران

أقول ذلك بمناسبة الاحتجاجات والتظاهرات الغاضبة التي قام بها بعض الغيورين على دينهم وأخلاقهم في الجزائر، ضد القرار الجائر، والتصرف الحاقد الماكر، الرامي لإلغاء تدريس مادة الشريعة الإسلامية في "شهادة البكلوريا" الثانوية العامة، بحجة أنها محدودة الطلب في سوق العمل!!

ومن قبلُ المحاولات اليائسة لتغيير قانون الأسرة الأحوال الشخصية التي باءت بالفشل بسبب المدافعة، والتي تصب كلها وتهدف لطمس الهوية الإسلامية، وتغريب المجتمع الجزائري المسلم، الذي ضحى لنيل استقلاله بمليون شهيد ولا يزال يضحي.

وما يدور في الجزائر في هذا الشأن ليس بغريب، ولا يبعد عنا وقد عشنا ذلك وشاهدناه في السودان، عندما تسلط الشيوعيون وأذنابهم في بداية عهد الرئيس نميري على توجيه الأمور، حيث أحرقوا العديد من الكتب الإسلامية، وغيروا المقررات، وقللوا حصص التربية الإسلامية، ولم يحسبوها في الشهادة السودانية، وحَجَّموا جامعة أم درمان الإسلامية بأن حولت إلى كلية.

ما يُحاك ويدبر في هذه الأيام للمسلمين في السودان والجزائر وغيرهما من البلاد لا يعلم حقيقته إلا الله والراسخون في العلم.

حاجة المسلم كل المسلم لتزكية النفس وتهذيب الأخلاق لا تدانيها حاجة، وما من عمل من الأعمال إلا ويحتاج إلى شيئين هما:

1. الكفاءة.

2. والأمانة.

فالكفء الخائن لا خير فيه، والأمين العاجز لا نفع منه.

ولهذا قال يوسف عليه السلام مزكياً لنفسه عندما أراد الله أن يخرج أهل مصر في ذلك الوقت من خطر مجاعة محققة: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ".

وكذلك قالت إحدى بنات شعيب لأبيها حاضة له على تأجير موسى عليهما السلام: "يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ".

ولذات السبب قال عمر لأحد عماله: "عليك بأهل القرآن، فإن لم يكن فيهم خير فمن دونهم أولى"، أوكما قال.

فما علل به الوزير الجزائري لقراره الجائر هذا باطل مردود، إذ معرفة المسلم لدينه من أوجب الواجبات، قبل حاجته إلى العمل وحاجة السوق إليه، قال تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ"، فقدَّم العلم على العمل، وقد خلق الله الإنسان لعبادته، ولا طريق لمعرفة هذه العبادة إلا بالعلم، والعلم بالتعلم.

هذا مع علمنا بضعف همم الشباب في تحصيل العلم الشرعي بصفة عامة في هذا العصر، وبكثرة الملهيات عنه، وبقصور المناهج وعدم إيفائها لحاجة المسلم، كيف إذا أضيف إلى ذلك سبب رابع وهو عدم تحفيز الطلاب على المواد الشرعية بعدم عدها ضمن المواد التي تحسب له في الشهادة العامة؟ بله وبإلغاء تدريس هذا القليل.

إذا كانت كل الشعوب الكافرة تهتم بثقافاتها، وتاريخها، ولغاتها، وآدابها، وتراثها، وهي لا شك دون ما عند المسلمين بكثير، فما بال المسلمين لا يحرصون على دينهم، وثقافتهم، وتاريخهم، ولغتهم، وآدابهم؟!

ليس لذلك سبب إلا إسناد الأمر إلى غير أهله، وجهل المسلمين بحقيقة ما هم فيه وعليه من النعم التي لا تحصى ولا تعد، فمن جهل شيئاً عاداه، وتشبههم وتقليدهم للكفار.

لهذا ينبغي للعلماء والدعاة أن يتيقظوا لهذه المؤامرات، وأن ينتبهوا لتلك الدسائس، وأن يتفطنوا لما يُحاك بالإسلام وأهله، فهم على ثغرة من ثغور الإسلام، وليس بعد الإيمان بالله ورسوله، وأداء الواجبات، والانتهاء من المحرمات شيء أفضل من مواجهة ومقاومة أعداء الدين من مبتدعة، وفسقة، ومستخفين، ومنافقين.

والله غالب على أمره، وحافظ لدينه، وله الحمد والمنة، والصلاة والسلام على محمد القائل: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من الإيمان"

000000000000000000000

ما هو من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات كفر

تمهيد

بم يكون الكفر عند أهل السنة والجماعة؟

بم يكون الكفر عند أهل السنة والجماعة؟

ما هو من الأقوال والأعمال والاعتقاد كفر

أقوال أهل العلم والفتوى في ذلك

ناقل الكفر وناشره

سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له توبة في الدنيا

الأدلة على قتل سابّ النبي صلى الله عليه وسلم وعدم استتابته

تمهيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته والتابعين.

وبعد..

قبل الشروع في المقصود أود التنبيه على الآتي:

أولاً: إن الإكفار ملك لله ورسوله، فلا يحل لأحد أن يكفر أحداً إلا من أكفره الله ورسوله.

ثانياً: مسألة الإكفار والتفسيق والتبديع من المسائل الخطرة التي زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام، وانحرفت بسببها أقوام، لهذا لا ينبغي أن يخوض فيها إلا الراسخون في العلم، ولا يتعاطاها كل أحد من طلاب العلم، دعك عن العوام.

ثالثاً: هناك فرق بين الإكفار العام وإكفار المعين، أي بين أن تقول: هذا القول أوالعمل أوالاعتقاد كفر، أومن قال كذا فقد كفر، وبين أن تقول: فلان من الناس كافر، إذ تكفير المعين له شروط وموانع.

رابعاً: لا يكفر المعين إلا بتوفر شرطين هما:

1.   البلوغ.

2.   العقل.

وبانتفاء موانع هي:

1.   الجهل.

2.   الخطأ.

3.   التأويل أوالشبهة.

4.   الإكراه.

فإذا تعاطى الشخص سبباً من أسباب الكفر القولية أوالعملية أوالاعتقادية، بفعل أوترك، جاداً كان أم هازلاً أم شاكاً، فأقيمت عليه الحجة، وبصِّر إن كان جاهلاً، وأزيلت عنه الشبهة، ثم أصر على ذلك، فقد كفر إن كان بالغاً، عاقلاً، طائعاً، مختاراً، غير مكره.

والتأويل منه ما هو فاسد وهذا لا عبرة به، ومنه ما هو راجح أومرجوح، وهذا لا يكفر أحد تعاطاه.

ولا تقبل دعوى الجهل لمسلم يعيش بين ظهراني المسلمين، ولكن لحديث عهد بالإسلام.

خامساً: يحكم في ذلك الفقهاء والقضاة الموثوق بدينهم وعلمهم الشرعي وعدالتهم، وينفذ الحكم ولاة الأمر وليس العامة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الحدود لا يقيمها إلا الإمام ونائبه).

سادساً: الإكفار منه ما هو بدعي، وهو الذي يكون بسبب اقتراف بعض الذنوب غير المكفِّرة، نحو تعاطي الخمر، والتعامل بالربا، وممارسة الزنا لمن يقر بحرمتها، أما من استحلها ولو لم يتعاطاها فقد كفر، أوبسبب الابتداع، والتعصب، والحسد، ونحو ذلك؛ ومنه ما هو شرعي، كالذبح لغير الله، والسجود لصنم، وإلقاء المصحف في دورة مياه مثلاً، ونحو ذلك.

سابعاً: من المسائل التي يجب على المسلم تعلمها نواقض الإسلام، وهي الأمور التي تبطل الإسلام وتفسده وتخرج المسلم من حظيرة الإيمان إلى دائرة الكفر والعياذ بالله.

ثامناً: النطق بالشهادتين والدخول في الإسلام ليس عاصماً ولا مانعاً من الكفر بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مسلماً".

فقد يكون المرء مصلياً صائماً وهو متعاطي لسبب من أسباب الكفر المحبطة لأعماله الصالحة وهو لا يشعر، عقدياً كان هذا السبب، أوعملياً، أوقولياً: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".

ولا تغتر أخي المسلم بما يقوله أهل الأهواء المرجئة: "لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة"، حيث اختزلوا كلمة التوحيد التي بها قامت السموات والأرض في التصديق بالقلب أوالنطق باللسان ولو لم يصاحب ذلك عمل بالأركان وكف عن المحرمات والآثام، أوبقول مشايخهم من الجهمية الطغام الذين قصروا الإيمان على المعرفة القلبية، ففي شرعهم فإن إبليس وفرعون مؤمنان كاملا الإيمان لمعرفتهم برب الأرباب، حيث حكى الله عن إبليس لعنه الله: "قال رب فأنظرني إلى يوم يُبعثون"، وقال: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين" ، وقال عن فرعون وملئه أبعدهم الله من رحمته: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً".

بعد هذه التنبيهات والتوطئات التي لابد منها ندلف إلى ما عزمنا عليه، فنقول وبالله التوفيق:

ã

بم يكون الكفر عند أهل السنة والجماعة؟

الكفر عند أهل السنة والجماعة، نقاوة المسلمين، الفرقة الناجية المنصورة، يكون بالقول والعمل والاعتقاد، وبالفعل والترك، وبالجد والهزل والشك، فقد يكفر المسلم بالعمل كما يكفر بالاعتقاد، وقد يكفر بالفعل كما يكفر بالترك، وقد يكفر وهو هازل مازح كما يكفر وهو جاد حازم، وقد يكفر وهو متيقن أوشاك: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"، وأن الكفر العملي ليس قاصراً على سب الله ورسوله ودينه.

فكما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، فكذلك الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد، فقد يكفر المسلم بقول أوعمل وإن كان يعتقد بقلبه خلاف ما نطق به لسانه أوكسبته يداه، إلا المكره، فقد استثناه الله عز وجل: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان".

لقد تعجبت كثيراً كما تعجب غيري من زعم البعض هدانا الله وإياهم سبل الرشاد أن الحاكم الذي يشرِّع دستوراً ويسن قانوناً على غرار دساتير وقوانين الكفار ويحكم به وينبذ شرع الله وراءه ظهرياً لا يكفر مثلاً إلا إذا اعتقد ذلك بقلبه؛ وكان تعجب الإمام ابن الوزير اليماني رحمه الله من إحدى فرق المعتزلة وهم "البهاشمة" أشد حين لم يكفِّروا النصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، مع نص القرآن بتكفيرهم، حيث قال: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، إلا إذا اعتقدوا ذلك بقلوبهم، وأعجب من هذا وذاك نسبة هذا المعتقد لأهل السنة والجماعة.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كما نشر في مجلة الفرقان الكويتية العدد "94": (الذبح لغير الله، والسجود لغير الله، كفر عملي مخرج من الملة، وهكذا لو صلى لغير الله فإنه يكفر كفراً عملياً أكبر والعياذ بالله وهكذا إذا سب الدين، أوسب الرسول، أواستهزأ بالله ورسوله، فإن ذلك كفر عملي أكبر عند جميع أهل السنة والجماعة).

وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية في رد على سؤال: اعتبار تارك الصلاة من غير جحود كافراً كفراً عملياً، والكفر العملي لا يخرج صاحبه من الملة إلا ما استثنوه من سب الله تعالى وما شابهه، فهل تارك الصلاة مستثنى؟ وما وجه الاستثناء؟

فأجابت: (ليس كل كفر عملي لا يخرج من ملة الإسلام، بل بعضه يخرج من ملة الإسلام).

ã

ما هو من الأقوال والأعمال والاعتقاد كفر

عندما يُطلق الكفر يراد به الكفر الأكبر المخرج من الملة، الكفر الأكبر مساوٍ للشرك الأكبر وللنفاق الأكبر وللردة.

نماذج الكفر القولية والعملية والاعتقادية، الفعلية والتركية، لا تحصى كثرة.

فإجمالاً: يكون الكفر إما بإثبات ما نفاه الله ورسوله أوبنفي ما أثبتاه، وبعبارة أخرى بإنكار كل ما هو معلوم من الدين ضرورة.

وتفصيلاً: من أمثلة الكفر التي توصل إليها أهل العلم بالاستقراء، والتي تعرف بنواقض الإسلام، ما يأتي:

1.  الدعاء والاستغاثة بغير الله عز وجل.

2. اتخاذ الوسائط بين العبد وبين ربه، نحو قول أحدهم: اللهم إني أسألك بجاه فلان؛ قال تعالى موضحاً سبب شرك وكفر الأوائل: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى".

3.  موالاة الكفار والمشركين.

4. التحاكم لغير شرع الله، فالحاكم - وكذلك القاضي - الذي يحكم بغير ما أنزل الله يكفر، إلا في حالين، هما:

(1)    الخطأ في الاجتهاد في الوصول إلى حكم الله عز وجل.

(2)    الحياد عنه لقرابة أورشوة في قضية معينة، مع يقينه بأنه الحق.

ففي هاتين الحالتين يكون كفره كفراً أصغر، أما ما سواهما فكفره أكبر.

يخطئ خطأ فاحشاً من ينزل قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه"، على كثير من حكم المسلمين بعد سقوط الدولة العثمانية، وجثوم الاستعمار على صدر الأمة، وإقصاء شرع الله إلا في دائرة الأحوال الشخصية، حيث استبدل الذي هو أدنى الدساتير والقوانين الوضعية بالذي هو خير، شرع الله عز وجل.

5. تعلم أنواع من السحر، نحو ما يعرف بالصرف والعطف، أوالحل والعقد، وما شابهه، والإيمان به، وغشيان محترفيه، وتصديقهم فيما يقولون.

6. من لم يكفِّر الكفار، نحو اليهود، والنصارى، والشيوعيين، والجمهوريين، أوشك في كفرهم، أوصحَّح مذهبهم فقد كفر، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

7. الإعراض الكلي أوالجزئي عن دين الله عز وجل.

8. اعتقاد أن بعض الناس يمكنهم الاستغناء عن شرع محمد صلى الله عليه وسلم، أوتسقط عنهم بعض التكاليف الشرعية.

9.  الاستهزاء والسخرية بالله، وآياته، ورسله، وملائكته، تصريحاً أوتلميحاً.

10.  استحلال ما حرَّم الله، أوتحريم ما أحل الله.

11.  إباحة الردة وإنكار حدها.

12.  الدعوة إلى مساواة الأديان السماوية بعد تحريفها وتبديلها ونسخها بشريعة ولد عدنان.

13. سب الله، والرسل، والملائكة، والدين، تصريحاً أوتلميحاً.

14.  الانتساب للأحزاب الكافرة والعلمانية.

15.    تكفير أوتضليل جماعة الصحابة.

16.    التجسس لصالح الكفار، والقتال تحت رايتهم.

17.    رمي عائشة رضي الله عنها بما برَّأها الله منه.

18.    من ادعى النبوة أوأنه يوحى إليه، ومن صدقه.

19.    اعتقاد أن أحد المخلوقين ينفع ويضر أويعلم الغيب.

ã

أقوال أهل العلم والفتوى في ذلك

سئل الشافعي المتوفى 204هـ، رحمه الله عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، فقال: (هو كافر؛ واستدل بقوله تعالى: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم").

وقال الإمام إسحاق بن إبراهيم المتوفى 238هـ: (ومما أجمعوا على تكفيره، وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبياً أوأعان على قتله، وإن كان مقراً ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً، أورد عليه قوله من غير تقية ولا خوف أي من غير إكراه.

وقال: وأجمع المسلمون على أن من سب الله، أوسب رسوله، أودفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أوقتل نبياً من أنبياء الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله).

وقال الحميدي: (أخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، حتى الموت ما لم يكن جاحداً بقلبه أنه مؤمن (!)، فقلت: هذا الكفر بالله الصَّراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وفعل المسلمين.

وقال حنبل: قال أبوعبد الله أحمد بن حنبل: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء).

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سألت أبي عن رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك؛ قال أبي: هذا مرتد عن الإسلام؛ قلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: نعم، تضرب عنقه).

وقال فقيه المغرب محمد بن سُحنون المالكي: (أجمع العلماء أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر).

وقال أبو بكر بن المنذر: أجمع عوام أي عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يُقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي.

قال القاضي عياض: وهو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا تقبل توبته عند هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وأهل الكوفة، والأوزاعي.

إلى أن قال: ولا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة.

وقال القاضي عياض تحت فصْل: "الحكم الشرعي فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أوانتقصه": (اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم، أوعابه، أوألحق به نقصاً في نفسه، أونسبه، أودينه، أوخصلة من خصاله، أوعرَّض به، أوشبهه بشيء على طريق السب له، أوالإزراء عليه، أوالتصغير لشأنه، أوالغض منه والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب، يُقتل كما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري  فيه تصريحاً كان أوتلويحاً.

حكى ابن مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب: (من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل ولم يستتب).

وقال ابن القاسم في "العتبية": (من سبه، أوشتمه، أوعابه، أوتنقصه، فإنه يُقتل، وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق، وقد فرض الله تعالى توقيره وبره).

أفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية، فقال لهم: تريدون تعرفون صفته؟ هي في صفة هذا المارّ في خَلقه ولحيته؛ قال: ولا تقبل توبته، وقد كذب لعنه الله، وليس يخرج من قلب سليم الإيمان).

وقال أحمد بن أبي سليمان صاحب سُحنون: (من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسود يُقتل).

وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله المتوفى 324هـ: (إرادة الكفر كفر، وبناء كنيسة يُكفر فيها بالله، لأنه إرادة الكفر).

وقال أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى 370هـ: (قال تعالى: "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب" إلى قوله: "إن نعفُ"، فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه، لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله عن كفرهم).

وقال ابن شاس المالكي: (وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، أوبلفظ يقتضيه، أوبفعل يتضمنه).

وقال النووي في "روضة الطالبين" معرفاً الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل.

والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أوللشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها).

وقال في شرح صحيح مسلم عن حكم السحر: (ومنه ما يكون كفراً، ومنه ما لا يكون كفراً بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أوفعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر أي في تعلمه وتعليمه كفَّر).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن من سب الله أوسب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان السابّ يعتقد أن ذلك محرم، أوكان مستحلاً له، أوكان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل).

وقال تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي: (التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أوالوحدانية، أوالرسالة، أوقول أوفعل حكم الشرع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً).

وقال الشيخ خليل بن إسحاق المالكي صاحب المختصر: (الردة كفر المسلم بصريح أولفظ يقتضيه، أوفعل يتضمنه، كإلقاء مصحف بقذر، وشد زنار وسحر).

  وقال الإمام الزركشي الشافعي: (فمن تكلم بكلمة الكفر هازلاً ولم يقصد الكفر كفر).

وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (فقد يترك دينه، ويفارق الجماعة وهو مقر بالشهادتين ويدعي الإسلام، كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام، أوسب اللهَ ورسولَه، أوكفر ببعض الملائكة، أوالنبيين، أوالكتب المذكورة في القرآن، مع العلم بذلك).

وقال محمد بن شهاب البزار الحنفي: (ومن لقن إنساناً كلمة الكفر ليتكلم بها كفر، وإن كان على وجه اللعب والضحك).

ونقل أبو بكر الفارسي الشافعي في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء .

  وقال ابن نُجيم الحنفي في "البحر الرائق": (والحاصل أن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أولاعباً كفر عند الكل، ولا اعتبار باعتقاده، كما صرح به "قاضيخان" في فتاواه، ومن تكلم بها مخطئاً أومكرهاً لا يكفر عند الكل، ومن تكلم بها عالماً عامداً كفر عند الكل).

  وقال مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي: (ويحصل الكفر بأحد أربعة أمور:

1.   بالقول: كسب الله ورسوله، أوادعاء النبوة، أوالشرك له تعالى.

2.   وبالفعل: كالسجود للصنم، وكإلقاء المصحف في قاذورة.

3. وبالاعتقاد: كاعتقاده الشريك له تعالى، أوأن الزنا والخمر حلال، أوأن الخبز حرام، ونحو ذلك، ومما أجمع عليه إجماعاً قطعياً.

4.   وبالشك في شيء من ذلك).

وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة "نواقض الإسلام": (السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول، أوثوابه، أوعقابه كفر، والدليل قوله تعالى: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".

السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أورضي به كفر، والدليل: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر".

الثامن: مظاهرة  المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين"، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره).

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى 1233هـ في "الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك": (... قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره..."، فحكم تعالى حكماً لا يبدَّل أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان له عذر: خوف على نفس أومال أوأهل أم لا، وسواء كفره بباطنه أم بظاهره دون باطنه، وسواء كفر بفعاله ومقاله أم بأحدهما دون الآخر، وسواء كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا... فهو كافر على كل حال إلا المكره).

ã

ناقل الكفر وناشره

كما أن الكفر يكون بإنشاء الكلام أوتدوينه، يكون كذلك بنقله، ونشره، والدلالة عليه، وتلقينه.

ناقل الكفر له أربع حالات كما ذكرها القاضي عياض في "الشفا"، ملخصها:

الأولى: إن كان نقلها بغرض التعريف بقائلها والتحذير منه، والإنكار عليه، أوحكاه في كتاب أومجلس على طريق الرد والنقض له، فهذا تعتريه الأحكام الأربعة: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم، حسب حال المنقول إليهم:

  فإن كان قائل ذلك له أتباع يقلدونه ويتبعونه فيما يقول فيجب النقل للرد عليه في هذه الحال، ويكون ناقل الكفر ليس بكافر، وهذا من فروض الكفاية، إذا قام به البعضُ سقط عن الباقين.

أوحكاه شاهداً.

أوحكى ذلك لمن يمكنه الرد عليه أومناظرته، فهذا يُحمد ويُشكر على ذلك.

الثاني: وأما حكايتها على غير ذلك فإن كان الحاكي لها على غير قصد أومعرفة بخطورتها، وعلى غير عادته، ولم يظهر منه قبل ذلك شيء يشبه هذا، زجر وعُزر تعزيراً شديداً وأغلظ عليه.

وقد حكي أن رجلاً سأل مالكاً عمن يقول: القرآن مخلوق؛ فقال مالك: كافر فاقتلوه؛ فقال: إنما حكيته عن غيري؛ فقال مالك: إنما سمعناه عنك!

وهذا من مالك رحمه الله على سبيل الزجر والتغليظ، بدليل أنه لم يسع في تنفيذ قتله.

الثالث: أما إن كان الناقل عُرف بتجرئه وتطاوله على أمثال ذلك فهذا يكفر.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ شطر بيت مما هُجي به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر.

وقد ذكر بعض من ألف في الإجماع إجماعَ المسلمين على تحريم رواية ما هُجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وكتابته، وقراءته، وتركه متى وجد دون محو.

الرابع: أن يكون الناقل مكرهاً، فهذا لا إثم عليه.

ã

سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له توبة في الدنيا

لا يملك أحد أن يقبل توبة سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم ومنتقصه تلميحاً كان ذلك أم تصريحاً في الدنيا، فلابد أن يُقتل زجراً له ولأمثاله، فإن تاب وصدق في توبته فإن ذلك ينفعه في الآخرة، مسلماً كان أم كافراً ذمياً، هذا ما عليه عامة أهل العلم.

قال القاضي عياض: (قال عبد الله بن الحكم المالكي: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أوكافر قتل ولم يستتب"، وحكى الطبري مثله عن أشهب عن مالك).

وعن عثمان بن كنانة المالكي المتوفى 186هـ في كتابه "المبسوط": (من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتِل أوصُلِب حياً ولم يُستتب، والإمام مخير في صلبه حياً أوقتله).

وقال أصبغ: (يقتل على كل حال، أسَرَّ ذلك أوأظهره، ولا يُستتاب لأن توبته لا تعرف).

وفي كتاب محمد بن سعيد المالكي المتوفى 198هـ: (أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: من سب النبي صلى الله عليه وسلم أوغيره من النبيين من مسلم أوكافر يقتل ولا يُستتاب).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تحت عنوان: "أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أوكافر فإنه يجب قتله، وحكي الإجمـاع على ذلك": (هذا مذهب عليه عـامة أهل العلم، قـال ابن المنذر: على أن حد من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل، وممن قاله: مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي.

وقال: وحكي عن النعمان أبي حنيفة- لا يُقتل أي الكافر يعني الذي عليه من الشرك أعظم).

ثم نقل أقوال الأئمة، فقال:

قال أحمد في رواية حنبل: كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه مسلماً كان أوكافراً فعليه القتل، وأرى أن يُقتل ولا يستتاب.

وقال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف: من سب النبي قتل ولم يستتب، قال ابن القاسم: من سبه أوشتمه أوعابه أوتنقصه فإنه يقتل كالزنديق.

أما مذهب الشافعي فلهم في ساب النبي صلى الله عليه وسلم وجهان:

أحدهما: هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل.

والثاني: أن حد من سبه القتل، فكما لا يسقط حد القاذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة، قالوا: ذكر ذلك أبو بكر الفارسي المتوفى 350هـ، وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال).

ã

الأدلة على قتل سابّ النبي صلى الله عليه وسلم وعدم استتابته

ومن الأدلة على وجوب قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم:

من القرآن

قوله تعالى: "إن الذين يؤذون اللهَ ورسولَه لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً".

قال القاضي عياض: (فمن القرآن لعنة الله تعالى لمؤذيه في الدنيا والآخرة وقرانه أذاه بأذاه، ولا خلاف في قتل من سب الله، وأن اللعن يستوجبه من هو كافر، وحكم الكافر القتل) .

وقوله: "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".

من السنة

وفي الصحيـح: أمـر النبي صلى الله عليه وسلم بقتـل كعب بن الأشـرف، وقوله: "من لكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله"، ووجَّه إليه من قتله غيلة من غير دعوة.

  وقُتِل أبو رافع، قال البراء: كان يؤذي رسول الله ويعين عليه.

  وفي فتح مكة قُتِل ابن أخطل وجاريتيه اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه وسلم.

وكان رجل يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من يكفيني عدوي؟ فقال خالد: أنا؛ فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله.

  كذلك قتل جماعة كانوا يؤذونه من الكفار ويسبونه، منهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيْط.

وروى البزار عن ابن عباس أن عقبة نادى: يا معشر قريش، مالي أقتل من بينكم صبراً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بكفرك وافترائك على رسول الله.

وروى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سبه رجل، فقال: من يكفيني عدوي؟ فقال الزبير: أنا؛ فبارزه، فقتله الزبير.

  وروي أن امرأة كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من يكفيني عدوي؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها.

هذه الآثار بعضها لا يخلو من ضعف في سندها.

الإجماع

من أقوى الأدلة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم استتابته إجماع الأمة العملي من لدن الصحابة ومن بعدهم الذي نقلناه، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

ورحم الله مالكاً عندما سأله الرشيد عن رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده؟ فغضب مالك، وقال: يا أمير المؤمنين، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها؟ من شتم الأنبياء قتل، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جُلد.

ولهذا أفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي وصلبه بما شهد عليه من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم، وخَتْن حيدرة، وزعمه أن زهده لم يكن قصداً، ولو قدر على الطيبات أكلها.

وأفتى فقهاء القيروان وأصحاب سُحنون بقتل إبراهيم الفزاري، وكان شاعراً متفنناً في كثير من العلوم، وكان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس - قاضي قرطبة - بن طالب للمناظرة، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه وسلم، فأحضر له القاضي يحيى بن عمرو غيره من الفقهاء وأمر بقتله وصلبه، فطعن بالسكين وصلب منكساً، ثم أنزل وأحرق بالنار.

ã

اللهم إنا نسألك حبك، وحب رسولك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين

-----------------------

النحس في الكفر، والشرك، والمعاصي، وليس في الأيام والشهور

كان صلى الله عليه وسلم يحب التفاؤل ويكره التشاؤم.

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل؛ قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة".

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر" متفق عليه، وزاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول".

على الرغم من ذلك نجد بعض المسلمين يتشاءمون ببعض الشهور والأيام، كشهر شوال وصفر، ويوم الأربعاء، سيما الأخيرة من شهر صفر، حيث لا يتزوجون فيه، ولا يسافرون، ولا يفرعون عملاً فيه، خاصة في آخر أربعاء منه.

مستدلين بما جاء في تفسير قوله تعالى: "في يوم نحس مستمر" عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان آخر أربعاء في الشهر، أفنى صغيرهم وكبيرهم.

ولهذا شاع بين الناس: أربعاء وآخر شهر.

فالشؤم هنا قاصر على أولئك الكفار، حيث استمر فيه عذابهم، وتواصل بهم حتى أهلكهم، ودخلوا فيه نار جهنم، هذا فيما يتعلق بعاد، وقد أهلك الله غيرهم من الأمم الكافرة في أيام أخَر، كما أن الله نجى رسله وأتباعهم في نفس هذه الايام، فكانت خيراً عليهم ونحساً على الكفار.

يكذب شؤم يوم الأربعاء ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثاً يوم الإثنين ويوم الثلاثاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرفت السرور في وجهه، قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها، فأعرف الإجابة".

قال القرطبي: (وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر، ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار، وحالة السفر والمرض، وعند نزول المرض، والصف في سبيل الله).

قال القرطبي رحمه الله: (فإن قيل فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.. ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحسات على الكفار من قوم عاد، لا على نبيهم والمؤمنين به منهم).

فالتطير والتشاؤم ينافي التوكل والاعتماد على الله وأنه الفاعل لما يشاء، وأن جميع الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوا عبداً ما نفعوه، ولو اجتمعوا على أن يضروه ما ضروه، فقد جفت الأقلام ورُفعت الصحف: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون".

اعلم أخي الكريم أن النحس والشؤم في:

      دعاء غير الله، والاستغاثة بالأموات، وإشراك أحد مع رب الأرض والسموات.

      وفي التقصير في الواجبات وانتهاك المحرمات.

      وفي دفع السنن وردها والاشتغال بالبدع المحدثات.

      في التهاون في أداء الصلوات المكتوبات، والتقصير في نوافل القربات.

      في طول الأمل، والغفلة، وعدم الإكثار من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات.

      الاشتغال بسفاسف الأمور والمحرمات، نحو الاشتغال بالملاهي والأغاني.

واعلم أن يوم غد الأربعاء 27 من صفر يوم كسائر أيام الله، فهو يوم سرور وحبور إن قطعته في طاعة الله ومرضاته، ويوم نحس عليك إن تشاءمت، وتطيرت به، وعمرته بالشرك، والمعاصي، والمنهيات، وتعطلت فيه عن أمر دينك ودنياك.

والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أوأراد شكوراً، وصلى الله على محمد ماحي الشرك ومحطم الوثنيات، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم.

0000000000000000000

بيان من الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة  حول قرار مجلس الأمن الجائر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وبعد..

إن القرار الذي صدر من مجلس الأمن رقم 1593 بتاريخ 22 من صفر 1426ﻫ - 1/4/2005م، والقاضي بتسليم الحكومة السودانية لعدد من السودانين من مسؤولين وغيرهم لتتم محاكمتهم خارج السودان في محكمة جنائية، بوصفهم مجرمي حرب في فتنة دارفور، أحد القرارات الجائرة الظالمة الكثيرة التي درج مجلس الأمن على إصدارها في السنوات الأخيرة ضد المسلمين دولاً وأفراداً، وذلك نتيجة للهيمنة القطبية الأحادية على المنظمات الدولية، ولانفراد الأمريكان وأذيالهم وسيادتهم على العالم.

ويرجع ذلك إلى الخضوع والاستكانة التي لمسها الكفار من حكام المسلمين إبان غزوهم لأفغانستان والعراق، وحربهم الصليبية الشاملة ضد الإسلام في هذا العصر، وتنفيذ كل ما يطلب منهم: "ومن يهن الله فما له من مكرم"، لا فرق في ذلك بين القرارات السيادية وغيرها، وذلك لعدم نصرهم لدين الله عز وجل، وعدم تغييرهم لما في أنفسهم: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

لم يكن هذا القرار مفاجئاً لذوي العقول والبصائر، تصديقاً لقوله الحق: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".

لقد كتب الله العزة والكرامة والعلو للمسلمين حتى ساعة الهزيمة، حيث قال بعد أحد: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"، والذل والصغار على الكافرين، فقال عز من قال: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، وقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

وقال صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه".

ليس هناك ذل ولا صغار أكبر من أن يتهم المسلم بغير وجه حق، ومن دون بينة، وأن يحاكم خارج بلده بواسطة قضاة كفار، إذ من شروط صحة التقاضي والفصل بين المسلمين أن يكون القاضي مسلماً عدلاً، لأن الإسلام شرط للعدالة، فالكافر والفاسق لا يليان القضاء في الإسلام، ولا تقبل لهما شهادة على مسلم.

قال الإمام الماوردي رحمه الله: (فلا يجوز أن يكون الكافر قاضياً على المسلمين، ولا على أهل دينه.

وجوَّز أبوحنيفة تقليده على أهل دينه، وأنفذ أحكامه..

ودليلنا: "حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، ونفوذ الأحكام ينفي الصغار، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"، فمنع هذا الخبر من أن يكون في الإسلام ولاية لغير مسلم).

قوله تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" وعد من الله عز وجل ومن أصدق من الله قيلاً؟ ومن أصدق من الله حديثاً؟! لعلو المؤمنين على الكافرين في الدنيا والآخرة إن هم نصروا الله وأعزوا دينه.

صحَّ عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن هذا الوعد في الآخرة، ولا مانع أن يشمل هذا الوعد الدنيا مع الآخرة.

قال القرطبي حاكياً عن أبي بكر بن العربي: (إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً منه إلا أن يتواصوا بالباطل، ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو من قبلهم، كما قال تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير".

فالله عز وجل لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً، فإن وجد فبخلاف الشرع).

هذا القرار منافٍ للحق والعدل، وجائر شرعاً وعرفاً، وذلك للآتي:

أولاً: تسليم مسلم لكافر محارب، ولعدو حاقد شرس من الذنوب العظيمة والجرائم الكبيرة، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر لا حاكماً ولا جاسوساً أن يفدي نظامه أونفسه بواحد من إخوانه المسلمين مهما كانت النتيجة، وإنا نخال أن كل الذي أصابنا بما كسبت أيدينا وبخذلاننا لبعض إخواننا المستضعفين.

يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يخذلُ امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله".

قال المناوي: (فخذلان المؤمن حرام شديد التحريم دنيوياً كان مثل أن يقدر على دفع عدو يريد البطش به فلا يدفعه، أوأخروياً كأن يقدر على نصحه من غيه بنحو وعظ فيترك).

ثانياً: الشهود منهم كفار ومنافقون وعملاء، فلا تقبل شهادتهم على مسلم، والقضاة كفار فلا يحل لمسلم أن يترافع لديهم أويُحاكم عندهم، ولو كانوا مسلمين عينهم الكفار لما حل محاكمة مسلم عندهم في أرجح قولي العلماء.

ثالثاً: هذا القرار فيه إذلال لجميع المسلمين، وفي تنفيذه والخضوع له عار لا يدانيه عار.

رابعاً: الخصم والعدو هو الحكم، فمجلس الأمن هو الخصم، والحكم محكمة جنائية تابعة لهيئة الأمم التي أضحت أداة في يد صانعي القرار من أعداء الإسلام.

خامساً: هذا القرار فُصِّل تفصيلاً على محاكمة المسلمين، شريطة أن لا يشمل أحداً من الرعايا الأمريكيين، وهذا أصدق نموذج لسياسة الغاب التي انتهجتها أمريكا وأذنابها في هذا العصر.

سادساً: ما أكثر مجرمي الحرب والدمار في هذا العصر، فإن لم يكن شارون، وبوش، وبلير، وشيراك مجرمين بعدما أحدثوه في المسلمين في فلسطين، والجزائر، وأفغانستان، والعراق، فليس هناك مجرم حرب، ولكن صدق القائل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة         لكن عين السخط تبدي المساويا

وأخيراً نذكر إخواننا المسلمين أنه لا ينبغي لأحد في قلبه ذرة من إيمان أن يُسر لهذا القرار دعك من أن يدفع لتنفيذه أويؤيده، أويشمت لذلك، فإن فعل فقد تناوله الوعيد السابق، وهذا أضعف درجات تولي المسلم لأخيه المسلم والبراءة من الكفار.

والله نسأل أن يرد كيد الكفار والمنافقين في نحورهم، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، ويردهم إليه رداً جميلاً، "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أوأخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" ، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا القائل: قال الله عز وجل: "العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته".

والسلام عليكم ورحمة الله.

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة

26/2/1426ﻫ

000000000000000000000000

حكم الانتماء والانتساب إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، والصلاة والسلام على محمد خير الورى.

وبعد..

لقد أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، ونهى وحذر من التعاون على الإثم والعدوان، كذلك نهى الشارع الحكيم المسلمَ أن يتولى الكفار والمنافقين وأعداء الملة والدين، وأن يكون كل ولائه لإخوانه المسلمين بقدر إيمانهم وتقواهم، كما أمر الشارع كذلك أتباعه أن يُكَثروا سواد المسلمين، وأن يجتنبوا ويحذروا تكثير سواد الكافرين والمنافقين ومن والاهم.

لهذا فإنه لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر الانتساب أوالانتماء والانخراط في الأحزاب الكافرة، نصرانية كانت، أم شيوعية، أم غير دينية، لأي غرض من الأغراض، دنيوي كان أم استراتيجي، في الجامعات والمعاهد العليا، والمدارس، أوفي النقابات والاتحادات، أوغيرها من الأحزاب الجماهيرية، تحت أي مسمى من المسميات.

ومن فعل ذلك فقد ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، ولا تقبل له صلاة ولا قربة ولا صيام، إن لم يراجع نفسه ويتخلى عن ذلك بتوبة نصوح، وذلك للأدلة الآتية:

1. قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، ومن التعاون البيِّن على الإثم والعدوان الانتساب والانتماء إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية.

2. قوله تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فمن انتسب إلى حزب كافر فقد تولى الكفار والمنافقين، وناصب العداء الإسلام والمسلمين.

3. الأحزاب الكافرة لم تقم إلا لإقصاء الإسلام عن الساحة، والمسلم مطالب أن يجتهد في تمكين الإسلام في الأرض.

4. لما في ذلك من خذلان المسلمين ومناصرة الكافرين والمنافقين.

وفي الختام أذكر إخواني المسلمين وأخواتي وأحذرهم من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأن لا يؤثروا العاجلة الفانية على الباقية، وأن لا يبيعوا دينهم بعرض من أعراض الدنيا، قلَّ ذلك العرض أم كثر.

وأن يعلموا كذلك أن الله شرفهم بالانتساب إلى ملة خير الأنام، خاتم الرسل الكرام، الذي نسخ بشريعته كل الشرائع، وأبطل كل الأديان: "فمن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".

وأن الله غني عن العالمين، فلا تنفعه طاعة الطائعين، ولا يضره كفر وعصيان الكافرين والعاصين، وأن الله ناصر لدينه، ومتم لأمره ولو كره الكافرون.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة

25/2/1426ﻫ

-------------------

بمناسبة عيد الأم

على الرغم من كثرة الأعياد التي ابتدعها واخترعها الكفار، بحيث كادت تغطي كل أيام العام، نحو عيد الميلاد، وشم النسيم، وعيد الخميس، والنيروز، والمهرجان، وعيد الأم، والطفل، والعمل، والحب، والشجرة، ونحوها، كعيد الاستقلال، واليوم الوطني، فإن حياة الكفار تزداد تعاسة وشقاء يوماً بعد يوم، ولا أدل على ذلك من تفشي ظاهرة الانتحار والمخدرات بين أولئك القوم.

بينما نجد أن للمسلمين ثلاثة أيام فقط في الدنيا والآخرةد، عيد أسبوعي وهو يوم الجمعة، وعيدان سنويان هما الفطر والأضحى، إلا أن ما يحدث فيها من البر والإحسان، وصلة الأرحام، وإدخال السرور علىالأهل، والأقارب، والجيران، لا يدانيه شيء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

فالحمد لله الذي جعل أيام الطائعين كلها أعياداً وأفراحاً، وأعياد الكافرين وبالاً وخبالاً عليهم وعلى من قلدهم فيها.

لقد نهى الشارع الكريم المسلمين من التشبه بالكفار، القدماء والمحدثين، في المظهر والمخبر، ولهذا عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان لهم يومان يلعبون فيهما، قال: "إن الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما، يوم الفطر والأضحى".

لعلل:

1.  التشبه بهم: "فمن تشبه بقوم فهو منهم" الحديث.

2. الابتداع: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، فما من عيد من أعياد الكفار أوالأعياد المحدثة الأخرى إلا وتتحقق فيه هاتان العلتان.

3.  الأعياد شعار للأمة، ولكل أمة شعاراتها الخاصة بها والتي تحكي أمجادها.

ينبغي لولاة الأمور والمسؤولين أن يحولوا دون رعاياهم والتشبه بالكفار في هذه الأيام وغيرها، وعليهم أن لا يستجيبوا لضغوط النساء والشباب،وليعلموا أنهم هم المسؤولون عنهم.

ولهذا حذر الإسلام من طاعة النساء ونبه على خطورتها، فقال: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم.. إنما أموالكم وأولادكم فتنة".

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركتُ فتنة أضر على الرجال من النساء، وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء".

وقال لأمهات المؤمنين: "إنكن صويحبات يوسف".

وكان كثيراً ما يردد بيت الأعشى: "وهن شر غالب لمن غلب".

وقال: "ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن".

يتحايل البعض في الاحتفال بتلك الأعياد، فالبعض لا يحتفل في نفس اليوم الذي يحتفل فيه الكفار، وإنما يؤخر أياماً عن ذلك، لظنه أن هذا يرفع عنه الحرج، وليس لهذا مثلاً إلا صنع أصحاب السبت من اليهود.

والبعض الآخر يقول: أنا لا أريد التشبه بالكفار، وإنما أحب أمي أوطفلي، ولهذا أحتفل به.

وكل هذا وغيره من الباطل البين، ومن الحيل الخبيثة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم، كيوم الخميس، والميلاد، ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع أوالشهر الآخر، وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم، ولولاه لم يقتضوا ذلك، فهذا أيضاً من مقتضيات المشابهة).

قلت: العجب كل العجب من الكفار الذين بلغوا الدرجة القصوى من عقوق الوالدين، والنهاية في القسوة، وقطع صلة الأرحام، حتى أن آباءهم وأبناءهم استعاضوا عنهم بالكلاب والقطط، ومع ذلك يحتفلون بعيد الأم، تباً لهم ولمن تشبه بهم.

فالحذر الحذر أخي المسلم أن تحدثك نفسك بتقليد الكفار، والتشبه بهم في هذه الأعياد وغيرها، فقد شرع لك دينك سبل البر والإحسان بالأم وبغيرها، ولم يحوجك أن تزيد على ذلك.

فمن لم يحفزه ويدفعه إلى بر والديه، والإحسان إليهما، وصلة أقاربه، نحو قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً"، حيث قرن برهما بعبادته وعدم الإشراك به، ونحو قول رسوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله سائل: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: "أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك"، وزاد في رواية: "ثم أدناك فأدناك"، لا يحركه عيد يوم واحد مبتدع.

بئس البر الذي يكتفى فيه بتقديم الحلوى والزهور، وإيقاد الشموع، أوالاتصال بوالديه في الملجأ بالهاتف في يوم يتيم من أيام العام، ثم يهجروا ويقطعوا في سائر العام.

بر الوالدين والإحسان إليهما وصلة الأرحام عبادة أوجبها الله على عباده، في حياتهم بالبر، والإحسان، والرفق، والإنفاق عليهم، وبعد وفاتهم بالدعاء، والاستغفار، والصلة والإحسان إلى أقاربهم وأهل ودهم، وكما تدين تدان: "عفوا تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم".

اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا، واهدي أبناءنا وبناتنا، وأصلح أزواجنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وصلى الله وسلم وبارك على خير والد وولد، وأفضل زوج، المنحدر من أزكى نسب، محمد بن عبد الله وآله والتابعين لهم إلى يوم المحشر.

000000000000000000000000

أمينة ودود من المبدلات لشرع الله،  المستحقات لمقته وغضبه

والليالي من الزمان حبـالى     مثقلات يلدن كل عجيب

فوجئ المسلمون لأول مرة في تاريخهم، أمس الجمعة الثامن من شهر صفر 1426هـ، بأن رَجُلة من النساء تدعى الدكتورة أمينة ودود، خطبت وأمت بعض المترجلات وأنصاف الرجال مختلطين، الرجال عن ميامن الصفوف والنساء عن يسارها، فيما ادعته صلاة جمعة، في قاعة سوندرام تاغور غاليري الملحقة بكاتدرائية نصرانية بنيويورك، بعد أن منعتها جميع المساجد عن ذلك؛ فعلت كل ذلك بدعوى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، زاعمة أن عدم إعطاء المرأة لحق الإمامة أمر خاطئ متجذر داخل مجتمعات المسلمين.

لا شك أن صلاتها وصلاة من خلفها باطلة، لا جمعة ولا ظهراً، مع الإثم المبين، لأن من شروط صحة الإمامة الكبرى والصغرى، سيما الجمعة، الذكورية، وهذا من الأمور المجمع عليها، وقد تلقته الأمة بالقبول كابراً عن كابر.

قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم وَلَّوا عليهم امرأة"، روى ابن ماجة والبيهقي بسند فيه ضعف: "لا تؤمنَّ امرأة رجلاً".

بعد أن أجمع العلماء على عدم جواز إمامة المرأة للرجال والصبيان تحت البلوغ والخنثي، أجاز  بعضهم، وهم الشافعية، ومن وافقهم إمامتها للنساء والأطفال في غير الجمعة، من غير أذان ولا جهر بالقراءة، شريطة أن لا تتقدم عليهن، وأن تقف وسطهن، ومنع من إمامتها بالكلية للنساء والأطفال كذلك الأحناف والمالكية.

قال النووي رحمه الله: (اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة.. ولا خنثي خلف امرأة ولا خنثي.. وسواء في منع إمامة المرأة للرجال صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة، فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وسفيان، وأحمد، وداود.

إلى أن قال: وقال الشيخ أبو حامد الغزالي -: مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة الرجال وراءها إلا أباثور، والله أعلم.

إلى أن قال: ثم إذا صلت المرأة بالرجل أوالرجال، فإنما تبطل صلاة الرجال، وأما صلاتها وصلاة من ورائها من النساء فصحيحة في جميع الصلوات إلا إذا صلت بهم الجمعة تبطل صلاتها).

وقال ابن قدامة: (وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجال بحال، في فرض ولا نافلة، في قول عامة الفقهاء).

لو جاز لامرأة أن تؤم الرجال لجاز لعائشة رضي الله عنها، فقد كانت عالمة بالتفسير، والحديث، والفقه، والفرائض، والأدب، والأنساب، والطب، وكان كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها ويستفتونها، ومع ذلك ما كانت تحدث نفسها بإمامة لا صغرى ولا كبرى، وكان يؤمها غلامها في صلاة التراويح، وما كانت تلي عقد واحدة ممن كان في حجرها من بنات إخوانها وأخواتها.

ما ابتدعته أمينة ودود هذه لا أمنها الله ولا وادها - يدل على كِبْرها، وغطرستها، وجهلها، وعدم عقلها، ويدخلها في سلك المبدلين والمبدلات لشرع الله، الرادِّين لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليها وزرها ووزر من همت بذلك من النساء إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهن شيئاً، فهنيئاً لها بذلك، هذا بجانب ما نالته من دعوات ولعائن عباد الله الصالحين.

مما يحمد له:

1.   استنكار جميع المسلمين رجالاً ونساءً في كل بقاع الأرض لهذه البدعة المنكرة.

2.  منع المسلمين لها في أمريكا من أن تدنس منبراً من منابر مساجدهم، مما اضطرها إلى أن تلجأ إلى صالة كاتدرائية نصرانية لتنفيذ هذه المؤامرة الخسيسة، والفعلة الدنيئة.

3.   تظاهر عدد من المسلمين ضدها خارج هذه الصالة يبشر أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة أبداً.

أعجب من تجرئها على الإمامة رضى أولئك النفر الممسوخين بالصلاة خلفها، فإن كانوا مأجورين فتلك مصيبة، وإن كانوا جاهلين فالمصيبة أعظم.

دعوى مساواة المرأة بالرجل، وإزالة كل الفوارق بينهما من الدعوات الكفرية لمصادمتها لكتاب الله عز وجل، حيث جاء ذلك مقرراً على لسان امرأة صالحة عاقلة، وهي والدة مريم عليها السلام: "وليس الذكر كالأنثى" ، وقوله: "للذكر مثل حظ الأنثيين" ، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صحَّ عنه قوله: "كمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع"، ولهذا خص كلاً من الذكر والأنثى بخصائص لم يخص بها الآخر، ونهي كلاً منهما أن يتمنى ما فضِّل به الآخر: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، ولمخالفتها للخلقة، والفطرة، وللواقع المشاهد.

ليس لرافعي هذه الدعوى من مبرر سوى تقليد الكفار والتشبه بهم، والخضوع والانكسار والانبهار بالحضارة المادية الكافرة، هذا هو الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

واعلم أخي الكريم أن الله حافظ لدينه، متم لنوره، كابت لأعدائه، ماكر بهم، نسأل الله أن يثبتنا على الحق، وأن يختم لنا بخير، ويجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وصلى الله وسلم على نبينا القائل: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، والسلام علينا وعلى عباد الله المتبعين، وسحقاً وبعداً لأولئك المبدِّلين والمغيرين

00000000000000000000000

أيها العلماء احذروا أن يؤتى الإسلام من قبلكم

تمهيد

أولاً: الاعتداد والإعجاب بالرأي

رجوع القاضي أبي يوسف رحمه الله

رجوع إسماعيل بن عُليَّة لقول ابن المبارك رحمهما الله

ما رد به مالك على العمري الزاهد رحمهما الله

إقرار الفضيل  بما قاله ابن المبارك رحمهما الله على الرغم من إغلاظ ابن المبارك له

ثانياً: التراجع والتنازل لا يأتيان بخير

الرخص الشرعية قسمان

ثالثاً: الحذر والحيطة عند إصدار الفتاوى، خاصة عند حلول الفتن

رابعاً: الحذر من مسلك علماء السوء بلعوم بن باعوراء وأمثاله

خامساً: الخوف والحذر من الابتلاء

سادساً: الحذر والخوف على الإسلام وأهله!!

سابعاً: الحذر من كلمة الحق التي يراد بها باطل

ثامناً: الحذر أن تجعلوا بينكم وبين شباب الدعوة حاجزاً

نماذج من مناظرات سلف هذه الأمة للخوارج، ونصحهم لهم، وصبرهم عليهم

مناظرة ابن عباس لهم

مناظرة ابن الزبير رضي الله عنهما للخوارج

محاورة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز للخوارج

تمهيد

صلاح هذه الأمة الإسلامية رهين بصلاح ولاة أمرها من العلماء العاملين بعلمهم، الخاشعين لربهم، المضطلعين بدورهم، والحكام المؤتمرين بأمرهم، المنفذين في رعاياهم أحكام ربهم، وشريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.

جاء في الأثر: "صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: السلطان والعلماء"، ولهذا شبه العلماء بالملح.

ولله در القائل:

نسأل اللهَ صـلاحـاً            للــولاة الرؤسـاء

فصـلاح الدين و الد            نيا  صلاح الأمراء

فبهم يلتئــم الشمـ            ـل  على بعد التناء

وبهم قامت حدود الله            في أهــل  العداء

وهم المغنون عنــا            في مواطين العنـاء

وذهاب العلـم عنـا            في ذهـاب  العلماء

فهـم أركان دين الله            في أرض الفضـاء

فجزاهم  ربهم عنـا            بمحمود  الجــزاء

لذلك أمرنا الله عز وجل بطاعتهم في المعروف والتزام أوامرهم، وحذر من مخالفتهم والخروج عليهم المؤدي إلى الفتن وإراقة الدماء، فقال: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لهذا الأمر ومبيناً أن الطاعة لولاة الأمر في المعروف: "على المرء المسلم السمعُ والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".

ولهذا عُدَّ موت العالم ثلمة في الدين، وكانت حاجة ولاة الأمر من العلماء والحكام للنصيحة لا تدانيها حاجة ولا تساويها هدية، مما حدى برسولنا الكريم بالتذكير بها قائلاً: "الدين النصيحـة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".

كان الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون يُسرُّون للنصيحة ويفرحون بها، ويثنون على مسديها لهم، ولا يستنكفون عن قبولها، قال أبو بكر: "لا خير فينا إن لم نقبلها، ولا خير فيكم إن لم تقولوها"، وقال عمر رضي الله عنه: "رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"، وعلى هذا المنوال سار ولاة الأمر من سلف هذه الأمة.

لا يشترط في الناصح أن يكون أكثر علماً، ولا أكبر قدراً، ولا أتم عدالة من المنصوح، ولله در الإمام إسحاق بن أحمد العلثي حيث قال في مقدمة نصيحة كتبها لأخيه الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذاً لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل حيث قال الله تعالى: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، بل ينكر المفضول على الفاضل، وينكر الفاجر على الولي، على تقدير معرفة الولي).

بل المسلم مطالب أن يرجع إلى الحق ويقبله وإن جاءه من كافر أومنافق، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه، وعندما قيل له: كيف نعرف أن الكافر أوالمنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً.

ولله در الإمام أحمد حيث لم يستنكف من قبول نصيحة جاءته من أحد أعراب البادية وهو في فتنة خلق القرآن، بل عدها من أقوى النصائح التي سمعها منذ أن ابتلي بتلك الفتنة.

قال رحمه الله واصفاً محنته: (صرنا إلى "الرحبة"، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا؛ فقال للجمال: على رسلك؛ ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا، وتدخل الجنة؟! ثم قال: أستودعك الله؛ ومضى، فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له جابر بن عامر، يذكر بخير.

قال أحمد: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في "رحبة طوق"، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيداً، وإن عشتَ عشتَ حميداً، فقوى قلبي).

لهذا السبب أحببت أن أذكر نفسي أولاً، وأنبه إخواني العلماء لبعض الأمور، مع يقيني أنها ليست غائبة عنهم، ولكن من باب الذكرى، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع"، وبقوله: "المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"، و"المؤمن مرآة أخيه"، وأعوذ بالله من أن أكون وصياً على أحد.

ولأن الفتن والمحن والكوارث التي حلت بالأمة الإسلامية في هذا العصر لا سبيل للخروج منها إلا بالمناصحة الواعية، والمواجهة الصادقة، والمحاسبة الدقيقة بين علماء الأمة، وإخوة العقيدة، ورفقاء الدرب أولاً، ثم بين قطاعات الأمة الأخرى، فما من مسلم إلا وهو مسؤول عما حدث، وإلا وهو على ثغرة من الثغور، وله دور ينبغي أن يقوم به ويؤديه للخروج من هذه الفتن، مهما كان هذا الدور كبيراً أم صغيراً، ولا ينبغي لأحد أن يحقر نفسه ويذلها ويجهل قدرها.

مع يقيننا التام بأن المسؤولية العظمى والخطيرة تقع على هذين الصنفين: العلماء والحكام، فإذا لها الحكام عن ذلك وتشاغلوا عنها لأي سبب من الأسباب، ينبغي للعلماء أن يذكروهم بمسؤوليتهم، وأن يحضوهم ويحثوهم على القيام بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما هجم التتار على بغداد وتوجهوا بعدها إلى الشام، خرج شيخ الإسلام ابن تيمية إلى مصر لأن الشام كان تابعاً لحكام مصر، وطالبهم بالمجيء للدفاع عنه.

إذا لم يستجب الحكام لذلك فعلى العلماء وطلاب العلم أن يبذلوا قصارى جهدهم ويعملوا ما في وسعهم للقيام بدورهم المنوط بهم، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه وغيرهم، حيث خرجوا لجهاد التتار الغزاة، وحرضوا المسلمين على ذلك، واجتهدوا في إزالة الشبه المثبطة والمخذلة عن الدفاع والذود عن الدين، والعرض، والحريم، والديار.

من جملة الشبه التي رفعها المخذلون المثبطون ورد عليها شيخ الإسلام رداً حاسماً: أن التتار أظهروا الإسلام فهل يحل قتالهم؟ وكذلك حكم من يكون في عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك؟ وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون، والمقاتلون لهم مسلمون، وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما؟ أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية، فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين، بل على أكثرهم، تارة لعدم العلم بأحوالهم، وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله في مثلهم، وفي سؤال آخر: سئل عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار ويقولون إن فيهم من يخرج مكرهاً معهم؟

قال الحافظ ابن كثير وهو يتحدث عن وقعة "شقحب": (وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتار من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك؛ وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني؛ فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد).

قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة، حيث التاريخ يعيد نفسه، وتثار نفس الشبه أوقريباً منها في هذه الأيام ضد المقاومين للغزاة وأعوانهم في أفغانستان والعراق وغيرهما، مع الاختلاف الكبير بين غزاة العراق القدامى الذين أظهروا الإسلام وبين غزاة أفغانستان والعراق من الكافرين؛ تعجل بذلك حتى لا يؤتى الإسلام من قبل علمائه وولاة أمره إن لم يكن قد أتي - وقبل فوات الأوان، وحلول الندم.

هذا وقد آن الأوان للشروع في المطلوب، فأقول وبالله التوفيق، وأسأله العون والتسديد، من تلكم الأمور التي أحب أن أذكر نفسي وإخواني بها ما يأتي:

أولاً: الاعتداد والإعجاب بالرأي

من الأمور التي ينبغي للمسلمين عموماً، وللعلماء خصوصاً، الحذر والخوف منها الاعتداد بالرأي والإعجاب به المؤدي إلى الغرور والاستكبار.

فعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تأويل قوله تعالى: "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، فقال: "ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع العوام".

وعلى العلماء أن يتخلقوا بأخلاق سلفهم الصالح في التواضع والرجوع إلى الحق واتهام الآراء والاجتهـادات، ولا أدل على ذلك من رجـوع كثير منهم إلى أقـوال من ناظـرهم، فها هو القاضي أبو يوسف يرجع إلى قول مالك في عدد من الأمـور، ويقـول مخاطبـاً له: "لقد رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو سمع صاحبي ما سمعت لرجع كما رجعت"، أوكما قال رحمه الله.

وكذلك أثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه"، وقال كذلك: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، بهذه الروح الطيبة والنفس الكريمة على العالم أن يأخذ ويرد مع إخوانه من أهل العلم، وعليه أن لا يقفل الباب أمامهم، وأن لا يعزم ويصمم على البقاء على ما أدَّاه إليه اجتهاده، سيما في المسائل التي تقبل أكثر من رأي، وفي مواسم الفتن التي تجعل الحليم حيران، حيث تختلف فيها وجهات النظر والتقديرات.

الاعتداد بالرأي والإعجاب والتعصب له من أقوى أسباب الخلاف والافتراق الذي مزق الأمة، وبدد جهودها، ومكن لأعدائها من السيطرة عليها.

الإعجاب بالرأي مرده إلى الكبر الذي يكون مانعاً من دخول الجنة، سواء كان مع أول الداخلين بالنسبة لعصاة المسلمين، أوبالكلية لمن استكبروا عن قبول دعوة الحق والانصياع إليها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل:  إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة؟ قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحقِّ وغمط الناس".

وبطرُ الحق دفعه ورده على قائله، وغمط الناس احتقارهم، ولهذا عندما توهم هذا الرجل أن الكبر هو التزين بالثياب والنعال الحسنة بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مجرد التزيي بالملابس والأحذية الجميلة ليس من الكبر، فالله جميل يحب الجمال، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإنما الكبر المانع من دخول الجنة شيء زائد عن ذلك، وهو متعلق بالقلب، ومتمثل في دفع الحق ورده، وعدم التراجع عما يعتقد ويقول بالأدلة الدامغة، واحتقار الناس وازدراؤهم والاستخفاف بهم وبآرائهم لمجرد صدورها من أناس معينين.

ومما يدل على ذلك فإن الناظر إلى كثير من أسباب الخلاف المرفوعة يجدها أسباباً تافهة لا تعدو في كثير من الأحيان أن تكون من النوع الذي يسوغ فيه الخلاف، وتتعدد فيه وجهات النظر، ورحم الله القائل: "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية"، عند العقلاء من بني آدم، ولا شك أن العلماء هم سادة العقلاء.

هذا كله في المسائل التي ليس فيها نصوص صحيحة صريحة، وفي وسائل العمل.

لقد ضرب سلفنا الصالح في الإنصاف والتجرد وترك ما كانوا يعتقدون ويدينون إذا تبين لهم الحق في غيره المثل الأعلى والنهج الذي ينبغي أن يحتذى، فمنهم من كان يرجع في الحال عما كان يعتقده ويدين الله به، ومن أمثلة ذلك:

1.  رجوع القاضي أبي يوسف رحمه الله

وكان قاضي قضاة الدولة العباسية لمدة أربعين سنة، وهو من كبار تلاميذ أبي حنيفة رحمه الله، عندما جاء المدينة وناظره مالك رحمه الله في أمور هي:

1.  المكاييل.

2.  صيغة الأذان.

3.  زكاة الخضر والفواكه.

قال الشاطبي رحمه الله: (كما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع حتى رجع إلى القول بذلك).

وقال كذلك: (وسأله أي مالك أبو يوسف عن الأذان، فقال مالك: وما حاجتك إلى ذلك؟ فعجباً من فقيه يسأل عن الأذان! ثم قال له مالك: كيف الأذان عندكم؟ فذكر مذهبهم فيه، فقال: من أين لكم هذا؟ فذكر له أن بلالاً لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم، فأذن لهم كما ذكر عنهم؛ فقال مالك: ما أدري ما أذان يوم؟ وما صلاة يوم؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده من بعده يؤذنون في حياته، وعند قبره، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده؛ فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمراً أثبت في الاتباع، وأولى أن يرجع إليه).

2. رجوع إسماعيل بن عُليَّة لقول ابن المبارك رحمهما الله

روى الذهبي في سير أعلام النبلاء: (أن ابن المبارك كان يتجر ويقول: لولا خمسة ما اتجرت، السفيانان، وفضَيْل بن عياض، وابن السمَّاك، وابن عُلية؛ فيصلهم، فقدم ابن المبارك سنة فقيل له: قد ولي ابن عُلية القضاء؛ فلم يأته، ولم يصله، فركب إليه ابن عُلية، فلم يرفع به رأساً، فانصرف، فلما كان من الغد كتب إلى عبد الله رقعة يقول: قد كنتُ منتظراً لبرك، وجئتك فلم تكلمني، فما رأيت مني؟ فقال ابن المبارك: يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا، ثم كتب إليه:

يا جاعل العلم  له بازيـاً           يصطـاد أموال المساكين

احتلتَ للدنيا ولذاتهـــا           بحيلـــة  تذهبُ بالدين

فصرت مجنوناً بها بعدما           كنتَ دواء للمجـــانين

أين رواياتك فيما  مضى           عن ابن عونٍ وابن سيرين

ودَرْسُك العلمَ  بآثــاره           في ترك أبواب السلاطين

تقول: أكرهتُ، فماذا كذا           زل حمار العلم في الطين

لا تبــع الدين كمــا            يفعل ضــلال الرهابين

فلما قرأها، قام من مجلس القضاء، فوطئ بساط هارون الرشيد، وقال: اللهَ اللهَ، ارحم شيبتي، فإني لا أصبر على الخطأ؛ فقال: لعل هذا المجنون أغرى عليك؛ ثم عفاه، فوجه إليه ابن المبارك بالصرة).

وفي بعض الأحيان يقر أحدهم لصاحبه بما قال ويلتزم بأن ما قاله هو الحق، سواء ترك ما كان عليه أم لم يتركه، ويمثل ذلك:

1. ما رد به مالك على العمري الزاهد رحمهما الله

روى الذهبي رحمه الله: (أن عبد الله العمري الزاهد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر يفتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر).

هذا على الرغم من أن كتاب العمري كان فيه غلظة وشدة على مالك، لكن كان رد مالك رد فقيه كما قال الذهبي رحمه الله.

روى الذهبي كذلك قال: (كتب مالك إلى العمري: إنك بدوتَ، فلو كنت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكتب إليه العمري: إني أكره مجاورة أمثالك، إن الله لم يرك متغير الوجه فيه ساعة قط.

قلت: هذا على سبيل المبالغة في الوعظ، وإلا فمالك من أقول العلماء بالحق، ومن أشدهم تغيراً في رؤية المنكر).

2.  إقرار الفضيل بما قاله ابن المبارك رحمهما الله على الرغم من إغلاظ ابن المبارك له

قال الذهبي: (روى عبد الله بن محمد قاضي نصيبين، حدثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى عليَّ ابنُ المبارك سنة سبع وسبعين ومائة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرْطوس:

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتنـا        لعلمتَ أنك في العبـادة تلعب

من كان يخضب جيده بدموعه        فنحورنـا  بدمائنـا تتخضب

أوكان يتعب خيله في  باطـل        فخيولنـا يومَ الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم  ونحن عبيرنا        رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقـال نبينــا         قول صحيح  صادق لا يُكذبُ

لا يستوي غبارُ خيل الله  في        أنف امـرئ  ودخان نارتلهبُ

هذا كتاب الله  ينطق بيننــا        ليس الشهيــدُ بميت لا يكذب

فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبوعبد الرحمن ونصح).

لو سلك علماء الخلف ما كان عليه علماء السلف من الصدق، والتواضع، والتجرد، والتسامح مع بعضهم البعض لصلحت أحوالهم، وائتلفت قلوبهم، وتوحدت جماعاتهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ويكون ذلك باتهام الآراء وعدم الاغترار بها.

صحَّ عن سهل بن حُنَيف رضي الله عنه أنه قال يوم صِفِّين وحكم الحكمين: "يا أيها الناس اتهموا رأيكم، فلقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أبي جندل، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددناه".

وما قاله سهل بن حُنَيف يوم صِفِّين قاله عمر رضي الله عنه، لأنه كان من المحاولين رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض بنود صلح الحديبية، وكذلك فعلته الأنصار عندما قالت يوم الثقيفة: "منا أمير ومنكم أمير"، عندما قال لهم عمر: "منا الأمراء ومنكم الوزراء"، وروى لهم قوله صلى الله عليه وسلم: "الأمراء من قريش"، رجعوا وانصاعوا لقول رسولهم، واقتدوا بمن أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بهما: "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني أبابكر وعمر رضي الله عنهما.

وكذلك رجعت الأنصار عن رأيها عندما أرسلت عمر لأبي بكر ليحبس جيش أسامة، أويولي عليهم رجلاً أكبر سناً من أسامة، عندما قال أبو بكر لعمر: "والله لو علمتُ أن السباع تجر برجلي إنْ لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال عمر: "إن الأنصار أمروني أن أبلغك، وهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة"، فوثب أبو بكر وكان جالساً، وأخذ بلحية عمر، فقال: "ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب!! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أنزعه؟!".

فخرج عمر إلى الناس، فقالوا: "ما صنعت؟"، فقال: "امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيتُ في سبيلكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وكذلك رجع عمر ورجع جميع الصحابة عن رأيهم إلى ما عزم عليه أبو بكر من حرب المرتدين، وقد كان عمر حاول سنيه عن ذلك عدة مرات، قائلاً: "تألف الناس وارفق بهم"، فقال له أبو بكر: "رجوت نصرتك، وجئتني بخذلانك!! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي، وتمَّ الدين، أوينقص وأنا حي!!".

قال عمر: "فما هو إلا أن رأيتُ أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق".

أرجو أخي القارئ أن تقارن بين هذه المواقف من اتهام الرأي والتنازل عنه، والتأسف على اتخاذه ابتداء، وبين تصلب البعض من أهل العلم على آرائهم ومواقفهم، على الرغم من مراجعة أهل العلم لهم، وتفنيد حججهم، وإثبات ضعف حججهم وآرائهم، لترى البون الشاسع، والفرق الواسع بيننا وبين السلف الصالح، حيث أخذوا بأسباب النصر، وأخذنا بأسباب الخذلان والهزيمة، إن لم نكن مثلهم أليس من الحكمة أن نتشبه بهم، ونحاول التأسي بهم، فالتشبه بالرجال فلاح ونجاح.

هم الرجال وعيب أن يُقال             لمن لم يكن مثلهم رجـل

ثانياً: التراجع والتنازل لا يأتيان بخير

الأصل في هذا الدين الثبات على المبادئ، والأخذ بالرخص الشرعية، وليست زلات العلماء وهفواتهم وما ترخصوا فيه، أمر عارض يقدر بقدره، ويحكم فيه بظرفه.

هذا الدين محفوظ بحفظ الله له، أما الحفظ النظري للوحيين: القرآن والسنة، فقد تولاه الله عز وجل حيث قال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، وأما الحفظ العملي التطبيقي فقد شرف الله به رسله وورثتهم إلى يوم القيامة: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل".

لقد وفى السابقون الأولون ما عاهدوا الله عليه، وقاموا بالواجب خير قيام، وشهد لهم ربهم بذلك ومدحهم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً"، وهذا من السنن الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل.

كل الانتصارات التي نالها الإسلام وحازها المسلمون لم تكن إلا نتيجة الثبات على المبادئ، والصبر على الابتلاءات، لولا الله عز وجل ثم الثبات على المبادئ والأخذ بالعزائم لما قامت للدين قائمة ولما رفعت له راية، ولما خضعت ودانت له الدول والشعوب، ولما دخل الناس فيه أفواجاً أفواجاً.

عندما ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً"  سبب نزولها، وهو نيل عمار بن ياسر من رسول الله حين اشتد عليه العذاب، ثنى وأعقب ذلك بثبات بلال، وحبيب بن زيد الأنصاري، وعبد الله بن حذافة السهمي على المبادئ، وعدم أخذهم بالرخصة، وبيَّن أن هذا هو الأفضل والأولى، حيث قال: (وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.

إلى أن قال:

ولهذا اتفق العلماء أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، ويفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم، وهو يقول: أحد، أحد؛ ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها؛ رضي الله عنه وأرضاه.

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم؛ فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع؛ فلم يزل يُقطع إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك.

إلى أن قال:

والأفضل والأولى أن يثبت المسلمُ على دينه، ولو أفضى إلى قتله، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك ابنتي؛ فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت؛ فقال: إذاً أقتلك؛ فقال: أنت وذاك؛ قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى، فطمع فيه، ودعاه، فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحد تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.

وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي، ولكن لم اكن لأشمتك بي؛ فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك؛ فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم؛ فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ؛ فقبل رأسه رضي الله عنهما).

يظن البعض أن الثبات على المبادئ وعدم الأخذ بالرخص هذا من باب التشدد والغلو، وفي هذا تجنٍ على أصحاب العزائم، وتعدٍ على الشريعة.

يقول الإمام المحقق الاصولي المالكي الشاطبي رحمه الله راداً على هذه الشبهة: (وربما فهم بعض الناس أن ترك الرخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطاً، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك).

لقد حذر الله الأمة من التراجع والتنازل في شخص رسولها صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً".

قال ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه".

خطورة التنازل والتراجع أنه ليس له نهاية ولا حد، فكلما شرع في التراجع طولب بتنازل آخر، ولهذا بين الله عز وجل أن الكفار والمنافقين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتخلوا عن دينهم بالكلية: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، وتنسلخ عن ملتك من حيث لا تشعر.

ومعلوم أن ما من مسلم يبدي تنازلاً إلا لتوهمه وظنه أن هذا التنازل فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، وفيه حماية لهذا الدين، وفي ترك هذا التنازل استئصال لشأفة الدين بالكلية، فهذه توهمات شيطانية وأماني نفسية، تورث الخذلان والندامة في الدنيا قبل الآخرة.

فما تنازل أحد إلا وندم، والعاقل من اتعظ بغيره، وفي التاريخ عبر وعظات لمن يعتبر ويتعظ.

قال ابن إسحاق: (خرج عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة المخزومي حتى قدما المدينة، يقول عمر: فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقبـاء، وخرج أبو جهـل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخوهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل من شمس حتى تراك؛ فرق لها.

قال عمر: قال عياش: أبرُّ قسم أمي ولي هناك مال فآخذه؛ قال له عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما؛ قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت له: أما إذ قد فعلتَ ما فعلتَ فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإذا رأيت من القوم ريب فانج عليها.

قال عمر: فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال أبوجهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظ عليَّ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى؛ قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه رباطاً، ثم دخلا به مكة، وفتناه وافتتن.

قال ابن إسحاق: أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهاراً موثقاً، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا).

الرخص الشرعية قسمان

يمكن أن نقسم الرخص الشرعية من حيث الأخذ بها إلى قسمين:

1. ما يتعلق بالعبادات كقصر الصلاة في السفر، والفطر للمسافر في رمضان، والمسح على الخف والجوارب، وأكل المضطر للميتة، ونحو ذلك.

وهذا القسم يحب الله الإتيان به لمن احتاج إليه، كمحبته للأخذ بالعزائم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".

2.  ومنها ما يتعلق بحفظ النفس وحمايتها من القتل والتعذيب والتضييق ونحو ذلك، خاصة من قبل أعداء الإسلام وغيرهم.

وهذا القسم الأولى والأفضل عدم الأخذ به لمن أنس في نفسه الكفاءة والقدرة على التحمل والصبر على ما يلاقي، لأن في ذلك نصر للدين وثبات للآخرين، كما فعل الرسل وأتباعهم، ويشهد لذلك ثبات:

1.  سحرة فرعون عندما واجهوا تهديده لهم بالقتل، والصلب، والتعذيب بقولهم: "فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدينا".

2.  راهب، وغلام، ووزير ملك أصحاب الأخدود، وكانت النتيجة إيمان سائر الرعية، ولو أخذوا بالرخصة وآثروا الفانية على الباقية لما آمن من آمن، ولربما نالهم غضب الملك ففتك بهم بعد فتنتهم فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

أما نماذج ذلك في شريعتنا فأكثر من أن تحصى، نشير إلى بعضها:

3.  فها هو عثمان بن مظعون رضي الله عنه وقد أذن رسول الله للمستضعفين أن يحتموا بالمشركين، فدخل مكة بعد أن عاد من الحبشة في جوار الوليد بن المغيرة، فكان يعيش في أمان لا يصيبه أذى المشركين، ولكن عز عليه أن يكون في هذا الأمان وإخوانه يعذبون وينالون من الأجر أضعاف ما ينال.

(فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، قد رددت إليك جوارك؛ فقال له: لِمَ يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي؛ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره؛ قال: انطلق إلى المسجد، فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية.

قال ابن إسحاق: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان، قد جاء يرد عليَّ جواري؛ قال: صدق، قد وجدته وفياً كريم الجوار، ولكني أحببت أن لا أستجير إلا بالله، فقد رددت عليه جواره؛ ثم أبصر عثمان، ولبيد بن ربيعة الشاعر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قال عثمان: صدقت؛ قال لبيد:

و كل نعيم لا محـالة زائـل

قال عثمان: كذبت، نعيم الآخرة لا يزول؛ قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجد في نفسك من قوله؛ فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضَّرها.

والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة؛ قال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني في جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس؛ فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك؛ فقال: لا).

4.  ما فعله عثمان بن مظعون فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنهما حيث أخذ بالعزيمة من أجل إظهار دينه وإعزازه.

خرج البخاري في صحيحه بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "لم أعقل أبَوَيَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلمـا ابتلي المسلمـون خرج أبو بكر مهاجـراً إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْك الغمـاد لقيه ابن الدَّغنة وهو سيد القارة، فقال: إلى أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض أعبد ربي؛ فقال ابن الدِّغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخْرج، ولا يُخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك.

فرجع وارتحل معه ابن الدِّغِنة، وطاف ابن الدِّغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر؟! فلم يكذب قريشاً بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، ويصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا(!!)

فقال ابن الدِّغنة ذلك لأبي بكر، فلبث أبو بكر بعد ذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن؛ فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدِّغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر لجوارك أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك وابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نحقِرك، ولسنا مقرين لأبي بكر استعلانه.

قالت عائشة: فبعث ابن الدِّغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمتَ الذي قد عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفِـرْت في رجل عقدت له؛ فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل".

وفي رواية لابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر قال: لقيه يعني أبا بكر حين خرج من جوار ابن الدِّغنة سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة، فقال له أبوبكر: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟! فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك؛ وهو يقول: أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك.

5.  من النماذج الفريدة للأخذ بالعزائم من أصحـاب الأعـذار الذين عذرهم الله عز وجل ما فعله عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه حيث جاء إلى أحُدٍ وطلب أن يدفع إليه اللواء، وقد قال الله في أمثاله: "ليس على الأعمى حرج"، و"غير أولي الضرر"، حيث قال: إني أعمى لا أستطيع أن أفر، فادفعوا إليَّ اللواء، واقعدوني بين الصفين! فيترك ما منح من الرخصة، ويقدم حق الله على حق نفسه.

6.  وما فعله ابن أم مكتوم فعله جندب بن ضمرة رضي الله عنه، وقد كان شيخاً كبيراً لا يستطيع السفر ولا ركوب المطي، ولكن عندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة قبل فتحها إلى دار هجرته المدينة، وشدد فيها لغير أصحاب الأعذار، قال جندب لبنيه: إني أجد حيلة فلا أعذر، احملوني على سرير! فحملوه، فمات بالتنعيم وهو يصفق يمينه على شماله ويقول: هذا لك، وهذا لرسولك.

7.  وروي عن بعض الصحابة أنه قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي أحُداً، فرجعنا جريحَيْن، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي، أوقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

8.  ومما يدل على أن الثبات على الحق والمبادئ والصبر عليه من أقوى أسباب النصر والحفظ للإسلام والمسلمين في أحلك الظروف وأصعبها ما فعله مهاجرة الحبشة عندما كادهم مشركو مكة، ولم يسلموا من مكرهم وهم في أرض الحبشة.

روت أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه.

فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلدَين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجعلوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، ثم قدَّما إلى النجاشي هداياه، ثم سألاه أن يسلمهم إليهما قبل أن يكلمهم.

قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل منهم: إنه ضَوَى إلى بلد المَلِك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم.

ثم إنهما قدَّما هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه ضَوَى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.

قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي.

قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلدهم وقومهم.

قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله، إذا لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواء، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله واجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

وفي رواية للحاكم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن عمرو بن العاص وصاحبه قالا للنجاشي: إنهم يعني المسلمين لا يسجدون لك؛ قال: فلما انتهينا إليه زَرَرَنا من عنده: اسجدوا للملك؛ فقال جعفر: لا نسجد إلا لله؛ فقال النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسوله وهو الرسول الذي بشر به عيسى، برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد اللهَ ولا نشرك به شيئاً.

قالت أم سلمة: فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا صحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

قالت: فكان الذي كلمه جعفر، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام، وعدد عليه أمور الإسلام، فصدقنا، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وافتتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فقال النجاشي: هل معك مما جاء عن الله من شيء؟ فقال جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ؛ فقرأ عليه صدراً من سورة كهيعص مريم، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون.

قالت: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم.

قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا؛ قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد.

قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله تعالى وما جاءنا به نبيناً كائناً في ذلك ما هو كائن.

قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول: هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود.

قالت: فتناخرت بطارقته حين قال ما قال، فقال: وإن تناخرتم والله، اذهبوا، فأنتم شيوم، والشيوم الآمنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم.

ثم قال: ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني رشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه.

قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار).

9.  كذلك مما يدل على أن نصر هذا الدين وعزته لا تتأتى بالتنازلات والأخذ بالرخص والزلات، وإنما ينصر بالثبات على المواقف، وبالتضحية وبذل المهج رخيصات، موقف أئمة أهل السنة والجماعة في فتنة خلق القرآن التي ابتدعها طائفة من علماء السوء وأغروا بها بعض خلفاء بني العباس حيناً من الدهر، لكن ثبات هؤلاء الجلة من العلماء، وصبرهم، وتضحياتهم، هو الذي رد الأمة بعد الله عز وجل إلى صوابها، وإلى منهج رسولها صلى الله عليه وسلم.

فمنهم من قتل ظلماً وعدواناً، ومنهم من ضرب وسجن وحبس، ومنهم من ضيق عليه، فلم يزدهم ذلك إلا ثباتاً على ثباتهم، وسرعان ما انكشفت تلك الغمة، وزالت تلك البدعة الخبيثة، وجاء الله بخليفة هو المتوكل نَكَّل بأئمة البدع وانتقم لأئمة الحق والسنة.

لولا ثبات هؤلاء الرجال وصبرهم وعزمهم فقد المسلمون قسماً عزيزاً من أقسام عقيدتهم، وهو الإيمان بأسماء الله وصفاته من غير تأويل ولا تحريف، ولساد علم الكلام وعاش الناس في الظلام.

لقد نصر الله السنة على البدعة، والحق على الباطل، وعلماء الآخرة على علماء السوء والدنيا بمواقف رجال قلائل، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما بدلوا، وما خافوا، وما جبنوا، ولم يرضوا إلا بالتصريح بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأبت نفوسهم الأبية التلميح والتعريض، بل هجروا وبدعوا من ترخص في ذلك، وأبوا أن يكلموهم حتى فارقوا الدنيا.

فلولا ثبات أحمد بن حنبل، وأحمد بن نصر الخزاعي، والبويطي، وإخوانهم ممن ثبتوا معهم لاستأسد البغاث، ولكان حال المسلمين شر حال.

فالدين عزيز وسلعته غالية، ولهذا لا يمكن أن ينصر بالترخص والتنازلات، والبحث والتفتيش عن الزلات والهفوات.

ثالثاً: الحذر والحيطة عند إصدار الفتاوى، خاصة عند حلول الفتن

التثبت في الفتوى والتحوط فيها مطلوب في كل وقت وحين، مهما كان الأمر صغيراً أم كبيراً، ولهذا كان مالك رحمه الله دائماً يقول إذا سئل عن شيء: اللهم سلمنا وسلم منا؛ وسئل مرة عن مسألة فقال: لا أدري؛ فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردتُ أن أعلم بها الأمير؛ وكان السائل ذا قدر، فغضب وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً".

يزداد أمر الفتوى تعقيداً وعسراً عند حلول الفتن، وتداخل الأمور وتشعبها، ولا أظن أن زماناً من الأزمنة السابقة صعبت فيه الفتوى وعسرت مثل زماننا هذا الذي أحاطت فيه الفتن بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم، وتغيرت فيه المفاهيم، واختلفت فيه الموازين.

أخطر الفتاوى تلك المتعلقة بالدماء والفروج، والتبديع والتضليل والتكفير: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".

بل كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يخافون الفتوى فيما هو دون ذلك بكثير، كما كتب الصديق الحميم، والأخ الوفي الكريم، سلمان بن الإسلام، لأخيه في الله أبي الدرداء ناصحاً له، ومذكراً إياه، ومحذراً له من الغفلة في الفتوى.

خرج مالك في موطئه: "عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان: هُلمَّ إلى الأرض المقدسة؛ فكتب إليه: إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس المرء عمله، وقد بلغني أنك جُعِلتَ طبيباً، فإن كنتَ تبري فنعما لك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار؛ فكان أبوالدرداء إذا قضى بين اثنين في أي أمر ثم أدبرا عنه، نظر إليهما، وقال: متطبب والله، ارجعا، أعيدا عليَّ قصتكما".

لا يدري والله الإنسان أيعجب من صدق مناصحة سلمان وصراحته وخوفه على أخيه أبي الدرداء من النار، أم من تجرد أبي الدرداء وسرعة استجابته لهذه الوصية الغالية؟!

ما أكثر المتطببين في هذا العصر في الطب والفتوى، وخطورة المتطفل في الفتوى أشد من خطورة المتطفل في الطب والعلاج، ولهذا سوى بينهما الشارع الحكيم في الإثم والدية على جنايتهما.

الجرأة على الفتيا والتسرع فيها من غير علم من المصائب ومن الطوام الجسام، ولهذا جاء في حديث: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".

قال المناوي معلقاً على هذا الحديث:("أجرؤكم على النار" أقدمكم على دخولها، لأن المفتي مبين عن الله حكمه، إذا أفتى على جهل، أوبغير ما علمه، أوتهاون في تحريره أواستنباطه، فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الجبار: "آلله أذن لكم أم على الله تفترون"، قال الزمخشري: كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أوغير جائز إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفترٍ على الله تعالى.

وقال ابن المنكدر: المفتي يدخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل، فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر).

وقال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين، تحت فصل تورع السلف عن الفتيا: (وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أوقول الخلفاء الراشدين، ثم أفتى.

إلى أن قال:

الجـرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته، فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا، وقد تقدم أن فتـاواه جمعت في عشـرين سفـراً، وكان سعيـد بن المسيب أيضاً واسـع الفتيا، وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء).

قلت: حق لابن عباس رضي الله عنهما ولسعيد بن المسيب ولأمثالهما من أهل العلم الموسوعيين وأهل التقوى والورع المعروفين أن يكونوا أوسع فتيا.

ولله در الفقيه المالكي سحنون حين قال مببرراً تأنيه في الفتيا وتثبته فيها وعدم تعجله في ذلك: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر؟ فلِمَ ألام على حبس الجواب؟!

مما يدل على أن هناك أموراً أمر الفتيا فيها أشد من غيرها ما صح من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله: "أجرؤ على قسْم الجد أجرؤكم على النار"، وذلك لاختلاف الصحابة في ميراث الجد وفرضه اختلافاً واسعاً.

قال المناوي: ("على قسْم الجد" أي على الإفتاء، أوالحكم بتعيين ما يستحقه من الإرث، "أجرؤكم على النار" أي أقدمكم على الوقوع فيها يوم القيامة، تسوقه الزبانية إليها، لأن الجد يختلف ما يأخذه من فرض، وتعصيب، وثلث، وسدس، وتتفاوت مراتبه بحسب القرب والبعد، وفي شأنه من الاضطراب ما يحير الألباب، فمن تساهل وأقدم على القضاء أوالإفتاء بقدر ما يستحقه بغير تثبت وتحقق فقد عرض نفسه إلى النار، ومن ثم نقل عن عمر رضي الله عنه أنه لما احتضر قال: احفظوا عني، لا أقول في الكلالة ولا في الجد شيئاً، ولا أستخلف؛ وأخرج يزيد بن هارون عن ابن سيرين عن عبيدة قال: إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضاً؛ قال ابن الأثير: وفي حديث علي: من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد؛ أي يرمي بنفسه في معاظم عذابها).

إذا كان هذا الوعيد وهذا الحذر والتثبت في الفتيا في ميراث الجد، فكيف بمن يتجرأ ويفتي في تضلل وتكفير وتبديع وقتل أحد من أهل الإسلام، مهما كان الدافع لذلك؟!

ما أعمق فقه الصحابة وما أزكى نفوسهم وأطهر قلوبهم! لقد ضرب علي بن أبي طالب في هذا الجانب المثل الأعلى والقدوة التي ينبغي أن تحتذى، وذلك في حكمه على الخوارج الذين شقوا عصا الطاعة عليه، وأضعفوا عسكره، وقتلوا أتباعه، وكفروه، وضللوه، وختموا كل هذه السوءات بقتله وهو خارج إلى صلاة الصبح، على الرغم من أنه يملك الدليل الأقوى ممن لا ينطق عن الهوى، حيث حكم فيهم بأنهم "يخرجون من الدين ثم لا يعودون"، وفي رواية: "كما يخرج السهم من الرمية" على ضلالهم، لكن عندما سئل عنهم لم يزد على أن قال: "إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم"، ونفى أن يكونوا كفاراً، بل قال: "من الكفر فروا"، وأبى أن يصفهم بالنفاق لأنهم يذكرون الله كثيراً، ولم يبادرهم بالقتال حتى بادروه.

لماذا لم يسع الخلف ما وسع السلف؟

من أخطر الأمور التي توقع بعض أهل العلم في المحذور قياسهم ما يجري الآن في الساحة على ما جرى وحدث في عصور الإسلام السالفة، على الرغم من أن هناك فوارق جوهرية تجعل من العسير سلامة هذا القياس.

فنحن في هذا العصر نعيش أوضاعاً مختلفة اختلافاً كاملاً عن الماضي، إذ كان الإسلام هو الحاكم، وشريعته هي الشريعة الظاهرة المهيمنة على كل شيء، وكانت الغلبة للمسلمين، والذل والصغار حليف الكافرين والمنافقين.

يمثل هذا القياس الفاسد أصدق تمثيل إنزال قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس بالكفر الذي إليه تذهبون"، يعني ما يصدر من بعض حكام ذلك الوقت من باب الخطأ، وقد أطلق عليه لفظ الكفر من باب الزجر والتعنيف، وإلا ليس بكفر مخرج عن الملة، على بعض من يسنون دساتير وقوانين على غرار دساتير وقوانين الكفار، وينبذون الإسلام وشرعه وراءهم ظهرياً، بأن صنيعهم هذا ليس من نواقض الإسلام في شيء، وإنما هو من باب الكفر الأصغر، وهذا قياس مع الفارق والفارق الكبير.

بجانب عامل آخر وهو الخوف من ردود الأفعال، وما علموا أن هذا الصنيع يولد من ردود الأفعال ما الله به عليم، وأن البدعة لا يرد عليها ببدعة، ولله در سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وأنزله فسيح جناته، عندما حدثت فتنة ادعاء عبد الله القحطاني المهدية في الحرم المكي عام 1400هـ، ووجد المغرضون ضالتهم، ونشروا سمومهم، وباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، حين أنكروا خروج مهدي بالكلية، حيث لم يفرقوا بين منتظر الرافضة المزعوم ومهدي أهل السنة الذي هو عبارة عن خليفة راشد يكون في آخر الزمان قبيل نزول عيسى عليه السلام، ويؤيده الله بالمؤيدات العظام، وبدأوا يشككون في الأحاديث الصحيحة والحسنة التي وصلت حد التواتر المعنوي، ما كان من شيخنا عبد العزيز رحمه الله إلا أن بين في شجاعة العالم الرباني والحبر المتفاني: أن هذا ليس هو المهدي الذي بشر به الحبيب المصطفى، وأن الأحاديث التي وردت في خروج مهدي أهل السنة في آخر الزمان منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها المنجبر بغيره؛ ولم يلتفت إلى ردود الأفعال، بل بيَّن الحق وفصل بين القضيتين: أن هذا ليس هو المهدي الذي بشرت به الأحاديث، وأن خروج مهدي أهل السنة في آخر الزمان من جملة عقيدة أهل السنة والجماعة، أهل الحل والعقد، نقاوة أتباع الرسل الكرام.

رابعاً: الحذر من مسلك علماء السوء بلعوم بن باعوراء وأمثاله

العلماء صنفان لا ثالث لهما، علماء الآخرة وعلماء السوء، فمن لم يكن من علماء الآخرة فهو من علماء السوء المفتونين بالدنيا وزخارفها، الغافلين عن الآخرة ونعيمها.

يمثل علماء السوء أصدق تمثيل كثير من أحبار اليهود، ولهذا قال ربنا محذراً من مسلكهم ومخوفاً من طريقتهم: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله".

وقد صاغ هذا المعنى شعراً العالم المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله قائلاً:

رأيتُ الذنوب تميت القلوبَ               ويورث الذلَّ إدمانُهـا

وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ                وخيرٌ لنفسك عصيانُها

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكَ               وأحبارُ سوء ورهبانُها

ففساد الدين بفساد هذه الطوائف الثلاثة: حكام ظلمة، وعلماء سوء فجرة، وعباد مبتدعة جهلة، وصلاح الدين والدنيا بصلاحهم.

ولهذا قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا فيه شبه باليهود، ومن ضل من عبادنا فيه شبه بالنصارى.

من أعظم المصائب وأكبر الخسائر الحور بعد الكور، والضلال بعد الهدى، وأفدح من هذا جميعاً الضلال على علم ومعرفة، كضلال إبليس من شياطين الجن، وضلال بلعوم بن باعوراء من شياطين الإنس، ومن لف لفهما وسلك سبيلهما.

لقد ضرب الله مثلاً للضلال بعد الهدى، وعلى علم تنفر منه النفوس الأبية، وتستقذره الطباع السوية، حيث قـال عن هذا الشقي التعيس، سـواء كانت هذه الآيـات نزلت في "بلعـوم بن باعوراء"، أو"أمية بن أبي الصلت"، أو"صيفي بن الراهب"، أوغيرهم، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:

"واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أوتتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون".

قال العلامة ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذه الآيات في كتابه "الفوائد": (فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.

وتأمل ما تضمنته الآية من ذمه، وذلك من وجوه:

أحدها: أنه ضل بعد علم، واختار الكفر على الإيمان عمداً لا جهلاً.

وثانيها: أنه فارق الإيمان مفارقة من لا يعود إليه أبداً، فإنه انسلخ من الآيات بالجملة، كما تنسلخ الحية من قشرها، ولو بقي معه منها شيء لم ينسلخ منها.

وثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه، ولهذا قال: "فأتبعه الشيطان"، ولم يقل "اتبعه"، فإن معنى "أتبعه" أدركه ولحقه، وهو أبلغ من تبعه لفظاً ومعنى.

ورابعها: أنه غوى بعد الرشد، وألغى الضلال في العلم والقصد، وهو أخص بفساد القصد والعمل، كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإن اقترنا فالفرق ما ذكر.

وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه، لأنه لم يرفع به فصار وبالاً عليه، فلو لم يكن عالماً كان خيراً له، وأخف لعذابه.

وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته، وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى.

وسابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس، ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض، وميل بكليته إلى ما هناك، وأصل الإخلاد اللزوم على الدوام، كأنه قبل لزم الميل إلى الأرض، ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به.

وثامنها: أنه رغب عن هداه، واتبع هواه، فجعل هواه إماماً له يقتدي به ويتبعه.

وتاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة، وأسقطها نفساً، وأبخلها، وأشدها كَلَباً، ولهذا سمي كلباً.

عاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها، وجزعه لفقدها، وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد، وهكذا هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا، وإن وعظ وزجر فهو كذلك، فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب.

قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أوعطش، إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الري وحال العطش، فضربه الله مثلاً لهذا الكافر فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث، وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك أخس ما يكون وأشنعه).

السبب الذي من أجله سلب هذا الشقي هذه النعم العظيمة والآيات الكريمة هو إيثاره للفانية على الباقية، وحبه للدنيا ولذاتها، وتفضيله إياها على الآخرة.

قال مالك بن دينار عن بلعام هذا: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام).

فحب الدنيا والركون إليها رأس كل خطيئة، وسبب كل فتنة، ولهذا ركلها الأنبياء، والمرسلون، والصحابة، والتابعون، والسلف الصالحون، لعلمهم أن ما عند الله خير وأبقى، (وأنها دار نفاد، لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومَشْرع انفصام لا موطن دوام، وما مثلها إلا كما قال ربنا: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أونهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون").

فاجتهد أخي الحبيب أن تكون من علماء الآخرة العقلاء، واحذر سفاهة السفهاء وخفة عقول أهل الدنيا البلهاء، ولقد أحسن من قال وصدق وأجاد:

إن لله عباداً فطنـــاً              طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا              أنهــا ليست لحي وطناً

جعلوها لجة واتخـذوا             صالح الأعمال فيها  سفناً

أسباب الفساد لا تخرج من أمرين هما:

1.  حب الشهوات.

2.  أوتزيين الشبهات.

وهما جماع أمراض القلوب المعنوية.

فحب الزعامة والرياسة والتصدر والقيادة لا يقل خطراً من حب الشهوات، فكل ذلك من نزعات الشيطان.

فبعض الناس ليس له كبير غرض في شهوات البطن والفرج، ولكن هدفه الأول أن يكون القائد الأوحد والموجه الفرد.

ومنهم من جمع بين السوأتين، وحاز الرذيلتين، فأحتوشته الشبهات، وملكته الشهوات، فيوجه نعم الله العظام وآلائه الكرام التي أنعم الله بها عليه، واختبره وامتحنه بها، من النعم الحسية كالمال، والوظيفة، والمنزلة، والنعم الوهبية، كزلاقة اللسان، وتوقد الذهن، وملكة الحفظ والفهم، لتحقيق مآربه الخاصة، وحاجاته الآنية الفانية، ولهذا تجده:

ضعيف الشخصية.

باهت الهوية.

يدعو الناس إلى الإسلام بأقواله ويصدهم عنه بسلوكه وأفعاله.

يلبس لكل زمان لبوسه.

مرضه ليس له دواء، وفتنته ليس منها شفاء.

يتقلب تقلب المرجل، ويروغ روغان الثعلب.

ينافق السلطان ويخدع ويلبس على الدهماء والعوام.

يتلاعب بالألفاظ ويتفنن في سرد الشبه، وتعداد الرخص والزلات والهفوات.

ما أكثر "بلاعيم" آخر الزمان المفتونين.

روى الحافظ أبو يعلى عن جندب البجلي: أن حذيفة بن اليمان حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان ردْء الإسلام اعتره إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك؛ قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك، المرميّ أم الرامي؟ قال: بل الرامي".

خامساً: الخوف والحذر من الابتلاء

يحذر بعض أهل العلم ويخاف من الابتلاء، ويظن أن هذا الحذر والحيطة تحولان بينه وبين الابتلاء والاختبار، ومعلوم أن الحذر لا يغني من القدر، وقد يؤتى الحذر من مأمنه.

لقد أرشدنا رسولنا لسؤال العافية وحذر من تمني لقاء العدو، فقال: "سلوا الله العافية، ولا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموه فاثبتوا".

اعلم أخي الكريم أن البلاء موكل بالمنطق، فقد روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال وهو زاحف على قتال مسيلمة الكذاب: فما بنو حنيفة؟ وعندما التقى المسلمون بهم هزموا مرتين، بسبب فرار الأعراب، فغير خالد خطته العسكرية، فجعل الأعراب في المقدمة، والمهاجرين والأنصار في المؤخرة لعلمه أنهم لا يفرون من الزحف، فكتب لهم النصر؛ فقال: لقد خضت عشرين زحفاً، فلم أر مثل بني حنيفة؛ أوكما قال.

مع تمنيهم وسعيهم التمكين في الأرض، والتمكين مربوط بالابتلاء.

سأل رجل الإمام الشافعي رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل، أن يُمكَّن أويبتلى؟ فقال: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة.

وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد كما قال ابن القيم، مع تفاوت في الدرجات.

هذه هي سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، والصبر هو الابتلاء.

والابتلاء ليس بالضرورة دائماً أن يكون بالضراء، فقد يبتلى المؤمن ويختبر بالسراء.

قال تعالى: "ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".

وقال: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب".

وقال: "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون".

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن سعداً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد عليه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ماله خطيئة".

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر أذى".

وقال مالك لما ضرب: "لا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر".

لهذا لا تكاد تجد ترجمة أحد من علماء السلف تخلو من نبذة عن محنته والفتنة التي أصابته، بدءاً بالرسول الكريم، ومروراً بالصحابة، وانتهاءً بالسلف والخلف من أتباع الرسل وورثة الأنبياء.

معظم الفتن وأخطر المحن التي حلت بعلماء وفقهاء أهل السنة كانت صادرة من أهل الأهواء من معتزلة ورافضة، نحو فتنة خلق القرآن التي تولى كبرها أئمة الاعتزال، وفتنة التمكين للتتار من دخول بغداد بتدبير الخبيثين ابن العلقمي والوزير الطوسي الرافِضِيَّيْن، التي راح ضحيتها الجلة من العلماء، والفقهاء، والقراء، والعباد.

وفتنة أبي طاهر القرمطي في 317هـ، في يوم التروية.

وفتنة العبيديين المارقين في شمال إفريقيا.

والفتنة التي حلت بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه نتيجة الحسد، والتقليد، والتعصب المقيت.

هذه مجرد أمثلة للفتن العظام والكوارث الطوام التي حلت بأهل الإسلام، ولا تزال الفتن تترى، ويتولى كبرها المبتدعة والمنافقون، تنفيذاً لمخططات أعداء الملة والدين.

قوله تعالى: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"، قضى بالفتنة على كل إنسان، مسلماً كان أم كافراً، عالماً كان أم جاهلاً، حاكماً كان أم محكوماً، والفتن منها ما هو خاص وعام، ومنها ما هو صغير وكبير.

ورد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس وغيره وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: (يريد بالناس قوماً من المؤمنين، كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، كسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وياسر أبوه، وسمية أمه، وعدة من بني مخزوم وغيرهم، فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين، قال مجاهد: نزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده، اختباراً للمؤمنين وفتنة، قال ابن عطية: هذه الآية، وإن كانت نزلت بهذا السبب، أوما في معناه من الأقوال، فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضاً كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن، ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر.

قلت: ما أحسن ما قاله، ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه).

إذا لم يسلم من الابتلاء الأنبياء وأتباعهم الماضين لرفع درجاتهم ولإعلاء شأنهم، فهل يسلم من ذلك اتباعهم اللاحقين:

فإبراهيم عليه السلام ألقي في النار.

وزكريا ويحيى عليهما السلام قتلا.

ويوسف استرق واستعبد وألقي في السجن.

ويونس التقمه الحوت.

محاولة قتل عيسى عليه السلام.

اتهام مريم عليها السلام بالفاحشة.

ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سمي وأوذي وحاولوا قتله، وكان يقاسي من المرض والفقر والجوع ما الله به عليم.

خرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعَك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك؟ قال: "إنا كذلك يُضعَّف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر"، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء"، قلت: ثم من؟ قال: "الصالحون، أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء".

أما أتباع الأنبياء الماضين واللاحقين فيمثل ذلك:

  ما أصاب سحرة فرعون لما آمنوا بموسى وهارون عليهما السلام، حيث قتلوا وصلبوا، وقالوا مخاطبين الطاغية: "فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا".

ما أصاب أصحاب الأخدود.

وصح في البخاري عن خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه من عظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

رمي عائشة بالبهتان العظيم والإفك المبين.

قتل عمر، وعثمان، وعلي، والحسين رضي الله عنهم.

قتل وتعذيب السابقين الأولين من المهاجرين.

مما يدل على أن الفتن منها خاص وعام، وصغير وكبير، ما خرجه البخاري في صحيحه بسنده إلى شقيق قال: سمعت حذيفة يقول: "بينا نحن جلوس عند عمر، إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله, وماله, وولده, وجاره, يكفرها الصلاة, والصدقة, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر؛ قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر؛ فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً؛ قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا، بل يكسر؛ قال عمر: إذاً لا يغلق أبداً؛ قلتك أجل".

قلت لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: "نعم، كما يعلم أن دون غدٍ ليلة، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط"، فهبنا أن نسأله من الباب؟ فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: من الباب؟ قال: "عمر".

تذكر أخي أن ادعاء خوف الفتنة والحذر منها قد يوقع فيما هو أشد، كما قال الله على لسان المنافق الجد بن قيس: "لا تفتني"، معقباً: "ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين".

سادساً: الحذر والخوف على الإسلام وأهله!!

يبرر البعض لبعض مواقفه وتنازلاته ومداراته أن الغرض منها والهدف من ورائها المحافظة على الإسلام وأهله، وحماية لشباب الدعوة حتى لا يُقضى عليهم، وهذا الوهم قد يصدر من بعض الصادقين، كما صدر من بعض الصحابة عندما عزم أبو بكر رضي الله عنه على حرب المرتدين، وإمضاء إمرة أسامة بن زيد للجيش، ولكن مقابلة هذا الوهم بصدق عزيمة أبي بكر وتصميمه سرعان ما ردهم إلى رشدهم، وأقنعهم وشرح صدورهم لِمَا شرح له صدر أبي بكر رضي الله عنه.

وقد يصدر من غيرهم، والله يعلم المصلح من المفسد، الذين يعنينا أمرهم هم المصلحون الصادقون، فنقول لهم كما قال مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، ونذكرهم بعد بقول عبد المطلب وهو مشرك الذي خاطب به أبرهة عندما جاء لهدم الكعبة، فسأله أن يطلق له إبله التي احتجزها، أما عن البيت فقال: "إن للبيت رباً يحميه".

ومن العجيب الغريب أن يفطن عبد المطلب لذلك وهو مشرك، وتغيب هذه الحقيقة عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بله عن بعض حملة العلم منهم، فالإسلام محفوظ بحفظ الله له، وبوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

لا أبلغ في الرد على هذه الشبهة والوهم إلا صنيع السابقين الأولين من مهاجرة الحبشة وغيرهم من قبل، وفي المواقف الفاصلة التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمواجهات الصريحة من المستضعفين التي كان لها الفضل بعد الله عز وجل في التمكين لهذا الدين.

لا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أنه أكثر رحمة وحرصاً على هذا الدين وأتباعه من رب الخلق، ورسول رب العالمين، والصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

لقد أمر الله رسوله أن يصدع بالحق، فقال: "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".

ولله در أبي ذر عندما صرخ بكلمة التوحيد وهو غريب وحيد وسط أئمة الكفر والضلال وكرر ذلك.

إذا سلك البعض مبدأ التنازل الذي نهايته الانسلاخ عن دين الله عز وجل كما قرر ذلك الرب سبحانه وتعالى: "ولن ترضىعنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، فعلى أي شيء يحافظون؟! على غثاء السيل الذين لا يأبه بهم ربهم سبحانه وتعالى بعد أن فقدوا أضعف الإيمان وصاروا أضل من الأنعام؟!

احذروا أيها الأحبة أن يكون الكافرون والمنافقون أكثر منكم جلداً وصبراً وثباتاً على باطلهم فتكونوا من الصنف الذين شكا منهم عمر إلى ربه: "اللهم أشكو إليك ضعف التقي وجلد المنافق أوالفاجر".

فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، كما صح بذلك الخبر.

هذا التفكير من وساوس الشيطان، وخطرات عدو الرحمن، الذي لم يخف عداوته ويحبسها عن أحد من الإنس والجان.

التقية عند أهل السنة تستعمل عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ورحم الله الشيخ أحمد محمد شاكر حين قال معلقاً على ما قاله أحد الذين كانوا حُبسوا مع أحمد في فتنة خلق القرآن فيما يحكيه عنه ابنه صالح كما ذكر الذهبي في ترجمة أحمد: (يا ابن أخي، رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله، أنت صائم، وأنت في موضع تقية؛ فقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولني؛ فناوله قدحاً فيه ماء وثلج، ونظر إليه هُنَيَّة، ثم رده ولم يشرب، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما فيه من الهول.

التقية إنما تجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، هؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة، أما أولو العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة، لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية.

وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعاً، أوخافوا منه ضراً، في الحقير والجليل من أمر الدنيا، وكل أمر الدنيا حقير، فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى، ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين فيما كتب إلى أبي رحمه الله من خطاب سياسي عظيم في جمادى الأولى 1337هـ قال: كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: "إلا أن تتقوا منهم تقاة"، ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري وقد فهموا منها ما فهموا كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال؟! وكيف يفهمون تعرضه صلى الله عليه وسلم لصنوف البلاء والإيذاء، ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله).

يقابل هذه المواقف الضعيفة والشبه الرخيصة مواقف صلابة وعزة وكرامة كثيرة، ولكن نكتفي بموقف واحد لأحد العلماء مع أئمة الضلال من الرافضة العبيديين، حتى يتضح الفرق بين المنهجين، منهج السلف الراسخ، ومنهج بعض الخلف المتحلل، وبضدها تتميز الأشياء.

قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي بكر النابلسي: (قال أبو ذر الحافظ: سجنه بنو عبيد، وصلبوه على السنة، سمعت الدارقطني يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يسلخ: "كان ذلك في الكتاب مسطوراً"، قال أبو الفرج بن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً، وفينا تسعة؛ قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الألوهية؛ فشهره ثم ضربه، ثم أمر يهودياً فسلخه، وقال ابن الأكفاني: سلخ وحشي تبناً، وصلب؛ وقيل: سلخ من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله، ويصبر حتى بلغ الصدر، فرحمه السلاخ، فوكزه بالسكين موضع قلبه، فقضى عليه، وقيل: لما سلخ كان يسمع من جسده قراءة القرآن).

سابعاً: الحذر من كلمة الحق التي يراد بها باطل

مما ينبغي لطلاب العلم والعلماء أن يحذروه ولا يتعاطوه أبداً بعض كلمات الحق التي يستدل بها في غير موضعها، أوالتي يراد بها باطلاً، نحو رفعهم بعض الآيات والأحاديث في وجوه المعترضين عليهم، كقوله:

   "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين".

"وإن جنحوا للسلم فاجنح لها".

ونحو استدلالهم بما جرى في صلح الحديبية وهو حق، وإنزاله على اتفاقيات الاستسلام التي فرضها اليهود والأمريكان على بعض الحكام، جهلاً أوتدليساً وتلبيساً على العوام، وتبريراً لممارستهم لتلك الخيانات العظام، متوهمين أن ذلك يطيل من بقائهم كحكام، ونسوا أوتناسوا أن الحكم بيد الله يهبه لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء.

ونحو زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لجاره اليهودي، ولتعامله التجاري مع بعضهم.

ونحو الاتكاء على "صحيفة المدينة"، مع تشكيك بعض المحققين في صحتها، ولو فرضنا جدلاً صحتها، فقد نسخت بآيات القتال وبالمفاصلة بين الرسول واليهود، حيث أمر بالتقرب إلى الله بمخالفتهم، ونهي وحذر من التشبه بهم في أي شأن من الشؤون صغيرة كانت أم كبيرة.

ومنهم من يتوهم أن ذلك يدفع عنهم وعن الإسلام شر الأشرار وطمع الكفار، وقد دلت التجارب أن هذا التنازل وتلك الاستكانة أطمعت فيهم الكفار وجرأتهم عليهم أكثر مما كان.

نحو الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار، وإنشاء جمعيات لرعاية هذا العمل البطال.

ونحو عقد مؤتمرات توحيد الأديان والتقريب بينها وما إلى ذلك من الدعوات الكفرية.

ترتب على هذا الاستدلال الخاطي والقياس الفاسد، مخالفات كثيرة، نحو تهنئة الكفار بأعيادهم ومشاركتهم فيها، والإهداء إليهم وقبول هداياهم، واتخاذ هذه الأعياد عطلاً رسمية، وكل هذا وغيره كثير مناقض لعقيدة الولاء والبراء، إذ لا دين عند الله سوى الإسلام، فالنصرانية مثلاً باطلها أكثر من حقها بسبب عبث العابثين، والقليل الذي نجا من التحريف نسخ بشرع المبعوث رحمة للعالمين، وأما انسلاخ اليهود عما جاءهم به موسى فلا يحتاج إلى دليل وبرهان، وقد نطق بذلك القرآن.

ومن ذلك تحرج البعض من إطلاق كلمة الكفر على اليهود والنصارى أوشكهم في ذلك، وهذا أيضاً من نواقض الإسلام، فمن شك في كفر اليهود والنصارى مثلاً، أوصحح عقائدهم فقد كفر بما أنزل على محمد، نحو قوله:

"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة".

"لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم".

"لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ما يسمع بي من يهودي ولا نصراني ثم لا يتبعني إلا أكبه الله في النار".

ثامناً: الحذر أن تجعلوا بينكم وبين شباب الدعوة حاجزاً

من الآثار السيئة والنتائج الخطيرة التي تمخضت من هيمنة الكفار على العالم الإسلامي وغزوه لدياره، وإقامة القواعد العسكرية في دياره بدءاً بحرب الخليج الأولى وانتهاء بالحرب الصليبية التي تشنها أمريكا على الإسلام بغزو دوله، دولة دولة، غزواً عسكرياً كالذي حدث لأفغانستان والعراق، أوسياسياً واقتصادياً كالذي تمارسه أمريكا وحلفاؤها في هذه الأيام، حيث تمهد لهم الأمر ووجدوه أسهل بكثير عما كانوا يظنوه، فقد حققوا كثيراً من أغراضهم ونالوا جل أطماعهم باستعمال العملاء وبث الخونة والمرتزقة من صنائعهم، ليقوموا بحكم ديار الإسلام نيابة عنهم، خاضعين لتوجيهاتهم، منفذين لسياساتهم.

أخطر تلك الآثار وكلها خطرة الجفوة التي حدثت بين بعض شباب الدعوة وبعض المشايخ، وانعدام الثقة وسوء الظن الذي حل محل حسن الظن والثقة المتبادلة.

ليس مهماً إلقاء اللوم على أحد هذين الجانبين وتحديد من المخطئ، ولكن المطلوب هو إعادة هذه الثقة مرة ثانية، ومد الجسور بين هاتين الطائفتين المكملتين لبعضهما البعض.

ينبغي للعلماء وطلاب العلم أن يقوموا بهذا الدور ويعملوا على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وإظهار النوايا الحسنة حتى تعود المياه لمجاريها.

وكما أن العلماء مطالبون بذلك، فمن باب أولى وبالأحرى مطالبة ولاة الأمر من الحكام بذلك، كيف لا يطالبون فقد مدوا الجسور بينهم وبين الكفار والمنافقين، وكان الأولى أن يبدأوا بإخوة العقيدة ورفقهاء الدرب للأخوة الإيمانية؟ وليكن لولاة الأمر من العلماء والحكام المسلمين القدوة الحسنة في هذا في أئمة السلف الصالح أمثال علي، وابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، الذين ناظروا الخوارج، وصبروا عليهم، وأحسنوا بهم الظن، وليس هناك من علاقة بين أولئك الخوارج وبين شباب الدعوة اليوم، فالجلوس مع هؤلاء الشباب والصبر على ما يصدر منهم، وتحملهم، ومد جسور التواصل معهم واجب ديني، ومطلب شرعي يحتمه علين ديننا الحنيف، لمصلحة الإسلام، ولمصلحة هؤلاء الشباب، لأن تجاهلهم ومواجهتهم بالعنف مهما صدر منهم لا يأتي بخير.

لم يصب أحد من الحكام ما أصاب أمير المؤمنين علياً من الخوارج، ومع ذلك كان من أرفق الخلق بهم، ومن أنصف الناس لهم، وأعدلهم فيهم رأياً، على الرغم من أن مسلكهم وتصرفهم تجاهه كان لئيماً، ومع أنه كان يملك الدليل القاطع والبرهان الساطع على ضلالهم، ولم يقاتلهم هو في النهروان ولا أحد من ولاة أمر المسلمين من بعده إلا مضطرين، بعد أن ضاقت بهم الحيل، وتقطعت بهم الأسباب.

ومما تجدر الإشارة إليه ويجب التنبيه عليه في هذا الجانب ما يأتي:

1.  عدم الأخذ بالظنة.

2.  عدم الأخذ بالوشايات والبلاغات الكاذبة.

3. عدم اتخاذ المستشارين الخونة الذين لا يدلون على خير ولا يعينون عليه، بل هدفهم إبعاد الشقة وتأجيج الفتنة بين الحكام وهؤلاء الشباب.

ولله در عمر، على الرغم من حدة فراسته وصدق نبوءته لم يأخـذ بالظن عندمـا هدده المجوسي أبو لؤلؤة، وقد خسر العالم بمقتل عمر خسراناً مبيناً، ولكنه ربح ربحاً عظيماً بعدم أخذ عمر بالظن الذي هو أشبه باليقين، فكيف يجوز الأخذ بالظنون الكاذبة، والأوهام الفاسدة، والتقارير المغشوشة، والوشايات المدسوسة؟

اعلموا أيها الحكام أن المسلم لا يزال في فسحة من أمره ما لم يرق دماً حراماً، كما أخبر الصادق المصدوق، وخير لك أن تكون مظلوماً من أن تكون ظالماً، وتذكر أن الظلم ظلمات يوم القيامة، ولك في الحبس والاعتقال، وهو لا يحل إلا ببينة، مندوحة عن قتل أخيك المسلم، وتذكر أن كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله، وتذكر أيها الجاسوس أن الجنة لا يدخلها قتات، واحذر أن تفدي نفسك بنفس أخيك المسلم.

عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أوكدت أن تفسدهم".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراًً؛ فقال: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به".

مما يدل على وجوب الجلوس مع هؤلاء الشباب ومناقشتهم وتفهم تصوراتهم أنهم من أهل السنة والجماعة، وحق السني على السني أوجب من حق غيره من أهل القبلة.

قد يبدو في البداية صعوبة هذا الأمر، ولكن إذا صدقت النية، ووضح الهدف، وبان الغرض، يسر الله له الأسباب: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب"، فقط الأمر يحتاج إلى:

1.  صدق نية.

2.  وشجاعة.

3.  وتجرد وصراحة.

4.  وصبر ومصابرة.

فإذا توفرت هذه المعينات تحقق هذا الأمر.

نماذج من مناظرات سلف هذه الأمة للخوارج، ونصحهم لهم، وصبرهم عليهم

1. مناظرة ابن عباس لهم

روى ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما اجتمعت الحرورية يخرجون على عليّ، جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك؛ قال: دعهم حتى يخرجوا؛ فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة، فلا تفتني حتى آتي القوم؛ قال: فدخلت عليهم، وهم قائلون، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن الإبل، عليهم قمص مرحضة، فقالوا: ما جاء بك، يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ قلت: ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية؛ قال: ثم قرأت هذه الآية: "قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"؛ قالوا: ما جاء بك؟ قال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم؛ فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً، فإن الله يقول: "بل هم قوم خَصِمون"، فقال بعضهم: بلى! فلنكلمنه؛ قال: فكلمني منهم رجلان أوثلاثة؛ قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثاً؛ فقلت: ما هن؟ قالوا: حَكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله تعالى: "إن الحكم إلا لله"؛ قال: هذه واحدة، وماذا أيضاً؟ قالوا: فإنه قاتل فلم يسبِ، ولم يغنم، فإن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، ولئن كانوا كافرين لقد حلَّ قتالهم وسبيهم؛ قال: قلت: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين؛ قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا، أترجعون؟ قالوا: ومالنا لا نرجع؟ قال: قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم"، وقال في المرأة وزوجها: "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها"، فصيَّر الله ذلك إلى حكم الرجال، فناشدتكم الله! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل، أوفي دم أرنب ثمنه ربع درهم؟ وفي بُضْع امرأة؟ قالوا: بلى! هذا أفضل؛ قال: أخرجتم من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ قالوا: بلى!

قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب يا علي، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله؛ فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك؛ قال رسـول الله: اللهم إنك تعلم أني رسـولك، يا علي، اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبوسفيان وسهيل بن عمرو؛ قال: فرجع منهم ألفان، وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون".

انظر إلى بركة هذه المحاورة وفائدتها وسرعة نتائجها، رجوع ألفين منهم إلى حظيرة الجماعة، فهل بعد ذلك ييأس أحد من محاورة أولئك الشباب الذين ليس بينهم وبين الخوارج شبه؟

2.    مناظرة ابن الزبير رضي الله عنهما للخوارج

لقد ناظر ابن الزبير الخوارج وصبر على جفائهم وغلظتهم وقولهم السوء في عثمان، وذلك عندما ولي على الحجاز وجاءت طائفة منهم فسألوه عن عثمان رضي الله عنه، فقال راداً على قائلهم افتراءه عليه بعد حمد الله والثناء عليه: (أما بعد، فقد فهمتُ الذي ذكرتم، وذكرتَ به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كما قلت، وفوق ما وصفته، وفهمتُ ما ذكرتَ به أبا بكر وعمر، وقد وفقتَ وأصبتَ، وقد فهمتُ الذي ذكرتَ به عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنتُ معه حيث نقم القوم عليه واستعتبوه، فلم يدع شيئاً استعتبه القوم فيه إلا أعتبهم منه، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه فيهم، يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم؛ فوالله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه، ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني ولي لابن عفان في الدنيا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه؛ فقالوا: فبرئ الله منك يا عدو الله؛ قال: فبرئ الله منكم أعداء الله).

أفادتنا محاورة ابن الزبير وسماعه إلى ما قاله ذلك الخارجي، ومحاورة كذلك الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه لأولئك الذين خرجوا عليه واجتمعوا حوله وحصروه من شذاذ الآفاق، وعندما طالبهم بالبينة أوأن يحلف لهم أبوا عليه ذلك؛ وموقف ابن الزبير هذا يدل على شجاعته وثباته على الحق، حيث لم يداهنهم ولم يجاملهم، وكان في حاجة إلى أن يقفوا إلى صفه ويقاتلوا معه، ولكن لم يأبه بذلك أبداً، وتولى عثمان وأولياء عثمان، وتبرأ من هذه الطائفة الجائرة الظالمة بعد أن أقام عليهم الحجة، ولكنهم حادوا عنها وحملهم الغرور والهوى على عدم الرجوع إلى الحق.

3.    محاورة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز للخوارج

كان عمر بن عبد العزيز يسير بسيرة الخلفاء الراشدين في الأمة، ويهتدي بهديهم، من ذلك أمره أحد عماله أن يرسل إليه طائفة منهم بالبريد، ويؤمنهم حتى يسمع مقالتهم ويرد عليهم.

قال الحافظ ابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز له: (حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال: حدثني أبي عن جدي قال: بلغني أن ناساً من الحرورية اجتمعوا بناحية الموصل، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أعلمه بذلك، فكتب إليَّ يأمرني: أن أرسل إليَّ منهم رجالاً من أهل الجدل، وأعطهم رهناً، وخذ منهم رهناً، واحملهم على مراكب البريد إليَّ؛ ففعلت ذلك، فقدموا عليه فلم يدع لهم حجة إلا كسرها، فقالوا: لسنا نجيبك حتى تكفنا أهل بيتك، وتلعنهم، وتتبرأ منهم؛ فقال عمر: إن الله لم يجعلني لعاناً، ولكن إن أبقى أنا وأنتم فسوف أحملكم وإياهم على المحجة البيضاء؛ فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فقال لهم عمر: إنه لا يسعكم في دينكم إلا الصدق، منذ كم دنتم الله بهذا الدين؟ قالوا: منذ كذا وكذا سنة؛ قال: فهل لعنتم فرعون وتبرأتم منه؟ قالوا: لا؛ قال: وكيف وسعكم تركه، ألا يسعني ترك أهل بيتي، وقد يكون فيهم المحسن والمسيء، والمصيب والمخطئ؟ قالوا: قد بلغنا ما هاهنا.

فكتب إليَّ عمر: أن خذ من في أيديهم من رهنك، ودع من في يدك من رهنهم؛ وإن كان رأي القوم أن يسيحوا في البلاد على غير فساد على أهل الذمة، ولا تناول أحد من الأمة، فليذهبوا حيث شاءوا، وإن هم تناولوا أحداً من المسلمين وأهل الذمة فحاكمهم إلى الله؛ وكتب إليهم:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى العصابة الذين خرجوا، أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الله يقول: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إلى قوله بالمهتدين"، وإني أذكركم الله أن تفعلوا كفعل كبرائكم: "الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعلمون محيط"، أفبذنبي تخرجون عن دينكم، وتسفكون الدماء، وتنهكون المحارم، ولو كانت ذنوب أبي بكر وعمر مخرجة رعيتهما من دينهم كانت لهما ذنوب، فقد كانت آباؤكم في جماعتهم فلم ينزعوا، فما ينزعكم على المسلمين وأنتم بضعة وأربعين رجلاً، وإني أقسم لكم بالله لو كنتم أبكاري من ولدي فوليتم عما أدعوكم إليه من الحق لدفقت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة، فهذا النصح، فإن استغششتموني فقديماً استغش الناصحون".

فأبوا إلا القتال، وحلقوا رؤوسهم، وساروا إلى يحيى بن يحيى، فأتاهم كتاب عمر ويحيى بن يحيى مواقعهم للقتال:

"من عبد الله عمر إلى أمير المؤمنين يحيى بن يحيى، أما بعد، فإني ذكرت آية في كتاب الله: "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، وإن من العدوان قتل النساء والصبيان، فلا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا تقتلن أسيراً، ولا تطلبن هارباً، ولا تجهزن على جريح إن شاء الله").

انظر إلى هذا العدل، والإنصاف، والصبر، والحرص على هداية الناس وحقن دمائهم.

وما وصى به عمر قائده يحيى يوضح الفروق بين قتال الكفار والمرتدين من ناحية وقتال الخوارج المتأولين من ناحية أخرى، حيث:

1. لا تسبى نساؤهم.

2.  ولا يقتل أسيرهم.

3   ولا يجهز على جريحهم.

4   ولا يتبع فارهم.

5   ولا يقاتلوا إلا إذا بدأوا بالقتال، وبعد إسداء النصح لهم ومحاولة ردهم عن غيهم.

أين نحن الآن من هذا المسلك مع فئة الشباب؟ وما هو دور العلماء في ذلك؟ وما هي المجهودات التي بذلت لمد الجسور بينهم وبين الحكام؟ وأين الجهود المخلصة للخروج من هذه الفتن المظلمة، وحقن الدماء المسلمة التي تراق؟

أرجو من أهل العلم في البلاد أن يسعوا للصلح بين المتنازعين، وأن يؤدوا واجب الأخوة الإيمانية، وأن يتسلحوا بالصبر والحكمة والرفق.

فالشباب الملتزم هم عدة هذا الدين، والتفريط فيهم وإهمالهم وجعل حواجز بينهم خطأ جسيم.

ومن عجيب أمر طائفة من المسلمين أنهم يسعون سعياً حثيثاً للجمع بين المتناقضات، نحو التقارب بين السنة والشيعة، والتأليف بين المؤمنين والكافرين، ويعقدون لذلك المؤتمرات، وينشئون الجمعيات، ويبذلون كثيراً من المجهودات، ويهملون شرائح من إخوانهم من شباب أهل السنة والجماعة.

فالشباب شيمته التمرد والنفرة، واستعجال النتائج، والحماس المتدفق.

من أخطر الأمور التي تحجز وتحول بين الشباب الملتزم وبين بعض الشيوخ ما يأتي:

1.  الاستعجال في إصدار الحكم عليهم.

2.  محاولة النيل منهم.

3.  عدم التقرب إليهم والاستماع إلى وجهات نظرهم.

4.  الاكتفاء بما يصدر من وسائل الإعلام عنهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "إذا جاءك رجل مفقوء العين وقال: فقأها فلان، فلا تصدقه حتى ترى الآخر فلعله مفقوء العينين"، أوكما قال.

وقد رأينا في المناظرات السابقة للخوارج أن الأئمة الذين ناظروهم لم يكتفوا بالسماع، وإنما ذهبوا إليهم، واجتمعوا بهم، واستمعوا إلى وجهات نظرهم، وفندوا حججهم، ودفعوا شبههم، ومع كل هذا لم يبدأوهم بالقتال، ولم يتبعوهم، حتى كانوا هم المبتدئين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

00000000000000000000000000

تنبيه الإخوان للبدع والمخالفات المصاحبة لختم القرآن

تمهيد

أشهر المخالفات المصاحبة لختم القرآن ودعائه

الأولى: الدعاء عند ختم القرآن داخل الصلاة

الثانية: تطويل دعاء ختم القرآن والسجع فيه

ما ألف في صيغ دعاء ختم القرآن

الثالثة: التكبير من آخر سورة الضحى إلى آخر الناس

الرابعة: قراءة الإخلاص والمعوذتين جماعياً وتكرارها ثلاثاً

الخامسة: وصل الختمة بأخرى بقراءة الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة

السادسة: التوسع في الدعوة لشهود ختم القرآن

السابعة: الاحتفاء بختم القرآن، والذبح، وإقامة الولائم لذلك

تمهيد

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسوله الذي تركنا على المحجة البيضاء والحنيفية السمحة لا يزيغ عنها إلا هالك، القائل: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"، ورضي الله عن سلمان بن الإسلام حين قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة وآداب قضاء الحاجة"، أوكما قال.

وبعد..

قبل الشروع في المطلوب أود التذكير بالآتي لأن الذكرى تنفع المؤمنين، فتنبه الغافلين وتعين الذاكرين:

أولاً: أنه لا يحل لأحد أن يعبد الله عز وجل إلا بما شرعه لنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مقتضى الشطر الثاني من كلمة التوحيد: "وأشهد أن محمداً رسول الله".

ثانياً: أن العبادات توقيفية لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، وهذا من المسلمات التي لا ينبغي لأحد أن يجادل فيها.

ثالثاً: لا يجوز العمل بالأحاديث الضعيفة لا في فضائل الأعمال ولا في غيرها في أرجح قولي العلماء، لأن في الصحيح غنى وكفاية عن الضعيف، دعك عن الموضوع.

وما روي عن الإمام أحمد أنه أجاز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال فمراده الحسن، لأن الأحاديث في وقته كانت مقسمة إلى صحيح وضعيف، وأول من قسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف هو الإمام الترمذي رحمه الله، وهو من تلاميذ تلاميذ الإمام أحمد.

والذين أجازوا العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمـال وهو قـول مرجوح كالنووي وابن الصلاح رحمهما الله فقد اشترطوا لذلك شروطاً وتحوطوا في ذلك.

قال الإمام النووي في الأذكار: (يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث والضعيف ما لم يكن موضوعاً).

قال ابن علان في شرحه الوجيز لكتاب الأذكار معلقاً على ما قاله النووي "ما لم يكن ضعيفاً": (وفي معناه شديد الضعف، فلا يجوز العمل بخبر من انفرد عن كذاب ومتهم، وبقي للعمل بالضعيف شرطان، أن يكون له أصل شاهد لذلك كاندراجه تحت عموم أوقاعدة كلية، ولا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط).

رابعاً: أفضل الذكر على الإطلاق قراءة القرآن داخل الصلاة، ثم قراءته خارج الصلاة، ثم الدعاء والاستغفار والصدقة ونحوها.

خامساً: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة من تعلم القرآن وعلمه، الحديث، ويتم ذلك في الخلاوي، والكتاتيب، وعن طريق جماعات تحفيظ القرآن، وعن طريق حلقات التلاوة في المساجد وغيرها، وقد تحفظ مالك رحمه الله لتقيده بالمأثور عن الوسيلة الأخيرة هذه.

قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: (قال مالك: كان سعيد بن أبي هند، ونافع مولى ابن عمر، وموسى بن ميسرة يجلسون بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ثم يتفرقون وما يكلم بعضهم بعضاً، انشغالاً بذكر الله تعالى.

ولم تكن القراءة في المسجد في المصحف من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج، وأكره أن يقرأ في المصحف في المسجد).

وأجازها العامة من أهل العلم بغرض التعليم والحث والحض على قراءة القرآن، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم.." الحديث وبغيره.

سادساً: اعلم أخي الكريم أن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: (وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية، لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء، لا يفرق بين ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسر أويتعذر إقامة الحجة عليه، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، وإنما هو من المقلدة الناقلين لكلام غيرهم، مثل المحدث عن غيره، والشاهد على غيره لا يكون حاكماً، والناقل المجرد يكون حاكياً لا مفتياً).

سابعاً: لا يصح شيء مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في فضل ختم القرآن، وكل ما ورد في ذلك إما أن يكون موضوعاً أوضعيفاً ضعفاً شديداً، نحو:

1. ما روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لصاحب القرآن عند كل ختمة دعوة مستجابة، وشجرة في الجنة لو أن غراباً طار من أصلها لم ينته إلى فرعها حتى يدركه الهرم"، قال عنه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزياداته برقم [1916]: موضوع؛ كما أورده ابن الجوزي في الموضوعات في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" ج1/ 108.

2. وفي رواية عن أنس يرفعه: "عند كل ختمة دعوة مستجابة"، قال عنه الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم [3823]: موضوع.

3. وعن ابن عباس يرفعه: "من قرأ القرآن حتى ختمه كانت له دعوة مستجابة، معجلة أومؤخرة"، وهو حديث واهٍ وعلته حفص بن عمر بن حكيم الملقب بالكفر كما جاء في "الميزان" ج1/563، و"لسان الميزان" ج2/325-326.

4. وعن جابر يرفعه: "إن لقارئ القرآن دعوة مستجابة، فإن شاء صاحبها تعجلها في الدنيا، وإن شاء أخرها إلى الآخرة"، وفيه مقاتل بن سليمان، كذبوه وهجروه.

5. وعن العرباض بن سارية يرفعه: "من ختم القرآن فله دعوة مستجابة"، رواه الطبراني في الكبير وهو ضعيف جداً.

ثامناً: وأخيراً اعلم أخي الكريم أن من وافق الدليل لم يخالفك كما قال أحد السلف: "ما خالفني من وافق الدليل"، ولله در الإمام الشافعي عندما قال: "إذا وجدتم الحديث في قارعة الطريق فهو مذهبي".

أشهر المخالفات المصاحبة لختم القرآن ودعائه

هنالك مخالفات عديدة تصاحب ختم البعض للقرآن الكريم، والدعاء عقبه، وسنشير في هذه العجالة إلى أهم تلك المخالفات وننبه عليها، عسى أن تجد قبولاً عند من يلتزمون بها أوببعضها، ليخلص عملهم من الابتداع، ويسلم من الانتقاص، حتى لا يكون عرضة للرد بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، مع يقيننا التام عدم تعمد أحد من المسلمين مخالفة السنة، وإنما يحدث هذا إما نتيجة جهل أوغفلة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً للاتباع، ويجنبنا الابتداع، فأقول:

الأولى: الدعاء عند ختم القرآن داخل الصلاة

من أولى المخالفات التي يقع فيها البعض، وأخطر المنهيات التي تصاحب ختم القرآن، الدعاء عقبه داخل الصلاة، سواء كانت صلاة مكتوبة أونافلة، وسواء كان ذلك في القنوت قبل أوبعد الركوع أوفي السجود، لا لإمام ولا منفرد، إذ ليس لذلك مستند في الشرع لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام، ولا عن أحد من الأئمة الأعلام، إلا ما روي عن أحمد أنه سهل فيه في دعاء الوتر خاصة قبل الركوع، وعلل أحمد ذلك بعمل مِصْرَين في عهده: مكة والبصرة.

يقول الشيخ بكر أبوزيد: (ليس هناك حرف واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أوعن أحد من صحابته رضي الله عنهم يفيد مشروعية الدعاء في الصلاة بعد الختم قبل الركوع أوبعده لإمام أومنفرد.

نهاية ما في الباب ما يذكره علماء المذهب - الحنبلي من الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية حنبل، والفضل، والحربي عنه والتي لم نقف على أسانيدها- من جعل دعاء الختم في صلاة التراويح قبل الركوع.

وفي رواية عنه لا يعرف مخرجها: أنه سهل فيه في دعاء الوتر.

وما جاء عن بعض أهل العلم من استحباب جعل القارئ ختمه في صلاة نفل أول الليل أوآخره، أي: في سُنة المغرب أوسُنة الفجر؛ وهذه مع جلالة القائلين بها لم يذكروا رحمهم الله تعالى ما يسند المشروعية من نص ثابت في سنده ودلالته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أوصحابته رضي الله عنهم.

إلى أن قال:

وهذا من العبادات الجهرية التي لو وقعت لنقل إلينا وقوعها واشتهر أمرها في كتب الرواية والأثر، بل في رواية حنبل لما قال لأحمد رحمه الله تعالى: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، دليل على أنه لو كان عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى سنة ماضية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أومتصلة العمل بعصر الصحابة رضي الله عنهم لاعتمدها في الدلالة، وهو رحمه الله تعالى من أرباب الإحاطة في الرواية، فلم يبق عنده إلا عمل المِصْرَين: مكة والبصرة، وكم لأهل كل مصر من عمل لم يتابعهم عليه أحد، مثل أهل مكة في عدة مسائل كما في أخبار مكة للفاكهي.

وعليه فلتعلم أن توارث العمل يكون في موطن الحجة حيث يتصل بعصر التشريع، كتوارث مقدار الصاع والمد النبوي وأعيان المشاعر ونحو ذلك، ويكون في موطن الحجة أيضاً عند جماعة من الفقهاء والأصوليين والمحدثين حيث تكون عَضَادته لحديث ضعيف تلقته الأمة بالقبول، لكن هنا لم يكن نقل لعمل متصل بعصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، ولا عاضد لحديث في الباب تلقته الأمة بالقبول ففات إذاً شرطه عند من قال به.

لهذا فإن مالكاً رحمه الله تعالى وهو عالم المدينة في زمانه كره الدعاء بعد الختم مطلقاً، وقال: ما هو من عمل الناس.

وظاهر من هذا أنه من العمل المتأخر عن عصر الصحابة رضي الله عنهم، والمتحرر عند علماء الأصول: أن جريان العمل فيما لا يتصل بعصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا يعتبر حجة في "التعبد" ولا يلتفت إليه لقاعدة "وقف العبادات على النص ومورده"، وظاهر كلمة الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه لم يكن محل اتفاق بعدهم رضي الله عنهم.

إلى أن قال:

والخلاصة أنه ليس من دليل لهذه الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى سوى عمل التابعين في مكة والبصرة، وأنه منقطع الاتصال بعصر الصحابة رضي الله عنهم، وأن التابعين اختلفوا، فقال مالك رحمه الله تعالى: ليس عليه عمل الناس؛ فآل الأمر إلى قاعدة العبادات من وقفها على النص ومورده، ولا نص هنا، فبقي الأمر على البراءة وعدم المشروعية والله أعلم).

وجاء في كلمة تقريظ لهذه الرسالة القيمة مرويات دعاء ختم القرآن لبكر أبوزيد في آخرها للعلامة الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله: (وما ذكره من أنه لا دليل على الدعاء عند ختم القرآن الكريم في الصلاة، فإن الأمر عندي كما قال).

لم يؤثر شيء عن أبي حنيفة والشافعي في دعاء ختم القرآن لا داخل الصلاة ولا خارجها.

وإذا كان عمل أهل مكة في عهد الإمام أحمد رحمه الله لم يكن حجة لعدم اتصاله بعمل الصحابة، فمن باب أولى وبالأحرى دعاء أهل الحرمين بعد ختم القرآن في صلاة القيام في هذا العصر، والله أعلم.

الثانية: تطويل دعاء ختم القرآن والسجع فيه

لا شك أن الدعاء عقب ختم كتاب الله عز وجل مرغوب فيه للفرد والجماعة، وهو من المواطن التي يستحب فيها الدعاء.

قال الإمام النووي رحمه الله: (ويستحب الدعاء عند الختم استحباباً متأكداً شديداً).

وجاء كذلك في "فتاوى قاضيخان" للأحناف: استحسان الدعاء عقب الختم، واستحب متأخرو المالكية كذلك استحباب الدعاء عند الختم كما في "التذكار" للقرطبي، وروي عن ابن القيم ما يدل على أن الدعاء عقب الختم من آكد مواطن الدعاء والإجابة.

هذا كله في مطلق الدعاء عقب الختم خارج الصلاة، مع العلم أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحبه الكرام صيغ معينة للدعاء، وإنما يدعو الفرد والجماعة لأنفسهم ولإخوانهم المسلمين بخيري الدنيا والآخرة بالأدعية المأثورة الجامعة وحسب ما يقتضيه حالهم ونوازلهم، متجنبين التطويل الممل، والسجع المتكلف، والخشوع المصطنع، وعدم التقيد بدعاء معين والتزامه في كل ختمة وإلزام المجتمعين به.

من أقوى الأدلة على مشروعية الدعاء عند ختم القرآن ما صح عن أنس رضي الله عنه أنه كان عند الختم يجمع أهله وولده لذلك في بيته.

أما مالك فقد كره ذلك.

قال ابن الحاج المالكي رحمه الله: (ومن المستخرجة عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو، قال: ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس.

ومن مختصر ما ليس في المختصر، قال مالك: لا بأس أن يجتمع القوم في القراءة عند من يقرئهم أويفتح على كل واحد منهم فيما يقرأ؛ وقال: ويكره الدعاء بعد فراغهم).

قال ابن الحاج معللاً لكراهة مالك للدعاء عقب الختم: (فإذا تقرر هذا من مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى فاعلم أن الكراهة المذكورة محمولة على الجهر ورفع الصوت في جماعة، وأما الدعاء في السر فهو جائز أومندوب بحسب الحال، وعلى هذا درج السلف والخلف.

وقال: وكان أبومحمد ابن أبي جمرة رحمه الله إذا ختم عنده في شهر رمضان في المسجد في جماعة لم يزد على ما يعهد منه خلف المكتوبة شيئاً، وكنا لا نعرف دعاءه بعد الصلاة إلا حين يرمق السماء بعينيه، وهذا ضد ما يفعلونه في هذا الزمان عقب الختم من قراءة القصائد، والكلام المسجع كأنه يشبه الغناء، لما فيه من التطريب والهنوك، وخلوه من الخشوع والتضرع والابتهال للمولى الكريم سبحانه وتعالى).

ما ألف في صيغ دعاء ختم القرآن

هنالك العديد من صيغ دعاء ختم القرآن منها ما أفرد بمؤلف خاص، ومنها ما ورد ضمن مؤلف عام، وقد بالغ البعض في ذلك حيث يوجد دعاء ختم مكوناً من ثمانين صفحة، أي ما يعادل قراءة خمسة أجزاء من القرآن الكريم؛ من تلك المؤلفات ما يأتي:

1. كتاب الخطب في ديوان ختم القرآن لإبراهيم بن محمد بن حيدر المولود 559ﻫ - انظر معجم الأدباء لياقوت الحموي ج2/ 15-16.

2. مُؤَلف يحوي أربعاً وعشرين ختمة، كما جاء في فهرس الآثار الخطية في المكتبة القادرية بقلم عماد عبد السلام طبع 1394ﻫ.

3. دعاء ختم القرآن للشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، وهو متضمن في كتابه "القنية لطالبي طريق الحق"، ويشغل ثماني صفحات مليء بالسجع منه: "وقلت يا أعز من قائل سبحانك فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، هو أحسن كتبك".

4.  ما ذكره النووي رحمه الله في كتاب "التبيان في آداب حملة القرآن".

5. الدعاء المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ولم تثبت نسبته إليه، قال الشيخ بكر أبوزيد: (ومن المؤلفات في صيغ دعاء القرآن الدعاء المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والذي استمر زماناً يطبع في أخريات المصاحف الشريفة، وهذا لم تثبت نسبته إليه ولا يعرف من نسبه إليه، ولعل حذفه من الطبعات الأخيرة للمصحف الشريف لذلك، أولهذا، ولعدم ترتيب دعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لختم القرآن، وتجريد لكتاب الله تعالى وكلامه مما ليس منه، هذا مع ما فيه من بعض الألفاظ هي محل نظر).

لا ينبغي أن يطبع مع المصحف شيء آخر مهما كان لا في الغلاف ولا قبله ولا بعده، نحو بعض أحكام التجويد، أوالقاعدة البغدادية، أودعاء ختم القرآن، ومن باب أولى وبالأحرى جدول الضرب، سواء كان المصحف كاملاً أم مجزءاً.

السنة أن يدعو كل إنسان لنفسه بحاجته سراً ولا يجهر بذلك وإن كانوا جماعة، وإن دعا شخص وأمن الحاضرون بغير دعاء راتب معين ولم يطل في الدعاء مرةً بعد مرة فلا بأس بذلك، والله أعلم.

قال ابن الحاج المالكي: (وينبغي أن يتجنب ما أحدثوه بعد الختم من الدعاء برفع الأصوات والزعقات، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: "ادعوا ربَّكم تضرعاً وخُفية"، وبعض هؤلاء يعرضون عن التضرع والخفية بالعياط والزعقات، وذلك مخالف للسنة المطهرة.

وقد سئل بعض السلف رضي الله عنهم عن الدعاء الذي يدعو به عند ختم القرآن، فقال: أستغفر الله من تلاوتي إياه سبعين مرة؛ وسئل غيره عن ذلك فقال: أسأل الله أن لا يمقتني على تلاوتي.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، يقول: ألا لعنة الله على الظالمين، وهو ظالم.

ولا يظن ظان أن الظلم إنما هو في الدماء، أوالأعراض، أوالأموال، بل هو عام، إذ قد يكون ظالماً لنفسه فيدخل في ذاك تحت الوعيد.

وبالجملة فالموضع موضع خشوع، وتضرع، وابتهال، ورجوع إلى المولى سبحانه وتعالى بالتوبة مما قارفه من الذنوب، والسهو، والغفلات.

إلى أن قال: وقال بعضهم: ادع الله بلسان الذل والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق.. ويجوز بالمسجد أي الدعاء عند الختم بشرط أن لا يكون الجهر والتطويل بالدعاء عادة).

الثالثة: التكبير من آخر سورة الضحى إلى آخر الناس، بل منهم من يزيد التسبيح، والتحميد، والتهليل، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم

من المخالفات التي تصاحب ختم القرآن التكبير للفرد والجماعة من آخر سورة الضحى إلى آخر سورة الناس، حيث لم يصح فيه إلا حديث ضعيف، وفي رواية واحدة وهي رواية البزي عن ابن كثير المكي، هذا على الرغم من استحباب بعض أهل العلم له.

قال ابن مفلح: (واستحب أحمد التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم، ذكره ابن ثميم وغيره، وهو قراءة أهل مكة أخذها البزي عن ابن كثير، وأخذها ابن كثير عن مجـاهد، وأخذها مجـاهد عن ابن عباس، وأخذها ابن عباس عن أبَيّ بن كعب، وأخذها أبَيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى ذلك جماعة منهم البغوي في "تفسيره"، والسبب في ذلك انقطاع الوحي، وهذا حديث غريب أي ضعيف من رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، وهو ثبت في القراءة، ضعيف في الحديث، وقال أبوحاتم الرازي: هذا حديث منكر.

إلى أن قال: وعنه أيضاً أي عن أحمد -: لا تكبير، كما هو قول سائر القراء).

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جماعة قرأوا بغير تهليل ولا تكبير؟ قال: (إذا قرأوا بغير حرف أي رواية ابن كثير كان تركهم لذلك هو الأفضل، بل المشروع المسنون).

لم يكتف البعض بالتكبير على الرغم من عدم وروده في سائر الروايـات سوى رواية البزي عن ابن كثير بطريق واهٍ لا بطريق صحيح ولا ضعيف، بل زادوا عليه التهليل، والتسبيح، والتحميد، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله يدل على أن البدعة لا حد لها تنتهي إليه، وإنما ينادي بعضها على بعض، ولهذا رحم الله امرءاً اتبع فسلم، ولم يبتدع فيندم.

الرابعة: قراءة الإخلاص والمعوذتين جماعياً وتكرارها ثلاثاً

أيضاً من المخالفات التي صحبت ختم القرآن للجماعات والأفراد في المساجد وغيرها قراءة الجميع لسور الإخلاص والمعوذتين وتكرير ذلك في بعض المساجد ثلاثاً، وهذا التخصيص ليس له أصل ولا يسنده دليل إلا التقليد.

قال ابن مفلح رحمه الله: (وإذا قرأ سورة الإخلاص مع غيرها قرأها مرة واحدة ولا يكرر ثلاثاً، نص عليه أي أحمد قال ابن تميم: منع أحمد القارئ من تكرار سورة الإخلاص ثلاثاً إذا وصل إليها).

الخامسة: وصل الختمة بأخرى بقراءة الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة

من المخالفات التي درج عليها كثير من الناس أفراداً وجماعات وصل الختمة بالشروع في ختمة جديدة بقراءة سورة الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة، وليس لهذا العمل مستند في الشرع، معتمدين في ذلك على حديث ضعيف وهو حديث "الحال المرتحل"، وعلى افتراض صحته فقد أول بتأويلات أخرى قال بها بعض أهل العلم المعتبرين.

والحديث رواه الترمذي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الحال المرتحل".

قال ابن رجب: (إذا فرغ عن قراءة الناس لم يزد الفاتحة وخمساً من البقرة، نص عليه أحمد وذلك إلى قوله "وأولئك هم المفلحون"، لأن "ألم" آية عند الكوفيين وهي عند غيرهم غير آية، قال في "الشرح": ولعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح، وقيل: يجوز بعد الدعاء، وقيل: يستحب، وقد روى الترمذي من حديث صالح المزي وهو ضعيف عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الحال المرتحل"، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: "الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل"، قال الترمذي: حديث غريب، ثم رواه عن زرارة مرسلاً، ثم قال: هذا عندي صحيح).

وقال ابن القيم رحمه الله: (وفي الترمذي عنه أنه سئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الحال والمرتحل"، وفهم بعضهم من هذا أنه إذا فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة الكتاب، وثلاث آيات من سورة البقرة، لأنه حل بالفراغ وارتحل بالشروع، وهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة، والمراد بالحديث الذي كلما حل من غزاة ارتحل في أخرى، أوكلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكميلاً له كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعاً، وبالله التوفيق).

قال الشيخ الدكتور بكر أبوزيد: (نازع ابن القيم المباركافوري في تحفة الأحوذي 4/ 64ط الهندنة بأن الحـديث جـاء في آخـره ذكر الختمـة... وفي سند هذا الحديث الهيثم بن الربيـع، وصالح بن بشير المري، وهما ضعيفان، بل قيل إن صالحاً متروك الحديث، قاله النسائي والذهبي في تلخيص المستدرك ج1/ 591).

لم يستحب الإمام أحمد وصل ختمة بأخرى، قال ابن قدامة: (لعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح).

السادسة: التوسع في الدعوة لشهود ختم القرآن

من المخالفات التي لم يدرج عليها السلف التوسع في الدعوة واستدعاء الناس والإعلان لشهود ختم القرآن.

صح عن أنس رضي الله عنه أنه كان يدعو أهله لشهود ختم القرآن، وقد تبعه على ذلك بعض السلف، لكن الأمر لم يكن بالصورة التي نراها اليوم.

قال ابن الحاج المالكي رحمه الله وهو يعدد البدع التي أحدثها البعض في ختم القرآن في رمضان وغيره ويحذر منها: (وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه من البدع في تواعدهم للختم، فيقولون: فلان يختم في ليلة كذا، وفلان يختم في ليلة كذا، ويعرض ذلك بعضهم على بعض، ويكون ذلك بينهم بالنوبة، حتى صار ذلك كأنه ولائم تعمل وشعائر تظهر.

إلى أن قال: وأما إن كان إنسان يريد أن يختم لنفسه في أي وقت كان من السنة فيجمع أهله لتعمهم الرحمة، لأن الرحمة تنزل عند ختم القرآن، فذلك جائز لفعل أنس رضي الله عنه).

السابعة: الاحتفاء بختم القرآن، وإحضار الحلوى، والشاي، والذبح، وإقامة الولائم لذلك

هذه أيضاً من المخالفات، وتدخل في باب "طعام المتبارين"، أي المتنافسين، لما يصحب ذلك من الفخر والرياء والسمعة.

ولذلك حذر من ذلك السلف، وذلك أن الأصل في العبادات أن تخفى بقدر المستطاع، ولا تعلن ويجاهر بها.

قال ابن الحاج معدداً بدع ختم القرآن عند أهل زمانه: (ثم إنهم يعملون أنواعاً من الأطعمة والحلاوات، فسبحان الله ما أضر البدع، وما أكثر شؤمها، حتى لقد رأيت بعض المشايخ عمل لولده ختماً ببعض ما ذكر، فلما جاءت السنة الثانية سألته عن ولده في أي موضع صلى القيام، فقال لي: أنا منعته من القيام؛ فقلت له: ولِمَ؟ قال: لأن الأصحاب والإخوان والمعارف يطالبونني بالختم فأحتاج إلى كلفة كثيرة.

فانظر إلى شؤم البدع كيف جَرَّت إلى ترك الطاعات، وترك المحافظة على حفظ الختمة).

هذا ما أحببت التنبيه عليه وتذكير إخواني المسلمين به، والله أسأله القبول، وحسن القصد، وأن ينفع بها من اطلع عليها، وأن يردنا جميعاً إلى كتابه وسنة نبيه رداً جميلاً.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

000000000000000000000000

تذكير الساجد بعدم جواز تخطي ما يليه من المساجد

السنة أن يصلي المرء الصلوات المكتوبة، والجمعة، والقيام، والعيدين، في المسجد الذي يليه، ما لم تكن هناك علة مانعة عن ذلك.

والعلل الشرعية التي تخوِّل للمرء التحول إلى مسجد آخر غير المسجد المجاور مايأتي:

أن يكون الإمام:

1.  مرمياً ببدعة.

2.  أومعلناً لفجور.

3.  أولا يتم الركوع والسجود، ولا يطمئن في صلاته.

4.  أويلحن لحناً جلياً يغير المعنى.

5.  أوأن يكون في المسجد قبر، سيما إلى جهة القبلة.

أما أن يهجر المسجد الذي يليه بحثاً عن الصوت الحسن، والخطب المؤثرة الرنانة، أوللاجتماع ببعض الأصدقاء، أولعدم استلطاف الإمام مثلاً فهذا لا يجوز، وهو مخالف لما كان عليه السلف، وإليك الأدلة:

1. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليصلِّ أحدُكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطاه إلى غيره".

وفي رواية: "ليصل الرجل في المسجد الذي يليه ولا يتتبع المساجد".

قال المناوي رحمه الله في فيض القدير في بيان "ولا يتتبع المساجد": (أي لا يصلي في هذا مرة، وفي هذا مرة، على وجه التنقل فيها فإنها خلاف الأولى).

2.  سداً لذريعة:

(1)  هجر المسجد.

(2)  وإيغار وإيحاش صدر الإمام.

(3)  وتشجيع الآخرين على هجر المسجد.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تحت عنوان "اهتمام الشرع بسد الذرائع" بعد أن روى الحديث السابق: (وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وإيحاش صدر الإمام، وإن كان الإمام لا يتم الصلاة، أويرمى ببدعة، أويعلن فجوراً، فلا بأس بتخطيه إلى غيره).

3.  ذكر ابن القيم رحمه الله عن محمد بن بحر قال: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في شهر رمضان وقد جاء فضل بن زياد القطان فصلى بأبي عبد الله التراويح، وكان حسن القراءة، فاجتمع المشايخ وبعض الجيران حتى امتلأ المسجد، فخرج أبوعبد الله فصعد درجة المسجد فنظر إلى الجمع، فقال: ما هذا؟ تدعون مساجدكم وتجيئون إلى غيرها؟ فصلى بهم ليالي ثم صرفه كراهية لما فيه، يعني من إخلاء المساجد، وعلى جار المسجد أن يصلي في مسجده).

يتجلى تخطي البعض للمساجد القريبة والهجرة إلى مساجد بعيدة في الجمع، وقيام رمضان على وجه الخصوص،  سيما في مكة والمدينة حيث تجد كثيراً من مساجد الأحياء شبه مهجورة بحثاً عن الأصوات الحسنة، والقنوت المسجوع، غير مراعين لما يحدثه ذلك في نفوس بعض الأئمة، وعلى الرغم مما يجدونه من زحام يذهب بالاطمئنان والخشوع في الصلاة.

وأعجب من ذلك أن ينقل بعض الأئمة في الليلة الواحدة من ليالي العشر من رمضان من مسجد إلى مسجد، فيصلي في هذا ركعتين أوأربع، وفي ذاك ركعتين أوأربع، وهكذا.

وأخشى ما يخشاه الإنسان أن ينطبق على بعض الأئمة ما قاله الكمال بن الهمام الحنفي رحمه الله: (ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط، والمبالغة في الصياح، والانشغال بتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية، لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة، بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به، فكأنه قال: اعجبوا من حسن صوتي وتحريري؛ ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال وما ذاك والتطريب إلا نوع لعب).

قال الشيخ أبوبكر أبوزيد متع الله المسلمين بحياته موجهاً كلمة نصح للأئمة والمؤذنين، داعيهم فيها إلى: (التخلص من تقليد الأصوات، فلو يعلم الإمام مثلاً ما في ذلك من إثارة شعور المصلين وتحريك غرائزهم، بل وتأذيهم لخجل بعد السلام من الصلاة أن يستقبلهم، وفيهم من ينظر إليه نظر من يرثي حاله، وعليه فعلى من وفقه الله وتشرف بإمامة المصلين في أي بيت من بيوت الله تعالى والإمامة طريق إلى الجنة بإذنه تعالى أن يأخذ بآداب التلاوة من إرسال الصوت على ما يسر الله، بخشوع وحسن أداء، وتجويد غير متكلف).

ولا يرد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يتغن بالقرآن فليس منا"، وقوله أيضاً: "حسنوا أصواتكم بالقرآن"، فهناك فرق بين تحسين الصوت وبين المبالغة في التمطيط ونحو ذلك.

والله الموفق للخيرات، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

0000000000000000000000

بدع الجنائز ومحدثاتها

تمهيد

أولاً: النعي

ثانياً: لطم الخدود، وشق الجيوب، ورفع الصوت بالبكاء والعويل

نماذج للصبر والاحتساب

1. ما فعلته أم سليم وأبو طلحة رضي الله عنهما

2. كل مصيبة بعدك جلل!

3. صبر وثبات أبي بكر عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

4. ما فعلته الخنساء مع بنيها الأربعة

5. عمر بن عبد العزيز رحمه الله

6. عروة بن الزبير رحمه الله

الميت الذي يُعذب ببكاء أهله عليه

ثالثاً: ما ابتدع في التعزية

حكم التعزية

صيغ التعزية

وقت التعزية

الصيغ والكيفيات البدعية للتعزية

رابعاً: اتباع النساء للجنازة

خامساً: اتباع الجنائز بالتهليل، والتكبير، وضرب الطبول

سادساً: تأخير الجنازة إذا جهزت إلا لعذر شرعي

سابعاً: نقل الميت من مكان  إلى مكان من غير سبب شرعي

ثامناً: التحدث بأمور الدنيا والضحك في أثناء التشييع

تاسعاً: التأذين والإقامة عند إدخال الميت في حفرته

عاشراً: التلقين بعد الدفن

الحادية عشر: التأبين بعد الدفن بإلقاء الخطب والمبالغة في الثناء على الميت، وشكر المشيعين

الثانية عشر: الانتظار بعد الدفن وقراءة شيء من القرآن

الثالثة عشر: الدعاء الجماعي بعد الدفن

الرابعة عشر: الجلوس للعزاء ونصب الصيوانات لذلك

الخامسة عشر: تكلف أهل الميت صنع الطعام للمعزين

السادسة عشر: استئجار مقرئين، أووعاظ، أوتشغيل شرائط لمقرئين

السابعة عشر: عمل صدقة من الطعام يدعون إليها بعض القراء والفقراء في أوقات محددة

الثامنة عشر: دعوى أن القبر مظلم حتى يطعم عن الميت

التاسعة عشر: تقديم الدخان للمعزين

العشرون: إنشاء الخطب، والمواعظ، والشكر، إذاناً بختم مدة العزاء رفع الفراش

الحادية والعشرون: تكلف المجيء للتعزية من أماكن بعيدة والمجاملة فيها

الثانية والعشرون: نشر صورة المتوفي في الصحف، وشكر العائدين والمعزين

الثالثة والعشرون: حفل التأبين!

الرابعة والعشرون: حوليات المشايخ

الخامسة والعشرون: تكبير صورة المتوفى وتعليقها في بيته وبيت أفراد أسرته

السادسة والعشرون: تجمع الأهل والأصدقاء في دور حديثي الوفاة في الأعياد والمناسبات

السابعة والعشرون: زيارة الأضرحة والقبور البدعية

الثامنة والعشرون: إحداد المرأة على غير زوج أكثر من ثلاثة أيام

التاسعة والعشرون: الوقوف لأرواح الشهداء والرؤساء، وتنكيس الأعلام، وإعلان الحداد عليهم

الثلاثون: بناء نصب وأصنام للجنود المجهولين، وزيارتها، وضع أكاليل الزهور عليها

الحادية والثلاثون: بناء الأضرحة والعتبات، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها عيداً

تمهيد

من سمات عقيدتنا الغراء، وشريعتنا السمحة، أنها بجانب أنها ربانية لا دخل للبشر فيها، وأنها محفوظة الأصول، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأنها سهلة ويسرى، فهي كاملة وتامة، لا تقبل زيادة ولا نقصاناً، فالزيادة فيها مردودة، والنقصان منها ممنوع، وقد جاء إعلان ذلك بنزول قوله تعالى: "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، كما قال مالك رحمه الله.

ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الابتداع في الدين قائلاً: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

على الرغم من ذلك فما فتئ كثير من الناس يبتدعون في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، ويستحسنون بعقولهم وآرائهم ما يزينه لهم شياطين الإنس والجن، فكم من سنن قد أميتت، وكم من بدع قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، لا يستثنى من ذلك مجال من مجالات الحياة، وإن كان بعضها أسوأ حالاً من بعض، من المجالات التي كان لها نصيب وافر، وحظ خاسر من ذلك جانب الجنائز، حيث كثرت فيه البدع وتنوعت، وتعددت فيه المحدثات وتوافرت، حتى طغت على السنن وغطت.

وبعد..

فهذا تذكير وتنبيه بأهم البدع التي استحدثت في الجنائز وعمت بها البلوى في البوادي والحواضر، وأضحى السكوت عنها جريمة لا تغتفر، ونذير شؤم بخطر، عسى أن تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً زاكية.

هذه البدع قد لا تجتمع في بلد واحد، ولا تتحقق كلها في مأتم واحد، وقد يكون لبعض المجتمعات حظ منها أكثر من غيرها، وبعضها قد يكون معلوماً لفريق من الناس وبعضها قد يكون مجهولاً، وهذا كله لا يمنع من التنبيه عليها والتحذير منها مجتمعة، فما أيسر انتشار البدع وذيوعها، وما أسرع نقلها وقبولها.

في البداية لابد من الإشارة إلى تعريف البدعة وبيان أن كلها ضلال وشر.

فالبدعة هي كل أمر حادث ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجمعت عليه الأمة.

والبدع دركات بعضها أخطر من بعض، فهناك بدع كفرية، وبدع محرمة، وبدع مكروهة، وكلها ضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة".

وهذا يرد تقسيم من قسم البدع إلى حسنة وقبيحة، وإن قال به بعض أهل العلم، لأنه لا يقوم على دليل، هذا فيما يتعلق بالبدع الشرعية، سواء إن كانت حقيقية أم إضافية، أما البدع اللغوية وما يتعلق بالعادات فهذا غير معني.

فأقول وبالله التوفيق:

ã

أولاً: النعي

النعي هو الإعلام بموت الميت، منه ما هو جائز كإعلام الأهل والإخوان وأهل الفضل ليتمكنوا من الحضور لتجهيز الميت، وتشييعه، والصلاة عليه، والاستغفار له، ودليل ذلك ما صح عن أبي هريرة أنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصفَّ بهم وكبَّر أربعاً".

ومنه ما هو ممنوع، وهو نعي الجاهليين الذي يهدف من ورائه إلى المفاخرة والمباهاة، وهو أن ينادى في الناس إن فلاناً مات، وهذا الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه حذيفة وغيره من السلف؛ ودليل كراهة نعي الجاهلية وهو الإعلام الزائد عن إعلام الأهل والأقربين والأصدقاء للقيام بالواجب:

قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "إذا متُّ فلا تؤذنوا بي أحداً، فإني أخاف أن يكون نعياً، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي".

وقال سعيد بن منصور في سننه: "أخبرنا ابن علية عن ابن عون قال: قلتُ لإبراهيم أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم، قال ابن عون: كانوا إذا توفي الرجل ركب رجلٌ دابة، ثم صاح في الناس: أنعي فلاناً؛ وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: لا أعلم بأساً أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه).

قال الترمذي: وقد كره بعض أهل العلم النعي، والنعي عندهم أن ينادى في الناس بأن فلاناً مات ليشهدوا جنازته، وقال بعض أهل العلم: لا بأس أن يعلم الرجل قرابته وإخوانه).

وقال الحافظ ابن حجر: (قال ابن رشيد: وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق، وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح.

إلى أن قال: وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك.

ثم قال: قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم).

الذي يظهر والله أعلم أن الفارق بين النعي الجائز والممنوع دقيق جداً، ولذلك أخذ حذيفة بالأحوط ونهى أن يعلم به أحداً، وأن هذا الأمر تحكمه النية، فمن كانت نيته إعلام الأهل والأصدقاء وأهل الفضل والصلاح ليستغفروا ويصلوا ويشيعوا فهذا جائز، ومن كانت نيته المباهاة والمفاخرة فهذا هو النعي الممنوع، وفي الجملة يكره النعي بالوسائل التالية:

1.   الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمشاهدة.

2.   عند أبواب المساجد.

3.   عند الأسواق وفي الطرقات.

ã

ثانياً: لطم الخدود، وشق الجيوب، ورفع الصوت بالبكاء والعويل

من البدع المنكرة والأعمال القبيحة الجزع والتسخط عند وقوع المقدور بالقول والفعل، كالبكاء والعويل، أولطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية.

لقد نهى الإسلام أتباعه عن سلوك هذا المسلك المشين، وأمرهم عند نزول المصائب أن يحمدوا الله ويسترجعوه: "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون"، فعظم الثواب من عظم المصاب، وليتذكروا مصابهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كل مصيبة بعده جلل.

لقد رخص الإسلام في البكاء بالدمع من غير نواح ولا صياح ولا تسخط، فقد دمعت عينا سيد الخلق عندما مات ابنه إبراهيم عليه السلام، وعندما عوتب في ذلك قال: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون".

وقد بيَّن الرسول الكريم أن الصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى.

الأدلة على النهي عن هذه الفعال الجاهلية

1. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".

2. وعن أبي أمامة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور".

3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة، والطعن في الأحساب، والعدوى.. والأنواء مطرنا بنوء كذا وكذا".

4. وروي عنه أنه قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب".

5. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري؛ قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي؛ ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك؛ قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

6. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله؛ فبكى النبي، فلما رأى القوم بكاء النبي بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أويرحم، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب".

7. عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يُعرَف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن- فأمره أن ينهاهن، فذهب ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: انْهَهُنَّ؛ فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله؛ فزعمت أنه قال: فاحث في أفواههن التراب؛ فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تترك رسول الله من العناء".

نماذج للصبر والاحتساب

لقد ضرب السلف الصالح نماذج رائعة في صبرهم واحتسابهم عند المصائب، وإليك طرفاً من ذلك، لتعرف الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين سلفنا الصالح:

1. ما فعلته أم سليم وأبو طلحة رضي الله عنهما

عن أنس رضي الله عنه قال: "اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأته امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب البيت، فلما جاء أبوطلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسُه، وأرجو أن يكون قد استراح؛ وظن أبوطلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعل الله يبارك لكما في ليلتكما"، قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن".

وفي رواية لابن حبان: "تزوجت أم سليم بأبي طلحة بشرط أن يسلم، فحملت فولدت غلاماً صبيحاً، فكان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، فعاش حتى تحرك فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزناً شديداً حتى تضعضع".

وفي رواية قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا؛ قالت: فاحتسب ابنك؛ فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني"، وفي رواية قال لها: "والله لن تغلبيني على الصبر".

2. كل مصيبة بعدك جلل!

روى ابن إسحاق بسنده إلى سعد بن أبي وقاص قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راجع إلى المدينة بعد غزوة أحد بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين؛ قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؛ قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل".

قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل، قال امرؤ القيس:

ولقتل بني أسد ربهم           ألا كل شيء خلاه جلل

أي صغير قليل).

فهو من الأضداد.

3. صبر وثبات أبي بكر عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

كان أحب الرجال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوبكر، وكان حب أبي بكر لا يدانيه حب، فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه وكان غائباً، فكشف عن وجهه وقبَّله، وقال: طبتَ حياً وميتاً؛ ثم خرج يتلو قوله تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم" الآية، فثبت الله به قلوب المؤمنين.

4. ما فعلته الخنساء مع بنيها الأربعة

كان للخنساء أربعة أولاد، فحثتهم وحضتهم على القتال في حرب القادسية، وخرجت معهم لخدمتهم، فاستشهد أربعتهم، فصبرت واحتسبت، ولم ترثهم ببيت واحد، وهي التي بكت أخويها صخراً ومعاوية بكاءً حزيناً سارت به الركبان في الجاهلية، ولكن عندما أسلمت سمت نفسها وتهذبت عاطفتها.

5. عمر بن عبد العزيز رحمه الله

كان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله وزيرا صدق من أهل عشيرته، وهما ابنه عبد الملك وغلامه مزاحم، فماتا في عام واحد، فوجد عليهما وصبر، فقال وهو يواري ابنه عبد الملك - ومات وعمره سبع عشرة سنة: لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك؛ يعني تموتُ قبلي وأحتسبك.

وقال: الأمر الذي نزل بعبد الملك كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره؛ وقام على قبره فقال: رحمك الله يا بني، فقد كنت باراً مولوداً، وباراً ناشئاً، وما أحب أني دعوتك فأجبتني.

6. عروة بن الزبير رحمه الله

بُترت رجل عروة بن الزبير ومات ابنه فجأة في نفس اليوم، فحمد الله واسترجع، وقال: اللهم أخذتَ ابناً وتركتَ أبناء، وأخذتَ عضواً وتركتَ أعضاء، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما أبقيت.

7. نُعي لرجل من السلف أخاه وكان يتغدى، فقال للمخبر: تفضل تغدى، فقد نُعي إليَّ أخي من قبل؛ يريد قول الله تعالى: "إنك ميت وإنهم ميتون"، فقد نعت الآية رسول الله إلى الأمة ونعتهم إلى أنفسهم.

8. استشهد لامرأة ثلاثة أولاد يوم تُسْتر، فخرجت أمهم إلى السوق لبعض شأنها، فأعلمها رجل باستشهادهم، فقالت: مقبلين أومدبرين؟ قال: مقبلين؛ قالت: الحمد لله، نالوا الفوز، وحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وأمي.

الميت الذي يُعذب ببكاء أهله عليه

يتعجل البعض بالطعن والتشكيك في قوله صلى الله عليه وسلم: "الميت يُعذب ببكاء أهله عليه"، ويرده بدعوى أنه مخالف لظاهر قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".

أما الموقنون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وأن ما صحَّ عنه لم يمكن أن يعارض كتاب الله، لأن الكل من الوحي، فإنهم لا يتعجلون في رد السنن وإنكارها، وإنما يبحثون عن توفيق أهل العلم المختصين لها.

فالميت الذي يعذب ببكاء أهله عليه هو الذي يوصي بذلك، كما كان بعض الجاهليين يقول لبنته مثلاً: إذا أنا مت فقولي في كذا وكذا؛ أوذلك الشخص الذي هو متيقن من جزعهم وتسخطهم ثم لا يحذرهم وينهاهم عن ذلك في حياته؛ أما إذا حذرهم ونهاهم وتبرأ من صنيعهم هذا فلا يناله شيء من بكائهم ولو ناحوا عليه الدهر كله، والله أعلم.

ã

ثالثاً: ما ابتدع في التعزية

حكم التعزية

التعزية سنة مستحبة، وقد ورد في فضلها أحاديث ليست بالقوية، نحو: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"، وروى الترمذي عن أبي برزة يرفعه: "من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة" .

صيغ التعزية

أحسن ما ورد في التعزية ما عزى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى بناته في صبي لها: "إن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل"، وأمرها بالصبر والاحتساب.

وروى البيهقي في مناقب الشافعي أن الشافعي بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي رحمه الله: يا أخي عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك، واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟! فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً؛ وكتب إليه:

إني معزيك لا أني على ثقة        من الخلـود ولكن سنة الدين

فما المعزَّي بباقٍ بعـد ميته        ولا المعزِّ ولا عاشا إلى حين

وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: أما بعد، فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة، فإذا قدمه فصلاة ورحمة، فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيع ما عوضك الله عز وجل من صلاته ورحمته.

فالتعزية تحدث بأي لفظ ليس فيه مخالفة شرعية، نحو:

أحسن الله العزاء، وجبر الله الكسر، ورحم الله المتوفى.

أحسن الله عزاءكم وغفر لميتكم.

أجاركم الله في مصيبتكم وأخلف عليكم خيراً منها.

وهي تختلف باختلاف الميت والمعزَّى، وتختلف في حال الإسلام وحال الكفر، واستحب قوم أن يقول في:

تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك.

تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك؛ ولا يترحَّم ولا يدعو للكافر.

تعزية الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك.

تعزية الكافر بالكافر: أخلف الله عليك.

السنة تعزية جميع أهل الميت نساءاً ورجالاً، كباراً وصغاراً، إلا الشابات من غير المحارم.

قال النووي: (ويستحب أن يعم بالتعزية جميع أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار، والرجال والنساء، إلا محارمها. وقال أصحابنا: وتعزية الصلحاء والضعفاء على احتمال المصيبة والصبيان آكد).

وقال ابن حجر في التحفة: (الشابة لا يعزيها إلا نحو محرم).

وقت التعزية

تجوز التعزية قبل وبعد الدفن، واستحب بعض أهل العلم أن تستمر لمدة ثلاثة أيام للحاضرين، أما الغائبين فمتى حضروا عزوا، وليس في تحديد ذلك نص.

قال النووي: (والثلاثة على التقريب لا على التحديد.. وقال أصحابنا: وتكره العزية بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكون قلبه بعد الثلاثة، فلا يجدد له الحزن، هكذا قاله الجماهير من أصحابنا. وقال أبو العباس بن القاص من أصحابنا: لا بأس بالتعزية بعد الثلاثة، بل تبقى أبداً وإن طال الزمان.. وقال أصحابنا: التعزية بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر).

الصيغ والكيفيات البدعية للتعزية

هناك صيغ وكيفيات محدثة للتعزية، تختلف من بلد إلى بلد، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

1. قول المعزي: "الفاتحة، الفاتحة"، سواء قرأ الفاتحة أم لم يقرأها، وهذه الكيفية هي المنتشرة في السودان، بل جل الناس لا يقبلون سواها، مهما يعزي المعزي بغيرها، ولو أتى بالدعاء النبوي لم يعتد بما قال، واتخذ الناس منه موقفاً، سواء كان هو المعزِّي أوالمعزَّى على حد سواء، وفي هذا تجنٍ وظلم، وإماتة للسنة، وإحياء للبدعة.

2. تحديد ساعات معينة للعزاء بين المغرب والعشاء، لمدة يوم أوأكثر، فيحضر المعزون فيجلسون، ثم بعد تناول القهوة أوالماء قاموا إلى أهل الميت وهم مصطفون وقوفاً، فوضع كل منهم يده على كتف أحدهم ثم انصرف، قد يقول شيئاً وقد لا يقول، وهذا هو السائد في الحجاز، أوبالأحرى في مكة، والمدينة، وجدة.

وهذه الكيفية بهذه الطقوس والرسوم ليس لها مستند في السنة.

3. أن يقول المعزِّي للمعزَّى: "البقية في حياتك!" أي ما بقي من عمر هذا المتوفى يضاف إلى عمرك، وفي هذا القول مخالفة عقدية، إذ ما من إنسان يموت إلا بعد أن استوفى أجله: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون"، بجانب أنها تعزية بدعية مصرية.

لقد استنكر العلماء وطلاب العلم هذه الكيفيات ولا يزالون يستنكرونها، وقد أفتى جمع منهم ببدعيتها، ولكن لا حياة لمن تنادي، وذلك لأسباب منها:

1. تقليد الآباء والأجداد والاستكانة للأعراف والتقاليد.

2. سكوت كثير من أهل العلم، إن رهباً أورغباً، عن بيان مخالفة ذلك للسنة.

3. ظن البعض أن إنكار ذلك من نسج خيال السنيين والسلفيين.

4. عدم الرجوع إلى كتب الفقه، إذ لو رجعوا لأي كتاب من كتب الفقه لعلموا الصيغ المشروعة من الممنوعة، ولما وجدوا لما يقومون به مستنداً ودليلاً.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في ردهم على سؤال: (جرت العادة عندنا إذا مات شخص، وذهب شخص لتعزية أهل الميت يدخل الشخص المعزي رافعاً يديه إلى منكبيه، ويقول: الفاتحة؛ فيقوم أولياء الميت، ويقرأون معه الفاتحة، ثم يسلم عليهم بعد ذلك، هل هذا من السنة؟).

الجواب: (ما ذكرته من رفع المعزي يديه عندما يدخل على أهل الميت ليعزيهم وقوله الفاتحة، وقراءتهم معه الفاتحة ثم يسلم، لا يجوز، بل هو بدعة محدثة، والمشروع أن يبدأ بالسلام، ولا يقول الفاتحة ولا غيرها، ولا يرفع يديه) وإنما يعزي.

ã

رابعاً: اتباع النساء للجنازة

من البدع المنكرة والمحدثات القبيحة إصرار بعض النساء على اتباع الجنائز مع النهي الأكيد والتحذير الشديد عن ذلك.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ميتاً فلما فرغنا انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه، فلما حاذى به وقف، فإذا نحن بامرأة مقبلة، قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت فإذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ فقالت: أتيت يا رسول الله أهل هذا الميت فَرَحَّمْتُ إليهم ميتهم، أوعزيتهم به؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك بلغت معهم الكُدى؟ قالت: معاذ الله!! وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر؛ قال: لو بلغت معهم الكدى"، فذكر تشديداً في ذلك.

وفي رواية عند أحمد والحاكم: "أما أنك لو بلغتِ معهم الكدى ما رأيتِ الجنة حتى يراها جد أبيك"، أوكما قال.

وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: نهينا أن نتبع الجنائز، ولم يعزم علينا"، وفي رواية للطبراني عنها: "ونهانا أن نخرج في جنازة".

إن لم يعزم عليهن في حديث أم عطية فقد عزم عليهن وحذرهن ونهاهن أشد النهي في حديث فاطمة رضي الله عنها، بل لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، فكيف بمن يشيعن الجنازة ويختلطن مع الرجال؟!

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على ترجمة البخـاري: "اتبـاع النساء الجنـائز": (قـال الزين بن المنير: فصل المصنف بين هذه الترجمة وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك مختص بالرجال دون النساء، لأن النهي يقتضي التحريم أوالكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان.

إلى أن قال:

وقال القرطبي: ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك للجواز، وهو قول أهل المدينة).

لم تكتف بعض الشقيات باتباع الجنازة إلى المقبرة، بل تجرأن وحملنها إلى المقبرة، كما فعل بعض أتباع الفرق الضالة.

خرَّج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى نسوة، فقال: أتحملنه؟ قلن: لا؛ قال: أتدفنه؟ قلن: لا؛ قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات".

قال الحافظ ابن حجر  معلقاً على تبويب البخاري "حمل الرجال الجنازة دون النساء": (نقل النووي في "شرح المهذب" أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه ما تقدم، ولأن الجنازة لابد أن يشيعها الرجال، ولو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال، فيفضي إلى الفتنة).

حدث كل هذا بسبب عدم الإنكار والتسامح في الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، فينبغي لولاة الأمر من الحكام وغيرهم أن يحموا حمى الدين، وأن يغاروا لمحارم الله، وأن يعملوا على تغيير المنكرات صغيرها وكبيرها، فمعظم النار من مستصغر الشرر.

ã

خامساً: اتباع الجنائز بالتهليل، والتكبير، وضرب الطبول

من البدع القبيحة والمحدثات السيئة التي درج عليها البعض تشييع الجنائز بالتهليل والتكبير، وقول البعض وهم مشيعون: "وحدوه"، وضرب الطبول، وإنشاد بعض الأشعار كالبردة، و"البَرَّاق"، ونحوهما، وهذا كله مخالف لسنة الحبيب المصطفى والرسول المجتبى، ولم يؤثر عن أحد من أهل العلم، لا في الحديث ولا في الورى، وأكثر من يمارس ذلك أتباع الطرق الصوفية في تشييع من مات من المشايخ.

فالواجب على المسلمين التقيد بسنة نبيهم، وترك ما سواها من البدع وإن استحسن ذلك من استحسن، فالخير كله في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، ورحم الله مالكاً حيث كان كثيراً ما ينشد ويردد:

وخير الأمور ما كان سنة           وشر الأمور المحدثات البدائع

روى أبوداود في سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار".

سمع عبد الله بن عمر رجلاً يقول في جنازة استغفروا لأخيكم؛ فقال ابن عمر: لا غفر له بعد.

وعن قيس بن عباد وهو من أكابر التابعين ممن صحب علياً رضي الله عنه قال: "كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال".

قال الإمام النووي في باب ما يقوله الماشي مع الجنازة: (يستحب له أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى، والفكر فيما يلقاه الميت، وما يكون مصيره، وحاصل ما كان فيه، وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها، وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة منه، فإن هذا وقت فكر وذكر، يقبح فيه الغفلة واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهي عنه في جميع الأحوال، فكيف في هذا الحال.

واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة، ولا ذكر، ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره، وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذه الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترن بكثرة من يخالفه، فقد قال أبوعلي الفضيل بن عياض رحمه الله ما معناه: الزم طريق الهدى، ولا يضرنك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.

وقد روينا في سنن البيهقي ما يقتضي ما قلته، وأما ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة والتمطيط، وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحتُ قبحه وغلظ تحريمه، وفسق من تمكن من إنكاره فلم ينكره، في آداب القراء، والله المستعان).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا أعلم فيه مخالفاً.

وقال أيضاً: وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الفاضلة).

وقال ابن الحاج في المدخل: (وليحذر هذه البدعة الأخرى، وهي تكبير المؤذنين مع الجنازة، وقد تقدم، فيجتمع بسببهم من القراء والفقراء الذاكرين والمريدين ومن يتابعهم في فعلهم جمع كثير، فيبقى في الجنازة غوغاء وتخليط وتخبيط).

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية عن حكم رفع الصوت بالتهليل الجماعي في أثناء الخروج بالجنازة والمشي إلى المقبرة.

فأجابت: (هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تبع الجنازة أنه لا يسمع له صوت بالتهليل أوالقراءة أونحو ذلك، ولم يأمر بالتهليل الجماعي فيما نعلم.. وبذلك يتضح أن رفع الصوت بالتهليل مع الجنازة بدعة منكرة، وهكذا ما شابه ذلك من قولهم "وحدوه"، أو"اذكروا الله"، أوقراءة بعض القصائد كالبُرْدَة).

وأحرم وأنكر من هذا وذاك التشييع بالموسيقى التي يشيع بها بعض الملوك والرؤساء.

ã

سادساً: تأخير الجنازة إذا جهزت إلا لعذر شرعي

السنة الإسراع بدفن الميت إذا اطمئن على موته وتم غسله وتكفينه وتجهيزه، ولا يسن أن ينتظر به أحد من الناس مهما كانت صلته بالميت، ما لم يكن قريباً ويتوقع مجيئه في وقت معتاد.

أما إذا مات الإنسان في ظروف غامضة، أوكان موته نتيجة جناية، أوأريد التثبت من أسباب الوفاة فيجوز الانتظار، شريطة أن تستعجل الإجراءات، أما أن ينتظر بالجثة الشهور ذوات العدد فهذا ليس من السنة، وفيه إهانة للمسلم وعدم احترام، فإكرام الميت في دفنه، ولهذا امتن الله عز وجل على العباد بقوله: "ثم أماته فأقبره".

والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره".

وأخرج أبوداود من حديث حصين بن وَحْوَح يرفعه: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله".

قال الحافظ ابن حجر: (قال القرطبي: مقصود الحديث أسرعوا بالجنازة أن لا يُتباطأ بالميت عن الدفن، ولأن التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال.

إلى أن قال:

وفيه استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يتحقق أنه مات، أما مثل المطعون، والمفلوج، والمسبوت، فينبغي أن لا يسرع بدفنهم حتى يمضي يوم وليلة لتحقيق موتهم).

قلت: الآن يمكن التأكد من تحقق الموت عن طريق السماعات لقياس نبض القلب، وبتسليط ضوء على بؤبؤ العين، فإذا انكمش فدليل على الحياة، وإن لم ينكمش دل على موت الدماغ على الأقل، وبأمور أخرى.

كذلك من البدع المنكرة حبس جثث الملوك والرؤساء وغيرهم حتى يجتمع رؤساء معظم دول العالم أومن ينوب عنهم، وفي بعض الأحيان يكون المنتظرون كفاراً أومنافقين لا ينتفع الميت بصلاتهم ولا دعائهم، وإنما هي أعراف دولية من ثمرات الجاهلية الحديثة.

ã

سابعاً: نقل الميت من مكان  إلى مكان من غير سبب شرعي

إذا مات المسلم في بلد فيه مقبرة للمسلمين - حيث لا يجوز دفن مسلم مع الكفار، ولا كافر مع المسلمين ووجد من يقوم بتجهيزه بأجرة أم بغيرها، ووجد من يصلي عليه من المسلمين، لا يحل نقله إلى بلد آخر، ولو كان النقل إلى المدن المقدسة مكة والمدينة وبيت المقدس، لنهيه صلى الله عليه وسلم أن ينقل أحد من شهداء أحُد إلى المدينة، على الرغم من قرب أحُد من المدينة، وإن استحب ذلك بعض أهل العلم رحمهم الله، لأن نقل الميت يستلزم الآتي:

1. تشريحه ووضعه في صندوق، وفي ذلك إهانة من غير ضرورة، قال النووي: (ويكره دفن الميت في تابوت، إلا إذا كانت رخوة أوندية، ولا تنفذ وصيته).

2.  نقله مع العفش، وفي ذلك إهانة للمسلم كذلك.

3. ارتفاع تكاليف النقل بالطائرة، وهو من لزوم ما لا يلزم.

4. ليس هناك أدنى فائدة لنقله إلى بلده، حيث لا يتمكن أحد من رؤيته والنظر إليه بعد إدخاله في الصندوق.

5.  ما يعانيه الأهل والمشيعون ويقاسونه من الانتظار والمتاعب.

6.  يؤخر دفن الميت، وقد أمر الشارع بالإسراع بذلك.

وأسوأ وأنكر من أن ينقل المسلم من بلد إلى بلد من غير ضرورة نقل البعض موتاهم ليدفنوا مع من يعتقدون صلاحهم وشفاعتهم لمن قبر معهم، وهناك مقبرة تسمى "المنسي"، أوأن يصر الشخص أن يدفن مع أهله وأجداده مع وجود ظروف لا تمكن من ذلك، كظرف الخريف، والطريق غير المعبد، ونحو ذلك.

عن جابر رضي الله عنه قال: "كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم أي في المدينة- فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، فرددناهم".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أرْسِل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؛ فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع فقل له: يضع يده على متن ثور أي ظهره فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سَنَة؛ قال: أي ربِّ، ثم ماذا؟ قال: الموت؛ قال: فالآن؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنتُ ثمَّ لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر".

علينا أن نمر مثل هذا الحديث كما جاء ولا نعترض عليه بكيف؟ ولماذا؟ لأن هذه من المسائل الغيبية التي أخبرنا بها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.

كذلك لابد من التنبيه أن شرع من قبلنا من الأنبياء والمرسلين شرع لنا ما لم ينسخ، فقد سأل الله موسى عليه السلام أن يدنيه من الأرض المقدسة، وقد نقل معه جثمان يوسف عليه السلام في تابوت من مصر ودفنه في بيت المقدس، لكن هذا الشرع قد نسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، المهيمن على الرسل والخاتم؛ فلا حجة في هذا الحديث لأحد في استحباب النقل إلى الأراضي المقدسة مع نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينقل شهداء أحد وهم بطرفها، وأمر أن يدفنوا حيث ماتوا، فالسنة أن يدفن المسلم حيث مات ما لم يكن هناك مانع شرعي.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على هذا الحديث وعلى تبويب البخاري "باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة ونحوها": (قال الزين بن المنير: المراد بقوله: "أونحوها" بقية ما تشد إليه الرحال من الحرمين، وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء وقبور الشهداء والأولياء، تيمناً بالجوار، وتعرضاً للرحمة النازلة عليهم، اقتداء بموسى عليه السلام، وهذا بناء على أن المطلوب القرب من الأنبياء الذين دفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض، وقال المهلب: إنما طلب ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر، وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه.

إلى أن قال: واختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل: يستحب.

والأولى تنزيل ذلك على حالتين: فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم، والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل، كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها، والله أعلم).

استدل من استحب الموت في الديار المقدسة بدعاء عمر رضي الله عنه: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلدك؛ فقالت له حفصة ابنته: أنى يكون هذا؟ قال: يأتيني به الله إن شاء"، وقد استجاب الله دعاءه، فرزق الشهادة ومات بالمدينة، وجاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه.

قال النووي: (قال صاحب الحاوي: قال الشافعي: لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة والمدينة أوبيت المقدس، فيختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها؛ وقال البغوي والشيخ أبونصر البندنيجي من العراقيين: يكره نقله؛ وقال القاضي حسين، والدارمي، والمتولي: يحرم نقله؛ وقال القاضي حسين والمتولي: ولو أوصى بنقله لم تنفذ وصيته، وهذا هو الأصح، لأن الشرع أمر بتعجيل دفنه، وفي نقله تأخيره، وفيه أيضاً انتهاكه من وجوه، وتعرضه للتغيير، وغير ذلك).

ثم ذكر حديث جابر السابق في النهي عن نقل شهداء أحد إلى المدينة.

ã

ثامناً: التحدث بأمور الدنيا والضحك في أثناء التشييع

رحم الله سعد بن معاذ رضي الله عنهما عندما قال: "ما صليتُ على جنازة إلا وحدثت نفسي بما تقول ويُقال لها"، من لم يتعظ بالموت فبم يتعظ؟ ولهذا رأى عبد الله بن مسعود رجلاً يضحك وهو مشيع جنازة، فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟! والله لا أكلمك أبداً.

ينبغي لمشيع الجنازة أن يتذكر أن هذا مصيره، فعليه أن يعد له العدة.

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته        يوماً على آلة حدباء محمول

فإن لم يراع حاله فعليه أن يراعي شعور أهل الميت المحزونين.

بعض الناس يغتاب في المقبرة، ويضحك، ويدخن، ويجري صفقات تجارية عن طريق الجوال أومع أشخاص، وكأنه في متجره أومنتزه.

كان سفيان الثوري رحمه الله إذا شهد جنازة لم ينتفع لمدة ثلاثة أيام.

وقال ابن الحاج المالكي في المدخل: (وهذا وما شاكله ضد ما كانت عليه جنائز السلف الماضين رضي الله عنهم أجمعين، لأن جنائزهم كانت على التزام الأدب، والسكون والخشوع، والتضرع، حتى إن صاحب المصيبة كان لا يعرف من بينهم، لكثرة حزن الجميع، وما أخذهم من القلق والانزعاج بسبب الفكرة فيما هم إليه صائرون، وعليه قادمون، حتى لقد كان بعضهم يريد أن يلقى صاحبه لضرورات تقع له عنده، فيلقاه في الجنازة فلا يزيد على السلام الشرعي شيئاً، لشغل كل منهما بما تقدم ذكره، حتى إن بعضهم لا يقدر أن يأخذ الغداء تلك الليلة لشدة ما أصابه من الجزع، كما قال الحسن البصري رضي الله عنه: ميتُ غدٍ يشيع ميتَ اليوم).

ã

تاسعاً: التأذين والإقامة عند إدخال الميت في حفرته

من المحدثات المنكرة التي ابتدعها بعض الناس التأذين والإقامة في الحفرة عند إدخال الميت فيها، وهذا العمل ليس له أصل ولا أساس، إذ لم يشرع الأذان والإقامة إلا في الصلوات المكتوبة، وإنما يدعى إلى غيرها من فروض الكفاية بقول: "الصلاة جامعة".

ورد سؤال على اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالمملكة العربية السعودية عن حكم الأذان بعد الدفن عند القبر.

فأجابت: (لا يجوز الأذان ولا الإقامة عند القبر بعد الدفن، ولا في القبر قبل دفنه، لأن ذلك بدعة محدثة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد").

ã

عاشراً: التلقين بعد الدفن

المشروع التلقين عند الاحتضار، حيث يلقن المحتضر كلمتي الشهادة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، أما التلقين بعد الدفن فلم تثبت فيه سنة صحيحة، وإن استحسنه بعض السلف.

خرَّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة يرفعه: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله".

وخرج أبوداود والحاكم كما قال الحافظ ابن حجر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التلقين بعد الدفن، فقال: (هذا التلقين المذكور قد نقل عن طائفة من الصحابة، أنهم أمروا به، كأبي أمامة الباهلي وغيره، وروي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه مما لا يحكم بصحته، ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، ولهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء: إن هذا التلقين لا بأس به؛ فرخصوا فيه ولم يأمروا به، واستحبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم.

والذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن ويقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل".

وقال في إجابة على سؤال آخر عن هذا التلقين: تلقينه بعد موته ليس واجباً بالإجماع، ولا كان من عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه).

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في إجابة على نفس السؤال: (الصحيح من قولي العلماء في التلقين بعد الموت أنه غير مشروع، بل بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما رواه الطبراني في الكبير عن سعد بن عبد الله الأودي عن أبي أمامة رضي الله عنه في تلقين الميت بعد دفنه، ذكره الهيثمي في الجزء الثاني والثالث من مجمع الزوائد، وقال: في إسناده جماعة لم أعرفهم أﻫ.

وعلى هذا لا يحتج به على جواز تلقين الميت، فهو بدعة مردودة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد").

قلت: قول الصحابي إذا خالفه فيه غيره فليس بحجة.

ã

الحادية عشر: التأبين بعد الدفن بإلقاء الخطب الرنانة بالتذكير والثناء على الميت، والمبالغة والكذب فيه، وشكر المشيعين

وهذه كلها من البدع المنكرة التي لم يعرفها سلف هذه الأمة، ولا يرد على ذلك بعض المواعظ التي كان يعظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً من يكتنفه من المشيعين، إذ ليس هناك علاقة بين هذا وذاك.

خرَّج البخاري في صحيحه بسنده إلى علي رضي الله عنه قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد، وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكَّس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة أوالنار، وإلا قد كتبت شقية أوسعيدة؛ فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة، فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ: "فأما من أعطى واتقى" الآية.

قال الشيخ العثيمين رحمه الله مبيناً الفرق بين الموعظة التلقائية التي تقال للجالسين حول المرء عند المقبرة وهي مسنونة، وبين خطب التأبين وإن تخللها وعظ وذكرى وهي ممنوعة، مستدلاً بالحديث السابق: (وعلى هذا فإذا جاء الإنسان إلى المقبرة وجلس الناس حوله فهنا يحسن أن يعظهم بما يناسب بمثل هذا الحديث أوحديث عبد الرحمن بن مرة، حين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى إلى جنازة رجل من الأنصار، ووجدهم يحفرون القبر ولم يتموا حفره، فجلس وجلسوا حوله، كأن على رؤوسهم الطير احتراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلالاً لهذا المجلس وهيبة، فجعل يحدثهم أن الإنسان إذا جاءه الموت نزلت إليه ملائكة الرحمة أوملائكة العذاب، وجعل يحدثهم بحديث طويل يعظهم به، هذه هي الموعظة عند القبر.

أما أن يقوم القائم عند القبر يتكلم كأنه يخطب، فهذا لم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يقف بين يدي الناس يتكلم كأنه يخطب، هذا ليس من السنة، السنة أن تفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، إذا كان الناس جلوساً ولم يدفن الميت فاجلس في انتظار دفنه، وتحدث حديث المجالس، حديثاً عادياً، بعض الناس أخذ من هذه الترجمة "باب الموعظة عند القبر" أن يكون خطيباً في الناس يخطب في الناس برفع الصوت "يا عباد الله" وما أشبه ذلك من الكلمات التي تقال في الخطب، وهذا فهم خاطئ غير صحيح).

قال ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل وهو يعدد بدع الجنائز في وقته: (فإذا أخذوا في إخراجه إلى النعش، فليحذر من هذه البدعة الأخرى التي يفعلها أكثرهم، وهي حضور شخص يسمونه المدير، فيزكي الميت على الله تعالى بمثل قوله: السعيد الشهيد، القاضي الصدر، الرئيس الصالح، العبد الخاشع الورع، كهف الفقراء والمساكين، وللمرأة السعيدة الشهيدة، إلى غير ذلك من ألفاظهم المعهودة عندهم، المنهي عنها في الشرع الشريف، التي جمعت بين التزكية والكذب الصراح، والمحل محل صدق وإخلاص، ورجوع إلى المولى سبحانه وتعالى، فقابلوه بضد المراد منهم، والميت في هذا الوقت مضطر إلى الدعاء له، وإظهار فقره ومسكنته، واضطراره واحتياجه إلى رحمة ربه سبحانه وتعالى، وهم يأخذون في نقيض ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون).

ã

الثانية عشر: الانتظار بعد الدفن وقراءة شيء من القرآن

السنة إذا دفن المسلم أن يستغفر الله له ويسأل له التثبيت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل" الحديث؛ أما أن يقرأ شيء من القرآن على الميت بعد دفنه فلم يثبت بذلك سنة صحيحة، وإن استحب ذلك بعض أهل الفضل.

صحَّ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: "إذا دفنتموني فأقموا حول قبري قدْر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي".

وقال النووي في رياض الصالحين: (قال الشافعي رحمه الله: ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسناً).

وروى أبو داود في سننه بسنده إلى معقل بن يسار، قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا يس على موتاكم".

قال عنه النووي: (إسناده ضعيف، فيه مجهولان، لكن لم يضعفه أبوداود، وروى ابن أبي داود عن مجالد عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا حضروا قرأوا عند الميت سورة البقرة. مجالد ضعيف).

قال الشيخ الألباني رحمه معلقاً على ما نقله النووي عن الشافعي: "ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن": (قلت: لا أدري أين قال ذلك الشافعي رحمه الله تعالى، وفي ثبوته عنه شك كبير عندي، كيف؟ ومذهبه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى.

كما نقله عنه الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلى ما سعى"، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم ثبوت ذلك عن الإمام الشافعي بقوله في "الاقتضاء": (لا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة، وقال مالك: ما علمنا أحداً فعل ذلك، فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلون ذلك).

قلت: وذلك هو مذهب أحمد أيضاً، أن لا قراءة على القبر؛ كما أثبت في كتابي "أحكام الجنائز"، وهو ما انتهى إليه رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كما حققته في الكتاب المذكور).

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله معلقاً على قول عمرو بن العاص رضي الله عنه السابق: (أما ما ذكر عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن أمر أهله أن يقيموا عنده إذا دفنوه قدر ما تنحر جزور قال: لعلي أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي؛ يعني الملائكة، فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، لكنه اجتهاد لا نوافقه عليه، لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هدي غيره، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقف أويجلس عند القبر بعد الدفن قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، ولم يأمر أصحابه بذلك.

إلى أن قال: وأما القراءة على القبر فالأصح أنها مكروهة، وأنه يكره للإنسان أن يذهب إلى القبر، ثم يقف عنده أويجلس عنده يقرأ، لأن هذا من البدع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"، وأقل أحوالها أن تكون مكروهة).

ã

الثالثة عشر: الدعاء الجماعي بعد الدفن

هذا هو الآخر ليس من السنة، أن يدعو شخص للميت ويؤمن الحاضرون، وإنما السنة أن يدعو كل إنسان ويستغفر للميت ويسأل له الثبات، هذه هي السنة وما سواها بدعة.

الرابعة عشر: الجلوس للعزاء ونصب الصيوانات لذلك

من البدع التي أحدثها البعض الجلوس للعزاء ونصب الصيوانات لذلك، وكان هديه صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك حيث كان يوجه أهل الميت بالصبر والاحتساب وعدم إحداث أمر زائد، فلم يصح أنه جلس لتقبل العزاء لا هو ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، مما يدل على بدعية ذلك بهذه الكيفية التي نشاهدها، سيما عندنا في السودان، وإن اختصرت إلى يومين أويوم عما كانت عليه في الماضي، حيث كان الجلوس يتراوح بين السبعة أيام والشهر، وهذا النهي يشمل الرجال والنساء، لكن يمكن أن يجلس بعض الأهل والأقارب ليصبروا ذويهم في مصابهم إن دعت الحال، من غير نصب صيوانات، فهذا لا بأس به، والله أعلم.

عندما نعى النبي صلى الله عليه وسلم شهداء مؤتة جلس في المسجد يعرف على وجهه الحزن، ولم يكن جلوسه هذا لتلقي العزاء، ولكن لعظم الفاجعة.

خرَّج البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جاء النبي قتل ابن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، جلس يعرف في وجهه الحزن.." الحديث.

قال الحافظ ابن حجر معللاً لجلوسه هذا: (قال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة تظهر عليه مخايل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة).

أما ما استخلصه من الحديث بقوله: "وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار"، ففيه نظر، إذ مجرد الجلوس عند المصيبة لا يعني الجلوس للعزاء، وإنما سبب هذا الجلوس العناء النفسي والجسدي في بعض الأحيان، وإلا لو كان جلوسه للعزاء لفعله هو وأصحابه فيما بعد.

ويدل على ذلك كراهة أهل العلم قديماً وحديثاً للجلوس للتعزية.

قال النووي رحمه الله: (قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمراً آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح: "إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

وقال ابن عَلان في شرحه كتاب الأذكار للنووي: (يكره الجلوس للتعزية، قالوا: لأنه محدث هو بدعة، ولأنه يجدد الحزن، ويكلف المعزَّى، وما ثبت عن عائشة: "من أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء خبر قتل زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن"، فلا نسلم أن جلوسه كان لأجل أن يأتيه الناس فيعزوه، فلم يثبت ما يدل عليه).

وقال ابن الحاج المالكي محذراً من هذه البدعة: (وكذلك يحذر مما أحدثه بعضهم من ترك الفرش التي تجعل في بيت الميت لجلوس من يأتي إلى التعزية، فيتركونها كذلك حتى تمضي سبعة أيام، ثم بعد ذلك يزيلونها).

في بعض البلاد يستقبل أهل الميت المعزين في ساعات معينة، مثلاً بين المغرب والعشاء، لمدة يوم أويومين أوثلاثة، لا شك أن هذا أخف وأيسر من الجلوس المتواصل طيلة اليوم والليلة.

قلت: لا يعني النهي عن الجلوس للعزاء عدم مجيء المعزين، فيمكن للإنسان أن يأتي يعزي ويتحرك، أويجلس مع أهل الميت في بيتهم الذي يسكنون فيه.

ã

الخامسة عشر: تكلف أهل الميت صنع الطعام للمعزين

هذه البدعة السيئة قامت على أنقاض سنة حسنة وهي أن يعمل الأهل والجيران طعاماً لأهل الميت اقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم عند استشهاد جعفر رضي الله عنه: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمر شغلهم".

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء في رد على مشروعية ما يفعله أهل الميت من صنع الطعام: (أما إقامة المأتم وبناء الصواوين لتقبل العزاء وإطعام الحاضرين الطعام فليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في اتباع هديه والاقتداء بسنته، قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً".

وخرج الإمام أحمد بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة).

وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: "فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها".

إي وربي كانت هذه السنة موجودة، وكان ما يحضره الأهل والجيران يكفي أهل الميت وضيوفهم ويفيض.

ليت الأمر وقف عند صنع أهل الميت الطعام للمعزين وهو أمر منكر وسنة سيئة، ولكنه تعدى ذلك للتفاخر والتكلف حتى أضحت تكاليف العزاء تفوق في بعض الأحيان تكاليف الزواج، وفي أحيان كثيرة تكون الولائم المعدة والأصناف المحضرة في ولائم العزاء أحسن بكثير من ولائم العرس.

يصل الأمر في حالات إلى عدم التمييز بين صوانات العزاء والفرح، ومن الطرائف أن صغيراً رأى الصيوانات قد نصبت، والكراسي رصت، وحافظات الماء وزعت، فما كان منه إلا أن سأل: متى يحضر الفنان؟ لأنه لم ير فرقاً يذكر بين مراسم العزاء ومراسم العرس، وفي بعض الاحيان ما يعود الناس مع تشييع الميت إلا ويجدوا الذبائح قد علقت!!

يفعل كل هذا وزيادة تقليداً ومجاراة للأعراف والتقاليد مع ضيقهم من ذلك وشكواهم مما يعانون منه ويكابدونه، يزداد الأمر حرمة وسوءاً إذا كان هذا الطعام يصنع من مال الورثة، وفي أحيان كثيرة لا تغطي مساهمات الأهل والأصدقاء تكاليف "الفراش" مما يضطر معه لتكليف الأقربين لتغطية العجز، ولو قدمت هذه الأموال لأهل الميت وقد يكونون في أمس الحاجة إليها لكان في ذلك خيراً كثيراً ومواساة مشكورة.

ã

السادسة عشر: استئجار مقرئين، أووعاظ، أوتشغيل شرائط لمقرئين

من بدع الجنائز السيئة، ومحدثاتها المنكرة، استئجار مقرئين أوتشغيل شرائط لمقرئين في المأتم، قبل وبعد الدفن، حيث لم يرد بهذا الصنيع دليل من السنة، ولم يفعله أحد من الأمة المقتدى بها.

ومن المحزن أن تختزل وظيفة هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند كثير من المسلمين في التبرك به عند افتتاح الاحتفالات والمهرجانات، أوأن يقرأ في المآتم، أويوضع عند رأس المرأة حديثة الولادة، أوأن يعلق كله أوبعض آياته وسوره في البيوت والسيارات، وهذا كله مخالف لهدي  رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الواجب على المسلمين تلاوة هذا الكتاب وتدبره وحفظ ما تيسر منه لمن لم يتمكن من حفظه كله، وقراءته في الصلوات، في النوافل والمكتوبات، وفي قيام الليل، وفي العمل بمقتضاه وتحكيمه في جميع شؤون الحياة.

أين هذا من حال الصحابة الذين ما كان أحدهم يتجاوز العشر آيات إلا بعد أن يحفظها، ويتدبرها، ويعمل بما فيها؟

إذا تنازع العلماء في استفادة الميت من القراءة إذا أهديت إليه من غير استئجار فمنهم من أجازها وهو الراجح ومنهم من منعها، فكيف بقراءة المستأجرين؟! وإذا اختلفوا في أخذ أجرة في تعليم القرآن للصبيان وغيرهم فمن باب أولى عدم جواز استئجار المقرئين في المآتم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حكم الأجرة على قراءة القرآن لروح الميت: (أما الاستئجار لنفس القراءة والإهداء فلا يصح ذلك، فإن العلماء إنما تنازعوا في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والأذان، والإمامة، والحج عن الغير، لأن المستأجر يستوفي المنفعة، فقيل: يصح ذلك كما هو المشهور من مذهب مالك والشافعي، وقيل: لا يجوز، لأن هذه الأعمال يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فإنما تصح من المسلم دون الكافر، فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى، فإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق، لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه، لا ما فعل لأجل عروض الدنيا.

أما إذا كان لا يقرأ القرآن إلا لأجل العروض، فلا ثواب لهم على ذلك، وإن لم يكن في ذلك ثواب فلا يصل إلى الميت شيء، لإنه إنما يصل إلى الميت ثواب العمل، لا نفس العمل).

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة في ردهم على سؤال: (ما حكم استئجار من يقرأ القرآن على قبر الميت، أوعلى روحه؟: (لا يجوز استئجار من يقرأ القرآن على قبر الميت، أوعلى روحه، ويهب ثوابه للميت، لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه واحد منهم فيما نعلم، والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف).

وقال ابن الحاج المالكي رحمه الله معدداً بدع المآتم: (ومنهم من يأتي بالواعظ إلى الرجال، ومنهم من يأتي بالواعظة للنساء).

ã

السابعة عشر: عمل صدقة من الطعام يدعون إليها بعض القراء والفقراء في أوقات محددة، في اليوم الثالث، أوبعد أسبوع، أوبعد أربعين يوماً، ونحو ذلك

هذه أيضاً من بدع المآتم السيئة التي درج عليها كثير من المسلمين، ويحسبون ذلك هيناً وهو عند الله عظيم، لمخالفة ذلك لهدي سيد المرسلين، ويحسبون أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى موتاهم على الرغم من إنكار أهل العلم قديماً وحديثاً لهذه البدعة ولغيرها، فلا يزال الناس متمسكين بها ومتوسعين فيها.

قال ابن الحاج المالكي: (وكذلك يحذر مما أحدثه بعضهم، من فعل الثالث للميت، وعملهم الأطعمة فيه، حتى صار عندهم أمر معمول به، ويشيعونه كأنه وليمة عرس، ويجمعون لأجله الجمع الكثير من الأهل والأصحاب والمعارف، فإن بقي أحد منهم وجدوا عليه.

ثم إنهم لم يقتصروا على ذلك حتى يقرأوا هناك القرآن العظيم على عوائدهم المعهودة منهم بالألحان والتطريب الخارج عن حد القراءة المشروعة).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة، بل قال جرير بن عبد الله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة).

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء وقد سئلت: "ما حكم ذبح ذبيحة أوأكثر في البيت على روح الميت عند مضي أربعين يوماً على وفاته، وإطعامها الناس بقصد التقرب إلى الله ليغفر لميتهم، ويرحمه، ويسمونها الرحمة، أوعشاء الميت؟"، فقالت: (ما ذكرت من الذبح على روح الميت عند مضي أربعين يوماً عليه من تاريخ وفاته وإطعامها للناس تقرباً إلى الله رجاء المغفرة والرحمة بدعة منكرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يفعله الخلفاء الراشدون ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولا أئمة أهل العلم، فكان إجماعاً على عدم مشروعيته).

هذا مع العلم أن لا مانع أن يتصدق المرء عن ميته بنقود أوطعام ويهدي أجر ذلك للميت، شريطة أن لا تكون في أيام معينة، ولا بكيفية معينة، وإنما هي من جملة الصدقات التي تعمل في جميع الأوقات.

ã

الثامنة عشر: دعوى أن القبر مظلم حتى يطعم عن الميت

كما قلت في المقدمة فإن هذه البدع والمحدثات لا توجد مجتمعة في بلد واحد، حيث يوجد بعضها في بعض البلاد دون بعض، بجانب أن هناك بدع مشتركة عمت بها البلوى في جميع ديار الإسلام.

من تلك البدع التي توجد في بعض الديار دعوى أن القبر مظلم حتى يطعم عن الميت، ولهذا لا يدفنون ميتهم إلا بعد إخراج هذا الطعام، فهذه من البدع المنكرة، وفيها رد لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن: "القبر إما روضة من رياض الجنة، أوحفرة من حفر النار"، أوما معناه.

وفيها كذلك تسوية بين الأموات وسوء ظن بهم جميعاً.

جاء في رد على إنكار هذا العمل في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يأتي: (أما دعوى أن القبر مظلم، وأن تقديم الطعام من قبل أهل الميت والصدقة عنه قبل دفنه يضيء في ظلام القبر، وقبل أن يدخل في قبره يصير القبر نوراً، فهذا لا أصل له، والقول به رجم بالغيب، لأن ذلك من الأمور الغيبية التي لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى).

ã

التاسعة عشر: تقديم الدخان للمعزين

من شؤم البدعة أنها تجر إلى غيرها، فالجلوس للعزاء بدعة، وكل ما يتبع ذلك فهو بدعة، وبعضها أشد نكارة من بعض، نحو تقديم الدخان للمعزين، فإذا كان تقديم الطعام، والماء،و الشاي، والقهوة، وهي من المباحات لا يجوز، فكيف بتقديم الدخان الذي هو من الخبائث إجماعاً، وإن اختلف أهل العلم في تحريمه وكراهته؟ لا شك أنه من باب أولى الامتناع عنه، وبالأحرى عدم تقديمه للغير، سيما في مناسبة العزاء.

وهذا يدخل في باب التعاون على الإثم والعدوان الذي نهانا ربنا عنه حيث قال: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".

فتقديم الدخان عدوان لا شك فيه، وفي تقديمه للمعزين مقابلة للإحسان بالعدوان.

ã

العشرون: إنشاء الخطب، والمواعظ، والشكر، إذاناً بختم مدة العزاء "رفع الفراش"

من المحدثات التي درج عليها الناس في السنوات الأخيرة - في السودان خاصة حيث لم تكن موجودة من قبل، تحول بيت العزاء عند ختم العزاء إلى منبر للخطب الرنانة، والمواعظ، والشكر، حيث يتبارى الناس في ذلك ويتنافسون، ويأتي الخطباء والوعاظ من كل ناحية.

هذه البدعة تشتمل على قبائح كثيرة، منها:

1.   تزكية الميت وإطرائه والمبالغة في ذلك، وقد نهانا ربنا عن ذلك قائلاً: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى".

وإذا كان سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام نهى عن أن يُطرى، وهو أهل للإطراء والمدح والثناء اللائق به، قائلاً: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"، فكيف بغيره؟

2.   اتهام من لم يفعل ذلك من أهل الميت وأصدقائه بالتقصير في حق ميتهم.

3.   بيت الميت ليس منبراً للخطابة والمواعظ العامة.

4. دعوى أن الغرض من ذلك شكر المعزين، فشكر الناس لا يحتاج إلى خطب، وإنما يمكنك شكر المعزي والدعاء له في الحال، بل الدعاء له بظهر الغيب أفضل، وهو قمِن أن يستجاب.

5.   الخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع.

فالواجب الإقلاع عن ذلك وعدم التوسع فيه، إذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، وهو الإعلام بالوفاة، فكيف بالخطب، والكلمات، والثناء الذي يقال في جمع غفير من الناس عادة، فهو أشد نهياً وكراهة من النعي.

ã

الحادية والعشرون: تكلف المجيء للتعزية من أماكن بعيدة والمجاملة فيها

لقد رفع الله الحرج عن هذه الأمة المرحومة في التكاليف الشرعية التي هي سبب من أسباب دخول الجنة ورضى الرحمن، فقال تعالى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، "واتقوا الله ما استطعتم"، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم".

فما بال بعض المسلمين يتكلفون ما لا طاقة لهم به في أمور أعلى درجاتها الاستحباب، ما لا يتكلفون في أداء الواجبات والقيام بالأمور المهمات؟ ألا يعد ذلك من مظاهر النفاق الاجتماعي الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا العصر؟

ومما يدل على ذلك أنه ما من أحد إلا وهو يتضجر من كثرة المجاملات لما فيها من ضياع:

1.  الوقت.

2.  والمال.

3.  والتقصير في الواجبات الخاصة والعامة.

4.  وإدخال الحرج على النفوس.

وهي من لزوم ما لا يلزم.

لا شك أن في ذلك تكافل اجتماعي، وتسلية لأهل الميت، وتخفيف عنهم في مصابهم، لكن إذا كان الفعل ضرره أكثر من نفعه، ومفسدته أعظم من مصلحته، فالواجب عدم الإقدام عليه.

لقد تغيرت الأحوال، وتبدلت الظروف، واستجدت أمور، واستحدثت أنماط من الأعمال والوظائف، كان الناس فيما مضى عندنا في السودان وفي غيره من بلاد الإسلام تعيش الأسرة في قرية واحدة، أوفي قرى وفرقان متجاورة، معتمدين بعد الله عز وجل على مواشيهم وقليل من الزراعة حول قراهم، ويندر أن يكون أحد من أفراد الاسرة خارج هذا النطاق.

أما الآن فأفراد الأسرة الواحدة موزعون، ليس في السودان فحسب، بل في دول الخليج، وفي أوروبا، وأمريكا، وغيرها من أرض الله الواسعة، كما هو معلوم مشاهد.

فما كان يطالب به الفرد في الماضي لا يمكن الوفاء به اليوم مع هذه الظروف، والمتغيرات، والمستجدات.

مرد تخلف المسلمين عسكرياً، وصناعياً، واقتصادياً، في اعتقادي يرجع إلى سلوكنا الاجتماعي، سيما عندنا في السودان:

1.  سلوكنا في معاشنا.

2.  سلوكنا في أفراحنا وأتراحنا.

3.  سلوكنا في مجاملاتنا لبعضنا البعض.

4.  سلوكنا في التسيب عن الأعمال الخاصة والعامة إذا تصادمت بأمر من الأمور السابقة.

5.  سلوكنا في عدم التناصح.

6.  سلوكنا في عدم المحاسبة والأخذ بيد الجاني والمقصر.

وكل هذا يرجع إلى السلوك الاجتماعي المعوج.

قل لي بربك هل هناك حاجة أن تتحرك حافلة أوحافلتان أوأكثر من القولد أوالقرير لتعزي في ميت في "الحاج يوسف" أو"الكلاكلة" مثلاً ثم ترجع في مساء اليوم أوفي اليوم الثاني؟ علماً أن الغالب من هؤلاء مجامل لشخص أوشخصين مثلاً؟

هذا بجانب ما يمكن أن يتعرض له هؤلاء من حوادث في الطريق ونحو ذلك، فكم من أموال صرفت؟ وكم من وقت أهدر؟ وكم من محل تجاري أغلق؟ وكم من زرع أهمل؟ وكم من أسر وأطفال لم توفر لهم حاجياتهم الضرورية؟ وكم، وكم؟

هذا مع علمنا أن الناس قد قللوا وتخففوا كثيراً من تلك المجاملات عن ذي قبل.

من أصعب الأمور تغيير السلوك الاجتماعي المعوج، فهو يحتاج إلى صدق، وتجرد، وتعاون بين الجميع، سيما مع سيطرة العادات والتقاليد والأعراف في مجتمعات المسلمين، حيث لا يستطيع أحد أن يخالفها إلا من رحم ربك، لما يواجه به المخالف لها من الهجر والنبذ والتعرض لكلام الناس وانتقاداتهم.

ã

الثانية والعشرون: نشر صورة المتوفي في الصحف، وشكر العائدين والمعزين

من البدع القبيحة التي قلد فيها بعض المسلمين الكفار، نشر صور موتاهم في صحيفة من الصحف السيارة، وشكر الذين عادوا المتوفي وسعوا في علاجه، والمعزين فيه، وفي بعض الأحيان تستأجر صفحة كاملة أونصف صفحة أوأقل من ذلك.

وفي هذه البدعة من المخالفات الشرعية الكثير، منها:

1. التشبه بالكفار، وهو أخطرها مع إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".

2. نشر صورة المتوفى، ومعلوم في الدين ضرورة تحريم التصوير وتعليق الصور.

3. بذل المال في أمر محرم، ولن تزول قدما ابن آدم حتى يسأل عن أربع، منها: "عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه".

4. التقليد في سنة سيئة، حيث يكون على أول من فعلها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق.

فينبغي للمسلمين أن يراجعوا أنفسهم، وأن يحاسبوها، وأن لا تحكمهم العادات والتقاليد، وعليهم التفقه في دين الله، فكثير من هذه البدع مردها إلى الجهل والتقليد.

ã

الثالثة والعشرون: حفل التأبين!

ما من بدعة من بدع الجنائز إلا وهي أقبح من أختها، من ذلك ما ابتدعه البعض من إقامة حفل تأبين في منزل المتوفى أوفي أحد الأندية أوغيرها في اليوم الأربعين من وفاته، أوبعد سنة، تقدم فيه الخطب والمرثيات ويثنى فيه على الميت بما فيه وما ليس فيه غالباً.

وهذا كله يدل على صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم في تحذيره ونهيه عن التشبه بالكفار: "ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" الحديث.

مرجع هذه البدعة التشبه بالكفار الأقدمين - فراعنة ومحدثين يهود ونصارى فهو شبيه بما يصنعه النصارى "الجناز الأربعيني".

ورد سؤال على اللجنة الدائمة للفتوى بالسعودية: "ما أصل الذكرى الأربعينية؟ وهل هناك دليل على مشروعية التأبين؟".

فردت: (أولاً: الأصل فيها أنها عادة فرعونية، كانت لدى الفراعنة قبل الإسلام، ثم انتشرت عنهم وسرت في غيرهم، وهي بدعة منكرة، لا أصل لها في الإسلام، يردها ما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

ثانياً: تأبين الميت ورثاؤه على الطريقة الموجودة اليوم، من الاجتماع لذلك، والغلو في الثناء عليه لا يجوز، لما رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي"، ولما في ذكر أوصاف الميت من الفخر غالباً، وتجديد اللوعة وتهييج الحزن، وأما مجرد الثناء عليه عند ذكره، أومرور جنازته، أوللتعريف به، بذكر أعماله الجليلة ونحو ذلك، مما يشبه رثاء بعض الصحابة لقتلى أحد وغيرهم، فجائز، لما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: "وجبت"، فقال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".

بل البعض ينوي ويعزم على أن يقام حفل التأبين هذا سنوياً، تمشياً مع ما ابتدعه المتصوفة من إقامة حوليات مشايخهم في كل عام.

ã

الرابعة والعشرون: حوليات المشايخ

من البدع القبيحة التي درج عليها أتباع المشايخ الطرقية إقامة الحوليات لمشايخهم، حيث يتجمع المريدون من كل صوب وحدب في منزل الشيخ عند خليفته، أوعند قبره أوقبته، ويحيون تلك الليلة أوالليالي بضرب الطبول، وبالرقص، والتواجد، حيث تنفق في هذه الحوليات الأموال الطائلة، وتقدم فيها الأطعمة، وتعتبر سوقاً يستعد له قبل حين، كما يحدث في حوليات "البدوي" و"المرسي" وغيرهما بمصر.

والحوليات خطورتها بجانب أنها بدعة منكرة مخالفة للهدي النبوي كذلك، فهي:

1. وسيلة وذريعة من وسائل الشرك، حيث تمارس فيها جل صور الشرك الأكبر من الدعاء، والاستغاثة، والصلاة، والنذر، والذبح وغيرها.

2. اعتبارها قربة من القرب التي يتقربون بها إلى الله عز وجل، وزلفى من الزلف، وهي في الحقيقة تباعد بين المرء وربه، وتوجب على محييها غضبه.

3. الأموال الكثيرة التي تنفق فيها.

4. مشاركة بعض طلاب العلم فيها، بدعوات من شيوخ السجادات، وإلقاء الخطب والتباري فيها، وهذا له خطره العظيم في تضليل العوام والتلبيس عليهم، فينبغي لأهل العلم والفضل أن لا يشاركوا فيها، وأن لا يجاملوا على حساب دينهم، الهم إن كانوا معتقدين لما يعتقده أتباع الطرق فهاهنا تكون مصيبتهم أعظم.

ã

الخامسة والعشرون: تكبير صورة المتوفى وتعليقها في بيته وبيت أفراد أسرته

لو يعلم المبتدع الأول ما عليه من الوزر والإثم ما أقدم على بدعته أبداً، وما خلف بدعة بعده، ولهذا جاء في الأثر: "ويل لمن مات وبقيت بدعته بعده".

من البدع المنكرة كذلك الاحتفاظ بصور الأموات، بل البحث والتفتيش عنها عند أهله وأصدقائه، ثم تكبيرها ووضعها في إطار "مبروز"، ثم توشيح بيوت الأهل والأصدقاء بها.

وفي هذا العمل ما فيه، من ذلك:

1. أن تعليق الصورة في المنزل يمنع من دخول ملائكة الرحمة بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2. أن تعليق الصور يجدد الحزن على أهله.

3. التصوير نفسه، وتكبير الصور من أحرم الحرام.

4. يشجع الآخرين على الاقتداء بمن فعل هذا العمل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ينبغي للمسلمين أن لا ينساقوا وراء العواطف والعادات، وعليهم التقيد بسنة من أنزلت عليه الآيات المباركات، ومن ختمت به الشرائع المحكمات، وأن يتفقهوا في دينهم، وأن لا يقدموا على أي عمل مهما كان صغيراً أوكبيراً إلا بعد التأكد أنه موافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلموا أنهم محاسبون على أعمالهم كلها، جليلها وحقيرها، دقها وعظيمها.

ã

السادسة والعشرون: تجمع الأهل والأقارب والأصدقاء في دور حديثي الوفاة في الأعياد والمناسبات

من البدع المنكرات تجمع الأهل والأقارب والأصدقاء في بيت حديثي الوفاة من ذويهم في الأعياد والمناسبات، مما يجدد الحزن ويهيج على البكاء والعويل، ولهذا ينبغي الامتناع عن ذلك، ومن ذهب للعيدية فعليه تصبير أهل الميت وتثبيتهم لا أن يشاركهم في ذلك، أعني ما تفعله كثير من النساء مجاملة لذوي الميت.

ã

السابعة والعشرون: زيارة الأضرحة والقبور البدعية

لا شك أن زيارة القبور منها ما هو مشروع مسنون، وهي التي تذكر بالآخرة، ولهذا شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته بالقول والفعل.

خرَّج مسلم في صحيحه عن أنس يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، زاد أهل السنن: "فإنها تذكركم الآخـرة".

وفي رواية للحـاكم كما قـال الحـافظ ابن حجر: "وترق القلوب، وتدمع العيون، فلا تقولوا هجراً"، ولزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبر أمه ولشهداء أحد وأهل البقيع.

فالزيارة الشرعية هي:

1. أن تكون خاصة بالرجال دون النساء.

2. أن يسلم فيها على الأموات: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين" الحديث.

3. أن يتذكر الإنسان مصيره فيعمل لما بعد الموت.

أما الزيارة البدعية فهي التي:

1. يأتي فيها الزائر بأعمال شركية، نحو دعاء الأموات، والاستغاثة فبهم، والذبح لهم، والتمسح بقبورهم، وطلب الحاجات منهم.

2. زيارة النساء.

3. أن تكون في أيام معلومة، يوم الجمعة مثلاً، وبعد الأربعين، وفي الأعياد.

قال الشيرازي رحمه الله: (يستحب للرجال زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: "زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: إني استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت".

والمستحب أن يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، ويدعو لهم، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يخرج إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"، ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله زوارات القبور").

وقال النووي في شرح ما قال الشيرازي: (اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهو قول العلماء كافة، نقل العبدري فيه إجماع المسلمين، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهياً عنها أولاً ثم نسخ، ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".. وكان النهي أولاً لقرب عهدهم بالجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام وتمهدت أحكامه، واستشهرت معالمه، أبيح لهم الزيارة، واحتاط صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولا تقولوا هجراً"، قال أصحابنا رحمهم الله: ويستحب للزائر أن يدنو من قبر المزور ما كان يدنو من صاحبه لو كان حياً وزاره.

وأما النساء فقال المصنف وصاحب البيان لا تجوز لهن الزيارة، وهو ظاهر هذا الحديث، والذي قطع به الجمهور أنها مكروهة لهن كراهة تنزيه).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قال النووي تبعاً للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة، كذا أطلقوا، وفيه نظر، لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين، وإبراهيم النخعي، والشعبي الكراهة مطلقاً، حتى قال الشعبي: لولا نهي النبي لزرت قبر ابنتي؛ ولعل من أطلق أراد الاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم، ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به؛ واختلف في النساء فقيل: دخلن في عموم الإذن، وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة.

إلى أن قال:

وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة، فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها؛ وقيل الإذن خاص بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في "المهذب"، واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في "باب اتباع النساء والجنائز"، وبحديث: "لعن الله زوارات القبور"، أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت.

واختلف من قال بالكراهة في حقهن، هل هي كراهة تحريم أوتنزيه؟ قال القرطبي: هذا اللعن إنما للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج، والتبرج، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك؛ فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء).

قلت: القول الراجح الذي تسنده الأدلة الصحيحة أن النساء ممنوعات من زيارة القبور للنهي الصحيح الصريح المخصص للنساء عن الرجال، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما قول أبي العباس القرطبي رحمه الله: "إذا أمنت الفتنة"، فأنى تؤمن؟! والذي يظهر أن المنع هو الأولى أمنت الفتنة أم لم تؤمن، لأن الأحاديث التي نهت عن ذلك لم يرد فيها اشتراط أمن الفتنة، وإنما وردت مطلقة، والله أعلم.

أما تفريق مالك رحمه الله بين الكبيرة والشابة، حيث أجاز زيارة القبور للمتجالة ومنع منها الشابة فيعوزه الدليل كذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المشروع في زيارة القبور: (أما زيارة القبور، فهي على وجهين: شرعية، وبدعية).

ثم بعد أن وضح الشرعية قال:

(وأما الزيارة البدعية: وهي زيارة أهل الشرك، من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت، والاستعانة وطلب الحوائج عنده، فيصلون عند قبره، ويدعون به، فهذا ونحوه لم يفعله أحد من الصحابة، ولا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل قد سد النبي صلى الله عليه وسلم باب الشرك، في الصحيح أنه قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، قالت عائشة رضي الله عنها: "ولولا ذلك لأبرز قبره، لكن كره أن يتخذ مسجداً".

إلى أن قال: وقد أصاب المسلمين جدب وشدة، وكانوا يدعون الله، ويستسقون ويدعون على الأعداء، ويستنصرون ويتوسلون بدعاء الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم".

ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا صالح، ولا الصلاة عنده، ولا طلب الحوائج منه، ولا الإقسام على الله به، مثل أن يقول القائل: أسألك بحق فلان وفلان؛ بل كل هذا من البدع المحدثة.

وقال راداً على من أدخل النساء في الإذن:

فإن قيل: فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال ذلك أهل القول الآخر، قيل: هذا ليس بجيد، لأن قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، هذا خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر، وهو مختص بالمذكور، أومتناول لغيرهم بطريق التبع، فإن كان مختصاً بهم فلا ذكر للنساء، وإن كان متناولاً لغيرهم كان هذا اللفظ عاماً، وقوله: "لعن الله زوارات القبور" خاصاً بالنساء دون الرجال، ألا تراه يقول: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"، فالمتخذين عليها المساجد والسرج لعنهم الله سواء كانوا ذكوراً أوإناثاً، وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال، وإذا كان هذا خاصاً ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدماً على العام عند عامة أهل العلم، كذلك لو علم أنه كان بعدها.

هذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان"، فهذا للرجال والنساء لم يدخلن في ذلك، لأنه ثبت عنه في الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز).

ã

الثامنة والعشرون: إحداد المرأة على غير زوج أكثر من ثلاثة أيام

من البدع المحدثة كذلك ما تفعله بعض النساء من الإحداد على أمواتهن من غير الأزواج أكثر من ثلاثة أيام، حيث أباح الشارع أن تحد المرأة إن شاءت ثلاثة أيام، وخص الزوج بأربعة أشهر وعشراً لمن لم تكن ذات حمل، أما ذات الحمل فحتى تضع حملها، حيث قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" الحديث.

وقد صح عن أم سلمة عندما توفي أبو سلمة أنها دعت بطيب ومست منه بعد الثالث، وكذلك فعلت أم حبيبة عند موت أبي سفيان، وقالتا جميعاً: "ليس لنا حاجة في الطيب، لولا أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.. "، الحديث السابق.

والمراد بالإحداد الامتناع عن الزينة والطيب في البدن والثوب، أما ما يفعله البعض من البدع فلا علاقة له بالإحداد الشرعي.

جاء في جواب عن سؤال ورد على اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية عن حكم النوم على الأرض مدة أربعين يوماً بعد دفن الميت: (وكذا النوم على الارض وترك الأقارب والجيران التطيب أربعين يوماً، أوأياماً من أجل وفاة أحد منهم، بدعة محدثة).

ã

التاسعة والعشرون: الوقوف لمدة دقيقة لأرواح الشهداء، وتنكيس الأعلام، وإعلان الحداد عليهم وعلى غيرهم من الرؤساء

من البدع التي تشبه فيها بعض المسلمين بالكفار الوقوف لمدة دقيقة والصمت كما يزعمون لأرواح الشهداء، وكذلك تنكيس الأعلام، وإعلان الحداد على من يصفونهم بالشهداء، والشهادة لا يعلمها إلا الله، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إطلاق ذلك على أحد، ولكن يمكن أن يقال نحسبه أونظنه، وعلى بعض الرؤساء ونحوهم، وتشغيل تسجيلات القرآن الكريم في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة.

فعلى المسلمين الإقلاع عن ذلك، والحذر من التشبه بالكفار، المفضي إلى عذاب النار وغضب الجبار.

ã

الثلاثون: بناء نصب وأصنام للجنود المجهولين، وزيارة هذه النصب والأصنام، ووضع أكاليل الزهور عليها

كذلك من البدع التي أحدثها بعض المسلمين مقلدين فيها للكفار والوثنيين بناء النصب التذكارية كما يزعمون للجنود المجهولين، وزيارة المسؤولين لهذه النصب مع كبار الضيوف، ووضع أكاليل الزهور عليها، سواء كانت هذه النصب لكفار أومسلمين، كما درج على ذلك البعض، فهو من الممارسات الشركية التي لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفعلها، ولا يليق بأتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا بهذه الدرجة من الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل والبدعة والسنة.

ويتبع ذلك ما انتشر في الآونة الأخيرة عند المسلمين من إهداء باقات من الزهور للمرضى المنومين في المستشفيات تقليداً كذلك للكفار، وقد يكون بعض المرضى في حاجة إلى تلك المبالغ التي تشترى بها هذه الزهور الصناعية لشراء بعض الأدوية أوليتغذى بها، فالأولى أن تعطى قيمة هذه الزهور التي لا تعني شيئاً عند كثير من المسلمين إلا الممسوخين منهم الذين أشربوا حب الكفار والاقتداء بهم.

ã

الحادية والثلاثون: بناء الأضرحة والعتبات، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها عيداً يعتاده الناس من حين لآخر

من وسائل الشرك المنتشرة بين كثير من المسلمين في هذه الأزمة البناء على القبور وإيقاد السرج عليها، وجعل سدنة عليها، واعتبار زيارتها من حين لآخر واتخاذها عيداً تختلط فيه النساء بالرجال، ويشرك فيه بالله عن طريق التمسح بتلك الأضرحة وطلب الحاجات من أصحابها والطواف بها، والنذر والذبح لأصحابها، إلى غير ذلك من البدع الشركية على الرغم من تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم وتخويفه من هذه الأعمال، سداً للذريعة وحماية للشريعة أن يدخل فيها ما ليس منها.

والبناء على القبور بأي كيفية وصورة من الصور لا يجوز ولا يحل، وكذلك الكتابة عليها.

وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقومون على هذه الأعمال بأنهم شرار الخلق عند الله، وقد اشتد غضب الله عليهم.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله".

وسأل رجل ابن عمر أن يبني على ميته فسطاطاً، فنهاه ابن عمر عن ذلك قائلاً: "لا تفعل، إنما يظله عمله".

على الرغم من كل ذلك فإننا نجد أن عدد الأضرحة والقباب في بلاد الإسلام في ازدياد وتعظيم مستمر، وإليك هذه الإحصائية لأشهر الأضرحة والقباب التي اتخذت عيداً في بعض البلاد الإسلامية.

1.   في دمشق وحدها حوالي 194 ضريحاً، المشهور منها حوالي 44 ضريحاً.

2.   في تركيا حوالي 481 جامعاً لا يخلو واحد من ضريح.

3.   في بغداد وحدها أكثر من 150 ضريحاً.

4.   وفي الموصل أكثر من 76 ضريحاً، كلها داخل مساجد.

5.   في الهند أكثر من 150 ضريحاً يؤمها مئات الآلاف من الناس.

6. وفي مصر العديد من الأضرحة الكبرى، كضريح الحسين الذي يطاف حوله كما يطاف حول الكعبة، والسيدة زينب، والإمام الشافعي، وغيرها، وجل هذه الأضرحة المشهورة مكذوب، كضريح الحسين مثلاً.

بل بلغت الجرأة أن جعلوا لزيارة هذه الأضرحة والقباب آداباً، نحو:

1.  خلع النعلين.

2.  الاستئذان من سدنتها.

مما تجدر الإشارة إليه أن المسجد الذي يُبنى على القبر لا تصح الصلاة فيه إجماعاً، لا جمعة ولا أوقات، وينبغي أن يهدم فهو شر من مسجد الضرار الذي هُدم.

أما إذا كان المسجد سابقاً للقبر ففي الصلاة في هذا المسجد تفصيل، وهو:

1. إن كان القبر لجهة القبلة فلا تصح الصلاة فيه.

2. إن كان القبر لغيرة جهة القبلة فإن كان محاطاً بجدران فقولان لأهل العلم في الصلاة فيه، منع منها بعضُهم وهو الراجح، وأجاز ذلك مالك؛ أما إن لم يكن محاطاً بجدران فلا تصح الصلاة فيه في أرجح قولي العلماء، والله أعلم.

ينبغي لولاة الأمر من الحكام أن يتولوا نبش هذه القبور الموجودة في المساجد، وينقلوها إلى مقابر المسلمين، حتى لا يفتنوا الناس في دينهم، ويحرموهم من صلاة الجماعة، ويحموا هذه الأمة من مخاطر الشرك الأكبر، ويمنعوا من الدفن في المساجد.

فمن وصى أن يدفن في مسجد لا تنفذ وصيته أبداً، وإن كان هو الباني للمسجد، لأن المسجد بعدأن يُبنى يصبح بيتاً من بيوت الله ووقفاً للمسلمين، ولا يحل لصاحبه ولا لغيره أن يتصرف فيه إلا لمصلحة الصلاة فيه، ولا يجوز أن يُهدم إلا إذا هجر أهل القرية القريةَ ولا يوجد فيها أحد من المسلمين، في هذه الحال يهدم لينقل في مكان يحتاج فيه الناس إلى مسجد.

اللهم طيبنا للموت وطيبه لنا، واختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا، إنك رؤوف رحيم.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

0000000000000000000000

تعقيب على مقال"السلفيون الجدد وفتاوى الفتنة"

هذا تعقيب على ما نشر بتاريخ 15 20 من ذي القعدة 1425هـ، الموافق 27 من ديسمبر 2004 2 يناير 2005م، الأعداد رقم 615-621 من جريدة الحياة، تحت باب "الجرح والتعديل" لعبد الهادي عبد الباسط بعنوان: "السلفيون الجدد وفتاوى الفتنة".

مآخذ عامة

لي مآخذ وملاحظات عامة على ما ورد في تلك المقالات، أود التنبيه عليها، وهي:

أولاً: عمَّم الكاتب في مقالاته تلك ليشمل كل السلفيين، ولا شك أن السلفيين متفاوتون أشد التفاوت، ومختلفون اختلافاً كبيراً، مثلهم كمثل غيرهم من الناس، فلو قال: بعض السلفيين، أونفر منهم، أوسمى، ربما كانت له مندوحة في بعض ما ذهب إليه، أما التعميم ففيه ظلم وإجحاف وتعدٍ على الأبرياء، وهو يوقع الكاتب في الوعيد الذي ورد في الحديث الصحيح: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، ويشمله من أجل ذلك ما حذر منه الحافظ ابن عساكر إخوانه المسلمين تهجم البعض على العلماء وطلاب العلم، حيث قال: "اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".

وإن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي، كما قال الإمامان أبوحنيفة والشافعي رحمهما الله.

ثانياً: القسوة والحقد، اللذان طفحت بهما مقالات الكاتب ضد السلفيين، في مقابل التسامح والرحمة والعطف مع الكفار، ذميين ومحاربين، بل ومنصرين.

1. نحو قوله: (ويجب عليهم أن يفرقوا جيداً بين "الصليبية" و"المسيحية"، لأن الصليبية هي حركة سياسية عنصرية تتخذ من المسيحية منطلقاً لتحقيق أهداف استعمارية تخدم مصالح دول كبرى تخدع "بسطاء المسيحيين"، وتحارب المسلمين، أما المسيحية فهي ديانة سماوية يعترف بها الإسلام).

أقول:

الصليبية والمسيحية وجهان لعملة واحدة، وعلينا أن نطلق على هذا الفريق من كفار أهل الكتاب المصطلح القرآني وهو "النصارى"، أو"الكفار"، لا مسيحيين، ولا صليبيين، ولا غربيين؛ والدليل على عدم صحة هذا التفريق أن الحرب الصليبية التي يدور رحاها الآن في العالم الإسلامي التي بدأت بغزو أفغانستان والعراق، شُنت تحت مظلة "الاتحاد اليهودي المسيحي" كما جاء في خطاب بوش أمام الكونغرس بتاريخ 29/1/2002م.

ثم من أين لك أن الإسلام اعترف بالمسيحية كدين إلى الآن؟ القرآن والسنة أخبرا بأن اليهودية والنصرانية كانتا ديانتين سماويتين، ولكن اليهودية نُسخت ببعثة عيسى عليه السلام، والنصرانية نُسخت ببعثة محمد عليه السلام، وبينا أن الدين عند الله هو الإسلام: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه"، ولا يردُّ على ذلك أن أهل الكتابين خصوا ببعض الأحكام عن المشركين، فكلهم كفار بحكم الله: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين"، "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ما يسمع بي من يهودي ولا نصراني ثم لا يتبعني إلا أكبه الله في النار" أوكما قال؛ ولهذا ليس بيننا وبين هؤلاء الكفار إلا الكلمة السواء: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، حكمت على بطلان كل الدعاوى الكاذبة نحو: تقارب الأديان، أواتحادها، أوالحزب الإبراهيمي، وما شاكل ذلك.

2. ونحو قوله مبرراً كفر كثير من مسيحيي السودان: (ويجب عليهم أن يعلموا أن كثيرين من مسيحيي السودان هم أناس مساكين بسطاء، ولم يبلغهم أحد أن هناك "دين حق" اسمه الإسلام، وهم يعتقدون أن دينهم الذي يعرفونه هو الدين الحق).

ونقول لأخينا: أنت المسكين الطيب المجامل للكفار، المتشدد المتعنت مع إخوانك السلفيين، ولو دققت النظر لانتبهت للتخطيط والعمل الدؤوب الذي يقوم به فريق منهم.

أما أنه لم يبلغهم أحد أن الإسلام هو الدين الحق الناسخ لغيره فهذا غير صحيح، فقد بُلغوا، ولكن التعصب للآباء والأجداد هو المانع لهم من قبوله.

وثمة شيء آخر، وهو أنه يجب على كل من سمع بهذا الدين أن يتعرف على حقيقته، ويبحث فيه، كما فعل سلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي، فقد هاجروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقطعوا الفيافي، وسعوا إلى الهداية في الماضي، وكما فعل بعض المهتدين من الكفار في هذا العصر، حيث اهتدوا إلى الإسلام عن طريق البحث والسؤال.

3. لقد بلغت مجاملته وتلطفه بالكفار مداها، وبلغ سوء ظنه بإخوانه السلفيين مداه حين قال: (يجب على السلفيين الذين يتكدسون داخل العاصمة حيث "التكييف"، وحيث "الطيبات"، وحيث "الدين البارد" الخالي من العنت، يجب عليهم أن يفعلوا كما يفعل "الخواجات" "الكفار"، الذي يضربون خيامهم الآن مع الجنوبيين ومع أهل دارفور حيث "البعوض"، وحيث "البلهارسيا"، وحيث ذبابة "تسي تسي"، يقدمون الكساء والغذاء ومن بعد ذلك يقدمون المسيح، ونحن نجلس هنا نقضي أوقاتنا في المناظرات والجدال الممجوج، ونطلب الفتوى حول "قتل الذبابة في الحرم" و"شرب الكوكاكولا")!!

هذا الكلام فيه تجن وغمط لحقوق الآخرين، ومدح لمن لا يستحقون المدح، الأمر الذي أعرفه جيداً أن السلفيين الذين غمزهم الكاتب وجرحهم كانوا أكثر وجوداً وفعالية وعملاً في دارفور على وجه الخصوص، عن طريق منظماتهم الطوعية:

1. المشكاة.

2.  ذي النورين.

3.  والمنارة.

فقد عملوا هم بمفردهم، ونسقوا مع غيرهم، وحثوا الآخرين على العمل الطوعي في مجالاته المختلفة، ويتمثل عملهم في الآتي:

1.  بناء عدد من المساجد في المعسكرات.

2.  تزويد هذه المساجد بالأئمة والدعاة.

3.  تزويد هذه المساجد بالمصاحف والرسائل والكتيبات.

4. عمل دورات للأئمة، والمؤذنين، والمعلمين، ولشيوخ القبائل وزعمائها.

5. عمل دروس في المساجد في نيالا وخارجها.

6. مواساة الناس فيما نزل بهم.

7. هذا بجانب تقديم الغذاء والدواء والملابس.

8. إرسال عدد من الأطباء وفنيي المختبرات.

9. حثهم للأخيار من المسلمين لإغاثة المنكوبين في دارفور.

هذا ولا أعلم أحداً من المشايخ السلفيين لم يذهب إلى دارفور مرات عديدة إلا كاتب هذا التعقيب، وقد طلب مني الذهاب عدة مرات، ولكن نسبة لارتباطات هنا لم أتمكن من الذهاب، بل منهم من ذهبوا بأزواجهم وأقاموا بين إخوانهم المسلمين.

وقد علمت من الإخوة الذين ذهبوا أن أعمال الإغاثة كانت محصورة في المسلمين من المنظمات الدولية والمحلية، وعلى رأس هذه المنظمات الطوعية هيئة الإغاثة الإسلامية السعودية، وغيرها من المنظمات المحلية، والخليجية، والإفريقية، نحو:

   منظمة الدعوة الإسلامية.

   لجنة مسلمي إفريقيا.

   العون الإسلامي البريطاني.

   صندوق دعم المرضى الكويتي.

   الهلال الأحمر السعودي.

ويشهد على ذلك معسكر "السريف".

وإن دور المنظمات الكنسية الأساس هو التحريض وإثارة الشكوك والإشاعات، ومنع المسلمين من الدخول في المعسكرات، ومنع النازحين من العودة إلى قراهم، ومن علم حجة على من لم يعلم.

ثالثاً: السباب والمهاترات والغمز واللمز الذي طفحت به مقالات الكاتب ضد السلفيين، وقد أحصيت ذلك فوجدته قرابة صفحة "فلسكاب" بالمكرر، وإليك نماذج من ذلك، ولولا الإطالة لنقلتها كلها:

1. "السلفيون الجدد وفتاوى الفتنة" هذا هو العنوان، ووحده يكفي.

2. "أخطاء السلفيين الجدد التي تجعلهم جاهزين لإطلاق الفتاوى ذات النظرة الأحادية المغلقة".

3. "متعهدي الفتاوى".

4. "أساليبهم المنفرة، ووجوهم المكشرة، وفتاويهم المباعدة غير المسددة" الضمائر كلها ترجع إلى السلفيين.

5. "كما يفعل السلفيون وأصحاب التشدد".

6. "الذين يكررون الفتاوى المحنطة".

7. "ليت الإخوة السلفيين احتفظوا بفتاويهم المسلوقة".

8. "حتى لا يطلقوا عليهم فتاواهم كالراجمات".

9. "كانوا وما زالوا يخذلون الدولة في كل شيء، ويشككون الأمة في كل صدق".

10. "يطلقون الفتاوى كالطلقات النارية".

11. "الذين يهتمون بفقه الخطابة".

12. "متعهدي الفتاوى وعلماء النقل".

13. "قبل أن يطلقوا الفتاوى الأكاديمية النظرية التي لم تخالط الواقع ولم تصبر على أذاه".

14. "يجب أن لا يحتج أصحاب علم القشور والفقهاء الـ Recorder".

15.  بل لقد طالت مهاتراته الابن الصالح والوزير الفالح عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، حيث قال: "وهذا ما فهمه الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث جاءه ابنه الذي يبدو أنه كان ينتمي إلى مجموعة السلفيين الجدد"!!

16.  بل عرَّض بمعاذ بن جبل رضي الله عنه، وبمن صبر على الصلاة معه، حيث لم يخرج إلا أعرابي واحد، حيث قال: "قطعاً أن هناك خلف معاذ مجموعة كانت ترغب في إطالة الصلاة كما يفعل السلفيون وأصحاب التشدد في كل زمان ومكان".

حتى تعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ في تلك الحادثة: "أفتان أنت يا معاذ؟ من أمَّ الناس فليخفف" الحديث، كلمة حق يراد بها باطل عندما يرفعها كثير من الناس في أوجه من يطمئنون في صلاتهم ويحاولون موافقة السنة فيها، وإلا فما فعله معاذ رضي الله عنه - وهو من أصحاب العزائم وأعلم الأمة بالحلال والحرام اجتهاد منه لا يستطيع أحد أن يفعله الآن، لا من السلفيين ولا غيرهم، فمعاذ صلى العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذهب وأمَّ قومه في العشاء، وكان هذا في أول الإسلام، ثم قرأ في الركعة الأولى بسورة البقرة بعد الفاتحة، وفي الثانية قيل بسورة يوسف وقيل بـ"اقتربت الساعة وانشق القمر" بعد الفاتحة، وكان ركوعه وسجوده قريباً من ذلك، وعندما خرج ذلك الأعرابي وحده من صلاته ناله معاذ ووصفه بالنفاق، مما دفعه إلى أن يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

17.  لقد بلغ في الإسفاف مداه وفي السباب أقذعه حيث قال: "ومما يؤسف له أيضاً أن أولئك "القضاة" قد عاد بعضهم إلى السودان كما يدَّعون مطرودين من دول الخليج لأنهم هاجموا الحكام وعارضوا الاستعانة بالأمريكان".

رابعاً: أليس الرد على الكفريات والمخالفات التي تنشر في الصحف وغيرها أولى من كيل السباب، والشتم، والانتقاص للسلفين؟!

أمور لا خلاف عليها

هناك أمور أخذها الكاتب على السلفيين، وهي من الأمور المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، بل السلفيون أحق بها وأهلها، ولا يجادل ولا يناكف فيها أحد منهم.

وما أطلقه الكاتب من أحكام جائرة وفتاوى مجحفة في حق السلفيين يعتبر ناقضاً لما قرره في أولى مقالاته تلك.

والأمور هي:

1. التحرز والاحتياط في الفتوى، والحذر والخوف منها، وليته التزم بما قرر.

2. مرتكبو الكبائر من أهل التوحيد مصيرهم إلى الجنة، قد يطهرون بالنار، وقد يتجاوز عنهم، ولم يخالف في ذلك إلا أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة، وهذا من أصول أهل السنة والجماعة، وقواعدهم التي تميزوا بها عن أهل الأهواء.

3. جواز الأخذ بالرخص الشرعية عند الضرورة، كالتلفظ بكلمة الكفر لمن خشي القتل، لا يماري في ذلك أحد من أهل السنة كذلك.

4. لا ينزلون أحداً من أهل القبلة الموحدين جنة ولا ناراً إلا من شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.

مآخذه على السلفيين

المآخذ التي أوردها الكاتب في مقالته هذه، التي تخللت السباب، والشتم، والانتقاص، ولم يأتِ عليها بدليل، ولم يعزها لأحد منهم، مآخذ عامة، ينحي بها باللائمة عليهم، مع أن الحق فيها مع أهل السنة والجماعة السلفيين القدامى منهم والمحدثين وهي:

أولاً: نعيه عليهم تقسيمهم البشر إلى مؤمنين وكافرين، وما ذهبوا إليه هو الصواب، وهذا هو التقسيم الحق، فالخلق في الدنيا والآخرة صنفان لا ثالث لهما: مؤمنون وكافرون، لكن المؤمنين يتفاوتون في إيمانهم وتقواهم، كما أن الكافرين يتفاوتون في كفرهم وضلالهم، وكذلك الخلق يوم القيامة شقي وسعيد، فالسعداء درجات والأشقياء دركات: "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"، وهذا من عدل الله عز وجل، إذ لم يسو مثلاً بين أبي لهب وأبي طالب وكلاهما مات على الشرك.

والكافرون في الدنيا صنفان، صنف مظهر لكفره، وآخر مبطن لكفره متظاهر بالإسلام، وهؤلاء هم المنافقون نفاق الاعتقاد، وهم أشد خطراً على المؤمنين، وأعظم ضرراً عليهم من المظهرين لكفرهم، ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار.

ولهذا نعى أهل السنة على المعتزلة عندما جاءوا ببدعة المنزلة بين المنزلتين، وكان هذا هو سبب اعتزالهم أهل السنة، أهل الحق والعدل.

ثانياً: نعيه عليهم حرصهم وتمسكهم بالثوابت، وتحذيرهم من تتبع الرخص والزلات، وهذا ما عليه أهل السنة قاطبة، وهو الحق والصواب، حتى قال قائلهم: "من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله".

فالأصل في هذا الدين الثبات على المبادئ، والأخذ بالرخص الشرعية، وليست الزلات والهفوات والسقطات نحو الزلة التي سقط فيها ابن حزم رحمه الله في  إباحة الغناء والموسيقى فهذه لا تدخل في دائرة الرخص التي يحب الله أن تؤتى عند الضرورة أما الأخذ بالرخص فهو عارض وضرورة تقدر بقدرها، ولهذا اختلف أهل العلم في أيهما أفضل للمسافر في رمضان، الفطر أم الصيام، مع إجماعهم أنه رخصة؟

وقصة عمار بن ياسر التي استدل بها الكاتب - وهي تلفظه بكلمة الكفر عند الضرورة - يقابلها العديد من الأمثلة على الثبات على المبادئ ولو أدى ذلك إلى القتل، كما فعل ياسر وسمية والدا عمار، وكما فعل بلال، حيث كان يُبطح في رمضاء مكة وتوضع الصخرة على ظهره كي يكفر بمحمد، وكان يقول لهم في استعلاء وعزة: أحد أحد، فرد صمد، والله لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها لكم؛ وكذلك عبد الله بن حذافة السهمي عندما أسره النصارى، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، ولهذا عندما ذكر ابن كثير قصة عمار هذه ذكر قصة بلال وعبد الله بن حذافة، وقال: هذا هو الأصل.

هذا بالنسبة لشرعنا وبالنسبة لشرع من سبقنا، يدل على ذلك ثبات سحرة فرعون، والغلام، والراهب، ووزير ملك أصحاب الأخدود، الذي نتج عنه إسلام سائر الرعية.

لو سلك الناس المسلك المتخاذل، والتنازلات التي ليس لها نهاية إلا اتباع ملة الكفر، كما قال ربنا: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، الذي يدعو إليه الكاتب وغيره كثير، لما وصل الإسلام إلينا، ولما قامت للدين قائمة، ولما رُفعت له راية.

نقول للكاتب: أين أنت مما فعله السلفيون القدامى؟!

على سبيل المثال لا الحصر نحو:

ما فعله أبو بكر في حروب الردة، حيث قال حين لم يوافقه أحد على حرب المرتدين، راداً على عمر وقد قال له: "تألف الناس وارفق بهم"، قال: "رجوتُ نصرتك، وجئتني بخذلانك!! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين، أوينقص وأنا حي!!"، قال عمر: "فما هو إلا أن رأيتُ أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفتُ أنه الحق".

ما قاله جعفر بن أبي طالب ومهاجرة الحبشة رضي الله عنهم للنجاشي عندما أراد وفد قريش أن يفتن بينه وبينهم، فقال عمرو بن العاص وكان مشركاً في ذلك الوقت: سلهم عن عيسى؟ فعندما سألهم، اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم، وعزموا أن يصدقوه، وقرأ عليه جعفر سورة مريم، وبينوا له أنه عبد الله ورسوله، فأقرهم على ما قالوا، وأمَّنهم في بلده، وطرد وفد المشركين، ولم يقبل هداياهم.

وما عزم عليه عاصم بن ثابت رضي الله عنه، حيث أقسم أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، مجرد اللمس، دعك عن مصافحته واستقباله وتكريمه، فبرَّ الله قسمه حياً وميتاً، فعندما جاء المشركون ليأخذوا رأسه بعد موته لتشرب عليه إحدى المشركات الخمر، حال دون هؤلاء المرتزقة الأراذل الدبر ذكور النحل فقالوا: نأتي ليلاً؛ وعندما جاءوا بالليل وجدوا السيل قد أخذه، وحمى الله عبده من التمثيل، وأبرَّ قسمه.

فهل يقول قائل: إن هؤلاء دعاة فتنة؟!

ثالثاً: من المآخذ التي رفعها الكاتب تبعاً لغيره ضد السلفيين رفضهم لمبدأ التدرج، ولمبدأ الاكتفاء بتطبيق القرآن المكي، والمناداة بتطبيق صحيفة المدينة ونحو ذلك، ومعلوم أن هذا كله كان في أول الإسلام، وقبل تمام الدين وكماله، ولهذا قال أبوبكر: "إنه قد انقطع الوحي وتم"، وقال مالك: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، وليت شعري إلى متى يستمر المسلمون في التدرج وقد شارفت الدنيا على نهايتها، وظهرت كل علامات الساعة الصغرى واستحكمت: "فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها"، لماذا يرضى كثير من المسلمين بالدنية؟ ولماذا يريد البعض من الإسلام أن يكون مثل النصرانية؟ لماذا يريدون أن يحصروه في ركن قصي، في دائرة العبادات؟ ألا ينطبق على هؤلاء وأولئك الإيمان ببعض الكتاب والكفر بجله؟

رابعاً: نعيه عليهم تحذيرهم لإخوانهم المسلمين من التشبه بالكفار وموالاتهم لهم، عملاً بقوله تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن تشبه بقوم فهو منهم"، ولقد ألمح الكاتب إلى ذلك إلماحاً.

فلا يحل للمسلم:

1. أن يهنئ الكفار بأعيادهم.

2. أويدخل كنائسهم.

3. أويشاركهم احتفالاتهم ومهرجاناتهم.

4. أويهدي إليهم، أويقبل منهم هدية في تلك الأعياد.

5. أويرضى ذلك بقلبه.

قال عمر رضي الله عنه: "إياكم ورطانة العجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم"، وقال كذلك: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم"، ومثله روي عن علي رضي الله عنه وعن أحمد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر".

فماذا يضير السلفيون لو تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وإجماع سلفهم؟

خامساً: ما المراد من قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"؟

يخلط كثير من المسلمين بين موالاة الكفار والتشبه بهم المنهي عنهما من ناحية، وبين الإحسان الجائز إلى الفقراء من الكفار والنهي عن ظلمهم من ناحية أخرى، ولهذا قال عمر: "أهينوهم ولا تظلموهم"، وقال لأبي موسى الاشعري: "لا تعزهم وقد أذلهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تدنيهم وقد أقصاهم الله"، قال هذا عندما اتخذ أبوموسى كاتباً نصرانياً.

ومن العجيب الغريب احتجاج البعض على جواز موالاة الكفار نحو تهنئتهم بالعيد ومشاركتهم في مواكبهم واستقبالهم وإكرامهم بهذه الآية، وزعمهم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا من الأبجديات التي لا تغيب عن طالب علم أبداً، أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

لكن هل يدخل في عموم اللفظ التشبه بالكفار، وموالاتهم، ومجاملاتهم في أعيادهم ونحوها؟ وهل يا ترى عندما نهى عمر، وعلي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم كثير عن تهنئة الكفار بالعيد ومشاركتهم فيه، كانت هذه القاعدة غائبة عنهم؟ هذا من باب القياس الفاسد والتأويل الباطل، وهو شبيه ومماثل لقياس إبليس عندما قال: "خلقتني من نار وخلقته من طين"، حين استكبر عن السجود لآدم، وأبى الامتثال لأمر الله.

والله المسؤول أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يفقهنا الدين، ويعلمنا التأويل، وصلى الله وسلم على من تركنا على المحجة البيضاء، والحنيفية السمحة، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين.

0000000000000000000000

رسالة إلى طالب جامعي مبتدئ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد..

هذه رسالة أود أن أتوجه بها إلى جميع أبنائي وبناتي طلاب الجامعات والمعاهد العليا الجدد، نتيجة تجارب معلم، وعصارة خبرات أبٍ مربٍ، وشيخ مجرب، لعل الله أن ينفع بها، وعساها أن تجد قبولاً واستجابة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أولاً: أهنئكم بالتوفيق والنجاح وتحقيق الرغبات، فعليكم شكر هذه النعمة لربكم مسديها، ولوالديكم، وأسركم، وأساتذتكم الذين أعانوكم على ذلك، فبالشكر تدوم النعم.

ثانياً: تأكدوا وتيقنوا من أن الكلية والتخصص الذي قبل به أحدكم مناسب لقدراتكم العقلية قبل رغباتكم وتمنياتكم وتمنيات أهليكم، واعلموا أن كلاً ميسر لما خلق له، ولهذا لابد من أن يتدارك كل منكم ذلك فترة الحذف والإضافة، قبل فوات الأوان، وحلول الندم، والاصطدام بالواقع.

ثالثاً: اعلموا أيها الأبناء والبنات أن وظيفتكم الأساسية في هذه المرحلة هي التحصيل العلمي، ثم التحصيل العلمي، ثم التحصيل العلمي، فحاجة الأمة الإسلامية للعلم المفيد، والتخصص الدقيق لا تدانيها حاجة، واحذروا أن تشغلوا عن هذه الوظيفة بغيرها، أوأن تعتبروها من النوافل.

رابعاً: احرصوا على الوقت واستثماره، والاستفادة منه إلى أقصى حد، فما الأعمار إلا دقائق وثوانٍ، وإلا أسابيع، وأيام، وشهور، وأعوام.

خامساً: لا تؤخروا عمل اليوم إلى الغد، واحذروا التسويف والتأخير.

سادساً: وثقوا صلاتكم بالمكتبات الخاصة والعامة والتجارية، فخير جليس في الزمان كتاب، ولا تقنعوا بالمذكرات، ولا بالمناهج والكتب المقررات.

سابعاً: احرصوا أن تكون تخصصاتكم والعلوم التي تدرسونها وما يهيئكم إليه ذلك التخصص بعد التخرج موافقاً للشرع، غير مصادم ومخالف له.

ثامناً: اعلموا أيها الأبناء والبنات أن تخصصاتكم هذه كلها لا تخرج عن دائرة فرض الكفاية، وأن فرض العين هو معرفتك لربك، ولرسولك، ولما يوجبه عليك دينك من التكاليف، ومعرفة الحلال والحرام، والسنة والبدعة، فإن كنت جاهلاً بذلك جهلاً كلياً فلا يحل لك الاشتغال بفروض الكفاية والحال هكذا، وعليك أن تعمل لسد هذا النقص وتفاديه بحضور الدروس في المساجد، ومزاحمة المشايخ بالركب، ولا تظنن أيها الأحباب أنكم ستتداركون ذلك بعد التخرج، فهذه أحلام وآمال يصعب تحقيقها إلا لأصحاب الهمم العالية، وإلا لمن وفقه الله، وما يدريك أن تأتيك منيتك قبل ذلك؟

تاسعاً: الحرص على مرافقة الأخيار، ومجالسة من يذكرك بما يجب عليك من الأوامر الشرعية، وما ينفعك في دينك ودنياك إذا نسيت، ويعينك إذا ذكرت، واعلم أن المرء على دين خليله، فمعاشرة الأخيار غنيمة، وصحبة الأشرار جريمة وجريرة عظيمة، وقد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مرغب في الجليس الصالح، ومنفر ومحذر من جليس السوء: "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير..." الحديث.

عاشراًً: كونوا مسلمين واعين، وأبناء صالحين، بالمحافظة على جامعاتكم، وأدواتها، وأثاثها، وممتلكاتها، وقدروا أساتذتكم، واحترموا من يقومون بخدمتكم من الموظفين والعمال.

الحادي عشر: تذكروا أيها الأعزاء من الأبناء والبنات أنكم مسلمون مكلفون، وأنكم رجال المستقبل وأمل الأمة، ولهذا عليكم بالتزام الأوامر والنواهي، التي أهمها:

1.   إقام الصلاة المكتوبة في وقتها الاختياري، لأنها من أوجب الواجبات، في جماعة للرجال في المساجد والمصليات حيث ينادى بهن، وهذا من حقوق الله على كل مسلم، ولذلك لا يحل التهاون فيه، وتجب المطالبة بتوفره، وينبغي لواضعي جداول المحاضرات مراعاة مواعيد الصلوات، والالتزام بذلك.

2.   الالتزام باللباس الشرعي وهو معلوم ومن لم يكن يعلمه عليه أن يتعلمه للجنسين، فالمرأة كلها عورة على الأجانب، وعليها أن تحذر من لبس ما يكشف أويصف شيئاً من جسمها.

3.   الحذر من الخلوة والاختلاط المحرمان، لا في المدرجات ولا في المطاعم و"الكفتريات"، ولا بغرض الاستذكار والمراجعات، وينبغي لإدارات الجامعات والأقسام أن تفصل بين الطلاب والطالبات، سيما وأن الأعداد المقبولة أصبحت كبيرة، وهم مقسمون إلى مجموعات، فما الذي يمنع من أن تكون هناك مجموعة للبنات وأخرى للأولاد؟ وهذا أضعف الإيمان بالنسبة للجامعات المختلطة التي ينبغي عليها أن تحذو حذو الجامعات: الإسلامية، والقرآن، وجامعة إفريقيا العالمية في فصلها بين البنين والبنات.

4.   الحذر من مصافحة الأجانب، ولا تظنن أيها الأحبة أن الزمالة الدراسية تبيح ذلك، فالحلال ما أحله الشارع، والحرام ما حرمه، وما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

الثاني عشر: الحذر من الانتماء إلى الجمعيات والأحزاب العلمانية مهما كانت مسمياتها، فهذا لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر، لا في الجامعة ولا خارجها.

الثالث عشر: يحل التعاون على البر والتقوى والانتماء مع الأخيار من غير تعصب واحتقار لغيرهم، ومن غير تشنيع وشنار على من خرج منهم أوخالفهم، بل قد يصل إلى درجة الوجوب، فما لا يتم الوجب إلا به فهو واجب، وليس هناك أوجب من حفظ الدين والخلق، و"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

الرابع عشر: ليعلم الجميع أن ما ينالونه في هذه الجامعات بما في ذلك الجامعات الإسلامية لا يتعدى مفاتح العلم والتخصص الذي يريده الدارس، لهذا لابد أن يسعى لإتمام هذا النقص بالشروع في التحصيل العلمي، ومواصلة ذلك بعد التخرج.

الخامس عشر: الحذر من الغرور والاستبداد والتعالي على غيرك، سواء كانوا من خريجي الجامعات الأخرى أوغيرهم، فالغرور والاستبداد والتعالي من المهلكات، ومن تواضع لله رفعه، ومن تعالى خفضه وأذله.

السادس عشر: احذروا أيها الأبناء والبنات شهادات الزور التي يتخرج بها بعض الطلاب نتيجة الغش والتزوير، أوحتى عن طريق التخمين، وتذكر قول رسولك صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منها"، ومن تخرج بشهادة مزورة فكسبه حرام، وهو غابن لنفسه، ولإخوانه، ولوطنه، وللإسلام.

السابع عشر: ثمرة العلم الحقيقية تقويم السلوك والأخلاق، وتزكية النفوس والارتقاء بها إلى الخيرات، وإلا فما ناله وبال عليه.

الثامن عشر: غيروا على محارم الله أن تنتهك بين ظهرانيكم، واغضبوا لذلك، "فمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثال حبة من خردل من إيمان"، وغر على زميلتك في الدراسة كما تغار على أختك، فهي أختك في الدين.

التاسع عشر: الحذر من الممارسات الخاطئة، والسلوك المعوج المنحرف الذي ابتلي به البعض، نحو الزواج العرفي، الذي هو أخو الزنا، وما شابه ذلك، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن، وهذا من الحرام البيِّن.

العشرون: تسلحوا بخلق الحياء وتزينوا به، فإنه من الإيمان، فمن حُرم الحياء فقد حرم الخير كله.

الحادي والعشرون: الاتحادات الطلابية معوق للتحصيل العلمي، وعامل أساس لعدم الاستقرار في الدراسة، فينبغي الاستعاضة عنها بالجمعيات الخدمية، تأسياً بالجامعات المصرية، وينبغي لإدارات الجامعات الاهتمام بقضايا الطلاب والعمل على حلها.

وفقكم الله لما يحب ويرضى، ورزقني وإياكم البر والتقوى، ونسأله اللهم علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركا

0000000000000000000000

رسالة إلى أصحاب الحافلات وسيارات الأجرة، وسائقيها، ومعاونيهم

أولاً: ما يتعلق بالقيادة

ثانياً ما يتعلق بالسلوك والأخلاق والآداب العامة

ثالثاً: فيما يتعلق بالعقيدة

 

انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة؛ قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، وأن المؤمن مرآة أخيه، أتوجه بهذه النصائح والتوجيهات التي أرجو أن تجد القبول عند المعنيين بها.

وهذه النصائح والتوجيهات منها ما هو متعلق بأصحاب هذه الحافلات والسيارات في الخطوط السريعة والداخلية، ومنها ما يتعلق بالسائقين والعاملين معهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى منها ما يتعلق بالقيادة، ومنها ما يتعلق بالسلوك، والآداب، والأخلاق، والعقيدة.

وسبب هذه النصائح والتوجيهات ما لاحظته ولاحظه غيري كثير من تغير كبير في سلوك السائقين في السودان في السنوات الأخيرة عما كانوا عليه من قبل، وازدياد حوادث السيارات، هذا بجانب الزيادة المضطردة في عدد السيارات والشاحنات، ويتمثل ذلك في الآتي:

أولاً: ما يتعلق بالقيادة

1. السرعة الجنونية.

2. التهور والاستعجال في التخطي.

3. عدم الالتزام بتعليمات إدارة المرور، نحو الوقوف.

4. الهلع والاستعجال والشفقة التي تميز بها كثيرمن سائقي الحافلات وسيارات الأجرة.

5. استعمال الأنوار العالية.

6. عدم تقديرهم لحرمة من يركب معهم من المسلمين نتيجة لهذه المخالفات التي قد تودي بحياتهم.

ثانياً ما يتعلق بالسلوك والأخلاق والآداب العامة

1. التلفظ بالألفاظ النابية، والسب، والمشاتمة، وهي من عظائم الأمور، من غير مراعاة لمن يركبون معهم من النساء والأطفال والكبار.

2. تعليق صور الفنانين، والفنانات، والممثلين، والممثلات، والرياضيين، وغيرهم، النساء سافرات عاريات، والرجال بملابس تبدي عوراتهم.

3.  وضع الدمى والتماثيل وتعليقها داخل السيارات.

هذا على الرغم من نهي الرسول الكريم عن التصوير، وعده ذلك من الكبائر، ونهيه كذلك عن تعليق كل ما نفس فيه من إنسان أوحيوان، وبيانه أن ذلك يمنع من دخول ملائكة الرحمة في البيت والسيارة.

4. إزعاج الركاب وإيذائهم برفع الصوت بالأغاني من الإذاعات، سيما إذاعة المانجو 96 وغيرها، وتشغيل الأشرطة.

5. تشغيل أشرطة الفيديو التي تحوي المسلسلات الهابطة، والأغاني الفاضحة، والصور العارية، سيما في حافلات الخطوط الطويلة، ومعلوم من دين الله ضرورة حرمة الغناء والموسيقى، وقد أجمع على ذلك أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة.

6.  كتابة بعض الأبيات من الأغاني.

ثالثاً: فيما يتعلق بالعقيدة

وهذا أخطر الجميع، ويتمثل ذلك في الآتي:

1.  تعليق صور بعض المشايخ المعتقد فيهم، كالشيخ المكاشفي والبرعي وغيرهما.

2.  كتابة بعض التوسلات الشركية، نحو "يا لحاق بعيد"، وهي من صور الشرك الأكبر.

3. تشغيل أشرطة السماع الصوفي، كأشرطة فرقة "الصفوة" وفرقة البرعي وغيرهما، والسماع الصوفي حرام لاحتوائه على كثير من التوسلات الشركية والغلو في النبي والصالحين، هذا بجانب تلحينه واستعمال الآلات الموسيقية، والسماع الصوفي أشد حرمة من الأغاني لظن البعض أنه يقرب إلى الله وهو يباعد بينه وبين ربه ومولاه، كما قرر ذلك العلامة ابن القيم.

فمسؤولية هذه المخالفات جميعاً مسؤولية تضامنية وفردية بين الملاك والسائقين ومعاونيهم، وليعلم الجميع أنهم مسؤولون عن كل نفس تزهق، أوحادث يقع نتيجة ذلك، وأن السائق المتهور وصاحب السيارة الهالكة مسؤولان عن الدية، وعلى السائق كفارة القتل الخطأ أوبسبب، وهي: إما عتق رقبة، أوصيام شهرين متتابعين عن كل نفس، وعلى هؤلاء أن لا يغتروا بالتأمين الذي دفع كثيراً من هؤلاء للتهور، هذا بجانب مسؤولياتهم عن إفساد العقائد والأخلاق.

على أصحاب الحافلات وملاكها أن لا يظنوا أن هذه الوسائل الرخيصة الخبيثة هي التي تجلب لهم الركاب، وإن جلبت فإنما تجلب لهم المحقة والحرام، وأن الأرزاق بيد الله عز وجل، ودرهم حلال خير من دنانير حرام، وليخشوا نزع البركات، وحلول النكبات.

وليحذر السائق والعامل من أن يقول أنه هو عبد المأمور، وليعلم أنه عبد الله، فليحذر أن يكون عبد سوء، والطاعة في الإسلام لا تكون إلا في المعروف، مع علمنا التام أن "المأمور" هذا لو أمره بما يخالف هواه ومصلحته لما أطاعه.

فعليهم أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي هؤلاء الركاب الذين هم أمانة في أعناقهم، وفي المارة من الناس والحيوان، وليعلموا أنهم سيحاسبون على كل ذلك، ويعرضون على من لا تخفى عليه خافية.

وجزء كبير من هذا التقصير من إهمال رجال المرور، وعدم تنفيذهم لقوانينهم، ومراقبتهم لسلوك وسير السائقين، ولتجاوزهم عن بعض الأعطال الرئيسية في السيارات في الفحص وعند الترخيص لأسباب مختلفة.

إشادة

بهذه المناسبة أحب أن أشيد بسفريات "حراز" حيث التزمت بتقديم المفيد للراكبين على متن حافلاتها من تسجيلات القرآن الكريم والمحاضرات، والتذكير بدعاء الركوب، فعلى غيرهم التأسي بهم فإن التشبه بالرجال فلاح ونجاح، وهذا كله يرد الحجة الواهية التي يرفعها البعض: ليس هناك بديل؟!

والله أسأل أن يوفق الجميع أن يراقبوا ربهم في سرهم وعلانيتهم، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يحاسِبوا أنفسهم قبل أن يحاسَبوا، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

0000000000000000000000

إذاعة "المانجو" 96 FM وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا

المال عصب الحياة، وهو من زينة الحياة الدنيا: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا".

والمال إما لرجل صالح، فهو نعمة عظيمة، ووسيلة كريمة لنيل القربات، وقضاء الحاجات، وتنفيس الكربات: "نعم المالُ الصالح للرجل الصالح"، وذهب أهلُ الدثور بالأجور والدرجات العلا: "لا حسد إلا في اثنتين"، إحداهما: "ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق".

وإما لرجل طالح كقارون، والوليد بن المغيرة، ومن شاكلهما وناظرهما من المترفين المفسدين في الأرض، فهو وبال عليه ونقمة، تبين مغبتها وتظهر له سوأتها ومضرتها عند اجتياز الصراط، حيث لن تزول قدما أحد عنه حتى يُسأل عن أربع، منها: "ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟"، فالويل لمن اكتسبه من حرام، وأنفقه فيما يغضب الرحيم الرحمن، فيصير له وزر جارٍ يتجرع غصته، ويبوء بوزره عندما يفضي إلى ربه، حيث لا ينقص ذلك من أوزار من عمل به إلى يوم القيامة، فليستعدوا لذلك، وليهنأوا بما هنالك، فإنه آتٍ وكل آتٍ قريب، بل فناء الدنيا بأسرها قريب.

فقارون بعد أن كان من قوم موسى عليه السلام طغى وتجبر بسبب ما آتاه الله من المال: "إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً".

فماذا كانت النتيجة، وبم ختم له؟

"فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين"، فهو يجلجل فيها أي في الأرض- إلى يوم القيامة، لم يصل قعرها، كما أخبر الصادق الأمين.

فما أصاب قارون لا شك أنه مصيبٌ أمثاله من عبدة الدرهم والدينار والدولار، التعساء، الأشقياء، الذين استعملوا نعم الله فيما يغضب الله ويفسد خَلقه، إن لم يتوبوا عن غيهم، ويرجعوا إلى رشدهم، ويكفروا عن قبيح ما صنعوا، فإن تابوا وأنابوا وأقلعوا فإن باب التوبة مفتوح، والتوبة تجب ما قبلها إذا تمت قبل أن تلتف الساقُ بالساق، وتجتمع على المرء حسرتا الموت والفوت.

هذه توطئة وتذكرة لما أحب أن أوجهه إلى وكلاء شركة "البيبسي كولا" اليهودية دعاية لهذا المشروب، بمناسبة ما أقدمت عليه من جرم عظيم، وسبب لفساد كبير، وهو إنشاؤها وافتتاحها لمحطة إذاعة محلية "المانجو 96" على الـ FM، متخصصة في الأغاني المحلية والشرقية والغربية، تعمل طول ساعات اليوم، هذا بجانب تشويشها على محطة القرآن الكريم، وذلك لأن الغناء رقية الزنا، ومحرك الشهوات للفجور، ومنبت للنفاق في القلوب، ولهذا أجمعت الأمة على تحريمه، لأضراره البليغة، ومخاطره العظيمة، ولا يُلتفت لشذوذ من أباحه.

لهذا فإن هذه الإذاعة المتخصصة في الغناء تعتبر وسيلة خطيرة من وسائل إشاعة الفاحشة في المجتمع السوداني، وليبشر منشئوها بما توعد به الله المحبين لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والعاملين على ذلك: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

وبعملهم هذا فقد أضافوا وسيلة من وسائل الفساد والإفساد للأخلاق، حيث أضحت هذه الإذاعة من وسائل تدميرها.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت         فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لم يكتف وكلاء هذه الشركة بدعمهم للمفسدين في الأرض من الفنانين واللاعبين وغيرهم بالاحتفاء بهم، والإشراف على علاجهم، هذا بجانب رضاهم أن يكونوا وكلاء لأحفاد القردة والخنازير، ومعينين لهم في القضاء على الإسلام وأهله في فلسطين بمدهم بالأرباح الطائلة من عائدات هذا المشروب، وهذا من باب التعاون على الإثم والعدوان الذي حرمه ربنا سبحانه وتعالى، حتى جاءونا بثالثة الأثافي وعظيم الدواهي، متمثلة في هذه الإذاعة.

ينبغي لوكلاء هذه الشركة، ولهذه الأسرة المسلمة، أن يتقوا الله ربهم في أنفسهم، وفي إسلامهم، وفي هذا الشعب، وليتذكروا الموت والوقوف بين يدي العزيز الجبار للحساب، وعليهم أن يتقيدوا بأحكام هذا الدين في كل أعمالهم وتصرفاتهم، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين.

وليعلموا كذلك أن العاصي المعاند لن يضر إلا نفسه، وأن الله غني عن العالمين، وعليهم أن يصرفوا هذه الأموال التي منَّ الله بها عليهم في سبل الخير وما أكثرها، وليعلموا أن هذا المال هو مال الله استخلفهم وغيرهم فيه ليبتليهم، وليعلموا أن هذه الدنيا متاعها قليل، وعزيزها عما قليل يصير ذليل، وغنيها يصبح فقير، ومتعافيها يعود عليل، وشابها بمرور الأيام يتحول إلى هرم وكبر، وسقم ومرض، وليتذكروا قول نبيهم: "لو كانت الدنيا تسوى عند الله جناحَ بعوضة ما سقى منها كافراً جرعة ماء"، ولذلك زواها الله عن أنبيائه وأصفيائه، وبسطها على أعدائه، استدراجاً لهم، فهي: "سجن المؤمن وجنة الكافر"، وإذا كان عمر رضي الله عنه كان يخشى أن يكون ممن يُقال لهم يوم القيامة: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا"، فكيف بنا وأنتم؟!

واعلموا أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه يفرح بتوبة عباده إليه، وكذلك المؤمنون يفرحون ويسرون بتوبة العصاة والمذنبين، وبدخول الكفار في هذا الدين.

والله أسأل أن تجد هذه الكلمات عندكم أذناً صاغية، وقلوباً واعية، وأن يردنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يختم لنا بخير، ويجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا ينال سلامنا الكفار، والمنافقون، والمعاندون

0000000000000000000

رفعة الدين وعز الإسلام والمسلمين بمجاهدة الكفاروالمنافقين

حكم جهاد الكفار والمنافقين

أنواع الجهاد

الجهاد في سبيل الله من وظائف العمر

جهاد الطلب هو أصل الجهاد وأسه

متى شرع جهاد الدفع الجهاد الهجري؟

متى يجب الجهاد بالنفس؟

متى يجب الجهاد بالنفس؟

جهاد الدفع يختلف عن جهاد الطلب

نصر المسلمين مرهون بنصرهم لله عز وجل إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم

الحذر من الخوض في القضايا الانصرافية التي تلهي المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين

الحذر من الاستماع إلى المخذلين، والمثبطين، والمرجفين

فضل جهاد الكفار والمنافقين

كن أخي المسلم مجاهداً.. ولاتكن الخامس فتهلك

شبه ودحضها

1.  هل الجهاد القائم في العراق مثلاً مشروع؟

2.  العمليات الجهادية الاستشهادية

3.  التمثيل بقطع الرؤوس والحرق بالنار

4.  حبس الرهائن مقابل فك بعض أسرى المسلمين

5.  قتل الأطفال

ما ينبغي للمسلمين أن يقوموا به تجاه إخوانهم في الفلوجة وغيرها من الديار المغصوبة

 

الحمد لله الذي جعل الجهاد ذروةَ سنام الإسلام، وصلى الله على محمد القائل: "وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري"، ورضي الله عن صحابته والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين الذين جاهدوا لنصرة هذا الدين

وبعد..

هذه خواطر، ووقفات، وإزالة لبعض الشبهات عن مشروعية الجهاد، وحكمه، وأنواعه، وما يتعلق به، كتبتها نصحاً لله ولرسوله، ونصرة للمجاهدينن راجياً ثوابها يوم الدين،حيث تطيش الموازين، ولا يفلح إلا من أتلى الله بقلب سليم، فأقول وبالله التوفيق:

حكم جهاد الكفار والمنافقين

لقد أوجب الله عز وجل على الأمة الإسلامية وتعبدها في شخص رسولها صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والإغلاظ عليهم، فقال: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم".

وبشر أمته بأن الجهاد ماض وباقٍ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل"، ولهذا بوب البخاري في كتاب الجهاد "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر"، إذ بقاء الإسلام والمسلمين رهين ببقاء الجهاد واستمراره.

قال ابن حجر: (وفيه أيضاً بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون).

وترك الجهاد نذير شؤم بضياع الإسلام وذهاب المسلمين وذلهم، كما بشر كذلك أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة، إذ لا تزال طائفة منا تقاتل على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.

أنواع الجهاد

جهاد الكفار والمنافقين يكون بالنفس، والمال، واللسان، والبنان، والجنان، وهو على قدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع).

الجهاد في سبيل الله من وظائف العمر

الجهاد في سبييل الله من وظائف العمر التي لا تنفك عن المسلم إلى أن يلقى الله، نحو:

1. الاستقامة: "فاستقم كما أمرت"، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، وقال صلى الله عليه وسلم: "قل آمنتُ بالله ثم استقم".

2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان"، ولو ساعةا لاحتضار، كما قال عمر رضي الله عنه وهو يحتضر للشاب الأنصاري الذي كان مسبلاً: "قصِّر ثوبك، فإنه أنقى للثوب وأرضى للرب".

3.  طلب العلم، كما قال أحمد رحمه الله: "من المحبرة إلى المقبرة".

4.  الذكر باللسان: "لا يزال لسانُك رَطباً من ذكر الله".

5.  التوبة النصوح: "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون".

مما يدل على أن الجهاد والرباط والغزو والنفر في سبيل الله وظيفة العمر قوله عز وجل: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".

قال القرطبي رحمه الله مجملاً ما ورد في تفسيرها: (والصحيح في معنى الآية أن الناس أمِرُوا جملة، أي انفروا خفت عليكم الحركة أم ثقلت).

ثم دلل على ذلك راداً على القائلين بأنها منسوخة بالآتي:

1. رُوي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أعليَّ أن أنفر؟ فقال: "نعم"، حتى أنزل الله تعالى: "ليس على الأعمى حرج".

2. وأنه في غزوة أحد قال: أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح، لكن أعطي اللواءَ مصعبُ بن عمير رضي الله عنه.

3. وروى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً" قال: "شباباً وكهولاً، فما سمع الله عذر أحد"، فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضي الله عنه.

4. وروي أنس عن أبي طلحة كذلك أنه قرأ سورة "براءة" فأتى على هذه الآية: "انفروا خفافاً وثقالاً"، فقال: جهزوني جهزوني؛ فقال بنوه: يرحمك الله! لقد غزوتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك؛ قال: جهزوني؛ فغزا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها، ولم يتغير رضي الله عنه.

5. وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صَرَّاف، وقد فضل على التابوت من سمنه، وهو يتجهز للغزو، فقيل له: لقد عذرك الله؛ فقال: أتت علينا سورة البعوث: "انفروا خفافاً وثقالاً".

6. وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيِّب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: استنفر اللهُ الخفيفَ والثقيلَ، فإن لم يمكني الحرب كثرتُ السَّوادَ، وحفظتُ المتاع.

7. روي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلاً سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عمّ، إن الله قد عذرك؛ فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً.

جهاد الطلب هو أصل الجهاد وأسه

عندما يطلق الجهاد يراد به جهاد الطلب لا غير، وهو أن تخرج طائفة من المسلمين بإمرة إمامهم أومن ينوب عنه طالبة من الكفار الدخول في الإسلام دين الحق، والتخلي عما كانوا عليه من الأديان، فإن قبلوا الإسلام فبها ونعمت، وإن رفضوا الإسلام طولبوا بدفع الجزية عن يد وهم صاغرون إن كانوا أهل كتاب، وإن لم يكونوا أهل كتاب قوتلوا أوقوتل من حال دون قبولهم للإسلام، فمن قتل فهو في النار، ومن أسر فأمره إلى الأمير إن رأى المصلحة في قتله قتل، وإن رأى المصلحة في استرقاقه استرق، وإن رأى المصلحة في قبول الفداء منه فعل.

أما غير أهل الكتاب فلا يقبل منهم غير الإسلام في أرجح قولي العلماء.

قال العبدري في "الكفاية": (اليهود والنصارى يقرون على دينهم ببذل الجزية إجماعاً، ومن لهم شبهة كتاب، وهم المجوس، يقرون على دينهم ببذل الجزية، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد اتفاقاً، ومن ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب وهم عبدة الأوثان، ومن عبد ما استحسن من الحيوان والجمادات لا يقرون على دينهم بالجزية، سواء كانوا عرباً أوعجماً، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في العجم  نقبل منهم الجزية).

هذا ما يرجح نسخ قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" بآيات القتال والجهاد.

والأدلة على ذلك كثيرة، منها:

1. قوله تعالى: "كتب عليكم القتالُ وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

2.  وقوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد".

3. قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

4.  وقوله: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين".

5.  وقوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله".

6. وقوله: "وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".

7.  وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم".

متى شرع جهاد الدفع الجهاد الهجري؟

شرع جهاد الدفع بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة في حال ضعف المسلمين وعدم استطاعتهم على جهاد الطلب، فأضعف الإيمان أن يدفعوا عن دينهم، وعن وجودهم، وحريمهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأن يقاتلوا من قاتلهم.

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: (فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين الأنصار.. فاذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير".

إلى أن قال: ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة).

وقال القرطبي: (وهي أول آية نزلت في القتال، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة).

لكن عندما قويت شوكة الإسلام، واشتد عوده، وصدق أتباعه وجنوده، لم يقنعوا بجهاد الدفع، بل خرجوا طائعين مختارين هاجرين للأولاد والبلاد، لتقديم هذا الدين لمن يليهم من خلق الله، ففتحوا بذلك قلوب العباد قبل البلاد، وأخرجوا من شاء الله لهم الهداية من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن عبادة العباد والحيوان والجماد إلى عبادة الواحد القهار.

فلما ركن المسلمون إلى الدنيا في عصورهم المتأخرة، وآثروا الفانية على الباقية، و"ضنوا بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم البلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم"، فصدقت فيهم نبوة نبيهم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السبيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت"، فحل بهم ما حل من الذل والهوان، وتبدلت أحوالهم، وتغيرت أوضاعهم، واستهان بهم عدوهم، فتجرأ على غزو بلاد الإسلام واحدة تلو الأخرى.

ما كان لهذا أن يحدث لو كان المسلمون رافعين لراية الجهاد، باذلين للمهج رخيصة في ذات الله كما كان أسلافهم، وإليك طرفاً من أخبارهم:

1. قال خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة: "لقد خضتُ عشرين زحفاً، وليس في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أوضربة بسيف، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، إي وربي، فلا نامت أعين الجبناء.

2. وقال القائد المسلم، والبطل الهمام، عُقبة بن نافع حين وصل المحيط الأطلسي: "يارب، لولا هذا البحر لمضيتُ في مجاهداً في سبيلك"، ثم قال: "اللهم اشهد أني قد بلغتُ الجهودَ، ولولا هذا البحر لمضيتُ في البلد أقاتل من كفر بالله حتى لا يُعبَد أحدٌ من دونك".

3.  قال ابن العربي رحمه الله: روي أن بعض الملوك عاهد كفاراً على أن لا يحبسوا أسيراً، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: أني أسيرة، فأبلغ صاحبك خبري؛ فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث، انتهى الخبر إلى هذه المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه.

وبضدها تتميز الأشياء، فقد نقل ابن العربي عن نقيض هذا الأمير، فقال: (ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا، في عدد هال الناس عددُه، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حدّدوه، فقلت للوالي والمولي عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجَاره وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل).

قلت: كأن ابن العربي يحكي حالنا، وكانه مشاهد لواقعنا.

رب وامعتصماه انطلقت ملأ أفواه الضحايا اليُتَّم

صادفت أسماعهم لكنها لم تصادف نخوة المعتص

متى يجب الجهاد بالنفس؟

الجهاد بالنفس يجب ويتعين في الحالات الآتية:

1. إذا استنفر الإمام الرعية وجب عليهم النفر، لقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً" الآية، كما كان في تبوك، في جيش العسرة، حيث فضح الله المنافقين وأعلا شأن المؤمنين.

2. إذا كان الجهاد فرض كفاية على المرء، ثم حضر الصف، أضحى عليه فرض عين.

3. إذا هجم العدو وغزا بلداً من بلاد الإسلام تعين على أهل تلك البلاد صده ودفعه وإن لم يتمكنوا من صده تعين على من يليهم، وهكذا حتى يشمل سائر بلاد الإسلام، كحال إخواننا في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، وغيرها.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا، ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسملون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا دفع أهل الناحية التي نزل العدو عليها، واحتل بها، سقط فرض العين عن الآخرين.

ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحَوْزة، ويُخزى العدو، ولا خلاف في هذا).

4.  يجب على إمام المسلمين كذلك غزو العدو في كل عام مرة، وكان لبني أمية غزوتان للكفار، إحداهما في الصيف وتسمى "الصائفة"، وأخرى في الشتاء وتسمى "الشاتية"، لإدخال الكفار في دين الإسلام، ولإرهابهم، ولإشعارهم بعزة الإسلام وأهله.

جهاد الدفع يختلف عن جهاد الطلب

يختلف جهاد الدفاع عن جهاد الطلب في أمور هي:

1. في حكمه، فحكمه الوجوب، وحكم جهاد الطلب من غير نفير أنه فرض كفاية.

2.  لا يشترط فيه إذن والدين ولا غيرهما، بينما يتعين إذن الوالدين في فرض الكفاية.

3. لا يشترط أن يكون تحت راية أوإمرة الإمام الأكبر للمسلمين، ولا يحتاج لإعلان، ويمكن أن يكون تحت إمرة أحد المجاهدين، كما هو الحال في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من البلاد المغصوبة.

4. لا يشترط فيه تكافؤ العدد والعتاد، قال القاسم بن مخيمرة المتوفى 100ﻫ: لو حمل الرجل على عشرة آلاف لم يكن بذلك بأس.

نصر المسلمين مرهون بنصرهم لله عز وجل "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"

لم يتفوق المسلمين على الكفار في جميع غزواتهم ومعاركهم على عدوهم في العدد ولا في العُدَّة، بدءاً ببدر الكبرى، وانتهاء "بعين جالوت" وما بعدها، وإنما كانوا يستنزلون النصر من عند الله بالآتي:

1.  نصرهم لدين الله عقيدة، وشريعة، ومعاملة، وسلوكاً، وآداباً.

2.  التوكل على الله والاعتماد عليه.

3.  بالثبات، والصبر، والمصابرة، فما الشجاعة إلا صبر ساعة.

4.  الدعاء والتضرع والابتهال.

5.   بالخديعة والحيل، فالحرب خُدْعة.

6.   باجتناب الذنوب والمعاصي.

   روي أن عمرو بن عبد وُدٍ لما بارز علياً وأقبل عليه، قال له عليّ: ما برزتُ لأقاتل اثنين؛ فالتفت عمرو، فوثب عليه عليٌّ فضربه؛ فقال عمرو: خدعتني؛ فقال: الحرب خُدعة.

   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الاشرف، فقد آذى الله ورسـوله؟ فقـال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: نعم؛ فأتاه، فقال: إن هذا - يعني النبي قد عنانا وسألنا الصدقة؛ قال: وأيضاً والله لتمُلنَّه؛ قال: فإنا اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره؛ قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله".

وقد فعل مثل هذا أمير المؤمنين الهادي لما حمل عليه الخارجي وليس عنده أحد، ولا معه سلاح، فلم يتحرك من مكانه إلى أن قرب منه، فصاح: اضرب عنقه؛ كأنه يأمر أحداً من وراء الخارجي، فالتفت الخارجي إلى خلفه لينظر المأمور، فوثب عليه الهادي وثبة صار على صدره، وأخذ منه السيف وذبحه به.

ولهذا جاء في المثل: "رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة".

وهذا يدل على جواز الخدعة في الحرب، للحديث الصحيح: "الحرب خدعة".

قال النووي: (واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أوأمان فلا يجوز؛ قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك؛ وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة).

ولله در أبو الطيب حين قال:

الرأي فوق شجاعة الشجعان        هو أول وهي المحل الثاني

أما الدعاء فهو سلاح المستضعفين، وحاجة المجاهدين إليه لا تدانيها حاجة، إذ لم يستغن عنه رسول هذه الأمة المؤيد بالوحي، والموعود بالنصر، فقد دعا صبيحة بدر الليل كله، ودعا يوم الأحزاب على المشركين، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزمهم وزلزلهم"، وكذلك كان يفعل المجاهدون.

قال الطبري: (فلما كان ليلة الأضحى قيل لأسد: إن خاقان نزل "جَزَّة"، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة "بَلخ"؛ فأصبح أسد فصلى وخطب الناس وقال: إن عدو الله الحارث بن سريج استجلب طاغيته ليطفئ نور الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله، وإن عدوكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله؛ وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم وأخلصوا له الدعاء؛ ففعلوا ثم رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكون في الفتح.

قال: ثم خرج فنزل باباً من أبواب "بلخ"، وضربت له قبة، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة، ونادى في الناس: ادعوا الله؛ وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمَّن الناس على دعائه، فقال: نصر تم ورَبَّ الكعبة).

ثم التقى الجمعان، وكان النصر حليف المسلمين، ودحر الله الكفر والمنافقين، فهزموا شر هزيمة.

وكذلك فعل عقبة بن نافع في فتحه لشمال إفريقيا عندما استغاث الروم بالبربر فأجابوهم، حيث قام خطيباً فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان على مجاهدة من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا، فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم عز وجل لا يسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه، والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين).

تضرع السلطان المجاهد "ألب أرسلان" في جهاده مع الروم في معركة "ملاذكُرد"، وما أرشده إليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، حيث قال: (إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

فلما كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان وبكى الناس لبكائه، ودعا ودَعَوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى؛ وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلتُ فهذا كفني.

وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب، وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصرهم عليهم، فانهزم الروم وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر الملك).

أما خطورة المعاصي والذنوب فيوضح ذلك ما كان عمر يقوله للغزاة: "والله أنا من ذنوبكم أخشى عليكم من عدوكم"، وقال مرة وقد تأخر النصر على المسلمين ووقف الكفار معهم من الصباح حتى المساء: "والله إلا من ذنب اقترفتموه أواقترفته أنا".

هذه هي أسباب النصر الحقيقية لدى المسلمين عند سلفهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

الحذر من الخوض في القضايا الانصرافية التي تلهي المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين

هناك قضايا انصرافية كثيرة، وشبه وفيرة، أثارها ويثيرها أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، ويتلقفها منهم السذج والمنافقون والمثبطون عن الجهاد، ليشغلوا بها المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين، نحو:

1.  لم ينتصر المسلمون بحد السيف!

2.  هل الحرب في الإسلام جهادية أم دفاعية؟!

3.  الجهاد الأكبر، هل هو جهاد النفس، أم جهاد الكفار؟!

وغيرها كثير من الأمور التي تصرف عن الجهاد وتشغلهم بالجدل والمراء فيما لا طائل من ورائه، بل وصلت الجرأة والوقاحة ببعض الأشقياء أن زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله وإلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" قول تجاوزه الزمن، كبرت كلمة خبيثة خرجت من فيه.

هذا الحديث وإن اختلف الحفاظ في وقفه ورفعه، إلا أن الحفاظ أوردوه في دواوين السنة، وبوَّب به البخاري في صحيحه: "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر".

قال الحافظ ابن حجر: (هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبوداود وأبو يَعْلى مرفوعاً وموقوفاً عن أبي هريرة، ولا بأس برواته، إلا أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة، وفي الباب عن أنس أخرجه سعيد بن منصور، وأبوداود أيضاً وفي إسناده ضعف).

أما ما يعتل به البعض من أن المراد بالجهاد الأكبر هو جهاد النفس: "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس"، فهو ليس بحديث، لا صحيح ولا ضعيف، وإنما أثر ذلك عن إسماعيل بن عُلية، ومنهم من ينسبه إلى تابعي صغير هو إبراهيم بن أبي عبلة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن السلف لم يشيروا إلى جهاد النفس في مصنفاتهم في أبواب الجهاد أبداً، وإنما كانوا يخصون ذلك بكتب الزهد، كما فعل بعض الأئمة المجاهدين الكبار، أحمد وعبد الله بن المبارك، ولهذا فلا مجال لهذا الحديث العقيم الذي يثار حول هذه القضية، إذ الغرض من ذلك صرف الناس عن هذه الفريضة التي تعبد الله بها جميع الأمة حسب الطاقة.

يقول سيد قطب رحمه الله: (والذين يسوقون النصوصَ القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة يعني المرحلة التي مر عليها الجهاد ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً، ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحمِّلون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية، ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً، يمثل القواعد النهائية لهذا الدين، ويقولون وهم منهزمون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع البائس: لذرار المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان، إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع، ويحسبون أنهم يسْدُون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه).

الحذر من الاستماع إلى المخذلين، والمثبطين، والمرجفين

ما أكثر المخذلين والمثبطين عن الجهاد في هذا العصر، من الإعلامين، والصحفيين، والعملاء الخونة.

لقد حذر العلماء من خطر هذا الصنف في الماضي في مصنفاتهم، ونهوا وحذروا من خطورة خروج المخذل والمرجف مع الغزاة، لما قد يحدثه من تثبيط وخذلان لغيرهم.

قال ابن النحاس رحمه الله: (يمنع الأمير المخذل من الحضور في الجيش، فإن خرج رده، فإن قاتل لم يستحق شيئاً، ولو قتل كافراً لا يستحق سلبه عند الشافعي وأحمد.

والمخذل هو من يخوف الناس بأن يقول: عدونا كثير، وخيلنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك.. وفي معناه المرجف، وهو الذي يكثر الأراجيف، بأن يقول: أقبلت سرية كذا، أولحقهم مدد العدو من جهة كذا، أولهم كمين في موضع كذا، ونحو ذلك).

فضل جهاد الكفار والمنافقين

لقد ورد في فضل جهاد الكفار والمنافقين بأنواعه المختلفة حسب الطاقة العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها للتنبيه على غيرها:

1. فهو التجارة الرابحة: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".

2. الجهاد هو مهر السلعة الغالية، وهي الجنة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم".

3. وهو ذروة سنام الإسلام.

4. "من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".

5. "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا".

6. "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".

7. وعن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعونه"؛ فأعادوا عليه مرتين وثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه!"، ثم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله".

8. الجهاد أقصر طريق إلى الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمرو بن أقيَش كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد؛ قال:أين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فقال: أين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فلبس لامته وركب فرسه، ثم توجه قِبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت؛ فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أوغضباً لهم، أم غضباً لله؟ فقال: بل غضباً لله ولرسوله؛ فمات، فدخل الجنة وما صلى لله صلاة".

كن أخي المسلم مجاهداً.. ولاتكن الخامس فتهلك

كن أخي المسلم مجاهداً بنفسك ومالك، أوناوياً لذلك، أوخالفاً غازياً ومجاهداً في أهله، أوداعياً للمجاهدين مهتماً بأمرهم، ولا تكن الخامس وهو المخذل، المثبط، المرجف، الساهي، اللاهي عن ذلك فتهلك الهلاك المبين، وتخسر الخسران العظيم، وتندم الندم حيث لا ينفع الندم.

شبه ودحضها

ينعق بعض المسلمين بشبه ومآخذ ترفع في وجه جهاد الدفع الذي تمارسه فئة قليلة من المسلمين المضطهدين في دينهم المغلوبين على أمرهم، المتخلين عنهم إخوانهم، والخاذلين لهم ولاة أمرهم، تقليداً لما يثيره الكفار وعملاؤهم، والمرجفون من المسلمين في البلاد التي غزاها الكفار في حربهم الصليبية الحالية، مع غياب الحقائق عنا غياباً تاماً بسبب التعتيم الإعلامي، والإرهاب الذي مارسه الكفار مع الفضائيات والصحفيين وغيرهم، حيث يحرم تصديق وقبول ما يصدر من الكفار والحكم به، جعلت البعض يشكك في شرعية هذا الجهاد، أويتردد في قبوله، أويسكت عن الدفاع عنه، من تلكم الشبه ما يأتي:

1.  هل الجهاد القائم في العراق مثلاً مشروع؟

ونقول: إن لم يكن هذا الجهاد مشروع فلا يشرع جهاد أبداً، إذ:

لا يصح في الأذهان شيء           إذا احتاج النهار إلى دليل

2.  العمليات الجهادية الاستشهادية

العمليات الاستشهادية التي يمارسها البعض وهم مكرهون عليها إذ لم يجدوا غيرها طريقاً لدفع العدو الصائل الماكر المتفوق عليهم، التي يصفها البعض بأنها عمليات انتحارية، ومن ثم لا يجوزون الإقدام عليها.

وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن اختلاف أهل العلم في مثل هذه الأمور الحادثة أمر بدهي لأن كلاً منهم ذهب إلى ما أداه إليه اجتهاده.

والذي يترجح لدي أنها لا علاقة لها بالانتحار من قريب ولا من بعيد، وأنها جائزة عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.

إن لم يكن إلا الأسنة مركباً        فما حيلة المضطر إلا ركوبها

وذلك بالشروط التالية:

   أن يمارسها مسلم.

   أن يبتغي بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

   أن يترجح لممارسها أنها تنكي بالعدو.

   أن لا ينوي بها التخلص من الحياة ومما يعانيه من فتن.

ويمكن أن يستدل على جوازها ببعض الممارسات التي قام بها بعض أبطال المسلمين، على سبيل المثال لا الحصر نحو:

   ما عله غلام أصحاب الأخدود، حيث دل الملك على كيفية قتله، ووصف له ذلك كأنه هو الممارس له، والدال على الشيء كفاعله.

   ما فعله البطل البراء بن مالك، حيث طلب أن يوضع على أسنة الرماح ويرمى به داخل الحديقة ليفتحها، مع يقينه بنتيجة هذه المغامرة التي خاضها.

   انغماس كثير من المجاهدين في صفوف الأعداء كان سبباً لكسر العدو، ونصرهم على الكفار، ورد أبي أيوب وغيره على المعترضين الواصفين لهذا العمل بأنه من باب التهلكة والانتحار، فبين لهم أبوأيوب أن التهلكة الحقيقية في ترك الجهاد، والركون إلى الدنيا، وعدم الإنفاق في سبيل الله.

ولا أشك أبداً أن كثيراً من المجاهدين في الماضي لو تيسَّرت وتوفرت لديهم هذه الأحزمة الناسفة لما ترددوا في لبسها.

من أراد الاستزادة من هذه الشواهد فعليه بكتاب: "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام"، في الجهاد وفضله للمجاهد العالم البطل ابن النحاس، المتوفى 814ﻫ، وهو عبارة عن مجلدين، مطبوع، ومحقق.

3.  التمثيل بقطع الرؤوس والحرق بالنار

لقد نهى الإسلام عن التمثيل، وعن التحريق بالنار، والتدخين، ولم يبح ذلك إلا بمن مثل، فمن مثل مُثل به، ومن عفى وأصلح فأجره على الله، وهذا النهي يشمل المسلم والكافر، ومن أهل العلم من يقول هذا خاص بالقصاص.

وعندما عزم رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يمثل بسبعين من المشركين، عندما مُثل بحمزة رضي الله عنه، كف عن ذلك بعد نزول قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتهم لهو خير للصابرين".

خرَّج البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باب: "لا يعذب بعذاب الله" بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".

قال الحافظ ابن حجر: (واختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً، سواء كان ذلك بسبب كفر، أوفي حال مقاتلة، أوكان قصاصاً، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما.. قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سَمَل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرق أبوبكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد ناساً من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، قاله الثوري والأوزاعي.

وقال ابن المنير: لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العُرَنينن كانت قصاصاً أومنسوخة كما تقدم، وتجويز الصحابي معارَضٌ بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقاً للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم.

وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم، سواء كان بوحي إليه، أوباجتهاد منه، وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه.

وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة، وفي التدخين، وفي القصاص بالنار).

الراجح أن مَنْ مثل مُثل به، خاصة في حال الحرب، واختلفوا فيما دون ذلك، فمن أهل العلم من أجاز التمثيل والحرق ونحوهما في حال الحرب، وحملوا الحديث على أنه قضية معينة، ومنهم من منع إلا بمَن مثل.

فقد صحَّ أن علياً رضي الله عنه حرق زنادقة الرافضة الذين ألهوه بعد أن قتلهم، وأن أبابكر وخالد حرقا بالنار.

أما قطع رؤوس أئمة الكفر المحاربين، فقد قطع القائد البطل البطال بن عمرو رأسَ شمعون قائد الكفار في فتح عمورية، وألقاه بين يدي مَسْلمة بن عبد الملك، فكبًّر مَسْلمة، وكبَّر المسلمون معه.

كذلك حز البطال أيضاً رأس "أقربطون"، ورفعه على رمحه، ثم كبَّر، وكبَّر المسلمون معه.

4.  حبس الرهائن مقابل فك بعض أسرى المسلمين

هذا من الأمور المتعارفة في الحروب قديماً، مع العلم أن جل هؤلاء من "الموساد"، والجواسيس، والعملاء، سيما في العراق، وإن تزيوا بزي الصحفيين، والإغاثيين، والمتطوعين.

لِمَ ينكر الناس على المسلمين ما لا ينكرونه على عدوهم الغاشم، المتسلط، الظالم، الذي غزاهم في ديارهم، ومارس في حقهم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد والإذلال، كما حدث في "أبوغريب" وغيره وفي أفغانستان:

حـرام على بلابـل الدوح       حلال على الطير من كل جنس؟!

ما يمارسه هؤلاء القوم من حبس الرهائن مقابل أن يفك من أسراهم مطلب عادل، ومسلك مشروع في الحرب، فأي غضاضة في ذلك؟!

5.  قتل الأطفال

لا شك أنه لا يحل قتل النساء، والأطفال، والشيوخ، والعجزة، غير المحاربين ولا المعينين على الحرب، ولكن عندما احتبس بعض المجاهدين الشيشانيين طلاب مدرسة كرهائن للضغط على الغزاة أن يفكوا بعض أسراهم قامت الدنيا ولم تقعد، أما عندما يُقتل أبناء المسلمين في العراق، وفلسطين، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد، حسياً أومعنوياً، كما يفعله اليهود في فلسطين، وكما فعله الأمريكان في الحصار الذي ضُرب على العراق قبل غزوه، لا يحرك العالم ساكناً، ولا تثار ضجة إعلامية، ولا يفرض على الجميع أن يدينوا ذلك، وهذا من الظلم المبين، والكيل بعدة مكاييل.

ما ينبغي للمسلمين أن يقوموا به تجاه إخوانهم المضطهدين في الفلوجة وغيرها من الديار المغصوبة

من أوجب الواجبات على المسلمين نحو إخوانهم المضطهدين نصرهم وإعانتهم وتقديم يد العون لهم، وخذلانهم والتخلي عنهم من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، وهو أقل ما تمليه عقيدة الولاء والبراء على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وإليك الأدلة:

1. قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً"، وشبَّك بين أصابعه.

2. وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

3. وقال: "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه، وماله، ودمه".

ويكون نصر المسلمين لإخوانهم المجاهدين المضطهدين في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، وغيرها من البلاد بالآتي:

1. مدهم بما يحتاجون إليه من المال، من الزكاة الواجبة وغيرها، فهم أحق بها وأهلها، فالإنفاق في سبيل الله من أجل القربات.

2.  الفرح لانتصاراتهم، والحزن والألم لنكباتهم.

3. الدعاء والتضرع والقنوت لهم في الصلوات المكتوبة وغيرها، والدعاء الصادق سبب في تحويل القلوب من الغواية إلى الهداية، إن الدعاء الصادق وسيلة اتصال عظمى تقطع حُجُب الليل البهيم، وتتجاوز طبقات الفضاء العالية، لتصل إلى مدبَِّر الكون جل جلاله، فيكون بهذا الدعاء هداية الحيارى، ونصر المظلومين، وكشف الكربات:

أتهـزأ بالدعـاء وتزدريه      وما تدري بما صنع الدعاءُ؟

جنود الليل لا تخطي ولكن       لها أجـل وللأجل  انقضاءُ

4.  الاتمام بأخبارهم والحرص على معرفة ما يجري لهم عن طريق متابعة الفضائيات والشبكات، نسبة لما يفرضه الكفار من تعتيم إعلامي ظالم.

5.  توعية المسلمين وتبصيرهم بما يلاقيه هؤلاء القوم من الويلات، وبما يجب عليهم فعله، وحضهم على الدعاء لهم والإنفاق عليهم.

6. إزالة الشبه التي يثيرها البعض عن هذا الجهاد المشروع، وعن هؤلاء القوم المظلومين.

7.  الكتابة في الصحف، والمجلات، وفي الشبكات، وكل ما تيسر من وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية.

8.  على الخطباء وأئمة المساجد أن يحرصوا على شرح هذه القضية، وأن يلحوا في الدعاء والقنوت لهم.

9.  وأي وسيلة أخرى يمكن أن يُعان بها هؤلاء القوم.

والله الموفق للخيرات، والهادي إلى أقوم الصراط.

اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والآثام، وانصر المجاهدين، وأذل الكفر والكافرين، وأنزل عليهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، والصلاة والسلام على إمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين

000000000000000

مفاهيم ينبغي أن تصحح بين اليسر والتفلت

المنهج الذي سلكه الشيخ دكتور يوسف القرضاوي سامحه الله في كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، وقد أفلح من وسمه "بالحلال والحلال"، ولا يزال يسلكه في برنامجه الأسبوعي في قناة الجزيرة "الشريعة والحياة"، وفي محاضراته، ولقاءاته، وكتاباته، الذي أغرى به وفتن بعض الدعاة والعامة، ولا يزال يغري ويفتن، مفاده ومؤداه الإتيان بشرع جديد مغاير لما تركنا عليه رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، مع يقيننا أنه لم يرد ذلك، ولكن العبرة بالخواتيم، والبدايات عنوان النهايات.

فعل كل ذلك بدعوى التيسير وتحبيب الإسلام إلى الأجيال المعاصرة، ومحاولة دفع بعض الشبه التي يرفعها أعداء الإسلام من كفار ومنافقين، وما علم أن اليسر كل اليسر فيما تركنا عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما سواه هو العسر والخسر الذي ليس بعده عسر ولا خسر، لأن هذه الشريعة السمحة، والمحجة البيضاء مبناها على اليسر ورفع الحرج: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، ولهذا صح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما خيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أوقطيعة رحم"، فقد اختار لنا ربنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ولم يدع الاختيار لنا، لأنه من تمام وكمال الدين الذي أتمه الله على يديه: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، فالدين تم، فماذا بعد الإتمام والكمال إلا النقص والخسران؟ ولهذا قال مالك: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، وإلى يوم القيامة، وما لم يعرفه البدريون فليس بدين، ولا يرضى به رسول رب العالمين.

ومن زعم أنه يريد أن ييسر على العباد بأي وسيلة من الوسائل سواء كان عن طريق الابتداع في الدين، أوالتفلت عن الأحكام الشرعية، أوالتخلي عن الآداب المرعية، فقد اتهم الشريعة بالعسر، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالتشدد والغلو، وكذب كتاب الله وسنة رسوله شاء أم أبى، ولا تنفعه حسن نيته، لمخالفته للسَّنَن القويم، والصراط المستقيم، الذي تركنا رسولنا في أوله وآخرُه في الجنة.

ليس لهذا المسلك تبرير ولا تعليل إلا التفلت من الأحكام الشرعية، ومنافقة المجتمع فيما يهواه، والاستكانة إلى الكفار، والتشبه بهم، والحرج من مخالفتهم، وتتبع زلات العلماء وسقطاتهم، فإن علم سالكوه بذلك ثم اختاروه فتلك مصيبة، وإن جهلوا ذلك فالمصيبة أعظم وأدهى، وإلى الله المشتكى.

نماذج من تلك المخالفات والأقوال الشاذة

سنورد في هذه العجالة نماذج لما خالف فيه الشيخ القرضاوي أهل الإسلام، وما عليه الأئمة الأعلام:

1.  الدعوة إلى تقارب الأديان.

2. إجازته موالاة بعض الكفار.

3.  إباحة الزواج من غير ولي.

4. إباحته للمرأة إذا أسلمت وهي متزوجة من كافر أن تبقى في عصمته وهو على كفره.

5. التنسيق مع أهل البدع والأهواء من خوارج ورافضة وغيرهم، حيث جعل نائبيه في الاتحاد الإسلامي الأوروبي أحدهما رافضي والآخر خارجي.

6. إباحة الغناء والموسيقى، وأنه قد يكون طاعة تتبعاً لبعض السقطات والاستماع إليهما، ومدحه لهما، حيث قرر أن الموسيقى والغناء لا يحرمان اللهم إلا إذا سكر "الموسيقار" أوالفنان ولبس قطعة من الحرير الطبيعي ثم عزف وغنى، في هذا الجو حينئذ يحرمان، وقد سجل ذلك في كتابه السابق، ورد عليه الشيخ الفوزان، وكرر ذلك في مقابلة مع مدير التلفزيون السوداني الأسبق قبل حين في إحدى زياراته إلى الخرطوم، وعلل ذلك بتوفر "الجو".

7. الاعتداء في الزكاة الذي لا يقل خطراً وإثماً من منعها، حيث اكتوى بنار ذلك السودانيون، لمصادفة ما قاله هوى المشرعين بديوان الزكاة بالسودان، بل تعدوا ما أجازه هو بكثير كما صرَّح هو بذلك لهم.

وهذه من أخطر مخالفاته، لأنه يبوء بوزر من قلده في ذلك، حيث لا ينقص ذلك من أوزراهم شيئاً، وأخشى أن يُسأل عن كل جنيه أخذت باسم الزكاة من مال لم تجب فيه الزكاة.

8.  أجاز حلق اللحية رداً لقول الرسول الكريم: "أعفوا اللحوا وقصُّوا الشوارب".

9.  إباحته للسفور، حيث أجاز للمرأة أن تكشف عن وجهها أمام الرجال الأجانب.

10. إباحته للتمثيـل وصده لبعض الممثـلات التائبات عن الإقلاع عنه أسأل الله أن لا يكن استجبن لفتواه حتى لا يهلك ويهلكن معه، ويذكرني هذا بما قاله أحد المتفلتين لأحد التائبين عن الغناء: لماذا تترك الغناء؟ يمكنك دخول الجنة وأنت تضرب على أوتار عودك؛ فما كان من هذا المسكين إلا أن رجع إلى ما تاب عنه بعد حين، وأصبحت حاله الثانية أسوأ من حاله السابقة التي كان يعتقد فيها أنه ممارس لحرام ويستغفر الله عن ذلك، أما الآن فهو يعتقد أنه يتعبد ربه بذلك، ويصدِّق هذا كله ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، ورحم الله مالكاً وغيره عندما قالوا: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم.

11. إباحته للتصوير، وهو من أكبر الكبائر بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصورون أشد الناس عذاباً يوم القيامة"، حيث لم يفرِّق بين ذات الظل المجسمة ولا غيرها، ولا ما صُوِّر بريشة أوبآلة، فطالما أننا نطلق عليها اسم صورة فهي داخلة في الوعيد.

12. إجازته لإخراج زكاة الفطر نقداً، ففتن بها الناس وصدَّهم عن سنة نبيهم وعن أقوال أئمتهم المقتدى بهم، عملاً بمبدأ التشهي في الفتوى بما يهوى المستفتون، فترك صيامهم معلقاً بين السماء والأرض، حيث لم يطهروه ويجبروه بإخراج الطعام ظناً منهم أنهم أرحم بالفقراء والمساكين من ولد عدنان، وأنهم هم الميسِّرون لما قسَّاه وعسَّره رسول الإسلام!!

13.  تحريمه للعمليات الاستشهادية بعد أن كان مجيزاً لها في حرب المسلمين الدفاعية، حيث لم يجدوا غيرها سبيلاً.

14.  أجازالسينما، ولم تنفعه تلك الاشتراطات التي اشترطها.

15.  أباح الشطرنج بشروط كذلك لا أثر لها في التحريم والتحليل.

16.  إباحته للدخان إلا إذا حرمه الطبيب على المريض!!

هذا قليل من كثير، وغيض من فيض، ونخشى أن يكون ما خفي علينا من آرائه وأقواله أعظم مما ظهر لنا.

من العجيب الغريب اكتفاء البعض واستفتاؤهم واقتصارهم على ما يكتبه ويقوله ويفتي به بعض الدعاة المُحْدَثين، على الرغم من أنهم مبتوتون، أوزاهدون، أومخالفون، أوجاهلون، أومستنكفون ومستكبرون لما كان عليه السلف الصالحون من علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة الدين الموثوق بمنهجهم، وطريقتهم، وعلمهم، وسلوكهم، هذا مع إرشاد ونصح رسولنا الكريم والتابعين له بإحسان بالتأسي والاقتداء بهم، والسير على طريقهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة"، "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أبرُّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً".

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً أخذنا بها تصديقاً لكتاب الله عز وجل، واستكمالاً لطاعة الله تعالى، وقوة على دين الله سبحانه، من عمل بها مهتدٍ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وصلاه جهنم وساءت مصيراً".

لماذا يترك البعض الكتاب والسنة وإجماع الأمة ويبحثون عن الزلات والهفوات والسقطات والشذوذات؟

لماذا يترك الناس المضمون ويرضون بالدون؟

لماذا يتركون ورود الأنهار العذبة ويقنعون بالبرك والجداول والحفر؟

جاء في مقدمة كتاب الشيخ عبد الحميد طهماز في رده على الشيخ القرضاوي كلمات مفيدة ونصائح عديدة يحتاج إليها طالب العلم، حيث قال جزاه الله خيراً: (ولا مناص لكل باحث في أحكام الشريعة الإسلامية من الرجوع إلى آرائهم وأقوالهم، وأن كل من سولت له نفسه مخالفة أقوالهم، والخروج على آرائهم، وقع في الخلط والخبط والتناقض والتهافت لأنه ما أحاط بالأدلة إحاطتهم، ولا فهم النصوص فهمهم، وهم أقرب منه إلى عصور الخير والصفاء تلقياً وفهماً، وكان عليه قبل أن يخالفهم أن يدرس أدلة أقوالهم، ليجد أنهم رحمهم الله تعالى ما خرجوا عن الكتاب وما خالفوا السنة، بل صدروا عنهما في كل أقوالهم وآرائهم، وبين أيدينا مثال عملي لهذا وهو كتاب "الحلال والحرام في الإسلام"، فقد خرج مؤلفه الشيخ يوسف القرضاوي عن آراء الأئمة في كثير من مسائله، إلى أقوال شاذة، أوضعيفة الثبوت، أومنحولة مدسوسة على قائلها، وليته قبل أن يسجلها في كتابه وازن بينها وبين الأقوال المعتمدة عند الأئمة وقارن بين أدلة هذه وأدلة تلك، ولو فعل هذا لظهر له ضعفها وشذوذها، وبالتالي ما أثبتها في كتابه كرأي معتمد يفتي به جمهور المسلمين وأجيالهم اللاحقة، أقول هذا على أنني على يقين من حسن نيته وصفاء طويته، فما ذكر هذه الأقوال الشاذة إلا بدافع إظهار الإسلام بمظهر اليسر والمرونة، وليس يسر الإسلام ومرونته في مجاراة أهواء الناس وميولهم، إنما يسر الإسلام في مرونة نصوصه، وسهولة تكاليفه التي يستطيع القيام بها أي إنسان في أي زمان ومكان، أما أن نلجأ تحت شعار التيسير والتسهيل على الناس إلى الأقوال الشاذة والضعيفة والمنحولة فنخرق أسوار الشريعة ونتجاوز حدودها فلا يجوز لنا أبداً، سواء كان ذلك بحسن نية أوبسوء نية.

ولقد قرر المؤلف بنفسه هذا عندما قرر المبادئ التالية:

النية الحسنة لا تبرر الحرام.

التحايل على الحرام حرام.

ما أدى إلى الحرام فهو حرام.

في الحلال ما يغني عن الحرام.

وكما أخذ المؤلف من المقلدين الذين يسارعون إلى إطلاق كلمة حرام بدون أن يكون معهم دليل ولا شبه دليل نأخذ عليه إسراعه إلى الأقوال الضعيفة والشاذة، وتسجيلها في كتابه كأنها آراء معتبرة ومحققة يجوز الأخذ بها والعمل بمقتضاها).

مما يحز في النفس ويدعو إلى الحزن والأسى غرور واستكبار سالكي هذا المنهج منهج التفلت ومقلديهم، حيث يصفون المخالفين لهم وهم المتبعون الملتزمون لما كان عليه رسول الإسلام، والسلف الكرام، والأئمة الأعلام، بالتشدد والتزمت، والجهل بالفقه ومقاصد الشريعة، ويمدحون أنفسهم بأنهم هم الفقهاء العلماء الحكماء، وهذا والله من اختلاف الموازين، وبسبب جهل وخلل في الدين، وغرور مشين، ويصدق عليهم المثل: "رمتني بدائها وانسلت"، إذ لا يعني الفقه بحال من الأحوال معارضة وردِّ النصوص الصريحة الصحيحة، ولا البحث والتفتيش عن الزلات، والسقطات، والرخص، والهفوات، ولا التشهي في الفتوى بما يهواه المستفتون، ويطلبه المستمعون، وينعق به الناعقون.

فبينما تجدهم يمدحون ويثنون على ابن حزم رحمه الله فيما خالف فيه السنة والإجماع، وشنع عليه بسببه الأئمة الأعلام، لإباحته الأغاني، يخالفونه ويذمونه فيما وافق فيه الإجماع.

وبينما يوصف أبوحنيفة رحمه الله بإمام الأئمة إذا صادف ما قاله الهوى وتشتهيه النفوس، يُذم وينتقص إذا كان مذهبه: "أن التلذذ بالغناء كفر"، كما نقل ذلك ابن القيم رحمه الله عن مذهبه، وأن وجه المرأة عورة، وأن حلق اللحى حرام، إلى غير ذلك، وهو معذور حيث قال: "هذا رأيي فمن جاءني برأي خير منه قبلته"، ولم يقل: "هذا شرع محمد صلى الله عليه وسلم"، ولهذا رجع أكبر تلاميذه القاضي أبويوسف عندما جاء المدينة وناظره مالك عن كثير من الأمور، وقال: "لقد سمعتُ يا أبا عبد الله لقولك، ولو سمع صاحبي ما سمعتُ لرجع كما رجعتُ".

فهل لمن يسلك هذا المسلك المشين ويهجر ويترك ما قرره علماء الشرع والدين من شبيه أومثيل سوى المكنسة التي تلتقط الأوساخ، وإلا الذباب الذي لا يقع إلا على القاذورات، وإلا الجُعْل الذي اتخذ المراحيض مأوى له ومسكناً، وفضلها على ما سواها من العمران؟!!!

ولله در القائل من سادتنا العلماء الأجلاء: من تتبع رخص العماء وزلاتهم وهفواتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله.

وأخيراً أحب أن أتوجه بكلمتين نصحاً لله ورسوله، إحداهما لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، والثانية للمفتونين به المقلدين له في كل ما يقول، المتخذين إياه إماماً يصدرون عن فتواه ولا يأخذون بقول من سواه، ولو جاءهم بأصح الأدلة وأجلاها، لما صادف ما قاله هواهم، إذ المقلد متبع لهواه مغضب لربه ومولاه: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً"، ولهذا قال العلماء: لا فرق بين مقلد وبهيمة تقاد، إذ التقليد مأخوذ من القلادة التي يقاد بها الحيوان؛ فليهنأ المقلد بشبه العجماوات.

وقبل التوجه بهاتين الكلمتين أحب أن أحذر نفسي والمعنيين وغيرهم من الاستكبار والاستنكاف عن قبول النصيحة إذا جاءت ممن قل علمه في زعمهم لمن كثر علمه، ولله در إسحاق بن أحمد العلثي الزاهد القدوة وهو ينصح للإمام ابن الجوزي رحمه الله ويرد عليه في مسألة تفضيل الرسل على الملائكة، لأنه أمر محدث لم يخض فيه السلف الصالح: (ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب بحرٍ كدرٍ ونهرٍ صافٍ، فلستَ بأعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال له الإمام عمر: أتصلي على ابن أبَيّ؟ فنزل القرآن: "ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً"، ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذاً لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل، حيث قال الله تعالى: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، بل ينكر المفضول على الفاضل، وينكر الفاجر على الولي، على تقدير معرفة الولي).

أما كلمتي لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي فأقول فيها:

أولاً: اتق الله في نفسك وفي هذا الدين، وفي المقلدين لك من الدعاة والعامة، واعلم أنك مسؤول عنهم فيما يقلدونك فيه، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ويل للعالم من الأتباع"، ونقول كذلك: ويل للأتباع من الدعاة.

ثانياً: ندعوه مخلصين إلى الرجوع عن جميع تلك الأقوال قبل فوات الأوان، ونزول الكرب العظام، حيث لا ينفع الندم، ولا تقبل التوبة، فطوبى لمن مات وماتت بدعته معه، والويل ثم الويل لمن مات وبقيت بدعته بعده يعمل بها المقلدون، ويحاسب عليها الفاتن والمفتون، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة لا تدانيها رذيلة.

ثالثاً: ندعوه إلى التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، وما عليه السلف الصالح في الاعتقاد، والفتوى، والمنهج، وغيرها، ولا يرد على ذلك أنه في الجملة على منهج أهل السنة والجماعة، وأقواله هذه كلها مناقضة ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.

رابعاً: تحذير الأتباع من العصبية الحزبية الضيقة، وبذل قصارى الجهد في ذلك.

خامساً: التذكير بأن نصر هذا الدين وتمكينه لا يأتي بالتنازلات، ولا البحث والتفتيش عن الزلات والهفوات، بل بنصره والحرص عليه والأخذ بالعزائم.

سادساً: الحذر من الاستكانة إلى الكفار والتشبه بهم.

سابعاً: العمل على نشر العقيدة الصحيحة، ومحاربة الممارسات الشركية والبدع والمحدثات، فهو من أجل ما تفنى فيه الأعمار، وتضاعف به الأجور، وتمحى به الزلات والخطيئات.

ثامناً: الاشتغال بالنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

أما كلمتي للمفتونين به المقلدين له في كل ما يقول، فأقول فيها:

أولاً: اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي هذا الشيخ.

ثانياً: لا يحل لأحد أن يقلد أحداً في كل ما يقول، ولو كان من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، سوى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: الطاعة لا تكون إلا في المعروف، هذا لمن تجب على المسلم طاعتهم.

رابعاً: لا يكن أحدُكم إمعة يسير مع القطيع حيث سار، ولكن وطنوا أنفسكم على اتباع الحق.

خامساً: الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بدورانهم مع الحق حيث دار.

سادساً: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها ويعمل بها ولو جاءته من كافر أوفاجر، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه.

سابعاً: الحذر أن تقلد أحداً دينك فتكون من الهالكين.

ثامناً: لا تكتفي بما يكتبه ويقوله الدعاة المُحْدَثون، وعليك أن تشتغل بالعلم الشرعي، وأن تتلقى العلم من المشايخ الثقات الأثبات.

تاسعاً: عليك أن تعمل على تزكية نفسك، وأن تشتغل بعيوبك عن عيوب غيرك.

عاشراً: احرص على الاعتصام بالسنة، واحذر الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، فهو من المهلكات:

فخير أمور الدين ما كان سنة      وشر الأمور المحدثاتُ البدائع

والله أسأل أن يردنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين إلى الحق والهدى رداً جميلاً، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفنا مؤمنين، وينصرنا على أنفسنا وعدونا، ويعز وينصر إخواننا المجاهدين، وأن يحمي حوزة الدين، ويدمر أعداءه الكفرة الملحدين، من اليهود والنصارى ومن شايعهم ووالاهم، وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه والتابعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

0000000000000000000

مفاهيم ينبغي أن تصحح ما حقيقة الصوفية؟

متى ظهرت الصوفية؟ وإلى أي شيء ينتسب الصوفي؟

مم يتكون الفكر الصوفي أوالعقيدة الصوفية؟ وماهي مصادره؟

مصادر التلقي عند الصوفية

هل هناك علاقة بين التقلل من الدنيا، والزهد، والإكثار من ذكر الله، وبين الصوفية؟

هل هناك صوفية معتدلة وأخرى منحرفة؟

هل يجوز لأحد أن ينتسب إلى طريقة صوفية؟

الأسباب الشرعية التي تحرم الانتساب إلى الطرق الصوفية

الخلاصة

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام وخاتم الرسل العظام الكرام، وسمانا بالمسلمين، فأغنانا عن تسمية غيره من الأنام، وصلى الله وسلم على رسوله ما تعاقب الملوان، وعلى أصحابه وأزواجه والتابعين لهم بإحسان.

وبعد..

من اقوى وسائل التضليل والتدليس والتلبيس على الناس المصطلحات المغلوطة، والشعارات الفارغة المبثوثة، والتعتيم على ذلك.

شاع بين الناس قديماً وحديثاً أنه لا مشاحة في الأسماء والألفاظ والمصطلحات، وإنما العبرة بالمضمون، لكن هذا الأمر ليس على عمومه، إذ هناك مصطلحات ومسميات لها ظلال واضحات، ومخالفات بينات، وعليها محاذير خطرات.

من تلك المصطلحات والتسميات التي تحمل تلك السمات والظلال مصطلح "الصوفية"، إذ يظنه البعض مرادفاً للإسلام، وموافقاً لشريعة ولد عدنان، بل يعتقد فريق من الناس أنه أعلى درجة من الإسلام، وأرفع منزلة منه، يَحْدُث هذا بسبب الجهل بحقيقة الإسلام والصوفية معاً من ناحية، ولسكوت جل العلماء عن بيان الفروق الكبيرة والمخـالفات الخطيرة بين الإسـلام والصوفية، إما خـوفاً وطمعاً، أورغباً ورهبـاً، ولله در الإمام أحمد بن حنبل حين قال: "إذا سكت الجاهل لجهله، وأمسك العالم تقية، فمتى تقوم لله حجة؟".

لقد أمر الإسلام بالتناصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ورفع الحرج عن هذه الأمة، حيث قال مشرعها: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان".

وليت الساكت عن البيان وهو شيطان أخرس سكت عن المجاهرين بالحق، ورضي بأضعف الإيمان بدلاً من النفاق.

من المحزن أن يقدِّم أرسطو وهو كافر الحقَّ على موافقة أستاذه أفلاطون، ويستنكف البعض عن إقرار القائلين بالحق أوحتى السكوت عنهم.

من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة قط، وأن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة أوتتفق على بطالة، بل جعل طائفة منها لا تزال على الحق ظاهرة عالية لا يضرها من خذلها ولا من عاداها حتى تقوم الساعة، كما أخبر الصادق المصدوق.

فما حقيقة الصوفية؟ ومتى ظهرت هذه البدعة في البرية؟ وما هي أخطر عقائدها ومخالفاتها دعك عن موافقتها أوتميزها عن المحجة البيضاء والحنيفية السمحة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية؟

هذا ما نود الإشارة إليه في إيجاز، نصحاً لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وتبرئة من المسؤولية، ولعلها تصادف آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً زاكية.

دفعني لهذا البيان ما سمعته من أغنية للشيخ البرعي وأنا راكب حافلة، إذ لا فرق بين الأغاني والسماع الصوفي الملحن ، بل السماع الصوفي أخطر وأضر لما يحويه من الشركيات والغلو، جاء فيها أن محمداً صلى الله عليه وسلم "أساس الصوفية"، لأن هذا من الكذب المبين، والافتراء المهين، الذي يدرج قائله من جملة المكذبين على سيد المرسلين، وكذلك زعم البعض أن محمداً صلى الله عليه وسلم لبس الخرقة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، وأن علياً وجعفر رضي الله عنهما رقصا وتواجداً، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم تواجد.

أما نسبة أبي بكر وعمر وأبي ذر وغيرهم من الصحابة إلى الصوفية فهي أقذر وأخس من نسبة عمر إلى "الديكتاتورية"، وأبي ذر إلى الاشتراكية، سيُكتب قول هؤلاء ويسألون.

متى ظهرت الصوفية؟ وإلى أي شيء ينتسب الصوفي؟

ظهرت الصوفية كما يقول العلماء المحققون في أواخر المائة الثانية أوأوائل المائة الثالثة بالبصرة.

وينتسب الصوفي إلى لبس الصوف، وليس إلى الصفاء، ولا إلى أهل الصُّـفَّة، ولا إلى الصف الأول، ولا إلى غير ذلك من الدعاوي، لأن كل هذا تأباه اللغة ويكذبه التاريخ.

لقد لبس رسولنا الكريم القطن والصوف وغيرهما، ونهى عن لباس الشهرة، الذي يتمثل في لبس الصوف، أوالمرقع، أوالتميز باللون الأسود أوالأخضر، لأن ذلك أصبح شعاراً للرافضة والطرقية.

ولباس الشهرة وهو الرفيع جداً، أوالوضيع جداً، أوالمخالف لما تعارف عليه الناس، حكمه في أرجح قولي العلماء الحرمة، فليهنأ لابسه بمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

فالصوفية إذاً من العقائد المحدثة، وهي مأخوذة من الفكر الرافضي الشيعي، الذي مصدره اليهودية الحديثة، والفلسفات والديانات القديمة.

لم يرد لفظ "صوفي" أو"صوفية" لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في أثر للصحابة الكرام ولا الأئمة الأعلام المقتدى بهم.

مم يتكون الفكر الصوفي أوالعقيدة الصوفية؟ وماهي مصادره؟

يتكون الفكر الصوفي والعقيدة الصوفية من الآتي:

أ.  عقائد كفرية، نحو:

   عقيدة الاتحاد والحلول والفناء.

   جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، الأحياء الغائبين والحاضرين منهم، والميتين.

   اتخاذ الوسائط.

   الغلو في الأنبياء والصالحين.

   ادعاء أن بعض المشايخ تسقط عنهم التكاليف الشرعية.

   اعتقاد البعض أن درجة الولاية أعلى من درجة النبوة، يقول محي الدين بن عربي:

مقام النبوة في برزخ             فويق الرسول ودون الولي

   أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُرى يقظة بعد وفاته، ويحضر الحوليات والموالد.

   أن الرسول صلى الله عليه وسلم خُلق من نور، وأن الأنبياء من لدن آدم خلقوا من نور محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

   تقسيم العلم إلى علم شريعة وحقيقة، أوظاهر وباطن، وهو تقسيم لم ينزل الله به سلطاناً، ولا أثر عن أحد من الأعلام.

   أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته قبل وفاته، وأنه يعلم الغيب.

   أن الشيخ يحضر عن وفاة مريديه وفي القبر ويلقنهم الشهادتين:

هم حاضرين يا ليلى

مع الملكين يـا ليلى

و ملقنـين يـا ليلى

للكلمتـين يـا ليلى

إلى غير ذلك من العقائد الكفرية المخالفة للشريعة المحمدية، فهذه مجرد أمثلة، ويمكن الرجوع إلى مصادرهم "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" لابن عربي، و"طبقات الشعراني"، و"طبقات ود ضيف الله"، وغيرها؛ ونحن نعلم أن ليس كل صوفي يعرف هذه العقائد أويدين بها، لكن جل المشايخ يعلمونها ويعتقدونها.

ب. السماع الصوفي

من المخالفات الواضحة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية السماع الصوفي، وهوعبارة عن قصائد مليئة بالشركيات والغلو في الرسول والمشايخ، وملحنة ومصحوبة بالآلات الموسيقية.

وهناك فرق بينها وبين إنشاد القصائد الزهدية الخالية من الشركيات والغلو والتلحين والآلات الموسيقية نحو الطبل "النوبة".

وحتى هذا فقد كرهه الإمامان الكبيران الشافعي وأحمد وغيرهما، فقال الشافعي وهو يتحدث عما خلفه ببغداد: "التغبير أحدثه بعض الزنادقة ليصدوا به الناس عن كتاب الله"، وكان الإمام أحمد ينهى أتباعه عن سماع ذلك عندما أحدثه الحارث المحاسبي.

ج. الأوراد والأذكار البدعية

كذلك من مخالفات الصوفية الأوراد والأذكار البدعية التي ألفها بعض المشايخ لأتباعهم، فما من طريقة إلا ولها أوراد خاصة بها تلزم بها أتباعها ومريديها، وفيما صح عن نبينا غنى وكفاية عما أحدثه المُحْدِثون قديماً وحديثاً، فمن لم يسعه ما وسع محمداً وصحبه والتابعين لهم بإحسان فلا وسَّع الله عليه.

مصادر التلقي عند الصوفية

ونعني بذلك مصادر هذه العقائد المنحرفة، والأذكار، والسماع الصوفي البدعي المحدث، يعتمد الصوفية في ذلك على الآتي:

1.  الأحاديث الموضوعة والضعيفة جداً.

2.  الرؤى، منامية أويقظة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمشايخهم.

3.  الهواتف الشيطانية.

4.  الذوق.

5.  الحكايات المكذوبة، وادعاء الكرامات المزعومة المنسوبة لبعض مشايخهم.

هل هناك علاقة بين التقلل من الدنيا، والزهد، والإكثار من ذكر الله، وبين الصوفية؟

من الخلط الواضح والتلبيس الفاضح نسبة الزهد في الدنيا، والتقلل من نعيمها ومباحاتها، وعدم الاشتغال بها، والإكثار من ذكر الله عز وجل بالاذكار المشروعة إلى الصوفية، وعدم إضافة ذلك إلى الإسلام، وهذا أكبر بهتان وأعظم افتراء، سواء كان خلطاً متعمداً مقصوداً أونتيجة جهل.

إذ رسولنا صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام كانوا أئمة الزهاد والمتوكلين، ومطلقين للدنيا وزخارفها الفانية، وكانوا أخشى عباد الله وأتقاهم.

فلماذا ينسب هذا إلى الصوفية زوراً وبهتاناً ويسحب من شريعة المنزل عليه القرآن؟ وهو القائل: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، والقائل: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"، وكان يمر الشهر والشهران والثلاثة ولا توقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار لصنع طعام، وعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتسألن يومئذ عن النعيم"، قال له أصحابه: عن أي نعيم نُسأل؟ إنما هما الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على أكتافنا، والعدو أمامنا؛ قال: "لتسألن عن الأسودين"، والمراد سؤال تعداد النعم.

كل هذا نتج من اللبس المتعمد والتضليل المقصود لمرادفة الصوفية وهي من البدع المحدثة للحنيفية السمحة والمحجة البيضاء.

الذي ندين الله به ونلقاه عليه أن الإسلام بريء من الصوفية براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وأن الصوفية شرع جديد يشمل بعض ما جاء به الإسلام وكثير من النواقض والمبطلات له، هذا بجانب البدع المحدثات، والمخالفات الواضحات، فالمرء قد يكون فيه شيء من الإيمان وأشياء من الكفر، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، فقط لقوله لأحد الصحابة: يا ابن السوداء.

أما من اعتقد أن الصوفية أفضل من الإسلام وأعلى منزلة ودرجة منه فليجدد إسلامه.

هل هناك صوفية معتدلة وأخرى منحرفة؟

لا شك أن الصوفية ليسوا كلهم سواء، وأنهم متفاوتون قديماً وحديثاً، وأنه من الظلـم نسبة الجنيـد والفضيل بن عياض وأضرابهما من العباد والزهاد والأئمة الأخيار وقرنهم تحت اسم واحد وهو الصوفية مع الحلاج، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وغيرهم.

فالأوائل من أئمة المسلمين وإن صدرت منهم بعض المخالفات، وإن نسبوا إلى الصوفية، والأواخر أقرب إلى الزندقة منهم إلى الإسلام، ولذلك من الظلم نسبة الأوائل إلى الصوفية وإن صدرت من بعض الأكابر، فالصوفية معتدلهم وغاليهم من أهل البدع وإن تفاوتوا في الدرجات.

ولا يرد على هذا ما أثر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقسيم الصوفية إلى ثلاث مراحل فهو وصف لحالهم، ولم يرد إقرار الأوائل منهم.

هل يجوز لأحد أن ينتسب إلى طريقة صوفية؟

لا يحل لأحد أن يرضى بغير الإسلام اسماً وبديلاً، خاصة المصطلحات التي لها ظلال، ولا نعني بذلك الانتساب إلى المذاهب السنية الأربعة، ولا الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، لأنها لا ظلال لها كالانتساب إلى طريقة صوفية، أوإلى فرقة عقدية، أوحزب أوجماعة يخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في الاعتقاد والتصور والسلوك.

ونحن لا نشك أن الداخل في بعض هذه الطرق قد يستفيد بترك بعض المعاصي وبتحسين سلوكه، لكن ما يفقده بانضمامه إلى تلك الطرق أضعاف أضعاف ما يكسبه منها، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.

ومن أخطر ما يصيب المنتمي لهذه الطرق فساد العقيدة والتعصب المقيت لها، وكونه يصبح إمعة، لأن من شروط الانتساب لهذه الطرق أن يكون مع الشيخ كالميت بين يدي مغسله، ويقولون له: لا تعترض فتطرد؛ ويا فوز المطرودين ويا ندامة الباقين على هذه الحال، حيث قرر رسولنا الكريم أن الطاعة لا تكون إلا في المعروف.

والطاعة في الإسلام للعلماء العاملين بعلمهم، ولولاة الأمر المؤتمرين بأمر العلماء، أما مشايخ الطرق وجلهم نالوا ذلك بالتوارث، ولا اهتمام لهم بالعلم، فلا تجب طاعتهم، ولا يحل لأحد أن يسألهم، حيث أمرنا بسؤال أهل الذكر وهم العلماء: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".

هذا مع يقيننا بأهمية المشيخة والتتلمذ على المشايخ العلماء لنيل العلم الشرعي، فالعلم بالتعلم وليس بالتلقين كما يزعم الصوفية، ولا يرد على ذلك أن يبارك الله في فهم وعلم الإنسان: "واتقوا الله ويعلمكم الله"، وحاجة المرء إلى تزكية النفس والسمو بها لا تقل عن حاجته إلى العلم الشرعي، ولذلك قال ابن وهب: ما تعلمته من أدب مالك أضعاف ما تعلمته من علمه؛ ولذات السبب قال مالك وغيره: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم.

أما بالنسبة للمشايخ الطرقية فهم لا يشتغلون بالعلم، وعمدتهم ما قاله الشبلي وغيره: إذا جاءوني بعلم الورق بذلت لهم علم الخِرَق!!

وقد طلق كثير ممن دخل في التصوف العلم الشرعي، منهم على سبيل المثال حمد النَّحلان، كما حكى ود ضيف الله عنه، فقد طلق الفقه ثلاثاً، وهذا أول رغبات الشيطان ومتطلباته من أوليائه حتى يلقي في عقولهم ما يشاء.

وكان بعض المشايخ السابقين عندهم شيء من الزهد والتقلل من الدنيا، أما الأحفاد والأبناء فقد زاحموا أهل الدنيا وبزوهم في ذلك، ورحم الله الشيخ العبيد ود بدر حين قال: "أنا وأحمد ولدي فقراء ومساكين، والبعدنا أمراء وسلاطين، والبعدهم عكليتة  ود الأمين"، أوكما قال، وقد غشانا الزمن الذي تنبأ به الشيخ ود العبيد، فالواجب الفرار منهم كالفرار من الأسد.

الأسباب الشرعية التي تحرم الانتساب إلى الطرق الصوفية

الأسباب التي تنهى المسلم عن الانتساب إلى الطرق الصوفية خاصة، والمخالفة للإسلام من الأحزاب العلمانية وغيرها عامة ما يأتي:

1.  المخالفات العقدية والبدع التي ذكرنا طرفاً منها.

2.  عدم الاشتغال بالعلم الشرعي والاستعاضة عن ذلك بالحكايات المكذوبة والكرامات المختلقة.

3.  الصوفية في العقيدة مرجئة، ولذلك فهم لا يشتغلون بـ:

   الجهاد في سبيل الله، بل بعضهم كان عوناً ولا يزال للغزاة والمستعمرين في الجزائر وغيرها، وعندما غزى التتار بلاد الشام قال أحد الطرقية مطمئناً الناس ومثبطاً لهم عن الجهاد:

يا خائفين من  التتار              لوذوا بقبـر أبي عمر

لوذوا بقبر أبي عمر              ينجيكـم من الخطـر

فقال له شيخ الإسلام ومفتي الأنام: لو كان أبوعمر حياً واقفاً معنا ما استطعنا أن نفعل شيئاً ونحن في هذه الحال من فساد العقيدة وعدم الأخذ بالأسباب؛ ثم سعى هو وتلاميذه لتجميع الناس وتدريبهم وحضهم على القتال، مما كان له الفضل بعد الله في رد الغزاة ودحرهم.

   عدم الاشتغال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

   التواكل والبطالة، ولهذا قال الإمام الشافعي: "أسس التصوف على الكسل".

4.    الخوف من الممارسات الشركية المحبطة للأعمال والمخلدة لصاحبها في النار.

5.    منافقة الصوفية للسلطان، كافراً كان أم مسلماً، وقد مردوا على ذلك وتفننوا فيه.

6.  عدم الاشتغال بالدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يرد على ذلك ما قام به بعض التجار من الصوفية ومن غيرهم.

7. عدم السعي لتحكيم شرع الله، بل من العوامل الرئيسة المساعدة في سقوط الخلافة العثمانية دخول بعض الخلفاء والأعيان في الطريقة النخشبندية وغيرها، وانشغالهم بها عن الجهاد.

لا يرد على ذلك بعض الشذوذ، فالحكم للغالب.

8. الصوفية عامل مخدر للشعوب الإسلامية، "فليس في الإمكان خير مما كان"، "والله يولي من يصلح" هذه شعاراتهم.

ولهذا عندما سئل الشيخ الإمام المالكي أبوبكر الفهري الطرطوشي عن جماعة من الصوفية يحضرون شيئاً من الطعام والشراب يأكلونه ويشربونه ثم يقومون إلى الرقص والتواجد حتى يقع أحدهم مغشياً عليه، وهي الحال العامة لجميع الطرقية، خاصة في الأعياد، وحوليات المشايخ، وليالي الاثنين والجمعة، هل الجلوس معهم جائز؟

فقال: افهم وفقك الله أن مذهب الصوفية ضلالة، وجهالة، وبطالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، قاموا يرقصون حواليه وتواجدون، فهو دين الكفار وعبَّاد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق.

وقد ذكروا له من قولهم:

يا شيخ كف عن الذنوب                  قبل التفـرق و الـزلل

واعمل لنفسك صالحـاً                  مـا دام ينفعك العمـل

أما الشبـاب فقد مضى                  ومشيب رأسك قد  نزل

9.  الصوفية عامل من عوامل الفرقة والتشتت للأمة.

10. الصوفية حائل منيع وكثيف عن الوصول إلى الدين الخالص الذي جاء به الحبيب المصطفى والنبي المجتبى.

11. الصوفية عامل من عوامل إماتة السنن وإحياء البدع، فكم من سنة أماتوها وأضاعوها، وكم من بدعة أحيوها ونشروها وجادلوا عنها؟ والبدع كلها ضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم: "كل بدعة ضلالة"، من غير استثناء، فمن استحسن بدعة فبسبب هواه، أما المصالح المرسلة فلا علاقة لها بالبدع البتة.

قد يقول قائل: لماذا لم تذكر محاسنهم، أليس لهم محاسن؟ هذا من باب لزوم ما لا يلزم، لأنه إذا كانت المحاسن إن وجدت مغمورة بسيل من المفاسد والمضار فما فائدة ذكرها، بل لا حسنة واحدة مع فساد العقائد، ومخالفة السنة، وانتشار البدع.

الخلاصة

أولاً: أن الصوفية من البدع الحادثة المخالفة للإسلام في عقائده، وشرائعه، وأذكاره، وأوراده.

ثانياً: الصوفية شرع جديد مغاير لما جاء به البشير النذير.

ثالثاً: لا علاقة البتة بين الزهد والتقلل من الدنيا والإكثار من ذكر الله وبين الصوفية، وكون بعض الصوفية رفعوا هذه الشعارات ومارسوا بعضها لا ينقلها ذلك من الإسلام إلى الصوفية.

رابعاً: إن الدين عند الله الإسلام، وهو سمانا المسلمين، فعلينا أن لا نختار لقباً غير ذلك.

خامساً: ما عند الصوفية من معتدلين وغلاة لا يقره الإسلام ولا يرضاه.

سادساً: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينسب رسول هذه الأمة أوأحد الصحابة أوالتابعين لهم بإحسان إلى الصوفية، وإلا فقد أعظم على الله الفرية، وليعلم أنه سيحاسب على ذلك حساباً عسيراً.

وأخيراً أسأل الله أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويعافينا من التعصب للآباء والأجداد، وأن يعيننا على قبول الحق والأخذ به، ولو جاءنا من منافق أوكافر، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه.

وأقول لمن أراد المناظرة في ذلك مع تمنينا أن يجري الله الحق على لسان مناظرينا- أننا مستعدون لذلك بهذه الشروط، وهي:

1.  الالتزام بالأدلة من القرآن، وصحيح السنة، وإجماع الأمة.

2.  أن يكون هناك حَكَم من علماء أهل السنة والجماعة.

3.  أن لا تكون بين العامة.

4.  أن تختم بمباهلة علنية إن لم يرجع المناظر.

فمن رضي بهذه الشروط فحيهلا على المناظرة، وإلا فلا، ونقول كما قال ربنا سبحانه وتعالى: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أوفي ضلال مبين".

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والسل

000000000000000000000

تهنئة وتعزية بالعيد

من حق المسلم على أخيه المسلم أن يهنئ الطائعين الفائزين، وأن يعزي ويواسي العاصين، والمخالفين، والراسبين، سواء كان ما ناله العبد أوأصابه من حظ الدنيا الفاني أومن نصيب الآخرة الباقي، بل التهنئة والتعزية بحظوظ الآخرة أولى وأوجب من التهنئة والتعزية فيما يتعلق بأمر دنيوي مهما عظم أوحقر.

روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: "يا ليت شعري! أين هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه كذلك أنه كان يقول في آخر رمضان: "من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟".

من عجيب أمر المسلمين اليوم كثرة التعازي والمعزين في مصائب الدنيا، وانعدام المعزين لمن أصيب في دينه، ولله در حاتم الأصم حين قال: فاتتني صلاة العصر في جماعة يوماً فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف نفس، لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا، وما قاله هو الواقع المشاهد.

المعزون هنا صنفان:

   عصاة معاندون.

   مغيرون ومبدلون، أومقلدون لهيئات بعض العبادات.

وكل هذا يندرج ويصب في تغيير الشرع الحكيم، ومخالف لسنة سيد المرسلين، وقد توعد الله مخالف أمر الرسول صراحة أوبتأويل غير مستساغ بقوله: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"، وقد فسَّر الإمام أحمد الفتنة هنا بالشرك.

ونحن نعلم علم اليقين أن أغلب الصنفين لم يتعمد مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ربما لم يتعمد ذلك الشقي عمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، لأنه أول من بدل شرع إبراهيم كما صح بذلك الخبر، وإنما فعل ذلك تقليداً لما رآه في بلاد الشام، ولكن هذا قدرهم شاءوا أم أبوا، علموا ذلك أم جهلوه، تعمدوا ذلك أم صادفوه، فعلى الجميع تجب التوبة من ذلك، والعزم على أن لا يعودوا إليه، فليس هناك ذنب أكبر ولا أخطر من تبديل شرع محمد صلى الله عليه وسلم، صغر هذا الذنب أم كبر، كما قال مالك رحمه الله، إذ الدين ليس فيه قشور ولا لباب، وتلا قول الله عز وجل: "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً".

هذه التوطئة والمقدمة لابد منها لما سنذكره من التعازي للمخالفات الشرعية، وبعد..

  نهنئ من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً فغفر له ما تقدم من ذنبه.

O  ونعزي من حُرم صيام هذا الشهر وقيامه، فأبعده الله من رحمته التي وسعت كل شيء.

  نهنئ من صام وأفطر لرؤية الهلال عملاً بسنة النبي المختار.

O  ونعزي من صام وأفطر بالحساب حيث لا يقبل صومه، ولم يشتغل برؤية هلال رمضان ولا شوال، مغيراً بذلك لسنة صحيحة، ومحيياً لبدعة قبيحة.

  نهنئ من صان صيامه عن اللغو والرفث، واستقام في صيامه عن التشاغل والعبث.

O  ونعزي من غرَّق صيامه بالغيبة والنميمة، ولم يرقعه بالتوبة والاستغفار.

  نهنئ الصائمين حقيقة عن المفطرات الحسية والمعنوية.

O  ونعزي الممسكين عن الأكل، والشرب، والجماع، والمنغمسين في الكبائر والمحرمات.

  نهنئ من أدرك شهر رمضان فغفر له.

O  ونعزي من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له.

  نهنئ المنفقين للأموال، والمستغفرين بالأسحار.

O  ونعزي الممسكين للأموال، الساهين اللاهين بالأسحار.

  نهنئ الذين أحيوا ليالي رمضان بالقيام، والتهجد، وتلاوة القرآن.

O  ونعزي من شغلوا لياليه بالولوج والخروج في الفضائيات، والنظر والاستماع إلى الأغاني المحرمات، ومتابعة المسلسلات الفاضحات، أوبالذهاب إلى الخيم الرمضانية والنوادي الليلية، أوباللعب بالورق في الدواوين والدكات.

   نهنئ من وقف لإحياء ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

O   ونعزي من غفل وسها عنها.

  نهنئ عمار المساجد أحب البقاع إلى الله.

O  ونعزي من قضى جُلَّ وقته في الأسواق أبغض البقاع إلى الله.

  نهنئ من وُفق لإخراج زكاة الفطر من الطعام عملاً بسنة من أنزل عليه القرآن، فكانت طهرة لصيامه، وجبراً لما انتقص منه، تقبل الله منه وزاده من فضله وامتنانه.

O ونعزي من عدل عن ذلك وأخرجها نقداً، ضارباً عُرْض الحائط بما رواه الثقات: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أوصاعاً من شعير"، الحديث، ومستنكفاً عما قرره الأئمة الأعلام مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم كثير من القدماء والمُحْدَثين أن إخراج النقد فيها لا يجزئ ولا تبرأ به الذمة، وترك صيامه معلقاً بين السماء والأرض، مؤثراً على ذلك ما اشتهته نفسه وهوته، من ترخص بعض أهل العلم لمن اضطر أن يخرجها نقداً، ومن تتبع رخص العلماء، وفتش عن زلاتهم، وفرح بسقطاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله كما قال السادة العلماء.

فالسعيد من تدارك ذلك وأعاد إخراجها طعاماً قبل خروج الإمام لصلاة العيد، أوبعد ذلك، وإن كانت له صدقة، خاصة وأن كثيراً ممن يجمعون زكاة الفطر نقداً وهي غير مجزية يعطونها للفقراء بعد خروج وقتها، انظر إلى شؤم البدعة ومخالفة السنة وما يجره على صاحبه؟

  نهنئ من عزم على أن لا يعود إلى ما تاب عنه بعد رمضان.

O  ونعزي من صام رمضان وهو يحدِّث نفسَه أنه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه ومولاه وعاد إلى ما كان عليه.

  نهنئ من تكون حاله بعد رمضان أحسن من حاله قبل الصيام، وهي علامة القبول.

O  نعزي ونقول جبر الله كسر من كانت حاله بعد الصيام أسوأ مما كانت عليه قبل ذلك، وذلك دليل الرد.

  نهنئ المعتوقين من النار.

O  ونعزي المحرومين.

وأخيراً نقول: هنيئاً للموفقين للخيرات، وجبر الله كسر المحرومين والمحرومات، والله أسأل أن يبلغنا رمضانات عديدة، ويحيينا أزمنة مديدة في طاعته، ليزداد المحسن منا إحساناً، وليتمكن المحروم المسيء من التوبة والإنابة.

اللهم ضاعف حسناتنا وتجاوز عن سيئاتنا وزلاتنا، يا من لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي والزلات، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.

وصلى الله على الرسول الكريم الذي أوجب الله طاعته من غير قيد ولا شرط: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، ولم يبح لأحد طاعة أحد سواه كائناً من كان.

ولهذا غضب الإمام أحمد أشد الغضب ممن قال له: أجاز عمر بن عبد العزيز إخراج زكاة الفطر نقداً، وقال: أقول لك روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أوصاعاً من شعير.." الحديث، وتقول: أجاز عمر بن عبد العزيز؟!!

وعمر بن عبد العزيز مكانته عند أحمد معلومة، فهو خامس الخلفاء الراشدين، ومجدد القرن الأول، ومحيي السنن التي أميتت، فكيف بمن سواه؟!

000000000000000000000

بدع رمضانية ومحدثات محلية وعالمية

ما يتعلق بثبوت الأهلة

ما يتعلق بالسحور

الأذان الأول

الفطر

صلاة القيام

القنوت ودعاء ختم القرآن

الاعتكاف في العشر الأواخر

زكاة الفطر

وظيفة الشيطان وأوليائه الأساسية حرف الناس عن الصراط المستقيم، والسنن القويم: "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين"، وذلك بإماتة السنن وإحياء البدع، إذ لا تحيى بدعة إلا إثر إماتة سنة.

وقد حذر رسول الإسلام من الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً تحذيراً شديداً، وخوف من ذلك تخويفاً عظيماً، فقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي عمله هذا مردود عليه لا يقبله الله بل يُعاقب عليه.

وحَمَّل المبتدع الأول وزر المقلدين إلى يوم القيامة: "ما من نفس تُقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل"، وقال: "من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزراهم شيئاً"، وكل هذا في الصحيح.

والبدع كلها سيئة وضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"، ولا يرد على ذلك تحكم البعض بتقسيمهم البدع إلى حسنة وقبيحة لأنه يقوم على التحسين والتقبيح العقليين وعلى الهوى.

ولو يعلم الناس خطورة الابتداع والإحداث في الدين لفروا منه فرارهم من الأسد.

ومما يؤسف له أن يصبح مصدر كثير من الأعمال التقليد للآباء والأسلاف: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".

ونسي هؤلاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقبضه ربه إلا بعد أن أكمل الله على يديه الدين، وأتم عليه النعمة، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولهذا قال مالك الإمام: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، و"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فمن لم يسعه ما وسع الصحابة والتابعين والسلف الصالحين فلا وسَّع الله عليه.

ومما يحز في النفس ويدعو إلى الأسى جرأة البعض على منكري البدع، وشن حملة شعواء عليهم، وانتقاصهم، ورميهم بالغلو والتشدد، وهم أولى بالذم وبالعقوبة، وبالتعزير والتأديب.

ما من عبادة من العبادات إلا وأصبحت منغصة ومكدرة بعدد من البدع المنكرات، والحوادث، والمخالفات.

وبعد..

فهذه بعض البدع التي اخترعها عدو الله إبليس على أوليائه، ونشرها بين العامة، وأفرحهم بها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

من تلكم البدع الرمضانية ما يأتي:

ã

ما يتعلق بثبوت الأهلة

1. الصيام والفطر بالحساب، الذي هو شعار الرافضة وأهل الأهواء، على الرغم من تحذير أهل العلم قديماً وحديثاً من ذلك، حيث قرروا أن من صام وأفطر بالحساب لم تبرأ ذمته، ولو كان الحاسب نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".

2.  عدم تحري رؤية الهلال، وكان السلف يتحرون ذلك.

ã

ما يتعلق بالسحور منها

1. ترك البعض للسحور بالكلية، على الرغم من الأمر به: "تسحروا فإن في السحور بركة"، وفي ذلك إماتة لهذه السنة.

2. تقديم البعض له والسنة تأخيره: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور".

3. إمساك البعض عملاً ببعض التقاويم والإمساكيات عن الأكل والشرب قبل حين من طلوع الفجر، وقد أباح الله الأكل والشرب إلى طلوع الفجر: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".

4.  التنبيه والتسحير وهو أقبح الجميع، سواء كان بالقول، نحو: "تسحروا فإن في السحور بركة"، أوببعض الأذكار، أوبضرب الطبول وجوبان الشوارع بذلك، ويتضمن ذلك عدة مخالفات شرعية بجانب بدعيته، منها:

   تقديم السحور.

   ومنها إزعاج النائمين.

   وقد يكون ذلك سبباً لتفويت السحور بل صلاة الصبح على البعض.

وكلها مخالفات شرعية.

قال ابن الحاج المالكي رحمه الله: (اعلم أن التسحير لا أصل له في الشرع الشريف، ولأجل ذلك اختلفت فيه عوائد أهل الإقليم، فلو كان من الشرع ما اختلفت فيه عوائدهم.

وقال: وينهى المؤذنين عما أحدثوه في شهر رمضان من التسحير لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، ولم يكن من فعل من مضى، والخير كله في الاتباع لهم كما تقدم، سيما وهم يقومون إلى التسحير بعد نصف الليل.

إلى أن قال:

وكذلك ينبغي أن ينهاهم الإمام عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي عند طلوع الفجر.

وقال:

ومنهم من يُسَحِّر بالآيات والأذكار، ومنهم من يسحر بالطبلة والشبابة والغناء، ومنهم من يسحر بالبوق والنفير، وكلها بدع، وبعضها أشنع من بعض، ورد على من يقول أنها بدعة مستحسنة).

وقال الحطاب في مواهب الجليل: (وفي النوادر قال علي بن زياد عن مالك: وتنحنح المؤذن في السحر محدث، وكرهه).

ã

الأذان الأول

تقديه والزيادة عن ألفاظ الأذان المشروعة كما يفعل بعض المؤذنين، والسنة ألا يزيد الوقت بين الأذان الأول والثاني عن خمس أوعشر دقائق، فقد صح أن الفرق بين أذان بلال الأول وأذان ابن أم مكتوم الثاني أن يطلع هذا المنارة وينزل هذا، ولا يزيد حرفاً عن الألفاظ المأثورة.

ã

الفطر

1. تأخير الفطر بعد غروب الشمس، بل بعد أذان المغرب كما يفعل البعض، وفي ذلك مخالفة صريحة لهديه صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "إذا أدبر النهار من هاهنا وأقبل الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم"، أكل وشرب أم لم يأكل ولم يشرب.

2. المبالغة في إعداده والإسراف فيه.

ã

صلاة القيام

البدع المتعلقة بصلاة القيام منها:

1.  التخفيف المخل بحيث لا تستغرق ربع ساعة أوثلث ساعة مع العشاء، ويتخلل ذلك دعاء وأذكار، بل يكتفي البعض بقراءة آيتين في الركعة الأولى وآية في الركعة الثانية، بل يكتفي البعض بقوله: "مدهامتان"، ويكتفي جُلُّ الأئمة بقراءة الإخلاص في الركعة الثانية.

2. ما يتخلل صلاة التراويح من قراءة بعض السور، كالإخلاص ثلاث مرات، وبعض الآيات، والصلاة على الرسول، والاستغفار بصورة جماعية، وكل هذا ليس له أصل في الدين، ولا يُقرب من رب العالمين، ولا يُرضي رسوله الكريم، وفي بعض المساجد قد تستغرق هذه المحدثات أكثر من وقت الصلاة نفسها.

3. التفتيش والهجرة إلى بعض المساجد وترك المساجد المجاورة، وفي ذلك مخالفة للسنة.

4. تحريك ونقل بعض الأئمة من مسجد إلى مسجد، بحيث يصلي ركعتين في مسجد، وركعتين في مسجد آخر، وربما ركعتين في ثالث، وفي ذلك مخالفة للسنة، ومدعاة للرياء والسمعة للأئمة والمأمومين إلا من رحم ربك.

5. رفع الصوت في المساجد بعد الفراغ من الصلاة والصخب بالسلام وغيره.

ã

القنوت ودعاء ختم القرآن

1. الإطالة فيهما، وقد تصل مدتهما في بعض المساجد إلى قريب الساعة كما هو الحال في الحرمين الشريفين.

2. تكلف السجع والإكثار منه.

3. الاعتداء في الدعاء فيهما.

4. المداومة عليه في كل رمضان، والأفضل أن يترك في بعض الأحيان.

وكل هذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح ونهى عنه الأئمة الأعلام، وإن استلطفه العوام.

ã

الاعتكاف في العشر الأواخر

1. ترك غالبية المسلمين له ولم يتركه نبيهم منذ هاجر إلى المدينة إلى أن توفاه الله، فهو سنة مؤكدة.

2. تكدس بعض المعتكفين في عدد قليل من المساجد، مع منافاة ذلك لغرض الاعتكاف وهو الخلوة الشرعية.

3. دعوى البعض أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة.

4. عدم تقيد البعض بآداب وأحكام الاعتكاف.

ã

زكاة الفطر

من البدع المنكرة التي أحدثها البعض واستمرأها الجل في السنوات الأخيرة هذه إخراج زكاة الفطر نقداً، والأصل أن تخرج من غالب قوت أهل البلد، وهذا مذهب الأئمة الأربعة إلا أبا حنيفة، فقد أجاز إخراجها نقداً، ولا حجة لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أحمد لمن قال له: أجاز عمر بن عبد العزيز إخراجها نقداً: (أقول لك رَوَى ابنُ عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أوصاعاً من شعير"، وتقول أجاز عمر بن عبد العزيز إخراجها نقداً؟!!!).

فمن أخرجها نقداً لم تبرأ ذمته منها، حتى قال ابن القيم: (من كان طعامهم سمكاً أولبناً أخرجوها من السمك واللبن).

والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن والآثام، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يعصمهم من الابتداع في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على رسول الإسلام، ونبي الملحمة، وخاتم الرسل الكرام، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم، ما ناح قمري وغرد حمام.

0000000000000000000

أخي الكريم كن ربانياً ولا تكن رمضانياً

يا حسرة على من يعرف ربه في رمضان، ويجهله في غيره من الأزمان

من علامات قبول العبادة أن تكون حال العبد بعدها أحسن من حله قبلها، وهذه هي ثمرة العبادة ولبها، إذ الهدف والغرض من جميع العبادات أن تزيد المرء قرباً وتقوى لله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وأن تزكي نفسه وتطهرها من الآثام والرذائل، وأن تعودها على الكرائم والفضائل.

ولهذا ينبغي أن يكون حرص العبد على قبول عبادته، وخوفه من ردها، أشد من حرصه على العمل، لقوله تعالى: "إنما يتقبل الله من المتقين".

فالعبد الذي لا يعرف ربه ولا يعبده إلا في رمضان عبد سوء، إذ العبادة ليست قاصرة على رمضان، ولا على زمان دون زمان، والاستقامة مطلوبة في سائر الأيام: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون"، وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؛ قال: "قل: آمنتُ بالله ثم استقم"، وقد قيل: "ثواب الحسنة حسنة بعدها".

فمن استغفر بلسانه في رمضان وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود.

قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر أن لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر عصى ربه، فصيامه عليه مردود".

قيل لبشر الحافي رحمه الله: إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان؛ فقال: بئس القوم، لا يعرفون الله حقاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السَّنة كلها.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم عمله ديمة، وسئلت عائشة رضي الله عنها: ﻫل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص يوماً من الأيام؟ فقالت: "لا، كان عمله ديمة".

وسئل الشبلي: أيما أفضل رجب أوشعبان؟ فقال: كن ربانياً، ولا تكن شعبانياً ولا رجبياً.

ما الذي يجعل المسلم يحافظ على الصلوات المكتوبة في المسجد في رمضان ويدع ذلك في غير رمضان؟ لماذا نجد المساجد مكتظة بالمصلين في رمضان وفارغة منهم في غيره؟ أليست صلاة الجماعة حكمها الوجوب في أرجح قولي العلماء؟ لماذا يكثر الناس من تلاوة القرآن في رمضان، ويدع البعض تلاوته بالكلية في غير رمضان؟ أليس من السُّنة أن يكون للمسلم ورد يومي قل أوكثر؟

لا شك أن رمضان خصَّ بزيادة في العبادة، وفضِّل على غيره من الشهور، وميِّز بمميزات لا توجد في غيره، ولكن لا يعني هذا أن نقصر في غيره في أداء الواجبات، والانتهاء عن المحرمات، والإكثار من نوافل العبادات.

فالمسلم مأمور بحفظ جوارحه وحماية نفسه من الوقوع في الحرام في سائر الأيام.

عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، قال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".

قال ابن رجب: (هذه الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مقادير للآجال، ومواقيت للأعمال، ثم تنقضي سريعاً، وتمضي جميعاً، والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم، ليسبغ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم.

إلى أن قال:

من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى، وعلامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحها! وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلها، وما أقبح السيئة بعد السيئة تمحقها وتعفوها، ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعيــن ذنبــاً قبلهــا).

اللهم وفقنا للطاعات حتى الممات، وجنبنا الهفوات والزلات، وحبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، يا رحمن يا رحيم، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام.

0000000000000000000000

أيها الموسرون الأخيار ساهموا في نشر ميراث  سيد الأبرار

أحب الأعمال إلى الله عز وجل ما كان أجره متعدٍ، وثوابه جارٍ في الحياة وبعد الممات: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة.."، وذكر منها: "علم ينتفع به"، وصدق من قال:

ينالك فضله ما دمتَ حياً           ويبقى ذكره لك إن ذهبتا

وليس هناك شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم وتعلمه ونشره بين الناس، فالعلم قائد والعمل تبع له، ولعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد كما قال ابن عباس، ولئن يهدي الله بك -أوعن طريقك- رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم كما أخبر الحبيب المصطفى والرسول المجتبى.

مشكلة الإسلام الرئيسة تكمن في جهل أبنائه أولاً وفي كيد أعدائه ثانياً، لو يعلم المسلمون حقيقة الإسلام لجالدوا عليه بالسيوف، ولهانت عليهم في الذود عنه النفوس.

ولو يعلم الموسرون الأخيار ما في نشر العلم وبثه من الأجر والثواب لأنفقوا كل أموالهم في ذلك، ومن فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون: "أن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه، والرامي به، والمُمِدَّ به"، كما صح بذلك الخبر.

فإذا حُرِمت من الاشتغال بطلب العلم وتعلمه فلا تحرم نفسك ولا تغبنها السعي في نشره وبثه، قال علي رضي الله عنه: "العلم خير من المال، المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو مع الإنفاق، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في الكتاب موجودة".

من المصائب العظام والكوارث الطوام موت العلماء، وفناء الحكماء، وبقاء الرؤوس الضلال، والأئمة الأشرار، الذين يفتون الناس بغير علم فيَضلوا ويُضِلوا، وليس من عاصم من ذلك بعد الله إلا نشر العلم والتسلح بالفقه: "فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".

هلم أخي الموسر إلى باب من أبواب الخير، وإلى سبب من أسباب دخول الجنة إذا صلحت النية، إلى صدقة جارية، وعمل ينفعك الله به، إلى نشر وبث ميراث نبيك وحبيبك الذي لم يورِّث درهماً ولا ديناراً، ولا أرضاً ولا عقاراً، وإنما ورَّث هذا العلم، فمن أخذ به أوأعان على ذلك فقد أخذ بحظ وافر من ميراث النبوة، ففي ذلك فليتنافس المتنافسون، واعلم أخي أن الله اقترضك وهو غني عنك: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له"، ليضاعف لك الثواب والأجر، وليكرم نزلك.

وبعد..

بين يديك مجموعة من الكتب والرسائل نحسب أن حاجة الناس إليها ماسة، سيما طلاب العلم، والمكتبات من جلها شاغرة، روعي في تأليفها السهولة واليسر، ومناسبتها لحاجة المسلم في السودان خاصة، على مذهب أهل السنة والجماعة، وهي من تأليف شخصي الضعيف، فاختر منها لنفسك ما تشاء، ولا تنس أن يكون لوالديك كذلك ولغيرهم نصيب، واختر جهة طباعتها، ولا ترض لنفسك بالقليل، وادخر ذلك ليوم الرحيل والسفر الطويل، وتذكر ليلة فجرها يوم القيامة.

والكتب هي:

عدد الصفحات

تقريباً     اسم الكتاب

200 موسوعة فقه الجنائز وتشمل عدداً من الرسائل والأوراق الصغيرة 1

200 من فقه الأسرة وتشمل عدداً من الرسائل والأوراق الصغيرة كذلك    2

360 الطريق إلى ولاية الله إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه     3

270 العلم: فضله، طلبه، آداب العالم والمتعلم إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه    4

220 الجن، والشياطين، والسحر، والعين، والرقي إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه    5

200 فقه الحج، والعمرة، والزيارة إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه 6

150 سنن الفطرة إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه   7

150 الأسئلة والأجوبة العقدية 8

230 الأسئلة والأجوبة الفقهية: الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج   9

90    تضمين الطبيب  10

120 دليل الأئمة والمؤذنين   11

70    إتحاف الساجد برعاية حقوق المساجد     12

120 تنبيه الغافل إلى حقوق الرحم، والجار، والوالد ثلاث رسائل صغيرة 13

100 اليسير في علم الفرائض    14

90    الوقف وأثره في التنمية في الماضي والحاضر    15

80    من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم    16

80    هذا الشفيع صلى الله عليه وسلم     17

100 من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب       18

100 مواقف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم    19

120 فتاوى الصيام، وأحكام الاعتكاف، والقيام   20

وغيرها كثير.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ونفساً زاكية، ولساناً ذاكراً، ودعوة مستجابة، ونعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا يستجاب لها.

اللهم أعط منفقاً خلفاً.

اللهم إنا نسألك صلاح النية والذرية، وعيشة هنية، وميتة سوية، وخاتمة مرضية.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته الطاهرين الطيبين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعنا معهم أجمعين.

00000000000000000

أيها المسلمون أشركوا المجاهدين في دعائكم، ولا تنسوا أمواتكم

لقد خذل المسلمون، إلا من رحم ربك، إخوانهم المجاهدين والمضطهدين في كل مكان، وأسلموهم إلى عدوهم، ولم يراعوا فيهم وصايا الله ورسوله، ولا حقوق الأخوة الإيمانية، فهل سلكوا معهم أضعف الإيمان إذ ليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان، وهو الدعاء لهم بظهر الغيب، سيما في هذا الشهر الكريم، فالدعاء سلاح المستضعفين، وعدة المضطهدين، وقد وعد الله بإجابته من عباده المخلصين، فليس هناك شيء أكرم على الله من الدعاء.

المجاهدون والمقاومون للكفار والغزاة في أمس الحاجة لدعاء إخوانهم المسلمين، والدعاء لهم ذو شقين:

1.  دعاء لهم أن يثبت الله أقدامهم ويسدد سهامهم وآراءهم.

2.  ودعاء على أعدائهم أن يجعل كيدهم في نحورهم، وتدميرهم في تدبيرهم.

كان المجاهدون الأول يستحبون أن يشرعوا في القتال عند الزوال يوم الجمعة ليقينهم أن إخوانهم المصلين يشركونهم في دعائهم.

قال ابن الأثير وهو يؤرخ لمعركة "مَلاذكُرْد" وهي معركة مشهورة جرت بين المسلمين بقيادة "ألب أرسلان" وبين الروم بقيادة "أرمانوس" سنة 463ﻫ: (فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا "بالري"؛ فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبونصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

فلما كان تلك الساعة صلى بهم وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما ها هنا سلطان يأمر وينهى؛ وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.

وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفَّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون كيف شاءوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم).

ومما يدل على أن النصر يستنزل بالدعاء ما قاله أسد بن عبد الله القسري أمير خرسان في قتاله للفرس: (إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا، ثم رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكون في الفتح).

كيف لا وقد كان رسولنا المؤيد بالوحي يستنزل النصر بالدعاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضُدي، وأنت نصري، وبك أقاتل".

فالدعاء في قتال الكفار مطلوب من المجاهدين المقاتلين ومن جميع إخوانهم المسلمين، خاصة إثر خطبة الجمعة، وفي القنوت في الصبح والوتر وفي سائر الصلوات إذا دعا الحال.

وينبغي أن يكون دعاء المسلمين لإخوانهم المجاهدين والمقاومين والمرابطين مصاحباً لمواجهتهم لعدوهم، وطالما أن المقاومة والجهاد في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، وغيرها من البلاد المغصوبة مستمر، فعليهم أن لا يقطعوا عنهم الدعاء أبداً.

لا ينبغي للمسلمين أن يستهينوا بأمر الدعاء، ويستخفوا به، فالدعاء مقرون بالإجابة وبالنصر على الأعداء:

أتهـزأ بالدعـاء وتزدريه                وما تدري بما صنع الدعاءُ

جنود الليل لا تخطي ولكن                لها أجل وللأجل انقضـاءُ

واحذر موانع الإجابة، التي من أخطرها "دعونا فلم يُستجَب لنا"، فعلينا أن ندعو الله ونحن موقنون بالإجابة، مصدِّقون بوعد الله "ادعوني أستجب لكم".

كذلك علينا أن لا ننسى أمواتنا، فمن أبر البر بهم أن نشركهم في دعائنا، وهذا من حقهم علينا، واعلم أخي المسلم أنك كما تدين تدان، فعما قريب ستكون في عداد الموتى، وتحتاج إلى دعاء غيرك، لقد مدح الله التابعين بإحسان للسابقين من المهاجرين والأنصار: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم".

اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد.

اللهم نور على أهل القبور قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، يا سميع الدعاء، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله وصحابته الهداة

0000000000000000

رسالة إلى تارك الصلاة

بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم أود أن ابعث بهذه الرسالة إلى تاركي الصلاة المقرين بوجوبها ممن يدعون الإسلام عسى أن تصادف منهم أذناً صاغية، وقلوباً واعية، ومعذرة إلى ربنا، ولعلهم يتقون سيما وأن بعض الناس يصومون ولا يصلون، ومنهم من يصلي في رمضان فإذا انقضى رمضان تركها.

فأقول بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله إن من ترك صلاة مكتوبة واحدة حتى يخرج وقتها وهو قادر على أدائها كفر كفراً مُخرجاً عن الملة الإسلامية في أرجح قولي العلماء، وأجمعت الأمة على قتله إلاَّ قليلاً منهم إذا جيء به إلى الحاكم أو من ينوب عنه وذُكِّرَ بخطورة ترك الصلاة فأبى عن أداء صلاة واحدة حتى خرج وقتها.

ممن روي عنه كفر تارك الصلاة كسلاً من الصحابة: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، وقال عمر: "لا حظَّ في الإسلام لمن ضيع الصلاة"، وقال عبد الله بن شقيق وهو من كبارالتابعين: "لم يجمع الصحابة على أن ترك شيء من الأعمال كفر سوى الصلاة".

وممن قال يكفر تارك الصلاة كسلاًمن التابعين ومن بعدهم إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، واستدل هؤلاء من القرآن بالآتي:" أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غِيَّاً"، "وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين"، "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة".

قيل لإبن مسعود رضي الله عنه إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن" الذين هم على صلاتهم دائمون"، " والذين هم على صلاتهم يحافظون"، " فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"، فقال عبد الله: على مواقيتها. فقال له قائل: ما كنا نرى إلاَّ أن نترك. فقال عبد الله: تركها كفر.

ومن الأحاديث الصحيحة الصريحة بالآتي:

1. "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" وفي رواية" وبين الشرك ترك الصلاة".

2. "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".

3. "نهيت عن قتل المصلين".

4. "من ترك صلاة العصر متعمداً فقد حبط عمله".

5. "ما منعك أن تصلي مع الناس الست برجل مسلم".

قال ابن عبد البر معلقاً وشارحاً للحديث السابق: (وفي هذا والله اعلم أن من لا يصلي ليس بمسلم وإن كان موحداً).

ولهذا فإن حكم تارك الصلاة في الدنيا:

1. لا يزوج بمسلمة وإن كان متزوجاً بمسلمة فرِّق بينهما.

2. لايسلم عليه، ولايزار، ولايعاد، ولايؤاكل، ولايسكن معه، ولاتجاب دعوته زجراً له ولأمثاله.

3. ليس له ولاية على بناته وحريمه.

4. إن كان يصلي ثم تركها حبطت أعماله السابقة كلها من صلاة، وزكاة، وحج، فإذا عاود الصلاة عليه حجة الإسلام، وإخراج الزكاة.

5. مهدر الدم، والمال، والعرض.

6. لا يغسل إذا مات، ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أهله في أرجح قولي أهل العلم.

أما في الآخرة: فمصيره إلى سواء الجحيم: "قالوا لم نَكُ من المصلين"، هل يعلم تارك الصلاة أن أسوته  من الخلق إبليس وخلفائه من كل خبيث: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس".

قال إسحاق بن راهويه: (فمن لم يجعل تارك الصلاة كافراً، فقد ناقض، وخالف أصل قوله وقول غيره، قال: ولقد كفر إبليس إذ لم يسجد السجدة التي أُمِرَ بسجودها، قال: وكذلك تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها كافر إذا أبى قضاءها).

وهل يعلم أن الله غني عن صلاته وصلاة غيره: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه".

وهل يعلم تارك الصلاة أن نزلاءه ورفقاءه في سقر هامان، وقارون، وفرعون، وأبَيُّ بن خلف، وغيرهم من أئمة الكفر والضلال؟

قال أحمد بن حنبل: لا يكفر أحد بذنب إلاَّ تارك الصلاة عمداً.

وقال إسحاق بن راهويه: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر إذا أبى من قضائها، وقال: لا أصليها. قال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس، والمغرب إلى طلوع الفجر.

ألا يعلم تارك الصلاة أن الموت آت وكل آت قريب وأنه قد يموت الآن؟ أما آن لتارك الصلاة أن يُحاسِب نفسه قبل أن يُحاسَب، وأن يتوب إلى الله قبل أن يحال بينه وبين ذلك؟

ألا يعلم تارك الصلاة أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها؟

ماذا ينتظر تارك الصلاة إلاَّ فقراً منسياً، أوغنى مطغياً، أومرضاً مفسداً، أوهرماً مفنداً مضعفاً -  أوموتاً مجهزاً، أوالدجال فشر غائب ينتظر، أوالساعة "فالساعة أدهى وأمر"؟

ألا يحذر تارك الصلاة من اجتماع سكرة الموت، وحسرة الفوت؟

اللهم هل بلغت اللهم فأشهد.

اللهم اهد شبابنا، وأصلح نساءنا، ورد ضالَّنا، واختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وصلِّ اللهم وسلم على محمد القائل:" كل أمتي معافى إلاَّ المجاهرين"، وعلى آله وصحابته الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

00000000000000000

أشر ما دخل جوف ابن آدم الربا

الربا من أحرم الحرام، ومن الكبائر العظام، ومن الجرائم الجسام، ولهذا أعلن الله ورسوله حربهما يوم القيامة على المرابين التعساء الأشقياء عبدة الدراهم والدنانير الجراء، قال عز من قائل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".

ولخطورة الربا فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، واللعن الطرد من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا أحل الله لهذه الأمة البيع وحرم عليها الربا، وبيَّن رسولها البيوع الصحيحة من الفاسدة، وأوجب على من يعمل بالتجارة أن يتعلم أحكام البيوع، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يمنع من لا يعرف أحكام البيوع من دخول السوق.

لقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتشار الربا وتوسع الناس فيه في آخر الزمان، فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكل الربا أصابه غباره".

فمن استحل الربا بجميع أصنافه فقد كفر، ومن أقر بحرمته وتعاطاه قوتل وزجر.

قال ابن خويزمنداد: (ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم).

قال القرطبي رحمه الله: (ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله إني رأيتُ رجلاً سكراناً يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر؛ فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك؛ فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك؛ فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشرَّ من الربا لأن الله أذن فيه بالحرب).

اعلم أخي الكريم أن أول ما ينتن من العبد بعد موته بطنه كما أخبر الصادق المصدوق، فاحذر أن يدخله إلا الحلال الطيب، واجتنب المحرمات والخبائث والشبه، وتذكر أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، واحذر كذلك أن يكون الحلال هو ما حل في يدك، والحرام ما لم تتمكن من الحصول عليه.

واحرص أن ترضى بما قسمه الله لك، وأن تقنع بما قدره الله لك، فتنال سعادة الدنيا والآخرة، وانظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فتزدري نعم الله، فالقناعة كنز لا يفنى، وغنى لا يبلى، وتأسَّ برسولك وأصحابه والتابعين، ولا تلتفت إلى ما يلهث خلفه طلاب الدنيا، التي لو كانت تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر جرعة ماء.

اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وتخشاك حق خشيتك، وصلى الله وسلم على رسوله وحبيبه وخيرة أصفيائه.

000000000000000000

رسالة إلى محروم

المحروم حقاً من حرم نفسه من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ومن مغفرة الغفار التواب، ومن العتق من النار، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، وهو من عصى الله ورسوله واتبع هواه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى؛ قيل: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

من هؤلاء الأشقياء المحرومون من حرم نفسه من الصيام والقيام وهو قادر غير عاجز، وعصى أوامر الكريم المنان: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وقول رسوله عظيم القدر والشان: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".

ألا يعلم هذا المحروم أن الصوم ركن من أركان الإسلام وأن من ترك ركناً من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة ولو لم ينكر وجوبه، قد روي ذلك عن طائفة من أهل العلم منهم سعيـد بن جبير، ونافع، والحكم، ورواية عن الإمام أحمد، وبه قال ابن حبيب من علماء المالكية؟

ألا يدري هذا المحروم أنه مكلف بجيع التكاليف الشرعية طالما أنه مسلم، بالغ، عاقل، صحيح، مقيم؟ إن كان لا يدري فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم والفديحة أكبر.

ألا يعلم هذا المسكين أن: "من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لم يجزه صيام الدهر وإن صامه"، وقد روي ذلك عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي الدرداء رضي الله عنهم؟

ألا يستحي هؤلاء من الله، ولا من الناس، ولا من المرضى والكبار، ولا من الصبيان الذين يصومون مع أنهم معذورون؟

أين أولياء هؤلاء المحرومين الذين أمرهم ربهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً، وأين مراقبة ولاة الأمر وحمايتهم لعظمة هذا الدين أن تنتهك جهاراً؟ أيشكوا أنهم موقوفون أمام ربهم ومسؤولون عن ذلك؟

أي حسرة وأي ندامة تنتظران هذا المحروم، عند الإفطار ويوم العيد، ويوم يدخل الصائمون من باب الريان ويوفون أجرهم بغير حساب.

ألا يعلم هذا المحروم أن جزاءه في الدنيا في الشرع التأديب والتعزير بالضرب، والحبس، والهجر، والفصل عن العمل، وفي الآخرة العذاب المهين؟

فعلى ولاة الأمر والمسؤولين أن يحبسوا المفطرين القادرين، وأن يوجعوهم ضرباً، وأن يفصلوهم عن الوظائف ومن المدارس والجامعات.

وعلى ولاة الأمر في البيوت أن يطردوهم ويعزلوهم ولا يؤاكلوهم ويشاربوهم.

وعلى زملائهم ورفقائهم وأصدقائهم أن يعتزلوهم ويهجروهم بعد أن يناصحوهم، وليتذكروا قول الله عز وجل: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، وليعلموا أن التعاون مع هؤلاء وغيرهم من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهانا ربنا عن ذلك.

واللهَ أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعافي مبتلينا، ويصلح فاسدنا وعاصينا، ويهدي شبابنا وبناتنا، ويرحم ويغفر لآبائنا وأمهاتنا، ويرحمنا ويغفر لنا، ويعتق رقابنا من النار، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

000000000000000000

إمام ظلوم غشوم ، خير من فتنة تدوم

الشروط  التي يجب توفرها في الإمام

واجبات الإمام نحو الرعية

حقوق الراعي على الرعية

ما ورد في فضل الإمام العادل

ماتوعد به الإمام الجائر

الخروج المسلح وخطره على الإسلام ، قديماً وحديثاً

أولاً : تسلط بعض أهل الأهواء على الحكم أو إزاغتهم لبعض الحكام

ثانياً: إعانة بعض المنتسبين للإسلام للكفار، وتجسّسهم لصالحهم، وقتالهم المسلمين معهم

ثالثاً : الخروج المسلح على الحكام

حكم خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم

الخارجون صنفان

الخسائر والأضرار التي لحقت بالدين وبالمسلمين من جراء ذلك قديماً وحديثاً

أولاً : راح ضحية خلع بيعة الأئمة والخروج عليهم بالسلاح خيار هذه الأمة

ثانياً : حروب الردة

ثالثاً : في الجمل

رابعاً : في صفين

خامساً : قيام السيد الحسين رضي الله عنه، وخذلان الرافضية له، واستشهاده

سادساً : موقعة الحرة

سابعاً : حصار الحجاج لابن الزبير بمكة وقتله

ثامناً : فتنة ابن الأشعث

 

الحمد لله الذي استخلف في الأرض الأنبياء والمرسلين: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، وهو آدم عليه السلام، وقال: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"، وقال: "وورث سليمانُ داودَ"، وقال: "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين".

ولهذا أمر بتولية الصالحين الأخيار ونهى وحذر من تولية المجرمين الأشرار ، فقال مبيناً الصفات التي ينبغي توفرها فيمن يتولى أمر المسلمين: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"، وقال: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون فساداً في الأرض ولا علواً والعاقبة للمتقين".

وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الصادق الأمين الذي أكمل الله على يديه الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، القائل: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، فسيكون بعدي خلفاء فيكثرون. قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: فأوفوا بيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".

ثم أما بعد ..

فاعلم أخي الكريم أن الإمامة الكبرى شأنها عظيم في الدين، ودورها خطير في الأمة، ومسئوليتها جسيمة في الآخرة، لذلك عندما تمناها إبراهيم لذريته قال له ربه: "لا ينال عهدي الظالمين"، وقال الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، عندما قال له أبو ذر: "ألا تستعملني؟ فضربه بيده على منكبه، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"8، وقال له كذلك: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ناصحاً لإخوانه المسلمين: "إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة"، ولهذا صرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه العباس عندما طلب أن يوليه على اليمن، وقال له: "يا عم سل الله العفو والمعافاة"، أوكما قال.

أما من آنس في نفسه الكفاءة، وتوفرت فيه شروطها، وضمن أن يعطاها من غير منافسة ونزاع، فلا حرج عليه في طلبها، كما قال يوسف عليه السلام: "رب اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".

ولهذا أجمعت الأمة على وجوب نصب إمام للمسلمين، سواء كانوا دولة أو تفرقوا إلى دويلات كحالهم اليوم، ولم يشذ عن ذلك إلا من لا يعتد بخلافه، ولا يؤبه بموافقته، براً كان هذا الإمام أم فاجراً.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة": (هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليقة، ولا خلاف في وجوب ذلك على الأمة، ولا بين الأئمة.

إلى أن قال: وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق.. ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها، وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين).

ولله در عبد الله بن المبارك، ذلكم العالم المجاهد، حيث قال:

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا         منه بعروته الوثقى لمن دانا

لولا الخلافة لم تأمن لنا سبـل          وكان أضعفنا نهباً لأقوانـا

قال الذهبي رحمه الله في ترجمته: (فيقال إن الرشيد أعجبه هذا، فلما بلغه موت ابن المبارك بهت، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فضل ائذن للناس يعزونا في ابن المبارك. وقال: أما هو القائل:

الله يدفع بالسلطان معضلة

فمن ذا الذي يسمع هذا من ابن المبارك، ولا يعرف حقنا).

قلت: قال ابن المبارك ذلك تديناً واعتقاداً ، وليس تزلفاً ولا تقرباً للرشيد ولا لغيره، وما قاله هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، سلفاً وخلفاً، فابن المبارك ليس من المتزلفين، بل هو من العلماء الربانيين، والزهاد العابدين، والغزاة المرابطين، والأغنياء المحسنين، والإخوان الناصحين، والشجعان النادرين، كيف وهو من الذامين للحكام الجائرين الظالمين، ولعلماء السوء البطالين، وللرهبان الجهلة المفسدين، حيث قال :

رأيت الذنوب تميت القلـوبَ        ويورث الذل  إدمانُهــا

وترك الذنوب حياة  القلـوب        و خير لنفسك عصيانهـا

وهل أفسد الدين  إلا  الملوك        وأحبار سوء و رهبانهـا

قال كعب الأحبار: مثل الإسلام، والسلطان، والناس، مثل الفسطاط، والعمود، والأوتاد؛ فالفسطاط الإسلام، والعمود السلطان، والأوتاد الناس.

وقد صاغ هذا المعنى شعراً الأفوه الأودي، حيث قال:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم      ولا سراة إذا جهالهــم  سادوا

والبيت لا يبتنى إلا لـــه عمــد         ولا عمـاد  إذا لم ترس أوتـاد

وإن تجمع أوتـــاداً وأعمـــدة         يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا

  لقد شرط الإسلام في إمام المسلمين شروطاً ينبغي مراعاتها كلها أو جلها فيمن يراد منه أن يكون إماماً للمسلمين، وهذه الشروط منها ما يعين على الاستقرار، ومنها ما يعين على إقامة العدل، ومنها ما يتعلق بسياسة الرعية، حتى يتسنى للإمام أن يقوم بواجبه خير قيام، ويؤدي ما عليه خير أداء في أمور الدين والدنيا، إذ وظيفة الإمام الأساسية حماية الدين، ورعاية مصالح الناس الدنيوية التي لا تقوم الحياة إلا بها.

قال العلامة ابن خلدون رحمه الله: (والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به).

فالشروط  التي يجب توفرها في الإمام  هي:

1. الإسلام، فلا ينبغي لكافر أن يكون إماماً للمسلمين، قال تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كيف وقد قال بعض أهل العلم ـ أبو حنيفة رحمه الله: "إذا فسق الحاكم فقد انحلت بيعته"، فكيف بالكافر!

2. وعليه ينبغي للمسلمين أن لا يمكنوا أحداً من الكفار من ولايتهم، كبرى كانت الولاية أم صغرى، لا نائباً، ولا وزيراً، ولا قاضياً، ولا عاملاً، ونحو ذلك.

3. الذكورية: فإمام المسلمين ينبغي أن يكون ذكراً، لقوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ومع ذلك نجد أكبر الدول الإسلامية الآن حكمت أو تحكمها نساء، تقليداً للكفار، ومحادة لشرع الله، وهي أندونيسيا، وبنقلاديش، وباكستان، وتركيا، نعوذ بالله من الخسران.

4. أن يكون من قريش، إن وجد منهم أحد توفرت فيه الشروط الأخرى، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمـر في قريـش ما بقي منهم اثنان"، وفي رواية: "الأئمة من قريش"، قال ابن خلدون رحمه الله بعد أن رد شبه الرادين لهذا الشرط: (الجمهور على القول باشتـراطها)، وقال إمام الحرمين عبد الملك ابن الجويني وهو يتحدث عن صفات الإمام القوَّام على أهل الإسلام: (فأما الصفات اللازمة، فمنها النسب، فالشرط أن يكون الإمام قرشياً، ولم يخالف في اشتراط النسب غير ضرار بن عمرو، وليس ممن يعتبر خلافه).

5. أن يكون ذا عصبية، أي له جماعة أو قبيلة تسنده.

6. أن يكون بالغاً عاقلاً.

7. أن يصلح أن يكون قاضياً.

8. أن يكون عدلاً.

9. أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف:

الرأي قبل شجاعة الشجعان         هو أول وهي في المكان الثاني

10. أن يكون شجاعاً صامداً.

11. أن يكون سليم الحواس.

12. أن يكون حراً.

13. أن يكون ممن لا تأخذه في إقامة الحدود، وضرب الرقاب، وقطع الأبشار بحقها، رأفة.

14. أن يكون على مذهب أهل السنة والجماعة.

15. أن يكون ذا تقوى وورع.

هذه الشروط ينبغي أن تتوفر كلها أو جلها في إمام المسلمين، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وبعضها أهم من بعض، فيجب تقديم الأهم ثم المهم.

تنبيه: تجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ولا تلتفت إلى أقوال من سواهم.

واجبات الإمام نحو الرعية

من أوجب واجبات الإمام نحو رعيته ما يأتي:

1. أن يحكمهم بالشريعة الإلهية، لا بالقوانين الوضعية، وهذا من أوجب الواجبات عليه نحو رعيته، وليس للراعي ولا للرعية خيار في ترك ذلك، وينبغي للحاكم أن يحمل رعيته حملاً على ذلك، وعليه ألا يداهنهم وينافقهم، وأن لا يخشى في سبيل تطبيق شرع الله لومة لائم، وليعلم أن من نصر الله نصره الله، ومن خذل دين الله خذله الله.

2. أن يؤمنهم في ديارهم وأموالهم، ويؤمن سبلهم.

3. أن يحكم فيهم بالسوية.

4. أن يعدل في القضية.

5. أن يعمل على إصلاح عقائدهم، وتعليمهم أمر دينهم، وأن يزيل كل مظاهر الشرك ويعمل على سد كل الذرائع التي قد تؤدي إلى ذلك.

6. أن يحافظ على أعراض المسلمين، ويعمل على منع الاختلاط، خاصة في الجامعات، والمعاهد، وفي المراكب، والمستشفيات، والميادين، والاجتماعات.

7. أن يعمل على إقام الصلاة.

8. أن لا يتعدى في أخذ الزكاة، فالزكاة تجب في أموال معلومة، وليحذر من الأقوال الشاذة، والخلاف الذي لا يقوم على دليل، فالتعدي في الزكاة لا يقل من إثم منع الزكاة.

9. العمل على رفع المعاناة عن الرعية.

10. عدم الخوض في المال العام بغير حق.

11. أن ينزل الناس منازلهم، سيما العلماء، وطلاب العلم الشرعي.

12. أن لا يولي على المسلمين امرأة، لا وزيرة، ولا قاضية، ولا عاملة، ونحو ذلك.

13. أن يتخير عماله ووزراءه.

14. أن يعمل على أن لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.

15. أن يراقب وسائل الإعلام المختلفة، فقد أصبحت هذه الوسائل الآن أدوات هدم للأخلاق، يمنع منها العلماء وطلاب العلم الشرعي، ويفسح المجال فيها للمسلسلات الهابطة، والسماع المحرم، غنائي وصوفي، ونحو ذلك.

16. العمل على قيام هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، تذكر الغافل، وتعين الجاهل على أمر دينه.

17. العمل على رفع علم الجهاد.

18. عدم تتبع عورات المسلمين مستوري الحال، والتجسس عليهم.

قال أبو جعفر المنصور رحمه الله مبيناً الذي عليه للرعية: (الذي عليّ للرعية:

1. أن أحفظ سبلهم، فينصرفون آمنين في سبيلهم، ولا يُصَدُّون عن حجهم وقضاء نسكهم.

2. وأن أضبط ثغورهم وأحصنها من عدوهم.

3. وأن أختار قضاتهم.

4. واعزم بالحق كيلا يصل ظلم بعضهم إلى بعض.

5. وأن أرفع أقدار فقهائهم وعلمائهم.

6. وأكف جهالهم عن حكمائهم).

فعليك أخي الحاكم أن تولي على المسلمين خيارهم، ولا تولي عليهم شرارهم.

كتب عمر إلى أحد عماله قائلاً: "عليك بأهل القرآن، فإن لم يكن فيهم خير فمن سواهم أولى"؛ وقـال مـرة: "دلوني عن رجل استعمله، فقد أعيـاني أمر المسلمين. قالوا له: عبد الرحمن بن عوف؛ قال لهم: ضعيف؛ قالوا له: فلان؛ قال: لا حاجة لي به؛ قالوا: فمن تريد؟ قال: رجل إذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كان كأنه أميرهم؛ قالوا: ما نعلمه إلا الربيع بن زياد الحارثي؛ قال: صدقتم".

حقوق الراعي على الرعية

من أوجب حقوق الراعي على الرعية ما يأتي:

1. الدخول في بيعته.

2. السمع والطاعة في المعروف.

3. أعانته على القيام بواجبه.

4. نصحه سراً ، إلا إذا لم يجد ذلك.

5. عدم الخروج عليه بالسيف.

6. إعانته على مقاتلة الخارجين عليه.

7. الجهاد معه إذا أعلن ذلك، براً كان أم فاجراً.

8. لا يتعاون مع كافر ضده أويقاتل معه.

9. الدعاء له بالصلاح.

10. إكرامه وعدم إهانته.

11. الصبر على جوره وظلمه.

الأدلة على ذلك كثيرة، منها:

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، وأولوا الأمر الذين أمرنا بطاعتهم هم العلماء، والحكام الذين يأتمرون بأمرهم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعـة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مـات وليس في  عنقه بيعة مات ميتة جــاهليــة"، فلا يحل لأحد بايع إماماً أن يخلع بيعته، فإن فعل فقد عصى الله ورسوله ومات ميتة جاهلية.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية".

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قـال : سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أهان السلطان أهانه الله".

والأحاديث والآثار في وجوب طاعة الراعي بالمعروف، وعدم الخروج عليه، والصبر على بلائه، ومناصحته، كثيرة جداً .

ما ورد في فضل الإمام العادل

ورد في فضل الإمام العادل عدد من الأحاديث والآثار نذكر منها ما يأتي:

1. عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل.." الحديث.

2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا".

3. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم!"، قال قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم ؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة".

4.  وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيـم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال".

5. ولله در عمر بن العاص حين قال موصياً ابنه: "يا بني!! احفظ عني ما أوصيك به، إمام عَدْل خَيْرٌ من مطر وَبْل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".

ماتوعد به الإمام الجائر

لقد توعد الإسلام أئمة الجور، وتهددهم، وحذرهم مغبة الظلم والطغيان، وإليك طرفاً من ذلك:

1. عن أبي يعلى مَعْقِل بن يَسَار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حــرم الله عليه الجنــة.

2. وفي رواية: " لم يَحُطْها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة".

3. وفي رواية لمسلم: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة".

4. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمـر أمتي شيئاً، فَرَفَق بهم، فارق بـه".

5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قـال: قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. فإن الله سائلهم عما استرعاهم".

6. وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شرَّ الرعاء الحطمة"، فإياك أن تكون منهم.

7. وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم، وخَلَّتهم وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته وخلَّته وفقره يوم القيامة"، فجعل معاوية رجلاً على حوائج النـاس.

8. وقال عمر رضي الله عنه: "لو أن بغلة بشاطئ الفرات عثرت خشيت أن أسأل عنها، لِمَ لَمْ أعبِّد له الطريق".

ولهذا لورعه مع عدله وتقواه، تمنى أن يكون يوم القيامة لا له ولا عليه.

فعليك أخي الحاكم بعد هذا أن تختار لنفسك ما ترجوه وتتمناه في الدار الآخرة، فكما تدين تدان، وعليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، واتق دعوة المظلوم فإنها ليست بينها وبين الله حجاب، واحذر ليلة فجرها يوم القيامة، وعليك أن تتأسى بالرسل، والأنبياء، والأئمة الصالحين، والخلفاء الراشدين، واجتنب الوزراء السيئين، والمستشارين الخائنين، والدخلاء المنافقين، واعلم أنما أهلك فرعونَ هامانُ، وهامانَ فرعونُ، فالمغرور من أغره هؤلاء.

هل تعلم أن الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن عبد العزيز مات وعمره تسع وثلاثون سنة ونصف ، وأن مدة خلافته سنتان ونصف، وقد فعل فيها الآتي:

1. رد كل المظالم إلى أهلها.

2. وكل الأموال التي كانت بأيدي بني أمية إلى بيت المال ، وبدأ بنفسه.

3. دوّن السنة النبوية.

4. وبسط العدل في كل أرجاء الدولة الإسلامية.

5. أمات كل البدع وأحيا كل السنن التي أميتت.

6. قرب وأكرم الفقهاء والعلماء والفضلاء، وباعد بينه وبين المدّاحين من الشعراء.

7. أمّن الثغور ورفع راية الجهاد.

8. ناظر وحج وقمع أهل الأهواء، من قدرية وخوارج.

9. غير الولاة الظلمة ، واستعان من المستشارين بالعلماء.

فعل عمر كل ذلك بصدقه وتوكله على الله، وتجرده للحق، روى الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال، يدلني من العدل ما لا أهتدي إليه، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج من صحبتي والدخول علي"، وقال لمزاحم مولاه: "إن الولاة قبلي جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة ترباني عنها، أو فعَالاً لا تحبه، فعظني عنده وانهني عنه"، ولهذا لقب بالخليفة الراشد الخامس، وبمجدد القرن الأول بغير منازع.

وما فعله عمر بن عبد العزيز في القرن الأول فعله الطالبان في أفغانستان في القرن الرابع عشر الهجري ، حيث حكموا شرع الله في كل مناحي الحياة، من أول قدومهم إلى الحكم، ولمدة سبع سنوات، في ظروف قاسية، ومواجهات صعبة من المنتسبين إلى الإسلام قبل الكافرين، فقد نصروا الله فسينصرهم الله إن عاجلاً أو آجلاً، فالنصر بيد الله، والحكم لله يهبه لمن يشاء وينزعه عمن يشاء، فهو لا يدوم، ولو كان يدوم لما وصل إليك أخي الحاكم، فالعبرة بإقامة الشرع والعدل، وليس بطول مدة الحكم، فالشقي من طالت مدته وساءت أعماله.

الخروج المسلح وخطره على الإسلام ، قديماً وحديثاً

معظم الفتن والنكبات التي حلت بالمسلمين مردها إلى ثلاثة أسباب، هي :

أولاً : تسلط بعض أهل الأهواء على الحكم أو إزاغتهم لبعض الحكام ، نحو :

1. فتنة خلق القرآن: حيث أزاغ بعض رؤوس الفتنة من المعتزلة الخليفة المأمون العباسي، وأخاه المعتصم، وابنه الواثق عن الجادة، وامتحنوا أئمة أهل السنة الأخيار، والعلماء الأبرار، منهم الإمـام أحمد بن نصر الخزاعي (ت 231 ﻫ) والإمام أحمـد بن حنبـل (ت 241 ﻫ)، والحـافظ أبو نُعيـم الفضـل بن دكين (ت 210 ﻫ)، والإمـام أبو يعقوب البوطي صاحب الشـافعي (ت 231ﻫ)، والحافظ عفان بن مسلـم (ت 220ﻫ )، والإمام محمد بن نوح، والإمام محمد بن عبد الرحمن الأدرمي، رحمهم الله جميعاً، حتى رفعها الخليفة المتوكل العباسي رحمه الله.

2. فتنة أبي طاهر القرمطي حين خرج على الدولة الإسلامية وأقام دولة رافضية بالأحساء والبحرين، وقد جمع هؤلاء بين السوءتين وخلطوا بين ضلالتين: الخروج عن الدولة الإسلامية، بجانب ابتداعهم وتمسكهم بهذا المذهب الشيطاني الرافضي، فعاثوا في الأرض الفساد، ونشروا الذعر والرعب بين العباد، وقتلوا عشرات الآلاف، فنسأل الله أن يصب عليهم وعلى خلفهم سوط عذاب.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، واصفاً ما حل بالحجيج بمكة سنة 317هـ على يد القرامطة لعنهم الله: (فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافدت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام ، في الشهر الحرام، في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله، وبالله أنا، أنا أخلق الخلق، وأفنيهم أنا. فكان الناس يفرون منهم ويتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً ، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف فلما قضى طوافه، أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:

ترى المحبين صرعى في ديارهم      كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القبلة، وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا، ولم يصل عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر؛ وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات في النار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر أن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه).

3. فتنة الفاطميين بشمال إفريقيا ومصر: ما فعله القرامطة الزنادقة الملحدون فعله الفاطميون الضالون المنحرفون ، فقد كانوا ممالئين للقرامطة ، وعلى ملتهم الخبيثة ، وعقيدتهم الفاسدة ، فقد خرجوا على الدولة الإسلامية ، واقتطعوا منها ذلك الجزء ، وأذاقوا أهل السنة خاصة العلماء والفقهاء والمصلحين والدعاة شر الويلات ، وقتلوا منهم عشرات الآلاف ، وسجنوا وضربوا وآذوا عباد الله الصالحين ، وعملوا على إفساد عقائد المسلمين .

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وهو يتحدث عن القرامطة لعنهم الله: (وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقيا من أرض المغرب ، ويلقب أميرهم بالمهدي ، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح ، وقد كان صباغاً بسلمية ، وكان يهودياً فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقيا ، فادعى أنه شريف فاطمي ، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة ، وصارت له دولة ... وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ، ويدعون إليه .

وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم ، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها).

قال الذهبي رحمه الله :( قال أبو الحسن القابسي صاحب الملخص: "إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب ، من عالم ، وعابد ، ليردوهم عن الترضي على الصحابة، فاختاروا الموت ، فقال سهل الشاعر :

وأحل دار النحر في أغلاله      من كان ذا تقوى وذا صلوات).

ثانياً: إعانة بعض المنتسبين للإسلام للكفار، وتجسّسهم لصالحهم، وقتالهم المسلمين معهم

من أسباب النكبات الخطيرة والفتن العظيمة التي حلت بالمسلمين قديماً وحديثاً موالاة بعض المنتسبين للإسلام للكفار ، وإعانتهم إياهم ، و تجسسهم لصالحهم ، بل وقتالهم المسلمين معهم ، وما حدث بأفغانستان في الحرب الصليبية التي تشنها أمريكا على الإسلام في هذه الأيام ليس عنا ببعيد ، فلولا خذلان بعض المنتسبين للإسلام لإخوانهم في أفغانستان لما حدث الذي حدث ؛ وسنكتفي بمثال واحد في هذا الجانب ، وهو ما فعله الوزير الرافضي ابن العلقمي لعنه الله في إعانته التتار على دخول بغداد وقتلهم للعلماء والفقهاء ، وتدميرهم لعاصمة الخلافة الإسلامية ببغداد .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والرافضة أشد بدعة من الخوارج، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره، كأبي بكر وعمر، ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كذباً ما كذّب أحد مثله، والخوارج لا يكذبون، لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع وأوفى بالعهد منهم، فكانوا أكثر قتالاً منهم، وهؤلاء ـ أي الشيعة الرافضية ـ أكذب وأجبن وأغدر وأذل، وهم يستعينون بالكفار على المسلمين، كما جرى لجنكز خان ملك الترك الكفار، فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خرسان، والعراق، والشام، فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد، فكانوا بالعراق وخرسان من أعظم أنصاره، باطناً وظاهراً، وكان وزير الخليفة البغدادي الذي يقال له ابن العلقمي منهم، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى العامة عن قتالهم، ويكيد أنواعاً من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان، أو أكثر أو أقل، ولم يرى في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتار، وقتلوا الهاشميين، وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين).

ثالثاً : الخروج المسلح على الحكام

كذلك من الأسباب الرئيسية لحدوث كثير من الفتن والمحن التي حلت بالمسلمين ، وأضرت بالدين، وراح ضحيتها عدد من الأخيار الصالحين ، والأئمة المقسطين ، شق عصا الطاعة ، والخروج على الجماعة ، وخلع بيعة الأئمة ، وشهر السلاح في وجه المسلمين ، وإعانة الكفار على قتال المسلمين ، وإضعاف دولتهم ، وكسر شوكتهم ، فهي ثالثة الأثافي ، وأخطر الدواهي التي حلت بالمسلمين قديماً وحديثاً ، فالحذر الحذر من ذلك ، ونلخص حديثنا في هذا الأمر في الآتي :

1.  حكم خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم .

2. الأدلة على ذلك .

3. الخارجون صنفان : باغون مفسدون ، ومتأولون مأجورون .

4. الخسائر والأضرار التي لحقت بالدين والمسلمين من جراء ذلك .

حكم خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم

أجمع أهل العلم على حرمة خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم ، إلا أن يروا كفراً بوحاً عندهم من الله فيه برهان ودليل ، وحتى في هذه الحال لا يجوز الخروج المسلح إلا إذا أمنت الفتنة ، وترجح عزله من غير فساد أكبر ، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع .

الأدلة على ذلك

1. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان".

2. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم . فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دَخَن . قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر . فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليه قذفوه فيها . فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا . قال : نعم ، قوم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا . قلت : يا رسول الله ، فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . قلت : فإن لم تكن جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ".

3. وفي رواية عن حذيفة في صحيح مسلم كذلك: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ". قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطيع ".

4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عُمِّيِّـة يغضب لعصبته ، أو يدعو لعصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتله جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها ، ولا يتحاش من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد ، فليس مني ولست منه ".

5. وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية ".

6. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".

7. وعن عرفجة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه ستكون هنات ، وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي مجتمعة فاضربوه بالسيف كائناً من كان".

8. وعن عرفجة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ".

9. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ".

10. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سَلِم ، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا".

11. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة".

هذه الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة في موضع النزاع من أصدق الأدلة على نبوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي من معجزاته الخبرية الكثيرة ، إذ تحقق كل ما قاله صلى الله عليه وسلم .

أقوال أهل العلم في ذلك

قال الإمام النووي رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ".. وأن لا تنازعوا الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " :( كفراً ظاهراً، والمراد بالكفر المعاصي ، ومعنى " عندكم من الله فيه برهان " أي تعلمونه من دين الله تعالى، ومعنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم ، إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم ، وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين ، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق ، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل أيضاً ، فغلط من قائله مخالف للإجماع ، قال العلماء : وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء ، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه ، قال القاضي عياض : أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل ، قال : وكذا لو ترك إقامة الصلوات ، والدعاء إليها. قال : وكذلك عند جمهورهم البدعة ، قال : وقال بعض البصريين : تنعقد له وتستدام له ، لأنه متأول، قال القاضي : فلو طرأ عليه كفر ، وتغيير للشرع ، أو بدعة ، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين القيام عليه ، وخلعه ، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنـــوا القدرة عليه ، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه. قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداء، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم : يجب خلعه ، إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب.

وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل بالفسق ، والظلم ، وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك. قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع ، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسين، وابن الزبير ، وأهل المدينة على بني أمية ، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث ، وتأول هذا القائل قوله: "أن لا ننازع الأمر أهله" في أئمة العدل، وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق ، بل لما غير من الشرع وظاهر من الكفر، قال القاضي : وقيل إن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم، والله أعلم).

قلت : ليس في قيام الحسين رضي الله عنه وغيره من الأخيار رد على ما أجمع عليه أهل السنة، لأنهم كانوا متأولين مأجورين إن شاء الله ، أما زعم من زعم أن سبب قيام هؤلاء الأخيار على الحجاج كان سببه الكفر فهذا افتراء محض ، حيث كانت الدولة الأموية تقيم الشرع وتلتزم بالإسلام وإنما كان الحجاج فاسقاً مبيراً لا يتحرج من سفك الدم الحرام ، وانتهاك حرمة الحرمين الشريفين ، بل كان الحجاج وغيره من الأمراء ، والولاة ، والقادة الأمويين ، يحتجون على الذين قاموا عليهم بالأحاديث السابقة ، وأنهم خرجوا على طاعة إمام المسلمين ، وخرجوا عليه بالسيف ، فيجب قتالهم ويتحتم دفعهم.

وقال الإمام أبو العباس القرطبي المالكي رحمه الله في كتابه " المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم"، في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم : " على المرء المسلم السمع والطاعة": (ظاهر في وجوب السمع والطاعة للأئمة ، والأمراء، والقضاة، ولا خلاف فيه إذا لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا تجوز طاعته في تلك المعصية قولاً واحداً ، ثم إن كانت تلك المعصية كفراً وجب خلعه على المسلمين كلهم ، وكذلك لو ترك إقامة قاعدة من قواعد الدين، كإقام الصلاة ، وصوم رمضان ، وإقامة الحدود ، ومنع من ذلك ؛ وكذلك لو أباح شرب الخمر، والزنى، ولم يمنع منها ، لا يختلف في وجوب خلعه ، فأما لو ابتدع بدعة ، ودعا الناس إليها، فالجمهور على أنه يخلع ؛ وذهب البصريون إلى أنه لا يخلع ، تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وهذا يدل على استدامة ولاية المتأول ، وإن كان مبتدعاً ؛ فأما لو أمر بمعصية مثل أخذ مال بغير حق ، أو قتل ، أو ضرب بغير حق ، فلا يطاع في ذلك ، ولا ينفذ أمره ، ولو أدى ذلك إلى ضرب ظهر المأمور وأخذ ماله ، إذ ليس دم أحدهما ، ولا ماله بأولى من دم الآخر ، ولا ماله ، وكلاهما يحرم شرعاً ، إذ هما مسلمان ، ولا يجوز الإقدام على واحد منهما ، لا للآمر ، ولا للمأمور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، كما ذكره الطبري ، ولقوله هنا : " فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، فأما قوله في حديث حذيفة: "اسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام، والانقياد، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك ؛ ويحتمل أن يكون ذلك خطاباً لمن يفعل به ذلك بتأويل يسوغ للأمير بوجه يظهر له، ولا يظهر ذلك للمفعول به ؛ وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث ، ويصح الجمع، والله أعلم).

وقال الإمام الآجري رحمه الله في ذم الخروج المسلح ، وخلع بيعة الأئمة ، ورد السنن التي تخالف الأهواء في شخص الخوارج ، لأنهم أول من سلك هذا المسلك المشين ، وابتدع هذه البدعة المضلة المذلة: (لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن صلوا، وصاموا، واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بنافع لهم ، لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين، وقد حذرنا الله عز وجل منهم ، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم، وحذرنا الخلفاء الراشدون بعده، وحذرنا الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم.

والخوارج هم الشراة، الأنجاس، الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ، ويستحلون قتل المسلمين .

وأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بالجِعرَّانة ، فقال : اعدل يا محمد ، فما أراك تعدل . فقال صلى الله عليه وسلم: "ويلك فمن يعدل إذا لم أكن أعدل؟"، فأراد عمر رض الله عنه قتله ، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ، وأخبر عليه الصلاة والسلام: "أن هذا وأصحاباً يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية "، وأمر عليه الصلاة والسلام في غير حديث بقتالهم ، وبين فضل من قتلهم وقتلوه.

ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى ، واجتمعوا ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قدموا المدينة ، وقتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقد اجتهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان في المدينة في أن لا يقتل عثمان فما أطاقوا ذلك .

ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولم يرضوا بحكمه ، وأظهروا قولهم ، وقالوا : " لا حكم إلا لله "، فقال علي رضي الله عنه: " كلمة حق أرادوا بها الباطل"، فقاتلـهم علي رضي الله عنه ، فأكرمـه الله عز وجل بقتلهم ، وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من قتلهم أو قتلوه ، وقاتل معه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، فصار سيف علي بن أبي طالب في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة ).

وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الإمام رحمه الله :( وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور ، وغشهم ، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ، ومن سيرة غيرهم .

وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند إسته بقدر غدره"، قال : وإن من أعظم الضرر ، بغي بإمام المسلمين، وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته، وفي صحيح مسلم عن نافع قال : جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان ، زمن يزيد بن معاوية ، فقال : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية").

ولله در الحسن البصري الرضي، ما أعقله، وأعلمه، وأبصره، حين أتاه رهط يريدون الخروج في زمن الأمويين: (فأمرهم أن يلزموا بيوتهم، ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال : والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا، ما لبثوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم ، وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، والله ما جاءوا بيوم خير قط . ثم تلا: "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون").

الخارجون صنفان

الذين قاموا على الأئمة وخرجوا عليهم في الماضي ليسوا سواء ، فهم صنفان :

1.  باغون مفسدون خارجون .

2.  متأولون مأجورون .

يمثل الصنف الأول : المتنبئون ومانعوا الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، والخوارج الرافضة بفرقهم المختلفة ، ومن لف لفهم .

ويمثل الصنف الثاني : أهل الجمل ، وصفين ، والحسين ، وابن الزبير ، وأصحاب الحرة ، وابن الأشعث ومن معه من القراء.

وبين الصنفين من الفروق ما بين السماء والأرض.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سئل عن "البغاة والخوارج" هل هي ألفاظ مترادفة أم بينهما فرق؟: (الحمد لله، أما قول القائل : إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم، فدعوى باطلة، ومدعيها مجازف ، فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، مثل كثير من المصنفين في "قتال أهل البغي"، فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة ، وقتال علي الخوارج ، وقتاله لأهل الجمل وصفين ، إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب " قتال أهل البغي".

ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة ، والزبير ، ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة ، لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق ، بل مجتهدون ، إما مصيبون ، وإما مخطئون ، وذنوبهم مغفورة لهم ، ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقاً .

فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة سواء ، ولهذا قالت طائفة بفسق البغاة ، ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة .

وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين " الخوارج المارقين " ، وبين " أهل الجمل وصفين " ، وغير أهل الجمل وصفين ممن بعد البغاة المتأولين ، وهذا هو المعروف عن الصحابة ، وعليه عامة أهل الحديث ، والفقهاء ، والمتكلمين ، وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم ، من أصحاب مالك ، وأحمد، والشافعي ، وغيرهم .

وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ".

وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ، ويبين أن من المارقين نوع ثالث ، ليسوا من جنس أولئك ، فإن طائفة عليّ أولى بالحق من طائفة معاوية .

وقال في حق الخوارج المارقين : " يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة " .

إلى أن قال :

وأما أهل الجمل وصفين ، فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب، وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ، ولا من هذا الجانب ، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القتال في الفتنة ، وبينوا أن هذا قتال فتنة .

وكان علي رضي الله عنه مسروراً لقتال الخوارج ، ويروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بقتالهم ، وأما قتال " صفين " ، فذكر أنه ليس معه فيه نص ، وإنما هو رأي رآه ، وكان أحياناً يحمد من لم ير القتال ).

الخسائر والأضرار التي لحقت بالدين وبالمسلمين من جراء ذلك قديماً وحديثاً

الخسائر والأضرار التي منيت بها الأمة الإسلامية من جراء خلع البيعة عن الأئمة ، والخروج عليهم بالسيف ، وقتالهم ، وتفريق كلمتهم ، لا يعلمها إلا الله ، والراسخون في العلم ملمون بجلها ، وسنشير إلى طرف منها ، فنقول :

أولاً : راح ضحية خلع بيعة الأئمة والخروج عليهم بالسلاح خيار هذه الأمة من الخلفاء الراشدين، وأئمة الدين من الصحابة رضوان الله عليهم ، وهم :

1. عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في الصلاة.

2. عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد في أيام التشريق سنة 36ﻫ .

3. علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو خارج إلى الصلاة.

4. طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه .

5. الزبير بن العوام رضي الله عنه ، وهو راجع قبل القتال .

6. عمار بن ياسر رضي الله عنه .

7. الحسن بن علي رضي الله عنه .

8. الحسين بن علي رضي الله عنه ، استشهد يوم الجمعة ، يوم عاشوراء سنة 61 هـ، ومعه  بضعة عشر من أهله ، وعمره 58 سنة  .

9. عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، قتل وصلب لعدة أيام سنة 73 هـ، ومدة خلافته 9 سنوات.

ثانياً : حروب الردة

خاض المسلمون حروباً ضارية ضد المتنبئين الأسود العبسي ومسيلمة الكذاب لعنهما الل ، وطليحة الأسدي، وسجاع ، ومانعي الزكاة ، راح ضحيتها عدد من خيار الصحابة رضوان الله عليهم، ويكفي أن تعلم أن عدد الذين قتلوا في حرب مسيلمة بلغ 450 من القراء والصحابة، منهم البراء بن مالك، وسالم مولى أبي حذيفة ، وحبيب بن زيد ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وأبو دجانة سماك بن خربشـة ، والطفيل بن عمرو الدوسي ؛ وقتل عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم في قتال مليحة، وكان ذلك كله في السنة الحادية عشرة من الهجرة .

ثالثاً : في الجمل

  خرجت عائشة رضي الله عنها ومعها عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم طلحة ، والزبير، وعبد الله بن الزبير، من مكة تريد الكوفة في 35 ﻫ  .

وكان معها 3000 .

خرج أهل الجمل للمطالبة بقتلة عثمان رضي الله عنه والاقتصاص منهم ، وخرجت عائشة كما أشار عليها مروان بن الحكم للصلح بين الفريقين ، كما قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله ، وليتها لم تخرج لا للصلح ولا لغيره .

لم يرد أحد من الفريقين القتال ، ولكن دعاة الفتنة أشعلوا نار الحرب بين الفريقين .

قتل الزبير قبل الوقعة وهو راجع إلى المدينة ، بعد أن ذكره علي رضي الله عنه ووعظه .

قتل من الصحابة في هذه الوقعة المشؤومة طلحة من أهل الجمل .

بلغ عدد القتلى في الجمل عشرة آلاف ، خمسة من كل فريق .

رد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عائشة إلى المدينة معززة مكرمة، في عدد من النسوة، وخرج في وداعها السبطان الحسن والحسين رضي الله عنهما.

كان علي غير منشرح لقتال الجمل ، ولا لقتال أهل الشام ، ولكن حمل على ذلك حملاً من دعاة الفتنة ، كما حمل إخوانه من الصحابة من أهل الجمل والشام ، رضي الله عن الجميع .

كان الحق مع علي رضي الله عنه ، إذ طلب من الجميع الدخول في بيعته ، ثم يتعاون الجميع في الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه .

لقد ندمت عائشة رضي الله عنها على خروجها ندماً شديداً ، وكانت إذا ذكرته أو ذكرت به بكت حتى تبل خمارها .

جميع الصحابة الذين قاتلوا في الجمل كانوا متأولين مأجورين ، إما أجراً واحداً وإما أجرين ، وقد نزع الله ما في صدورهم من الغل ، إذ الجميع في أعلى الجنان بحكم الله عز وجل : " وكلاً وعد الله الحسنى " الآية ، والحسنى هي الجنة إذ لا حسنى فوقها .

رابعاً : في صفين

صفين موقع بالقرب من نهر الفرات شرق بلاد الشام .

وقعة صفين كانت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، ومن معهما من أهل العراق والشام .

كانت بدايتها في 37 ﻫ  .

استمرت الوقائع بينهم لمدة سنتين حيث بلغت تسعين وقعة .

قتل فيها سبعون ألفاً، 45 ألفاً من أهل الشام، و25 ألفاً من أهل العراق، منهم خمسة وعشرون بدرياً، أشهرهم عمار بن ياسر رضي الله عنه.

  كان المقام بصفين 110 يوماً .

  في سنة 38 هـ التقى الحكمان.

  قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تحت عنوان "قاصمة التحكيم" من كتابه القيم "العواصم من القواصم" ، في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :

( قاصمة:

وقد تحكّم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله ، وإذا لحظتموه بعين المروءة ـ دون الديانة ـ رأيتهم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدمُ الدين ، وفي الأقل جهل متين .

والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط الدارقطني : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفِّين ، اقتتلوا في أول يوم ـ وهو الثلاثاء ـ على الماء فغلب أهل العراق عليه .

ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة 37 ﻫ  ، ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلى الصلح ، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل ، حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق ، فكان من جهة علي أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .

وكان أبو موسى رجلاً ، تقياً ، ثقِفاً ، فقيهاً ، عالماً ، حسبما بيناه في كتاب "سراج المريدين"، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ ، وقدمه عمر وأثنى عليه بالفهم ، وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه ، تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات ، وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى ، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر .

وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرُح من دُومة الجندل ، وتفاوضا ، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ، فقال عمرو لأبي موسى : اسبق بالقول ، فتقدم فقال : " إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر ، وينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعتُ سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي "، وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض ، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض ، وقال : " إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر ، كما أثبت سيفي هذا في عاتقي " ، وتقلده ، فأنكر أبو موسى ، فقال عمرو : " كذلك اتفقنا " ، وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف .

عاصمة

قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه : هذا كله كذب صراح ، ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ، ووضعته التاريخية للملوك ، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر ـ في عصبة كريمة من الناس ، منهم ابن عمر ونحوه ـ عزل عمرو معاوية.

ذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر : لما عزل عمرو معاوية جاء ـ أي حضين بن المنذر ـ فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية ، فبلغ نبأه معاوية ، فأرسل إليه فقال : إنه بلغني عن هذا ـ أي عن عمرو ـ كذا وكذا ، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه . فأتيته ، فقلت : أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه ؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ، والله ما كان الأمر على ما قالوا ، ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال : أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ قال : إن يستعن بكما فيكما معونة ، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما . قال : فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه ، فأتيته فأخبرته ـ أي فأتى حضينُ معاوية فأخبره ـ أن الذي بلغه كما بلغه ، فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله ، فخرج يركض فرسه ويقول أين عدو الله أين هذا الفاسق ؟

قال أبو يوسف: أظنه قال: "إنما يريد حوباء نفسه"، فخرج عمرو إلى فرس تحت فسطاطه فجال في ظهره عرياناً، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية ، هو يقول: "إن الضجور قد تحتلب العُلبة، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة"، فقال معاوية: "أجل، وتربِذُ الحالب فتدق أنفه، وتكفأ إناءه".

قال الدارقطني ـ وذكر سنداً عدلاً ـ ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال: "والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما، وأيم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي ، ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا، وأيم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا" .

فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه ، فأعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين ، وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين ، وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين ، وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هلك من كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه ، ودعوا ما مضى ، فقد قضى الله ما قضى ، وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً ، ولا تسترسلوا بألستنكم فيما لا يعنيكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملاً ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، ورحم الله الربيع بن خيثم فإنه لما قيل له : قتل الحسين ! قال : أقتلوه ؟ قالوا : نعم . فقال : " اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون "، ولم يزد على هذا أبداً ، فهذا العقل والدين ، والكف عن أحوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين .

خامساً : قيام السيد الحسين رضي الله عنه، وخذلان الرافضية له، واستشهاده على يد ابن مرجانة

بعد موت معاوية رضي الله عنه وولاية يزيد وخروج الحسين إلى مكة وعدم دخوله في بيعة يزيد، توالت الكتب من أهل العراق على الحسين تدعوه للقدوم إليهم ليبايعوه حيث بلغت الكتب والرسائل أكثر من 150 كتاباً .

عندما عزم الحسين رضي الله عنه على الخروج إلى أهل العراق نهاه كل الناس عن الخروج وحذروه مغبة ذلك ، وذكروه بخذلان الرافضة لأبيه ولأخيه الحسن من قبل ، ولكن أراد الله للحسين الشهادة .

لقد نهاه عن الخروج ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، ومحمد بن الحنفية ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو واقد الليثي ، وسعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن .

قال له ابن عباس : لا تبرح الحرم فإنهم إن كانت بهم إليك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة .

وقال له ابن عمر : لا تخرج ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، وإنك بضعة منه ، ولا تنالها "ـ يعني الدنيا ـ واعتنقه وبكى وودعه ؛ وكان ابن عمر يقول : غلبنا حسين بن علي بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة ، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش ، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير .

وقال له ابن عباس كذلك : وأين تريد يا ابن فاطمة ؟ قال : العراق وشيعتي . فقال : إني كاره لوجهك هذا ، تخرج لقوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم ؟ اذكر الله أن تغرر بنفسك .

وقال أبو سعيد الخدري : غلبني حسين على الخروج ، وقلت له : اتق الله في نفسك ، والزم بيتك ولا تخرج على إمامك . وقال سعيد بن المسيب : لو أن حسيناً لم يخرج لكان خيراً له . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : وقد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم .

وصل الحسين الكوفة وحدث الذي حذره منه العقلاء الأخيار ، فقد رأى الحسين الذين كتبوا إليه الكتب هم الذين شهروا السيوف في وجهه لقتله ، وكان يخاطبهم بأسمائهم : يا فلان ، ألم تكتب إلي ؟

فقد جاء المقدور المسطور ، وظهر المحذور ، وباء الرافضة وابن مرجانة بإثم قتل أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم يثبت مع الحسين رضي الله عنه إلا أبناؤه وأهل بيته ، وقاتل قتال الشجعان حتى أتاه اليقين، واستشهد مقبلاً غير مدبر ، ونال ما أراده الله له من الشهادة والكرامة .

فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، وأن يغفر له ويسامحه فيما سعى ، وقد فعل ، فهو من المبشرين بالجنة ، بل هو وأخوه الحسن ريحانتا هذه الأمة في الجنة بحكم جدهما الصادق المصدوق ، ونسأل الله أن ينتقم من الداعين الخاذلين الرافضين لأئمة الدين ، وأن يكتب عليهم الحزن والبكاء وفعل الجاهليين إلى يوم الوقت والنشور ، وأن ينتقم من قتلة الحسين ، حيث كان يغنيهم أن يأسروه أو يحاصروه أو يتركوه يرجع إلى دار هجرة جده ، ولكن قدر الله كان مقدوراً، وأمر الله كان مفعولاً .

لو لم يكن للخروج إلا هذه الطامة الكبرى والداهية العمياء ، أعني قتل هذا السيد الكريم ، لكفاه سوءاً وقبحاً :( يا أسفاً على المصائب مرة ، ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرة ، وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم ، ودمه يراق على البوغاء ، ولا يحقن ، يالله ويا للمسلمين).

قال العلامة أبو بكر بن العربي رحمه الله عن هذه المأساة :( فتمادى واستمر غضباً للدين ، وقياماً بالحق ـ ولكنه رضي الله عنه ـ لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس ، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر ، طلب الابتداء في الانتهاء ، والاستقامة في الاعوجاج ، ونضارة الشبيبة في هشيم الشيخوخة ، ليس حوله مثله ، ولا له من الأنصار من يرعى حقه ، ولا من يبذل نفسه دونه ، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد فأرقنا دم الحسين ، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر ، وما خرج عليه أحد إلا بتأويل ، ولا قتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال ، المحذر من الدخول في الفتن ، وأقواله في ذلك كثيرة : " ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان "، فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله ).

سادساً : موقعة الحرة

موقعة الحرة بالمدينة كانت في سنة 63 هـ، بين أهل المدينة بعد أن خلعوا بيعة يزيد بن معاوية وأخرجوا ولاة الأمويين منها، وبين الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية بقيادة السفاك، الأثيم، المقعد، المفلوج، مسلم بن عقبة المزني، وصدق من سماه مسرف بن عقبة، قبحه الله، ومعه عشرة آلاف فارس وخمسة عشر ألف رجل.

قال ابن كثير رحمه الله :( وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية ولوا على قريش عبد الله بن مطيع ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ، فلما كان في أول هذه السنة ، أظهروا ذلك ، واجتمعوا عند المنبر ، فجعل الرجل منهم يقول : قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه ؛ ويقول الآخر : قد خلعته كما خلعت نعلي هذه ؛ حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك ، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم ، وهو عثمان بن محمد ابن أبي سفيان بن عم يزيد ، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة ، فاجتمعت بنو أمية في دار مروان ابن الحكم ، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم ، واعتزل الناس علي بن الحسين " زين العابدين "، كذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلعا يزيد ، ولا أحد من بيت ابن عمر ، وقد قال ابن عمر لأهله : لا يخلعن أحد منكم يزيد فتكون الفيصل ، ويروى الصيلم بيني وبينه .. وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت ، وقال : إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر ؛ و كذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب ، وقد سئل محمد بن الحنفية في ذلك فامتنع من ذلك أشد الامتناع ، وناظرهم وجادلهم في يزيد ، ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب الخمر ، وتركه بعض الصلوات ...وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر والإهانة ، والجوع والعطش ، وإنه لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه، وإلا استؤصلوا عن آخرهم).

فلما وصل البريد بذلك إلى يزيد جهز جيشه وأمر عليه مسلم ـ مسرف ـ بن عقبة ، وقال له : ادع القوم ثلاثاً ، فإن رجعوا إلى الطاعة فأقبل منهم ، وكف عنهم ، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاُ ثم اكفف عن الناس.

فلما لم يستجيبوا له استباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ، وقتل خلقاً من أشرافها ، وقرائها ، وانتهب أموالاً كثيرة منها ، ووقع شر عظيم ، وفساد كبير ، كما قال الحافظ ابن كثير .

سابعاً : حصار الحجاج لابن الزبير بمكة وقتله

كانت ولاية عبد الله بن الزبير على مكة والحجاز وغيرها في رجب سنة 64ﻫ  ، فلما مات يزيد بن معاوية بويع له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية ، وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها ، ولكن عارض مروان بن الحكم في ذلك ، وأخذ الشام ومصر ، ثم جهز السرايا إلى العراق ، وفي عهد عبد الملك قتل مصعب بن الزبير ، وأخذ العراق من عبد الله .

  جدد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم .

استمرت إمرته 9 سنوات .

  قدم الحجاج لحصار ابن الزبير في ألفي فارس وانضاف إليه أعداد حتى بلغوا 40 ألفاً .

بدأ الحصار من ليلة هلال ذي الحجة 72 هـ، وقتل ابن الزبير رضي الله عنه في 17 جمادى الأولى 73 ﻫ.

  كانت مدة الحصار 5 أشهر و17 ليلة .

ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق .

واستبسل ابن الزبير استبسالاً عظيماً ، فقد صد جنود الحجاج مرات ومرات حتى أوصلهم إلى الحجون وهو وحده .

  لقد قتل من الفريقين الكثير، وخرج 10 آلاف من أهل مكة حين حاصرها الحجاج ونشر الذعر بين أهلها الآمنين .

ثامناً : فتنة ابن الأشعث

كان ابن الأشعث رحمه الله قائداً من قواد الأمويين ، وكان الحجاج يبغضه ويسيء إليه ، قال ابن كثير :( وسبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه ، وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء ، وزوال الملك عنه ، فلما أمّره الحجاج على ذلك الجيش .. وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك فمضى .. ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقوا إلى العام المقبل ، فكتب إلى الحجاج بذلك ، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ، ويستضعف عقله ، ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب .

قال ابن كثير : فغضب ابن الأشعث ، وقال : يكتب إلي بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض جندي ، ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته ؟

إلى أن قال : جمع رؤوس أهل العراق وقال لهم : إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو ، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس ؛ وأخبرهم بما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعالجة رتبيل، فثار إليه الناس، وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع.

ثم أقبل ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلاً من سجستان إلى الحجاج ليقاتله، ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا: إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان؛ فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد الملحدين.

وهكذا خلع ابن الأشعث ومن معه من القراء ، والعلماء ، والصلحاء ، الحجاجَ وعبدَ الملك ، ودخلوا مع الحجاج في حروب ، وحدثت بينهم وقعات انتصر فيها ابن الأشعث في أولها ولكنه غلب وهزم في آخرها  .

  خرج ابن الأشعث على الحجاج ومعه 33 ألف فارس و120 ألف راجل .

بايع ابن الأشعث جميع من في البصرة من الفقهاء ، والقراء ، والشيوخ ، والشباب .

  قتل أصحاب ابن الأشعث في أول الأمر مقدمة الحجاج أكثر من 1500 شخصاً ، ثم بايعه أهل الكوفة .

  أشهر المواقع التي خاضها ابن الأشعث مع الحجاج هي :

1. موقعة الزاوية ، وكانت في المحرم 82 ﻫ  ، قتل فيها من أصحاب ابن الأشعث الكثير من القراء، وهم الفقهاء .

2. موقعة دير الجماجم ، وكانت في شعبان من نفس العام 82ﻫ  ، وكان فيها مع ابن الأشعث حوالي 200 ألفاً ممن يأخذ العطاء ، ومثلهم معهم من الموالي .

  كسر أصحاب ابن الأشعث أهل الشام أكثر من بضع وثمانين مرة .

  قتل الحجاج من أصحاب ابن الأشعث صبراً بعد أن قضى عليه 130 ألفاً .

  أشهر العلماء الذين كانوا مع ابن الأشعث من العلماء الفقهاء :

1.   سعيد بن جبير رحمه الله الذي قتله الحجاج .

2.   عامر الشعبي رحمه الله .

3.   عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله .

4.   وكميل بن زياد ، وكان شجاعاً فاتكاً رحمه الله .

5.  وأبو البحتري الطائي رحمه الله .

 

نكتفي بهذا القدر من التمثيل للخسائر الفادحة التي ألمت بالدين وبالمسلمين من جراء الخروج المسلح على الحكام، وما ذكرناه غيض من غيض، وقليل من كثير ، وهو لا يساوي شيئاً مما جرى لهذه الأمة بسبب ذلك.

وقد أضاف البعض في هذا العصر لهذا الخروج طامة أخرى وداهية عظمى ، ألا وهي تجسس البعض على إخوانهم المسلمين ، ودل الكفار على عوراتهم ، بل والقتال جنباً إلى جنب مع الكفار ، وتحت إمرتهم، كما حدث هذا في جنوب السودان ، وفي حرب الخليج ، وفي الحرب الصليبية التي شنتها أمريكا وعملاؤها ضد الدولة الإسلامية في أفغانستان ، وهذا  الأمر منافٍ لعقيدة التوحيد، ولعقيدة الولاء والبراء  حيث يقاتل هؤلاء لتكون كلمة الذين كفروا العليا ضد إخوانهم المسلمين المستضعفين.

هذا بجانب ما أصاب إخواننا المسلمين في الصومال وأفغانستان بسبب الخروج على الحكام ، والحروب الأهلية الطاحنة تحت رايات عمياء وعصبيات هوجاء ، مما أغرى الكفار بالتدخل في هذين البلدين .

ومن عجيب أمر الساسة في السودان في هذا العصر أنه ما منهم من أحد اختلف مع الحكومة القائمة، إلا وذهب مباشرة ووضع يده في يد الخارجي الصليبي الصهيوني جون قرنق ، وعمل تحت إمرته، وقاتل تحت رايته ، لا يستثنى من ذلك أحد من الأحزاب والقادة ، ولا يدخل في ذلك الشيوعيون والعلمانيون لأن الكفر ملة واحدة ، ولكن نعني بذلك المسلمين الذين يرفعون شعار الإسـلام، ويتولون المسلمين ، ومع ذلك ينحازون إلى صف الكفار ويقاتلون معهم ، لإحن شخصية، وأغراض دنيوية ، وأهواء سياسية .

فعليك أخي المسلم أن تتدبر ما أصاب الإسلام والمسلمين بسبب هذا الخروج المخالف لأمر رسولك، وعليك أن تقتدي بالعقلاء عند حدوث الفتن ، وليكن لك أسوة في عبد الله بن عمر شيخ الصحابة في عصره ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وعلي زين العابدين ، ومحمد بن الحنفية ، وغيرهم كثير ، وإياك إياك أن تنزع يداً من طاعة فتموت ميتة جاهلية ، أو تقاتل في عمية، أو من أجل عصبية جاهلية ، وعليك أن تصبر وتحتسب كما احتسب أولئك الأخيار ، وأن تعتبر بما أصاب المتأولين الأخيار الأبرار ، فالعاقل من اتعظ بغيره ، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

وتذكر دائماً وأبداً تلك الحكمة : " إمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم ، ومن أسد حطوم".

والله أسأل أن يفقهنا في الدين ، وأن يوفقنا للاقتداء بسنة سيد المرسلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين ، وعلينا وعلى جميع عباد الله الصالحين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

00000000000000000000000

التثويب "الصلاة خير من النوم" في أي أذَانَي الصبح يُقال: الأول أم الثاني؟

تعريف التثويب

الدليل على التثويب في الفجر دون غيره

حكم التثويب في أذان الصبح

ما يقول سامع التثويب

التأذين لصلاة الفجر قبل طلوعه

الأدلة على جواز التأذين للفجر قبل طلوعه في رمضان وغيره

إذا أذن للفجر قبل طلوعه هل يكتفي بهذا الأذان أم يُعاد بعد الفجر؟

التثويب في أذان الفجر وهو قول الصلاة خير من النوم متى تقال: في الأذان الأول أم الثاني؟

الخلاصة

 

تمهيد

الحمد لله الذي أمرنا عند التنازع أن نرد الأمر إلى الكتاب والسنة: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، وأمرنا الشارع الحكيم كذلك إذا اختلفنا في تأويل شيء من النصوص أن نرجع في ذلك إلى تأويل أئمتنا وولاة أمورنا من السادة العلماء والأئمة الأجلاء، في أي عصر من العصور وفي أي مصر من الأمصار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني بذلك أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لرسوخهما في العلم ومكانتهما في الدين، لأن في ذلك تضييق لدائرة الخلاف المذموم المؤدي إلى التنافر والتدابر والقطيعة.

من الأمور التي خالف فيها نفر من أهل السنة ما عليه عامتهم موضوع التثويب في أذان الصبح، هل يكون في الأذان الأول أم الثاني؟! فقد تعارف جل المسلمين في المملكة العربية السعودية وفي السودان وفي غيرهما من البلدان على أن التثويب لأذان الصبح يكون في الأذان الثاني، وقال هؤلاء النفر: بل التثويب لأذان الصبح يكون في الأذان الأول تمسكاً بظواهر بعض الأحاديث، وأحدث ذلك الخلاف شيئاً من الاضطراب لمن يجاورون تلك المساجد التي يلتزم أصحابها التثويب في الأذان الأول للصبح سيما في شهر رمضان، حيث يمسك البعض عن الأكل والشرب مباشرة ويمتنعون عن السحور إذا سمعوا المؤذن قال "الصلاة خير من النوم" لِمَا تعارفوا عليه أن هذه الكلمة لا تقال إلا في الأذان الثاني وعند بزوغ الفجر.

وبعد..

فهذا بحث عن "التثويب" عن تعريفه لغة واصطلاحاً، وعن أنواعه والتمييز بين سنيه وبدعيه، وعن حكمه ووقته في أذان الصبح، وعن أقوال أهل العلم ومذاهبهم وحججهم وتأويلهم للأحاديث الواردة في هذا الشأن، وعن أرجح الأقوال في ذلك.

والله أسأل أن يعينني على ذلك ويرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويوفقنا للاستضاءة بنور الكتاب والسنة وللصدور عن فتاوى وتأويلات علماء الإسلام المقتدى بهم قديماً وحديثاً، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، ويفقهنا وإياهم في الدين ويعلمنا التأويل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على إمام الهدى الهادي إلى سواء الصراط، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم ما تعاقب الليل والنهار.

تعريف التثويب

التثويب لغة

التثويب لغة أصله من ثاب الشيء إذا رجع، وثاب إلى عقله أي رجع عما كان عليه من الخطأ، وثوَّب الراعي أي كرر النداء، ومنها قيل للإقامة تثويب لأنها بعد الأذان، ومنه قيل لقول المؤذن "الصلاة خير من النوم" تثويب.

قال الخطابي: التثويب الإعلام بالشيء ووقوعه، وأصله أن الرجل إذا جاء فزعاً لوح بثوبه.

التثويب اصطلاحاً

التثويب في اصطلاح الشرع له ثلاثة معانٍ، اثنان سنيان والثالث بدعي، وهي:

1.  الإقامة: ورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوِّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول له: اذكر كذا، اذكر كذا"، الحديث.

2.  قول المؤذن في صلاة الصبح بعد "حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم" مرتين.

وهذان هما المعنيان السنيان المستحبان.

3.  قول بعض المؤذنين بين الأذان والإقامة: "حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم"، وذلك إذا استبطأوا مجيء الناس إلى الصلاة، أوتخصيص بعض الأمراء بعد الأذان بالذهاب إليهم في دورهم وتنبيههم بقول المؤذن: "حي على الصلاة حي على الفلاح يرحمك الله".

وهذا هو التثويب الذي كرهه عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وخرج بسببه ابن عمر من المسجد بعد الأذان، وكرهه كذلك مالك.

وقد أجازه أبو حنيفة رحمه الله، ولا ينهض عنده دليل على ذلك.

الدليل على التثويب في الفجر دون غيره

1. عن بلال رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوِّب في العشاء".

2. وعن ابن المسيب عن بلال: "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر فقيل هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم؛ فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك".

3. وروى البيهقي والطبراني وغيرهما أن بلالاً رضي الله عنه قال: الصلاة خير من النوم حين وجد النبي صلى الله عليه وسلم راقداً، فقال: "ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك".

قال الترمذي رحمه الله تحت باب "ما جاء في التثويب في الفجر": (وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب، قال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم"، وهو قول "الصلاة خير من النوم"، وهو قول ابن المبارك وأحمد.

وقال إسحاق في التثويب غير هذا، قال: التثويب المكروه هو شيء أحدثه الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة: "قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح".

قال: وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي كرهه أهل العلم، والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فسر ابن المبارك وأحمد: أن يقول المؤذن في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم" وهو قول صحيح، ويقال له "التثويب" أيضاً، وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه.

وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر: "الصلاة خير من النوم".

وروي عن مجاهد قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً وقد أذن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوَّب المؤذن، فخرج ابن عمر من المسجد وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع؛ ولم يصل فيه.

قال: وإنما كره عبد الله التثويب الذي أحدثه الناس بعد).

وقال الحطاب المالكي في "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل": (قال ابن وهب عن مالك في المجموعة: التثويب بين الأذان والإقامة في الفجر في رمضان وغيره محدث وكرهه انتهى؛ وقال في "الطراز": التثويب بين الأذان والإقامة ليس بمشروع ولا يعرف إلا الأذان والإقامة فقط، فأما دعاء في آخر الأذان غيرهما فلا، واستحب أبو حنيفة أن يثوَّب في الصبح بين الأذان والإقامة، وروى عنه أبوشجاع أنه قال: التثويب الأول في نفس الأذان يريد به: "الصلاة خير من النوم"، قال: والثاني: بين الأذان والإقامة، وروى من احتج له في ذلك أن بلالاً كان إذا أذن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حي على الصلاة حي على الفلاح يرحمك الله؛ وأنكر ذلك أصحاب الشافعي، ورووا أن عمر لما قدم مكة جاء أبومحذورة وقد أذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح؛ فقال له عمر: ويحك! أمجنون أنت، ما كان في دعائك الذي دعوت ما نأتيك حتى تأتينا؟! ولو كان سنة لم ينكره، أما مالك فقد أنكر ذلك، وقال في "العتبية": ليس التثويب بصواب، وروى عنه ابن وهب وابن حبيب أن التثويب بعد الأذان في الفجر في رمضان محدث وكرهه، يريد أنهم كانوا يتنحنحون ليعلموا الناس بالفجر فيركعون فكره ذلك، ورآه مما ابتدع، قال: ولم يبلغني أن السلام على الإمام كان في الزمن الأول؛ وذكر ابن المنذر عن الأوزاعي أنه حدث في عهد معاوية، فكان المؤذن إذا أذن على الصومعة دار إلى الأمير واختصه بأذان ثانٍ من: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ ثم يقول: الصلاة يرحمك الله؛ إلى أن قال: وعادة أهل المدينة تمنع ذلك).

حكم التثويب في أذان الصبح

حكم التثويب في أذان الفجر سنة مستحبة، وما سوى ذلك فهو بدعة محدثة.

ما يقول سامع التثويب

يقول: صدقتَ وبررتَ، وقال النووي في "الأذكار": يقول "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".

التأذين لصلاة الفجر قبل طلوعه

بعد أن أجمعت الأمة على عدم جواز التأذين للصلوات المكتوبة سوى الفجر قبل دخول وقتها لأن الأذان هو الإعلام بدخول الوقت اختلفوا في التأذين للفجر قبل طلوعه على أقوال:

الأول: يجوز التأذين للفجر قبل طلوعه، وهذا مذهب العامة من أهل العلم، والسنة أن تكون المدة بينهما قليلة جداً، فقد صح أن المدة بين أذان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما قدر ما ينزل هذا ويطلع هذا، واستحب بعض أهل العلم أن يؤذن للفجر الأذان الأول في السدس الأخير من الليل، وهو أنسب الأقوال التي وردت في ذلك.

الثاني: لا يجوز أن يؤذن للفجر قبل طلوعه، وإلى هذا ذهب سفيان الثوري وأبوحنيفة من الأئمة، وهذا قول مرجوح.

الثالث: يؤذن للفجر قبل طلوعه في كل العام إلا في رمضان، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد، وهو قول مرجوح كذلك.

الأدلة على جواز التأذين للفجر قبل طلوعه في رمضان وغيره

1.  ما خرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن أوينادي بليل، ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم".

2.  وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".

3.  قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: "لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا".

إذا أذن للفجر قبل طلوعه هل يكتفي بهذا الأذان أم يُعاد بعد الفجر؟

قولان لأهل العلم:

1.  يكتفي به، وهذا مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد.

2.  لا يكتفي به، وإلى هذا ذهب ابن خزيمة، وابن المنذر.

دليل الجمهور على الاكتفاء بالتأذين للصبح قبل طلوعه

استدل الجمهور على جواز التأذين للصبح قبل طلوع الفجر بحديث زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: "لما كان أول أذان الصبح أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله، فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول: لا؛ حتى إذا طلع الفجر" الحديث.

قال الحافظ العراقي عن هذا الحديث: (رواه أبوداود وغيره وهو صريح في الأذان للصبح قبل الوقت من غير إعادته بعد دخول الوقت).

قال الحافظ ابن حجر في شرح حديثي عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما: (قوله: "باب الأذان قبل الفجر" أي ما حكمه، هل يشرع أولا؟ وإذا شرع هل يكتفي به عن إعادة الأذان بعد الفجر أولا؟ وإلى مشروعيته مطلقاً ذهب الجمهور، وخالف الثوري وأبوحنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقاً ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث، وقال به الغزالي في "الإحياء").

قال ابن عبد البر: (وقد اختلف العلماء في جواز الأذان بالليل لصلاة الصبح، فقال أكثر العلماء بجواز ذلك، وممن أجازه مالك وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود، والطبري، وهو قول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الكوفي، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل"؛ وفي قوله هذا إخبار منه أن شأن بلال أن يؤذن للصبح بليل، يقول: فإذا جاء رمضان، فلا يمنعكم أذانه من سحوركم، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإن من شأنه أن يقارب الصبح بأذانه.

وقال أبوحنيفة والثوري ومحمد بن الحسن: لا يجوز الأذان لصلاة الفجر حتى يطلع الفجر، ومن أذن لها قبل الفجر لزمه إعادة الأذان؛ وحجة الثوري وأبي حنيفة ومن قال بقولهما: ما رواه وكيع عن جعفر بن برقان عن شداد مولى عياض بن عامر عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تؤذن حتى يتبين لك الفجر هكذا، ومد يده عرضاً".

إلى أن قال: واحتجوا أيضاً بما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: "ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فرجع فقالها"؛ وهذا حديث انفرد به حماد بن سلمة دون أصحاب أيوب وأنكروه عليه، وخَطَّؤُوه فيه، لأن سائر أصحاب أيوب يرونه عن أيوب قال: "أذن بلال مرة بليل" الحديث.

إلى أن قال: واحتجوا أيضاً بما رواه شريك عن محلل عن إبراهيم النخعي قال: شيعنا علقمة إلى مكة، فخرج بليل، فسمع مؤذناً يؤذن بليل، فقال: أمَّا هذا، فقد خالف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لو كان نائماً لكان خيراً له، فإذا طلع الفجر أذن، ومحلل ليس بالقوي).

واحتج هؤلاء كذلك بما حكاه ابن حزم عن الحسن البصري أنه قيل له: الرجل يؤذن قبل الفجر يوقط الناس؛ فغضب، وقال: علوج أفراغ، لو أدركهم عمر بن الخطاب لأوجع جنوبهم، من أذن قبل الفجر فإنما صلى أهل ذلك المسجد بإقامة لا أذان فيها؛ وعن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا إذا أذن المؤذن بليل قالوا له: اتق الله وأعد أذانك.

وحكى ابن المنذر وغيره في المسألة مذهباً ثالثاً عن طائفة من أهل الحديث إنه إن كان للمسجد مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعد الفجر فلا بأس أن يؤذن للصبح إذا كان هكذا، وبه قال ابن حزم الظاهري، فقال: يجوز أن يؤذن قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار ما يتم المؤذن أذانه، وينزل من المنارة أوالعلو ويصعد مؤذن آخر ويطلع الفجر قبل ابتداء الثاني).

قلت: لا شك في جواز الأذان للصبح قبل طلوعه وإنما الممنوع هو التبكير المخل بذلك، حيث أجاز بعضهم أن يؤذن للصبح بعد خروج الوقت الضروري للعشاء، ومنهم من قال يؤذن من بداية نصف الليل الثاني، وفي ذلك مخالفة واضحة للسنة، وللغرض من الأذان الأول، وهو أن يوقظ النائم لصلاة الصبح؛ وكذلك الممنوع الإضافات والتنبيهات التي ابتدعها كثير من المؤذنين، ولعل الذين كرهوا التأذين للصبح قبل طلوعه كرهوه لهذين السببين، وحق لهم أن يكرهوا ذلك، والله أعلم.

التثويب في أذان الفجر وهو قول "الصلاة خير من النوم" متى تقال: في الأذان الأول أم الثاني؟

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:

الأول: التثويب يكون في أذان الصبح الأول، استدل هؤلاء بالآتي:

1.  بما رواه النسائي: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من الصبح".

2.  وبما رواه أحمد: "فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل: الصلاة خير من النوم".

الثاني: التثويب يكون في أذان الصبح الثاني، وهذا الذي عليه العمل الآن في عامة بلاد الإسلام، واستدل هؤلاء بالآتي:

1. أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الثاني الذي يكون بعد دخول الوقت، والأذان الثاني الإقامة، فالإقامة تسمى أذاناً لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة".

2.  الأحاديث الواردة في أن التثويب في أذان الصبح الأول منها ما هو معلول، ومنها ما صححه بعضهم وضعفه آخرون.

الثالث: يجوز أن يكون في الأذان الأول أوالثاني، استدل هؤلاء بما رواه ابن سيرين عن أنس قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الصلاة حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم".

أقوال العلماء في ذلك

قال ابن شاس المالكي رحمه الله: (ويزيد في الصبح بعد قوله "حي على الفلاح": "الصلاة خير من النوم" وهو التثويب، وهو مثنى على المشهور، وقال ابن وهب: يقول مرة واحدة الصلاة خير من النوم؛ ومشروعيته أي التثويب في أذان الصبح على العموم، وحكى الشيخ أبو إسحاق عن مالك أنه قال: من كان في ضيعته متنحياً عن الناس أرجو أن يكون من تركها في سعة).

وقال الصنعاني في "سبل السلام" معلقاً على رواية النسائي السابقة: (وفي هذا تقييد لما أطلقته الروايات، قال ابن رسلان: وصحح هذه الرواية ابن خزيمة، قال: فشرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر، لأنه لإيقاظ النائم، وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة).

سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن موضع "الصلاة خير من النوم" في أذان الصبح، أفي الأذان الأول أم الثاني؟ وسبب السؤال أن بعض الإخوان بالخرطوم اطلعوا على ما ذكره صاحب سبل السلام أن "الصلاة خير من النوم" تقال في الأذان الأول خلاف ما عليه المسلمون الآن خاصة في المملكة، فأجابت: (الأحاديث الواردة في هذا الباب منها ما ذكر علماء الجرح والتعديل أنه معلول، ومنها ما صححه بعضهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد ما يدل على أن التثويب في الأذان الأول، وورد ما يدل على أنه في الأذان الثاني، فروى السراج والطبراني والبيهقي حديث ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: كان الأذان الأول بعد "حي على الصلاة حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم" مرتين. قال ابن حجر: وسنده حسن؛ وقال اليعمري: وهذا إسناد صحيح.

وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال: من السنة إذا قال المؤذن في الفجر "حي على الفلاح"، قال: "الصلاة خير من النوم".

قال اليعمري: وهذا إسناد صحيح، وقال الإمام بَقِي بن مُخلد حدثنـا يحيى بن عبد الحميد حدثنا أبوبكر بن عياش حدثني عبد العزيز بن رفيع سمعت أبا محذورة قال: "كنت غلاماً صبياً فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين، فلما انتهيت إلى حي على الفلاح، قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم"، ورواه النسائي من وجه آخر عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة وصححه ابن حزم.

ويمكن أن يقال بأن ما دل على أن التثويب يقال في الأذان الأول، وما دل على أنه يقال في الأذان الثاني، وقع أولاً في الأذان الأول ثم استقر الأمر على أن يقال في الأذان الثاني، إعمالاً لجميع الأدلة في ذلك كل في وقته، ويحتمل أن المراد بالأذان الأول الذي ذكر فيه ذلك، الدلالة على أن هذه الجملة تقال في الأذان لا في الإقامة، لأن الإقامة تسمى أذاناً ثانياً، وأنها يطلق عليها مع الأذان الأذان الثاني).

وسئل الشيخ العثيمين رحمه الله عن كلمة "الصلاة خير من النوم" هل هي في الأذان الأول أوفي الأذان الثاني؟ فأجاب: (كلمة "الصلاة خير من النوم" في الأذان الأول كما جاء في الحديث: "فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل: الصلاة خير من النوم"، فهي في الأذان الأول لا الثاني.

ولكن يجب أن يُعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟ هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت، والأذان الثاني هو الإقامة، لأن الإقامة تسمى "أذاناً".

إلى أن قال: أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس أذاناً للفجر، فالناس يسمون أذان آخر الليل الأذان الأول لصلاة الفجر، والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، أي لأجل النائم يقوم ويتسحر، والقائم يرجع ويتسحر.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "إذا حَضَرَت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر، إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر.

وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم "الصلاة خير من النوم" في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب.

وأما من توهم بأن المراد بالأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس له حظ في النظر.

قال بعض الناس: الدليل أن المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل لأجل صلاة النافلة أنه يقول: "الصلاة خير من النوم"، وكلمة "خير" تدل على الأفضل).

الخلاصة

الذي يترجح لدي من الأدلة وأقوال الأئمة السابقة وغيرها أن "الصلاة خير من النوم" تقال في أذان الصبح الثاني وليس الأول، وذلك للآتي:

أولاً: الأحاديث التي ورد فيها التصريح بأن "الصلاة خير من النوم" تقال في الأذان الأول فيها شيء من الاضطراب كما وضح ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، وما سلم منها أوِّل بأن المراد بالأذان الأول الأذان الثاني، نسبة للإقامة التي يطلق عليه أذاناً، ومن أهل العلم من رجح نسخ ذلك، فبعد أن كانت تقال في الأذان الأول استقرت في الأذان الثاني، ويدل على ذلك استمرار الناس عليه في معظم ديار الإسلام إلا من شذ.

الثاني: النظر الصحيح يدل على ذلك، فليس هناك شيء يمنع عن النوم المباح إلا شيء واجب، وهو دخول وقت الصبح.

الثالث: ما تعارف عليه الناس وألفوه في جل بقاع العالم الإسلامي يدل على رجحان ذلك.

الرابع: قول ذلك في الأذان الأول بعد استقراره في الأذان الثاني يؤدي إلى مفسدة أكبر وضرر أعظم خاصة في شهر رمضان، حيث يمتنع البعض عن الأكل والشرب بمجرد سماعه للصلاة خير من النوم، ولو كان بين ذلك وبين طلوع الفجر أكثر من ساعة، وفي ذلك حرج كبير وإثم عظيم.

الخامس: تجويز بعض أهل المذاهب المالكية أن يكون التثويب في أي منهما يدل على أن الأمر فيه سعة كما قال ابن شاس.

السادس: ترجيح كبار العلماء المعاصرين أعضاء اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة العربية السعودية وسماحة الشيخ العثيمين رحمه الله وغيرهم لقول ذلك في الأذان الثاني من الأسباب الرئيسة لصحة هذا القول.

سابعاً: ترك بعض السلف لسنة صحيحة لمخالفتها لعادة أهل بلد زاره يرجح الاستقرار والاستمرار على ما اعتاده الناس خاصة فيما يستند على دليل من الخبر والنظر.

ثامناً: إذا كانت المدة بين الأذان الأول والثاني قدر أن يطلع هذا وينزل هذا كما هي السنة فيكون الخلاف خلافاً لا قيمة له.

اللهم اشرح صدورنا لما اختلف فيه من الحق، وصلِّ وسلم على محمد الذي لم يُخيَّر بين أمرين ألا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً أوقطيعة رحم، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

0000000000000000000

ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون شهر رمضان

أيها الأغنياء استقبلوا رمضان بإخراج زكاتكم طيبة بها نفوسكم

رمضان زائر كريم وضيف عزيز، وشهر فضِّل على سائر الشهور، وخص بأعظم الأمور، نزول القرآن العظيم، وصيام أيامه وقيام لياليه، وأفرد بليلة فضلت على الف شهر، لهذا لابد أن يكرم المسلمون استقباله ويعلوا شأنه، من تلكم الأشياء التي ينبغي للمسلمين أن يستقبلوه بها ما يأتي:

أولاً: أن يتراءوا هلاله وهلال شعبان ورجب، ويعتنوا بذلك، لأن صيامه لا يثبت إلا برؤية هلاله أوإتمام شعبان ثلاثين يوماً.

ثانياً: أن يسروا بقدومه ويفرحوا بمجيئه لأنه موسم من مواسم الخيرات، وسوق من أسواق الآخرة الرابحات، فيه تتنزل الرحمات، وتغفر الزلات، وتضاعف الحسنات، وتفتح فيه أبواب الجنات، وتوصد فيه مردة الشياطين.

ثالثاً: التوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام والندم على ما فات، والعزم على ذلك حتى الممات.

رابعاً: رد الديون والأمانات والحقوق إلى أهلها لمن كانت عليهم، فمطل الغني ظلم، والمماطل في سداد الدين لا تقبل له صلاة ولا يرفع له عمل.

خامساً: رد المظالم إلى أهليها، واستعفاء أصحابها لمن لم يتمكن من الرد والدعاء والاستغفار لمن عجز عن ذلك.

سادساً: مراجعة القرآن الكريم لمن كان حافظاً له و تفلت منه أولبعض سوره.

سابعاً: التسامح والتصافح للمتشاحنين والمتخاصمين لأن أعمالهم لا ترفع مع أعمال العباد في كل خميس، ويا خيبة من لم يرفع له عمل في رمضان وحرم من رحمة الغفور المنان.

ثامناً: الحرص على التفرغ في هذا الشهر لمن يتيسر له ذلك، أوالتقليل من الالتزامات.

تاسعاً: إذا كان المرء من رجال الأعمال عليه أن يجرد بضاعته ويصفي حساباته، ويتحلل من ديونه ويعرف مقدار زكاته.

عاشراً: إخراج الزكاة الواجبة.

لاشك أن كل إنسان له شهر زكاة خاص به، لزكاة الأموال التي يشترط فيها حولان الحول، أوهكذا ينبغي أن يكون، لكن استحب كثير من أهل العلم للمسلم أن يجعل شهر زكاته رمضان، ومنهم من استحب المحرَّم لأنه أول السنة الهجرية، لأن الزكاة والصدقات يضاعف أجرها بفضل الزمان والمكان، وبحاجة الناس إليها؛ لهذا يجوز للمسلم أن يقدم شهر زكاته إذا وجبت عليه الزكاة حتى يتسنى له إخراجها في رمضان، ليحظى بتضعيف الأجر والثواب؛ فإخراج الزكاة في رمضان يمتاز على إخراجها في غير رمضان بالآتي:

1. مضاعفة الأجر والثواب لفضل الزمان، فالعبادة تفضل في الأزمنة الفاضلة على غيرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

2. ليتمكن الفقراء والمساكين ويتفرغوا لصيامهم وقيامهم واعتكافهم، وفي ذلك فضل عظيم وثواب جزيل لمخرجي الزكاة.

3. قوله صلى الله عليه وسلم: "من فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء".

4.  رمضان هو شهر الجود والمواساة، سئل بعض السلف: لِمَ شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع؛ ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أجود ما يكون في رمضان، فإنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فعلى الأغنياء أن يواسوا إخوانهم الفقراء بجزء من أموالهم ولا يقدر كثير منهم على ذلك إلا من الزكاة الواجبة.

5. الزكاة حق للفقراء في أموال الأغنياء: "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"، فالفقراء مشاركون للأغنياء في جزء من أموالهم، وأحوج ما يكون الفقراء لهذا الحق في رمضان، لأن الصيام يجهدهم، وقد يقعد بأكثرهم عن السعي للعمل والكسب.

6. من واجب الفقراء الدعاء للأغنياء حين يعطونهم هذا الحق: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم".

وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم صلِّ على آل ابن أبي أوفى" أوكما قال.

7. رمضان يليه العيد الذي يحتاج فيه الفقراء إلى لبس الجديد وإدخال الفرحة والسرور على أزواجهم وأبنائهم بشراء ما يحتاجون إليه في تلك المناسبة.

8. غالباً ما تطيب نفس المسلم بعمل الخير وتسخى وتجود بالنفقة عندما تزكو بالصيام والقيام، وطيب النفس بإخراج الزكاة مطلب شرعي مهم، ومقصد حسن لمخرجي الزكاة.

9. الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات دخول الجنة، فعن علي رضي الله عنه قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها؛ قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".

10.  الصيام لابد أن يقع فيه خلل فيحتاج إلى ما يكفره.

قال ابن رجب الحنبلي: (فالصدقة تجب ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث).

11.  الترغيب في الانبساط في النفقة في رمضان، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دخل رمضان فانبسطوا بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله".

والله الموفق للخيرات.

00000000000000000000000

غياب المرجعية الشرعية لدى المسلمين في هذا العصر سبب لكل بلية

كثير من الأدواء والأمراض التي تعاني منها الأمة الإسلامية في هذا العصر، وعلى رأسها التفرق، والتشرذم، والاختلاف، والتباغض، والتناحر، والتدابر، مردها إلى غياب المرجعية الشرعية التي يصدر عنها الناس عند حدوث الفتن ونزول الكوارث على الأمة، ويرضون بحكمها، ويأتمرون بأمرها، وينتهون بنهيها.

هذه المرجعية متمثلة في رسول هذه الأمة صلوات ربي وسلامه عليه أصدق تمثيل في حياته وبعد مماته بعدم تقديم قول أحد كائناً من كان وحكمه على قوله وحكمه: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم"، "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتي"، ولهذا قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

ثم كانت هذه المرجعية بعد وفاته متمثلة في الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين من بعده بصفة خاصة، وفي أصحابه الكرام بصفة عامة، لا سيما في إجماعهم، فكان المسلمون يصدرون عن رأيهم وإجماعهم ولا ينفردون عنهم بشيء عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"، وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني أبابكر وعمر رضي الله عنهما، وجاء في الأثر: "لن تجتمع أمتي على ضلالة".

عندما حدث خلل في هذه المرجعية لدى البعض في آخر عهد الخلفاء الراشدين جرى على الأمة من الويلات الشيء العظيم، وفتح باب الفتنة الذي لم يغلق ولن يغلق إلا في آخر الزمان عند نزول عيسى عليه السلام.

ثم تمثلت هذه المرجعية الشرعية في ولاة الأمر من العلماء والحكام المؤتمرين بأمر العلماء، فما فتئ المسلمون في كل عصر ومصر يلتفون حول ولاة أمرهم ويجتمعون عليهم ويصدرون عن رأيهم، ولا يبغون عنهم حولاً، حتى في عصر الضعف والانحطاط وخروج البعض على الخلافة واستبدادهم بدويلات صغيرة اقتطعوها من الدولة الإسلامية.

على الرغم من أن هذه المرجعية من الناحية النظرية موجودة ومحفوظة بحفظ الله لها إلى أبد الآبدين: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولكنها من الناحية العملية تحتاج إلى من يحرسها ويحافظ عليها ويحمل الناس عليها حملاً إذا دعا الأمر إلى ذلك وتمرد الناس عليها.

وجود هذه المرجعية مسؤولية كل مسلم مع تفاوت بينهم، لأنها من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا أهملها الجميع أثموا إثماً مبيناً لأن بها قيام الدين، وتثبيت سلطانه، وجمع كلمة أتباعه، وبفقدها يزول سلطان الدين وتضيع أحكامه، وتبدل معالمه، ولله در الإمام الماوردي عندما قال: "ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه، وطمست معالمه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وهية أثر".

فإذا تخلى الحكام أوبعضهم عن هذه المسؤولية فتبعتها تقع على ولاة الأمر من العلماء فما لا يدرك كله لا يترك جله.

هذه المرجعية الدينية العامة أوالخاصة لا تتأتى إلا بشوكة أوسلطان، فالشوكة تكون لولاة الأمر من حكام المسلمين.

والسلطان يكون لولاة الأمر من العلماء الربانيين العاملين بعلمهم المتقين لربهم.

هذا السلطان يكتسبه العلماء وينالونه بعد توفيق الله وعونه بالآتي:

1.  سلامة الاعتقاد والتصور والمنهج.

2.  التقدم والبروز في العلم الشرعي.

3.  القدوة الحسنة.

4.  الصدق والإخلاص والتجرد.

5.  التصدر لقيادة المجتمع وريادته.

6.  الثبات على المبادئ.

7.  عدم المداهنة للحكام والمجتمع، فمداهنة المجتمع لا تقل خطراً ولا ضرراً عن مداهنة ومجاراة المجتمع فيما يهوى.

8.  الزهد في الدنيا وعدم التعلق بزخارفها.

9.  البعد عن مواطن الشبه وما يسقط المروءة، ويفقد المصداقية.

10.  الأخذ بالعزائم وتجنب الرخص.

11.  التصدي لمشاكل العامة والعمل على حلها عن طريق الشفاعات الحسنة ونحوها.

12.  السعي لتعليم الناس وإرشادهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.

13.  مواساة الأتباع والعامة في الأفراح والأتراح والنوازل.

14.  البعد عن سفاسف الأمور والترفع عن الخلافات.

15.  التحلي بحسن الخلق سيما الحياء وكظم الغيظ والعفو عن الناس والجود والسخاء.

إذا توفرت هذه الشروط أوجلها، بجانب المواهب اللدنية والصفات الشخصية التي تعين على ذلك في العالم، دفعت العامة دفعاً للالتفاف حوله والانقياد له، والانصياع لتوجيهاته ونصائحه، فأصبحوا لا يصدرون إلا عن فتواه، ولا ينصاعون إلا لأمره، ولا ينقادون إلا إليه، وأجبر ذلك ولاة الأمر على تقديره واحترامه وتقريبه والرجوع إلى أمره.

ويمثل هذا الصنف من علماء السلف والخلف أصدق تمثيل سفيان الثوري والإمام أحمد، وغيرهما كثير من الأقدمين، والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما كثير في عصور التخلف والانحطاط، والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز بن باز من المتأخرين، رحم الله الجميع، فقد رفع هؤلاء وغيرهم كثير عن الأمة الحرج والإثم، لقيامهم بالواجب الكفائي، وكانوا مراجع شرعية يصدر الناس عن فتاواهم، مما أدى إلى تضييق دائرة الخلاف بين المسلمين، وعصمهم من التفرق والتباغض والتناحر.

فعلى الأمة متمثلة في أهل الحل والعقد من العلماء والدعاة أن يسعوا بجد وإخلاص وأن يخططوا ويعملوا لتوفير هذه المرجعية لكل بلد إن لم تتيسر المرجعية العامة التي ترضي كل الأمة، سيما وقد وعد الله أن يهيئ لهذه الأمة في عصورها المختلفة ويخرج لها من يجدد لها دينها كما أخبر الصادق المصدوق: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها"، أوكما قال.

وهذا ليس على الله بعزيز، فإذا علم الله من عباده صدقاً وعملاً جاداً أعانهم على ذلك، وهيأ لهم من أمرهم رشداً، ولم يكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى تدبيرهم طرفة عين، ولا أقل من ذلك.

ما كان للإمام أحمد رحمه الله بعد توفيق الله له أن يقف تلك المواقف التي شبهت بمواقف الأنبياء التي وقفها في فتنة خلق القرآن وغيرها، ولا أن يلقب بإمام أهل السنة والجماعة لولا تجرده وإخلاصه وزهده وعلمه وفقهه في الدين، مما جعل كبار الأئمة كالإمام أبي الحسن الأشعري وغيره كثير عندما تنصلوا عن عقائدهم السابقة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة كتبوا كتباً بينوا وصرحوا فيها بموافقتهم لما كان عليه أبوعبد الله أحمد بن حنبل في الاعتقاد، وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: لا يكون ولياً لله إلا على اعتقاد أحمد؛ هذا بعد أن دان له ولاة الأمر وفي مقدمتهم المتوكل.

وكذلك ما كان للمسلمين في بلاد الشام أن يلتفوا حول سلطان العلماء العز بن عبد السلام ولا الإمام النووي ولا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم لولا صدقهم وتجردهم وقيامهم بواجبهم الديني ونصحهم لله ورسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم.

فالحمد لله إذ لم يفقد المسلمون المرجعية الشرعية التي يلجأون إليها عند الشدائد والمحن، سواء كانت خاصة أم عامة، في جميع الأعصار والأمصار، على الرغم من الضعف الذي يعتريها من حين لآخر، حيث بلغ مداه في هذا العصر.

والأدلة على ذلك كثيرة سنشير إلى طرف منها، ونذكِّر بها، عسى أن يكون في ذلك دافع وحافز للخلف، حتى لا يدب اليأس والقنوط في نفوس الشباب، وليعلم الخلف مكانة العلماء عند السلف، والتفافهم حولهم، وريادة وقيادة العلماء للرعية مع وجود المرجعية الخاصة.

  حكى الذهبي في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما عن يزيد بن الأصم قال: خرج معاوية حاجاً معه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب من طلبة العلم.

  وروى الليث بن سعد عن عبد ربه بن سعيد قال: دخل أبوالزناد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه من الأتباع يعني طلبة العلم مثلُ ما مع السلطان، فمن سائل عن فريضة، ومن سائل عن الحساب، ومن سائل عن الشعر، ومن سائل عن الحديث، ومن سائل عن معضلة.

  أطلت زبيدة زوجة هارون الرشيد من نافذة فرأت موكباً عظيماً فقالت: هذا موكب من؟ فقالوا: سفيان الثوري وطلابه؛ فقالت: هذا والله هو الملك، لا ملك الرشيد بالشرط ونحوهم.

  وكان مالك رحمه الله في عصره الآمر الناهي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة، ولهذا مدحه مصعب بن عبد الله فقال:

يَدَعُ الجوابَ فلا يراجـعُ هيبة         و السائلـون نواكس الأذقان

عز الوقار ونور سلطان التقى         فهو المهيب وليس ذا سلطان

  اعتراض سلطان العلماء العز بن عبد السلام على تولية "شجرة الدر" الحكم زوجة نجم الدين أيوب، حيث تولت السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه ثم قتلته "شجرة الدر"، لأن من شروط الولاية في الإسلام الصغرى أوالكبرى الذكورية، فاستجاب المماليك للخليفة العباسي الذي قال لهم: إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً؛ ولسلطان العلماء، فأمروا أن تخلع نفسها فخلعت نفسها بعد ثمانين يوماً،حيث تنازلت لزجها "التابك أبيك التركماني".

  مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية العديدة في قيادة المجتمع وتوجيهه وترتيب الجيوش عندما غزا التتار بلاد الشام وقبل ذلك وبعده.

يقول الدكتور عبد الرحمن المحمود في كتابه "موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (وصل الأمر بكثير من الناس أنه لما هاجم التتار بلاد الشام خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء مطمئناً الناس:

يا خائفين من التتـر        لوذوا بقبر أبي عمر

لوذوا بقبر أبي عمر        ينجيكــم  من التتر

فقال لهم ابن تيمية: والله لو كان أبو عمر بين ظهرانيكم لما استطاع أن يفعل شيئاً وأنتم بهذه الحال من فساد العقيدة وعدم الأخذ بالأسباب؛ فصار يأمرهم بإخلاص الدين لله عز وجل وأن لا يستغيثوا بغيره.

فلما أصلح الناس أمورهم وأصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم الله على عدوهم نصراً مؤزراً.

وفي سنة 709هـ لما عاد السلطان محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة وأمر بإطلاق ابن تيمية من السجن وقدمه، فلما جلس ومعه العلماء والقضاة عرض الوزير على السلطان أن أهل الذمة قد عرضوا أن يدفعوا للديوان سبعمائة ألف كل سنة زيادة على الحالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض كالمسلمين فاستشار السلطان العلماء فقال لهم: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه، وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله رداً عنيفاً، جعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكنه بترفق وتؤدة وتوفير، وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقول مثله، وبالغ في التشنيع على من يوافق على ذلك، وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الحكم تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية.

  قال الدكتور عبد الرحمن المحمود: لم يكن العلماء قابعين في بيوتهم للتأليف والجمع فقط، وإنما كانوا يقومون بدور كبير في التدريس والقضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم مثل لذلك بما كتبه الإمام النووي المتوفى 676هـ إلى السلطان الظاهر بيبرس في رده على تهديد السلطان له: أما أنا نفسي فلا يضرني التهديد، ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان فإني أعتقد أن هذا واجب عليَّ وعلى غيري وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى.

  جاء في ترجمة المعتمد بن عباد كما قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان": (كان المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأكثرهم بلاداً، وكان يؤدي الضريبة "للأذفونش"، فلما ملك "طليطلة" لم يقبل ضريبة المعتمد طمعاً في أخذ بلاده، وأرسل إليه يتهدده ويقول له: تنزل عن الحصون التي بيدك ويكون لك السهل؛ فضرب المعتمد الرسول وقتل من كان معه، فبلغ الخبر "للأذفونش" وهو متوجه لحصار قرطبة، فرجع إلى طليلطة لأخذ آلات الحصار.

فلما سمع مشايخ الإسلام وفقهاؤها بذلك اجتمعوا وقالوا: هذه مدن الإسلام قد تغلب عليها الفرنج، وملوكنا مشتغلون بمقاتلة بعضهم بعضاً، وإن استمرت الحال ملك الفرنج جميع البلاد؛ وجاءوا إلى القاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم، وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين، وتشاوروا فيما يفعلونه، فقال كل واحد منهم شيئاً، وآخر ما اجتمع رأيهم عليه أن يكتبوا إلى ابن يعقوب يوسف بن تاشفين ملك الملثمين صاحب مراكش يستنجدونه، فاجتمع القاضي بالمعتمد وأخبره بما جرى، فوافقهم على أنه مصلحة، وقال له: تمضي إليه بنفسك، فامتنع فألزمه بذلك.. إلخ.

فاستجاب ملك الملثمين وعبروا البحر في عشرة آلاف مقاتل، وجمع المعتمد عساكره وتسامع المسلمون بذلك فخرجوا من كل البلاد طلباً للجهاد، وبلغ الأذفونش الخبر فخرج في أربعين ألف فارس، والتقى الجيشان، وكان النصر حليف المسلمين، وهرب الأذفونش بعد استئصال عسكره، وكان ذلك يوم الجمعة في العشر الأول من رمضان 479ﻫ.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير يدل على أهمية أن يصدر المسلمون عن مرجعية شرعية واحدة، على الأقل في المصر الواحد، وأن توحيد المرجعية هو العامل الأساس بعد الله في توحيد المسلمين وتجميعهم، وتضييق دائرة الخلاف فيما بينهم، حيث لا يمكن صلاح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولا رشاد لخلفها إلا بما رشد به سلفها، فالله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن نصر المسلمين مرتبط بنصرهم لله ولدينه: "فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً".

اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد، وهيئ للأمة الإسلامية في كل عصر ومصر أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على من نُصر بالرعب مسيرة شهر، وجُعل الذل والهوان على من خالف أمره، وعلى آله وصحبه وكل من سار على دربه.

00000000000000000

خير الناس من طال عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُه

السعيد كل السعادة من طال عمره وحسن عمله وختم له بخير فزحزح عن النار وأدخل الجنة.

ولست أرى السعادة جمع مال            ولكن التقي هو السعيـد

ويليه من تداركه الله برحمته فكان خير أعماله خواتمها وخير عمره آخره، فالعبرة بالخواتيم، ولهذا نهينا عن تمني الموت لضر يصيب الإنسان في نفسه، أوماله، أوولده، أوأهله، اللهم إلا إذا خشي الفتنة في الدين: "لا يتمنينَّ أحدُكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الحياة شراً لي".

خرج الشيخان ومالك في موطئه واللفظ له وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كان رجلان أخوان، فهلك أحدهما قبل أن يهلك صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلة الأول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم يكن الآخرُ مسلماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، وكان لا بأس به؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكم ما بلغت به صلاته، إنما مثل الصلاة كمثل نهر غمر عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي من درنه؟ فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته".

وفي رواية في غير الصحيح عن سعد: "كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوان، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما، ثم عَمَّرَ الآخر بعده أربعين ليلة، ثم توفي، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة الأول على الآخر، فقال: أولم يكن يصلي؟ فقالوا: بلى؛ وكان لا بأس به يا رسول الله" الحديث.

وفي رواية عن طلحة بن عبيد الله: "أليس هذا مكث بعده سنة؟ قالوا: بلى؛ قال: وأدرك رمضان وصامه؟ قالوا: بلى: قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟ قالوا: بلى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينهما أبعد ما بين السماء والأرض".

على المسلم أن يشكر الله عز وجل أن مد في عمره، وأتاح له من الفرص ما لم يتحها لغيره، وحضَّره مواسم خير كثيرة حُرم منها غيره: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا ثلاثة: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".

فمن بلغه الله رمضان الآتي هذا فعليه أن يحمد الله على ذلك كثيراً، وأن يشكره شكراً جزيلاً، وأن ينتهز هذه الفرصة لعله آخر رمضان في حياته شيخاً كان أم شاباً، صغيراً كان أم كبيراً، صحيحاً كان أم سقيماً، فالموت لا يفرق بين صغير وكبير، ولا صحيح ومريض.

ولله در الإمام الألبيري عندما قال مخاطباً ابنه:

ولا تقل الصبا فيه امتهال           وفكر كم صغير قد دفنتَ ؟

وتذكر أخي الكريم أن أعمار هذه الأمة بين الستين والسبعين، وقليل من يتجاوز ذلك.

اللهم استعملنا في طاعتك، وكره إلينا معصيتك.

اللهم يسرنا لليسرى وانفعنا بالذكرى.

اللهم اختم لنا بخير واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير.

والحمد لله الكريم المنان ذي الفضل والإحسان، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، خيرته من ولد عدنان.

0000000000000000000

أيها المفرط في قضاء الصوم والكفارة انتبه فإن رمضان على الأبواب

من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر لن يقضيه وإن صام الدهر كله كما قال ابن مسعود وغيره، فعليه بالتوبة النصوح والإكثار من صيام التطوع.

وأجمع أهل العلم أن من جامع عامداً ذاكراً لصومه غير مكره عليه قضاء هذا اليوم وعليه الكفارة الكبرى وهي عتق رقبة، فمن لم يجدها فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

واختلفوا فيمن تعمد الفطر بأكل أوشرب، فذهب مالك ومن وافقه أن عليه القضاء والكفارة، وذهب الجهور أن عليه القضاء فقط.

أما من جامع أهله ناسياً لصيامه فقولان لأهل العلم، منهم من قال عليه القضاء والكفارة، ومنهم من قال عليه القضاء فقط.

أما من أكل أوشرب وهو ناسٍ لصيامه في نهار رمضان فلا شيء عليه إنما أطعمه الله وسقاه، فرضاً كان صيامه أم نفلاً في أرجح قولي العلماء، وذهب مالك وشيخه ربيعة أن عليه القضاء في صيام الفرض دون النفل، والصحيح القول الأول، والله أعلم.

ومن أفطر يوماً أوأياماً من رمضان وكان من أصحاب الأعذار كالمريض والمسافر، والحائض والنفساء، والكبير والزَّمِن، والمرضع والحامل، فعليه أن يعجل قضاء ذلك بعد انقضاء رمضان وذهاب عذره مباشرة، ولا يحل له تأخير ذلك من غير عذر، لأنه لا يدري متى تأتيه منيته أويدركه عائق آخر من مرض ونحوه.

ولا يحل لأحد أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان الآخر إلا لعذر نحو استمرار المرض.

ومن أخر لعذر فعليه القضاء متى قدر عليه، ومن أخر لغير عذر فعليه القضاء والكفارة، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، وتتكرر الكفارة بتداخل السنين.

ولا ينبغي لأحد رجل كان أوامرأة أن يبرر تأخير القضاء إلى شعبان لقضاء عائشة رضي الله عنها ما عليها من رمضان في شعبان، فهذا مما خصت به لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، كما قالت: "لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني"، أي لمكان خدمته صلى الله عليه وسلم وحاجته وكثرة أسفارها معه.

فمن كان عليه قضاء أوكفارة فلينتهز هذا الشهر شعبان فيقضي ما عليه، فدين الله أحق بالقضاء وأولى.

وقضاء الصوم لا يشترط فيه التتابع والسرد، وكذلك الكفارة يجوز أن يطعم عدد ما عليه من المساكين في يوم واحد، ويجوز له أن يخص بذلك مسكيناً واحداً.

وإن مات المفرط في القضاء والكفارة يجب على أوليائه أن يخرجوا الكفارة من تركته.

أما قضاء الصوم عنه فاختلف فيه أهل العلم فمنهم من أجاز لأوليائه أن يصوموا عنه وأن يتعاونوا على ذلك، ومنهم من منع ولم يجز قضاء غير النذر من الصوم، لأن الصوم عبادة بدنية لا تجوز الإنابة فيها.

ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الكفارة لا يجوز أن تخرج نقداً وإنما تكون طعاماً، أن يعطى كل مسكين مداً من ذرة أوقمح أوأرز حسب طعام غالبية أهل البلد، أويصنع وليمة ويدعو لها الفقراء، غداء كان أم عشاء، أويذهب بهم إلى مطعم يغديهم فيه.

فالبدار البدار أخي المسلم بقضاء ما عليك من الصيام والكفارة، وعلى أولياء الأمور في البيوت أن يذكروا نساءهم وحريمهم بذلك، وأن يحثوهم ويحضوهم على ذلك كما أمرهم ربهم بذلك ووصاهم بهم: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة"، وكما وصاهم نبيهم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، فالمسؤولية الشرعية أولى من المسؤولية الدنيوية.

والله الموفق لكل خير.

00000000000000000000000

الأهلة لا تثبت بالحساب وإنما بالرؤية

تحذير بعض أهل العلم ونهيهم عن العمل بالحساب في العبادات المتعلقة بالأهلة

الخلاصة

المراجع

 

الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم الرسل وأنزل إليهم الكتب، وجعل العلماء الشرعيين ورثة الأنبياء والمرسلين حجة على العالمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فما رآه هؤلاء حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح.

وصلوات ربي وسلامه على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المسلمين، فلم يقبضه إليه إلا بعد أن دل أمته على كل خير يقربهم إلى الله ورضوانه، وحذرهم ونهاهم عن كل شر يباعد بينهم وبين غضبه وصلى نيرانه، فتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولهذا قال: "كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، وعلى آله وصحابته والتابعين.

من المعلوم من الدين ضرورة أن الأصل في العبادات أنها توقيفية، وما سواها فالأصل فيه الإباحة.

ومعلوم كذلك بخبر الصادق المصدوق أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذه الفرقة الناجية المنصورة، وسمهم بأنهم الذين يكونون على ما أنا وأصحابي عليه اليوم، أوكما قال، وهم المعروفون بأهل السنة والجماعة، نقاوة أهل القبلة أجمعين.

وبعد..

من الثوابت المسلمات التي ما كان يجادل فيها أحد من أهل السنة قاطبة إلا عُدَّ قوله من الشواذ المنكرات ثبوت الأهلة بالرؤية، وعدم التفاتهم إلى الحساب، بل اعتبروا ترائي الأهلة المتعلقة بها كبرى العبادات، كالصوم، والحج، والزكاة، ونحوها من أجل القربات، ولهذا كان أنس بن مالك رضي الله عنه وقد ناهز المائة يخرج ليتعبد ربه بترائي الأهلة.

ليس هذا ناتجاً من جهلهم بعلم الفلك، بل كان العرب قبل وبعد الإسلام من أكثر الأمم حذقاً ومعرفة بذلك، ويشهد لذلك المراصد التي كانت في عواصم الإسلام كبغداد وغيرها، ولكن ذلك للأسباب الآتية:

1. الإسلام علق كل العبادات سوى الصلاة بالتقويم القمري بالأهلة، نحو الزكاة، والصوم، والحج، وعِدَد النساء، والكفارات، والإيلاء.

2. الشرائع السابقة علقت الأحكام بالأهلة إلا أن أصحابها غيروا وحرفوا وبدلوا ذلك.

3. الإسلام دين الفطرة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث للثقلين الإنس والجن، الحاضر منهم والباد، ولهذا صح عنه أنه قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فالإسلام دين عام وليس خاصاً.

4. العمل بالحساب من أسباب تفرق الأمة.

5. تبديع أهل العلم لمن عمل بالحساب.

6. العمل بالحساب شعار أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم.

7. العمل بالحساب فيه تبديل وتحريف لدين الله عز وجل.

8. العمل بالحساب فيه تشبه بالكفار المفضي إلى غضب الجبار.

9.  النصوص العديدة التي تنهى وتحذر من العمل بالحساب وتوجب العمل بالرؤيا، نذكر طرفاً منها:

"فمن شهد منكم الشهر فليصمه".

"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج".

"إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض".

قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

وفي رواية لمسلم: "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً".

قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، يدل على أنه حتى في حال الغمام وتعسر الرؤية لا يُعمل ولا يُلتفت إلى الحساب، ولو كان ذلك جائزاً لأرشد إليه أمته صلى الله عليه وسلم.

10.  إجماع الأمة على عدم الاعتداد بالحساب.

11. الخلاف الذي لا يقوم على دليل لا قيمة له، ولهذا قال بعض أهل العلم: من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله؛ ونهوا عن شذوذ الأقوال.

12. لم يقل بالعمل بالحساب حتى إذا غم الهلال إلا بعض أهل العلم، وعد ذلك من شذوذهم وسقطاتهم، كابن سريج من الشافعية، بل الحاسب والمنجم لا يحل لهما أن يصوما أويفطرا بالحساب، دعك أن يصوما أويفطرا غيرهما.

13.  هذا ما كان عليه أهل القرون الثلاثة الفاضلة وأهل السنة المحدثين قاطبة إلا من شذ.

14.  العمل بالحساب من باب التكليف بما لا يطاق الذي تنزهت عنه الشريعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "رسالة الهلال" المضمنة في فتاويه: (فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أوالحج، أوالعدة، أوالإيلاء، أوغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أولا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أوتعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم.

وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال، وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية، وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام، وقد برأ الله منها جعفراً وغيره).

ã

تحذير بعض أهل العلم ونهيهم عن العمل بالحساب في العبادات المتعلقة بالأهلة

لقد نصح كثير من أهل العلم قديماً وحديثاً لإخوانهم المسلمين وحذروهم من العمل بالحساب في الحج، والزكاة، والعدة، والإيلاء، وغيرها، وكان المسلمون في الماضي مؤتمرين بأمر ولاة الأمر من العلماء والحكام المؤتمرين بأمر العلماء، عملاً بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، حتى غشانا هذا العصر الذي ابتلي فيه المسلمون بالتشبه بالكافرين، وأضحى فيه الجدل والمراء في المسلمات من سمات هذا العصر، وعم فيه وطم التأويل المشؤوم المذموم الذي أفرغ كثيراً من النصوص من مدلولاتها الشرعية، وفاق بعض المسلمين عمرو بن لحي الخزاعي في تحريفه لملة إبراهيم، الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه أي أمعاءه في نار جهنم، بسبب هذا التحريف والتبديل، حيث رفع البعض عقيرته وأطلق لسانه في شتم وسب وانتقاص من يعارض ما تواطأ عليه البعض ولو كان بيِّن المخالفة لما جاء به رسول رب العالمين، حدث هذا وغيره بسبب اختلال المفاهيم، واختلاف الموازين، ولغياب المرجعية الشرعية التي ينبغي أن يصدر عنها الجميع.

إليك طرفاً أخي القارئ من أقوال أهل العلم المقتدى بهم من الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم، حتى لا تظنن ظناً يوردك المهالك، وأنت لا تشعر أن هذا القول من تنطع المتنطعين وتشددهم، وقول من يريد أن يحمل الناس على ما يعتقد كما يزعم البعض.

  قال النووي في المجموع: (قال المصنف الشيرازي الشافعي في مختصره المهذب-: إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب، ومنازل القمر، وعرف بالحساب أنه من رمضان، فوجهان، قال ابن سريج: يلزمه الصوم لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه من عرفه بالبينة، وقال غيره: لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية، هذا كلام المصنف، ووافقه على هذه العبارة جماعة، وقال الدارمي: لا يصوم بقول منجم؛ وقال قوم: يلزم؛ قال: فإن صام بقوله فهل يجزئه عن فرضه؟ فيه وجهان، وقال صاحب البيان: إذا عرف بحساب المنازل أن غداً من رمضان، أوأخبره عارف بذلك فصدقه فنوى وصام بقوله فوجهان، أحدهما يجزيه، قاله ابن سريج، واختاره القاضي أبو الطيب لأنه سبب حصل به غلب ظن، فأشبه ما لو أخبره ثقة عن مشاهدة؛ والثاني: لا يجزيه لأن النجوم والحساب لا مدخل لهما في العبادات، قال: وهل يلزمه الصوم بذلك؟ قال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا، وذكر صاحب المهذب أن الوجهين في الوجوب، هذا كلام صاحب البيان، وقطع صاحب العدة بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما، وقال المتولي: لا يعمل غير الحاسب بقوله، وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب؟ فيه وجهان، أصحهما لا يلزمه، وقال الرافعي: لا يجب بما يقتضيه حساب المنجم عليه ولا على غيره الصوم، قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به على أصح الوجهين، وأما الجواز فقال البغوي: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم ولا في الفطر، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه فيه وجهان؛ وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم بوجود الهلال، وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي أبي الطيب؛ قال: فلو عرفه بالنجوم لم يجز الصوم قطعاً؛ قال الرافعي: ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم، هذا آخر كلام الرافعي، فحصل في المسألة خمسة أوجه:

أصحها: لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، ولكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما.

والثاني: يجوز لهما ويجزئهما.

والثالث: يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجم.

والرابع: يجوز لهما ويجوز لغيرهما تقليدهما.

والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم، والله أعلم).

  وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه": (فرض علينا عند غمَّة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، حتى ندخل في العبادة بيقين، ونخرج عنها بيقين، وقال في كتابه: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، وروى الأئمة الأثبات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة"، وفي رواية: "فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين"، وقد ذهب مُطرِّف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: يُعَوَّل على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى أنه لو كان صحواً لرؤي، لقوله عليه السلام: "فإن عُمي عليكم فاقدروا له"، أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه؛ وقال الجمهور: معنى "فاقدروا له" فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة: "فأكملوا العدة"؛ وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله: "فاقدروا له"، أي قدروا المنازل، وهذا لا نعلم أحداً قال به إلا بعض أصحاب الشافعي، أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم، وقد روى ابن نافع عن مالك: الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: أنه لا يقتدى به ولا يتبع؛ قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يُعَوَّل على الحساب، وهي عثرة لا لعًا لها).

قلت: حاشا الإمام الشافعي النبيه أن يصدر منه هذا الكلام وهو القائل: "إذا وجدتم الحديث في قارعة الطريق فهو مذهبي، وهو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، فيدع قول نبيه لقول أهل الحساب المغرورين والمنجمين المخدوعين.

  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة "رسالة الهلال": (وكان مقتضى تقدم هذه "المقدمة" أني رأيت الناس في شهر صومهم وفي غيره أيضاً منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب، من أن الهلال يرى، أولا يرى، ويبني على ذلك، إما في باطنه، وإما في باطنه وظاهره، حتى بلغني أن من القضاة من يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب أنه يُرى أولا يُرى؛ فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه؛ وربما أجاز شهادة غير المرضي لقوله، فيكون هذا الحاكم من السماعين للكذب، فإن الآية تتناول حكام السوء.

إلى أن قال: وفيهم من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر، لكن في قلبه حسيكة من ذلك، وشبهته قوية لثقته به، من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك، لا سيما إن كان قد عرف شيئاً من حساب النَّـيِّـرَيْن، واجتماع القرصين، ومفارقة أحدهما الآخر بعدة درجات، وسبب الإهلال والإبدار والاستتار والكسوف والخسوف، فأجرى حكم الحاسب الكاذب الجاهل بالرؤية في هذا المجرى.

إلى أن قال مكذباً ما نسبه بعض المالكية للشافعي رحمه الله: وحكاه بعض المالكية عن الشافعي أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة).

  وقالت هيئة كبار العلماء في ردها على سؤال ورد عليها في هل يجوز العمل بالحساب في العبادات أم لا؟: (أولاً: القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة"، من أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.

ثانياً: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال، ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم، مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فيجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال، وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه).

ã

الخلاصة

1. أن العمل بالحساب لا يحل أبداً في إثبات الأهلة، لا في حال الغيم ولا الصحو، لا للحاسب والمنجم ولا لمن قلدهما.

2. من صام بالحساب لا يجزئه صومه ولا فطره لذلك.

3. الحاكم الذي يلزم الناس بالحساب لا تجوز طاعته في ذلك كما قال مالك، لأن الطاعة لا تكون إلا في المعروف.

4. على المسؤولين أن يتقوا الله في دينهم وإسلامهم، وليحذروا التبديل والتغيير فيه.

5. لا يجوز للهيئات ومجالس الفتوى أن تتهاون في هذا الأمر أوتساير ما يهواه بعض الحكام، ولئلا يتحملوا وزر تصويم الناس وإفطارهم بغير وجه حق، وعليهم الاقتداء والتأسي بالإمام الشهيد والقاضي الرشيد محمد بن الحُبُلي قاضي مدينة "برقة" في وقته، الذي رفض أن ينصاع لأمر العبيديين في تفطير الناس بالحساب، وقتل صابراً محتسباً، ظلماً وعدواناً، فعلى من قتله لعائن الله المتتاليات مصحوبة بغضبه.

ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته: (أتاه أمير برقة فقال: غداً العيد؛ قال: لم نر الهلال، ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم؛ فقال: بهذا جاء كتاب المنصور وكان هذا من رأي العبيديين يفطرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية فلم يُر هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي؛ فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه فأحضر، فقال له: تنصل، وأعفو عنك؛ فامتنع، فأمر فعُلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين).

لهذا فقد تعجبت واستغربت جداً مما صدر من دائرة العلوم الطبيعية والتطبيقية التابعة لمجمع الفقه الإسلامي بعنوان "بيانات حول الأهلة لعام 1425ﻫ" من غير تاريخ، وحددوا فيه أوائل الشهور: رجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذي الحجة بالحساب، لما فيه من رد للنصوص الصحيحة الصريحة وإجماع الأمة، فتعين الرد عليه نصحاً للأمة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ومعذرة إلى الله، ولعلهم يرجعون.

فاختر لنفسك طريقة أهل السنة، واصبر عليها، واحذر طريقة الرافضة المخذولين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين، ونبياً للأميين، وإماماً للمهتدين، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ã

المراجع

   الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الحنفي.

   ثبوت الأهلة بين الرؤية والحساب للأمين الحاج مسودة.

   الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

   سير أعلام النبلاء للذهبي.

   فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية.

   مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية

000000000000000000000

أيها المسلمون دارفور تستغيث بكم فأغيثوها

حقيقة المشكلة في دارفور

الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى تفاقم الأمر في دارفوروتصعيدها

ما يجب على المسلمين عمله لاحتواء هذه الفتنة

يمكن أن يكون العمل لنصرة هذه القضية ودفع الفتنة في المسارات الاتيه

 

من أخطر الوسائل التي انتهجها وسلكها الكفار في حربهم الصليبية بقيادة الاتحاد اليهودي الكنسي الذي تتزعمه أمريكا في هذا العصر ضد الإسلام والمسلمين مبررين به غزوهم لبعض البلاد الإسلامية الواحدة تلو الأخرى الشعارات الكاذبة، والمصطلحات المضللة، معتمدين قي ذلك على وسائلهم الإعلامية وغيرها في إشهار وإعلان ما يريدون إشهاره وإعلانه، والتعتيم على جرائمهم ومخازيهم، بالترغيب أحيانا والترهيب والتخويف أحيانا أخرى، وبالقصف والاغتيالات إن دعا الحال، ضاربين عرض الحائط بكل الأعراف الدولية، والكذب وتحريه حتى يصدقهم من ليس له معرفة بمكرهم الكبار وحقدهم الفوار الذي أعمى قلوبهم وأبصارهم.

لقد برعوا في اختلاق وافتراء هذه الشعارات، وتفننوا في ذلك فأفغانستان غزيت واستعمرت بحجة القضاء على الإرهاب، والعراق غزي بحجة تخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل، ودارفور تغزى الآن وتفكك وحدة السودان بكذبة مغايرة وهي التطهير العرقي للجنس الأفريقي الذي مارسه شذاذ الآفاق من قبل من الأوربيين عندما غزوا أمريكا على سكانها الأصليين وهم الهنود الحمر، وكما قيل رمتني بدائها وانسلت.

حقيقة المشكلة في دارفور

لا شك أن أصل المشكلة في دارفور وفي غيرها من البلاد التي يحترف سكانها الرعي، هي نزاع بين المزارعين والرعاة في المرعى وفي تعدي أصحاب المواشي على المزارعين في بعض الأحيان، وفي محاولة السيطرة على موارد المياه السطحية والمؤقتة الشحيحة لها، هذا هو أصل المشكلة قبل أن يستغلها أصحاب الأطماع من السياسين، وتسيَّس وتدوَّل، وتتحول بقدرة قادر الى مشكلة تطهير عرقي وابادة جماعية للزرقة كما زعموا، وبهذا عللوا دخولهم السافر غير المقيد في دارفور، وغزوها تدريجياً عن طريق المنظمات الكنسية التي ظاهرها الغوث والاعانة، وباطنها التنصير وتفكيك وحدة السودان ووقف المد العربي الاسلامي، ثم ارسال الجيوش بحجة حفظ الأمن؛ باختصار شديد فإن حقيقة المشكلة تكمن في الآتي:

بالنسبة لمدبري الفتنة ومؤججي نارها من زعماء القبائل وقادتها

   إرضاء النزعات والأحقاد الشخصية.

   الأمل في الحصول على بعض المصالح السياسية والسلطة.

   تنفيذ بعض مخططات الكفار مقابل حطام من الدنيا بالنسبة للكفار وغيرهم.

   محاولة ضرب الاسلام.

   اضعاف الولاء الديني.

   التغلغل في دارفور حتى يزرعوا فيها ما زرعوا وحصدوا في الجنوب.

   العمل على تفكيك وحدة السودان.

   وقف المد العربي الاسلامي إلى عمق القارة الإفريقية.

الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى تفاقم الأمر في دارفوروتصعيدها

ما ذكرناه آنفاً بعض الأسباب المباشرة، وهناك أسباب غير مباشرة كثيرة ساعدت واستغلت في تصعيد المشكلة، وزادت من خطورتها وحدتها.

وهذه الأسباب عبارة عن ترسبات قديمة:

   الجهل بحرمة المسلم وحقه نحو اخوانه المسلمين وتحريم دمه وعرضه وماله حرمة لا تنفك أبداً.

   ضغف الاخوة الإسلامية.

   ضعف الوازع الديني.

   الأثرة وحب الذات.

   التربية الحزبية لدى السودانين عموماً.

   الجهل بتعاليم الإسلام.

   الضعف الاداري.

   عدم الحزم والردع أو تأخره لمن يتعدى على الآخرين.

   شح موارد المياه في المنطقة.

ما يجب على المسلمين عمله لاحتواء هذه الفتنة

ما ذكرناه سابقاً عبارة عن مقدمات وتوطئات لهذه الفتنة، وقد وضح أن الهدف من تصعيدها وتدويلها ضرب الاسلام والمسلمين وتفكيك وحدة السودان، واضعاف الروابط الدينية والاخوة الايمانية وأنها أكبر بكثير من إمكانات السودان الرسمية والشعبية، وأنها تحتاج إلى تضافر جهود كل المسلمين في دارفور وكل السودان خاصة ،وفي كل العالم العربي والاسلامي بصفة عامة وإلاّ سيحل بالمسلمين في تلك الديار وما جاورها ما حل بالأندلس، خاب مكرهم، وضل سعيهم.

ولا يظن ظان أن هذه الحملة المسعورة، وذلك التدخل السافر، والظلم البين الغرض منه القضاء على الجنس العربي فقط، وإنما هم سيكونون ضربة البداية وإلاّ فهدفها كل مسلم مصداقاً لقوله عز وجل: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، ومن يأمن مكر الكفار ويثق في وعودهم فقد خاب وخسر؛ فالمكر كبير، والتدخل خطير، والهدف الأول والحقيقي لهذا الغزو ليس بالأمر اليسير.

هذا النداء موجه إلى كل مسلم ومسلمة داخل السودان وخارجه على حد سواء، حاكماً كان أم محكوماً، عالماً كان أم جاهلاً، غنياً كان أم فقيراً ،فالكل مسئول، ولكلٍ دور يمكن أن يؤديه بدءاً بتبصيرالمسلمين عامة بخطورة المشكلة وفداحة الفتنة في كل وسائل الإعلام، ومرورا بجمع المال والتبرعات، ولاتحقرن أخي المسلم ما تقدمه في هذا الجانب، وانتهاء بزيارة تلك الديار ومواساة أهلها فيما حل بهم من خراب ودمار وتدخل، وإعانتهم، وتقديم الخدمات لهم، ورفع روحهم المعنوية، وهذا هو أقل حقوق الأخوة الايمانية وأضعف واجب نحو هذا الدين.

فقد صح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".

وصح عنه كذلك أنه قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

وصح عنه كذلك أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".

فما من مسلم إلاّ ويمكن أن يقوم بدور ما، لأنه إن عجز عن كل شئ فلن يعجز عن أمور منها:

الاهتمام والمتابعة.

الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.

تبصرة غيره من المسلمين بخطورة هذه الفتنة ويدعوه أن يسهم في حلها وتقليل خطرها، فقد ينال العاجز والمعذور بنيته الصادقه ما لم يناله غيرهما: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلاّ وهم معنا، حبسهم العذر"، قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك.

من العيب الكبير والتقصير الخطير، أن يحرص الكفار على باطلهم ويخططوا وينفقوا ويتقاعس المسلمون عن القيام بواجبهم ويقصروا في نصرة اخوانهم والدفاع عن دينهم وعقيدتهم.

يمكن أن يكون العمل لنصرة هذه القضية ودفع الفتنة في المسارات الاتيه:

أولاً: الإعلام والتبصير بالقضية وبيان الهدف الحقيقي وراء هذا التدخل السافر والغزو الماكر.

ويقع عبء ذلك على أئمة المساجد والدعاة ووسائل الاعلام المختلفة المقرؤة والمسموعة والمشاهدة في الداخل والخارج .

ثانياً: جمع المال والتبرعات: كثير من المنظمات الكنسية تجبرالنصارى في تلك البلاد على دعم العمل الكنسي الشيطاني، ويتولى كبر هذه الجريمة مجلس الكنائس العالمي، وهؤلاء وصف الله حالهم بقوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدواعن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون".

والمسلم وعده الله بالخلف في الإنفاق في سبل الخير المختلفة: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين"، فحري به أن يسارع إلى ذلك، وعلى التجار والموسرين تقع مسئولية توفير المال.

ثالثاً: الذهاب إلى دارفور لمن يتيسر لهم ذلك من العلماء، والدعاة، ورجال الأعمال، حتى يطلعوا على حجم الفتنة والمؤامرة: "فمن رأى ليس كمن سمع"، هذا بجانب ما في تلك الزيارة من المواساة وإعادة الثقة إلى نفوس أهل المنطقة.

رابعاً : انشاء مساجد من الخيام وغيرها في معسكرات اللاجئين وتزويده بالأئمة، والدعاة، والمصاحف، والكتيبات.

خامساً : العمل الإنساني الاسلامي في مجال الغوث والعون ضعيف جداً فلا بد من حث المنظمات والمسؤلين من مد يد العون بما يناسب حجم المآساة، بحيث لا يكون ما يقدمه الكفار فتنة للذين آمنوا .

سادساً: في مجال الصحة والعلاج فتح المجال للمطوعين من الأطباء والممرضين ونحوهم ، وتزويدهم بالأدوية التي يحتاج إليها هناك .

سابعاً عقد مؤتمرات واجتماعات لجميع المهتمين بأمر الدعوة في السودان وتمليكهم المعلومات الضرورية الغائبة عنهم .

ثامناً: فتح مجال التبرعات في المساجد وغيرها.

تاسعاً : التهيئة الشعبية وتهيئة المسلمين للدفاع عن دينهم ووطنهم إذا احتاج الأمر لا قدر الله  تحسباًلماوعد به الكفار من الأمريكان والبريطان و الألمان وغيرهم.

عاشراً : العمل على توحيد الأمة وجمع الكلمة.

أحد عشر : التنسيق بين الجهود الرسمية والشعبية

 

وأخيراً أرجو من اخواني المسلمين ممن لهم علاقة بهذه الفتنة من قريب أو بعيد أن يتقوا الله في اسلامهم وأن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا وأن يؤثروا الباقية على الفانية ،ومصلحة الدين على مصالحهم الذاتية ،ويعملوا على احتوائها واطفائها ،وليحذروا أن يؤتى الإسلام من قبلهم.

والله أسال أن يحفظ علينا ديننا وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولامبلغ علمنا وأن لا يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد القائل عن العصبية: "دعوها فإنها منتنة"، والناهي عن القتال في الفتنة وتحت الراية العمية، وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

000000000000000000000

بمناسبة مأساة دارفور "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقابَ بعض"

مما خُصَّ به نبينا الكريم ورسولنا العظيم على سائر الأنبياء والمرسلين أن معجزته الكبرى وهي القرآن الكريم باقية خالدة ما بقيت الدنيا، لتكفل الله عز وجل بحفظها، لحاجة البشرية إليها، هذا بجانب معجزاته الخبرية الكثيرة التي تدل في كل وقت وحين على صدق رسالته وحقيقة نبوته، وتزيد في صدق الصادقين، وتكشف زيف الشاكين فيه.

لم يتضح لي مغزى تركيز الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة الفريدة في حجة الوداع على تعظيم حرمة المسلم وماله وعرضه على إخوانه المسلمين من أول وهلة، وتحذيره من قتل المسلم لأخيه المسلم وعن القتال في الفتنة وتحت الرايات العمية، إلا بعد الاطلاع على المآسي العظيمة والكوارث الجسيمة التي لحقت بالإسلام والمسلمين في الماضي، وإلا بعد شهود التحارب والتدابر الذي دار في هذا العصر في بعض ديار الإسلام، في أفغانستان، والصومال، وفي ثالثة الأثافي فتنة دارفور التي نكتوي بنارها هذه الأيام، حيث يقاتل المسلم أخاه المسلم، وينال من ماله وعرضه، ويحاول استئصاله والقضاء عليه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، مستعيناً في ذلك بالكفار والمفسدين من أعداء الملة والدين، غير ملتفت ولا مستمع لما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وغير مكترث لمغبة ونتائج هذا التحارب والتدابر، نحو:

1. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

2. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

لقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الكفر على هذا الفعل لشناعته وقبحه، ومبالغة في التحذير منه، لينزجر السامع عن الإقدام عليه.

3. وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "أتدرون أيُّ يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قلنا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فإنه ربَّ مبلغ يبلغه من هو أوعى له، فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار"، قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه".

5. وقال عبد الله بن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

عندما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم بين علي وعائشة، وطلحة، والزبير، ومن معهم من ناحية، وبين علي ومعاوية من ناحية أخرى، لم يزد عدد الذين شاركوا فيها على الأربعين من الصحابة، من جملة عشرة آلاف، وحتى أولئك الأربعين لم يبادر أحد منهم بالقتال، ولكن دعاة الفتنة ومؤججي الحرب بين هذه الطوائف هم الذين أشعلوا نار القتال وتولوا كبرها، وكان المشاركون من الصحابة رضوان الله عليهم متأولين، ولم يكن علي ولا غيره منشرحاً لقتال أهل الجمل وصفين كانشراحه لقتال أهل الأهواء في النهروان، بل قال مبشراً قاتل الزبير: "بشِّر قاتل ابن صفية بالنار".

وكان الصحابة رضوان الله عليهم ساعة القتال وبعده موالين لإخوانهم المسلمين، فكان يصلي بعضهم على قتلى بعض، ويترحَّمون عليهم، وقد استقبل علي رضي الله عنه عائشة بعد الجمل أجمل استقبال، وأكرمها أيما إكرام، وأخرج الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة، وأخرجها في عدد من النساء إلى المدينة.

لقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتن، ونهى عنه أشد النهي، ونهى عن ذلك أصحابه والسلف الصالح، ومما جاء في ذلك ما يأتي:

1.  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ ومعاذاً فليعذ به".

2.  وعن أبي بكرة رضي الله عنه عند مسلم: "فإذا نزلت فمن كان له إبل فليحلق بإبله وذكر الغنم والأرض؛ قال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينجو إن استطاع".

3.  وعن ابن مسعود رضي الله عنه في الفتنة: "قلتُ: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركتُ ذلك؟ قال: كفَّ يدك ولسانك، وادخل دارك؛ قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن دخل رجل عليَّ بيتي؟ قال: فادخل مسجدك وقبض بيمينه على الكوع وقل: ربِّي الله، حتى تموت على ذلك".

4. وعن جندب رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني عند نزول الفتنة: "ادخلوا بيوتكم، وأخملوا ذكركم؛ قال: أرأيتَ إن دُخِل على أحدنا بيته؟ قال: ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل".

5. وعن خرشة بن الحُرِّ يرفعه: "فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة فليضربه بها حتى ينكسر، ثم ليضطجع لها حتى تنجلي".

6. وعن أبي بكرة عند مسلم: "قال رجل: يا رسول الله، إن أكرهتُ حتى يُنْطلق بي إلى أحد الصَّفين، فجاء سهم أوضربني رجل بسيف؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك".

7. وقال أبو بكرة رضي الله عنه رداً على من ظن أنه سيقاتل أحداً من المسلمين ولو دخل عليه داره: "لو دخلوا عليَّ داري ما رفعتُ عليهم قصبة، لأني لا أرى قتال المسلمين، فكيف أقاتلهم بسلاح؟".

يجب على المسلمين عامة، وعلى ولاة الأمر خاصة من العلماء والحكام، عند نزول الفتن بين المسلمين السعي الحثيث للإصلاح بين المتقاتلين، وعدم تأجيج نار القتال، امتثالاً لأمر ربهم: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".

وعملاً بنصيحة رسولهم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصرُه إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أوتمنعه- من الظلم فإن ذلك نصره".

والعمل على تحكيم الشرع والعقل، وعدم الخضوع لأعداء الدين المتظاهرين بنصرة المظلومين، الصائدين في الماء العكر، إذ هدفهم تحقيق مآربهم، وتفكيك وحدة المسلمين، والطعن في الأخوة الإيمانية، وإحياء النعرات العرقية والعنصرية.

قال الإمام الطبري رحمه الله معلقاً على الأحاديث التي وردت في الفتن، وتنهى وتحذر عن قتال المسلم، وتأمر بحرمة دم المسلم وماله وعرضه:

(اختلف السلف، فحمل ذلك بعضهم:

1. على العموم، وهم من قعد عن الدخـول في القتال بين المسلمين مطلقاً، كسعد، وابن عمر، ومحمد بن مَسْلمة، وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها.

ثم اختلف هؤلاء:

أ.  فقالت طائفة بلزوم البيوت.

ب. وقالت طائفة بالتحول عن بلد الفتن أصلاً.

ثم اختلفوا:

أ.  فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قُتِل.

ب. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله، وعن أهله، وهو معذور إن قَتَلَ أوقُتِل.

2. وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب، وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور.

3. وفصَّل آخرون، فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة، فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك، وهو قول الأوزاعي.

قال الطبري: والصواب أن يقال: إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.

4. وذهب آخرون إلى أن الأحاديث في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك.

5. وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث يحصل التحقق إنما هي في طلب الملك، وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرتُ إليه: "قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: أيام الهَرْج؛ قلت: ومتى؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه").

وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على تلك الأحاديث: (وفيها التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتن ما ينشأ عن الاختلاف في طلب المُلك، حيث لا يُعلم المحق من المبطل).

على المسؤولين من الحكام وقادة وزعماء هذه الفئات المتقاتلة المتنافرة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم أولاً، وفي إسلامهم ثانياً، وفي أهلهيهم ثالثاً، وفي غيرهم من المسلمين رابعاً، وليعلموا أنه لن تزول قدما أحد منهم عن الصراط حتى يسأل عن كل دم أريق، وكل عرض انتهك، وعن كل حق اغتصب، وعن كل زرع أحرق، وبهيمة نهبت، وعن عدم الاستقرار والاطمئنان الذي أصاب تلك البقعة الآمنة من بلاد المسلمين، وأولئك السكان الأبرياء من إخواننا المسلمين، وعن فتح المجال لتدخل المنظمات الكنسية الحاقدة على الإسلام والمسلمين بحجة تقديم العون، والغذاء، والدواء للنازحين، وهم في الحقيقة يزرعون الحقد، ويشيعون البغضاء بين إخوة العقيدة، ويؤججون الفتنة، ويحملون معهم الأسلحة فهم مفسدون في الأرض، محاربون لله ولرسوله.

واعلم أخي الحبيب أن وحدة الأمة الحقيقية في إسلامها وسلامة عقيدتها، ليس في أعراقها ولا قبائلها وأجناسها، فكل الخلق من آدم، وآدم من تراب.

لقد امتن الله عز وجل على الأوس والخزرج الذين كادت الحروب الأهلية أن تبيدهم وتفنيهم بعد دخولهم في الإسلام، واعتصامهم بحبله المتين: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".

فالعاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه.

لا ينبغي لمن كانت له كلمة من أهالي تلك المنطقة أوغيرهم أن يقف متفرجاً، وليعلم أن الشر يعم والخير يخص، وليتق الجميع فتنة لا تبقي ولا تذر: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".

والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم أسباب الفرقة والخصام، ويعينهم على التمسك والتخلق بأخلاق الإسلام، والانصياع لنصيحة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعلى آله وأصحابه الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

0000000000000000000

فتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وكفارتها

أخطر صور الفتن التي تصيب المرء في ماله، وأهله، وولده

أولاً: النهي والتثبيط عن الغزو، والجهاد، والهجرة، والصدقة، وغيرها من سبل الخير

ثانياً: أن يضطروه ويجبروه على المكاسب المحرمة والمشبوهة

ثالثاً: أن يحابي بعض أزواجه وأولاده دون بعض

رابعاً: عدم الصبر والثبات إذا أصيب في شيء من ماله، أوأهله، أوولده

خامساً: غلبة العواطف، فيلبي جميع الكماليات، ويقصِّر في أوجب الواجبات

سادساً: أن يكونوا سبباً في جبنه وبخله

سابعاً: أن يكونوا سبباً في عقوق والديك وتشاغلك عنهم

ثامناً: أن يشغلوه عن طاعة ربه وتقصيره فيها

كفارة فتنة الرجل بماله، وأهله، وولده، وغيرهم

 

الفتنة هي الاختبار والامتحان والابتلاء يصيب بها ربنا سبحانه وتعالى من عباده  من يشاء ويصرفها عمن يشاء، لا رادَّ لحكمه ولا معقب لأمره، والفتن تنقسم إلى قسمين من حيث أصلها ومصدرها:

1. فتن صادرة من الله عز وجل لحكمة يعلمها هو، وهي بعض المصائب والنكبات التي تقع على العبد، صالحاً كان أم طالحاً، الصالح لرفع درجته، والطالح لتطهيره وتزكيته، "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كالقتل، والتعذيب، والفقر، والمرض، والحبس، ونحوها، في النفس، والأهل، والولد.

2.  وفتن صادرة من الإنسان، كالمعاصي والآثام والمخالفات العظام المذمومة.

ومن حيث حجم الفتن وخطرها فإنها تنقسم إلى قسمين كبيرين كذلك:

1.  صغرى.

2.  وكبرى.

أوخاصة وعامة، فالصغرى الخاصة كفتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وجاره، ورحمه، وحاسديه، والفتنة الخاصة قد يكون الدافع إليها والباعث عليها شدة أورخاء، أوفقر أوغناء، أوصحة وفتوة، أومرض وضعف، أوهوى.

إن الشباب والفراغ والجدة             مفسدة للمـرء أي مفسـدة

والله نسأل أن يجنبنا الفتن، عامها وخاصها، جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها، ما ظهر منها وما بطن، ما خص منها وما عم.

كان السلف الصالح رضوان الله عليهم عند نزول الفتن والبلاء يتمثلون بقول امرئ القيس محذرين من خطورتها، ومنبهين لعدم الدخول فيها، ومخوفين من نتائجها، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله:

الحربُ أولُ ما تكـون فتيــةً            تسعى بزينتها لكل  جهـول

حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضرامُها           وَلتْ عجوزاً غير ذات حليل

شمطاءُ يُنكرُ لونُهـا و تغيـرت           مكروهـةً للشم و التقبيــل

خطورة الفتن كامنة في عمومها وشمولها، فالخير يخص والشر يعم، ولهذا قال ربنا سبحانه وتعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"، ومن أقوى أسباب شمول الفتن وعمومها إقرار المنكر والرضى به، وعدم إنكاره، ومعاشرة ومساكنة مرتكبيه.

فيجب على المسلمين عامة وعلى العلماء خاصة إنكار المنكر حسب الطاقة، وأقل درجات الإنكار هي الإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان.

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: "واتقوا فتنة..": "أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب"، ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم.

قال القرطبي: (قال علماؤنا: الفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة، والهرب منها).

خرج البخاري في صحيحه في كتاب الفتن باب "الفتنة التي تموج كموج البحر" بسنده إلى شقيق قال: "سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر، إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، يكفِّرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر؛ فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً؛ قال عمر: أيُكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا، بل يُكسر؛ قال عمر: إذاً لا يغلق أبداً؛ قلت: أجل؛ قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غدٍ ليلة، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط؛ فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر".

لقد خصَّ الله عز وجل عمرَ رضي الله عنه بخصائص انفرد بها من غيره عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها:

1.  أنه كان من الملهمين المحدَّثين، ولهذا ما كانت تتخلف له فِرَاسة.

2.  ما سلك فجاً أي طريقاً إلا وسلك الشيطان فجاً غيره، أي كان يخيف الشياطين ليقينه أن كيد الشيطان ضعيف.

3.  وافق القرآن في سبع مواضع.

4.  إسلامه كان فارقاً وفاصلاً بين عهدين.

5.  هو وأبوبكر ممن أمرنا بالاقتداء بهما: "اقتدوا باللذين من بعدي".

لهذا وغيره كثير كان عمر لا يخشى الفتنة الخاصة، فتنة الأهل، والمال، والولد، فقد كان مأمون الجانب منها، وذلك لتقواه، وعلو همته، وحزمه، وعلمه، ولهذا قال لحذيفة: "ليس عن هذا أسألك"، ولأنه كان حريصاً على مصلحة الإسلام والمسلمين أكثر من حرصه على مصالحه الخاصة، سأله عن الفتن الكبرى التي تموج كما يموج البحر، ذات الضرر المتعدي على الإسلام وأهله، والتي حفظه الله من أن يرى شيئاً منها، بل كان هو حاجزاً منيعاً وسداً قوياً للفتن أن تصل إلى أهل الإسلام، إذ كان هو الباب بينها وبين المسلمين، وعندما استشهد عمر كسِر هذا الباب، وتتالت وتوالت من بعده الفتن على الإسلام، ولا تزال تترى، وما نشاهده الآن وما نعيشه هذه الأيام ما هو إلا فصول رئيسة وأدوار كبيرة من تلك الفتن التي ليس لها من دون الله كاشف.

أخطر صور الفتن التي تصيب المرء في ماله، وأهله، وولده

الفتن التي يتعرض لها الإنسان من الأهل، والولد، والمال، والجيران، والأرحام، وغيرهم، كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها ولا الإحاطة بها، ولكن يمكن التنبيه والتذكير بأكثرها شيوعاً وأعظمها ضرراً ليُقاس عليها.

لقد بين الله عز وجل أن الأموال والأولاد فتنة، وإن تفاوتت في قدرها وخطرها، وقرر كذلك عداوة بعض الأزواج، والأصدقاء، والخلطاء لبعض، ذكوراً كانوا أم إناثاً، فقال: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم"، وقال: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم"، وقال: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، وقال: "إن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض"، وقال: "وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم".

من تلكم الصور ما يأتي:

أولاً: النهي والتثبيط عن الغزو، والجهاد، والهجرة، والصدقة، وغيرها من سبل الخير

جاء في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم"، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت هذه الآية في المدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فنزلت؛ وفي رواية أنه كان ذا أهل وعيال، وكان إذا أراد الغزو بكوا عليه، ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم.." الآية.

وقيل في سبب نزولها: أن رجالاً من أهل مكة أسلموا وأرادوا الهجرة، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا المدينة رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوا أهليهم، فأنزل الله: "فإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم".

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي وإن نزلت في هؤلاء أوأولئك فحكمها عام وشامل.

قال ابن العربي المالكي رحمه الله: (هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته، وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة؛ فمن حال بين المرء وبين فعل القربات والطاعات فقد سلك مسلك عدونا وعدو أبينا آدم عليه السلام: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".

خرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له: أتؤمن، وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك، فتُنكَح نساؤك، ويُقسَّم مالك؟ فخالفه، فجاهد فقتِل، فحق على الله أن يدخله الجنة".

قال القرطبي رحمه الله: (وقعود الشيطان يكون بوجهين:

أحدهما: يكون بالوسوسة.

والثاني: بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج، والولد، والصاحب).

كان الأنبياء وأتباعهم يخافون من فتنة الزوج والولد، لذلك عندما جاء الخليل متفقداً ولده إسماعيل بمكة ولم يجده، ووجد زوجه، وشعر أن عندها ميلاً إلى الدنيا وقلة قناعة، قال لها: أقري زوجك مني السلام وقولي له: غيِّر عتبة بابك؛ كناية عن طلاقها.

ولذات السبب طلب عمر رضي الله عنه من عبد الله ابنه أن يطلق زوجة له خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد، فأبى، فشكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره بطلاقها فطلقها.

التعلق بالمال والولد والأهل من المهلكات، ومن أسباب التعاسة في الدنيا والشقاء في الآخرة: "تعِسَ عبدُ الدينار، تعِسَ عبدُ الدرهم، تعِسَ عبدُ الخميصة، تعِسَ عبدُ القطيفة، تعِسَ وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، الحديث.

فلا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.

هذه العداوة ليست قاصرة على الزوجة والأولاد، بل ربما تكون عداوة الزوج لزوجته وأولاده وفتنته لهم أشد وأنكى.

لهذا قصر الله الطاعة فيمن تجب طاعته في المعروف فقط: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً".

فتنة الأهل والولد درجات، فقد تصل الفتنة إلى درجة الكفر، وقد تقصر عن ذلك: "فأما الغلام فكان أبواه مؤمِنَيْن فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً".

روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"، ثم أخذ في خطبته، وروي عنه أنه قال: "الأولاد مجبنة مبخلة".

وجاء في حكمة عيسى عليه السلام: "من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً".

ثانياً: أن يضطروه ويجبروه على المكاسب المحرمة والمشبوهة

من صور الفتنة التي قد تحدث لبعض الناس من أهليهم وأولادهم أن يدفعوهم إلى بعض المكاسب الخبيثة المشبوهة، وهذه من أخطر الصور وأضرها على المرء وعلى أهله وأولاده، فالواجب على المرء أن يقي نفسه وأهله أكل الحرام المؤدي إلى دخول النار: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، ولهذا عندما رأى رسولنا الحسن يرفع تمرة من تمر الصدقة المحرمة على رسول الله وآله إلى فيه، قال له: "كخ كخ" حتى رماها؛ وعندما علم أبوبكر أن غلامه تكهن وأتاه بطعام تقيأه بعد ما أدخله في فيه، وقال: لو لم يخرج إلا مع نفسي لأخرجته.

ثالثاً: أن يحابي بعض أزواجه وأولاده دون بعض

هذه كذلك من صور الفتن الخطيرة التي ابتلي بها البعض، حيث يمنح بعض أزواجه أوولده دون الآخرين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المسلك وحذر منه، وقال لبشير بن سعيد عندما أراد أن يمنح ابنه النعمان حديقة: "أكل بنيك منحت هكذا؟ قال: لا؛ فقال: "لا تشهدني على جور، أشهد على ذلك غيري" الحديث.

سواء كانت هذه المنحة عن طريق الهبة أوالوصية أوبأي طريق من طرق الاحتيال.

رابعاً: عدم الصبر والثبات إذا أصيب في شيء من ماله، أوأهله، أوولده

من الفتن العظيمة والمخاطر الجسيمة التي يقع فيها البعض بسبب مصيبة تحل بماله أوولده، فلا يصبر ويحتسب، وإنما يصيح ويجزع، فيخسر الدنيا والآخرة.

عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي أصيبت في ولدها: "اصبري واحتسبي"، قالت له ولم تكن تعرفه: إليكَ عني، فلو أصابك ما أصابني..، فتركها، وعندما علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت إليه نادمة معتذرة، فقال له: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، ولهذا عظم ثواب وأجر المحتسبين، فقد صح عنه أنه قال: "يقول المولى عز وجل للملائكة الموكلين بقبض الأرواح: قبضتم ولد عبدي، قبضتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول لهم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".

لقد هذب الإسلام عواطف أتباعه وسما بها حتى غدوا يتنافسون في الصبر والثبات والاحتساب، فعندما مات ولد أبي طلحة فكتمت أمه أم سُليم الخبر حتى تعشى ونال منها، ثم أخبرته أن صاحب الأمانة استردها، قائلة: احتسب ولدك؛ قال: والله لن تغلبيني على الصبر؛ فصبر واحتسب، فعوضهما الله خيراً منه.

وكذلك فعلت الخنساء التي بكت أخاها صخراً ورثته رثاء حزيناً صادقاً في جاهليتها، ولكن عندما شرفها الله بالإسلام حضت أولادها الأربعة على الجهاد، وحذرتهم من الفرار، وخرجت لخدمتهم في واقعة القادسية، فاستشهد أربعتهم، فاحتسبتهم وحمدت الله واسترجعت، ولم ترثهم ببيت واحد.

وكذلك فعلت تلك الصحابية التي استشهد لها عدد من الولد في غزاة من الغزوات، فقالت: كيف رسول الله؟ قالوا لها: بخير؛ فقالت: أرونيه؛ فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل؛ أي سهل وحقير.

فعلى المسلمين أن يتأسوا بسلفهم الصالح، ويقتدوا بهم، وأن يتذكروا عند المصائب مصابهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يصب مسلم مصاباً أشد ولا أكبر منه.

خامساً: غلبة العواطف، فيلبي جميع الكماليات، ويقصِّر في أوجب الواجبات

من الواجب على المرء الإنفاق على الزوجة والأولاد، ولكن نجد بعض الأزواج والآباء يبالغون في تلبية جميع الكماليات، التي في كثير من الأحيان يكون فيها إفساد لهم، بجانب الإرهاق المادي لمن يتكلفون لذلك، بينما نجد تقصيرهم كبير فيما أوجبه الله عليهم من تعليمهم، وإرشادهم، وتوجيههم، ومراقبة تصرفاتهم، والاطمئنان على صلاح من يرافقون ويصادقون.

فقد أمر الشارع الأولياء من الآباء وغيرهم أن يأمروا أبنائهم بالصلاة لسبع سنين، ويضربوهم عليها لعشر، وينبغي أن يكون تعويدهم على ذلك قبل السابعة، لكننا نجد بعض الشباب والشابات وقد تجاوزوا سن الاحتلام لا يصلون ولا يصومون، ويعتقد آباؤهم أنهم ما زالوا صغاراً.

كذلك من الواجب على راعي الأسرة والمسؤول عنها أن يراقب ما يلبسون، ويقرأون، ويشاهدون، ولا يحل له أن يكون متعهداً يحضر ما يُطلب منه فقط، فقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول" الحديث خصَّ وعمم فيه، وممن خصهم الرجل والمرأة اللذان هما عماد الأسرة الصالحة، نواة المجتمع الفاضل.

دعك عن أن يحث أولاده الذكور على صلاة الجماعة، وأن يصحبهم معه إلى الجمع والجماعات، ناسياً أن وصية الله عز وجل الآباء بالأبناء سابقة لوصيته سبحانه الأبناء بالآباء: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر"، "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي كثيراً ما يقول: "أيقظوا صاحبات الحجر"، أوكما قال.

ينبغي أن يكون حرص الوالدين والأولياء على الأدب والسلوك أكبر من حرصهم على مصالح أبنائهم الدنيوية، متمثلة باهتمامهم بالتعليم المدني مقابل إغفالهم وإهمالهم لتقويم وتوجيه سلوك الأبناء.

ما تنفقه بعض الأسر على التعليم المدني لو أنفقوا معشاره على تربيتهم وتنشئتهم التنشئة الصالحة وذلك عن طريق إحضار مربين أخيار ملازمين لهم كما كان يفعل سلفنا الصالح، هذه من السنن الحميدة واللفتات البارعة والمعينة على تربية الأبناء، سيما لأولئك المشغولين من المسؤولين والتجار، التي غفلنا عنها في العصور المتأخرة، فعلينا أن نحيي هذه السنة الحسنة، فما يبذله كثير من الآباء في الدروس الخصوصية بمستوياتها المختلفة، وفي القبول الخاص، يمكن أن يوفر الكثير منها إذا حرصنا على التنشئة الأولى وأوليناها اهتماماً.

من أجل النعم على العباد بعد الإيمان والاستقامة الأبناء الصالحين والأولاد الخيرين الفالحين، الذين يستمر نفعهم ويستفيد الآباء والأمهات بهم أحياء وأمواتاً: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث، وذكر منهم: "ابن صالح يدعو له".

احذروا أيها الآباء هذه الفتنة التي سببها المبالغة في حب الأبناء والتجاوز فيه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً، وليكن لكم القدوة الحسنة في ابن عمر الذي هجر ولده بلالاً لرده لحديث لشدة غيرته، وقال له: "والله لا أحدثك أبداً"، وفي سعد بن أبي وقاص عندما قالت له أمه: لا أستظل حتى ترجع عن دين محمد؛ فقال لها: والله يا أماه لو كانت لك مائة نفس خرجت كل واحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.

سادساً: أن يكونوا سبباً في جبنه وبخله

من فتنة الأهل والأولاد المشاهدة العِدَة بالجبن والبخل، تصديقاً لقوله عز وجل: "الشيطان يعدكم الفقر"، وعِدَة الشيطان بالفقر قد تحدث نتيجة وسوسته، أوبتحريك من ينوبون عنه، زوجة كانت، أم أبناء، أم أصدقاء، أم أقرباء، ونحوهم من جنوده الكثر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الأبناء مجبنة مبخلة"، وفي ذلك تحذير أيما تحذير من طاعتهم في تثبيطهم عن الغزو والإنفاق في سبل الخير المختلفة، لأن الجبن والبخل من الأدواء المذلة، ولهذا أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منهما"، اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل".

تذكر أخي المسلم صنيع أبي طلحة الأنصاري وزوجه أم سُليم مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما نوَّمُوا صغارهم وأطفأوا سراجهم، وخصوا الضيف بجميع طعامهم، مما جعل الله ورسوله يسرَّان لحسن صنيعهما هذا.

ورضي الله عن خالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله القائل: لقد خضتُ عشرين زحفاً، وما من موضع شبر في جسمي إلا فيه ضربة بسيف أوطعنة برمح، وها أنذا أموتُ على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، إي وربي، فلا نامت أعين الجبناء ولا البخلاء، ولهذا جاء في الحكم: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، ولله در القائل:

من لم يمت بالسيف مات بغيره         تعددت الأسباب والموت واحد

من لم يمت في ساحات القتال والجهاد مات بالحوادث التي يفوق موتاها عدد المجاهدين المقاتلين أضعافاً مضاعفة.

ورضي الله عن عمرو بن الجموح الأعرج الذي عذره ربه وناب عنه بنوه في غزوة أحُد، ولكن همته العالية أبت إلا أن يخرج في أحد ليطأ بعرجته تلك الجنة.

أيها الآباء احذروا أن تفتنوا أبنائكم بمنعهم عن الغزو والجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، سبيل رفع الضيم والظلم والعدوان عن هذه الأمة.

سابعاً: أن يكونوا سبباً في عقوق والديك وتشاغلك عنهم

من فتن الأبناء والأهل الخطيرة على الرجل أن يحولوا بينه وبين بره لوالديه أويحملوه على عقوقهم، بدلاً من أن يعينوه على ذلك ويذكروه.

كثير من الآباء والأمهات يشكون من أبنائهم ومن تقصيرهم نحوهم بعد الزواج، وتشاغلهم عنهم، وهذا لا يحل، وتذكر أخي أنك كما تدين تدان، وليكن لك في ذلك العبد الصالح أول الثلاثة الذين انسد عليهم الغار، فسألوا الله بأرجى أعمالهم فقال: "اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم فإذا رحتُ عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء" الحديث، الأسوة والقدوة، وأبواك لا يطمعان منك أن تفعل بهما ما فعل هذا العبد الصالح، بل يقنعان بأقل القليل منك.

واعلموا أيها الأبناء أنكم ستصيرون آباء عجزة ضعفاء تحتاجون إلى بر وإحسان أبنائكم، وأنت أيتها الزوجة تذكري حاجتك إلى بر أبنائك في الكبر وأعيني زوجك على بر أبويه والإحسان إلى أقاربه وأرحامه.

فأولى الناس بحسن الصحبة الأم ثم الأب، ثم الأدنى فالأدنى.

وأنتم أيها الوالدان أعينوا أبناءكم على بركم ولا تضيقوا عليهم، واحذروا الغيرة من الزوجة والأبناء فإنها من الأدواء.

ثامناً: أن يشغلوه عن طاعة ربه وتقصيره فيها

من جملة فتنة المال والأهل أن يشغلوا الإنسان عن طاعة ربه، فيعرضوا له في صلاته وعبادته، فيحولوا بينه وبين مناجاة ربه، إذ الطمأنينة والخشوع في العبادة خاصة الصلاة لبها ومقصودها، فإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم إمام الخاشعين قطع خطبته لما رأى حسناً وحسيناً وحملهما ثم واصل خطبته، فكيف بغيره؟!

روى الحسن وغيره في تفسير قوله تعالى: "إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال إني أحببتُ حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق": (صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه أي الخيل وكانت ألف فرس، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت، وفاتت الصلاة، ولم يُعلم بذلك هيبة له، فاغتم، فقال: "ردوها علي"، فردت، فعقرها بالسيف قربة لله، وبقي منها مائة، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل).

وما فعله سليمان عليه السلام وقد فاتته صلاة العصر فعله الصحابي الجليل أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه عندما انشغل عن صلاته.

روى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر: "أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له، فطار دبسي، فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه ببصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة؛ فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله هو صدقة لله، فضعه حيث شئت" .

كفارة فتنة الرجل بماله، وأهله، وولده، وغيرهم

الفتن التي تعرض للإنسان بسبب ماله، وأهله، وجيرانه، وغير ذلك كثيرة ومتنوعة، منها ما هو:

1. صغائر تكفرها الأعمال الصالحة من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وما شابهها.

2. كبائر يفعلها الإنسان ويقلع عنها، وهذه تحتاج إلى توبة واستغفار.

3. ومنها ذنوب يصر عليها صاحبها ويعاودها كلما تاب وندم منها يضعف عن ذلك، مع علمه بقبحها، ويتمنى الخلاص منها، فهو في رجاء الله وإن كان يُخشى عليه.

4. ومنها بدع وحوادث، وهي من أخطرها.

5. ومنها الكفر والشرك الأعظم الذي لا يفيد معه عمل صالح.

قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين".

وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم".

وهذا معنى ما قاله حذيفة وأقره عليه عمر رضي الله عنهما.

قال الإمام ابن عبد البر معلقاً وشارحاً لقول أبي طلحة السابق: "لقد أصابتني فتنة في مالي": (الفتن على وجوه، فأما فتنة الرجل في ماله وأهله، فتكفرها الصلاة والصدقة، وكذلك قال حذيفة لعمر في الحديث الصحيح، وصدقه عمر، وقال: لستُ عن هذه أسألك؛ وقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق: إن المعاصي كلها فتنة، تكفرها الصلاة والصوم ما لم يواقع الكبائر؛ دليل ذلك قول الله عز وجل: "إن الحسنات يذهبن السيئات"، نزلت في رجل أصاب من امرأة ما ليس بكبيرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر التجار، إن هذا البيع يشوبه الحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة".

وكل من فتن بشيء من المعاصي والشهوات المحظورة، فهو مفتون، إلا أنه إن ترك وأناب، واستغفر وتاب، غفر له مع أدائه لصلاته وزكاته وصومه، وهذه صفات المذنبين، وقد فتِنَ الصالحون وابتلوا بالذنوب، قال الله تعالى: "وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"، وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" الآية.

وقد يكون من هذا الباب من الفتنة: ما هو أشد مما وصفنا، وهو الإصرار على الذنب، والإقامة عليه، وأنه لم يأته، فليته على تلك الحال، ويحب أن تسمح نفسه بترك ما هو عليه من قبيح أفعاله، وهو مع ذلك لا يقلع عنها، فهذا وإن كان مصراً لم تأت منه توبة، فهو مقر بالذنوب والتقصير، ويحب أن يختم الله له بخير، فيغفر له هذا برجائه، ولا يقطع عليه، وليست فتنة بذلك تخرجه عن الإسلام، وقال بعضهم: ولا هو ممن تنكت في قلبه نكتة سوداء غلبت عليه، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، كما قال حذيفة في ذلك الحديث، لأنه ينكر ما هو عليه، ويود أنه تاب منه، قالوا: وإنما ذلك في الأهواء المردية، والبدع المحدثة، التي تتخذ ديناً وإيماناً، ويشهد بها على الله تعدياً وافتراء، ولا يحب من فتن بها أن يقصر فيها، ولا ينتقل عنها، ويود أن لا يأتيه الموت إلا عليها، فهذا أيضاً مفتون مغرور مستدرج، قد أصابته فتنة زيِّن له فيها سوء عمله، يود أن يكون الناس كلهم مثله، قالوا: فهذه الفتة أشد من الفتنتين اللتين ذكرنا من فتن الذنوب.

ومن الفتن أيضاً الكفر، وقد سماه الله فتنة بقوله: "والفتنة أشد من القتل").

اللهم اعصمنا من الفتن، وأحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، غير خزايا ولا مفتونين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

0000000000000000000

ما ذُبِح لغير الله عز وجل فلا يؤكل

لقد نهى الله ورسوله عن الذبح لغير الله، وعدّ ذلك من نواقض الإسلام البينة، ومن مبطلاته الواضحة، فقال عز من قائل: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، وقال: "فصَلِّ لربك وانحر"، وقال: "ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق"، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ذبح لغير الله فقد أشرك" الحديث، ولا تفيد التسمية ما ذُبح لغير الله شيئاً.

لقد كثر الذبح لغير الله في هذا العصر وتنوع، فعلى المسلمين أن يحذروا من أكله وتعاطيه، فإنه من المحرمات الخبائث.

الذبح لغير الله له أسباب عديدة، فمن الناس من يذبح نذراً أوتقرباً لبعض المشايخ، أحياء وأمواتاً، ومنهم من يذبح للجن والشياطين من حيث يشعر أولا يشعر، ومنهم من يذبح خوفاً من إصابة العين أوحدوث مكروه، ومنهم من يذبح للملوك والرؤساء إذا مروا عليهم أوجاءوا بناحيتهم، وهكذا، وإليك بعض الصور والنماذج لذلك:

1. الذبح نذراً وتقرباً لبعض المشايخ الأحياء والأموات، فمن النساء من تنذر للشيخ إذا رزقت مولوداً أن تذبح ذبيحة أياً كان نوعها، أوإذا شفى مريضها، أونجح وليدها، وهكذا.

2. الذبح طاعة للشياطين كما يحدث في حلقات "الزار"، حيث يطلب الشيطان على لسان البعض أن تذبح شاة بوصف معين، وقد يأمر بشرب كوب من دمها المسفوح، وسرعان ما تنفذ مثل هذه الطلبات.

3.  إذا ارتحل الإنسان في دار جديدة خشية أن يصيبه مكروه أوعين.

4.  إذا افتتح مصنعاً أومحلاً تجارياً خشية أن يصيبه مكروه أوعين.

5.  إذا اشترى مركبة جديدة خشية أن يصيبه مكروه أوعين.

6.  إذا حضر رئيس أوشيخ طريقة في قرية أومحلة من المحلات أوحي من الأحياء.

7.  في حفلات تأبين الأموات، بعد الثلاثة، أوالأربعين، أوالسنة.

8.  ما يذبح في حوليات المشايخ سنوياً.

9.  ما يذبح في الأعياد البدعية.

10.  ما يعقره بعض الأعراب من باب التفاخر والسمعة والرياء.

11.  ما يذبح في أعياد الكفار.

قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله وهو يجيب على تساؤل: كيف يتأتى قصد الشارع الإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟: (قيل معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع، لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة، كشرب الماء والعسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود والنصارى، وإن صنعه المسلم، أوذبح على مضاهاة الجاهلية، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك، كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي أجرى عيناً، فقال له المهندسون عن ظهور الماء: لو أهرقت عليها دماً كان أحرى أن لا تغيض، ولا تهور فتقتل من يعمل فيها؛ فنحر جزائر، حين أرسل الماء فجرى مختلطاً بالدم، فأمر فصنع له ولأصحابه منها طعاماً، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها؛ فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يذبح للجن"؛ لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاهاة لما ذبح على النصب، وسائر ما أهل لغير الله به.

وكذلك جاء النهي عن "معاقرة الأعراب"، وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقراً أجودهما، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به.

قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان حوادث تتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور.

وخرج أبوداود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتبارين أن يؤكل، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه؟ وهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع يقصد مجرد الأكل، فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكاً في المشروع، ولحظاً لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفتية من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع).

ويلحق بذلك ما يصنعه البعض من تقديم "بليلة"، أو"زلابيا"، أو شاي وتمر، ويرسولونه إلى المساجد والخلاوي، فيغلب على الظن أن أغلبه يتقرب به لغير الله، فلابد من التحوط والتثبت قبل الأكل.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من سد جميع الذرائع التي قد تؤدي إلى فساد العقائد، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا كريم.

0000000000000000000000

إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم

كما أن السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل إلا عندما يأذن الله بخراب الدنيا في آخر المطاف، فتختل السنن الكونية، وتتغير الموازين الكلية، وتتبدل النواميس الأرضية، فيكون اليوم من أيام المسيح الدجال الأربعين، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، أي أسبوع، وباقي أيامه كسائر أيامنا، ثم تخرج الشمس من غير مخرجها المعتاد، تخرج من المغرب.

فكذلك الأمر بالنسبة للسنن الشرعية، والثوابت القطعية، والمسائل الكلية، فإنها لا ينبغي لها أن تتغير أوتتبدل عما كانت عليه في عهد الإسلام الأول، وإلا حل الخراب والدمار، وفسد الحال، ولا مجال للإصلاح إلا بالرجوع إلى الأمر الأول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

حيث لا يمكن أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أول هذه الأمة بالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح، وبعدم التنازل عن الثوابت.

لذلك فإن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يميزون بين سنة وبدعة، وحلال وحرام.

فمهما قل تمسك الناس بالدين، والتزامهم بسنة سيد المرسلين، إلا وأثر ذلك على حياتهم ومعاشهم: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً"، فكما تدين الأمة تدان، فتخلي الناس عن الدين، وتهاونهم بسنة نبيهم الكريم، نذير شؤم وعلامة خطر عليهم، وكذلك قيام طائفةمن هذه الأمة بالأمر والنهي، والجهاد للدفاع عن الدين، ولصد المعتدين، من أوجب الواجبات، حيث يرفع الإثم عن الأمة، ويحد من غضب رب العالمين.

أقول ذلك بمناسبة الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين سلفنا في كل شيء، إذ لا مجال للمقارنة، علماً بأن الجميع مكلفون، والكل سواسية في نظر الشرع، ولنضرب لذلك مثلاً واحداً لبعض المستضعفين الغرباء، وهم مهاجرة الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، في ثباتهم على دينهم، وعدم تنازلهم عنه، ولو أدى ذلك إلى هلاكهم، وبين استكانة المسلمين اليوم حكاماً، وعلماء، ودعاة، وعامة، وتنازلهم عن أصول دينهم وثوابتهم، بما أدهش الكافرين أنفسهم، وزاد من جرأتهم على غزو ديار الإسلام، وإهانة أبنائه، وشيوخه، ونسائه، وما حدث ويحدث في فلسطين، والعراق، وأفغانستان ليس ببعيد عنا، ولا أنسى أن أذكر بثالثة الأثافي، وهو ما حدث ويحدث في سجن أبي غريب بالعراق، حيث أهينت وخدشت العفة، وانتهكت الأعراض، ومارس فيها الأمريكان والبريطان ما يستحي منه بعض الحيوان.

أخرج أحمد1 وغيره بسند قوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثمانين رجلاً: أنا، وجعفر، وأبوموسى، وعبد الله بن عُرْفطة، وعثمان بن مظعون؛ وبعثت قريش عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد بهدية، فقدما على النجاشي، فلما دخلا سجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، فقالا: إن نفراً من قومنا نزلوا بأرضك، فرغبوا عن ملتنا؛ قال: وأين هم؟ قالوا: بأرضك؛ فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم؛ فاتبعوه، فدخل فسلم، فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله؛ قالوا: ولِمَ ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولاً، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة؛ فقال عمرو: إنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه؛ قال: ما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قال جعفر: نقول كما قال الله: روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر؛ فرفع النجاشي عوداً من الأرض، وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! ما تريدون، ما يسوءني هذا! أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه.

وقال: انزلوا حيث شئتم؛ وأمر بهدية الآخر فرُدَّت عليهم".

والله يحتار الإنسان أيعجب من موقف جعفر وأصحابه وثباتهم على الحق وعلى عدم التنازل، أم من صدق النجاشي وشجاعته؟!

وبضدها تتميز الأشياء، وتستبين المواقف والآراء، ويتضح الحق بجلاء، مقابل هذا الثبات، وتلك التضحيات من السلف الكرام، نجد الاستكانة، والتنازلات، والمسارعة بخطب ود من نهانا الله عن موالاتهم والتشبه بهم، واتخاذهم حلفاء وأصدقاء.

يتمثل ذلك في أقبح صوره في الآتي:

1.    الدعوة إلى توحيد الأديان أوالتقارب بينها.

2.    الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار من اليهود والنصارى.

3.    محاولة البعض نفي الكفر عن اليهود والنصارى.

4.    التجسس لصالح الكفار.

5.    العمل في المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الكفار.

6.    الحكم نيابة عنهم في البلاد التي استعمروها، كما هو الحال في العراق وأفغانستان.

7.    تطبيع العلاقات مع الكفار المحاربين، لاسيما الدولة الصهيونية.

8.    القتال تحت رايتهم.

9.    الاستعانة بهم في القتال.

واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن والاهم بإحسان

0000000000000000000

من تهاون في المندوب ترك الواجب، ومن تساهل في المكروه فعل الحرام

أعظم الفرائض

أفضل النوافل

 

أمة محمد صلى الله عليه وسلم، خير الأمم، يوم القيامة الوارثون للجنان، المكرمون برؤية العزيز الرحمن، أحد ثلاثة نفر إما سابق، وإما مقتصد، وإما ظالم لنفسه:"ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير* جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير* وقالوا الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله لايمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب".

وصنفهم في الواقعة بأنهم هم:

1.  أصحاب المشأمة.

2.  أصحاب الميمنة.

3.  والسابقون المقربون.

فقال:"وكنتم أزواجاً ثلاثة* فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة* وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة* والسابقون السابقون* أولئك المقربون".

فأصحاب اليمين والسابقون ناجون من النار يدخلون الجنة مع أول الداخلين مع تفاوت بينهم، أما أصحاب المشأمة وهم الظالمون لأنفسهم فيدخلونها بعد أن يطهرهم الله بالنار مما اقترفوا في الدنيا، فالجنة طيبة لا يدخلها إلاَّطيب.

هذا أرجح قولي العلماء والمفسرين في تأويل آية فاطر "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا"، والقول الثاني إن الظالم لنفسه هو الكافر.

قال القرطبي رحمه الله: (وقيل: الضمير في "يدخلونها" يعود إلى الثلاثة الأصناف، على ألاّ يكون الظالم هاهنا كافراً، أوفاسقاً؛ وممن روي عنه هذا القول: عمر، وعثمان، وأبوالدرداء، وابن مسعود، وعقبة بن عمرو، وعائشة، والتقدير على هذا القول أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر.

و"المقتصد" قال محمد بن يزيد:هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها، فيكون "جنات عدن يدخلونها" عائداً على الجميع على هذا الشرح والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم ـ ورب الكعبة ـ وتفاضلوا بأعمالهم.

وقال أبواسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ؛ وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال:"كلهم في الجنة"؛ وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له".

ثم رجح هذا القول قائلاً: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله، لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا اصطفى دينهم، وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك).

على المسلمين جميعاً أن يتسابقوا في الخيرات، ويتنافسوا على المكرمات، ولا يرضوا بالدنيات، ولا ينبغي لأحد منهم أن يرضى أويقنع إلا بإحدى المنزلتين، منزلة السابقين فإن عجز فمنزلة المقتصدين فما منا من أحد يقوى على النار.

فالسابقون إلى الخيرات، الفائزون بجميع المكرمات، والحَالُّون أعلى الدرجات، هم المؤدون   للواجبات، المتقربون بالنوافل والمندوبات، الممتنعون عن الشبه والمكروهات، دعك عن الكبائر والمحرمات.

أما المقتصدون فهم المؤديون للواجبات، المنتهون عن المحرمات، فإن كنت راغباً في تلك الدرجات، وعازماً على نيلها فاحذر أشد الحذر التهاون في المندوبات، المفضي

إلى ترك الواجبات، والتساهل في اقتراف المكروهات، والقرب من الشبهات، الباعث على فعل المحرمات.

ما تقرب متقرب إلى الله عز وجل بشيءٍ أحب إليه مما افترضه على عباده وجاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وما من شيءٍ تنال به محبة الله ورضاه أفضل من الإكثار من النوافل، وعدم الاقتصار على بعض الندوبات دون بعض.

صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه".

المراد بقوله عز وجل: كنت سمعه، وبصره، ويده، ورجله، يعني لا يسمع إلاََََّ ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرَّم الله، ولا تنال يده محرماً ولا يضرب أو يظلم بها أحداً، ولا تمشي رجله وتسعى إلاَّ فيما يرضي الله ورسوله، وليس المراد أنَّه يسمع بسمع الله، وينظر بنظر الله، كما يقول أصحاب عقيدة الحلول والاتحاد، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في بيان أن أولياء الله على درجتين: مقتصدين وكمل:(أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرَّم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل؛ وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وذلك أن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته) .

وأعظم الفرائض هي:

1.  الصلوات الخمس، وأدائها للرجال مع جماعة المسلمين بخشوع، وخضوع، واطمئنان.

2.  صوم رمضان.

3.  إخراج الزكاة الواجبة.

4.  تحكيم شرع الله في الرعية.

5.  عدل الراعي في رعيته.

6.  الجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن وجب عليهم.

7.  بر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجيران.

8.  تعلم ما يجب على المرء تعلمه مما يجب عليه نحوربه، ورسوله، ومعرفة الحلال والحرام والتمييز بين السنة والبدعة.

أما الدرجة الثانية وهي درجة الأولياء الكمل فقال عنها ابن رجب: (درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض الاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع،وذلك يوجب للعبد محبة الله).

أفضل النوافل

1. السنن الرواتب قبل وبعد الصلوات المكتوبات، فقد صح عنه: "أن أول ما يحاسب به العبد بعد موته صلاته فإن صلحت فقد فازونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ثم ينادي المولى عزوجل: هل لعبدي من نوافل ليتم به ما انتقض من صلاته؛ وهكذا سائر العبادات"، أوكما قال وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أوسافر كُتب له من الأجر ما كان يعمله وهو صحيح مقيم".

2. قيام الليل، والنفل المطلق والمقيد، كصلاة الضحى ونحوها.

3. التطوع بصيام الأيام التي نُدِبَ صيامها كيوم عرفة، وعاشوراء، والخميس، والإثنين، والثلاثة البيض، وستة شوال ونحوها.

4. الإكثار من تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر وتدبر، بالنظر ومن الحفظ، فأشراف هذه الأمة حملة القرآن وأصحاب الليل.

قال خباب بن الأرض رضي الله عنه لرجل: "تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه"، وتلاوة القرآن أجرها مضاعف، وثوابها زائد فكل حرف بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أقول "ألم" حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" الحديث.

5. الإكثار من الذكر باللسان مع حضور القلب والجنان، فلا يزال لسانك أخي الحبيب يكون رطباً بذكر الله فقد أثنى الله عز وجل على الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

وعليك بالأذكار الصحيحة الثابتة، واحذرالأوراد والأذكار البدعية التي وضعها بعض المشايخ لأتباعهم، ففي الصحيح غنىً وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام، فلا وسَّع الله عليه.

6. الإكثار من صدقة التطوع، بالإحسان إلى الأقارب، والجيران، والفقراء، والمحتاجين، والمرضى، والمعوزين وأفضل الصدقة ما دام نفعه وتعدى خيره.

7. تعليم المسلمين، والذب عن السنة، والحذر من البدعة من أجَلِّ القربات، وقد فضلها مالك، والشافعي، وغيرهما على نوافل الصيام، والقيام، وغيرهما.

8. الشفاعة الحسنة، وقضاء حوائج الناس.

9. محبة العلماء، والأولياء، والصالحين، والذب عنهم.

10. التعاون على البر والتقوى في أي مجال من المجالات.

11. النصح لله، ولرسوله، ولكتابه، ولسنته، ولأئمة المسلمين وعامتهم.

الأعمال لا تحصى كثرة وفيما ذكرنا غنى عما أغفلنا، وكل ميسر لما خُلِق له، ومن الناس من يفتح لهم في كل المجالات كحال أبي بكر الصديق، ومنهم من يفتح لهم في بعضها دون بعض، والمحروم من حُرم أي باب من أبواب الخير مع كثرتها وسهولتها ويسر بعضها.

واعلم أخي الكريم أن الممتنع عن أداء الرواتب والسنن بالكلية المصر على ذلك، غير التارك لها في بعض الأحيان، فاسق لا تقبل شهادته كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يصوم من الشهر حتى يظن أهله أنه لا يفطر فيه، فكيف بنا نحن وكلنا خطايا وذنوب، ولو علم الناس منا ما يعلم كل واحد من نفسه لرجمونا بالحجارة، ولا تغتر بقوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي قال: لا أزيد على الفرائض: "أفلح إن صدق"، لأن هذا كان في أول إسلامه، فلا يمكن أن يكلف بالسنن والنوافل ساعة دخوله في الإسلام، وإنما يكون ذلك تبع للفرائض فيما بعد، وقيل أن ذلك كان قبل أن تشرع السنن الرواتب، والله أعلم.

والله أسأل أن ييسرنا لليسرى، وأن ينفعنا بالذكرى، وأن يجعلنا وجميع أهلينا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على محمد صادق الوعد المبين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين وعنا معهم وجميع المسلمين.

000000000

أهم العوائق والصعاب التي تواجه معلمي العلوم الشرعية للمبتدئين الناطقين بغير العربية

أولاً: التدقيق في اختيار الدارسين قبل مجيئهم

ثانياً: تباين مستويات الطلاب

ثالثاً: عدم وجود تآليف ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم

رابعاً: تفاوت همم الطلاب، وتطلعاتهم، واستعجالهم

خامساً: التعريفات والمصطلحات

سادساً: قصر مدة الدراسة

سابعاً: اختلاف الأهداف

ثامناً: التوسع في الترجمة

 

لا شك أن الهدف الأول، والغرض الأساس لجل متعلمي اللغة العربية الناطقين بغيرها فهم هذا الدين فهماً صحيحاً، ومعرفته قرآناً، وسنة، وفقهاً، وسيرة، وسلوكاً معرفة جيدة، لأن اللغة العربية هي الماعون والوسيلة الوحيدة لمعرفة ذلك، لنزول القرآن الكريم، ونطق الرسول العظيم بها، لأنها لغة القرآن ولغة خير من نطق بالضاد.

يكفي اللغة العربية شرفاً، ويعليها منزلة، ويرفعها درجة، اختيار الله سبحانه وتعالى لها لتكون لغة لآخر كتبه، ولساناً لخاتمة شريعته، ووسيلة لمعرفة أسرار دينه ومكنون آيات كتابه، ولغة لأفضل رسله.

هنالك العديد من العوائق والصعاب التي تواجه المعلمين والمدرسين قبل الدارسين في تدريس العلوم الشرعية بفروعها المختلفة مع تفاوت بينها في ذلك للطلاب الناطقين بغير العربية، نود أن نشير إلى أهمها، لأن معرفة الأدواء، وتحليل الأخطاء، والوقوف على الصعاب والعوائق من العوامل الرئيسة لتحسين المستوى ورفع الكفاءة، إذ لا يمكن علاج أي مشكلة من المشاكل إلا إذا تعرفنا أولاً على مسبباتها، مستمدين ذلك بعد الله عز وجل من التجربة الطويلة في مجال تدريس هذه المواد للناطقين بغير العربية، والممارسة المفيدة، ومن الحرص على الوصول إلى أحسن الطرق وأفضلها، وأجدى الوسائل وأنفعها لتوصيل هذه المواد إلى الدارسين، ليتم لهم مقصودهم، وللقائمين المهتمين الحريصين على هذا الشأن مرادهم، إذ لا يزال هذا المجال في بداياته إذا ما قورن بما قام به أصحاب الألسن الأخرى خدمة لرطاناتهم، هذا بجانب ضعف الإمكانات وعدم استشعار البعض لأهمية هذا الأمر وخطورته، فأقول:

أولاً: التدقيق في اختيار الدارسين قبل مجيئهم

من العوامل المهمة، والأسباب المعينة، لتحسين الأداء وتجويده في مجال تعليم العربية والعلوم الشرعية للدارسين لها من الناطقين بغيرها، التدقيق الشديد، والحرص الأكيد في اختيار الطلاب، وعدم المجاملة في ذلك، وأن تراعى قلة الفرص وضعف الإمكانات، والفائدة المتعدية، بأن لا تعطى الفرصة لمن لا يستفيد منها، ولا يتم ذلك إلا بسفر عدد من الأساتذة إلى مراكز يجتمع فيها الراغبون من البلاد المتجاورة، وتجرى لهم مقابلات شخصية للتأكد من الآتي:

1. مقدرة الدارس الذهنية، والنفسية، والجسدية.

2. رغبة الدارس الحقيقية في دراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية.

3. عمر الطالب، بأن لا يتجاوز الخامسة عشرة، فقد دلت التجارب على عدم استفادة الكبار والصغار من هذا النوع من الدراسة.

وكان للمركز الإسلامي السبق في سَنَِّ هذه السنة الحسنة، بأن يذهب عدد من المختصين لإجراء تلك المعاينات في بلاد الطلاب قبل الدخول في التزامات أدبية ومالية نحو بعض الطلاب الذين لا مقدرة لديهم، أولا رغبة عندهم إِلاَّ في الخروج من بلادهم، والحصول على منحة من جهة ما، ثم بعد ذلك يحدث التحايل.

فعملية إرسال بعض الأساتذة لإجراء تلك المعاينات، ولاختيار أفضل وأحسن الطلاب قدرة ورغبة، في مراكز يسهل على الجميع الحضور إليها على الرغم من أنها مكلفة مادياً، إلا أنها هي صمام الأمان الوحيد لأداء هذه الرسالة، وفائدتها أكبر مما ينفق عليها، أوينفق على بعض الطلاب غير المقتدرين ولا الجادين أضعافاً مضاعفة.

ثانياً: تباين مستويات الطلاب

يتباين مستوى الطلاب وتتفاوت قدراتهم، وتختلف رغباتهم وأعمارهم في المستوى الواحد، هذا بالرغم من المجهودات التي بذلت وتبذل في وضع امتحان "تحديد المستوى، وتصنيف الطلاب"، إذ لا يزال هناك قصور في ذلك توضحه النتائج والتجارب، هذا بجانب أن بعض الطلاب الدارسين يمكرون ولا يظهرون كل قدراتهم لأسباب مختلفة وأغراض شتى، منها حسب الاستقراء والتجربة ما يأتي:

1. حرص البعض على البقاء أكبر مدة ممكنة في البلد الذي يدرس فيه لأسباب تتعلق به.

2. نظر البعض إلى الخاتمة والنهاية، فمن الدارسين من لا يرغب أن يلتحق بالجامعة في الفصل الأول أوالثاني، ومن ثم يدلِّس ولا يبدي مستواه الحقيقي، حتى لا يُصنَّف في مستوى متقدم.

3. رغبة البعض في أن يبدأ الدراسة من أول مستوى وهم أفضل الجميع مع العلم أنه سبق له أن درس في بلده، ليحسن من مهاراته ويرفع من مقدراته.

4. بعض الطلاب لا يرضى بالمستوى الذي وضع فيه، ويلح على الإدارة أن مستواه أرفع من ذلك، وأنه أفضل بكثير ممن وضعوا معه في المستوى، بدافع الغيرة من بعض من حضر معه من بلده وصُنِّف في مستوى أعلى.

هذه الأسباب منها ما يتعلق بإداراة المعاهد والمشتغلين بها، وهو إعادة النظر في اختبارات تحديد المستوى، ومراعاة المهارات المختلفة مع الحرص لمعرفة نفسيات الطلاب، وتعديلها من حين لآخر، علماً بأن عدداً أكبر من المختصين غير راضين عن هذه الاختبارات، ولهم عليها مآخذ عديدة، ولهم آراء مفيدة وسديدة، يمكن أن تضاف ويستفاد منها، وليس من المصلحة التغافل عنها.

أما الأسباب المتعلقة بالطلاب، بظروفهم واهتماماتهم، ونفسياتهم، فيمكن أن تعالج بطريقة فردية بحيث يمكن أن يرد الطالب إلى المستوى الذي يناسبه بعد تجربة قصيرة.

ثالثاً: عدم وجود تآليف ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم

من العوائق الرئيسة، والصعاب الواضحة التي تواجه معلمي المواد الشرعية عدم وجود تآليف موحدة ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم، وترك الأمر في كثير من المعاهد لاجتهادات الأستاذة الذين يدرسون تلك المواد، ولا شك أن اجتهاداتهم متفاوتة، وتقديراتهم مختلفة ومتباينة.

ففي بعض الأحيان يستعان ببعض الكتب والمذكرات التي وضعت للطلاب العرب في مراحلهم الأولية والمتوسطة.

وفي أحيان أخر يقع الاختيار على بعض الكتب نحو "الأربعين النووية"، على الرغم من صغر حجمه، لكن الأحاديث التي حواها شملت جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وتتحدث عن أمور مختلفة وأرفع بكثير عن إمكانات الطلاب لغوياً وثقافياً.

معلوم أن العملية التعليمية ترتكز على ثلاثة أسس وقواعد هي:

1. المعلم.

2. المتعلم.

3. والكتاب.

فالكتاب هو المحور الثالث الأساس في العملية التعليمية، ولابد أن يكون مناسباً للدارس لغوياً وثقافياً ونفسياً، وإلا أعاق العملية التعليمية وبدد مجهودات المعلم والمتعلم.

ومما يحمد له فهناك مجهودات كبيرة بذلت، وكتب ومؤلفات برزت في عدد من المعاهد في جامعات المملكة المختلفة، سيما جامعة أم القرى والملك سعود، والإمام محمد بن سعود، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولكن لا تزال هذه الكتب والمذكرات تحتاج إلى إعادة نظر، وإلى تنقيح، سواء كان ذلك في مجال تعليم اللغة أوفي مجال العلوم الشرعية، مع الحرص على تجنب أن نكون عالة على الكفار في هذا المجال التربوي المهم الذي يرتبط بعقيدتنا وديننا ولغتنا وثقافتنا، اللهم إلا في مجال الوسائل التعليمية، فهي حق مشاع للجميع، وإن كنا حتى في مجال الوسائل إذا اجتهدنا وبحثنا لوجدنا في تراثنا وفي ابتكاراتنا ما فيه غنى وكفاية وزيادة عما عند الكفار.

ومما يشكر لإدارة معهد اللغة العربية بجامعة أفريقيا العالمية ولمدير الجامعة حرصهم واهتمامهم وإن جاء متأخراً شيئاً ما على تأليف كتب أساسية في تعليم اللغة العربية، وقد بدأت تباشير هذا العمل وظهرت العديد من المسودات التي بذل فيها المكلفون بتأليفها جهداً مشكوراً ونزلت الآن إلى دور التطبيق العملي لها في المستويات المختلفة.

وإسهاماً مني في ذلك فقد قمت بإعداد مفردات منهج متكامل للعلوم الشرعية، مصحوباً بأهدافه الخاصة والعامة ووسائل تدريسه، وسلمتها للإدارة قبل حين من الدهر.

لا يمكن لمثل هذا العمل أن يكون مفيداً أوأن يؤتي ثماره المرجوة إلا بالآتي:

1. تفريغ من يقوم بذلك العمل تفريغاً كلياً أوجزئياً، ريثما يتمكن من القيام بذلك على الوجه المطلوب.

2. إخضاع هذه المؤلفات إلى التجربة والمراجعة قبل طبعتها النهائية.

3. تحفيز من يقومون بذلك مادياً وأدبياً.

4. التعجيل بطبع هذه الكتب والمذكرات وتصميمها بصورة جيدة وتمليكها إلى الدراسين ومد المحتاجين إليها في المعاهد والمدارس المختلفة التي تعتني بذلك بنماذج منها.

5. للتغلب على تكلفة ذلك يمكن الاستعانة ببعض الهيئات والمؤسسات الخيرية وبالمحسنين، فإن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

رابعاً: تفاوت همم الطلاب، وتطلعاتهم، واستعجالهم

الدارسون متفاوتون أشد التفاوت في هممهم، وتطلعاتهم، ورغبتهم في دراسة المواد الشرعية، فمنهم من يحرص على ذلك ويرغب فيه إلى أبعد الحدود، ومنهم من هو قانع بأقل القليل، ومنهم من هو زاهد حتى في اليسير.

فهذا التفاوت في الهمم والرغبات والاهتمامات يجعل من العسير التوفيق بين هذه المتناقضات والجمع بينها، سيما حين يضاف ذلك إلى تفاوتٍ في المستويات والقدرات والأعمار.

ليس من الممكن تحقيق هذه الرغبات ولا إغفالها جميعاً، ولهذا فإن إعداد الكتاب المناسب، ووجود الأستاذ المقتدر المتفاعل مع مادته، المقدِّر لمسؤوليته، الساعي لإرضاء ربه، ولخدمة شريعته، يساعد كثيراً، ويعين على التغلب على ذلك كله.

ينبغي على المعلمين مراعاة مصلحة الطالب وفق مقدرته الثقافية، وحصيلته اللغوية، فلا عبرة لتذمر المتذمرين، ولا اعتراض المعترضين.

فالمربي الناجح والأستاذ الصالح هو الذي لا يستجيب لردود الأفعال ولا يشتغل بها، وإنما يلتزم بالخطة الدراسية، وبالكتب المقررة المنهجية، وله معالجة هذه الفروق الفردية بمحاولات استثنائية.

خامساً: التعريفات والمصطلحات

من الصعاب التي يعاني منها معلمو المواد الشرعية للدارسين الناطقين بغير العربية أن العلوم الشرعية تحوي على العديد من التعريفات والمصطلحات التي يصعب على المعلم التصرف فيها، ويصعب على المتعلم فهمها وإدراكها بحصيلته اللغوية المحدودة.

ولهذا روعي أن يقتصر في المستويات الدنيا على تدريس القرآن والحديث الشريف معتمدين في ذلك بعد الله على التلقين، وفي الحديث مقتصرين على الأدعية والأذكار اليومية التي يمكن توضيحها من الناحية العملية وبالممارسة.

وإرجاء المواد الأخرى إلى المستويات العليا، حيث يكون الطالب قد حصل على قدر من اللغة تمكنه وتعينه على فهم هذه التعريفات والمصطلحات مع تيسيرها وشرحها بالمترادفات الأخرى، وبالتمثيل والشرح العملي واستعمال بعض الوسائل المعينة على فهم ذلك.

سادساً: قصر مدة الدراسة

تتراوح مدة الدراسة في معاهد اللغة العربية في العالم العربي بين السنتين والسنة والنصف، وهذه المدة غير كافية خاصة للطالب المبتدئ ليجيد مهارات اللغة المختلفة، من تحدث، ونطق صحيح، وقراءة، وكتابة، وتعبير، ودراسة العلوم الشرعية ولو بأقل قدر من تلاوة، وحديث، وسيرة، وفقه، وعقيدة.

هذا بجانب ما يعانيه بعض الطلاب من مشاكل خاصة وعامة، وعدم ملاءمة الأجواء لهم مناخياً، واجتماعياً، ومعيشياً.

ويخطئ كثير من الباحثين حين يقارنون اللغة العربية - أعزها الله - بغيرها من اللهجات التي هي شبيهة باللهجات العامية للعربية، فالدارس للغة الإنجليزية أوالفرنسية مثلاً يحتاج إلى لغة التخاطب التي يحصل عليها ممن يعاشرهم، وربما احتاج إلى كتابتها دعك عن غيرها من اللهجات، حيث تدرس تلك اللهجات والرطانات في سَنَة أوأقل من سَنَة، فقياس العربية بغيرها من جملة الظلم البين الواقع عليها من أبنائها.

هذا بجانب ضعف الإمكانات وقلة التجارب بالنسبة للغة العربية مقارنة بما يبذله أصحاب تلك اللغات لنشرها.

سابعاً: اختلاف الأهداف

تختلف أهداف الخطط الدراسية والدارسين؛ بعض المعاهد هدفها تخريج أساتذة يقومون بتدريس اللغة العربية لبني جنسهم، ولهذا بعد أن يخلِّص الدارس المرحلة الأولى ينتقل إلى دراسة برنامج لمدة تتراوح بين سنتين إلى أربع تكون الغلبة فيها للمواد التربوية.

وبعض المعاهد تعنى بدراسة ما يعرف "باللغة المتخصصة" التي تهيئ الدارس وتعينه على مواصلة دراسته في الكلية التي يريدها.

بينما نجد أن هدف الدراسات الإسلامية هدف جانبي تابع وليس أصيلاً في كثير من المعاهد التي تعنى بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها.

وهذا يعتبر سبباً سالباً، ومعوقاً لإعطاء الدارس الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته الجامعية أوتخصص تربوياً ليكون معلماً للغة العربية في بلده أوغيره ما يحتاجه في حياته، دعك عما يقدمه لإخوانه المسلمين.

لهذا من المهم جداً التأكيد والتأمين على أهمية الدراسات الإسلامية لمتعلمي اللغة العربية، وزيادة مقرراتها وساعاتها، مع الحرص على تأهيل معلميها تأهيلاً يمكنهم من توصيل هذه المادة بوسائل ناجعة وطريقة مفيدة.

ثامناً: التوسع في الترجمة

من العوامل المعيقة لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية للناطقين بغير العربية التوسع في الترجمة نحو ترجمة معاني القرآن العظيم وأنى للغة غير العربية من الأساليب والألفاظ والمعاني أن تسع معاني القرآن - وصحاح السنة، وكتب السيرة، وكثير من الرسائل، على الرغم من الأخطاء الفادحة، والمعاني المبكية المحزنة التي تحويها تلك التراجم، والتشويهات المنفرة منها.

لم يكتف بترجمة ذلك إلى اللغة الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، واليابانية، بل تعدى ذلك إلى لهجات الأمم الإسلامية، إلى لهجات الهوسا، والفلاتى، والأردو وغيرها.

لا شك أن لهذه التراجم فوائد، ولكن ضررها أكبر من نفعها، بجانب الأخطاء والتشويهات المصاحبة لها، ولو لم يكن لها ضرر سوى اكتفاء البعض بها واقتصارهم عليها، والحيلولة دونهم ودون تعلم لغة القرآن ورسول الإسلام لكفى.

لو لجأ السلف الصالح إلى الترجمة إلى لهجات الداخلين في الإسلام من الفرس والقبط وغيرهم لما عمت اللغة العربية تلك الديار، وأصبحت هي لغة التخاطب والتدريس، بجانب أنها اللغة الرسمية، ولما نبع منهم أمثال سيبويه، وابن فارس، والجوهري، وغيرهم كثير رحمهم الله.

إذا كانت ترجمة كتب وثقافات الأعاجم إلى اللغة العربية على الرغم من إثرائها للغة العربية التي ازدهرت في عهد الخليفة المأمون العباسي سامحه الله أفسدت العقول وخربت العقائد، وكانت سبباً لتعذيب والتضييق على الأكابر من أئمة أهل السنة، بل وقتل بعضهم في تلك الفتنة المشؤومة التي تولى كبرها أئمة الضلال، صدقت فيها نبوءة ذلك القسيس الصادق الكذوب، عندما استشاره ملك قبرص في ذلك الحين، حين طلب منه المأمون إرسال كتبهم لترجمتها إلى العربية، قال له: أرسلها له، والله ما دخلت بلداً إلا أفسدته.

فالتوسع في الترجمة من العربية إلى اللغات واللهجات الأخرى عائق كبير للغة العربية، وصاد مانع لكثير من المسلمين وغيرهم لتعلم اللغة العربية، ودراسة العلوم الإسلامية باللسان العربي المبين.

ولو بذلت تلك الأموال التي تبذل الآن في الترجمة لإنشاء معاهد جديدة، ولتطوير القائم، ولطبع الكتب الأساسية لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية للناطقين بغيرها، وتقويم المناهج، لكان المردود أكبر، والفائدة أعظم، والنتائج أسلم.

ولله در مالك بن أنس القائل: ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً، فلن يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه القواعد الجليلة والكلمات المفيدة التي خرجت من في عالم المدينة، داخلة في سائر أمور الدين، من العقائد، والعبادات، والسلوك، والتربية، والتعليم، وغيرها من المجالات.

وأخيراً تذكروا أحبتي الكـرام أن الله أعـزنا بالإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل وأزكى الصلاة والسلام، وجعل لساننا لسان ولد عدنان، فمن طلب العزة والرفعة والمنعة في غير ذلك أذله الله.

والله أسأل أن يعين ويوفق المسؤولين، والقائمين، والمهتمين بشأن تعليم اللغة العربية وعلوم الدين لأبناء المسلمين، وأن يتقبل منهم، ويبارك في مجهوداتهم، وييسر للاحقين التأسي بالسالفين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

00000000000000000

النصائح الغالية في التحذير من أسباب الخلاف الواهية

نوعا الاختلاف

أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة

أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي

ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)

ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل

رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات

خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة

سادساً: عدم التثبت في المنقول

سابعاً: الدخول في العمل العام

ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل

تاسعاً: الإعلان بالنصيحة

عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع

خاتمة

 

تمهيد

"الخلاف شر"، هذه الكلمة المضيئة، والحكمة البليغة، والمقولة الطيبة، التي ينبغي أن تكتب بماء الذهب، وأن تحفظ وتلقن ويعيها العلماء قبل العامة، والقادة قبل الأتباع، والدعاة قبل المدعوين، لحاجتهم إليها، عليهم أن يعضوا عليها بالنواجذ، وينقشوها في البواطن، ويحرصوا على تعليمها للأكابر والأصاغر، والأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء.

هذه الكلمة الطيبة صدرت من عالم فقيه، وإمام نبيه، من عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد معلمي ومفقهي الكوفة في زمانه، وذلك عندما أتم الصلاة الرباعية بمنى مع الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وقيل له في ذلك: كيف تتم وقد صليتَها ركعتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ علل إتمامه بأن "الخلاف شر"، إي وربي الخلاف شر مستطير، وداء خطير، وعيب كبير.

أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة الرباعية بمنى متأولاً لذلك، واعتُذِرَ عنه بأن الموسم يحضره عدد من حديثي العهد بالإسلام من الأعراب، فخشي أن ينطبع في أذهانهم أن الصلاة مثنى مثنى، لعدم معرفتهم بالرخص الشرعية، وقيل فعل ذلك لأنه تزوج بمكة.

وأياً كان سبب إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة الرباعية بمنى، فهو إمام مجتهد مأجور، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول المعصوم.

وشاهدنا إتمام ابن مسعود معه وهو إمام من أئمة الصحابة المقتدى بهم، وشيخ من شيوخهم، مع يقينه التام أن الحاج يقصر الرباعية، ويجمع بعرفة ومزدلفة ولو كان من أهل مكة أومنى، دفعاً لشر الشرين بخير الشرين.

هذه الكلمة ما من إمام ولا داعية إلا وهو يحفظها، ويرددها، ويستشهد بها، ويستعملها للإصلاح بين المتخاصمين، ولكن البعض هدانا الله وإياهم سبل السلام عندما يتعلق الأمر بهم يحيدون عنها، ومن قبل عن العديد من الآيات، والأحاديث، والآثار، والحِكَم التي تحذر من الاختلاف، وتنهى عن التدابر والتباغض، وتأمر بالائتلاف والاجتماع والتسامح، ونسي هؤلاء أوتناسوا أنهم يرتكبون بذلك إثماً عظيماً، ويقترفون ذنباً كبيراً، ويعيبون عيباً مشيناً، لأنهم يأمرون الناس بما لا يأتونه، وينهونهم عما هم يقترفونه، وقد توعد الله هذا الصنف، ونهى عن هذا السلوك: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"، "يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وقال عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: "وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه".

أصرح وأشد ما ورد في الوعيد عن ذلك ما صحَّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".

ولله در القائل:

لا تنهَ عن خلـق وتأتي مثله         عـارٌ عليك إذا فعلت عظيم

واحذر أن يكون مثلك مثل:

كدودة الغزل ما تبنيه يهدمُها           وغيـرها بالذي تبنيه ينتفعُ

مخالفة الآمر الناهي من العلماء والدعاة لما يفعل ويذر قبيحة من القبائح، وسوءة من السوءات في أي أمر من الأمور، ولكن قبحها يشتد، وخطرها يزيد ويتعدى إذا كانت متعلقة بإخوانه من العلماء والدعاة.

فهجر المسلم وقطيعته لأخيه المسلم حرام وكبيرة من الكبائر الجسام، وكذلك سوء الظن والنيل والانتقاص للمسلم حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله"، الحديث، وقوله: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا".

وأسوأ من ذلك كله الحسد، والتباغض، والتدابر، ولذلك نهى عنه وحذر منه الرسول الكريم: "لاتباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".

ويكفي الحسد والبغضاء سوءاً وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لهما بالحالقة التي تحلق الدين وليس الشَّعر: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم، أفشوا السلام بينكم".

فكيف إذا اتصف بعض العلماء والدعاة بتلك الصفات الذميمة، ومارسوا تلك الأخلاق الرذيلة؟ ومع من؟ مع طائفة من إخوانهم العلماء، وطلاب العلم والدعاة.

لاشك فإن المصيبة تكون أعظم، والبلية تكون أكبر، والرزية تكون أفدح، والخسارة تكون متعدية، لتعدي ذلك للأتباع والتلاميذ.

ما من شيء يحز في النفس، ويقض المضاجع، ويؤرق المخلصين، مثل الاختلاف، والتشرذم، والتحزب، والتحاسد، والتباغض في صفوف أهل السنة والجماعة خاصة، وفي صفوف المسلمين عامة، على الرغم من أن دواعي الائتلاف والاجتماع متوفرة، وأسباب الفرقة والتحزب والتنافر والتباغض واهية، ونتيجة هذا التدابر ظاهرة، وخسارته فادحة.

لو لم يرد في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف إلا قوله عز وجل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، لكفى، كيف وكتاب الله وسنة رسوله يأمران بالائتلاف، وينهيان عن الاختلاف.

لا شك أن الائتلاف والاختلاف آيتان من آيات الله، وسنتان من السنن الكونية، ولهذا ختمت الآية السابقة بقول الله عز وجل: "كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، أي لعلكم ترشدون.

يؤسف المسلم الحق، ويحزنه غاية الحزن، أن يرى ويسمع ما يحدث بين العلماء وحملة الشريعة من الهجر، والنفرة، والقطيعة، والوقيعة، وسوء الظن، مع علمهم بحرمة ذلك العمل، والآثام المترتبة عليه، وما يجره على الأتباع من الويل والشرور، وما يحجبه عنهم من النعم والسرور، مما جعل التلاميذ والأتباع شيعاً وأحزاباً، وفرقاً كل حزب بما لديهم فرحون، وبما يسمعون من قادتهم ناعقون، ولبعضهم بعضاً لاعنون، ومضللون، بل ومكفرون، وبما يترتب على ذلك ساهون، لاهون، جاهلون، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: "كل من عصى الله فهو جاهل".

بل تعدى الأمر مداه، وبلغ السيل زباه، حيث تطاول الصغار الأغرار على الكبار، وحكم العامة على الخاصة، وضلل الجاهل العالم، وبدَّع السفيه الحليم، وسلك بعضهم مع بعض مسلك الخوارج الأشرار، الذين أمَّنوا وسالموا عبدة الأوثان والشيطان، وعادوا وقتلوا وكفَّروا أولياء الرحمن، وبقايا السلف الكرام، ويصدق على هؤلاء قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت".

وله در ابن عمر عندما سئل عنهم فقال: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً"، إذ التكفير والتضليل والتبديع بغير حق لإخوان العقيدة ورفقاء الدرب من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، والصفات الرذيلة، وينبئ عن دناءة الأخلاق، وسوء الآداب أوانعدامها.

أخوف ما يخشاه المرء أن يكون الدافع لهذا الصنف في هذا المسلك المشين، وهو سوء ظنهم بإخوانهم، والحط من أقدارهم، ورميهم بما هم بريئون منه، مع علمهم بجلالة قدرهم، وسلامة معتقداتهم، وطهارة بواطنهم، الحسد الذي يأكل قلوبهم، والغيرة المذمومة التي سيطرت على نفوسهم، وطغيان الماديات على تصرفاتهم، وأن يشملهم قول الله عز وجل: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".

رحم الله الشيخ البيجاني حين قال: (وأشد ما تكون المنافسة، وأكثر ما يكون الحسد، بين أهل الصنعة الواحدة، والشرف المتماثل، والبيوت المتجاورة، ولكنه لا يعيش إلا في قلوب خبيثة، ولا ينبت إلا في نفوس ضعيفة، وهو في العلماء أكثر منه في غيرهم، كما يقول مالك بن دينار رحمه الله: شهادة القراء مقبولة في كل شيء، إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسداً من التيوس؛ وتقدم أن العلماء بالحسد يدخلون النار قبل الحساب بسنة كاملة... وإنما يتحاسد العلماء إذا كان علمهم لغير الله، وأرادوا به صرف وجوه الناس إليهم، وبعضهم يتعلم ويترك العمل والاكتساب ويصبح عالة على الناس، ويعتقد أنهم متى رأوا غيره خيراً منه تركوه وأعرضوا عنه، ولذلك فهو يحسد أهل الفضل قاطبة، ويكره العلماء أجمعين، ولا يثني إلا على ميت أمن شره، أوغائب لا يخاف مكره، ولو أنهم طلبوا العلم لله، وأرادوا به الآخرة، وعملوا لدنياهم كسائر الناس، لصاروا هم السادة والقادة بكل فضيلة).

نوعا الاختلاف

الاختلاف نوعان كبيران، وقسمان خطيران:

أحدهما: خلاف سائغ جائز شرعاً.

وثانيهما: خلاف ممنوع محرم شرعاً.

ولكل من النوعين شعب شتى، وفروع مختلفة.

ومن أمثلة الخلاف السائغ الجائز ما يلي:

1. اختلاف التنوع، نحو صيغ الأذان، وأوجه الإحرام، وصيغ التشهد، وما شاكل ذلك.

2. اختلاف في بعض الأمور التي تكافأت فيها الأدلة، نحو تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية، وقراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة، ونحوها.

3. اختلاف في الأمور التي لم يرد فيها نص.

4. اختلاف في وسائل العمل.

لا شك أن الاختلاف السائغ منه ما هو راجح، ومنه ما هو مرجوح، فمن أصاب الحق فيه إن كان من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ الحق فله أجر.

أما الاختلاف الممنوع المحرم شرعاً فمن أنواعه ما يأتي:

1. اختلاف التضاد.

2. اختلاف سببه اقتراف البدع الكفرية.

الذي يعنينا في بحثنا هذا النوع الأول، وهو الاختلاف السائغ الجائز الذي لا يوجب عداء ولا هجراً، دعك من أن يوجب تضليلاً أوتكفيراً، وكل ما نتج من ذلك من نفرة وهجر، وعداء، وتضليل، ونحوه سببه البغي والحسد، أوحمل بعض الأمور على غير محملها الشرعي.

أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة

إذا أردنا علاج أي أمر من الأمور لابد من تشخيص الداء تشخيصاً صحيحاً دقيقاً، ثم بعد ذلك نقدم الحلول التي تناسب هذه الأدواء.

لا أشك قط أن جل الأسباب التي أدت إلى التفرق والتشرذم في أوساط العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة والجماعة في هذا العصر غير موضوعية، وهي لا تدعو بحال من الأحوال إلى التنافر والتباغض، فكيف بالتضليل والتكفير؟ لأن جلها ناتج عن خلاف جائز مستساغ، وقد اختلف في ذلك وفي أكبر منه سلفنا الصالح، بل وتقاتلوا، ولكن مع كل ذلك لم تحدث بينهم النفرة، والفرقة، والتباغض، والتحاسد، والكيد، كما هو حادث الآن في خلفهم، وكان ينبغي على الخلف الصالح أن يسلك مسلك سلفه الفالح، وأن يسعهم ما وسع أولئك، حتى لا يشملهم قول من قال: "من لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسَّع الله عليه".

ويمكننا بالاستقراء والمعايشة والتجربة أن نورد الأسباب الرئيسة التي أدت ولا تزال تؤدي إلى الفرقة، ونخرت ولا تزال تنخر في صف الأخيار، كي تستبين سبيل المؤمنين، وتتضح طريق المتقين، التي يرفعها البعض ويبرر بها سبب نفرته واختلافه مع الآخرين، لنعلم أنها ليست من الأسباب التي توجب العداء، وتسبب الفرقة، وتحدث التشرذم والتحزب الممقوت الذي حذرنا منه ديننا وخوفنا منه ربنا ورسولنا، ونهانا عنه سلفنا: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء"، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.

أسباب التفرق، والتحزب، والهجر كثيرة جداً، منها ما هو منطوق منظور، ومنها ما هو مضمر مجهول، منها ما يرجع إلى قصور في الفهم، أوخطأ في التأويل، أو عجز في التعبير، ومنها ما يرجع إلى أمراض قلبية، وعقد نفسية، وأغراض شخصية، وأهواء مطوية، وهذا النوع الثاني لا قبل لأحد بعلاجه، ولا سبيل للخلاص منه إلا التضرع والدعاء وسؤال رب الأرض والسماء، مالك القلوب ومصرفها أنى شاء، فنسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا وقلوب جميع إخواننا العاملين وغيرهم من الحسد والبغضاء، وعن الأغراض والأهواء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فنقول مستمدين منه العون والسداد:

أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي

من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر تركيز بعض الجماعات على العمل العام، وتقصيرهم في جانب إصلاح العقائد، مما جعل طوائف من العاملين يحملون على هؤلاء ويصفونهم بالتقصير والتهاون في أمر ينبغي أن يكون هو الأصل والأساس.

لا شك فإن أمر العقيدة هو أصل الأصول، ولا يحل لجماعة أن تعنى بغيره قبل إحكامه وإصلاحه، فقد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يعالج هذا الأمر ويكابده، والقرآن المكي كله كان هذا موضوعه، وكل ذنب سوى الشرك مغفور، وكل عمل قبل التوحيد محبط مهدور.

لكن هذا السلوك لا يوجب العداء، وإنما يستحق الرحمة والعطف، وينفع معه الرفق والحكمة، وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما يُطلب منه أن يدعو على أعدائه من المشركين يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، لقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام أن يرفقا بالطاغية الباغية فرعون، قائلاً: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى"، فكيف بالمسلم؟ والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه.

لله در عمر ورضي الله عنه، فقد كان رفيقاً رحيماً، روى الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه؛ وقرأ قول الله عز وجل: "وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة".

ولهذا كان من دعاء الإمام أحمد رحمه الله: "اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق، وهو ليس من أهله، اللهم فرده إلى الحق ليكون من أهله"، أوكما قال.

فالواجب على العلماء والدعاة بيان الحق وتوضيح السنة من البدعة، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن اتبع الحق فبها، ومن لم يتبع روجع حتى يشرح الله صدره للإسلام.

الهجر وسيلة من وسائل التأديب، وطريقة شرعية من طرق التعزير، شريطة أن لا يتجاوز به الحد، وأن نتيقن من فائدته وجدواه، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كان الضرر المترتب على الهجر والقطيعة أكبر من النفع يحرم الهجر في هذه الحال، فإن لكل مقام مقال، ولكل شأن حال، فما يناسب هذا يضر بالآخر، وهكذا.

ظهر من ذلك أن التقصير في الجانب العقدي مع الإقرار النظري بأهمية العقيدة وصدارتها لا يوجب العداء، وإنما يوجب التناصح، والدعاء، والرفق، والصبر، وتنوع الوسائل.

وثمة شيء آخر، وهو أن أفراد هذه الجماعة ليسوا سواء، فهم متفاوتون أكبر تفاوت، مع احتفاظهم بقدر مشترك من التوافق، فمن الظلم الحكم عليهم بحكم واحد، وإنزالهم منزلة واحدة.

فالمنسوبون والمنتسبون إلى هذه الجماعة في الجزيرة، والخليج مثلاً متميزون عن غيرهم من أهل البلاد الأخرى، فهم معنيون ومهتمون بأمر العقيدة ومشتغلون بإصلاحها، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله عز وجل للأثر العميق الطيب لدعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب طيب الله ثراه وبارك في مجهوداته وأتباعه ومن والاهم، وفي الجميع خير وبركة كما أخبر الصادق المصدوق: "المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ".

ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)

من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر، وصم البعض لإخوانهم بأنهم تكفيريون، أوسروريون، أوخوارج كما زعموا، ومن ثم لم يكن لهؤلاء النفر شغل ولا هم ولا عمل إلا النيل والانتقاص من هؤلاء، والتحذير من موالاتهم، والاستماع إليهم، وغشيان مساجدهم ودروسهم ومحاضراتهم، أومطالعة كتبهم ورسائلهم، والكتابة والكلام عنهم، بمناسبة وغير مناسبة.

هذه التهمة ليس لها شبيه ولا مثيل، ولا ند ولا نظير، إلا وصم بعض الأخيار بأنهم وهابية أوخامسية، فكما أنه لا وجود لعقيدة وهابية ولا فرقة خماسية، كذلك لا توجد عقيدة سرورية، وأخشى ما أخشاه أن يكون الدافع لإطلاق هذه الألقاب الهوى.

إني معاشر ومخابر للواصفين والموصوفين بالسرورية، ولا ينبئك مثل خبير، فلم أعلم فرقاً في الاعتقاد، فالجميع على عقيدة أهل السنة والجماعة، والجميع سلفيون، إلا بعض الفروق الطفيفة التي لا يخلو أفراد فرقة من الفرق منها.

ومن الغريب العجيب أن الفتن والمصائب كانت تجمع بين المسلمين، وتوحد كلمتهم، وتلم شملهم، وتنسيهم خلافاتهم، إلا في هذا العصر، فإن ما ابتلي به المسلمون من النكبات، وما حل بهم من المصائب، وما نزل بهم من النوازل، كان سبباً وعاملاً للفرقة والتشتت والتحزب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فهذه البدعة السيئة ظهرت عقب حرب الخليج الأولى واستفحلت بعدها.

عندما ظهرت بدعة الخروج، وهي أول البدع ظهوراً وخطراً على الإسلام، ناظرهم أئمة الدين علي، وابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وردوا شبههم، وبينوا قلة فقههم وضحالة تفكيرهم، فرجع من رجع منهم، وبقي من كتب الله عليه الشقاء، وسنمثل لذلك بمحـاورة ومناظـرة عمر بن عبد العزيز للخوارج كما رواها ابن عبد البر: (فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم، ثم أدخلهم عليه، فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم، ونزعوا عن رأيهم، وأجابوا عمر، وقالت طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك، وتلعنهم، وتبرأ منهم؛ فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون، أولعنتموه، أوذكرتموه في شيء من أمركم؟ قالوا: لا؛ قال: فكيف وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبداً أخبث من صفته إياه، ولا يسعني ترك أهل بيتي، ومنهم المحسن والمسيء، والمخطئ والمصيب؟!).

الذين قاموا بمناظرة هؤلاء المبتدعة من أولي أمر المسلمين، وما قاموا به من أوجب واجباتهم نحو هذا الدين.

جرت بعض المناظرات بين المتهمين والملقبين بذلك وبين من يتهمهم، ودلل لهم المتهمون بأنهم لا يدينون بشيء مما رموا به، ومع ذلك نجد البعض يصر أن هذا من باب التقية، ويجدد ويكرر تهمه، وهذا من الظلم البين والكِبر الظاهر: "الكِبْر بطر الحق وغمط الناس"، ومعنى "بَطَرُ الحق" أي دفعه، والمسلم مطالب أن يحكم على أخيه المسلم بما ظهر منه، وبما قاله لسانه وخطاه بنانه، لا أن يشكك في ذلك، ويتهم النوايا والسرائر التي لا يعلمها إلا الله.

فهذه تهمة مختلقة باطلة، وكل ما بني عليها فهو باطل.

ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل

لا ينبغي أن يؤدي اختلاف الناس في وسائل العمل وفي تقديرهم لفعالياته إلى الهجر والتدابر والتنافر، فكل ميسر لما خلق له، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

ولكن ما نراه اليوم من التنافر والتباغض يرجع كثير منه إلى اختلافهم في وسائل العمل، وإلى اهتمام بعض الفرق والطوائف ببعض المناشط دون بعض.

ومما لا شك فيه أن مثل هذا الاختلاف لا يترتب عليه عداء ولا يمثل خطراً على الإسلام، وينبغي أن يكون هناك تنسيق وتعاون بين سائر العاملين في مجالات الدعوة المختلفة، حتى تثمر هذه الأعمال وتتضافر الجهود لتحقيق ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، من غير عيب ولا شين لطائفة من الطوائف.

هذا كله إذا صلحت النية وسلمت الضمائر.

رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات

من أسباب الهجر الممقوتة، وعوامل الفرقة المشاهدة المحسوسة، وتهويشات الشيطان المألوفة، الانفصال والخروج والانشقاق عن جماعة من الجماعات، سواء كان خروجاً فردياً أوجماعياً، حيث يحل الهجر محل الوصل، والبراء محل الولاء، والفرقة محل الألفة، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويكفي هذا المسلك سوءاً، وهذا الخلق قبحاً أنه من سمات أهل الأهواء، وليس من صفات أهل الدين والتقوى، وقد سبق وصف ابن عمر للخوارج بدناءة الأخلاق، لتكفيرهم وتضليلهم بعضهم البعض، ولله در أمير المؤمنين علي عندما سئل عن الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وفرقوا الجماعة، وعادوا أهل الإسلام، ووالوا وساعدوا أهل الشرك والأوثان، لم يزد إلا أن قال: "إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم"، وأمر أن لا يبادروا بالقتال حتى يبادروا هم.

هذا الداء العضال والمرض المهلك البطال عامل أساس في إشاعة التحاسد والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة، ومما يؤسف له أن البعض لا يتعظ ولا يستفيد من أخطاء السابقين، ولا يحذر من جهل الجاهلين، فيقع فيما كان منه يخوِّف وينذر.

ومما تجدر الإشارة إليه، ويجب التنبيه عليه، أن الانتماء إلى الجماعات والأحزاب الإسلامية جائز إن كانت هذه الجماعات والأحزاب قائمة على مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وأنه من باب التعاون على البر والتقوى، ولا حرج على المنتسب لأي جماعة من هذه الجماعات أن يخرج منها إلى خير منها، خاصة إذا شعر أن جماعته الأولى أخلت بأمر من الأوامر الشرعية، أوإن غيرها أكثر فعالية منها، أولم يجد فيها بغيته، وليس هناك ما يلزم المرء أن يبقى في جماعة من الجماعات حتى الموت.

ولا ينبغي لجماعته الأولى التي تخلى عنها لأي سبب من الأسباب من غير أن ينال منها أن تجد عليه، أو تحمل عليه، ولا أن تغير معاملتها له، طالما أنه ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة.

فقد انتقل كثير من أهل العلم من مذهب إلى مذهب، ورجع بعضهم عن بعض الأقوال التي كانوا يعتقدونها ويرجحونها، فلم يثرِّب عليهم أحد، ولم ينكر بعضهم على بعض.

ومن غرائب الاستدلال استدلال البعض على جواز هجر وقطع من خرج من جماعة من الجماعات بقصة هجر الرسول صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.

وهذا استدلال مع الفارق والفارق الكبير، فالرسول صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي هجر هؤلاء ليتثبت من صدقهم وعدم نفاقهم، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيفتيه في أمرهم، وقد حدث أن نزل قرآن بتبرئتهم من النفاق.

هذا بجانب أن هؤلاء الثلاثة خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وأن جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الجماعة الوحيدة التي تعبد الله في الأرض من بني آدم، فهل هناك وجه للمقارنة بين الجماعة المسلمة الأولى وبين الجماعات التنظيمية اليوم؟!

ليس لهذا النوع من الهجر والتباغض سبب إلا الجهل والهوى، فينبغي لقادة هذه الجماعات ولقواعدها أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي إخوانهم، وأن لا ينجروا وراء أهوائهم وعواطفهم، وأن يكون ولاؤهم أولاً وأخيراً لله عز وجل، وأن لا يجعلوا ولاءهم لجماعتهم وأتباعهم أكبر من ولائهم لله، فيقعوا في المحظور، وعليهم أن لا ينسوا حقوق المسلم نحو إخوانه المسلمين التي بينها لنا رسول رب العالمين: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".

خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة

كثير من الجفاء والتباغض والشحناء بين العاملين في مجال الدعوة مرده إلى سوء الظن وانعدام الثقة، وإلى التأويلات الخاطئة والتفسيرات الجائرة، لما يصدر من بعضهم نحو بعض.

لهذا نهانا ربنا عن الظن السوء: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم".

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسُوا ولا تجسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

لو صفت القلوب، وسلمت الضمائر، وطهرت السرائر، وحمل المسلم ما يصدر من أخيه على أحسن المحامل لزالت كثير من هذه الشكوك، ولتبددت هذه الحزازات.

الظن المنهي عنه مرادٌ به التهمة، ولان النفوس جبلت على الظن دلنا رسولنا على كيفية التخلص من ذلك، وهو عدم التحقيق، والبحث والتفتيش، فقال: "إذا ظننتَ فلا تحقق، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا تطيَّرتَ فامض" الحديث.

قال القرطبي في تفسير آية الحجرات: (قال علماؤنا: فالظن هنا هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها).

سادساً: عدم التثبت في المنقول

نقل الكلام وعدم التثبت فيه يوغر الصدور، ويزرع الوحشة في النفوس، فالسعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فكيف إن كانت زوراً وبهتاناً، وزيد فيها ونقص منها؟، وصدق من قال: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"، وصلى الله وسلم على القائل: "لا يدخل الجنة نمام"، وفي رواية: "قتات"، ويكفي النميمة قبحاً أن قرنت مع البول، وهو أطهر منها، وجعل غالب عذاب القبر بسببهما، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".

فالنمام فاسق بحكم الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، يجب على العلماء والقادة أن يتنزهوا عن هذا المسلك المشين، وأن يحذروا أتباعهم أن يلغوا في هذا المرتع الآسن.

ينبغي للقائد والعالم والأمير أن ينصح أصحابه، وأن يوجه تلاميذه إلى ما فيه خيره وخيرهم، لأنه مسؤول عنهم، ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين قال موجهاً جلساءه وموضحاً لهم شروط صحبته ومعاشرته، حتى يكونوا على بينة.

روى الإمام الأوزاعي رحمه الله أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج عن صحبتي والدخول عليَّ).

لم يكتف بعض القادة بالتجسس ويسمح بنقل الأخبار عن الآخرين حتى جعل له عيوناً على أتباعه أنفسهم، معللاً ذلك بأن مصلحة الدعوة والتنظيم تحتم ذلك، ولم يعلم أنه بذلك أصبح من المفسدين في الأرض وليس من المصلحين، ومن الغاشين للأتباع وليس من الناصحين لهم.

روى أبو داود بسنده في سننه عن معاوية رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعتَ عورات الناس أفسدتهم أوكدتَ أن تفسدهم"، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها.

لا ينبغي للتابع والتلميذ أن يكون بهذه الدرجة من الجهالة والوقاحة، وعليه أن يعلم أن الطاعة لا تكون لمن تجب عليه طاعتهم كالوالدين وولاة الأمر إلا في المعروف، وأنه إنما انتمى إلى تلك الجماعة ليزكي نفسه ويصلحها، لا ليفسدها ويخربها.

اعلم أخي المسلم أن الثقة لا يبلغ، وأن الكريم لا يسعى بالنميمة على مسلم، قال بعض الحكماء: لا يكون النمام إلا زنيماً؛ وهو المتهم في نسبه.

سعى رجل إلى بلال بن أبي بردة الأشعري برجل من أهل البصرة فقال: انصرف حتى أكشف عنك، وبعد البحث عنه وجده ابن زنا.

دخل رجل على سليمان بن عبد الملك رحمه الله فاستأذنه في الكلام، وقال: "إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته"، فقال: "قل"، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنه قد اكتنفك رجال باعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصغ إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، ولا في الأمانة تضييعاً، والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسؤول عما أجرموا، وليسوا بمسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره".

فويل للعلماء والدعاة من التلاميذ والأتباع، وويل كذلك للتلاميذ والأتباع من العلماء، إن لم يتق الله الجميع ويخشاه ويراقبه في السر والعلن، فالنميمة من أقوى عوامل التحاسد والتباغض والتفرق والتهاجر بين العلماء والدعاة: (فالعلماء لا يتباغضون ويختلفون لشيء بعد الحسد إلا النميمة، يسعى بها الجهال بينهم، وينقل بعض التلاميذ كلام أستاذه مبدلاً ومحرفاً، فيسبب لخبثه وبلادته الفتنة الشهواء، ويثير عواطف الجهال على شيخه، ويفتح لعلماء السوء باب الطعن على أستاذه، فيدخلون عليه بكل مصيبة، وينسبون إليه كل خطيئة، وقد يدخل النمام بيوت الله للعبادة فيخرج مأزوراً غير مأجور، يبدل ما سمع من الخطابة والتدريس بما شاءت له نفسه الخبيثة، وأوحى به إليه إبليس، وما كان أيسر أن يجتمع العلماء وينصف كل من نفسه، ولا يصدق من نمَّ له على إخوانه، وإذا بلغه شيء يسوءه سأل عنه صحته، وأحضر معه النمام يفضحه إن كان كاذباً، ويحذر الناس من شره إن كان صادقاً).

سابعاً: الدخول في العمل العام

من أسباب الخلاف وعوامل الفرقة والتباغض بين بعض العاملين في مجال الدعوة الدخول في العمل العام أوالمشاركة فيه، سواء كان في نطاقه العام أوالمحدود داخل الجامعات والمعاهد العليا، سيما فيما يتعلق بالتعاون والتنسيق مع بعض الجماعات والأحزاب، ويمثل ذلك ما حدث في انتخابات اتحاد جامعة الخرطوم قبل شهور، والتصدع الذي أحدثه دخول واشتراك نفر من أنصار السنة في الحكومة السودانية.

على الرغم من أن وجهات النظر في ذلك تختلف وتتباين بين مؤيد ومعارض، ومجيز ومانع، ولكن في نهاية المطاف فإن ذلك يعتبر من المسائل الاجتهادية القابلة للأخذ والرد، وليست من المسائل الفاصلة التي توجب العداء والنفرة، والتخاصم والتدابر.

فقد حدث هذا ويحدث من عدد من الجماعات الإسلامية في عدد من البلاد، وله إيجابيات وسلبيات، وينبغي أن تقدر كل حال بقدرها، وأن يحكم ذلك كله القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وقبول خير الشرين دفعاً لشر الشرين، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ونحو ذلك.

ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل

من أوجب الواجبات على أهل العلم الحكم على النوازل، وبيان حكم الشرع فيها قبل فوات الأوان، حتى لا يدعوا العامة في حيرة من أمرهم، فقد منَّ الله على هذه الأمة أن شريعتها حوت من الأصول الكلية والقواعد الأساسية ما هو كفيل بالحكم على أي نازلة من النوازل، إذ القياس والاجتهاد لمن يملكون أدواتهما مصدران من مصادر هذه الشريعة السمحة.

لقد ضمن الشارع الحكيم لهذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة أبداً، إذ لا تزال طائفة منها ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.

أهل الاجتهاد مأجورون في كل الأحوال، إن أصابوا الحق فلهم أجران، وإن أخطأوه فلهم أجر، لأن الحق عند الله عز وجل واحد لا يتعدد.

قد يختلف أهل الحل والعقد من العلماء في حكمهم على نازلة من النوازل، وهذا ما لا حرج ولا تثريب فيه، وللحاكم أن يختار من هذه الأقوال ما تطمئن إليه نفسه، ويراه مخلصاً له عند ربه، بعد أن يجتهد فيها ولو كان عامياً، إذ العامي يجب عليه أن يجتهد في أقوال المفتين كما قرر ذلك الإمام الأصولي الشاطبي رحمه الله.

ولكن الممنوع المحذور أن يثرب أويضيق بعضهم على بعض، بسبب اختلافهم في نازلة من النوازل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الأسوة الحسنة حين استشار كبار أصحابه في أسرى بدر، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم الفداء، وأشار عليه عمر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما بقتلهم، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر فلم يقتلهم، ولم يثرِّب أحدهم على الآخر، ولم يتخـذ رسـول الله صلى الله عليه وسلم موقفـاً من عمر وعبد الله بن رواحة، ثم نزل القرآن موافقاً لما رآه عمر وعبد الله، وبعد ذلك لم يثرِّب على أبي بكر رضي الله عنه.

فالحرج والتثريب على أحد من أهل العلم رأى رأياً مخالفاً لما رآه غيره من أهل العلم ولما يهواه الحاكم، كما حدث إبان حرب الخليج الأولى، من الظلم البين ومن التعدي الواضح.

وليت الأمر وقف عند الحرج والتثريب، ولكن تعداه من نفر من أهل العلم وتلاميذهم إلى الطعن والتشكيك والانتقاص والتحذير من أصحاب القول المخالف، وقد أثبتت الأيام صحة ما ذهبوا إليه، ووقع كل ما تنبؤوا به وحذروا منه وزيادة، عندما واصلت أمريكا حربها الصليبية على الإسلام وغزو دياره واحداً تلو الآخر.

الفرقة والتنافر والاختلاف والانقسام الذي أحدثه هذا السلوك المشين والتصرف الظالم لإخوة الدين، وما نتج عن ذلك من الوقيعة وسوء الظن وانعدام الثقة بين صفوف العلماء والدعاة وتلاميذهم، لا يعلم مداه إلا الله، حيث أوغر الصدور، وأزال الجسور، وهيأ للفجور في الخصومة، ولا تزال آثاره يتجرعها المخلصون، وعلقمه غصة في حلوق العاملين في الدعوة.

لا يدري والله المرء ويكاد يدري ما الذي دفع إلى ذلك، وخطأه واضح لكل ذي عينين، بيِّن لا يحتاج إلى بصيرة نافذة ولا إلى حلم وافر.

مما يحمد له أن مشايخنا الكبار وعلماءنا الأبرار أمثـال الشيـخ عبد العزيز بن باز والشيـخ محمد صالح العثيمين قدَّس الله أرواحهما وغيرهم كثير من الأحياء أطال الله أعمارهم ومتع بهم الأمة، لم يخوضوا في تلك الفتنة، فقد طهر الله ألسنتهم وأقلامهم من أن ينسب إليهم شيء من ذلك، وهذا هو المظنون بهم، والمؤمل فيهم، لسلامة صدورهم، وطهارة نفوسهم، ونفاذ بصائرهم، وعمق فقههم، نسأل الله أن يوفقنا وجميع إخواننا من العلماء والدعاة للاقتداء بهم وبسلفنا الصالح.

والله أسأل أن ينزع الغل والحسد والبغضاء والشحناء من قلوب العلماء والدعاة وأن يكون لهم في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه القدوة عندما قال عقيب موقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير رضي الله عنهما: أرجو أن نكون ممن قال الله فيهم: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً".

فينبغي للجميع أن يراجعوا مواقفهم، وأن يحاسبوا أنفسهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة أيما فضيلة، والتمادي في الخطأ والإصرار عليه رذيلة ما بعدها رذيلة، وليحذروا الكِبْر والاستنكاف خاصة وهم لهم تلاميذ وأتباع مسؤولون عن تصرفاتهم، ومؤاخذون بجرائرهم، حتى تضمد الجراح وتعود الألفة والسماح مع إخوة الإيمان، ومحبة الإسلام.

وأرجو من الذين ظُلِموا وهُجِروا وانتقِصوا ونيل من عقيدتهم أن لا يغلبهم الشاعر العربي الفحل المقنع الكندي على العفو والصفح، وأن يسعهم ما وسعه، فحقوق الأخوة الإيمانية ليست بأقل من حقوق العصبة والأرحام، حيث قابل الهجر بالوصل، والجفاء بالمحبة، والظلم بالمسامحة، والسيئة بالحسنة، فخلدت آثاره، ومدحت أخلاقه، وشكرت فعاله، وتمثل بأبياته، وتغني واستشهد بأشعاره.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً".

وإن الـــــذي بيني وبـين  بـني أبي         وبـين بني عمي لمختلف  جـــــــداً

إذا أكلوا لحمي وفـرتُ   لحـومهم         وإن هدمـوا مجدي بنيتُ لهم مجــداً

وإن ضيعوا غيبي حفظتُ  عيوبهم         وإن هُمْ هَوَوا غيي هويتُ لهم مجداً

وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم        دعـوني إلى نصـر أتيتهم  شـــــــداً

وإن زجروا طيراً بنحس يمـر  بي        زجرتُ لهم طيراً يمـر بهم سعــــداً

ولا أحملُ الحقـد القـديـــــم عليـهم        وليس رئيس القوم من يحملُ الحقدا

لهم جل مالي إن تتـــــابع لي غنى        وإن قـلَّ مـالي لم أكلفـهم رفــــــــداً

واللهِ لو سلك العلماء والدعاة مع بعضهم بعضاً مسلك هذا الشاعر اللبيب، والعربي الأصيل، والرئيس النبيل مع إخوته وبني عمه على الرغم من التباين الواسع والبون الشاسع بينه وبينهم، لتوحدت كلمتهم، والتأم شملهم، وعلا شأنهم، وتغيرت أحوالهم، وسلموا من سائر عوامل الفرقة والتحزب.

أما إذا سلكوا مع بعضهم البعض حال ما وصفه الآخر مع ابن عمه فقال:

سريع إلى ابن العم بلطم خـده         وليـس إلى داعي النـدى بمجيـب

فقد خسروا، وأشمتوا عليهم الأعداء وأفرحوهم، وأحزنوا الأصدقاء وأساءوا إليهم.

تاسعاً: الإعلان بالنصيحة

من أسباب الخلاف بين العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة في هذه الأيام، التي يرفعها البعض ضد آخرين، ويعتبرونها حاجزاً منيعاً للتآلف والاجتماع، ويعادون ويوالون بسببها، المجاهرة بالنصيحة لبعض ما يصدر من مخالفات لولاة الأمر من حكام المسلمين.

وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن الأصل في النصيحة مع كل مسلم مستور الحال غير مجاهر ولا داع لبدعة ولا فسق أن تكون سراً، خاصة لولاة الأمر بشقيهم من العلماء والحكام، الذين يأتمرون بأمر الله، الذين أمرنا الله بطاعتهم في المعروف: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ولهذا قيل: من نصحك سراً فقد نصحك، ومن جاهر لك بالنصيحة فقد فضحك.

المسارات التي يُنَاصح فيها ولاة الأمر من العلماء والحكام ثلاثة هي:

1.  ما يتعلق بالسلوك سواء كان سلوكه أوسلوك أهله.

2.  ما يتعلق بمصالح الدين والعباد والبلاد.

3.  ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها.

كل ذلك مع تحري الصدق، والتزام الرفق، ومراعاة الحكمة والمصلحة.

فالمساران الأول والثاني لا يجوز الجهر بالنصيحة فيهما لما يترتب على ذلك من ضرر متعدٍ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.

فعلى الناصح أن يكرر نصحه سراً، وأن يتحرى الأوقات المناسبة، والفرص السانحة، فلكل مقام مقال، ولكل شأن حال، وعليه أن لا ييأس ولا يقنط.

أما المسار الثالث وهو ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها وليس المختلف فيها، نحو الممارسات الشركية، وإقامة الحدود، وتحريم الربا، وصور البدع، والموالاة الكفرية، والمسكرات والمخدرات، ونحو ذلك، ينبغي أن ينصح فيها ولاة الأمر سراً ومراراً وتكراراً، ولكن إن لم تُجْدِ هذه المناصحة ولم تفد هذه المسارّة مع تفشي هذه المخالفة وانتشارها وظهورها، فلا مانع من الجهر بمناصحته ونصره على نفسه، وعونه على أداء واجبه، والقيام بمسؤولياته، حتى لا يعم الخراب ويظهر الفساد، وندعو ولا يستجاب.

إن لم يكن إلا الأسنة مركبـاً          فما حيلة المضطر إلا ركوبها

وفي حالات كثيرة جداً يكره المرء إكراهاً ويحمل حملاً حيث لم تكن مندوحة عن الأمر، ولهذا قيل: "مكره أخاك لا بطل".

ومن فضل الله علينا أن مراتب الإنكار ثلاثة: باليد، واللسان، والقلب؛ فمن جاهد بأي جارحة من هذه الجوارح الثلاث فهو مؤمن.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

وعن ابن مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".

الذي جعل هؤلاء النفر يشددون النكير على إخوانهم الذين يرون أنه من الواجب عليهم المناصحة والأمر والنهي، ربطهم بين الأمر والنهي للحكام والخروج عليهم، وليس هناك من علاقة بين الأمرين.

فالأمر والنهي مطلوب من العلماء لإخوانهم الحكام مرغوب فيه محذر أشد التحذير من التقصير والتهاون فيه، والخروج على الحكام منهي عنه.

وهذا من قواعد مذهب أهل السنة، ومن الثوابت التي لا يجادل فيها أحد عنده أدنى معرفة بمذهب السلف، إلا في حال الكفر البواح الذي ظهر فيه الدليل ولاح، وحتى في هذه الحال لا يجوز الخروج المسلح ولا يحل إلا إذا أمنت الفتنة، وإلا إذا ترجح الإصلاح على الإفساد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وإمام غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم، كما هو معلوم من أبجديات الدين.

فمنع الأمر والنهي سواء كان سراً أوجهراً إذا التزمت الحكمة، وروعيت المصلحة، وخلصت النية، لا مبرر له أبداً، وهو خوف في غير محله، والسكوت عن الأمر والنهي مع تفشي المخالفات وظهورها من المهلكات.

والحكام ليسوا كلهم سواء في هذا العصر، فمنهم من يُحَكِّم شرع الله وليس لهم دستور ولا قانون سواه، ومنهم من يعلن أنه يحكم بشرع الله ويقيم حدوده، ومنهم من يعاديه ويتحاكم إلى دستور وضعي وقانون مستمد من القوانين الفرنسية والهندية وغيرها، فهل يستوون؟

هذا بجانب أنهم غير معصومين، بل لحوم ولاة الأمر من العلماء أكثر سماً من لحوم الحكام، وعادة هتك الله لستور منتقصيهم معلومة، فلماذا هذه المحاماة عن الحكام جميعاً وفيهم وفيهم؟ بينما نعطي أنفسنا الحق في انتقاص طائفة من العلماء والنيل منهم وأكل لحومهم وهتك ستورهم، فكما أن الحكام العلماء والمؤتمرين بأمر العلماء طاعتهم واجبة، واحترامهم مطلوب، فكذلك الأمر للعلماء، فالذي أمر بإكرام وإجلال الحكام هو الآمر بإكرام العلماء.

ألا يخشى هؤلاء أن يصيبهم شيء من الوعيد الوارد في قوله تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا".

الأدلة على جواز الجهر بالنصيحة للحكام كثيرة جداً، وفيما قاله أبوسعيد، وعائذ، وأبوذر رضي الله عنهم، ومن قبل قاله علي رضي الله عنه أمام عثمان رضي الله عنه: لبيك عمرة؛ وعندما قيل له في ذلك قال: ليعلم الناس أنها سنة كفاية؛ لأن عثمان ما كان يرى التمتع بالعمرة في الحج.

رضي الله عن أبي بكر الصديق حين قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها أي النصيحة ولا خير فينا إن لم نقلها".

ودعا عمر لمن أسدى إليه النصيحة، فقال: "رَحِم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"، وجعل النصيحة من الهدايا القيمة والجوائز النبيلة التي تستحق الشكر والمكافأة، ولهذا كان الأخيار من حكام وأمراء هذه الأمة يجزلون العطايا والثناء على من ينصحهم أكثر من غيرهم من غير المصرِّحين بالنصيحة لهم.

فالاستكبار والاستنكاف عن قبول النصيحة بأي أسلوب كانت وبأي طريقة حدثت من صفات الطغاة ومن أخلاق المستبدين، ولهم في النمرود وفرعون وأمثالهما مثل السوء.

عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع

كثير من الأسباب السابقة وغيرها مردها واستفحالها وخطورتها ناتجة من ضعف تزكية النفوس وقلة أوانعدام ورعها، فالنفس إذا لم تزكَّ وتطهر من الرذائل والأحقاد، وإذا لم يشتغل الإنسان بعيوب نفسه تشاغل بعيوب غيره وضخمها وبالغ في إظارها ونشرها وبثها بين الناس، فقد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

فينبغي للقادة أن يعملوا على تزكية نفوسهم وتطهيرها والسمو بها عن سفاسف الأمور، والاشتغال بمعاليها، وأن يحثوا أتباعهم وتلاميذهم على ذلك، فهم أمانة في أعناقهم، ويقعون تحت إطار مسؤولياتهم، فتعليم الأتباع الأدب والسلوك من أوجب الواجبات، ومن أكبر التبعات، وأفضل طريق لذلك هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، فالتأديب والتعليم بالأفعال خير وأنفع من التأديب والتعليم بالأقوال.

خاتمة

لا شك أن أسباب الخلاف كثيرة، وليس هدفنا الإحاطة بها، ولكن التنبيه والتذكير بأخطرها لنقيس عليها.

يحق للقارئ بعد هذا أن يسأل بعض هؤلاء العلماء والدعاة، أمن أجل هذه الأسباب الواهية تفرَّق كلمة الأمة، ويهجر ويُعادى الإخوة والأصفياء، ويكيد بعضنا لبعض أشد من كيدنا للأعداء؟!

أمن أجل هذه الأسباب ندفن الحسنات، ونفشو السيئات، ونعظم الأخطاء، ونجسد السلبيات، ويصدق فينا قول الأعشى:

ومن يغترب عن قومه لا يزال يرى          مصـارع مظلوم مجـراً ومسحبـاً

وتدفن منه الصــالحــــات وإن يسئ         يكن ما أساء النار في رأس كبكبا؟

احذر أخي الكريم أن يكون همك تتبع عورات إخوانك، والكشف عن سيئاتهم، والفجور في خصوماتهم، فإذا خان الأخ أخاه، وتنكر له، وعاداه، هل يتوقع العون ممن سواه؟!

إذا خـانك الأدنى الذي أنت حــزبه          فواعجباً إن ساعدتك الأبــاعــد

كن أخي الكريم بناءً، واحذر الهدم والإفساد، قليل من الناس من يحسن البناء والإصلاح، وكثير جداً يجيد الهدم والخراب، فكن من القليل البناء، فإن الكرام قليل، واترك الهدم لأعداء الدين، ولا تعِن الشيطان على نفسك وعلى إخوانك، وتذكر قول الله عز وجل: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".

إن من أهم أسباب تخلف الأمة الإسلامية كثرة الاختلافات والنزاعات بين أفرادها، وجماعاتها، وعلمائها، ودعاتها، وطعنهم وتشكيكهم في بعضهم البعض.

متى تتخلص الأمة من هذا الداء، وتتوحد لصد الأعداء، وتتضافر جهودها وتتعاون لإتمام البناء؟!

متى يبلغ البنيان يومــــاً تمامه           إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ

ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى           فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟

خاصة لو كان الألف هادم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، ويرفعون شعاراتنا، وينتسبون إلى جماعاتنا، وينفذون مخططات أعدائنا، شعروا بذلك أم لم يشعروا؟!

واحذر أن يصدق عليك قول القائل:

وهل كنتُ إلا مثل قاطع كفه           بكف له أخرى فأصبح أجذم

وأخيراً أسأل الله أن يجمع الشمل ويؤلف بين القلوب، ويهدي الجميع سبل السلام، ويجنبهم الفتن والآثام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، محمد وآله وصحبه الك

0000000000000000000

مطل الغني ظلم

المماطلة والتسويف من أخلاق المرء الخسيس، لقد أمر الله عباده بحسن القضاء والتقاضي، ونهى وحذر عن مطل الغني، وأمر وحض على إنظار المعسر، فالدِّين المعاملة.

فقال عز من قائل: "فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة".

وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى".

وقال: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مَلِئٍ فليتبع".

لم تستشر هذه الصفة في مجتمع من مجتمعات المسلمين في الماضي مثل استشرائها وظهورها في هذا العصر، حيث أصبح مطل الأغنياء وتسويف المقتدرين من المسؤولين وغيرهم هو السمة الغالبة والظاهرة الطاغية، وتفنن الناس في أكل أموال الناس بالباطل، وأتوا بحيل وطرق لم تدر بخلد من كان قبلهم.

الدَّين هم بالليل ومذلة بالنهار، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً يستعيذ منه في صلاته، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، وسئل عن سبب إكثاره من هذا، فقال: "إن المرء إذا استدان حَدَّث فكذب، ووعد فأخلف".

فمن أخر حقاً عليه مع القدرة على تسليمه فهو البغيض المذموم، والممقوت الملوم، وقد جاء في الأثر: "إن الله يبغض الغني الظلوم، والشيخ الجهول، والعائل المحتال".

وعن خولة بنت قيس رضي الله عنها قالت: "كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتى يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره، فأبى أن يقبله، فقال: أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدَّس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها، ولا يتعتعه؛ ثم قال: يا خولة، عِديه واقضيه، فإنه ليس من غريم لا يخرج من عند غريمه راضياً إلا سلط عليه دواب الأرض ونون البحار، وليس من عبد يلوي غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثماً" .

الغني المماطل كلابس ثوبي زور، ومتشبع بمال غيره، فهو شحيح خسيس، وبخيل مسِّيك، كذاب، خداع، مراوغ، محتال.

أصحاب الحقوق إما أن يكونوا:

1.  زوجة وأولاد وأقرباء.

2.  أوعمال وأجراء.

3.  أودائنين محسنين فضلاء.

وكل هؤلاء وغيرهم يحرم مطلهم، ويجب الإسراع بإعطائهم حقهم.

عليك أيها المسلم أن تؤدي هذه الحقوق المالية أو تتحلل منها قبل فوات الأوان، واستمع لما قاله رسولك صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أومن شيء، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".

واعلم أن الظلم ظلمات، وأن الله وعد بإجابة دعوة المظلوم ولو بعد حين، فاحذر دعاء المظاليم، وغضب رب العالمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

00000000000000000

احذر أخي المسلم أن يكون الحلال عندك ما حلَّ في يدك، والحرام ما حُرِمته

لقد قلت الأمانة، وكثرت الخيانة في مجتمعات المسلمين في هذا العصر بصورة مخيفة، لا سيما في مجال البيع والشراء، والتعامل بالدرهم والدينار، تنذر بخطر كبير، وشر مستطير، إن لم يتداركنا الله برحمته فنغير ما بأنفسنا، عسى الله أن يغير ما بنا.

فقد أصبح هم كثير منا جمع المال بأي طريقة، والحصول عليه بأي وسيلة، غير منظور لحلها أوحرمتها، وأضحى لسان حال كثير منا: الحلال ما حل في أيدينا، والحرام ما حرمنا الوصول إليه، وصدق فينا قول الله عز وجل: "وتأكلون التراث أكلاً لماً. وتحبون المال حباً جماً"، واقتدى جلنا بما قاله قارون: "إنما أوتيته على علم عندي".

ومن العجيب الغريب تشدد البعض في مسائل الطهارة إلى درجة الوسواس، وتهاونهم وتساهلهم فيما يدخل بطونهم، على العكس والنقيض مما كان عليه السلف الصالح، خوفاً وحذراً من قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يدخل فيه إلا الحلال الطيب فليفعل".

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن وهو طفل أخذ تمرة من تمر الصدقة فأدخلها في فيه، فقال له: كخ، كخ؛ حتى أخرجها من فيه.

وتناول أبوبكر الصديق رضي الله عنه شيئاً من خراج غلامه، وأدخله في فمه، وعندما أعلمه هذا الغلام أنه حصل عليها عن طريق الكهانة في الجاهلية تقيأها في الحال، وقيل له في ذلك، فقال: إن لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ أوكما قال.

لهذا فقد حلت المحقة محل البركة، والقسوة محل الرحمة والشفقة، وكثرت الخصومات والنزاعات، وتقطعت الأرحام، وحرم المجتمع الأمن والأمان، وكاد أن يكون البيع الذي هو من المكاسب الطيبة والوسائل المشروعة من الخبائث لما دخله وصاحبه من الغش، والكذب، والحلف الكاذب، والحيل المحرمة، ونحوها.

لم يكتف سلفنا الصالح بالامتناع عن الحرام، بل تعدى الأمر عندهم أن امتنعوا عن أخذ وأكل كل ما فيه أدنى شبهة.

خرَّج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشترى رجل من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".

هذه القصة لا يكاد المرء يصدقها لولا أنها خرجت من في من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وقد أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته للتخلق بما جاء فيها، ولتقتدي بهذه الفعال الفاضلة والأخلاق النادرة، وتنال من هذا الورع الأصيل.

لا يدري المرء أيكون عجبه أشد بهذين البائعين الورعين الصادقين، أم بهذا القاضي الذي حكم بينهما هذه الحكومة الموفقة، التي تحرى فيها العدل والحق، وحكم فيها بالصدق؟!

على التجار أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي أهليهم، وأن لا يكونوا فتنة للذين آمنوا ولا للذين كفروا.

وليعلموا أن أسلافهم فتحوا وغزوا قلوب العباد بأخلاقهم الحسنة ومعاملتهم الكريمة، قبل أن يفتحوا تلك البلاد.

وليحذروا من تقديس الدنيا وحرمان التقوى، وأن يكون تعامل الكفار أحسن من تعاملهم، وليعلموا أن الدين المعاملة، ولينفروا من أن يكونوا مثل أكلة الربا والسحت من إخوان القردة والخنازير الملعونين على ألسنة رب العالمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "لن تموت نفس حتى تكتمل رزقها"، أوكما قال.

000000000000000000

من علامات النفاق المتهاون فيها خلف الوعد

من الصفات الذميمة، والأخلاق اللئيمة، التي تفشت في مجتمعات المسلمين عامة في هذا العصر، وفي مجتمعنا السوداني بصفة خاصة، خلف الوعد، والذي عده رسولنا صلى الله عليه وسلم علامة من علامات النفاق، وآية من آياته، وسمة من سمات سوء الأخلاق، فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

ورسولنا الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم لم يأمر بشيء إلا كان أول العاملين له، ولم ينه عن شيء إلا كان أول المنتهين عنه، وكان يعلِّم أصحابه بأفعاله وتصرفاته قبل أقواله، ولهذا كان هو وأبوه إسماعيل عليهما السلام آية في صدق الوعد، حتى عرفا بذلك واشتهرا به: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً".

قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها: (وخصَّه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً، كالتلقيب بنحو الحليم، والأواه، والصدَِّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.

إلى أن قال:

واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدي، وقيل: وعد رجلاً أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجلَ يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت هاهنا في انتظارك منذ أمس، وقيل: انتظره ثلاثة أيام، وقد فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ذكره النقاش، وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبي الحَمْساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة، فجئتُ، فإذا هو في مكانه، فقال: "يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك").

كانت العرب في جاهليتها قبل الإسلام تمدح بصدق الوعد، وتذم وتهجو بخلف الوعد، وكان عرقـوب بن سعيد التميمي مضرب أمثال العرب في خلفه المواعيد، حتى قال كعب بن زهير رضي الله عنه:

أضحت مواعيد عرقوب لها مثلاً        وما مواعيدهـا إلا الأباطيــل

وكان السموأل بن عاديا مضرب المثل عندهم في الوفاء بالوعود، وحفظ الأمانة، ومما جاء في ذلك من أشعارهم:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم          مَذِق اللسان يقـول ما لا يفعـل

و:

متى ما يقل حر لصاحب حاجة        نعم يقضها والحر للوأى ضامن

فخلف الوعد حرام، ومن الكبائر، وهو من باب الكذب البين.

وخلف الوعد قبيح من كل مسلم، ولكن قبحه أشد إذا صدر من أهل العلم والفضل، والإكثار من المواعيد مظنة لخلف الوعد.

ومما يؤسف له أن خلف الوعد عن حضور الاجتماعات في الوزارات، والمجالس، والهيئات، والشركات، والاجتماعات العامة، والتأخير الكثير في حضور من حضرها، أصبح من المظاهر السيئة المألوفة، ومن العادات القبيحة المعهودة.

وبدلاً من أن يُعاقب هؤلاء ويحاسبوا ويثرب عليهم يقع العقاب على من التزم بالمواعيد ووفى بها، حيث ينتظر الساعات الطوال، وفي بعض الأحيان يُفض الاجتماع وتحدد له مواعيد أخرى، وفي الغالب فإن سلوك المجتمعين في المواعيد الجديدة لا يختلف كثيراً عن سلوكهم الأول، ويندر أن يكون هناك اعتذار مسبق، ومما يؤسف له كذلك أن من وفى بوعده شُبِّه بالكفار، بدلاً من أن يمدح باقتدائه بالأنبياء والسلف الصالح.

خطورة خلف الوعد تكمن في ضياع ساعات العمر، وعدم الاستفادة منه بالقدر المطلوب شرعاً، وفي ذلك خسارة لا تعدلها خسارة.

ومما يتعلق بخلف الوعد من الأحكام الشرعية الوفاء بالعِدَة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "العِدَة دين"، وفي الأثر: "وَأيُ المؤمن واجب".

واختلف العلماء فيمن وعد أحداً بهبة، أووصية، أوقرض، أومنيحة، أوعمرة، أورقبى، أوقضاء دَين، هل يجب الوفاء عليه أم لا؟ على قولين.

قال القرطبي: (قال مالك: إذا سأل الرجلُ الرجلَ أن يهب له الهبة، فيقول له: نعم؛ ثم يبدو له أن لا يفعل، فما أرى يلزمه؛ قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دَين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي، وسائر الفقهاء: إن العِدَة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية، لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها؛ وفي البخاري: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد"، وقضى ابن أشـوع بالوعـد، وذكر ذلك عن سمـرة بن جندب، قال البخاري: ورأيتُ إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع).

والله أسأل إن يطهر قلوبنا من الرياء، والنفاق، وسوء الأخلاق، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين

000000000000000000000000

أيها المسؤولون تداركوا مشروع الجزيرة

هذا المشروع ذو الفضل الكبير بعد الله، والنفع الجزيل، والخير المتعدي العميم، الذي كل السودان له مدين، أصابه من الدمار والخراب والتسيب ما الله به عليم، لقد خربت ترعه وخزاناته، وطمست جداوله وقنواته، وتآكلت وتكسرت أنابيبه، وقلت إنتاجيته، وشاخ شيخوخة مبكرة.

لهذا التدني والتدهور أسباب كثيرة وعوامل عديدة، بعضها إداري، وبعضها اقتصادي، والآخر سياسي، وسنشير في هذه العجالة إلى أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور، ونتج منها هذا الخراب، فنقول:

أولاً: عدم تحديث القنوات وتجديدها

من الأسباب الرئيسة في تدهور مشروع الجزيرة عدم تحديث القنوات وتجديدها وتطهيرها كما كانت تطهر دورياً من قبل.

كانت بعض المعدات قد أحضرت لهذا الغرض في الثمانينات، وجلست حيناً من الوقت، ثم حولت إلى مشرع آخر، إلى ترعتي كنانة والرهد كما علمت.

كان لعدم تحديث القنوات وتجديدها آثار سلبية ظهرت في مشاكل الري العصية، مما أدى إلى تدني الإنتاج وانخفاضه، لم تعد الخزانات والترع الرئيسة والفرعية، دعك عما يتفرع منها إلى داخل الحقول صالحة لاستيعاب ما كانت تستوعبه من قبل وتحافظ عليه من المياه، وقد كذبت عيني عندما رأيت ثاني ترعة رئيسة في الجزيرة وهي التي تعرف بـ"فم طابت" قد انكسرت عند قنطرة 46 قرب قرية تنوب، وتدفقت منها المياه مع حاجة المزارعين الماسة إليها، وكان عجبي واستغرابي أكبر عندما شاهدت الطريقة التي أصلحت بها، فالمواسير في القنوات الرئيسة والفرعية وكذلك الأبواب والأقفال تآكلت وتكسرت، وبعضها تعدي عليه لعدم وجود الرقيب.

وعمليات التطهير من الطمي ونحوه للقنوات الرئيسة والفرعية التي تحظى بذلك لم تعد ذات جدوى لاختلاف الجرارات والحفارات وصغر حجمها عما كانت عليه في الماضي، هذا بجانب عدم الرقابة والبطء، وقلة إحسان العمل وتجويده.

ثانياً: حراثة الأرض نقصت كماً وكيفاً

كانت مصلحة الهندسة الزراعية من الإدارات الناجحة في مشروع الجزيرة، التي تتولى حرث الأرض وفق خطة معينة، وبمستويات مختلفة، وعلى درجة عالية من الدقة، أما الآن فقد أصاب هذه الإدارة ما أصاب غيرها من الإدارات، نحو سكة حديد الجزيرة التي كانت تتولى نقل القطن والبذرة والتقاوي والأسمدة من داخل الغيط إلى المحالج المختلفة والمخازن، إن كانت لا تزال موجودة، وأصبحت عمليات الحرث يتولاها المزارعون بأنفسهم مع ضعف إمكانياتهم وعدم تقديرهم لأهمية الحرث، هذا بجانب التلاعب وعدم الدقة التي تصحب ذلك.

ثالثاً: التداخل وعدم التوافق بين إدارة المشروع وبين إدارة الري

الشركاء المتشاكسون في أي مشروع أومصلحة أوشركة عامل من عوامل عدم نجاح ذلك المشروع، وأداة من أدوات الهدم، فالتداخل وعدم تحديد الاختصاصات بين الزارعين وإدارة الري له أثر كبير وضرر عظيم على المشروع، ويؤثر تأثيراً سلبياً على عمليات الري، التي تنعكس بصورة جلية على تدني الإنتاج، فلابد من تحديد المسؤوليات وتفعيل الاختصاصات، حتى لا يحدث تضارب ومشاكسة.

رابعاً: تسييس الإدارة وعدم استقلالها

من عوامل الخلل الرئيسة في مشروع الجزيرة وأسباب التدني المباشر في الأداء تسييس الإدارة وعدم استقلالها في اتخاذ القرار للصالح العام، متمثلاً ذلك في مدير المشروع أوالمحافظ، حيث أصبح الولاء شرط أساسي في الاختيار، وكان أول ضحايا هذه البدعة السيئة والظاهرة الخطيرة إعفاء المحافظ القدير والمهندس الزراعي الكبير عبد الله الزبير قبل الإنقاذ، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، وكذلك الأمر بالنسبة لاتحاد المزارعين الذي يمثل جزءاً لا يستهان به في إدارة المشروع.

خامساً: ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج

نسبة لانخفاض قيمة الجنيه السوداني في السنوات الماضية، مع سياسة التحرير التي انتهجتها الحكومة ورفع الدعم، وتعدد الرسوم والضرائب، حيث أصبح المزارع يتحمل كل الأعباء ويبوء بوزر كل الأخطاء، وليس له من راحم إلا الله.

سادساً: تدني مستوى الخدمات للعاملين في المشروع من مفتشين وغيرهم

حيث سحبت السيارات من بعضهم، وخفضت كمية الوقود التي تعطى إليهم، مما كان له آثار سلبية سيئة على الإشراف على العمل، وكاد هم كثير منهم ينحصر في أعماله الخاصة من زراعة وتربية مواشٍ ونحو ذلك، وأصبح الغيط لا رقيب فيه ولا حسيب إلا الله.

سابعاً: عدم وضوح العلاقة بين المزارع والإدارة

بدءاً بالظلم الواقع على المزارع، وهو غالباً المالك للأرض، وتأجيرها منه بثمن بخس، ملاليم معدودة وهو فيها من الزاهدين، والدعوة إلى خصخصة المشروع وتمليكه للقطاع الخاص انسياقاً مع رياح العولمة النتنة، كأن المشروع بلا مالك ولا وارث، وغير ذلك من القسم الضيزى والأمور الغامضة التي يُغيَّب فيها المزارع غياباً كاملاً.

لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها تدهورالمشروع، وتدنت إنتاجيته، وساءت خدماته، وتقلصت إمكاناته، وتقهقرت مكانته، وقلت عائداته، ونفدت أرصدته واحتياطاته، بعد أن كان دائناً للحكومة، فأسباب تدنيه معروفة، وسبل إصلاحه وتقويمه متيسرة، وإمكانية إعادته إلى سيرته الأولى ممكنة، إذا اقتنع المسؤولون بذلك، وجدوا وأخلصوا النية، واستشعروا أهمية الزراعة التي بها قوام حياة الإنسان والحيوان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة يوم القيامة".

والله أسأل أن تعود للمشروع حالته الأولى، وأن يهيئ له من الأسباب ما يجعله ينهض حتى يزداد عطاؤه، ويكثر نماؤه، ويحتل مكانته السابقة في الاقتصاد السوداني، حيث كان عماده، فإنه ليس على الله بعزيز، وأن يوفق المسؤولين لما فيه خير دينهم ورعاياهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

ابن مزارع ذاق حلو المشروع والآن يتجرع مره وعلقمه

000000000000000

لِمَ أخي المسلم تعطى الدنية في دينك؟!

بعد أن شرعت أمريكا في حربها الصليبية على الإسلام وفي كل المجالات، وأحكمت هيمنتها وقبضتها على العالم بأسره، أضحى سلوك بعض المسلمين من حكام، وعلماء، ودعاة، وعامة، يصب في معين واحد، ويسير في اتجاه إعطاء الدنية في الدين، إن خوفاً، أوطمعاً، أوجهلاً، واتخذ ذلك المسلك وسائل عدة، ومسارات شتى، منها:

1.  تنفيذ ما يمليه الأمريكان على جل حكام المسلمين.

2.  خذلان لبعض إخوة العقيدة وتسليمهم للكفار.

3.  فتح المياه الإقليمية، والأجواء، والمطارات، والطرق البرية للمقاتلات والمرتزقة لغزو بعض البلاد الإسلامية.

4.  الاستكانة والخضوع الكامل لما يهواه الكفار.

5.   التبريرات الجائرة للظلم والعدوان الذي تمارسه أمريكا وإسرائيل وحلفائهما تحت مظلة محاربة الإرهاب.

6.  الفتاوى المغرضة لما يهواه الكفار ويخدم أغراضهم.

7. ما يقوم به بعض الإعلاميين ومَنْ يعرفون بالمثقفين من تهيئة الجو للتعايش السلمي مع الكفار ونبذ عقيدة الولاء والبراء.

8. البحث والتفتيش عن بعض الزلات والهفوات والسقطات والأقوال الشاذة لتبرير ما يقوم به بعض الحكام من تنازلات خطيرة ومخالفات عظيمة للكفار، وما علموا أن من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله.

9. التغير المفاجئ في المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

10. وصف من يعترض على ذلك بأنه متشدد وغالٍ، وليس عنده مرونة ولا فقه.

يبررون لكل ذلك بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلم من الأعلام، وإنما هي آيات وأحاديث صدق، وكلمات حق أريد بها باطلاً، من ذلك:

1. استدلالهم بقوله عز وجل: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين".

فهذا كلام حق أريد به باطلاً، للفرق الشاسع بين الموالاة والخضوع والاستكانة والتطبيع، وبين البر والإحسان إلى من يخالفك في الدين، ويباينك في العقيدة، فربما كان برك وإحسانك إليه سبباً في هدايته واغتباطه بدينك.

ثم لماذا ينظر هؤلاء إلى النصوص بعين عوراء؟ ولماذا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟

أين هؤلاء من قوله عز وجل: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم".

وثمة شيء آخر، وهو أن الكفار الذين يواليهم من يواليهم اليوم محاربون للإسلام، ساعون للقضاء عليه وبكل الطرق، مجاهرون بذلك، مصممون على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، عازمون على القضاء على جميع المظاهر الإسلامية من الحجاب إلى إعفاء اللحى.

2. وبأن الصلح مع الكفار جائز، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في الحديبية، وهذا قياس مع الفارق والفارق الكبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم صالح ثقة بوعد ربه، وصلح الحديبية على الرغم من أن ظاهره فيه ظلم وهضم للمسلمين لكن كان باطنه رحمة عليهم.

ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصالح عن ضعف واستكانة طلبه المبايعة على قتال المشركين عندما أشيع أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.

فهل هناك من مقارنة بين استكانة اليوم وبين صلح الحديبية؟!

3. مما يصك به البعض الآذان ويشوشون به على العوام ما يعرف بـ"صحيفة المدينة"، هذه الصحيفة ضعيفة السند، منسوخ العمل بها بآيات الجهاد وإجلاء اليهود من المدينة، بل من جميع أنحاء جزيرة الإسلام، مع ذلك فما زال البعض يستدل بما جاء فيها تبريراً للاستكانة والخضوع والاستسلام للكفار من اليهود والنصارى ومن شايعهم.

4. من الشبه القذرة والحجج الواهية التي يتشبث بها البعض تبريراً لما يبتغيه الكفار من بعض حكام المسلمين في بعض الجزئيات التي هي في الحقيقة من الكليات والثوابت، وهي تنفيذ الأحكام الشرعية على أساس شخصي، بأن هذه مسألة خلافية! فقد قال بجواز ذلك أحد الأئمة المقتدى بهم، فلماذا لا نأخذ بقوله؟ وما علم هذا القائل أن ماجاء به منكر من القول وزور، وأنه ليس كل خلاف يُستراح له ويعمل به، إذ أن الحق عند الله واحد لا يتعدد كما هو الراجح من أقوال المحققين من أهل السنة أمثال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن لا يحصى عددهم من أهل العلم المقتدى بهم، وأن الله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا باختلاف العلماء، وإنما تعبدنا باتباع الدليل، وأن ندور معه حيث دار، ولله در القائل:

*** إلا خلافاً له حظ من النظر

ولله در علماء السلف، مالك وغيره، عندما حذروا من الأقوال الشاذة والآراء الساقطة.

ورحم الله أبا حنيفة القائل: هذا رأيي، فمن جاءني برأي خير منه قبلته.

هذا بجانب العديد من المفاسد والمضار والنواقض التي يجرها الأخذ بهذا القول الشاذ، التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع.

5. من التبريرات العجيبة التي يبرر بها لهذه التنازلات "مكره أخاك لا بطل"، ونحن نشهد الله حسب علمنا أنه لم يكره أحد من الحكام ولا غيره إكراهاً يبيح له مثل هذه التصرفات، وإن كان الراجح الثبات على المبادئ حتى عند الإكراه خوف القتل، كما فعل بلال، وعبد الله بن حذافة السهمي، وغيرهما كثير من المسلمين، ولكن: (من الناس من يعطي الدنية في دينه، وتفتنه المظاهر، أويخاف من شيء يصيبه، أويعجز أن تحمل ما نزل به، فيظهر غير الذي يبطن، ويوافق بلسانه على أشياء ينكرها قلبه، ولا يقرها إيمانه، وهذا من حب العاجلة، وضعف العزيمة، وقلة الصبر، والمداهنة التي يراد بها السلامة من الفتنة، أواستمالة قلب المجاهر بالمعصية، المتظاهر بالكفر والفسوق والعصيان، وقد يقول أحد: أنا لا أحب الشر، ولا أرضى لأحد بالكفر، ولكني أعجز عن إزالة المنكر، ولا أستطيع أن أجهر بما أعتقد من الحق، فأنا أنافق لأوافق، ولو تكلمت بالصدق ونطقت بالحق لعوديت وأذيت، ويالها من حجة ما أبردها، ويا له من دفاع ما أسخفه، وهبه كان معذوراً بالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما عذره عند الله والناس في موافقته على الكفر وأعمال المشركين، وما حجته عند الله يوم يسأله عن الجهاد في سبيله والدفاع عن دينه، وربما يقول المفتون المداهن إن الله لم يتوعد بالعذاب الشديد من أكره بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن متى كان مكرهاً؟ وكيف حملوه على مجاملتهم والرضا بصنيعهم وهو حر في دينه؟ وليس بمحتاج إلى التقية التي أذن الله فيها بقوله: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير").

قلت: لقد شكا عمر رضي الله عنه جلد الكافر وضعف التقي، ونحن نشكو إلى الله جلد الكافر وثبات المنافق، وإصرارهم على باطلهم، وضعف المسلم وخذلانه لإسلامه وإخوانه، وتنازله عن ثوابته، وإعطاء الدنية في دينه، والرضا بالفانية، وبيع الآخرة بدنيا الغير.

لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن طلب العزة في غيره أذله الله، لم تهون وتضعف وتستكين أخي المسلم وأنت الأعلى إن كنتَ مؤمناً؟

"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".

هذه الآية نزلت بعد هزيمة المؤمنين في أحد، ووصفهم ربهم بما وصف به نبيه وكليمه موسى عليه السلام.

والله أسأل أن يردنا إليه وجميع إخواننا المسلمين حكاماً ومحكومين وعلماء وعامة رداً جميلاً، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله القائل: "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.

0000000000000000000

إسرائيل وأمريكا رائدتا الإرهاب والقرصنة اليوم في العالم

"رمتنى بدائها وانسلت"

هذا العصر هو عصر التناقضات، عصر المغالطات، عصر الأكاذيب والأراجيف، عصر الظلم، والعدوان، والكذب، والبهتان، والكيل بعدة مكاييل، حسب ما تمليه المصلحة ويبتغيه الهوى، حيث سادت فيه شريعة الغاب، وغابت فيه الفضيلة، وانتشرت فيه الرذيلة، وأسند الأمر إلى غير أهله.

ما يفعله اليهود وربيبتهم أمريكا في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلاد الإسلامية ليس له شبيه ولا مثيل إلا ما تمارسه الأسود في الغابات على ضعاف الحيوانات، حيث هم الخصم والحكم، وكذلك الحال فإن اللوبي الصليبي المحرك لقوى الشر والطغيان أمريكا وعملاءها يمارسون من أنواع الظلم والقرصنة والإرهاب على الأبرياء والضعفاء والعزل، مع رميهم إياهم بالإرهاب "رمتني بدائها وانسلت"، حيث لم يعرف التاريخ إرهاباً، ولا قرصنة، ولا صلفاً، وكِبْراً، وظلماً، وطغياناً، مثل ما يشاهد اليوم على أرض الإسلام بعد أن دنستها أقدام إخوان القردة والخنازير ومرتزقة الأمركان وعملاؤهم الذين دفعوا بهم إلى أفغانستان والعراق، في حربهم الصليبية ضد الإسلام.

كل هذا الظلم والإرهاب صُحب بتعتيم إعلامي، فضح دعاة الديمقراطية والحرية، حيث منعوا القنوات أن تنشر بعض جرائمهم وممارساتهم، فأضحوا يقصفون مكاتب تلك القنوات، ويقتلون ويأسرون بعض مراسليها، مع ما في ذلك من المنافاة للأعراف الدولية.

فحديثهم وافتراءاتهم وتبجحهم بحقوق الإنسان كشفته اغتيالاتهم للمقعدين والخارجين والذاهبين إلى المساجد، بعدد من الصواريخ التي مثلت بأجسادهم الطاهرة أبشع تمثيل.

وشاءت إرادة الله أن تفضح أمريكا في عقر دارها، حيث نشرت القنوات فيها أبشع صور للتمثيل مارسها الأمركان والبريطان في سجن أبي غريب بالعراق، وما خفي أعظم وأبشع مما ظهر.

ومهما يكن عند امرئ من خليقة   ***     وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فهؤلاء هم الكفار من اليهود والنصارى، وهذه هي فعالهم، وتلك هي تصرفاتهم تكذب ادعاءاتهم وافتراءاتهم، مضافة إلى "كذبة إبريل" التي برروا بها غزوهم للعراق، لامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، أما إسرائيل فهم يملِّكونها لذلك ويمدونها بأحدث الأسلحة فتكاً بالإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد.

حـرام على بلابل الدوح    ***    حلال على الطير من كل جنس

وصدق الله العظيم: "ومن يُهن الله فما له من مكرم"، وصدق رسوله الكريم حيث قال: "إن من الشعر لحكمة".

ومن يهن يسهل الهوان عليه   ***     مـا لجـرح بميت إيـلام

ما كان للتحالف الصهيوني الكنسي أن يباشر تلك الحرب الصليبية الشرسة وفي كل المحاور لولا اختلاف المسلمين وضعفهم، واستكانة حكامهم للكفار، وركون عامتهم إلى الدنيا، وبغضهم للتضحية والجهاد، وعزاؤنا أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلهاحتى تقوم الساعة، كما أخبر الصادق المصدوق، فقط على إخوانهم المسلمين أن يمدوهم بالمال، وأن يعينوهم بالدعاء، فهو سلاح المستضعفين، وعدة المقاتلين المقهورين.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسل

000000000000000000000

أيها المسلمون لا تبخلوا على إخوانكم المجاهدين بأموالكم ودعائكم

جهاد الكفار والمنافقين الذي أوجبه رب العالمين على كل مسلم ومسلمة حسب الطاقة ليس قاصراً على الجهاد بالنفس، وإن كان الجهاد بالنفس أعلى أنواعه وأزكاها، فمن لم يتمكن من جهاد الكفار والمنافقين بالنفس فعليه أن يجاهدهم: بالمال، باللسان، والبنان، بالدعاء والابتهال، والسؤال والإعلام، والاختراق والتخذيل بالامتناع عن شراء منتجاتهم.

فاليهود والنصارى بقيادة أمريكا وربيبتها إسرائيل في حربهم الصليبية هذه يحاربون الإسلام بكل الوسائل، بغزو ديارنا، وإرهاب حكامنا، واغتيال قادتنا، والتعتيم على انتصاراتنا، والتضييق على محسنينا وموسرينا من أن يخرجوا زكوات أموالهم لمستحقيها، بإشعال الفتن بين شرائح مجتمعنا، بين حكامنا ومحكومينا.

هذه الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، والخير والشر، بين الإسلام وملل الكفر، التي فرضها الكفار وحددوا توقيتها وأمسكوا بزمامها تحتاج إلى تضافر الجهود، والبذل والتضحية بأعز الموجود، واستشعار المخاطر المترتبة عليها على الإسلام وأهله في مستقبل الأيام والدهور.

فإن فاتك أخي المسلم جهاد الكفار بالنفس فلا يفوتنك جهادهم بالمال، والاستغاثة، والابتهال، فلا تحقرنَّ عطاءك في ذلك مهما قل أوكثر، فالقليل يكثر بالقليل، والله يبارك في القليل حتى يكون أكثر من الكثير وأبرك، وربما صادفت استغاثة ساعة إجابة فتنكشف بها الكرب، وتنحل بها العقد، وتتغير بسببها موازين الأمور.

فعليك أخي المسلم بالتجارة الرابحة والبيعة الناجحة لتنال السلعة الغالية، وهي الجنة.

أيها المسلمون استجيبوا لله والرسول ولنداء إخوانكم المستضعفين في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، والفلبين، وفي غيرها من الديار.

"يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".

"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".

وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يغز، أويجهز غازياً، أويخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم".

وعن أبي يحيى خُريم بن فتيك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله كُتب له سبعمائة ضعف".

وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله؛ فقال رسول الله: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة".

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا تردان، أوقلما تردان، الدعاء عند النداء، وعند الباس حين يُلحَم بعضهم بعضاً".

فالبدار البدار أخي المسلم بالإنفاق، وثق بسرعة الخلف، وإياك أن تتباطأ فتخذل إخوانك المجاهدين وتسلمهم وحريمهم للكفار، فيخذلك الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم

00000000000000000000

أيها العلماء والدعاة احذروا أسباب التفرق: التشرذم، والانغلاق، وسوء الظن

من أشد الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغضاً للاختلاف، وكرهاً للتفرق والتشرذم، وتحذيراً من كل الأسباب والوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك، الخليفة الملهم المحدَّث الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لإدراكه لخطورته ومغبة نتائجه، وفساد منقلبه، ولحدة فراسته لأنه كان ينظر بنور الله.

أخرج الإمام الطبري في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عمر رضي الله عنه قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً، حتى لا يقال: مَنْ صَحَابة فلان؟ مَنْ جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني لمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم في الناس).

ها نحن نرى أن عمر فطن لسبب رئيس من أسباب تفرق الأمة، فحذر منه في الحال، ومنع من تعاطيه لما يخشى من نتائجه في المآل، ألا وهو التشرذم والانغلاق والتحزب المؤدي إلى تعدد الولاءات، وتفرق الأمة إلى طوائف وجماعات، وإعجاب كل فرقة بما تهواه من العقائد والمقالات، وسوء الظن بالمخالف، ولو في الوسائل والاجتهادات.

ينتج عن ذلك كله ما حذر منه رسول هذه الأمة، وهو الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل رأي برأيه، الذي هو من الطوام العظام، والفتن الجسام، حيث لا يجدي معه أمر ولا نهي، ولا نصح ولا رشد.

لقد خشي عمر رضي الله عنه أن تكون تلك المجالس والمنتديات نواة لتجمعات وتكتلات صغيرة، وبذرة للتفرق والتشتت المذموم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، لذلك نهى عنها وحذر منها، من باب سد الذرائع، لأن التفرق في المجالس، والانغلاق عن المجتمع، ينتج عنه تفرق في الرؤى، فينتسب أهل كل مجلس إلى البارزين منهم، ويتعصبون لهم، ويعجبون بآرائهم، وأقوالهم، وتأخذهم حمية الإلفة والاجتماع.

لذات السبب عندما أراد الأنصار أن يتحزبوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: منا أمير ومنكم أمير؛ رد عليه أبو بكر وعمر في الحال، فقالا: منا الأمراء ومنكم الوزراء؛ حسماً لمادة التحزب والتشرذم، لأن هذه الأمة سر قوتها في اجتماع كلمتها، وتوحد صفها، فالإسلام لا يقوم إلا بالجماعة، ونبذ الفرقة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، أوكما قال.

المتقون سادة والفقهاء قادة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، والقادة ينبغي عليهم أن يترفعوا عن الصغائر، ويدركوا المخاطر، ويسعوا لرأب الصدع، ولَمِّ الشمل، وتوحيد الكلمة، قبل فوات الأوان، وحلول الندامة والخسران، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ويكون ذلك بالآتي:

1. تحسين الظن بالآخرين، ونعني بذلك كل المسلمين، سيما أهل السنة، فكثير من أسباب الفرقة مردها إلى سـوء الظن، وانعـدام الثقة، فإذا حَسَّنَ أحدنا ظنه بأخيه المسلم، وحكم عليه بما ظهر منه، وسار فيهم بسيرة ابن عمر رضي الله عنه: "من خدعنا في الله انخدعنا له"، زالت كثير من تلك الأسباب، وصفت القلوب، واطمأنت النفوس.

2.  إجابة الدعوات والإكثار من الزيارات في جميع المناسبات تذيب كثيراً من تلك الأوهام.

3.  اللقاءات الدورية والندوات المشتركة والاجتماعات تقرب من وجهات النظر.

4. منع الأتباع من نقل الأخبار عن الغير، اللهم إلا من أهل البدع الكفرية، الداعين لبدعتهم، فكثير من الجفاء وتوغير الصدور مرده إلى تلك النقول، ولا تقل أخي الكريم أخبرني الثقة!! فالثقة لا يبلغ، كما قال ابن عمر رضي الله عنه، وإن كان لابد من ذلك فالتثبت واجب.

5. ما صح من المنقول إلينا علينا أن نحمله على أحسن وجه، عملاً بنصيحة عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير مدخلاً، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك".

6.  عدم الخوض في الجدل والمنازعات والخصومات، فعلينا بيان الحق وتجلية السنة، فمن قبل ذلك يُشكر ومن لم يقبله يترك.

7.  لا نقصر حقوق المسلم على أفراد جماعتنا، فهي حقوق عامة لكل المسلمين، عصاة كانوا أم طائعين.

8.  أن يشتغل كل منا بعيوبه وسلبيات جماعته، فما أكثر عيوبنا وما أخطر سلبياتنا.

9.  الصبر والمداراة لإخوة العقيدة ورفقاء الدرب.

10.    اعمل بالحكمة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

11.  أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما"، كما أثر عن علي رضي الله عنه.

12.    توالي أخاك المسلم بقدر ما فيه من خير وإيمان.

13.  تبرأ من الأعمال والأقوال السيئة ولا تتبرأ من فاعلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم عندما قتل خالد رضي الله عنه متأولاً بني جذيمة: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يتبرأ من خالد.

14.    لا نحاسب على ما مضى، فالإسلام والتوبة تجبان ما قبلهما.

15.    احذر مسلك أهل الأهواء الذين يبغضون ويقتلون أهل الإسلام، ويتركون ويوالون أئمة الكفر وعباد الأوثان.

أو أن يكون بغضك وعداوتك لمن فارقك وانفصل عنك أشد من بغضك وعداوتك لمن هو أسوأ معتقداً وعملاً منه، ولله در ابن عمر عندما قال عن الخوارج بسبب تكفيرهم لبعض: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفر بعضهم بعضاً".

فالدخول في جماعة تكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب التعاون على البر والتقوى، والخروج منها لغيرها لا يقدح بمفرده في عدالة المرء.

16.    نعمل على أن لا تفترق صفوفنا وإن لم تتوحد آراؤنا.

والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم الفتن والآثام، وأن ينصرهم على أنفسهم وأعدائهم والشيطان، وصلى الله وسلم وبارك على محمد خير الأنام

00000000000000000

أيها المجاهدون إنكم تقاتلون عن دينٍ وعد الله بنصره

أيها المجاهدون في فلسطين، والعراق، والشيشان، وأفغانستان، وفي كشمير، وفي جنوب الفلبين، وفي كل مكان، اصبروا وصابروا ورابطوا فإنكم على الحق المبين والصراط المستقيم، فحسنوا نياتكم، وجددوا توباتكم، ووحدوا هدفكم لإعلاء كلمة الله وإقامة شرع الله: "فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في سبيل الله".

أيها المجاهدون عن الإسلام، اعلموا وثقوا أنكم تقاتلون عن دين وعد الله بنصره، وتكفل بحفظه، وكتب بغلبته: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز"، وأمر بالذب والدفاع عنه، فانتم تتقلبون بين حسنتين، وتقاتلون لإحدى الحسنيين: الشهادة أوالنصر.

كثير من المسلمين يلهث لتأمين رغباته ولتحقيق نزواته، أولتأمين سلطانه، وأنتم مشغولون بالدفاع عن دينكم، وأعراضكم، وحريمكم، وإخوانكم، وأخلاقكم، عن قرآنكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.

ايها المجاهدون يكفيكم شرفاً وفخراً أنكم رفعتم الإثم عن إخوانكم الذين ركنوا إلى الدنيا، وأثاروا العاجلة على الباقية، برفعكم لراية الجهاد الواجب، وبدعمكم لإخوانكم المستضعفين الذين تخلى عنهم القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو.

اعلموا أيها المجاهدون أن الله معكم، ولن يدعكم لعدوكم ولا لأنفسكم، فمن كان الله معه فلا يخاف ولا يحزن، فأنتم الأعلون بإيمانكم وباعتمادكم على ربكم، وتوكلكم عليه، فالنصر آتٍ، والفرج قريب، لأنكم لا تقاتلون عدوكم بعددكم وعتادكم فحسب.

لتكن لكم الأسوة الحسنة في إخوانكم في بدر، وأحد، والخندق، وغيرها من الغزوات والمواقع، الذين نصروا الله فنصرهم الله، وصدقوه فصدقهم، واستغاثوه فأغاثهم: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"، "الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".

واحذروا أسباب الفشل والخذلان، وهي الذنوب والآثام، والتفرق، والتنازع، والانقسام، والعزوف عن الدعاء والاستغاثة وطلب النصر من الكريم المنان: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل عظيم".

اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم إنك تعلم أن الأمريكان طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم يا ربنا صوت عذاب، اللهم أنزل عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، وأرنا فيهم وفي عملائهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين

0000000000000000000

لتسألنَّ يومئذ عن النعيم

الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لعبادته وحده، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، لتوجيههم وإرشادهم لما فيه خير دينهم ودنياهم.

نِعَمُ الإله على العباد كثيرة وعظيمة، أجلها على الإطلاق نعمة الإيمان والهداية: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، وتليها وهي تبع لها نعمة الاستضاءة بنور الكتاب والسنة، والاهتداء والاقتداء بالسلف الصالح.

ثم تتوالى النعم وتترى على العباد، نحو نعمة العافية والفراغ، والمال، والبنين، ونحوها، فالصحة والعافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والمال والبنون من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة، فنسأل الله الرؤوف الرحيم أن لا يحرم بيتاً من الأطفال، ونجابة الأبناء ونباهتهم وعقلهم نعمة لا تدانيها نعمة بعد الإيمان والاهتداء بالسنة.

نعم الإله على العباد كثيرة            وأجلهن نجابة الأولاد

واجب على العباد مقابلة هذه النعم دقها وجلها بالتوحيد والامتنان، والشكر والعرفان، وليحذروا من الجحود والنكران والكفران، وليعلموا أنهم مسؤولون عن هذه النعم إن لم يؤدوا حقها، ويوفوا شكرها، قليلة كانت أم كثيرة، فبالشكر تدوم النعم، وبالجحود والكفران تتوالى النقم.

وشكر النعم يكون بلسان الحال، بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، وبلسان المقال بالشكر باللسان والتحدث بالنعم ونشرها وبثها، خاصة بين الأحبة والأصدقاء.

قال تعالى مخاطباً له وللأمة في شخص رسولها: "وأما بنعمة ربك فحدث"، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن أن يرى أثر نعمته على عبده"، روى النسائي عن مالك بن نضلة الجُشمي رضي الله عنه قال: "كنتُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فرآني رثَّ الثياب، فقال: ألك مال؟ قلتُ: نعم، من كل المال؛ قال: إذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثره عليك".

وروى الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب".

وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "إذا أصبتَ خيراً، أوعملتَ خيراً، فحدِّث به الثقة من إخوانك".

النعم المسؤول عنها

اختلف أهل العلم في تأويل النعم المسؤول عنها في قوله تعالى: "لتسألنَّ يومئذ عن النعيم"، على أقوال هي:

1.  قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "إن ما سدَّ الجوع، وستر العورة ،من خشن الطعام، واللباس، لا يُسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم، قال: والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة، فقال له: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى".

2.  وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الأمن والصحة.

3.  وقال سعيد بن جبير رحمه الله: الصحة والفراغ.

4.  وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حاستي السمع والبصر.

5.  وقال جابر: ملاذ المأكولات والمشروبات.

6.  وقال الحسن: الغداء والعشاء.

7.  وقال مكحول: شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخَلْق، ولذة النوم.

8.  عن كل نعيم قليلاً كان أم كثيراً.

خرَّج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أوليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله؛ قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوما؛ فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: يستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، قال: فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتمر رطب، فقال: كلوا من هذه؛ وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب؛ فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العِذْق، فشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة! أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم".

وخرجه الترمذي وزاد فيه كما قال القرطبي: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد"، وكنى الرجل الذي من الأنصار، فقال: أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك.

قال عبد الله بن رواحة يمدح صنيع أبي الهيثم هذا:

فلم أر كالإسلام عـزاً لأمــة         ولا مثل أضيـاف الإراشي معشـراً

نبيٌّ وصدِّيقٌ وفـاروقُ أمــةٍ          وخير بني حواء فرعاً  وعنصــراً

فوافوا لميقـاتٍ  وقَدْرٍ  قضيـة         وكان قضــاء الله قدراً مقـــدراً

إلى رجل نَجْدٍ يُباري بجــوده          شُموسَ الضحى جوداً ومجداً ومفخراً

وفارس خلق الله في كل غـارة          إذا لبـس القـومُ الحديـدَ المُسَمَّـرا

ففَدَّى وحَيَّا ثم  أدنى  قــراهم          فلـم يقرهـم إلا سمينـاً  متمــراً

وفي رواية أبي نُعيم: قال عمر: يا رسول الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: "نعم، إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أوثوب يستر به عورته، أوجُحْر يأوي فيه من الحر والقر"، أي البرد.

وفي رواية للترمذي عن أبي هريرة لما نزلت هذه الآية: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم"، قال الناس: يا رسول الله، عن أي نعيم نسأل؟! إنما هما الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على أكتافنا والعدو أمامنا؟ قال: "إن ذلك سيكون"، وفي رواية: "لتسألن عن الأسْوَدَيْن".

وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.

وجمع البعض بين هذه الأخبار أن الكل يسأل، عن كل نعيم قليلاً أم كثيراً، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ، لأنه لم يؤد الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر، والله أعلم.

اللهم إنا نسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، برحمتك يا عزيز يا غفار، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على العبد الشكور، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

000000000000000000000

أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سنَّا حرب المقاومة والعصابات في الإسلام

حرب الاستنزاف، أوالمقاومة، أوالعصابات من الوسائل المشروعة في الإسلام، لاسترداد الحق المغصوب، ولزعزعة الغزاة واضطرارهم للتخلي عن ديار الإسلام، ومقدراته، وثرواته.

يحل في حرب المقاومة، العصابات هذه ما لا يحل في غيرها، ويجوز فيها من المباغتة، والمكر، والخديعة، ما لا يجوز في غيرها، ويمكن فيها من الممارسات ما لا يمكن في غيرها.

تمارس حرب العصابات في الإسلام عندما لا يكون هناك تكافؤ بين الفئة المؤمنة والفئة الكافرة الغازية المتعدية في العدة والعتاد، سيما وأن الكفار والمنافقين في كل زمان ومكان لا يقاتلون المسلمين ولا يواجهونهم مواجهة الرجال الابطال في ساحات القتال وميادين التضحية، ولكن من وراء جدر وموانع، وهذا هو شأنهم في الماضي والحاضر: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أومن وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".

هذه الآية الكريمة من المعجزات الخبرية الخالدة لهذا الكتاب، إذ لا يزال اليهود وأذنابهم النصارى ومن تابعهم هذا هو ديدنهم، في الماضي كانوا يتحصَّنون بالجُدُر، وفي الحاضر بالمقاتلات من الطائرات وغيرها، وبالجدار العازل الذي شرعت دولة الشر والبغي إسرائيل وربيبتها أمريكا في تشييده، وذلك لأن اللوبي الصهيوني هو محرك القوى الصليبية الكنسية، والموجه لسياستها، والمسيطر على مالها وإعلامها وكنائسها.

لقد أثبتت حرب المقاومة فعاليتها ونجاحها، وآتت ثمارها عندما مارسها الهندوس والبوذيون والشيوعيون الذين لا يرجون لله وقاراً، وأذلوا عن طريقها غطرسة وكبرياء الجبابرة والمتكبرين من الغزاة الغاشمين في فيتنام وغيرها من البلدان، ألا تؤتي ثمارها لدى المؤمنين الموحدين الذين يستمدون النصر من رب العالمين؟!

لم يتفوق المسلمون على الكافرين والمنافقين في جُلِّ المعارك التي خاضوها مع قوى الشر والطغيان في القوى المادية، عتاداً كانت أم رجالاً: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، بل عندما اغتر المؤمنون بكثرتهم هُزمُوا: "ويوم حُنَيْن إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً".

لعلمهم أن النصر من عند الله عز وجل: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى"، وأن الله ينصر من ينصره ويؤيد من يؤيد دينه، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يوصي جنده بقوله: "أنا من ذنوبكم أخوف عليكم من عدوكم".

صُلحُ الحديبية كانت حقيقته وباطنه رحمة للمؤمنين الموحدين، وظاهره ظلم وتعد على المستضعفين الذين حيل بينهم وبين الهجرة إلى المدينة، دار الإسلام، ولذلك ضاق بهذا الصلح طائفة من المتضررين منه ذرعاً، وشرعوا في مقاومة المشركين والنيل منهم، وشنِّ غارات على قوافلهم التجارية، والاستيلاء عليها، وقد تم لهم ذلك بقيادة بطلين من أبطال الإسلام وفارسين من فرسانه هما أبو بصير وأبو جندل رضي الله عنهما، ومن انضم إليهما من المسلمين، فكان ما قام به هؤلاء أول حرب مقاومة، واستنزاف، وعصابات ضد المشركين المتكبرين الظالمين الأشرار في الإسلام، فلأبي بصير وأبي جندل رضي الله عنهما أجر وثواب كل مقاومة قام ويقوم بها من بعدهم إلى أن تقوم الساعة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، لأنهما أول من سنا هذه السنة الحسنة، وسارا بهذه السيرة المرضية، وزرعا الرعب في نفوس الجبناء من الكفار، وأرهبا عدو الله وعدوهم، ودلا على سبيل المقاومة عندما يتراجع عن الغزو والجهاد المتراجعون، ويتقاعس عن ذلك المتقاعسون، ويُخذِّل عنه المخذِّلون.

عندما قال مفاوض المشركين في الحديبية ساعتئذ سهيل بن عمرو وكان مشركاً: "على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا"، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟!

فبينما هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل بن عمرو يَرْسَفُ في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهل أبوه -: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد"، قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي"، قال: ما أنا بمجيزه لك؛ قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل؛ قال مكرَز: بلى قد أجزناه لك؛ قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله.

وفي رواية لابن كثير كذلك: فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد، قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا؛ قال: "صدقت"، فجعل سهيل ينتره بتلبيبه ويجره، يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرَدُّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد ذلك الناس على ما بهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.

قال: فوثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب؛ قال: ويدني قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوتُ أن يأخذ السيف فيضرب أباه! قال: فضنَّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية).

وعن أبي بصير رضي الله عنه قال ابن كثير: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير، رجل من قريش، وهو مسلم، أرسلوا في طلبه رَجُلين، فقالوا: العهد الذي جعلتَ لنا؛ فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيد؛ فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت؛ فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه؛ فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعراً"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتِل واللهِ صاحبي وإني لمقتول؛ فجاء أبوبصير، فقال: يا نبي الله، أوفى الله ذمتك، قد رددتني ثم أنجاني الله منهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مِسْعَرَ حرب لو كان له أحد!"، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.

قال: وينفلت منهم أي من قريش أبوجندل بن سهيل بن عمرو فيلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عَِصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.

فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم).

قال ابن عبد البر: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظ وأكمل سياقه. قال: وكان أبوبصير يصلي لأصحابه، وكان يكثر من قول: اللهُ العلي الأكبر، من ينصر الله فهو ينصره؛ فلما قدم عليهم أبوجندل، كان هو يؤمهم، واجتع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس من بني غفار، وأسلم، وجُهينة، وطوائف من العرب، حتى بلغوا ثلاثمائة، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها؛ قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه، ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل وأبوبصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرأه وهو فرح به، فدفنه أبوجندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً).

قلت: في عدم كتابة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك إقرار لهم على صنيعهم هذا، ولكن بعد أن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً لم تكن هناك حاجة لمقاومتهم تلك، لأن راية الجهاد كانت مرفوعة في المدينة، وكانت غزواته وسراياه تجوب الجزيرة العربية.

ليس في بناء أبي جندل مسجداً على قبر أبي بصير دليل على مشروعية البناء على القبور، لأن هذا كان قبل النهي عن ذلك، فلم يكن أبو جندل يعلم نهياً عن ذلك وإلا لما أقدم على هذا العمل.

قال ابن عبد البر: قال أبوجندل وهو مع أبي بصير:

أبلغ قريشاً من أبي جندل            أني بذي المروة بالساحل

في معشر تخفق  أيمانُهم            بالبيض فيها والقنى الذابل

يأبون أن تبقى لهم  رفقة            من  بعد إسلامهم الواصل

أويجعل الله لهم  مخرجاً            والحـق لا يُغلب بالباطل

فيسلم المـرء بإسـلامه            أويُقتـل المـرء ولم يأتلِ

قلت: جزى الله أبا بصير وأبا جندل وإخوانهما عن الإسلام خير الجزاء، وجزى الله الإسلام عنا وعنهم خير الجزاء، فقد سنوا هذه السنة الحميدة وهي مقاومة الكفار بالوسائل المتاحة، وكانوا سبباً في مشروعية حرب العصابات وحرب الاستنزاف والمقاومة هذه التي يخوضها الأبطال هذه الأيام في عدد من بقاع الإسلام، بعد أن خذلهم إخوانهم، وتخلت الجيوش الإسلامية عن واجبها، وركن جُلُّ الحكام إلى الكفار، واستكانوا لهم، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فقد صلح أول هذه الأمة برفع راية الجهاد، وبالتضحيات، وبالعمليات الجهادية التي سنها كذلك البراء بن مالك وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما، وغيرهما كثير، ومن قبل غلامُ أصحاب الأخدود، فلا نامت أعين الجبناء، ولا تهنا بالعيش المخذلون التعساء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلوات ربي وسلامه على نبينا الضَّحوك القتَّال القائل: "وجعل رزقي تحت ظل سيفي، وجعل الصَّغار على من خالف أمري".

00000000000000000000

احذروا الركون إلى الكفار "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار"

لم يواجه الإسلام عقيدة وشريعة منذ عهد أبينا آدم عليه السلام وإلى اليوم خطراً أشد ولا أكبر مما يواجهه اليوم، حيث لم يُستهدف الإسلام كما استهدف اليوم، فالحرب الصليبية اليهودية التي تقودها أمريكا في هذا العصر ليست حرباً عسكرية ولا اقتصادية فحسب، بل هي حرب عقدية، وثقافية، وحضارية، وسلوكية، واجتماعية، ويخطئ من يتوهم أن هدف الكفار من تلك الحرب الصليبية الشرسة هو القضاء على الإرهاب ممثلاً في تنظيم القاعدة وحكومة الطالبان لإيوائها لقادة القاعدة، أو لتخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل، ومن أجل ذلك غزوا أفغانستان والعراق واستعمروهما، وليس كذلك هو تأمين إسرائيل والهيمنة على مصادر النفط العربي فحسب، بل هدفها القضاء على الإسلام، إسلام الوجه واليد واللسان، هدفها كل مسلم معتد بدينه، معتصم بربه.

هدفها محاربة العقيدة الصحيحة، والدفاع عن الشرك، وحماية الوثنيات القديمة، والمحافظة عليها وبثها من جديد، ومحاولة إرجاع الناس إليها، فإخراج الناس سيما المسلمين من النور إلى الظلمات مطلب أساسي من إشعال هذه الحرب وتوسيع دائرتها.

هدفها كذلك تغيير الهوية الإسلامية، ولذلك عمدوا إلى تغيير المناهج وقفل الجامعات والمدارس والمعاهد الدينية، والتضييق على المنظمات والجمعيات الطوعية والخيرية، والعمل على منع العلماء والدعاة المؤثرين من التدريس والخطابة، وقد صدرت تعليماتهم الصارمة إلى الحكام بذلك، وشرع كثير من الحكام في تنفيذ هذا المخطط وإعانة الكفار على تحقيق مآربهم، وإنجاح حملتهم الصليبية.

هدفهم كذلك أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا كما شاعت في ديارهم، وذلك بإخراج ما تبقى من النساء المسلمات من بيوتهن، ونزع الحجاب والعفاف عنهن، وتوسيع دائرة الاختلاط، وتنويع محاوره وأشكاله.

هدفهم أيضاً أن تسيطر حضارتهم المادية اللادينية على جميع الحضارات، سيما الإسلام، إذ ليس هناك حضارة أوفكر يخشون منه سوى الإسلام.

هدفهم القضاء على المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى وغيرها.

هدفهم كذلك القضاء على عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، التي هي سر بقاء هذا الدين، وسبب مقاومته للكفر والكافرين.

هدفهم كذلك زيادة عملائهم والتمكين لهم، والسعي على تسليم السلطة إليهم بعد أن يئسوا من عملائهم التقليديين، فلكل مرحلة صنف من العملاء وفريق من الخونة والبلهاء.

لقد سعى الكفار لتحقيق هذه الأهداف وغيرها منذ أمد بعيد، وسلكوا من أجلها كل سبيل، وجربوا كل طريق، وبذلوا ولا يزالون يبذلون كل غال وثمين.

لذلك فقد حققوا قدراً كبيراً مما يريدون، ونالوا نصيباً وافراً مما يصبون إليه.

ما كان لهؤلاء الكفار أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه أوأن ينالوا ما رموا إليه لولا شيئين، هما:

الأول: العمالة والموالاة لهم من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فقد زاد عدد عملائهم بعد سقوط الاتحا السوفييتي، فقد انحاز كل عملاء الشيوعية إلى الإمبريالية العالمية بقدرة قادر، فاتسعت دائرة حزب الشيطان لتشمل الشيوعيين والعلمانيين وكافة أعداء الدين، فالكفر ملة واحدة، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

الثاني: الركون إلى الكفار والتنازل لهم، وسرعة الاستجابة إلى مطالبهم بصورة لم يكن الكفار يحلمون بها من قبل، فاقت تصوراتهم وزادت من طموحاتهم، من العامة قبل الخاصة، ومن بعض الدعاة والمنتسبين إلى العلم والمحسوبين على الإسلام قبل غيرهم، ولخطورة الركون جعلت عقوبته النار: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"، ولا أدل على ذلك من مطالبة "الكنقرس" حكام المسلمين بعدم تصدير كلامهم وخطبهم وأحاديثهم الرسمية بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، وألا يفتتحوا المجالس والبرلمانات بقول عز وجل: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم" الآية.

والسبب الثاني أخطر من الأول، لأنه سبب وغاية لما يهواه الكفار.

حفظ الدين له شقان: نظري وعملي.

فالحفظ النظري قد تكفل به ربنا سبحانه، فقال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولم يدعه لغيره، والذكر يشمل القرآن والسنة.

أما الحفظ العملي فهو مسؤولية المسلمين عامة، بجميع طوائفهم وشرائحهم، حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، وإن كان دور الحكام والعلماء أكبر من غيرهم، والمراد بذلك الثبات على المبادئ، والمحافظة على المسلمات، وعدم التنازل والركون مهما كانت النتائج.

فالركون هو طاعة الكفار والمنافقين والمبتدعة والفاسقين، ومداهنتهم، ومصانعتهم، والميل والتودد إليهم، والرضا عنهم.

أخطر صور الركون

لا شك أن مسؤولية الحفاظ على هذا الدين من الناحية العملية هي مسؤولية تضامنية، لكل مسلم منها حظ ونصيب، ذكراً كان أم أنثى، عالماً كان أم جاهلاً، حاكماً كان أم محكوماً، عاصياً كان أم طائعاً، شاباً كان أم شيخاً.

فما من مسلم إلا وهو على ثغرة من ثغور الإسلام، ومسؤول عن جانب من جوانبه: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، حيث لم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم عن المسؤولية أحداً، فقد عمم فيه وخص ثم عمم.

ينبغي على كل مسلم أن يستشعر هذه المسؤولية، وينبغي لولاة الأمر من العلماء أن يذكِّروا إخوانهم المسؤولين بذلك، وأن ينبهوهم إلى الأخطار التي تحيط بهم من كل جانب، فالذكرى تنفع المؤمنين، وتنبه الغافلين، وفيها معذرة لرب العالمين.

صور الركون وأمثلته في هذا العصر، وفي هذه الأيام خاصة التي انفرد فيها الأمركان بقيادة العالم لا تحصى كثرة، ولكن سنشير إلى طرف منها تنبيهاً إلى غيرها، من تلك الأمثلة الواضحة الفاضحة على الركون والاستكانة والخضوع للكفار ومن والاهم في هذا العصر ما يأتي:

1.  الدعوة إلى تقارب الأديان وتوحيدها، والمناداة بالتعايش السلمي بين أتباعها، وعقد المؤتمرات والندوات، والكتابة في الصحف والمجلات، ممن ينتسبون إلى ديننا ويتكلمون بلغتنا ويرفعون شعاراتنا، وينتمون إلى جماعتنا.

وهذا من أخبث أنواع الركون والاستكانة، وهو ناقض من نواقض الإسلام، علم دعاة ذلك بهذا أم لم يعلموا.

2.  الدعوة إلى إباحة الردة عن الدين الحق، الإسلام، وإنكار حدها، وهذا مما لا ينتطح فيه عنزان، ولا يختلف فيه عاميان، من أنه ناقل عن حظيرة الإسلام، ونشر ذلك في وسائل الإعلام المختلفة من غير نكير من المسؤولين.

3.    الدعوة إلى السفور والتبرج والعمل على تحرير المرأة من القيود الشرعية، والمناداة بمساواتها بالرجل.

4.  التشكيك في المسلمات والثوابت، والدعوة إلى إعادة النظر فيها، نحو سن قانون يحرم تعدد الزوجات، أويساوي بين الذكر والأنثى في الميراث، ولا شك أنه ناقض من نواقض الإسلام كذلك.

5.  سن القوانين الوضعية والرضا بها والتحاكم إليها، ونبذ شرع رب العالمين، مع صريح قوله عز وجل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".

6.  بعض الفتاوى الفاجرة، نحو تجويز شيخ الأزهر للحكومة الفرنسية أن تسن قانوناً يحرم الحجاب على المسلمات هناك، وقد فرضه الله عليهن، ونحو إباحة البعض للفوائد الربوية من المصارف وغيرها.

7.  منافقة كثير من المنتسبين إلى الإسلام في وسائل الإعلام لمن يمجد الزنادقة والملاحدة والمرتدين، الذين قتلوا بسيف الشرع، ووصفهم بأنهم مفكرون، وأنهم قتلوا ظلماً وعدواناً، وقد علم من دين الله ضرورة أن من لم يكفر الكافرين أوشك في كفرهم فقد كفر.

8.    نبذ الجهاد ودعوى أن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، ورد القاعدة: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة"، والاستخفاف بها.

9.    التوسع في إباحة الأغاني والملاهي التي حرمها الله ورسوله.

10.البحث والتنقيب عن زلات وهفوات بعض أهل العلم ونشرها والاستدلال بها لما تهواه أنفسهم، منافقة للكفار والمنافقين.

11.الذبُّ والجدل عن البدع والمحدثات الشرعية وإشاعتها بين العامة.

12.محاولة البعض إجازة بعض الممارسات الشركية التي هي سبب لكل بلية.

13.التوسع في التشبه بالكفار في المخبر والمظهر، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "من تشبَّه بقوم فهو منهم".

14.الاستجابة لطلبات الكفار في تعديل المناهج، وحذف الآيات والأحديث التي تتكلم عن الجهاد والولاء والبراء، ولعن اليهود والنصارى، وفي قفل بعض المدارس والمعاهد، وفي منع بعض الأئمة والخطباء والدارسين، وفي قفل كثير من المنظمات الطوعية، وفي التحكم في مصارف الزكاة.

وكما قلت فإن الأمثلة على الركون كثيرة، وفيما ذكرنا غنى عما أغفلنا لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد.

فاحذر أخي المسلم الركون والاستكانة إلى الكفار والمنافقين، الموجب لغضب الجبار، قليلاً كان هذا الركون أم كثيراً، فقد قال الله عز وجل محذراً لنا في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"، وتذكر أنك لن تقوى على النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الداعي إلى صراطه المستقيم.

0000000000000000000000

أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟

الفراغ نعمة إن استغل استغلالاً حسناً، ولكن سرعان ما ينقلب إلى نقمة وبلاء إن لم يُعرف قدره، فما أكثر الجاهلين بقيمة هذه النعمة المغبونين فيها، "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"، ولهذا جاء في المثل: "الوقت من ذهب"، و"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، سيما مع اجتماع المال والشباب: "إن الفراغ، والشباب، والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة".

واجب أولياء الأمور في البيوت، والمدارس، والمراكز الصيفية، ووزارة الشباب، وغيرها من المؤسسات، أن تعد البرامج النافعة، وتضع الخطط الهادفة لاستغلال طاقات الشباب والاستفادة من مواهبهم وقدراتهم وملكاتهم الذهنية والجسدية، خاصة في العطل الصيفية، بما فيه نفع لهم ولأهليهم ولمجتمعهم، وبما يحول بينهم وبين الانحرافات والممارسات الخاطئة السالبة، فهم أمانة في أعناقهم.

وسائل الاستفادة من الشباب في العطل الصيفية لها مساران:

1.  فردي.

2.  جماعي.

المساران ينبغي أن يشملا الأغراض التالية:

1.  الأعمال الجادة المفيدة له ولأهله ولمجتمعه.

2.  تنمية مقدراته وملكاته ومواهبه.

3.  الترويح البريء.

4.  صرفه عما يضره.

الجانب الفردي

   مساعدة والديه وأهله في عملهم، زراعياً كان أم حرفياً، أم تجارة، ونحوها.

   الاطلاع العام.

   زيارة الأقارب وصلة الأرحام والأصدقاء.

   ممارسة أي عمل يكتسب منه إن كان محتاجاً، والاجتهاد في توفير قدر من احتياجاته الدراسية.

   تنمية مواهبه وملكاته بالتدريب على ما يهواه.

   حضور الدروس في المساجد والمحاضرات.

   ارتياد المكتبات العامة.

الجانب الجماعي

يحتاج إلى إنشاء مراكز صيفية، مكتبات عامة، حوافز مالية وتشجيعية قيمة، وسائل ترحيل، عمل استبيان يوضح ميول واتجاهات ورغبات الطلاب، وعلى ضوئه يقسمون إلى هذه المجالات:

   قوافل جماعية، دعوية، تعليمية، تثقيفية، لمناطق السودان المختلفة.

   دورات لتحفيظ القرآن.

   العُمَر الجماعية.

   الرحلات الجماعية لبعض المناطق السياحية، والصناعية، والزراعية.

   معسكرات مقفولة.

   دورات علمية هادفة مكثفة.

   الاشتراك في مواسم الحصاد.

   دورات تقوية.

   عمل حلقات لمحو الأمية وتعليم الكبار.

   المساهمة في الأعمال الطوعية والإنسانية.

   حملات نظافة للأماكن العامة.

   حملات تشجير للشوارع الرئيسية.

   عمل دورات توعية، مرورية وغيرها.

   معسكرات رياضية.

   معسكرات عسكرية.

   إعداد صحف ومجلات حائطية في المساجد والمدارس والأندية وغيرها.

   معسكرات لتعليم السباحة والرماية.

الحرص والتشجيع على الآتي في طول العام وفي العطلة خاصة

   الصلوات المكتوبة في المساجد.

   حضور الدروس التي تقام في المساجد.

   الارتباط بالمسجد، عن طريق التأذين، وكنسه، ونظافته، وتشجيره، وعمل صحف.

   حضور المحاضرات والاشتراك في الدورات التعليمية.

   الاعتماد على النفس في غسل وكي الملابس ونحوها.

   قراءة والاستماع إلى المفيد النافع في الدين والدنيا.

   التعلق بمعالي الأمور، وأن يكون للمرء هدف يسعى لتحقيقه في عمره القصير.

الحذر من الآتي

   كثرة النوم.

   كثرة الولوج والخروج في المواقع الساقطة.

   الاهتمام بسفاسف الأمور، نحو تشجيع الفرق الرياضية، وقراءة ما يتعلق بها وبالفن في الصحف ونحوها.

   الجلوس في الطرقات والدكات والميادين العامة.

   مصاحبة الأشرار والخروج والدخول معهم.

   الدخول على النساء الأجانب.

   الذهاب إلى الأسواق والجلوس في المقاهي والمطاعم.

   متابعة المسلسلات والاستماع للأغاني.

   الجلوس من غير عمل.

هل تعلم أيها الشاب أن الإمام الشافعي جلس للفتيا والتدريس وهو في سن الخامسة عشرة؟ وأن أسامة بن زيد رضي الله عنه قاد الجيش في غزوة مؤتة ولم يبلغ العشرين؟ وأن أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه مات وعمره أربع وثلاثون سنة؟ وهل تعلم أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تُسأل فيما تُسأل "عن شبابك فيما أبليت"؟ وأن الشباب هم عدة هذه الأمة ونصرتها في جميع العصور؟

وفقك الله لما يحب ويرضى، وبصرك لما فيه خيرك في الدنيا والدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين

00000000000000000000000000

لن يُفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة

قوله عز وجل: "الرجال قوَّامون على النساء"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولَّوْا أمرَهم امرأة" قضيا وحكما بأن الولاية تكون للرجال، وليس للنساء حظ من ذلك، سواء كانت ولاية عامة أم خاصة، لا في الحكم ولا في الصلاة ولا في غيرهما من الأمور.

وإنما تصحُّ ولاية المرأة على بيت زوجها وعلى بني جنسها: "والمرأة راعية في بيت زوجها" الحديث.

لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تلي أمراً على الرجال، فلا يحل لها أن تكون والية، ولا وزيرة، ولا عاملة، ولا قاضية، ولا رئيسة في دائرة من الدوائر الحكومية ولا غيرها، ولا عميدة كلية، ولا مديرة مدرسة، ولا رئيسة قسم ولا لجنة في جامعة ولا مدرسة فيها رجل واحد، اللهم إلا على النساء.

ولا يحل لولاة الأمر من المسؤولين أن يولوا النساء على الرجال، فإن فعلوا فهم مؤاخذون على ذلك، وسيحاسبون عليه يوم القيامة حساباً عسيراً، لمخالفتهم لأمر الله ولأمر رسوله.

وليس في ذلك غض لمكانة المرأة، ولا انتقاص لها كما يدعي دعاة تفلت المرأة وتحررها من القيود الشرعية، بل في ذلك إعزاز وإكرام وصيانة لها.

رضي الله عن أبي بكرة نفيع بن الحارث، عندما خرجت عائشة رضي الله عنها إلى الكوفة، وكان غرضها من هذا الخروج أن يراها الناس ويصطلحوا ولا يقتتلوا ولكن دعاة الفتنة أخزاهم الله هم الذين أجَّجوا القتال، وطُلب منه أن يخرج مع من خرج، وكان ممن اعتزل الفتنة، قال: "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن فارساً ملَّكوا ابنة كسرى قال: لن يفلح قومٌ ولوا أمرَهم امرأة"، حيث لم يقبل أن يخرج مع عائشة وهي أمه وأم المؤمنين جميعاً، ولم تخرج طالبة لزعامة وإنما خرجت للصلح.

الحمد لله الذي عافى الأمة عن مخالفة أمر ربها ورسوله، حيث لم تول امرأة قط على رجال في عصورها المختلفة إلا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وابتلي فريق منهم بتقليد الكفار والتشبه بهم، هذا مع اعتراض الراسخين في العلم على ذلك الصنيع المنكر، وعدم رضى عامة المسلمين بذلك، تحقيقاً لما صح في الأثر أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة قط.

في عصور الانحطاط في عهد المماليك عندما تولت "شجرة الدر" وكانت زوجاً لنجم الدين السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه، حيث قتلته "شجرة الدر" واستولت على الحكم 648هـ، لم يكن توليها مقبولاً من العلماء ولا من ولاة الخليفة العباسي.

فقد اعترض على توليها وأعلن ذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، وكتب الخليفة العباسي في وقته كتاباً إلى أهل مصر يعاتبهم على هذا الصنيع، إذ لم يكن سلطانه عليهم كاملاً، لانفراد المماليك بمصر والشام في ذلك الوقت، قائلاً: (إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً)، وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولية "شجرة الدر" ثمانون يوماً، اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة؛ فأشاروا على "شجرة الدر" أن تتزوج كبير المماليك، وهو "الأتابك أيبك" التركماني، وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها عن السلطة.

وكذلك الأمر عندما أقام المماليك دولة لهم في دلهي بالهند سنة 602ﻫ، وكان أول ملوكهم "إيلتش" الذي اعترف به الخليفة في بغداد، وبعد وفاته 634هـ تولت ابنته السلطة، فاعتُرض عليها وقُتِلت.

دعاة تحرير المرأة من القيود الشرعية والمنادين بخروج المرأة من بيتها، وبمساواتها بالرجل في كل شيء، أغراضهم مختلفة، وأهدافهم متباينة، وليس لهم جامع إلا الهوى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً".

فمنهم من هدفه التفسخ والتحلل، ويريد أن تكون المرأة لقمة سائغة كما هو الحال عند الكفار، ومنهم من يريد منافقة النساء والكسب السياسي الرخيص في الانتخابات، ومنهم من أشُرِب حب الكفار وتقليدهم فهواه تبع لهواهم، ومنهم الجاهل الذي يرى أن هذا من باب التطور والتقدم، فالكفار طالما أنهم متقدمون مادياً فكل ما فعلوه فهو حسن.

وأخس هذه الأصناف من يفتش ويبحث بل ويختلق الزلات والعثرات على بعض أهل العلم ويثير الشبه على السذج والمغفلين.

من ذلك الصنيع الخبيث والقول الخسيس زعم أحدهم أن الله فقط نفى الفلاح عمن يولون المرأة، ولم ينه عن تولية المرأة.

ومنهم من يشكك في الصحابي راوي الحديث أبي بكرة، والصحابة كلهم عدول رغم أنف أهل الأهواء، بحجة أنه أقيم عليه حد القذف، وهناك فرق كبير بين قبول الشهادة والرواية، ويقول آخر إنه حديث آحاد.

وغير ذلك من الأباطيل والأكاذيب التي جاد بها الشيطان على أوليائه من العلمانيين ذوي النكهة الإسلامية.

ولهذا فإن هؤلاء أخطر الأصناف جميعاً.

هذا ما كان عليه أهل الإسلام قديماً وحديثاً، وهذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً، وهذا هو الدين الذي بُعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وليتبع المتفلتون عن شرع رب العالمين المقلدون لأحفاد القردة والخنازير ما شاءوا، فلن يضروا الله شيئاً، ولن تزال طائفة من هذه الأمة وهي المنصورة قائمة على أمر الله متمسكة به، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة وهم ظاهرون على ذلك.

اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.

0000000000000000000

أيها المسؤولون، أيها الموظفون احذروا استغلال سلطتكم وجاهكم

من القواعد الفقهية والضوابط الرئيسية التي شرعها لنا الإسلام التي تحد من استغلال المسؤولين والموظفين لمناصبهم، ومن فسادهم وإفسادهم، ما يأتي:

(1)  قاعدة سد الذرائع، فما من سبب يؤدي إلى أكل الحرام إلا وقد منعته الشريعة، وما من باب يمكن أن يولج منه إلى حرام أويحدث شبهة أوفساداً إلا وقد أوصد.

(2) قاعدة من أين لك هذا؟

(3) الشواهد الصامتة الناطقة، الماء والطين، أو"الإسمنت والخرسانة" في هذا العصر، أوالحسابات المودعة في المصارف، امتلاك الشركات والمؤسسات.

(4) اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وهو الكفء الأمين، كما قال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، وكما عللت بنت شعيب استئجار موسى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين".

(5) المتابعة الدقيقة والمراقبة المستمرة مهما كان صلاح المسؤول.

(6) إنزال العقوبة الصارمة على من ثبتت خيانته ردعاً له ولأمثاله.

(7) الإسراع بعزل من يثبت عجزه في عمله بفسق أوفساد.

إذا التزم المسؤولون بهذه القواعد والضوابط في تعيين الكفء الأمين من المسلمين من غير محاباة ولا مجاملة، مستشعرين ومستصحبين تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف من المحاباة في ذلك: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولاعدلاً حتى يدخله النار".

وفي رواية: "من استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين".

وقال عمر لأحد عماله: "عليك بأهل القرآن فإن لم يكن فيهم خير فمن سواهم أولى"؛ وقال: "إني لأتحرج أن أستعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه"، وقال: "من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله"، وقال: "إنه لم يقم أمر الله في الناس إلا حصيف العقيدة، بعيد الغرة، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخشى الحق على جرأة، ولا يخاف في الله لومة لائم".

ويروى عن الحسن أنه قال: قال عمر: أعياني أهل الكوفة، فإن استعملت عليهم ليناً استضعفوه، وإن استعملتُ عليهم شديداً شكوه، ولوددت أني أجد رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنا والله أدلك على الرجل القوي الأمين المسلم؛ فأثنى عليه، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن عمر؛ قال عمر: قاتلك الله ما أردتَ بها وجه الله".

ولله در الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز فقد روي أنه كان جالساً في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً؟ فقال رجل منهم: لِمَ تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وفناء، وإني أكره أن تدنسوه بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني، أوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم، هيهات؛ فقالوا له: لِمَ؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل من المسلمين حبسني عنه طول شقته.

لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل).

وفي إعطائه ما يكفيه ويغنيه هو وعياله حماية له من الفساد، لهذا عندما ولي أبوبكر الخلافة ذهب إلى السوق، فقيل له في ذلك، فقال: من أين أنفق على عيالي؟ فجعلوا له ألفي درهم في العام، فقال: مايغنيني وعيالي؛ فجعلوها ألفين وخمسمائة درهم.

فالموظف إن لم يُعط ما يكفيه تاقت نفسه إلى الحرام، إلى الرشوة واستغلال الجاه، إلا أن يكون ذا نفس أبية وأخلاق مرضية، فمطالبة المسؤول أوالموظف بالعفة والأمانة مع علم الجميع أن ما يُعطى من معاش لا يفي بمعشار ما يحتاجه هو وعياله من باب المطالبة بما لا يُطاق، وليس لهذا مثل إلا قول القائل:

ألقـاه في اليـم مكتـوفــاً          وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

مع حسن الاختيار والتحري في ذلك، وإعطاء المسؤول ما يغنيه لابد من المراقبة والمتابعة المستمرة والمحاسبة الدقيقة، هذه المراقبة والمحاسبة والمتابعة من أوجب واجبات المسؤولين نحو الرعية.

لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية وقد اصطفاه اصطفاءً عندما بعثه مصدقاً على بني سُلَيم، كما خرَّج البخاري بسنده في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سُليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا ما لكم، وهذا هدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟"، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أوبقرة لها خُوار، أوشاة تَيْعَر"، ثم رفع يديه حتى رؤي بيا ض إبطه يقول: "اللهم هل بلغت؟ بصر عيني وسمع أذني".

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، وكذلك كان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، ثم امتنع عمر عن قبول الهدية، وكتب إلى عماله أن لا يقبلوا هدية، ذلك أن جزاراً كان يهدي إلى عمر فخذ جزور إذا ذبح، وفي مرة كانت له قضية، فقال لعمر: أرجو أن تفصل في هذه القضية كما يفصل الفخذ من الجزور؛ فانتبه عمر، وامتنع عن قبول الهدية ومنع عماله.

وإذا كان عمر يحاسب ويراقب أمثال سعد بن أبي وقاص وعمير بن سعد الذي كان يعرف بنسيج وحده رضي الله عنهما، وغيرهما كثير من الصحابة الأخيار، فكيف بمن لا يدانونهم ولا يشابهونهم في شيء إلا في الهيئة والشكل، ويصدق على كثير منهم قول متمم بن نويرة:

وبعض الرجال نخلة لا جني لها           ولا ظل إلا أن تعد من النخل

روى الذهبي في ترجمة عمير بن سعد هذا قال: بعثه عمر على حمص، فمكث حولاً لا يأتيه خبره، فكتب إليه: أقبل بما جبيت من الفيء؛ فأخذ جرابه وقصعته، وعلق إداوته، وأخذ عنزته وأقبل راجلاً، ودخل المدينة وقد شحَب، واغبر، وطال شعره، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين؛ فقال: ما شأنك؟ قال: ألستُ صحيح البدن، معي الدنيا! فظن عمر أنه جاء بمال، فقال: جئتَ تمشي؟ قال: نعم؛ قال: أما كان أحد يتبرع لك بدابة؟ قال: ما فعلوا، وما سألتهم؛ قال: بئس المسلمون! قال: يا عمر، إن الله قد نهاك الغيبة؛ فقال: ما صنعت؟ قال: الذي جبيته وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به؛ قال: جددوا لعمير عهداً؛ قال: لا عملتُ لك ولا لأحد، قلتُ لنصراني: أخزاك الله.

وذهب إلى منزله على أميال من المدينة، فقال عمر: أراه خائناً؛ فبعث رجلاً بمائة دينار، وقال: انزل بعمير كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالاً شديدة فادفع إليه هذه المائة؛ فانطلق، فرآه يفلي قميصه، فسلم، فقال له عمير: انزل؛ فنزل، فساءله، وقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: ضرب ابناً له على فاحشة فمات.

فنزل به ثلاثاً، ليس إلا قرص شعير يخصونه به، ويطوون؛ ثم قال: إنك قد أجعتنا؛ فأخرج الدنانير، فدفعها إليه، فصاح، وقال: لا حاجة لي بها، وردها عليه؛ قالت المرأة: إن احتجت إليها وإلا ضعها مواضعها؛ فقال: ما لي شيء أجعلها فيه؛ فشقت المرأة من درعها، فأعطته خرقة فجعلها فيها، ثم خرج يقسمها بين أبناء الشهداء.

وأتى الرجلُ عمرَ، فقال: ما فعل بالذهب؟ قال: لا أدري؛ فكتب إليه عمر يطلبه، فجاء، فقال: ما صنعت بالدنانير؟ قال: وما سؤلك؟ قدمتها لنفسي؛ فأمر له بطعام وثوبين، فقال: لا حاجة لي في الطعام، وأما الثوبان فإن أم فلان عارية؛ فأخذهما ورجع، فلم يلبث أن مات).

لقد ازدادت سطوة المسؤولين والموظفين واستشرى فسادهم وعم وطم في هذه الأيام، وأصبحوا أخطبوطاً يتسلطون على مصالح الناس، ويعطلون أعمالهم، ويعرقلون أشغالهم، فلا يمكن لمؤسسة، أوتاجر، أوفرد عادي أن يُنجز له عمل في جل دواوين الحكومة إلا إذا دخل في مساومة معهم وأجابهم لمطالبهم.

لم تكن الروشة والمحسوبية واستغلال الجاه بهذه الدرجة من الخطورة ولا بهذا الحجم من الانتشار من قبل، حيث كانت محصورة في بعض الطبقات الدنيا من الموظفين، أما الكبار فما كانوا يتعاطون شيئاً من ذلك.

أما الآن فقد تضاعفت هذه المفاسد أضعافاً كثيرة وتوسعت دائرة المستفيدين من الرشوة، بحيث أصبح الرائش وهو وسيط السوء يطالب بثلاثين وأربعين مليوناً أوأكثر مقابل تسجيل قطعة أرض استثمارية أومسحها، أولتكملة إجراءات تسليمها لصاحبها.

وأضحى العديد من كبار الموظفين في عدد من الوزارات والمصالح والمؤسسات والمصارف أغنى بكثير من بعض التجار، فمنهم من يمتلك العديد من المنازل والعمائر والعقار، ومنهم من يمتلك مصانع ومؤسسات ويدخل في مناقصات كبيرة، وهكذا، وكل هذا عن طريق استغلال الجاه والسلطة، سواء كان ذلك بطريق مباشر أوغير مباشر، بينما نجد أمثالهم من الموظفين بل من هو أقدم منهم وأجدر وأكفى من الأطهار الأخيار يسكنون في بيوت الإيجار ويعيشون عيشة الكفاف.

وسبب كل هذا الفساد والتردي يرجع إلى عدم الالتزام بالقواعد والضوابط السالفة الذكر، سيما عدم المراقبة والمحاسبة والعزل، وعدم إنزال العقوبات الصارمة على من تثبت إدانتهم ويتضح فسادهم وإفسادهم، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

أين نحن من مسلك حكامنا الأخيار في النزاهة ومناصحة ومحاسبة من يولون؟ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، إليك هذه الآثار في النزاهة عن استغلال الجاه:

روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: "مكث عمر رضوان الله عليه زماناً لا يأكل من المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم، فقال: قد شغلتُ نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كل وأطعم؛ وقال ذلك سعيد بن زيد، فقال عمر لعلي: ما تقول أنت؟ قال: غداء وعشاء؛ فأخذ عمر بذلك".

وعن قتادة قال: "كان معيقيب على بيت المال في عهد عمر - فكسح بيت المال يوماً فوجد فيه درهماً فدفعه إلى ابن عمر، قال معيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده، فقال: وحيك يا معيقيب أوجدت عليَّ في نفسك سبباً؟ أومالي ولك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم يوم القيامة؟".

"أهدى عامل لعمر نمرقتين لامرأة عمر، فعندما دخل عمر ورآهما قال: من أين لك هاتان؟ اشتريتيهما؟ خبريني ولا تكذبيني؛ قالت: بعث بهما إليَّ فلان؛ فقال: قاتل الله فلاناً لما أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي؛ فاجتذبهما اجتذاباً شديداًمن تحت من كان عليهما جالساً، فخرج يحملهما، فتبعته جاريتها فقالت: أصوافهما لنا؛ ففتقهما وطرح إليها الصوف وذهب بهما فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرين والأخرى امرأة من الأنصار".

روى سعيد بن المسيِّب: "أن عمـر رضي الله عنه بعث معـاذاً سـاعياً على بني كلاب وعلى بني سعد بن ذيبان، فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، وعاد إلى المدينة بثوبه الذي خرج به منها، فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة لأهليهم؟ فقال:كان معي ضاغط؛ فقالت: كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر فبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها، واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر، فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ قال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك؛ فضحك عمر، وأعطاه شيئاً، وقال: أرضها".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر فقال له أهلها: نحن أعلم بعملها منكم؛ فأعطاهم إياه بالنصف، ثم بعث عبد الله بن رواحة يقسم بينه وبينهم، فأهدوا له، فرد هديتهم، وقال: لم يبعثني النبي صلى الله عليه وسلم لآكل أموالكم، إنما بعثني لأقسم بينه وبينكم؛ ثم قال: إن شئتم عملتُ وعالجتُ وكلتُ لكم النصف، وإن شئتم عملتم وعالجتم ووكلتم لنا النصف؛ فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".

أرجو من المسؤولين أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي عمالهم، ووزرائهم، وفي رعاياهم، وأن يعملوا على نصر الظالم والمظلوم، وعلى محاسبة من يولون، ومعاقبتهم وعزلهم إن دعا الحال، وعليهم الاقتداء بما كان يفعله عمر مع عماله.

روي أن عمر رضي الله عنه كان يقاسم عماله أموالهم بناء على قرائن الأحوال، والشواهد الناطقة والصامتة، والمبدأ الذي قرره: "لي على كل خائن أمينان، الماء والطين".

وكان سبب مقاسمته لبعض عماله أن أبا المختار يزيد بن قيس بن الصَّعق قال شعراً كتب به إليه يشكو عماله على الأهواز وغيرها، جاء فيه:

أبلغ أميـر المـؤمنين  رســالـة            فأنت أمين الله في النهي والأمـــر

وأنت أمين الله فينــــا ومن يكن            أميناً لرب العرش  يسلم له صـدري

فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى             يسيغون مال الله في الأدم الوفـر

فأرسل إلى الحجاج فاعرف حسـابه           وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشـر

ولا تنسين النــافعين  كليهمـــا            ولا ابن غـلاب من سراة  بني نصر

وما عاصم منها  بصغــر عنايـة            وذاك الذي في السوق مولى بني بدر

وأرسل إلى النعمان فاعـرف حسابه           وصهر بني غـزوان إني لذو خبـر

وشبـلاً فسله المـال وابن مجـرش           فقد كان في أهل الرساتيق  ذا ذكـر

ولا تدعـوني للشهـــــادة إنني           أغيـب ولكني أرى عجـب الدهـر

من الخيل كالغزلان و البيض كالدمى           وما ليس ينسى من قـرام و من ستر

ومن ريطـة مطـوية في صـوانها            ومن طي أستـار معصفـرة جمـر

إذا التاجـر الهندي جـاء بفـارة           من المسك راحت في مفارقهم تجري

نبيع إذا باعـوا ونغـزو إذا غـزوا            فأنى لهم وفـر ولسنا بذي وفـــر

فقاسمهم نفسي فيـداؤك إنــــهم            سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطـر

وقد قاسم عمر مالهم فعلاً، وكان يحصي أموالهم قبل توليتهم ويصادر كل زيادة غير معقولة.

والله أسأل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يرزقنا الحلال الطيب، ويغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، ويقنعنا بما رزقنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، والقائل: "أول ما ينتن من المرء بطنه، فإن استطعت أن لا تدخل فيه إلا الحلال الطيب فافعل"، أوكما قال.

000000000000000000

العاقل الذي يعرف خير الشرين

إذا تزاحمت الشرور وليس هناك طاقة ولا قوة لدفعها جميعاً فلابد من التخيير والتمييز بينها، فكما أن الخير والإيمان درجات فكذلك الكفر والشر دركات، وبعض الشر أهون من بعض.

على المسلمين أفراداً وجماعات أن ينحازوا ويعملوا لدفع شر الشرين، بخير الشرين، فمكره أخاك لا بطل.

إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً              فما حيلة المضطر إلا ركوبُها

ولهذا حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لغلبة الفرس المجوس على الروم المسيحيين، وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يعجبه موافقة أهل الكتاب اليهود، إلى أن ثبت له أن اليهود أشر من المشركين، فأمر بمخالفتهم، وبادرهم العداء حتى أجلاهم من جزيرة العرب، وقرر أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان.

فالعاقل الحق الذي يخاير بين الأمور، ويوازن بين الشرور، آخذاً بقاعدة أخف الضررين، ودفعاً لأخطر الأمرين.

قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين".

لقد تكالبت قوى الشر في الداخل والخارج وتنادت للقضاء على الإسلام، وانفردت قوى الشر والطغيان بقيادة العالم كله بعد القضاء على المعسكر الشرقي والشيوعية، ولم يبق للكفر عدو سوى الإسلام الخالص.

لهذا وجب على المسلمين قاطبة توحيد جهودهم، وتجميع صفوفهم، وتناسي خلافاتهم، والانتباه للخطر المحدق بهم، إن لم يتيسر جمع سائر أهل القبلة فأضعف الإيمان التأليف بين أهل السنة، وإن كان الخطر أكبر منهم بكثير.

لهذا كان لابد أن يكون شعار هذه المرحلة موالاة أي مسلم بقدر ما فيه من إيمان، والتنسيق معه سيما في العمل العام، والتنازل عن حظوظ النفس مقابل المحافظة على الهوية الإسلامية والانتماء للشريعة المحمدية.

ولا يليق بالمسلمين بحال من الأحوال أن يكون الجاهليون أكثر وعياً وعقلاً منهم، حيث كان شعارهم في الحروب والنزاعات: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، لو عمل المسلمون جميعاً بهذه القاعدة لما استطاع الغزاة دخول كابل ولا بغداد.

انطلاقاً من هذا المبدأ فإني أهيبب بجميع إخوة العقيدة ورفقاء الدرب في الجامعات والمعاهد العليا خاصة أن يتجمعوا في صعيد واحد ضد قوى الشر والعدوان من الشيوعيين والمنافقين، وأن لا يشقوا عصا الطاعة على إخوانهم المسلمين، فخير لك أخي المسلم أن يرأسك أخوك المسلم وإن ظلمك من أن يسيطر عليك شيوعي أو منافق لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، واحذر خداعهم، وغشهم، وتدليسهم، وتظاهرهم بالخير: "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم".

اللهم ألف بين قلوب المسلمين واهدهم سبل السلام ، وجنبهم الفتن والمحن والآثام، واجمع كلمتهم على الحق والدين، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، والسلام

0000000000000000000

ردٌّ على كافرة ازدادت كفراً وردة بنيلها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته

الحمد لله القائل: "لعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".

وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وبعد..

فقد جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقطع عنه ألسنة الناس، فقال: "يا موسى لم أقطعهم عني، فكيف أقطعهم عنك"؟

لا غرابة أن يسب اليهود والنصارى أوأحدهم رسولاً من رسل الله عز وجل، فقد سبوا الله سباً - كما قال عمر رضي الله عنه - لم يسبه إياه أحد من قبل ولا من بعد، حيث نسبوا له الولد والصاحبة والشريك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

هذا بجانب زعمهم أن الله فقير وهم الأغنياء، وأن يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، وبجانب قتلهم الأنبياء الذي هو أشد جرماً من السب والانتقاص.

لم أتعجب من الكفريات التي وردت فيما كتبته تلك المرأة النصرانية التي تدعى "سلاس" وأشاعته بين بعض المسلمين تحت عنوان: "مقارنة بين مؤسسي أكبر دينين في العالم"، وتعني بذلك عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي تدعو للعجب، كتعجبي من جهلها الفاضح وجرأتها، ومن الفوضى الفكرية التي غشتنا في هذه الأيام، وعدم المراقبة لما يكتب من كفر صراح، وعدم المحاسبة والمؤاخذة لمنتقصي الإسلام ورسوله.

ومما يدل على جهلها الفاضح بالمسيحية التي تدعي اعتناقها قبل الإسلام أمران هما:

أولاً: زعمها أن الإسلام والمسيحية عبارة عن حزبين أسسهما محمد وعيسى عليهما السلام، وهما دينان سماويان وشريعتان ربانيتان، هذا قبل التحريف الذي أصاب المسيحية، وقبل أن تنسخ بشرع محمد الخاتم لجميع الشرائع، وبكتابه المهيمن على جميع الكتب السماوية.

رحم الله الإمام ابن القيم عندما قال: "ما بأيدي النصارى من الدين باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ".

ثانياً: هذه المقارنة الجائرة بين شريعة عيسى المعدلة المنسوخة، وبين شرع محمد الذي بشر به عيسى عليه السلام: "ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"، وذلك لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم تطوير وتكميل لما جاء به أخواه موسى وعيسى عليهما السلام.

قال شيخ الإسلام مفتي الأنام أحمد بن عبد الحليم الإمام في كتابه القيم "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" في رده على تساؤل بعض أفراد هذه الملة المبدّلة المحرّفة للكلم عن مواضعه، ولما جاءهم به عيسى، حيث قالوا عن المسلمين: "إنا نعجب من هؤلاء القوم الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان: شريعة عدل وشريعة فضل، فأرسل موسى إلى بني إسرائيل، فوضع شريعة العدل، وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم.

ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال، وجب أن يكون هو تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه الذي يضعه، لأنه ليس شيء أكمل منه، وليس في الموجودات أكمل من كلمته، ولذلك وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة، يظهر منها قدرته وجوده.

ولم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين، وبعد هذا الكمال ما بقي شيء يوضع".

هل بعد ذلك سبٌّ وانتقاص لله عز وجل؟!

(الجواب عن هذا من وجوه:

أحدها أن يقال: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل  فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل ، فتوجب العدل، وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث، وهي شريعة القرآن الذي يجمع فيها بين العدل والفضل، مع أننا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح أيضاً أوجب العدل وندب إلى الفضل).

فدل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذه الشرائع الثلاث متممة ومكملة لبعضها البعض، وأن الخير الذي ورد في جميع الشرائع جمع في شرع محمد وزيد عليه.

قال شيخ الإسلام: (فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن، أو ما هو أفضل منه.

لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة والإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء).

إلى أن قال مدللاً على تكميل هذه الشرائع لبعضها البعض، وعدم تناقضها: (إن شريعة التوراة يغلب عليها الشدة، وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا.

ولهذا جاء في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: "إنه نبي الملحمة، وأنه الضحوك القتال".

إلى أن قال: ولهذا قال بعضهم: بعث موسى بالجلال، وبعث عيسى بالكمال، وبعث محمد بالكمال.

ثبت بذلك أنه لا مجال للمقارنة بين شرع محمد صلى الله عليه وسلم وبين جميع الشرائع السابقة له، لاشتمال شريعته لكل خير فيها وصلاحه لكل زمان ومكان، ولهذا تولى الله حفظها وجعلها المهيمنة إلى أن يقوم الناس لرب العالمين).

أما ما جاء في هذه المقارنة من الإثم والبهتان ما يأتي:

1.  اعتراضها على لعن الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى، يردُّه لعن رسولين كريمين من بني إسرائيل لليهود والنصارى، وهما داود وعيسى عليهما السلام: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".

فاليهود والنصارى ملعونون على ألسنة جميع الأنبياء، إما بلسان الحال أولسان المقال، فلا غرابة أن يلعنهم خاتمهم، فلعنهم قربى وعبادة.

أما حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه ومسامحته فشهد بهما القرآن الكريم، ورب العالمين، حيث قال في وصفه: "وإنك لعلى خلق عظيم"، "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".

ويدل عليه دعاؤه بالهداية للمشركين الذين أذوه وأخرجوه من بلده، حيث كان يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".

وعندما كان يُطلب منه أن يدعو عليهم كان يقول: "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله".

وعندما قال له الطفيل بن عمرو الدوسي: ادعُ على دوس، لقد غلبني عليهم الزنا؛ دعا لهم، وقال: اللهم اهدِ دوساً وائت بهم.

أما حلمه فيشهد عليه مواقفه مع الأعراب الغلاظ الجفاة، مما دعا أحدهم أن قال: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد سوانا.

لكن نعوذ بالله من الحقد والجهل ومن عمى البصائر.

2. الافتراء الثاني زعمها: "استعباده الناس بالقوة وتجارة العبيد".

وتقصد بذلك إنكار فريضة الجهاد التي شرعها رب العباد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، فمن أبى الإسلام والجزية كان الواجب أن يُقتل، ولكن تفضل عليهم الإسلام واستبدل ذلك بالاسترقاق عسى الله أن يمن عليهم بالهداية، فهذا التشريع ليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن وضعه رب الأرباب، وعندما آثر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الفداء من أسرى بددر بدلاً من القتل عوتب في ذلك: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض".

ثم حث أتباعه على العتق، ورتب عليه الأجر الجزيل، وشرع الكفارات بعتق الرقاب، فأي مأخذ في التزام الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه؟

أما تجارة الرقيق فقد كانت معروفة منذ القدم، قبل المسيحية والإسلام، وفي العصر الحديث أول من مارسها الأروبيون والأمريكان، حيث استرقوا الأحرار واستعبدوا البشر لمصالحهم الذاتية، وأخذوهم مقيدين من إفريقيا وآسيا للعمل في المناجم والمصانع، فما هذا الخلط والتدليس؟

أما حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للخدم قبل البعثة وبعدها فيشهد لها إيثار زيد بن حارثة له على والده وعمه عندما جاءا لفدائه، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمنزلة الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية؟ قال: نعم، لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.

وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له قط، ولا امرأة له قط، ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء، حتى ينتقم لله، وما عرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما، إلا أن يكون مأثماً، فإن كان مأثماً كان أبعد الناس عنه".

وفي الصحيحين كذلك قال أنس رضي الله عنه: "خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ ولا لما صنعتُ لما لا صنعتَ، وكان بعض أهله إذا عتبوني على شيء يقول: دعوه، فلو قدر شيء لكان هذا".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ففي شريعته صلى الله عليه وسلم من اللين، والعفو، والصفح، ومكارم الأخلاق، أعظم مما في الإنجيل، وفيها من الشدة، والجهاد، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة، وهذا هو غاية الكمال.

3.  اعتراضها على حد القذف على من قذف الصديقة بنت الصديق.

نقول لمن يصر على رمي عائشة بالإفك بعد أن برَّأها الله منه ما قاله ابن الباقلاني رحمه الله عندما أرسله عضد الدولة ليناظر بعض القسس على رده على أحدهم بقوله: ما صنعت زوجة نبيكم؟ يريد قبَّحه الله عائشة وحادثة الإفك.

فقال ابن الباقلاني: هما امرأتان عفيفتان نزلت براءتهما من السماء، فإن وقع في الذهن الفاسد اتهام إحداهما بريبة فرميه للأخرى أولى، لأن إحداهما لم يكن لها زوج وأتت بولد، والأخرى لها زوج ولم تأت بولد؛ يعني مريم وعائشة، فبهت الذي كفر وأسكت وأخرس.

فإقامة الحد على من أشاع الفاحشة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدل والإنصاف الذي قامت عليه السموات والأرض، والذي يتهم عائشة بعد أن برأها الله إن كان مسلماً فقد كفر، وإن كان كافراً فقد ازداد كفراً، وحكم الإسلام عليهما القتل.

4. اعتراضها على أن يأتي الرجل ما ملكت يمينه، وهذا الاعتراض لا يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا حكم ربنا: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين".

5.  تشكيكها في عصمته صلى الله عليه وسلم، وقد أوتيت من قِبَل جهلها الفاضح باللغة العربية، وبالقرآن، وبالسيرة المرضية، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمي بصرها كما أعمى بصيرتها، وأن ينتقم لرسوله منها في الحياة قبل الممات، ولضحالة هذا المأخذ فإنه لا يستحق رداً ولا تعليقاً.

6.  أما اعتراضها على رب العالمين بأنه فرق بين الذكر والأنثى، وفضل بعضهما على بعض، فنحيلها إلى ما قالته المرأة الصالحة أم مريم عندما وضعتها، حيث قالت: "وليس الذكر كالأنثى".

والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من نسخ الله به شرائع السابقين، ورضي الله عن أمنا عائشة، ولعائن الله المتتاليات مصحوبة بغضبه على اليهود الحاقدين، وعلى النصارى الجاهلين.

00000000000000000000

أيها الموسرون الأسخياء ارعوا العلم والعلماء

كما أن للآخرة سادة وهم الأتقياء، فكذلك فإن للدنيا سادة هم الأسخياء، فالسخاء مطلوب محبوب في كل المجالات، سيما في بث العلم ونشره، وعلى الغزاة والمجاهدين، والعلماء والدعاة العاملين، وعلى الأيتام، والأرامل، والفقراء، والمساكين، وفي سبل الخير المختلفة، وطرقه المتعدية النفع المتنوعة.

لقد أمر الله ورسوله بالإنفاق، ونهيا وحذرا من البخل والشح والإقتار، فقال عز من قائل: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه".

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً؛ ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".

قـال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مـال من صدقة"، وفي رواية: "ما نقصت صدقة من مـال".

وجعل الشارع الحكيم الإنفاق في سبل الخير قليلاً كان أم كثيراً من الكسب الطيب سبباً من أسباب دخول الجنة، فقال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وقال: "من تصدق بعدلتمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلوَّه حتى تكون مثل الجبل".

لم يأمر الشارع أحداً أن يغبط أحداً إلا في خصلتين، فقال: "لا حسد أي لا غبطة إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها".

فالإنفاق الذي أمر الله ورسوله به، ووعدا بخلفه، هو الإنفاق في أوجه الخير والحق، وعلى العكس والنقيض من ذلك الإنفاق في أوجه الشر والباطل، كالإنفاق على أهل البدع والفسوق، والسفهاء من الفنانين، والأدباء، والشعراء، والرياضيين، والإعلاميين الخبثاء، فالإنفاق على هؤلاء وبال ليس بعده وبال، وخسران وكساد، واعلم أخي الموسر أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تسأل عن أربع، منها: "عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته".

واحذر كذلك أن تكون من الكانزين الغافلين، ومن المكثرين المقلين الخاسرين: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون".

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة"، قلت: فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: "الأكثرون أموالاً، إلا من قال: هكذا وهكذا، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم".

بعض الآثار في ذم البخل والإقتار

لقد ذم السلف الصالح البخل وعابوه، وأكثروا من ذلك، نذكر طرفاً منها:

1.  عن علي رضي الله عنه قال: "البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة"، أي مع قلة أعماله الصالحة إذا مات على التوحيد.

2.  خطب الزبير بن العوام رضي الله عنه بالبصرة فقال: "أيها الناس، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا زبير، إن الله تعالى يقول: "أنفق أنفق عليك، ولا توكئ فيوكأ عليك، وأوسع يوسع الله عليك، ولا تضيق فيضيق الله عليك، واعلم يا زبير أن الله يحب الإنفاق، ولا يحب الإقتار، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية أوعقرب".

3.  وقال جعفر بن محمد: "قال الله عز وجل: أنا جواد كريم، لا يجاورني في جنتي لئيم".

4.  وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أفٍ للبخل، والله لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته".

5.  وقال يونس بن عبد الأعلى: قال الشافعي: "السخاء والكرم يغطي عيوب الدنيا والآخرة، بعد أن لا يلحقه بدعة".

قلت: لأن المبتدع في دين الله لا يقبل منه صرف ولا عدل، أي لا فرض ولا سنة.

6.  وقال حبيش بن مبشر الثقفي الفقيه: "قعدتُ مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً".

7.  وقال بشر بن الحارث الحافي: "لا تزوج البخيل ولا تعامله، ما أقبح القارئ أن يكون بخيلاً"، رواه الخلاف في "الأخلاق".

8.  وقال بشر الحافي كذلك: "شاطر سخي أحب إلى الله من صوفي بخيل".

البخل قبيح من جميع الخلق

لا شك أن البخل قبيح من جميع الناس، ولكن يزداد قبحه ويسوء فعله من:

1.  العلماء.

2.  الأغنياء.

3.  العباد.

والبخل من العلماء قبيح، سواء كان بخلهم بالمال، أوبالعلم، وبخلهم بالعلم أسوأ من بخلهم بالمال.

قال ابن المبارك رحمه الله: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما ينسي، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه".

أفضل ما ينفق فيه المال العلمُ الشرعي

سبل الخير كثيرة ومتتنوعة، وكل ميسر لما خلق له، ولكن أفضل وأحسن ما ينفق فيه المحسنون ويبذل فيه الموسرون أموالهم هو بث العلم ونشره، وتعهد العلماء، وطلاب العلم الشرعي، والدعاة، هذا كله بعد صدق النية وتجنب الأذية بالمن والأذى.

قال العالم التاجر المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله وقد عُزل في إنفاقه على العلماء وطلاب العلم، وعوتب في ذلك، وكان ذلك هو الدافع له للاشتغال بالتجارة، دون أن يقتصر على بلده: "إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم".

طلب العلم ونشره يحتاج فيما يحتاج إليه إلى تفرغ، ولا يمكن لأحد أن يقوم ببث العلم ونشره ولا حتى بطلبه على الوجه المرضي إلا إذا كفي مؤونة المعايش، خاصة في هذا العصر الذي ارتفعت فيه أسباب المعايش وتعسرت، وتعددت فيه متطلبات الحياة واختلفت، خاصة للمتزوجين وأصحاب العيال، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

إذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم سأل من يأويه ويمنعه ويحميه حتى يبلغ رسالة ربه، وعرض نفسه على القبائل العربية عندما أعرض عنه قومه في مكة، إلى أن فازت بهذا الخير وحظيت بهذا الأمر الأنصار، لما ادخره سبحانه وتعالى لهم من الكرامة العظيمة، والآلاء الجسيمة في الدنيا والآخرة.

روى ابن إسحاق رحمه الله بسنده إلى العباس رضي الله عنه وكان وقتها مشركاً يقول: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على القبائل العربية يقول: "يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به".

والعلماء هم ورثة الأنبياء وأتباع الرسل، ومهمتهم تبليغ هذا الدين وإرشاد العالمين، وحاجتهم إلى العناية والرعاية من إخوانهم المسلمين أكثر من حاجة الأنبياء والرسل، لأن الله عاصمهم، ولما زودهم الله به من القناعة والرضا بالقليل، لهذا فقد كان كثير من السلف حريصين على رعاية العلماء وطلاب العلم، مشتغلين بذلك، متكفلين لهم بما يهمهم من أمور معاشهم، وما يعينهم على تفرغهم لطلب العلم ونشره بين العباد.

نماذج لمن كان متكفلاً بطلبة العلم وراعياً لهم

المجتمع المسلم مجتمع متكافل مترابط، متمم لبعضه البعض، فما من شريحة من شرائحه إلا وهي تقوم بدور فاعل، وتسد ثغرة من الثغور المهمة، فما كان للغزاة أن يغزو العدو، وأن يرابطوا بالثغور لولا أن الله هيأ بعض طوائف المسلمين للقيام بالزراعة، والتجارة، ونحوها من المكاسب، ليخلفوا هؤلاء الغزاة في أهليهم وأولادهم، ولولا أن الله سبحانه وتعالى هيأ بعض الموسرين والمحسنين، ويسرهم لمساعدة إخوانهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم، لما استطاع هؤلاء أن يقوموا بواجبهم في نشر العلم وبثه، ودعوة الناس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدين والدنيا، فالمؤمن للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما أخبر الصادق المصدوق، ولهذا فإن أي تقصير أوخلل يحدث في شريحة من شرائح المجتمع المختلفة يكون له تأثيره السلبي على الإسلام والمسلمين.

لذا فلابد من التذكير والمناصحة والأخذ بيد المقصر حتى لا تغرق السفينة، وحتى لا يتواطأ الجميع على الباطل ثم يدعون فلا يُستجاب لهم.

أولاً من العلماء

أشهر الأمثلة وأصدق النماذج لاهتمام بعض العلماء المحسنين الموسرين بطلاب العلم والعلماء، وأكثر المهتمين بنشر العلم وإفشائه بين الناس، على سبيل المثال لا الحصر:

1.  سعد بن عبادة رضي الله عنه

سيد الخزرج الجواد الكريم، كان من سلالة كرماء.

قال الذهبي: (وكان سعد وعدة آباء له قبله ينادي على أطمهم: من أحب الشحم واللحم فليأت أطم دُليم بن حارثة).

ويتمثل سخاء سعد وجوده واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه في الآتي:

أ. كانت له قصعة تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه حيث دار.

قال الذهبي: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يبعث إليه كل يوم جفنة من ثريد اللحم، أوثريد بلبن وغيره، فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه).

ب. كان سعد يصحب معه كل ليلة ثمانين من أهل الصفة يعشيهم.

2.  جعفر بن أبي طالب الملقب بالطيار رضي الله عنه

من الأسخياء الأجواد الرحماء على طلاب العلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، دعنا نستمع إلى حافظ السنة أبي هريرة الذي كان متفرغاً لحفظ الحديث في أول الأمر يصف لنا جود هذا الصحابي وإحسانه واهتمامه بطلاب العلم الفقراء من أهل الصفة.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، أفضل من جعفر بن أبي طالب"، قال الذهبي: يعني في الجود والكرم.

وقال أبو هريرة كذلك: "كنا نسمي جعفراً أبا المساكين، كان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئاً أخرج إلينا عُكَّة أثرها عسل فنشقها ونلعقها".

وفي رواية عنه قال: "إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل إلا الخمير، ولا ألبس إلا الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني"، ثم ذكر صنيع جعفر بهم.

قلت: ينبغي لطلاب العلم اليوم الاقتداء والتأسي بهذا الصحابي الجليل في الصبر على المشاق، وفي المثابرة على التحصيل، وفي التفرغ لطلب العلم، فلم ينل أبوهريرة ما ناله وكذلك جل الأئمة إلا بالجد والمثابرة، وبالصبرواليقين، فهما الطريق لحيازة الإمامة في الدين.

3.  الليث بن سعد (94-175ﻫ)

من العلماء الموسرين الأسخياء المشتغلين بكفالة العلماء وطلاب العلم والمساكين، فقيه مصر ومحدثها الليث بن سعد رحمه الله.

قال الشافعي: الليث أعلم من مالك، إلا أن تلاميذه أضاعوه.

قال ابن قتيبة: كان الليث يتصدق كل يوم على ثلاثمائة مسكين.

أما إنفاقه على العلماء والمحدثين فيدل عليه ما يأتي:

أ. قال سليم بن منصور بن عمار: حدثنا أبي قال: دخلتُ على الليث خلوة فأخرج من تحت وسادة كيس فيه ألف دينار، وقال: يا أبى السَّرى، لا تُعلِم بها ابني، فتهُونَ عليه.

ب. حج الليث، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل الليث على الطبق ألف دينار ذهب فرده.

ج. وكتب مالك إلى الليث إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي شيئاً من عُصْفر، فبعث إليه بثلاثين حِملاً عُصْفراً، فباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة.

عن أبي صالح كاتب الليث قال: كنا على باب مالك، فامتنع من الحديث، فقلت: ما يشبه هذا صاحبنا؟ قال: فسمعها مالك، فأدخلنا، وقال: من صاحبكم؟ قلت: الليث؛ قال: تشبهوننا برجل كتبتُ إليه في قليل عُصْفر، نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ منه ما بعنا فضله بألف دينار.

وقال حرملة: كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمائة دينار في كل سنة، فكتب إليه مالك: عليَّ دين، فبعث إليه بخمسمائة دينار.

د. احترقت كتب ابن لهيعة فوصله بألف دينار.

ولهذا كان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، فما وجبت عليه زكاة درهم قط.

قال: ما وجبت عليَّ زكاة منذ بلغت.

ﻫ. جاءت امرأة إلى الليث وقالت: يا أبا الحارث، إن ابناً لي عليل واشتهى عسلاً؛ فقال: يا غلام، أعطها مِرطاً من عسل؛ والمرط عشرون ومائة رطل، وقال: سألت على قدرها، وأعطيناها على قدر السعة علينا.

و. وأعطى منصور بن عمار الواعظ مرة ألف دينار وجارية تسوى ثلاثمائة دينار.

وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض.

4.  العالم المجاهد عبد الله بن المبارك (118-181ﻫ)

كانت همة ابن المبارك متعلقة بأمور، هي:

1.  حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2.  الغزو والجهاد في سبيل الله.

3.  الحج والعمرة.

4.  كفالة العلماء وطلاب العلم والإخوان.

5.  الإنفاق على الفقراء والمساكين.

كان ابن المبارك رحمه الله من الأسخياء الأجواد، وكان سخاؤه لجميع الناس سيما العلماء وطلاب العلم والإخوان.

قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرتُ.

وقال مرة: لولا السفيانان ما اتجرت؛ يعني العالمين الكبيرين والمحدِّثين العظيمين: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، رحمهما الله، وكان ينفق على الفقراء كل سنة مائة ألف درهم.

وقال الذهبي: كان ابن المبارك غنياً شاكراً، رأس ماله نحو الأربعمائة ألف.

قال علي بن خَشْرم: قلت لعيسى بن يونس: كيف فضلكم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال: كان يقدم ومعه الغِلْمة الخرسانية، والبزَّة الحسنة، فيَصِل العلماء، ويعطيهم، وكنا لا نقدر على هذا.

نماذج من إنفاق ابن المبارك على العلماء وغيرهم

أ. قال نعيم بن حماد: قدم ابن المبارك أيلية بيت المقدس على يونس بن يزيد، ومعه غلام مفرغ لعمل الفالوذج، يتخذه للمحدِّثين.

ب. دخل أبو أسامة وهو من العلماء على ابن المبارك، فوجد في وجهه أثر الضر، فلما خرج بعث إليه أربعة آلاف درهم، وكتب إليه:

وفتى خـلا مـن مـاله            ومن المـروءة غير خالِ

أعطـاك قبـل  سـؤاله            وكفـاك مكـروه السؤالِ

ج. وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك.

د. وممن كان يتكفل بهم ويصلهم إسماعيل بن علية، فلما ولي القضاء أوالصدقات لهارون الرشيد قطع صلته عنه، وكتب إليه بهذه الأبيات:

يا جاعل العِلْم له  بازيـاً             يصطـاد أموال المساكين

احتلت للدنيـا ولذاتهــا              بحيلـة  تذهب بالـدِّيـن

فصرتَ مجنوناً بها بعدما               كنتَ دواءً للمسَــاكيـن

أين رواياتك في سـردها              عن ابن عَوْن وابن سيرين

أين رواياتك فيمـا مضى              في ترك أبواب السَّلاطين

إن قلتَ أكرهتُ فماذا كذا              زل حِمارُ العِلم في الطين

فلما قرأها إسماعيل اعتزل منصبه، وعاوده ابن المبارك بصلاته، فعلم الرشيد بذلك، فقال: لعل هذا المجنون كتب إليه أوقابله؛ أوكما قال.

قلت: رحم الله ابن المبارك، ما كان يريد من العلماء والمحدِّثين أن يتولوا الوظائف الحكومية التي تحد من نشاطهم وتفرغهم للعلم والدعوة، بل كان مراقباً لحركات العلماء وتصرفاتهم، فإذا رأى أحدَهم أراد التفرغ للعبادة أونوى اعتزال الغزو والجهاد، سواء كان بالمرابطة أوبنشر العلم باللسان والبنان أنبه على ذلك ونصحه، كما فعل بالفضَيْل بن عياض رحمه الله عندما آثر العبادة على المرابطة، والغزو، وتعليم العباد، لتعدي آثار هذه الأعمال على العبادة، كتب إليه هذه الأبيات.

قال ابن سُكينة: أملى عليَّ ابنُ المبارك سنةَ سبع وسبعين ومائة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طَرْطوس:

يا عابد الحرمين لو أبصـرتنا            لعلمـتَ أنك بالعبـادة تلعبُ

من كان يخضب جيده بدموعه            فنحورنـا بدمائنـا  تتخضب

أوكان يُتعب خيله في  باطـل            فخيولنا يـوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم و نحن عبيرنا            وهج السَّنابك والغبار الأطيب

و لقد أتانـا من مقـال نبينـا            قول  صحيح صادق لا يُكْذبُ

لا يستوي غبـارُ خيل الله في            أنف امرئ، ودخان نار تلهب

هذا كتـاب الله ينطـق بيننـا             ليس الشهيـد بميت لا يكذب

فلم يكابر الفضيل، ولم يستنكف من قبول نصيحته، وإقراره على ما قال، يقول ابن أبي سُكينة: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبوعبد الرحمن ونصح.

إي وربي، صدق أبو عبد الرحمن ونصح، ولم يجامل ويداهن.

كيف كان تصرفه مع إخوانه من الغزاة والعلماء والعباد في الحج والغزو؟

د. روى الذهبي رحمه الله أن ابن المبارك خرج من بغداد يريد المصيصة، فصحبه الصوفية، فقال لهم: أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم، يا غلام هات الطَّسْت؛ فألقى عليه منديلاً، ثم قال: يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه؛ فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين، فأنفق عليهم إلى المصيصة، ثم قال: هذه بلاد نفير، فنقسم ما بقي؛ فجعل يعطي الرجل عشرين ديناراً، فيقول: يا أبا عبد الرحمن إنما أعطيتُ عشرين درهماً؛ فيقول: وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته؟

ﻫ. وقال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل "مَرْو"، فيقولون: نصحبك؛ فيقول: هاتوا نفقاتكم؛ فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من "مَرْو" إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا؛ فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متابع مكة؟ فيقول: كذا وكذا؛ فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصلوا إلى "مَرْو"، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرُّوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل منهم صرته، عليها اسمه.

5.  المحدث الفقيه الإمام الحجة دعلج بن أحمد بن دعلج (259-353ﻫ)

ممن كانت لهم صدقات جارية على العلماء والمحدثين دعلج هذا.

قال الذهبي: قال الحاكم: دعلج الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره، له صدقات جارية على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان.

وقال الخطيب البغداد: كان دعلج من ذوي اليسار، له وقوف على أهل الحديث.

وحكى الخطيب كذلك: أن رجلاً صلى الجمعة، فرأى رجلاً متنسكاً لم يُصَلِّ، فكلمه، فقال: استر عليَّ لدعلج عليَّ خمسة آلاف، فلما رأيته أحدثتُ؛ فبلغ ذلك دعلجاً، فطلبه إلى منزله وحلله من المال، ووصله بمثلها لكونه روَّعه.

ثانياً: من الخلفاء والوزراء

من الخلفاء والحكام والأمراء والوزراء الذين كانوا يعنون بالعلم والعلماء ويقومون بكفالتهم ورعايتهم وتفقد أحوالهم، على سبيل المثال لا الحصر:

1.  الخليفة العباسي هارون الرشيد

قال عنه عبد الله بن المبارك: (ما رأيتُ عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات، في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة؛ وما ذلك إلا بكثرة إنفاقه واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه.

2.  الأمير المعز بن باديس

أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره عنده وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرتب.

3.  الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن

الذي أنشأ "بيت الطلبة"، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين عنده فزع منهم وخاطبهم قائلاً: يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم، وإليَّ فزعهم، وإلي ينسبون؛ وقد بالغ في عنايته بالطبيب أبي بكر بن زهر.

4.  صلاح الدين الأيوبي

كان من الحكام الراعين للعلم والعلماء من أهل السنة، المقربين لهم، لقد أزال هذا الحاكم الصالح والبطل الفالح كل آثار دولة الظلم والعدوان الدولة العبيدية في مصر، هذا بجانب تخليصه لبيت المقدس من الصليبيين.

5.  الوزير ابن هبيرة

كان من العلماء، ولهذا كان مقرباً ومكرماً لأهل العلم.

6.  الوزير نظام الملك السلجوقي

مؤسس المدرسة النظامية ببغداد وغيرها، المحتضن لكثير من أهل العلم في عصره، كالإمام الغزالي، وإمام الحرمين ابن الجويني، وغيرهما كثير، والذي عمل كذلك على القضاء على الدولة الرافضية - الدولة البويهية - كما فعل صلاح الدين رحمهما الله.

 

قلت: لا غرابة أن يهتم بعض الحكام برعاية العلم الشرعي وبكفالة العلماء وطلاب العلم، فهذا من أوجب واجباتهم، ومن أولى مسؤولياتهم، ومع ذلك يشكرون على قيامهم بواجبهم، ويثابون على ذلك ويحمدون، وتخلد مآثرهم وتذاع.

أما أن يقوم بعض الموسرين المحسنين بهذا الواجب الذي غفل عنه كثير من الحكام وأهملوه، فهذا ما يفرح النفس ويثلج الصدر، لأنهم بذلك يرفعون الحرج عن جميع الأمة، لأن الفروض الكفائية نحو نشر العلم وبثه، والأمر والنهي، وجهاد الطلب، إذا تركتها جميع الأمة أثمت، واستحقت غضب الله وسخطه.

فهنيئاً لكم أيها الموسرون المحسنون العاملون على نشر العلم وبثه، وعلى رعاية العلماء وطلاب العلم، وعلى طبع الكتب والرسائل، وبارك الله لكم في أموالكم وأولادكم وأهليكم، وتقبل منكم، وثقل بذلك موازينكم يوم تطيش الموازين، وأمنكم يوم الفزع الأكبر.

واعلموا أن عملكم هذا بفضل من الله ورحمة وتلطف، ولولا ذلك لما تمكنتم من هذا العمل الصالح، فاشكروا الله شكراً جزيلاً أن وفقكم للإنفاق في سبيل الخير، وأن جعلكم شركاء وقسماء للمجاهدين، والغزاة، والعلماء، والدعاة، وكان يمكن أن تكونوا شركاء وقسماء في الوزر للفنانين واللاعبين: "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون"

واحذروا تخويف وتهديد الكافرين والمنافقين والمخذلين، واعلموا والله أنهم لن يغنوا عنكم من الله شيئاً، واعلموا أنكم أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد: "هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".

أيها الأغنياء الفضلاء الأسخياء، أين أنتم ممن كان يفرح ويسر ويطرب ويتعجب باستقراض الرب لعباده وهو غني عنهم؟ وذلك عندما نزل قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون".

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، قال أبو الدَّحْداح: يا رسول الله، أوإن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: نعم، يا أبا الدحداح؛ قال: إني أريد يدك؛ فناوله، قال: فإني أقرضتُ الله حائطاً فيه ستمائة نخلة؛ ثم جاء يمشي حتى أتى على الحائط، وأم الدحداح فيه وعياله، فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضتُ ربي عز وجل حائطاً فيه ستمائة نخلة.

وفي رواية عن زيد بن أسلم لما نزل: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: نعم، يريد أن يدخلكم الجنة به؛ قال: فإني إن أقرضتُ ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: نعم؛ قال: فناولني يدك؛ فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة، والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إحداهما لله، والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك؛ قال: فاشهد يا رسول الله أني قد جعلتُ خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة؛ قال: إذن يجزيك الله به الجنة؛ فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل، فأنشأ يقول:

هداك ربي سبيـل الرشـاد             إلى سبيـل الخير و السـداد

بيني من الحـائط  بالـوداد             فقد مضى قرضاً إلى التنـاد

أقرضته الله على اعتمـادي            بالطوع لا مَنَّى  ولا ارتـداد

إلا رجاء الضعف في المعاد            فارتحلـي بالنفـس والأولاد

والبـر لا شك  فخيـر زاد             قـدمه المـرء إلى  المعـاد

قالت أم الدحداح: ربح بيعُك! بارك الله لك فيما اشتريت؛ ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:

بشرك الله بخيـر و فَـرَح           مثـلك أدى مـا لديه ونَصَـحْ

قد متع الله عيـالي ومنـحْ            بالعجوة السوداء والزَّهو البلحْ

والعبد يسعى وله مـا كدح            طول الليالي وعليه  ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تُخرِج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عَذِق رداح ودار فياح لأبي الدحداح".

والله لا يدري المرء أيكون عجبه أشد بسخاء أبي الدحداح أم بأريحية أم الدحداح؟ لله درهما ما أصدقهما وأنبلهما، أجزل الله مثوبتهما.

فسبحان من خلق الخلق فجعل منهم النبلاء الأسخياء، وجعل منهم الفسلاء، البخلاء، الرذلاء.

قال ابن العربي المالكي معلقاً على صنيع أبي وأم الدحداح الفريد، وعملهما المجيد، وسلوكهما الحميد، مقارنة بما قاله السفلة الرَّذلاء المغضوب عليهم في العالمين من اليهود والمنافقين، الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، المتواصين بالبخل والشح: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يعلمون"، والقائلين: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً:

(انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته، وقدرته ومشيئته، وقضائه وقدره، حين سمعوا هذه الآية أقساماً، وتفرقوا فرقاً ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير ونحن أغنياء؛ فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء"، الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل، وقدمت الرغبة في المال، فما أنفقت في سبيل الله، ولا فكت أسيراً، ولا أعانت أحداً، تكاسلاً عن طاعة الله، وركوناً إلى هذه الدار، الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله، وآثر المجيب منهم بسرعة بماله، كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره).

اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً، اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالهدى، اللهم إنانسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأسخياء، وخاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأصفياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم اللقاء

000000000000000000

يا رجال المرور انتبهوا واعملوا على تدارك حوادث المرور

مما يحمد لإدارة المرور أن وجودهم وانتشارهم على الشوارع وعند الإشارات الضوئية أصبح ظاهراً وملحوظاً، ومما يشكر لوزارة الداخلية كذلك أنها زودت إدارة المرور بالعديد من السيارات والأجهزة الحديثة التي تعينهم وتساعدهم في أداء واجباهم المهم الخطر، وهو المحافظة على الأرواح والممتلكات.

ولكن يلاحظ أن جهود رجال المرور في الميدان قاصر إلى حد كبير على مراقبة رخص السيارات والسائقين، وفرض العقوبات على غير المرخِّصين والمجدِّدين، وهذا أمر مهم ومطلوب ولابد منه، ويعتبر من قواعد السلامة التي تجب مراعاتها.

هنالك أسباب تمنع كثيراً من أصحاب السيارات، أوتعوق وتأخر تجديدهم لرخصهم المتعلقة بالسيارات خاصة، أهمها:

أولاً: ارتفاع رسوم التجديد، مما يجعل كثيراً من الناس يتهرب، ويفضل الغرامة وإن تكررت على دفع مئات الآلاف في ساعة واحدة، وقد لا تكون الرسوم متيسرة لقطاع كبير منهم، وهذا الارتفاع شامل لجميع السيارات الخاصة والتجارية، على الرغم من تفاوت رسوم التجديد بين السيارات الخاصة والتجارية.

ثانياً: الترخيص في السودان لمدة عام واحد، وفي جل البلاد فإن الترخيص يكون لمدة ثلاث سنوات، والعام الواحد ينقضي كلمح البصر، خاصة وقد غشانا من تقارب الزمان ونزع البركة من الأوقات وغيرها ما لم يغش غيرنا، فكثير من أصحاب السيارات لا يشعرون بانقضاء العام إلا بعد حين، وبعد أن يوقفوا ويغرموا.

فهذان السببان وغيرهما عائق كبير في تهرب وتباطؤ قطاع من الناس في المسارعة بتجديد الترخيص.

هذا بجانب الزحام الذي يحدثه التجديد السنوي للرخص في مكاتب قسم تجديد الرخص، فقد سمعت أن أكثر من خمسين ألف ترخيص تتم يومياً في ولاية الخرطوم فقط، وهذا جهد كبير ضائع يمكن أن يوفر ويستفاد من رجال المرور في مهام أخر أكثر أهمية فيها قصور كبير وإهمال واضح.

مع تزايد عدد سكان العاصمة بسبب الهجرة العشوائية غير المدروسة من الأقاليم إلى العاصمة، حيث يقدر سكان المدن الثلاثة والضواحي بثمانية إلى عشرة ملايين نسمة، وتزايد عدد السيارات بأنواعها المختلفة التي تضخها الشحنات يومياً إلى العاصمة، ونسبة لضيق الطرق وعدم التزام كثير من سائقي السيارات ومن المواطنين بقواعد وإرشادات رجال المرور، ونسبة لعدم إضاءة جل الشوارع، وإن كان هناك بوادر وشروع في إضاءة الشوارع الرئيسية، لكل هذه الأسباب وغيرها فقد زادت الحوادث المرورية كماً وفداحة، مما يستوجب البحث والتفتيش عن أسباب هذه الحوادث، والاجتهاد في تدارك هذه الأسباب قبل وقوع الحوادث، لأن الوقاية خير من العلاج، علماً بأن الحذر لا يغني من القدر، ولكن أخذ أسباب الحيطة والعمل على تدارك والتقليل من الخسائر في الأنفس والأموال مطلب شرعي، فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله.

من المخاطر العظيمة والأخطاء الجسيمة التي يمكن تداركها بمجهود قليل من رجال المرور، وبفرض عقوبة صارمة وحازمة على كل من يتجاوزها من غير استثناء أومحاباة، التي أعتقد أنها سبب في جل هذه الحوادث المرورية المفجعة، التي راح ضحيتها كثير من الأنفس الزكية، بعد تقدير الله عز وجل، ولم يشعر المواطن بمجهود مبذول لتداركها من رجال المرور، داخل العاصمة أوفي طرق المرور السريع، سيما طريق مدني الخرطوم، الذي يمثل عنق الزجاجة للطرق التي تلتقي به، وحديثي عن طريق مدني حديث من يسير فيه في الأسبوع الواحد مرة أومرتين تقريباً.

والمخاطر هي:

1. وقوف الشاحنات و"اللواري" المتعطلة في الشوارع الرئيسية، بل في طرق المرور السريع ولعدة أيام في بعض الحالات.

وهذا خطر داهم وسبب واضح لأسوأ الحوادث المرورية، وأنا لا أدري تبرير رجال المرور لهذا الوقوف مع ما فيه من المخاطر وزحم الطريق، وقد سمعت من البعض أن الشاحنة إذا حاولت النزول من الشارع ربما طاحت وانقلبت، وهذا عذر أقبح من الذنب.

فينبغي على إدارة المرور أن تسن قانوناً صارماً يمنع هذا الوقوف في قلب شارع من الشوارع الرئيسية، خاصة طرق المرور السريع، وإنزال العقوبة الصارمة مالية كانت أم تعزيرية بسحب الرخصة إلى حين، أوما يناسب هذا الجرم الكبير، ويطلب من رجال المرور السيار مراقبة هذا الأمر بحزم، وينبغي على الضباط أن يراقبوا تنفيذ رجالهم لذلك.

2.  سير بعض الشاحنات الطويلة وبعض "اللواري" ليلاً من غير أنوار خلفية، ولا لوحات عاكسة ضوئية، سيما في طرق المرور السريع، وعلى الأخص في طريق مدني الخرطوم، وهذا من الأسباب الرئيسية لوقوع بعض الحوادث وحدوث مضايقات لمن خلفهم.

فعلى رجال المرور تنفيذ العقوبات ورفعها على من يسير ليلاً من غير أنوار خلفية، وإيقافه في الحال، وعدم السماح له بالتحرك ليلاً حتى ولو دفع الغرامة.

3.  إلزام الشاحنات الطويلة وغيرها بالسير في المسار اليمين، والتي تليها في الحجم والسرعة في المسار الوسط، ويكون المسار اليسار للسيارات الصغيرة والسريعة.

وهذه من القواعد المرورية الملتزم بها في كثير من البلاد، وقد لاحظت في عدة مرات سير الشاحنات، و"الرقشات"، والسيارات البطيئة، بل و"الكارو" في أحيان في أقصى اليسار.

فلابد من إرشاد السائقين لذلك، وإنزال العقوبات المالية على المخالفين، حتى يمكن تجنب المشاكل الناتجة عن التخطي.

4.   وقوف الحافلات المفاجئ في الشوارع الرئيسية، وتجمعها عند التقاء الطرق بكميات كبيرة للتحميل والإنزال، وفي ذلك إعاقة للسير وتأخير لمن خلفهم، ولم أر رجال المرور يمنعون من ذلك إلا نادراً، بل يجب أن يعاقب السائق الذي يتصرف هذا التصرف.

5.   لابد من عمل إشارات ضوئية خاصة في الطرق ذات الاتجاهين، كطريق عبيد ختم، وطريق الستين، وإن كانا يعتبران من طرق المرور السريع، ولكن لعدم وجود جسور للسيارات التي تريد العبور يحتم عمل إشارات ضوئية، وإلا ينتج عن ذلك كثرة الحوادث المرورية كما هو مشاهد الآن.

6.   سوء استعمال الأنوار العالية من أقوى أسباب وقوع الحوادث المرورية سيما في طريق مدني الخرطوم، وبعض السائقين يخيل إليك كأنه يتعمد ذلك، وما يدري ما يحدث الضوء العالي من أضرار، خاصة من السيارات الكورية ذات اللمبات المشعة.

على إدارة المرور أن تلزم أصحاب هذه السيارات باستبدال هذه "اللمض" وهذا حق مشروع، فلا ضرر ولا ضرار، وإنزال عقوبة صارمة على من يسيء استعمال الضوء العالي، ولا يمكن معالجة هذا الأمر إلا بمراقبة الطرق ليلاً، وهو أمر وإن كان موجوداً فإن السائر ليلاً لا يشعر بوجوده.

7.  السرعة الجنونية، لا شك أن السرعة الزائدة عن الحد سبب رئيس في وقوع الحوادث، وفي عدم تجنبها أوالتقليل من أضرارها، فلو استطاعت إدارة المرور مراقبة الطرق السريعة خاصة بأجهزة "الرادار"، وإنزال العقوبات الصارمة على من يتعدى السرعة المحددة له، يمكن أن يحد من ذلك.

8.  التشدد في الفحص الدوري، والتأكد من صلاحية السيارة أوالشاحنة للسير، والتأكد من وجود وسائل السلامة فيها، ومراقبة ذلك، لأن البعض قد يستلف هذه الوسائل عند الفحص، فالمراقبة المستمرة والتفتيش المفاجئ لهذه الوسائل يجعل السائقين أكثر حرصاً على امتلاكها.

9.  مراقبة ومتابعة والمنع من الشُّحَن العالية "التكويشات"، سيما الفحم، والقصب، والعلف، لأن ذلك يتسبب في تعطيل الشاحنات ويؤدي إلى الوقوف الخاطئ، وقد يعرض السيارات الأخرى لحوادث.

10.  مراقبة طرق المرور السريع ليلاً خاصة في آخر الأسبوع، وفي المناسبات والأعياد، كما حدث في عيد الأضحى الماضي نهاراً فقط في طريق مدني الخرطوم، وهي سنة حسنة يشكر عليها رجال المرور، وكان ذلك سبباً بعد لطف الله في عدم وقوع حوادث مرورية في العيد.

وقبل الختام أقول: ما دفعني لكتابة ذلك إلا النصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، فالدين النصيحة، وكذلك من باب الذكرى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

كما أرجو من إخواننا المسؤولين في إدارة المرور وغيرهم أن لا يستنكفوا من قبول النصيحة، وأن يولوها اهتمامهم لأهميتها، وحاجة جميع الخلق إليها، ولهذا فقد دعا عمر لمن أسدى إليه نصحاً فقال: "رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي"، فاعتبر النصيحة هدية، وهي فعلاً هدية قيمة.

وأخيراً لا يفوتني أن أتقدم بوافر الشكر لرجال المرور ولغيرهم لما يقومون به نحو إخوانهم المسلمين، ونطلب منهم المزيد، ونقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي أهليكم، وفي إخوانكم المسلمين، فلا تظلموا أحداً، ولا تأخذوا مال أحد بغير حق، واحذروا الرشوة والمحسوبية، والتهرب من أداء الواجب، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي، والمرتشي، والرائش، واعلموا أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، والله الموفق للخيرات، الغافر للزلات

--------------------

ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟

أيها المجاهدون كم خلودكم في الدنيا؟

أيها المجاهدون في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، ولإعزاز دين الله، في كل زمان ومكان، وفي كل صقع من ديار الإسلام، اصبروا، وصابروا، واثبتوا، واحتسبوا، ولا يهيلنكم كيد الأعداء، ولا مكر الأقرباء، ولا خذلان الجبناء، ولا عمالة العملاء، ولا تسلط المرتزقة الأذلاء، ولا تحليلات الوراقين والإعلاميين المنافقين السفهاء، فأنتم موصولون بالله، تستمدون النصر منه، فأنتم الأعلون دوماً وأبداً، فلا تهنوا ولا تحزنوا.

وليكن لكم في سلفكم الصالح، وخلفكم الفالح الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، فأنتم لستم بدعاً منهم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل".

أيها المجاهدون إن كنتم تألمون فإن أعداءكم يألمون كما تألمون، وأكثر مما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، وما هي والله إلا إحدى الحسنيين، وما بينكم وبين الجنة إن شاء الله إلا القتل.

تذكروا رد إخوانكم السحرة لما آمنوا على الطاغية فرعون، ونصيحتهم لإخوانهم المبتلين في كل وقت وحين: "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضٍ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى. إنه من يأت ربه مجرماً فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى".

فهذه نصيحة واعية، وهدية غالية، وهمة عالية، وكلمات سامية، خرجت من قلوب ملؤها الإيمان، وغايتها أعلى الجنات ورضى ربها الرحمن.

من النصائح العظيمة، والوصايا الكريمة كذلك، ما وصت به الصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ابنها عبد الله لما استنصحها: (الله الله يا بني، إن كنتَ تعلم أنك على الحق تدعو إليه فامضٍ عليه، ولا تمكِّن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردتَ الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكتَ نفسك ومن معك، وإن قلتَ: "إني كنتُ على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي"؛ فليس هذا من فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل؛ فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني؛ قالت: يا بني، إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله).

كذلك من أقيم الهدايا وأجلها التي يمكن أن تقدم للمجاهدين الأبطـال الأحرار، ما قـاله ذلكم الأعـرابي جابر بن عامر، مثبتاً لإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله، في محنته التي وقف فيها مواقف الأنبياء، وأرضى فيها رب الأرض والسماء.

قال أحمد يصف محنته: (صرنا إلى الرَّحْبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا؛ فقال للجمَّال: على رسلك؛ ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة؟! ثم قال: أستودعك الله؛ فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له جابر بن عامر، يُذكر بخير.

وفي رواية قال أحمد: ما سمعتُ كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيداً، وإن عشتَ عشتَ حميداً؛ فقوى قلبي.

وفي رواية لابن كثير: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل).

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن لا تجعل للكافرين والمنافقين على المجاهدين والمؤمنين سبيلاً.

اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس.

اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد.

اللهم هيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.

اللهم لِمَن تترك عبادك المجاهدين المستذلين المطاردين؟ إلى عدو خبيث ملكته أمرهم، أم إلى قريب عميل خائن غادر خسيس يتجشمهم، اللهم إن لم يكن بك غضب عليهم فلا يبالوا، ولكن رحمتك يرجون، وعافيتك يطلبون، فلك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.

000000000000000000

التحقيق في موضع رأس الشهيد الحسين بن علي  رضي الله عنهما

اختلف الناس في الموضع الذي دفن به رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما اختلافاً كثيراً، فبين قائل إنه لا يُعرف، وبين متخبط غير متثبت، وبين متثبت متحقق، وملخص هذه الأقوال على ما يأتي:

1.   أن موضع الرأس لم يُعرف، وهذا كذب كما قال العلماء المحققون.

2.   أنه بمشهد بعسقلان، وهذا كذب أيضاً.

3.   أنه نقل إلى القاهرة، وهذا كذب أيضاً.

4.   أنه دفن بالبقيع بالمدينة، عند قبر أمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، وهذا هو الحق، أما جسده الطاهر فمدفون بكربلاء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يعدِّد المشاهد المكذوبة: (وكذلك مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرف، وأهل المعرفة بالنقل يعلمون أن هذا أيضاً كذب، وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذلك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة، في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة، بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بني بعد بناء القاهرة بنحو مائتي عام.

وقال كذلك: وأما المكذوب قطعاً فكثير، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس، ودفن بالبقيع، ويقال إن قبة العباس بها قبره، وقبر الحسن، وعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد، وفيها أيضاً رأس الحسين، وأما بدنه فهو بكربلاء باتفاق الناس، والذي صح ما ذكره البخاري في صحيحه من أن رأسه حُمِل إلى عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد على ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد روي بإسناد منقطع أومجهول أنه حُمل إلى يزيد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضراً، وأنكر ذلك، وهذا كذب، فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق).

خرَّج البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: "أتي عبيد الله بن زيـاد برأس الحسين بن علي فجُعل في طَسْتٍ، فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر، ومات يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذَّل غالب الناس عنه، فتأخروا رغبة ورهبة، وقتِل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له على الناس، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته).

وقال المناوي في فيض القدير: (لما مات معاوية أتته أي الحسين كتب أهل العراق إلى المدينة أنهم بايعوه بعد موته أي معاوية فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فبايعوه، وأرسل إليهم فتوجه إليهم فخذلوه وقتلوه بها يوم الجمعة عاشر محرم سنة إحدى وستين.

إلى أن قال:

وطيف برأسه في البلدان إلى أن انتهت إلى عسقلان فدفنها أميره بها، فلما غلب الفرنج على عسقلان استفداها منهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمال جزيل، وبنى عليها المشهد بالقاهرة كما أشار إليه القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح، ونقله عنه الحافظ ابن حجر، وأقره ولكن نازع فيه بعضهم بأن الحافظ أباالعلاء الهمداني ذكر أن يزيد بن معاوية أرسلها إلى المدينة، فكفنها عامله بها عمرو بن سعيد بن العاص ودفنها بالبقيع عند قبر أمه، وهذا أصح ما قيل.

وقال الزبير بن بكار: حُمل الرأس إلى المدينة فدفن بها، وقال القرطبي: والزبير أعلم بالنسب وأفضل العلماء بهذا السبب، والإمامية يقولون: الرأس أعيد إلى الحبشة ودفن بكربلاء بعد أربعين يوماً من القتل.

قال القرطبي: وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك أوبالقاهرة فباطل لم يصح ولا يثبت.

إلى أن قال: وتفصيل قصة قتله تمزق الأكباد وتذيب الأجساد).

قلت: لقد أراد الله لهذا الإمام الشهادة ورفع الدرجة، وإلا فقد نهاه عن الخروج إلى العراق وحذره من خذلان الرافضة ابن عباس، وابن عمر، ومحمد بن الحنفية، وذكروه بخذلان الرافضة لأبيه وأخيه، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً، فإن الذين شهروا السلاح في وجهه وقتلوه ومن معه من آل بيته هم نفس الرافضة الذين كتبوا إليه مبايعين وواعدين بنصره.

فيا أسفاً على المصائب مرة - كما قال العلامة ابن العربي المالكي ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرة، وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ودمه يُراق على البوغاء ولا يحقن، يا لله ويا للمسلمين.

لقد ابتلي الرافضة ومن قلدهم بعبادة القبور المكذوبة، والمشاهد المدسوسة، على الرغم من الوعيد الوارد في ذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقوله: "اشتد غضب على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وغيرهما، فبجانب مشهد رأس الحسن المكذوب، فهم يعبدون قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ظناً منهم أنه قبر أمير المؤمنين علي، ولو علموا أنه قبر المغيرة لرجموه بالحجارة.

قال شيخ الإسلام معدداً القبور والمشاهد المكذوبة: (وكذلك قبر علي رضي الله عنه الذي بباطن النجف بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفاً عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم).

مما دفع الإمام الشعبي رحمه الله أن يصفهم: "بانهم لو كانوا حيوانات لكانوا حميراً، ولو كانوا طيوراً لكانوا بوماً"، أو كما قال.

0000000000000000000

أيها المنافقون احذروا

من يطالع وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة في هذه الأيام يرى، ويسمع، ويشاهد فيها من الجرأة على الدين، والتطاول على أئمته القدماء والمحدثين، والدفاع عن الزنادقة والملحدين، الهالكين منهم والعائشين، العجب العجاب، والقول المعاب، والكفر الصراح، من غير ارتياب، صادر من سفهاء الأدباء والوراقين، وأئمة الكفر والمنافقين.

فمن منادٍ بإباحة الردة وإنكار حدها، ومن منادٍ بمساواة المنسوخ المنحرف من الأديان بشريعة ما بُعث به ولد عدنان، ومنهم من يدافع عمن قتِل مرتداً عن الإسلام، كالحلاج، ومحمود محمد طه، وغيرهما من زنادقة الباطنية، ومنهم من يتنقص شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام، بل لقد تطاول بعضهم حتى نال من ابن حنبل وأضرابه الكرام، ومدح أئمة الضلال من المعتزلة وغيرهم أولئك الأقزام، ومنهم من يمجد القرامطة، والإسماعيلية، والعبيديين، لما سفكوه من دماء المسلمين، وبسبب حقدهم الدفين، فالكفر ملة واحدة، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.

ليس لهؤلاء الزعانف، والخافيش، والعملاء المداسيس، الذين جيء بهم من كل صوب وحدب، وأرسلوا من كل قطر وبلد، ليقوموا بالواجب، وليؤدوا ثمن ما قدِّم لهم، لعلم الكفار أن ما يقوم به العملاء والمنافقون في هدم الدين وتغيير المفاهيم لا يستطيع القيام به لا المغضوب عليهم ولا الضالون، مثلاً إلا ما قاله طرفة بن العبد:

يـا لك من قبــرة بمعمـر             خلا لك الجو فبيضي واصفري

قد رُفِعَ الفـخُّ فماذا تحذري ؟            ونقـري مـا شئتِ أن تنقـري

قد ذهب الصياد عنك فابشري            لابـد من أخذك يوماً فاحـذري

وسبب ذلك أن طرفة وكان صبياً لم يتعدَّ السابعة خرج مع عمه في سفرة، فنزلوا ماءً، فنصب طرفة فخاً له للقنابر، وجلس عامة يومه منتظراً، فلم يصد شيئاً، فلما أخذ فخه وذهب جاءت القنابر يلقطن الحب، فقال ذلك.

وذلك لخلو الجو للمنافقين الأشرار، والتضييق، والحبس، والمنع، والحجر على طائفة من العلماء الأخيار الأطهار، بسبب خوف الحكام من الكفار، وحرصهم على ملكهم المستعار، بعد أن أعلن الاتحاد اليهودي الكنسي حربه الصليبية على الإسلام والمسلمين.

ولكنا نقول لهؤلاء ولأسيادهم من قبل احذروا، وأبشروا بحرب الله ورسوله، فإن الله يمهل ولا يهمل، فقد وعد الله بنصر أوليائه، وبخذلان أعدائه، وبأن العاقبة للمتقين، وأن الأيام دول، والحرب سجال، ونقول لحكامنا ما قاله عبد المطلب عندما عدم المعين لمقاومة أبرهة وجنده من الصليبيين: إن للدين رباً يحميه.

0000000000000000000000

المستشار مُؤْتمن

من حقوق المسلم الكفائية على أخيه المسلم إذا نصحه أن يجتهد في النصح له، وإذا استشاره في أمر أن لا يألو جهداً في ذلك، وأن يشير عليه بما يعتقد صحته وصوابه، ولا يكتمه شيئاً.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حق المسلم على المسلم ست، إذا لقيته فسلم، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".

وقال صلى الله عليه وسلم حاثاً وحاضاً على الاستشارة: "لا خاب من استخار ولا ندم من استشار"، أي استخار ربه واستشار أهل الدين والخُلُق من خلقه.

وعلى المرء المسلم أن لا يغتر برأيه، ولا يعتد بعقله، ولا يستبد بتفكيره، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "الرأي الواحد كالخيط الواحد، يكاد ينقطع، والرأيان كالخيطين، والثلاثة كالثلاثة"، فقد شاور سيد الخلق المؤيد بالوحي، وشاور الشيخان أبو بكر وعمر في غير ما أمر واحد.

وعليه كذلك أن يتخير ويصطفي من يستشيرهم، فالاستشارة هي المناصحة، والمناصحة لا يصلح لها إلا من توفرت فيه هذه الشروط:

1.    الدين.

2.    الرأي السديد.

3.    العقل الكبير.

4.    المحبة والرفق.

5.    الأمانة.

6.    والتجرد.

فلا ينبغي للمرء أن يستشير كل أحد، ولا يبوح بسره لكل من لاقاه.

ولهذا جاء في الحديث: "المستشار مؤتمن"، عن أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم بطرق مختلفة، رمز السيوطي في الجامع الصغير إلى أحدها بالصحة، وإلى الثاني بالحسن، وإلى الثالث بالضعف، وفي رواية: "المستاشر مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه".

قال المناوي معلقاً على هذا الحديث: (أي أمين على ما استشير فيه، فمن أفضى إلى أخيه بسره، وأمنه على نفسه، فقد جعله بمحلها، فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صواباً، فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة، والسر قد يكون في إذاعته تلف النفس، أولى بان لا يجعل إلا عند موثوق به، وفيه حث على ما يحصل به معظم الدين، وهو النصح لله ورسوله وعامة المسلمين، وبه يحصل التحابب والائتلاف، وبضده يكون التباغض والاختلاف).

ثم نقل عن أحد المشايخ في صفة المستشار ما يأتي:

فلذلك قالوا: يحتاج المشير والناصح إلى علم، وعقل، وفكر صحيح، ورؤية حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة، وتأن، فإن لم تجتمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته، فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة.

قلت: على المستشار إن لم يأنس في نفسه الكفاءة، أوخشي أن يخدع المستشير، أوكان جاهلاً بما استشير فيه، أن يعتذر عن ذلك، ويوجه الشخص إلى غيره، فهو ليس ملزماً أن يشير في كل الأحوال، فقد جاء في إحدى روايات الحديث السابق: "المستشار مؤتمن إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر".

وكما أن المستشار لابد أن يكون أميناً حفيظاً، كذلك لابد أن يكون عالماً متخصصاً، أودارياً مجرباً.

(يحتاج الناصح والمشير إلى علم كبير كثير، فإنه يحتاج أولاً إلى علم الشريعة، وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس، وعلم الزمان، وعلم المكان، وعلم الترجيح، إذا تقابلت هذه الأمور، فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال، فيشير بأهمها، وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة، وإنه إذا أرشده إلى شيء فعل ضده، يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها).

آثار في فضل المشورة ومن يشاور

ذكر ابن عبد البر رحمه الله عدداً من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في فضل المشورة، ومن يشاور، وهي:

"ما تشاور قوم إلا هداهم الله لأرشد أمورهم".

"لن يهلك قوم عن مشورة".

"من نزل به أمر فشاور فيه من هو دونه تواضعاً منه عُزِم له على الرشد".

"الحزم في مشاورة ذوي الرأي وطاعتهم".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل".

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "رأى الشيخ خير من مشهد الغلام".

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش مرتين، فإن أصبت كان الحظ لي دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة".

وقال الحسن البصري: "إن الله لم يأمر نبيه بمشاورة أصحابه حاجة منه إلى رأيهم، ولكنه أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة".

وسئل الحسن البصري عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، فقال: "أراد لا تستشيروا المشركين في أموركم ولا تأخذوا برأيهم".

وقيل: المشاورة حصن من الندامة، وأمن وسلامة.

الاستشارة من المواطن التي أبيحت فيها الغيبة، فإذا استشارتك امرأة مثلاً أورجل في خطبة فعليك أن تخبره بما تعلمه عن الخطاب، فعندما استشارت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي الجهم ومعاوية وقد خطباها، بيَّن لها الصادق الأمين ما في كل منهما من العيوب، فقال لها: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن كاهله، ولكن انكحي أسامة بن زيد"، تقول: فتزوجته واغتبطت به.

فعلى المستشير أن لا يسفه ما أشير به عليه.

فعليك أخي الكريم أن لا تتحرج في ذلك، ولا تتردد أن تقول كل ما تعرفه عمن سئلت عنهم، واستشرت فيهم، وعليك كذلك أن لا تداهن المستشير وتجامله، وعليك تبيين الحق له، وأن ترده إلى صوابه ورشده.

قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله لبعض ولده: "ولا تشر على مستبد، ولا على عدو، ولا على متلون، ولا على لجوج، ولا تكونن أول مستشار، ولا أول مشير، وإياك والرأي الفطير، وخف الله في المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منك خيانة".

ما يتعين على المستشار

يتعين على المستشار الآتي:

1.    الاجتهاد في النصح.

2.    أن لا يكتمه شيئاً.

3.    أن لا يبوح بسره للآخرين.

ويتعين ذلك على كل مسلم استشير في أمر من الأمور الخاصة أوالعامة، سيما على:

1.    وزراء ومستشاري ولاة الأمر.

2.    بيوت الخبرة، ومكاتب دراسات الجدوى والاستشارات.

3.    مجالس الإدارات.

تجرد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه

من النماذج النادرة، والصور الفريدة في المشاورة والتجرد فيها ما فعله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وذلك عندما تقدم الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم إلى المسيِّب بن نجية، كل يريد خطبة ابنته، فقال لهم: مكانكم حتى أعود؛ فأتى علياً، فقال: أتيتُ أمير المؤمنين لأشاوره، فقال علي: أما الحسين فمطلاق، ولا تخطئ النساء عنده، وأما الحسن فمعلق، زوِّج ابن جعفر؛ فزوجه فلامه الحسنان، فقال: أشار عليَّ أمير المؤمنين؛ فأتياه، فقالا: وضعت منا! قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المستشار مؤتمن".

00000000000000000000

أخي الشاب  احذر الاشتغال بتصنيف الخلق

المسلمون صنفان لا ثالث لهما: أهل السنة، وأهل القبلة

من العادات السيئة، والصفات الرذيلة المذمومة التي درج عليها بعض الشباب في الآونة الأخيرة وابتلوا بها الاشتغال بتصنيف العلماء، والدعاة، وطلاب العلم، والبحث والتنقيب عن تصوراتهم، واتجاهاتهم، وانتماءاتهم، ثم بعد ذلك تحديد المواقف منهم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم، وتجريحهم، بل وتشريحهم، ثم نشر ذلك على الملأ بغرض التشهير، وإشانة السمعة، والتحذير منهم.

ومما يحزُّ في النفس أن القائمين بذلك مجموعة من الشباب المنتسبين إلى السنة والسلفية، وعلى من؟ على مجموعة من إخوانهم المنتسبين كذلك إلى السنة والسلفية، على من هم أكبر منهم سناً، وأكثر منهم علماً وورعاً، من العلماء، والمشايخ، والدعاة الفضلاء، غير مكتفين بما يلاقي هؤلاء من أعداء الملة والدين، مما يجعل ظلم هؤلاء على إخوانهم أشد مرارة من وقع الحسام المهند.

وبادئ ذي بدء يجب أن أؤكد على أمور، منها:

1. ليس هناك أحد معصوم سوى الرسل والأنبياء، والنصيحة مطلوبة ومرغوب فيها إذا التزم الناصح بالآداب الشرعية، وتخلق بالأخلاق الإسلامية، واتبع الطرق السوية.

2. أن المسلمين عند أهل السنة مصنفون إلى قسمين كبيرين لا ثالث لهما:

أ. أهل السنة: ويشمل هذا الصنف كل من اعتصم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة، وكان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، والتصور، والعبادة، والسلوك، وقد سئل مالك عن أهل السنة، فقال: كل من سوى الخوارج، والقدرية، والرافضة؛ أوكما قال.

قال الشاطبي: (وقال رجل لأبي بكر بن عيَّاش: يا أبا بكر، من السُّني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها).

ب. وأهل القبلة: وهم من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وهو اسم شامل لمن عدى أهل السنة من أهل الأهواء، كالخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمرجئة، والقدرية، وغيرهم، ومن ثم فينبغي للسني أن تكون موالاته لأهل السنة أكبر من موالاته لغيرهم، لأنهم نقاوة المسلمين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

3. أن الإسلام نهى عن الخصومات والنزاعات في الدين.

4. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وعدم اشتغاله بما لا مصلحة له فيه.

5. لا يعني الانتساب إلى أهل السنة انتفاء الفوارق بينهم أوتحريم الانضواء إلى جماعة معينة أو حلف من باب التعاون على البر والتقوى، طالما أنهم ملتزمون بما كان عليه السلف الصالح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعي إليه في الإسلام لأجبتُ".

وبعد..

ليت هذا التصنيف قائم على أسس بينة، وقواعد واضحة، بل في كثير من الأحيان يحكمه الهوى، وتمليه النظرة الحزبية الضيقة: "من ليس معنا فهو ضدنا"، ولا أدل على ذلك من تلك التصنيفات التي ابتدعوها وصدقوها، نحو تكفيري، سَرُوري، قطبي، وغيرها، التي لا تقل خطراً وضرراً من تصنيف الناس إلى وهابي، أوخامسي، وغيرهما، إذ الهدف من إطلاق هذه المصطلحات التحذير من أهلها، وازدراء من ينتسبون إليها، وإشانة سمعتهم، بحجة أن جميع هذه المسميات حادثة ومخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، بينما إذا دققت النظر تجد أن جلَّ من يُنسبون إلى هذه الأسماء ويلقبون بهذه الألقاب على منهج أهل السنة والجماعة في الجملة، مع تفاوت بينهم يمكن أن يتدارك، ونقص يمكن أن يتمم، هذا كله إذا افترضنا سلامة العقيدة والتصور، التي هي الأساس والمعيار، وما سواها تبع لها، نحو الوسائل والمناهج وطرق العمل، حيث يمكن للناس أن يأخذوا ويردوا فيها، ويقبلوا ويرفضوا منها، فمصطلح أهل السنة شمل جميع أتباع المذاهب السنية الأربعة وغيرهم مع اختلافات طفيفة بينهم، فهناك مدرسة فقهاء الحديث، والمدرسة التي غلب عليها القياس، وهناك أهل الظاهر الذين خالفوا أهل السنة في مصدر من مصادر التشريع وهو القياس حيث لم يعتدوا به، فما كان من أهل العلم إلا أن خطؤوهم في ذلك وبكتوا عليهم، ولكنهم لم يخرجوهم من جملة أهل السنة، إذ لا يمكن أن يخرج من أهل السنة أمثال داود بن علي الظاهري، ومحمد بن حزم، وهما هما.

كذلك من أئمة أهل السنة المقتدى بهم والمستفاد من علمهم ومصنفاتهم طائفة من جلة أهل العلم، منهم على سبيل المثال لا الحصر الإمام النووي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وابن العربي المالكي، وابن الباقلاني، على الرغم من أشعريتهم واقترافهم للتأويل غير المحمود، فهم محسوبون على السنة، ومنسوبون إليها، مع اجتناب ما خالفوا فيه أهل السنة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معدداً جهود الأشاعرة في كسر شوكة المعتزلة والجهمية، وذاكراً لبعض أعلامهم، كابن مجاهد، والباقلاني، والقلانسي، والأشعري: (وصار هؤلاء يردُّون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب، والقلانسي، والأشعري، وغيرهم من مثبتة الصفات، فيبينون فساد قولهم بأن القرآن مخلوق وغير ذلك، وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة الجهمية ما فيه ظهور شعار السنة، وهو القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، وإثبات الصفات والقدر، وغير ذلك من أصول أهل السنة).

وإذا كان الشيخ محمد رشيد رضا سامحه الله على الرغم من تتلمذه على محمد عبده وتأثره به، وعلى الرغم من تضييقه لدائرة الغيبيات، وعقلانيته المفرطة، وتأثره ببعض الأفكار المغايرة لمذهب أهل السنة، كعقائد بعض المرجئة والمعتزلة التي سرت منه إلى بعض أهل السنة المعاصرين، يُعتبر من أهل السنة ومن السلفيين، الذين كانت لهم مجاهدات، وانتصارات لمذهب أهل السنة والجماعة لا ينكرها إلا جاحد.

مما لا شك فيه أن كثيراً من الذين يصنفهم بعض الشباب تصنيفات جائرة، ويرمونهم بشيء من البدع، وهم بريئون من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه أمثال الأئمة الذين سلف ذكرهم، وإنما اجتهدوا في أمور خالفوا فيها بعض أهل العلم، وربما كان الحق معهم أومع غيرهم، فكل مجتهد إن كان من أهل الاجتهاد فهو مأجور، إما أجراً واحداً وإما أجرين، خاصة واجتهادهم ليس في المسائل العقدية وإنما في مسائل الفروع، وقد اختلف من هم خير منهم وتناظروا، وأدلى كل منهم بحجته، واحتفظ برأيه ووده لصاحبه، كما هو حال الإمام أحمد مع الشافعي في تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، ومع ذلك كان أحمد يقول: الشافعي حبيب قلبي؛ وكان الشافعي من جملة من يدعو لهم أحمد في السحر مع والديه، ويقابل الشافعي هذا الفضل بالعرفان بالجميل، فيثني على أحمد ويقول: خرجتُ من بغداد ولم أخلف بها أورع ولا أعلم ولا أزهد من أحمد بن حنبل؛ رحمهما الله، والأمثلة على ذلك من سير علماء السلف وتراجمهم لا تحصى كثرة، وفي تحملهم لخلاف بعضهم لبعض، ولرجوعهم إلى الحق، ولاعتذارهم عن إخوانهم من أهل العلم والفضل.

فلا ينبغي لأحد أن يُحَجِّر واسعاً، ولا يحل لأحد أن يحتكر مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يضيِّقه ليدخل فيه من شاء ويخرج منه من شاء، فتضليل مستوري الحال من عامة المسلمين دعك من أهل العلم العاملين من سمات أهل البدع والأهواء، وكذلك الهجر والتشهير بهم.

فعلى هؤلاء الشباب أن يشتغلوا بتزكية نفوسم، وترقية عباداتهم، وتهذيب أخلاقهم، وتحصيل ما فيه فائدة من العلوم الشرعية وغيرها، ومحاسبة أنفسهم، بدلاً من هذا التطاول على الآخرين، وتجسيد أخطائهم، ونشر زلاتهم، وبثها بين العالمين، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وشغلته عيوبه عن عيوب الآخرين، وأن يتسلحوا بالعلم، ويتدثروا بالورع، فهذا خير لهم من الجسارة والجرأة على عباد الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وصلى الله وسلم وبارك على الناصح الأمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.

000000000000000

مفاهيم ينبغي أن تصحَّح هذا متشدد؟

هذا متشدد؟

بين التشدد - الغلو، والالتزام، والتفلت

الغلو والتشدد

النهي عن الغلو والتشدد في الدين

نماذج للغلو في الاعتقادات

نماذج للغلو في الأعمال

تشديدات ابن عمر رضي الله عنهما

التوسط والاعتدال

المتفلت

أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين.

هناك مفاهيم مغلوطة، وأحكام معكوسة، وتصنيفات ممقوتة، يطلقها بعض الناس على بعض العلماء، وطلاب العلم، والدعاة، لا يدركون خطورتها، ولا يعرفون ضررها، ولا يشعرون بمغبة حكايتها وترديدها وإشاعتها بين العامة، ولا ببشاعة نتائجها.

منهم من يفعل ذلك بقصد ولإحن، ومنهم من يطلق تلك الأحكام لقلة علمه وضحالة فقهه، ومنهم من يعتقد أن كل من خالف ما تعارف عليه الناس، ودرجوا عليه، واعتادوه، وقلدوا فيه، ومشوا عليه، استحق أن يُصنف ويُحذر منه، سواء كان المخالف موافقاً لسلف الأمة، وملتزماً بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أم لا؟ وسواء كان ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه مغايراً للمحجة البيضاء والحنيفية السمحة أم لا؟

من تلك التصنيفات الجائرة، والأحكام الباطلة، والنعوت الفارغة، إطلاق نعت ولقب "متشدد" على نفر من طلاب العلم الملتزمين المجتهدين، العاملين على رد الأمة إلى شرعها المصفى، وعقيدتها النقية، وطريقتها المرضية، وسبلها السوية.

ومن العجيب الغريب تباين الناس واختلافهم وتناقضهم في تصنيف الملتزمين بالسنة، العاملين لإحيائها وإشاعتها بين الناس، تصنيفاً متفاوتاً ومتغايراً جداً، فنفس الشخص الذي يطلق عليه البعض لقب "متشدد" يصفه آخرون بأنه متساهل، متهاون، مجامل، بل ومداهن، وذلك لاختلاف الموازين، واختلال المفاهيم، وقلة العلم والفقه والورع في الدين، فإرضاء الناس غاية لا تنال.

ومما يسلي النفس ويعزيها أن هذا المسلك قديم، وقد ابتلي به بعض العلماء الأخيار، والأئمة الأطهار، نظمنا الله في سلكهم، وحشرنا في زمرتهم، وجمعنا في مستقر رحمته بهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الشاطبي، والإمام ابن بطة، والإمام ابن منده رحمهم الله.

ولله در الإمام الشاطبي حين قال: (فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جارٍ مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان، ومن خالف فهو المخطئ المصاب، ومن وافق فهو المحمود السعيد، ومن خالف فهو المذموم المطرود، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية.

إلى أن قال:

فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس - فلابد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل، مع ما فيه من الأجر الجزيل وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفوَّق إليَّ العتاب سهامه، ونسبتُ إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً لوجدتُ، غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعباً، وضيق عليَّ مجالاً رحباً، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفتُ السلف الأول.

وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أوخرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إليَّ بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.

وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك شأن من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة؛ قيل له: فدعاءه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما ارى به بأساً عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئاً يصمد له في خطبته دائماً فإني أكره ذلك؛ ونص أيضاً العز بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.

وتارة أضاف إليَّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.

وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أوفي غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب الموافقات.

وتارة نسبتُ إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المتنصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.

وتارة نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها وهي الناجية ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أووهموا، والحمد لله على كل حال.

فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: "عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخرسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أومخالفاً، دعاني إلى متابعته علىما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني سالمياً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرَّامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن سكت عن تفسير آية أوحديث سماني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً، وإن جحدتهما سماني معتزلياً، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا: طعن في تزكيتهم، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرأون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنتُ جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني متمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الغفور الرحيم".

هذا تمام الحكاية، فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً أوفاضلاً مذكوراً إلا وقد نبذ بهذه الأمور أوبعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة، إنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب).

وما قاله هذان الإمامان قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن منده الأصبهاني كما حكى عنه الذهبي في ترجمته: (قد عجبتُ من حالي، فإني وجدت أكثر من لقيته إن صدقتُه فيما يقول مداراة له سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك سماني خارجياً، وإن قرئ علي حديث في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤيا سماني سالمياً.

إلى أن قال: وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من الشَّبْه والمِثْل، والند والضد، والأعضاء والجسم والآلات، ومن كل ما ينسبه النسابون إليَّ، ويدعيه المدعون عليَّ من أن أقول في الله تعالى شيئاً من ذلك، أوقلته، أوأراه، أوأتوهمه، أوأصفه به).

من الظلم البين والتجني الواضح أن يصف المسلمُ أخاه بصفة هو بريء منها، وأن يرميه ويبهته بما ينفر الناس ويصدهم عنه بالظن والتخريص، من غير تثبت، ويحسبه هيناً وهو عند الله عظيم، لعدم استشعاره لخطورة ما يقول، ويذيع، وينشر، ولجريرة ما يقترف.

لذلك فإنه من الضرورة بمكان التعرف على حقيقة هذه المصطلحات، وتحديد مدلولاتها، حتى نكون على بينة من أمرها، وحتى لا نظلم إخواننا المسلمين ونبوء بغضب رب العالمين، لنميز ونفرق بين المتشدد، والمعتدل، والمتفلت.

فما المراد بالتشدد، والتوسط، والتفلت؟

الغلو والتشدد

أ. التشدد

قل ابن منظور: التشديد خلاف التخفيف، وشاده مشادة وشِداداً غالبه، وفي الحديث: "من يشاد هذا الدين يغلبه الدين"، أي من يقويه ويقاومه، ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته، والمشادة المغالبة، وهو مثل الحديث الآخر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"، والمتشدد البخيل، كالشديد، قال طرفة:

أرى الموت يعتامُ الكرامَ ويصطفي         عقيلـة مالِ الفاحـش المتشـدد

ب.  الغلو

مجاوزة الحد، قال ابن منظور : وغلا في الدين، والأمر يغلو غلواً، جاوز حده، وفي التهذيب: وقال بعضهم: غلوتَ في الأمر غلواً وغلانية، وغلانياً إذا جاوزت فيه الحد وأفرطتَ فيه.

وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين"، أي التشدد فيه ومجاوزة الحد.

ومنه الحديث: "وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه"، إنما قال ذلك لأن من آدابه وأخلاقه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوسطها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

النهي عن الغلو والتشدد في الدين

لقد نهى الله ورسوله وحذرا الأمة من الغلو في الدين، في الاعتقادات، والأعمال، وجميع التصرفات.

قال تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته".

وقال: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".

وقال: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم ولا تعتدوا".

وروى أحمد عن أنس يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، وصحَّ عنه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله".

أقوال أهل العلم في المراد بالغلو والتشدد

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" الآية: (يعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه رباً، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين؛ وقال الشاعر:

وأوفِ ولا تستـوفِ حـقَّــك كلَّه          وصـافح فلم يستـوفِ قطُّ كريمُ

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد          كلا طرفي قصـد الأمـور ذميمُ

وقال آخر:

عليك بأوسـاط الأمـور فإنهـــا          نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعباً).

وقال المناوي رحمه الله في شرح الحديث: "إياكم والغلو في الدين": (أي التشدد فيه ومجاوزة الحد، والبحث عن غوامض الأشياء، والكشف عن عللها، وغوامض متعبداتها، "فإنما أهلك من كان قبلكم" من الأمم "الغلو في الدين"، والسعيد من اتعظ بغيره، وهذا قاله غداة العقبة وأمرهم بمثل حصى الخذف، قال ابن تيمية: قوله "إياكم والغلو في الدين" عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أوذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلواً في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن بقوله: "لا تغلوا في دينكم"، وسبب هذا الأمر العام رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل الرَّمي بالحجارة الكبار على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بقوله بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك).

وقال ابن الجوزي رحمه الله: (بدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع نوح وصالح وإبراهيم عليهم السلام تثقيل، ثم جاء موسى عليه السلام بالتشديد والإثقال، وجاء عيسى عليه السلام بنحوه، وجاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ تشديد أهل الكتاب، ولا تنطق بتسهيل من كان قبلهم فهي على غاية الاعتدال).

وقال ابن القيم رحمه الله عن غلو النصارى: (ومعلوم أن هذه الأمة القضبية ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة.

أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.

والثاني: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علواً كبيراً نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعاً صغيراً يمص الثدي، ولف في القُمُط، وأودع السرير، يبكي ويجوع ويعطش، ويبول ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفوا قفاه، وصلبوه جهراً بين لصين، وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمَّروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو إله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود.

ولعمر الله هذه مسبة لله سبحانه وتعالى ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذين نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي: "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً"، فقال: "شتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته".

وقال عمر رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة: "أهينوهم ولا تظلموهم، فقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر").

نماذج للغلو في الاعتقادات

صور الغلو في الاعتقادات التي نهى الشارع عنها وحذر منها سداً للذريعة كثيرة جداً، ولكن سنشير إلى بعضها ليُقاس عليها:

1. اعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وأنه خلق من نور، وأنه حي في قبره كحياته قبل موته، وأنه يُرى يقظة بعد موته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله".

2. التوسل والاستغاثة بذات الأنبياء والمرسلين أوبجاههم أحياء وأمواتاً.

3.  التعلق بقبور الأنبياء ومن يعتقد فيهم الصلاح، والدعاء عندها، والصلاة إليها، والطواف بها.

4.  البناء على القبور وإيقاد السرج عليها.

نماذج للغلو في الأعمال

1.  تحريم ما أحل الله لعباده، كالذي يحرم على نفسه أكل اللحم، أوالزواج، ونحو ذلك.

2.  الغلو في العبادة، كمن يعزم على صيام النهار وقيام الليل كله.

جاء في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي، فحرمت اللحم؛ وقيل إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر، وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبوذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرِّن، رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقيموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء والطيب، ويسيحوا في الأرض ويترهبوا.

وخرج مسلم في صحيحه عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء؛ وقال بعضهم: لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على الفراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه، قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، إذا خاف على نفسه بإخلال ذلك لها بعض العنت والمشقة، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم).

تشديدات ابن عمر رضي الله عنهما

كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ من التشديدات بأشياء لم يوافقه عليها كبار الصحابة، كالخلفاء الراشدين وغيرهم.

ولهذا عندما طلب المنصور من مالك رحمهما الله أن يضع كتاباً ليحمل عليه جميع الأمة ويمنع ما سواه، وكان ذلك حوالي عام 148هـ، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم.

روى ابن عبد البر بسنده إلى محمد بن سعد قال: (سمعتُ مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعت، يعني الموطأ، فتنسخ نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإني رأيتُ أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم؛ فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به).

قلت: هذه القصة تدل على إنصاف مالك رحمه الله لإخوانه العلماء، وعلى تواضعه وورعه، وعلى عمق فقهه، لأن حمل الناس على قول واحد فيه من المشقة والعناء ما فيه.

من تشددات ابن عمر رضي الله عنهما ما ذكره ابن القيم وغيره، والتي لم تؤثر عن أبي بكر وعمر ولا غيرهما من كبار الصحابة، ما يأتي:

1. كان ابن عمر رضي الله عنهما يقضي حاجته في نفس المكان الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته في غزواته وأسفاره إذا مر بها.

2.   وكان يربط دابته في نفس الشجرة التي ربط فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته.

3.   وكان يصوم يوم الغيم ليلة تسع وعشرين من شعبان احتياطاً، وكان ابن عباس لا يصومه.

4.   وكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي.

5.   وكان يأخذ لمسح أذنيه ماءً جديداً، والراجح أن الأذنين يمسحان بما أخذ لمسح الرأس.

6.   كان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وكان ابن عباس يدخل الحمام.

7.  وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتيمم بضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وهو مذهب مالك، ولا يقتصر على ضربة واحدة وهو الأرجح، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يخالفه في ذلك.

8.  وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبلتهما أوشممتُ ريحاناً.

9.  وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في صلاة أخرى أن يتمها، ثم يصلي الصلاة الفائتة، ثم يعيدها، وهذا مذهب مالك.

10.   وكان إذا فاتته ركعة مع الإمام سجد سجدتي السهو بعد قضاء صلاته.

11.  وكان يأمر الحائض أن تنقض شعرها للغسل عندما تطهر، فقالت عائشة: هلا أمرها أن تحلق شعرها!

قال ابن القيم رحمه الله: (وكذلك كان هذان الصحابيان الإمامان أحدهما يميل إلى التشدد والآخر إلى الترخيص، وذلك في غير مسألة).

قلت: هؤلاء الصحابة الثلاثة من كبار علماء الصحابة، وقد أخذ عنهم المسلمون دينهم، بل كل فقه الكوفة أخذ من علي وابن مسعود، وكذلك فقه الحجاز جله أخذ من شيخي الصحابة في وقتهما ابن عمر وابن عباس، وهذه المآخذ لا تغض من مكانتهم العلمية، فقط علينا أن لا نقتدي بهم في ذلك.

التوسط والاعتدال

المعتدل المتوسط هو الذي يكون ملتزماً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح لا يحيد عن ذلك أبداً، بين التشديد والتخفيف، إذ الحسنة بين سيئتين، فلا إفراط ولا تفريط، وهذا ما عليه أهل السنة قاطبة، متجنباً ما يأتي:

1.  الأقوال الشاذة.

2.  رخص وزلات أهل العلم.

3.  اتباع الهوى.

4.  تقليد أحد الناس في كل ما يقول سوى الرسول صلى الله عليه وسلم.

5.  الابتداع في الدين.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً": (أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: "عدلاً"، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ وفي التنزيل: "قال أوسطهم"، أي أعدلهم وخيرهم.

إلى أن قال: ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي هذه الأمة لم تغلُ غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبياءئهم، وفي الحديث: "خير الأمور أوسطها"، وفيه عن علي رضي الله عنه: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل").

وقال الشاطبي في تعريف الوسطية: (المفتي البالغ الذروة الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.

وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأكرمين، وقد رد عليهم عليه الصلاة والسلام التبتيل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ"، وقال: "إن منكم منفرين"، وقال: "سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا"، وقال: "عليكم بالعمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا"، وقال: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا.

وأيضاً فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً).

روى جابر رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله ثم تلا هذه الآية: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"؛ وهذه السبل تشمل اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد كما قال ابن عطية.

المتفلت

هو المتبع لهواه، الذي لا يدور مع الدليل حيث دار، ولا يكلف نفسه باتباع الأرجح الأقرب إلى السنة بالاجتهاد في أقوال المفتين ولو كان أمياً، فاتباع الهوى يحدث بالآتي:

1.  التقليد لما تهواه نفسه، والتذرع باتباع أحد الأئمة المقتدى بهم قديماً أوحديثاً.

2.  أوبالتشهي في اختيار الأقوال.

3.  أوبتتبع الرخص والزلات.

4.  أوباتباع ما لا يسبب له حرجاً مع مجتمعه ولا يخالف ما ألفه الناس واعتادوه.

5.  أوعن طريق التزيين والتقبيح العقلي.

6.  أوبالجدل والمراء.

7.  أوعن طريق تقليد الآباء والأجداد.

أسباب اتباع الهوى كثيرة ولا يمكن الإحاطة بها، ولكن أخطرها ما يأتي:

1.  الجهل بمصدر وكيفية التلقي في الشرع.

2.  عدم تلقي العلم من المشايخ الملتزمين بمنهج السلف الصالح.

3.  اتخاذ الرؤوس الجهال.

4.  التعامل مع الكتب مباشرة.

5.  غياب الأدب والسلوك، أي تزكية النفوس.

6.  التمذهب والتحزب و"التشرذم" جعل كل حزب بما لديهم فرحون.

7.  ندرة المشايخ المقتدرين القدوة الأكفاء.

8.  الغرور والاستكبار.

9.  الاستهانة بالابتداع في الدين.

أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر

بالاستقراء يمكننا أن نشير إلى أهم الأسباب التي دعت البعض إلى تصنيف بعض العلماء وطلاب العلم وغيرهم إلى متشددين، أومتحجرين، أومتزمتين، أوغالين، إلى آخر هذه القائمة من الألفاظ والألقاب غير المنضبطة من جهة، بينما يوصف غيرهم بالمستنيرين، ولقائل أن يقول بالمتفلتين، أوالمتساهلين، أوالمداهنين المسايرين لما تهواه العامة، ولما يتمشى مع مجريات العصر، ولا يوقع في حرج من جهة أخرى، التزامُ الأولين وتمسُّكهم واقتداؤُهم بما كان عليه سلف هذه الأمة في أمور عقدية، أومسائل انعقد عليها إجماع الأمة واتفاقها بعد خلاف دام قليلاً، وذلك لأن الحق عند الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وكل مجتهد مأجور إذا كان من أهل الاجتهاد، وحاز أدواته، وكان على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والتعبد والسلوك، أما أهل الأهواء قديماً وحديثاً فهم غير داخلين ولا معدودين في سلك المجتهدين، ومن أطلق لفظ كل مجتهد مصيب فمراده أنه مأجور غير آثم، أما أن يكون الحق عند الله عز وجل متعدداً فهذا لا يقول به عاقل، دعك عن مجتهد مقتدى به.

والأسباب التي توصل إليها بالاستقراء ونتج عنها هذا التصنيف الجائر والحكم الخاسر من غير ذكر أدلتها لأن المقام لا يتسع لذلك هي:

أولاً: وصف الله سبحانه وتعالى بكل صفات الجلال والكمال، وبكل ما وصف به نفسه أووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وهذا ما كان عليه السلف قاطبة في القرون الثلاثة الفاضلة، وعليه الخلف الصالح ظاهرين إلى أن تقوم الساعة.

ثانياً: منعهم للتوسل غير المشروع، وهو التوسل بذات وجاه الأنبياء والمرسلين والصالحين، الأحياء منهم والميتين.

ثالثاً: عدم الحرج من إطلاق لفظ الشرك أوالكفر على من أكفرهم الله ورسوله، لتعاطيهم أسباب ذلك مع توفر الشروط وانتفاء الموانع، لأن الإكفار ملك للشارع الحكيم.

رابعاً: حرصهم على الهدي الصالح والسمت الصالح الذي هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما أخبر الصادق المصدوق، والمتمثل في إعفاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، ولبس القمص والسراويل والعمائم، التي أضحت غيظاً للكافرين والمنافقين، وشعاراً لعباد الله الصالحين.

مما يدل على أهمية السمت الصالح في الدين ما قاله حامي الكفر والوثنية في هذا العصر بوش أمام الكونغرس عن حال "الاتحاد اليهودي المسيحي" بتاريخ 29/1/2002، حيث أعلن الحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين: (ولن يخضع الرجال بعد الآن لشرط إطلاق اللحى، ولن تخضع النساء لشرط تغطية وجوههن وأجسادهن)، خاب فأله وخسرت آماله.

خامساً: حرصهم على تصحيح العقيدة من الممارسات الشركية، والاهتمام بنشرها وتعليمها للناس.

سادساً: محاربتهم للبدع والمحدثات في العبادات.

سابعاً: إفتاؤهم بتحريم الغناء، والموسيقى، والسماع الصوفي المصحوب بالتلحين والآلات الموسيقية.

ثامناً: حرصهم وإفتاؤهم بوجوب الحجاب على النساء، ونهيهم وتحذيرهم عن التبرج والسفور والاختلاط بالأجانب.

تاسعاً: تحذيرهم من زلات، وهفوات، وسقطات أهل العلم.

عاشراً: الالتزام بظواهر النصوص وعدم تفريغها من معانيها والتوسع في التأويل من غير دليل.

أحد عشر: إفتاؤهم بتحريم الإسبال على الرجال سواء كان مصحوباً بخيلاء وتكبر أم لا.

الثاني عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تصوير ما فيه روح والاشتغال والتكسب بذلك لأنه من الكبائر.

الثالث عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تقليد الرجال في كل ما يقولون وأنه ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

الرابع عشر: هجرهم لأهل البدع والفسوق المجاهرين ببدعهم وفسقهم.

الخامس عشر: ذمهم للرأي والقياس في معارضة النصوص الصحيحة الصريحة.

السادس عشر: اعتقادهم أن ليس كل خلاف يستراح له ويعمل به.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تحت عنوان: "خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف": (وقولهم: "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أوالعمل، أما الأول في إذا كان القول يخالف سنة أوإجماعاً وجب إنكاره اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان خلاف سنة أوإجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أوسنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أومقلداً.

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.

والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الأدلة أولخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أويقينة ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل فذكرها:

1.  الحامل تعتد بوضع الحمل، ولو كان المتوفى لم يدفن بعد، خلافاً لما كان يفتي به علي وابن عباس رضي الله عنهم.

2.  إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، هذا بالنسبة للمطلقة ثلاثاً، لا تحل لزوجها الأول إلا بعد معاشرة الثاني لها.

3.  أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، نسخاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء".

4.  وأن ربا الفضل حرام، وقد توقف في حرمته ابن عباس أولاً ثم رجع إلى قول العامة.

5. وأن المتعة حرام، يريد رحمه الله متعة النساء التي أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، ثم عاد فحرمها في غزوة خيبر، هي والحمر الأهلية، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بحلها حيناً، ولكن سرعان ما عاد إلى قول العامة عندما روجع في ذلك، وهذا هو اللائق بحبر الأمة وترجمان القرآن، وبهذا أجمع أهل السنة قاطبة، بحرمة متعة النساء، وبأنها أخت الزنا، ولم يبحها إلا أهل الأهواء الرافضة، وقد بلغت وقاحتهم وانحطاطهم أن أباحوها مع الرضيعة شريطة عدم الإيلاج!! فنعوذ بالله من الخذلان.

6. أن النبيذ المسكر حرام، خلافاً لمن قال بإباحته من أهل الكوفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخمر ما خامر العقل، وكل مسكر خمر"، أوكما قال، فالحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال، ولا بتقليدهم في كل ما يقولون.

7. أن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، لم ينكر ذلك إلا أهل الأهواء من الرافضة والخوارج الذين لم يحفل باتفاقهم، ولا يحزن لاختلافهم، بل إن المسح على الجوارب، والعمامة، والخمار، رخصة أخذ بها طائفة من أهل العلم، وعمل بها كبار الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.

8. أن المسلم لا يقتل بكافر، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، لأن نفس الكافر ليست مكافئة لنفس المؤمن.

9. أن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق الذي نسخ، وهو وضع الكفين بين الركبتين، الذي كان يقول به ابن مسعود رضي الله عنه، لأن حديث النسخ لم يبلغه، وإلا لما تعداه.

1.  أن رفع اليدين الترويح عند الركوع والرفع منه سنة، وقد صح ذلك عن عدد كبير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون، وفي مذهب مالك روايتان في الترويح والقبض، أصحهما القول بالترويح والقبض، وهذا مذهب المدنيين والشاميين من المالكية، ورواه ابن وهب عن مالك، ولكن أشهر المالكية رواية ابن القاسم عن مالك في عدم القبض والترويح، وفي ذلك إجحاف وظلم على أتباع المذهب المالكي، فعلى علماء المالكية أن يذكروا الروايتين عن مالك، سيما وأن رواية القبض والترويح هي الأصح، وآخر ما أثر عن مالك كما قال العلماء المحققون، بجانب موافقتها للسنة الصحيحة ولعامة أهل العلم، وقد رواهما عنه ابن وهب.

11.  أن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، أي أن الجار أولى بشراء أرض وعقار جاره بسعر المثل إلا إذا لم يرغب في ذلك أوعَجَز عن سعر المثل.

12.   الوقف وهو الحبس صحيح لازم، خلافاً لما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وأن الوقف على شرط صاحبه، ولا يصح نقله عن غير ما حدده صاحبه أوالتلاعب فيه كما هو حادث الآن، فهناك أوقاف كثيرة بيعت واستبدلت عن طريق جهات رسمية وغير رسمية، وهذا حرام ولا يحل أبداً، فعلى المسؤولين ونظار الوقف أن يتقوا الله في أنفسهم وفي الواقفين والموقوف عليهم.

13. أن دية الأصابع سواء، وهي عشرة من الإبل، لا فرق بين إبهام، وسبابة، ووسطى، وخنصر، وبنصر، ولا بين أصابع اليدين والرجلين.

14. أن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، خلافاً للاحناف الذين قالوا لا تقطع إلا في عشرة دراهم لصحة الخبر في القول الأول.

15.  أن الخاتم من الحديد يجوز أن يكون صداقاً، لم يحدد الشارع قدراً للصداق، أي المهر، فيجوز أن يكون قليلاً أوكثيراً، ولكن السنة دلت على عدم المغالاة، ونهت وحذرت من ذلك، وما اشتهر على ألسنة بعض الخطباء وأئمة المساجد من أن عمر نهى عن المغالاة في المهور فقامت امرأة وقالت رادة عليه: يعطينا الله وتحرمنا؛ فقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة؛ ليس له أساس من الصحة، ولم يرد في ديوان من دواوين السنة، وإنما وجد في بعض التفاسير، وما قاله عمر هو السنة، وهو الحق، فلا ينبغي للخطباء والوعاظ أن يحلوا وعظهم وخطبهم بما لم تثبت صحته.

16.   أن التيمم إلى الكوعين مع الوجه ضربة واحدة جائز، بل هو الراجح، وقد ذهب ابن عمر إلى أنه ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وتبعه مالك في ذلك.

17.   أن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، سيما في النذر، والله أعلم.

18.   أن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وكان بعض أهل العلم يقول: التلبية تقطع قبل ذلك.

19. أن المُحْرِمَ له استدامة الطيب دون ابتدائه، بمعنى لو تطيب قبل إحرامه وبقي أثر الطيب عليه بعد الإحرام فلا شيء عليه.

20. أن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره "السلام عليكم ورحمة الله"، لا أن يكتفي بقول "السلام عليكم" فقط وإلى جهة اليمين دون اليسار، وهذا القول مرجوح.

21. أن خيار المجلس ثابت، وذلك لتفسير ابن عمر راوي الحديث أن التفرق بالأبدان، وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أن التفرق بالكلام، ولهذا لم يأخذوا بخيار المجلس، والصواب الأخذ بخيار المجلس.

22.  أن المصراة يرد معها عوض من اللبن صاعاً من تمر.

23.  أن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وهي ركعتان كل ركعة ركوعان وسجودان.

24.  أن القضاء أي الحكم جائز بشاهد واحد ويمين.

بهذا اتضح لنا أن إطلاق لفظ متشدد أوتصنيف البشر إلى متشددين وغير متشددين نتيجة الالتزام بما صح عن الله ورسوله وما أجمعت عليه الأمة من الظلم الواضج، والجهل الفاضح، والتعدي البين، وأن الملتزمين بما كان عليه سلف هذه الأمة هم المعتدلون المتوسطون المحمودون، وأن من سواهم من الغالين المتشددين، أوالمتساهلين المتهاونين المقصرين المفرطين هم المذمومون المؤاخذون، وأن بيان هذا التوضيح ونشره بين الناس من باب النصيحة الواجبة.

وعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي إخوانه المسلمين، وأن لا يكون همه تصنيف الخلق والحكم عليهم بغير وجه حق، وليعلم أن عليه رقيب عتيد، وأنه لن تزول قدماه عن الصراط حتى يسأل عن ذلك، وحتى يقتص منه لمن وسمهم بهذه السمة، وانتقصهم بالتشدد والتنطع والغلو مع براءتهم وسلامتهم من هذا السلوك المشين والخلق غير المستقيم، واحذر شهادة الزور وقول الزور الذي سيكتب عليك وتسأل عنه.

وتذكر قول الله في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، والأولياء هم العلماء كما قال أبو حنيفة والشافعي: "إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي"، فلحوم العلماء مسمومة، ورحم الله الحافظ ابن عساكر عندما قال ناصحاً لإخوانه المسلمين ومبيناً خطورة الطعن والتشكيك في العلماء وانتقاصهم: اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".

واحذر أن ينطبق عليك قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت"، فالبعض يغلو ويعظم من يجب أن يُهجروا ولا يُوالوا، وينتقص ويعيب من تجب عليه موالاتهم ومحبتهم، فقط اتباعاً للهوى والاستلطاف، ولحمية، سيما وأن الفاصل بين الحق والباطل قد يكون شعرة.

والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجنبنا الهوى والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه

000000000000000000000

سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين

تعريف البر

حكم بر الوالدين

فضل بر الوالدين

الأم مقدمة في البر على الأب

ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه

ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين

أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح

ثانياً: السفر للحج والعمرة

ثالثاً: الخروج إلى الجهاد

الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه

رابعاً: الهجرة

خامساً: السفر للعمل والتجارة

ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب

أولاً: الزواج

ثانياً: الطلاق

ما يختص به الوالد في ولده دون غيره

هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي

بمَ يكون برُّ الوالدين؟

أولاً: المسلمين

ثانياً: الكافرين أوالمشركين

فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة

جزاء الوالدين

تعريف العقوق

عقوبة العاق لوالديه

من صور العقوق

نماذج للأبناء البررة

نماذج للأبناء العاقين

المراجع

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.

ليس هناك حق بعد حقوق الله ورسوله أوجب على العبد ولا آكد من حقوق والديه عليه، ولهذا فقد أمره الإسلام ببرهما والإحسان إليهما، وقرن ذلك بعبادته وطاعته، فقال عز من قائل: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"ً، ونهى وحذر من عقوقهما، وعصيانهما، والإساءة إليهما، وعدَّ ذلك من أكبر الكبائر وأعظم العظائم، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبُّ أمه فيسبّ أمه"

بل قرَنَ شكرهما بشكره، فقال: "أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير"، فمن لا يشكر لوالديه فإن الله غني عن شكره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثلاثة مقرونة بثلاثة، قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة الواجبة لا تقبل له صلاة، وقال: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لا يقبل الله طاعته، وقال: "أن اشكر لي ولوالديك"، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره"، أوكما قال.

بل جعل رضاه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما.

فالسعيد السعيد من وفق بعد تقوى الله عز وجل لبر والديه أحياءً وأمواتاً والإحسان إليهما، والشقي التعيس من عقَّ والديه وعصاهما وأساء إليهما ولم يرع حقوقهما، فبر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة، وعقوقهما من أقوى أسباب دخول النار: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".

عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحد، ومن أصبح عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد؛ قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".

فيا سعادة البارين بوالديهم، ويا تعاسة العاقين لهما، إن كنت أخي المسلم باراً فازدد في برك لهما أحياءً وأمواتاً، وإن كنتَ عاقاً فعليك أن تتوب من هذا الذنب العظيم، وتحاول إدراك ما يمكن إدراكه، واعلم أنك كما تدين تدان، ولله در القائل: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم.

واحذروا أيها الأبناء والبنات عقوق الأمهات، فإن برهن وحقهن آكد من بر الآباء وحقهم، واعلموا أنه ما من جرم يعجِّل لصاحبه العذاب في الدنيا مع ما يُدَّخر له في الآخرة أخطر من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.

من فضل الله علينا ورحمته بنا فإن بر الوالدين لا ينقطع بموتهما، وإنما يستمر بالدعاء والاستغفار والتصدق لهما، وبصلة أقاربهما وأرحامهما، وبصدق التوبة والندم على ما مضى من تقصير، فإن فاتك برهما أوأحدهما أحياء فلا يفتك استدراك ما يمكن استدراكه وتحصيل ما يمكن تحصيله، قبل أن يُحال بينك وبين ما تشتهي، حين تأتيك المنون، وتبلغ الروح الحلقوم، وتحرم عما كنت تروم.

تعريف البر

البر كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وبر الوالدين يعني الإحسان إليهما وتوفية حقوقهما، وطاعتهما في أغراضهما في الأمور المندوبة والمباحة، لا في الواجبات والمعاصي، والبر ضد العقوق، وهو الإساءة إليهما وتضييع حقوقهما.

ويكون البر بحسن المعاملة والمعاشرة، وبالصلة والإنفاق، بغير عوض مطلوب.

تعريف الوالدين

الوالدان هما الأب والأم، سواء كانا من نسب أورضاع، مسلمين كانا أم كافرين، وإن عليا، فالأجداد والجدات، آباء وأمهات، سواء كانوا من قبل الأب أوالأم، والخالة بمنزلة الأم كما صح بذلك الخبر.

حكم بر الوالدين

بر الوالدين فرض واجب، وعقوقهما حرام ومن الكبائر.

دليل الحكم

الكتاب والسنة والإجماع.

فمن الكتاب قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً".

وقوله: "ووصينا الإنسان بوالديه

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل قائلاً: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك"، وفي رواية: "ثم أدناك أدناك".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أوكليهما، فلم يدخل الجنة".

وقد أجمعت الأمة على وجوب بر الوالدين وأن عقوقهما من أكبر الكبائر.

فضل بر الوالدين

بر الوالدين والإحسان إليهما من أقوى الأسباب لدخول الجنة، ولنيل رضا الله عز وجل، وقد ورد في ذلك العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها:

1. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله".

2.  وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزئ ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".

3. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".

الأم مقدمة في البر على الأب

ذهب أهل العلم في هذه المسألة مذهبين، هما:

1.  الأب والأم يستويان في البر، وهذا مذهب مالك.

2.  للأم ثلاثة أضعاف البر، وللأب ضعف، وهذا مذهب الليث بن سعد.

استدل من قدَّم الأم على الأب في البر بحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي"، حيث قال له: "أمُّك" ثلاثاً، وفي الرابعة قال: "أبوك"، وبغيره.

ورد عليهم القائلون بتسوية الوالدين في البر أن المراد بذلك التأكيد على بر الأم، لتهاون الأبناء في بر أمهاتهم أكثر من تهاونهم في بر آبائهم.

أقوال العلماء

قال القرطبي رحمه الله معلقاً على الحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي": (فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب، ورُوي عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في ا، وقد كتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ فدل قول مالك هذا على أن برهما متساوٍ عنده، وقد سئل عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة السابق يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف، وقد زعم المحاسبي في كتاب "الرعاية" له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة السابق في الفتح: (قال ابن بَطَّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين"، فسوى بينهما في الوصية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة؛ وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول، قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال، فقال: سئل مالك: طلبني أبي، فمنعتني أمي؛ قال: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال، وليست الدلالة على ذلك واضحة، قال: وسئل الليث يعني عن هذه المسألة بعينها، فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر؛ وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين، وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل بن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، وابن ماجة، وصححه الحاكم، ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"، كذا وقع في حديث بَهْز بن حكيم).

وقال فضل الله الجيلاني في توضيح الأدب المفرد: (الأم مقدمة في الإجماع في البر على الأب، وأن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لتحمل المشاق في الحمل والوضع حتى تكاد تموت، ولا أقل من أن تذوقه في كل وضع إذا ضربها الطلق، ثم المحنة زمن الرضاع إلى أن يكبر الولد ويستغني عن خدمتها، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في الإنفاق والتربية وأنواع من المؤنة والخدمة كذا ذكره السيوطي أخذ ذلك من تكرار حق الأم، والأظهر أن يكون تأكيداً ومبالغة في رعاية حق الأم، وذلك لتهاون أكثر الناس في حق الأم بالنسبة إلى الأب، لأن أمر الأم كله في البيت تحت الستور ولا يطلع عليه الناس، فيجترئ الناس على عقوقها أكثر من عقوق الوالد حياء من الناس، وكذا قوته تزجر عن الجرأة عليه، وضعفها يحمل الدنيء على الإساءة إليها، ولا يبعد أن الشريعة بالغت في البر بها أكثر من البر بالأب مواساة لها ومراعاة لضعف قلوب النساء وشفقة على الولد، مع أن الأب ليس أنقص حقاً من حقوقها، لأن الأم للين طبعها وضعف بنيتها لا تستطيع أحياناً أن تتحمل إباء وسوء خلقه فتعجل أن تغضب، فتسرع بالدعاء عليه، والمذكور في كتب الفقه أن حق الوالد أعظم من حق الوالدة وبرها أوجب).

قال ابن قتيبة رحمه الله: (خاصمت أم عوف امرأة أبي الأسود الدؤلي أبا الأسود إلى زياد في ولد منه، قال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه؛ فقالت أم عوف: وضعته شهوة، ووضعتُه كرهاً، وحملتَه خفاً، وحملتُ ثقلاً؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحق به؛ فدفعه

قلت: هذا في الحضانة، فالولد للأم دون السابعة، والبنت إلى الزواج، ما لم تتزوج الأم، أويكون هناك مانع.

تقديم الأم في البر يكون في الإنفاق، والرعاية، والعطف، فإذا قصُرَت يَدُ الأبناء عن الإنفاق على الوالدين جميعاً تقدم الأم على الأب، وكذلك في زكاة الفطر إن لم يتمكن الابن من إخراج الزكاة عن أبويه الفقيرين أخرج عن أمه، وهكذا، وكذلك الأمر في الرعاية والعطف، أما في التعظيم والاحترام فيقدم الأب على الأم، والله أعلم.

قال فضل الله الجيلاني: (قيل إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يترجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام، حتى لو دخلا عليه يقوم للأب، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم، كما في "منبع الآداب"، قال الفقهاء: تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما، لكثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته، ومعالجة أوساخه، وتأنيسه في مرضه، وغير ذلك روح المعاني بتصرف)

ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه

بعد أن أجمع أهل العلم علىأن الوالدين يطاعان في فعل:

1.  المباح.

2.  والمندوب.

ولا يطاعان في:

1.  فعل الحرام.

2.  وترك الواجب.

اختلفوا في طاعتهما فيما فيه شبهة على قولين.

قال ابن مفلح رحمه الله: (وقد قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ قال: في مثل الأكل؟ قلت: نعم؛ قال: ما أحب أن يقيم معهما عليها، وما أحب أن يعصيهما، يداريهما، ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه.

وذكر المروذي له قول الفضيل: كل ما لم تعلم أنه حرام بعينه؛ فقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل -: وما يدريه أيها الحرام؟ وذكر له المروذي قول بشر بن الحارث وسئل هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: لا؛ قال أبو عبد الله: هذا شديد؛ قلت لأبي عبد الله: فللوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: إن للوالدين حقاً؛ قلت: فلهما طاعة فيها؟ قال: أحب أن تعفيني، أخاف أن يكون الذي يدخل عليه أشد مما يأتي؛ قلتُ لأبي عبد الله: إني سألت محمد بن مقاتل العبَّاداني عنها، فقال لي: بر والديك؛ فقال: هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال، وهذا بشر الحارث قد قال ما قال؛ ثم قال أبو عبد الله: ما أحسن أن يداريهم.

وروى المروذي عن علي بن عاصم أنه سئل عن الشبهة، فقال: أطع والديك، وسئل عنها بشر بن الحارث، فقال: لا تدخلني بينك وبين والديك.

وذكر الشيخ تقي رواية المروذي ثم قال: وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل فقال: إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل.

قال الشيخ تقي الدين: مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام، ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة، وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل، لأنه لا ضرر عليه فيه، وهو يُطيِّب أنفسهما).

وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: (أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات، وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم).

أمثلة للمباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين

الأحكام الشرعية خمسة، حلال، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، فالمباح هو ما يجوز فعله وتركه، فمن أمثلة المباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين ما لم يكن مانع شرعي آخر أن يطلبا منك أوأحدهما:

1. أن تسكن معهما في المنزل.

2. أن تتزوج امرأة معينة.

ومن أمثلة المندوب الذي تجب فيه طاعة الوالدين أوأحدهما، مثل:

1. النهي عن صيام يوم تطوعاً لشدة الحر مثلاً.

2. الذهاب لخلوة لحفظ القرآن الكريم كله.

ومن أمثلة الحرام الذي لا يجب فعله، والواجب الذي لا يجوز تركه ولا تجوز طاعتهما فيه ما يأتي:

1. الأمر بحلق اللحية.

2. الأمر بمصافحة الأجنبيات والدخول عليهن من الأقارب.

3. الأمر بإسبال الملابس.

4. طلب الانتماء إلى طريقـة من الطـرق الصوفيـة أوحـزب من الأحـزاب العلمـانية، سواء كان ينتمي إليها الوالدان أم لا.

5. النهي عن الذهاب إلى صلاة الجماعة إلا بسبب خوف من لصوص ليلاً، قال الحسن البصري: إذا نهته أمه عن شهود العشاء شفقة عليه فلا يطعها؛ ومن أهل العلم من قال يطيعها.

6. النهي عن الحجاب الشرعي للبنات.

7. إذا طُلب منه ممارسات شركية نحو الذهاب لزيارة رجل مبتدع أودخول قبة شيخ والخشوع والدعاء عندها مثلاً.

8. الإجبار على الدراسة في الجامعات المختلطة.

9. إذا طلب منه العمل في البنوك أوالشركات الربوية أوفي خمارة.

10.  إذا طلب منه الهجرة إلى دار الكفر ولا ضرورة لذلك.

ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين

أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح

طلب العلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية أومندوب أومباح، فالسفر لطلب العلم الواجب تعلمه لا يحتاج إلى إذن الوالدين، أما ما سوى فرض العين فلا يجوز أن يسافر له ويبتعد عن والديه إلا بإذنهما ورضاهما معاً، وكذلك الأمر لفرض العين إذا كان هو الكافل أوالملازم الوحيد، وهما أوأحدهما في حاجة إليه.

قال أبو حامد الغزالي: (وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أونافلة إلا بإذنهما.. والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك، وذلك كمن يُسْلِم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين).

ثانياً: السفر للحج والعمرة

من كان حياً والداه أوأحدهما فلا يجوز له الذهاب والسفر إلى الحج أوالعمرة إلا بعد إذنهما.

وليس لهما أو لأحدهما أن ينهياه عن حج الفريضة إذا وجب عليه خاصة أن الراجح من قولي العلماء أن الحج يجب على الفور، ما لم يكونا في حاجة لرعايته لهما، ولم يكن لهما راعٍ غيره، هذا في حال الكبر والمرض، أما في الأحوال العادية فلا يجوز لهما أن يمنعاه عن حج الفريضة.

أما بالنسبة لحج وعمرة التطوع فلهما منع الابن عن ذلك، وله أن يرضيهما إن لم تكن بهما حاجة إليه أوكان هناك من يقوم بواجبهما.

قال أبو حامد الغزالي: (والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه على التأخير)

ثالثاً: الخروج إلى الجهاد

جهاد الكفار والمنافقين بالنفس لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى من أجل القربات، وهو نوعان:

1.  فرض عين واجب، وهذا لا يستأذن فيه الوالدان، وهو نوعان كذلك:

أ. إذا استنفر الإمامُ المسلمين لقتال الكفار.

ب. إذا هجم الكفار وغزوا داراً من ديار المسلمين، كما هو الحال الآن في فلسطين، وأفغانستان، والعراق، وكشمير، والشيشان، وجنوب الفلبين، وغيرها من البلاد المغصوبة، وجهاد الدفاع يكون تحت راية الإمام وغير الإمام، إذا دعا إليه ولاة الأمر من العلماء.

2.  فرض كفاية، وهو جهاد الطلب، بأن يخرج المسلمون رافعين راية الجهاد تحت إمام من أئمتهم يدعون الكفار والمشركين للدخول في الإسلام، وهو الذي خاضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والمسلمون من بعدهم، حتى حل علينا هذا العصر الحديث الكبيس، حيث ركن المسلمون إلى الدنيا واستسلموا للكفار.

وجهاد الطلب لا يخرج إليه إلا بعد إذن الوالدين.

وجهاد الدفاع يتعين على أهل البلد الذي غلب عليه أوغزاه الكفار، فإن لم يغنوا فعلى من يليهم من المسلمين، وهكذا حتى يشمل الحكم سائر المسلمين، أما إذا استغنى أهل البلد المغزو وقاموا بالواجب فلا يجب على غيرهم.

الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وإجماع الأمة

فمن الكتاب:

1.  قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم".

2.  وقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".

3. وقوله: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم".

ومن السنة:

1. "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من

2. "أبواب الجنة تحت ظلال السيوف".

3. "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أويرجعه سالماً مع أجر وغنيمة".

وقد أجمعت الأمة على وجوب جهاد الدفاع وعند النفرة، وعلى ندب جهاد الطلب.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً.." الآية: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعُـقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عَجَزَ أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل بها العدو عليها، واحتل بها سقط الفرض على الآخرين.

ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا.

وقسم ثانٍ من واجب الجهاد، فرض أيضاً على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه، أويخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرعبهم، ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام ويعطوا الجزية عن يدٍ.

ومن الجهاد أيضاً ما هو نافلة، وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة، وبعث السرايا في أوقات العِزَّة وعند إمكان الفرصة، والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف، وإظهار القوة).

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.

وأما الجهاد بالنفس ففرض، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه

الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه

من الأدلة على ذلك ما يلي:

1. عن عبد الله بن عمرو قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم؛ قال: ففيهما فجاهد".

2. وخرَّج أحمد عن أبي سعيد قال: "هاجر رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم؛ قال: أذنا لك؟ قال: لا؛ قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما".

3. وعن عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما

4. وعن معاوية بن جاهمة عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك والدان؟ قلت: نعم؛ قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما"

قلت: بعض الآباء والأبناء في هذه المسألة على طرفي نقيض، بينما نجد بعض الشباب متحمساً للجهاد والغزو، ودائماً يحدث ويمني النفس به وهو صادق في ذلك، نجد بعض الآباء والأمهات على العكس والنقيض من ذلك، فمنهم من لا يسمح ولا يأذن لابنه بذلك حتى لو تعين الجهاد على ابنه، وتختلف دوافع المنع، فمنها:

1.  الحرص الشديد على الأبناء والخوف عليهم.

2.  الجهل بقيمة الجهاد وفضله، وما أعده الله للمجاهدين في سبيله.

3.  حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية الموت، سواء كان شهادة أوبسبب حادث حركة.

4.  إطلاق الكفار وعملاؤهم وإعلامهم مصطلح الإرهاب الذي يمارسونه ضد المسلمين على الجهاد الذي شرعه رب العالمين، وهو رهبانية الإسلام.

5.  غلبة الفكر العلماني، مما دفع بعض العلمانيين المتزيين بالإسلام أن يزعموا "أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" هذه كلمة مضى عليها التاريخ، وتخطاها الزمن، وأن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، وإنما انتشر عن طريق التجاور والطرق الصوفية، عن طريق دق الطبول، والرقص، والتواجد، وهم يعلمون كذب هذا قبل غيرهم.

فعلى الآباء أن يتقوا الله في إسلامهم، وفي أنفسهم، وأن يتخلصوا من هذه العواطف الحيوانية، والهواجس الشيطانية، والأفكار العلمانية، وأن يتحرروا من هذه القيود الأرضية.

وليقتدوا في ذلك بسلف الأمة، بعمرو بن الجموح، ذلكم الشيخ الأعرج الذي عذره الله ورسوله، وخرج أبناؤه في أحُد، ولكنه اشتهى أن يطأ الجنة بعرجته تلك، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم له، ونال ما تمناه واشتهاه.

وبأبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، فقد أمرا ابنيهما أن يطلقا زوجيهما خشية أن يمنعهما ذلك من الغزو والجهاد.

وعليكن أيتها الأمهات الاقتداء بتلك الصحابية التي استشهد لها أربعة أبناء، فلم يهلها ذلك، ولم تجزع، بل حمدت الله واسترجعت، وأرادت فقط أن تطمئن على سلامة الرسول الكريم، والقائد العظيم، فلما قيل لها هو بخير كما تشتهين، طلبت أن تراه، فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل أي كل مصيبة بعدك يسيرة وحقيرة.

عليك أيتها الأم أن تقتدي بالخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلمية، تلك الشاعرة العربية، المسلمة، المخضرمة، أرق شعراء العرب، وأحزن من بكى وندب، التي بكت أخاها صخراً بكاءً حاراً وقالت فيه شعراً صادقاً في قصيدتها التي مطلعها:

أعيني جــودا ولا تجمــدا             ألا تبكيان لصخـر الندى؟

والتي جاء فيها:

يذكرني طلوع الشمس  صخراً             وأذكره لكل غروب  شمس

فلولا كثرة الباكيـن حــولي             على إخوانهـم لقتلت نفسي

و مـا يبكيـن مثلَ أخي ولكن             أسلي النفسَ عنه بالتـأسي

عندما أسلمت تغيرت نفسيتها، وتهذبت عاطفتها، وعلت وسمت همتهما، فقد كان لها أربعة بنين خرجت معهم لخدمتهم في حرب القادسية، فقالت مشجعة وحاثة لهم على الإقدام في القتال: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين؛ وذكرت من صونها لبنيها وعدم خيانتها لأبيهم ما ذكرت، ثم قالت لهم: وقد تعلمون ما أعد الله لكم من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرب لظاها على سياقها، وجللت ناراً على أروقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة.

فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:

يا إخوتي إن العجوز الناصحة        قد نصحتنـا إذ دعتنـا البارحـة

مقـالــة ذات بيان واضحــة        فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وإنما تلقـون عنـد الصـائحـة        من آل سـاسان كلابـاً نابحــة

قد أيقنوا منكم بوقـع الجـائحـة        وأنتـم  بين  حيــاة صالحــة

أوميتة تورث غُنْماً صالحة

وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثاني وهو يقول:

إن العجوز ذات حـزم و جلــد        والنظـر الأوفـق والرأي الأسـد

لقد أمرتنـا بالسـداد و الرَّشَــد        نصيحـة منهـا وبـراً  بالولــد

فباكروا الحرب  حُماةً  في العـدد       إما لفــوز بـارد على  الكبــد

أوميتـة تورثكــم غنم  الأبــد        في جنة الفردوس والعيش الرغـد

فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثالث وهو يقول:

و الله لا نعصي العجـوز حرفـاً         قد أمـرتنـا حدبــاً وعطفــاً

نصحاً وبـراً صادقــاً ولطفـاً          فبادروا الحرب الضروس زحفـاً

حتى تلقَّـوا آل كســرى  لفـاً         وتكشفـون عن حمــاكم كشفـاً

فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، وحمل الرابع وهو يقول:

لستُ لخنســا ولا للأخـــرم         ولا لعمـرو ذي السنـا الأقــدم

إنْ لم أرُدْ في الجيش جيش العجم         ماضٍ على هول خِضَـم خِضْـرَم

إما لفـوز عاجــل ومغنـــم         أو لوفــاة  في السبيـل الأكـرم

فقاتل حتى قتل رحمه الله، فبلغ خبرُهم الخنساء أمهم، فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته؛ فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد منهم مائتي درهم.

وأنتم أيها الشباب عليكم بمداراة آبائكم وأمهاتكم، وإقناعهم باللطف وبالحسنى، واحذروا المواجهة والمكاشرة، فبالرفق واللين ينال الابن ما يريده من والديه مهما كانوا متعنتين متمنعين.

أما إذا كان الأب علمانياً منافقاً، فهذا لا يستأذن في الخروج إلى الجهاد والغزو، فالمنافق نفاق الاعتقاد فهو كافر وإن تظاهر بالإسلام.

واعلم ايها الشاب أن الأجداد، والجدات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، والإخوة والأخوات الكبار هم بمنزلة الآباء عند فقدهم، ولهذا فلابد من الاستئذان منهم وطلب رضاهم للخروج للغزو والجهاد والرباط، إن كان من فروض الكفايات.

رابعاً: الهجرة

هجر المعاصي والهجرة من ديار الكفر ومن البلاد التي لا يتمكن فيها المسلم من القيام بشعائره الدينية أويخشى أن يفتن فيها عن دينه ولو كانت بلاداً إسلامية جائزة، وقد تكون واجبة في بعض الأحيان.

فمن أراد أن يهاجر وله أبوان أوأحدهما فعليه أن يستأذنهما ويسترضيهما، أما إن كانت الهجرة وجبت عليه خوفاً على دينه هاجر، أذنا له أم يأذنا له، أما إن لم تجب الهجرة في حقه فلا يهاجر إلا بعد إذنهما، أما الهجرة إلى ديار الكفر من غير ضرورة فلا تجوز أذن له والداه أم لا.

خامساً: السفر للعمل والتجارة

كذلك لا يجوز لابن أن يسفر إلى بلد من البلاد الإسلامية، أوإلى محلة بعيدة من سكنى والديه، للعمل أوللتجارة، أولديار الكفر إن اضطر إلى ذلك إلا بعد أن يأذن له والداه.

ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب

من الأمور المباحة التي يستحب فيها استئذان الوالدين والاجتهاد في إرضائهما ومداراتهما مسألتان هما:

أولاً: الزواج.

ثانياً: الطلاق.

أولاً: الزواج

أ. البنت

لا يحل للبنت أن تتزوج من غير إذن ورضا أبيها أووليها في حال موت الأب أوفقدانه، بكراً كانت البنت أم ثيباً، بالغة أم غير بالغة، وذلك لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، ولا ينبغي للأب أوالولي أن يعضل وليته ويمنعها من الزواج أوالرجوع من كفء تقدم لها إلا لسبب شرعي، فإن فعل فهو آثم، والسلطان ولي من لا ولي لها.

ويستحب للأب أوالولي أن لا يزوج وليته إلا بعد الاطمئنان لرضاها بمن تقدم لها، وأجاز الجمهور للأب خاصة أن يزوج بنته البكر غير البالغ لمن يأنس فيه الكفاءة، أسوة بما فعله أبوبكر رضي الله عنه حيث زوج عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إذنها ورضاها.

هذا وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزانية هي التي تزوج نفسها يعني من غير ولي.

صحَّ في سبب نزول قوله تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون": "أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم جاء فخطبها، فرضيت، وأبى أخوها أن يزوجها، وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه؛ فنزلت الآية، فقال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً فقال: إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح؛ فقال: آمنت بالله؛ وزوَّجها منه"

قال القرطبي: (إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي، لأن أخت معقل كانت ثيباً، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذاً في قوله تعالى: "فلا تعضلوهن" للأولياء).

ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأنه يجوز للمرأة أن توكل من يزوجها من كفء من غير رضا وليها مردود بالقرآن، والسنة، وقول عامة أهل العلم، والحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال مهما كانت منزلتهم ودرجتهم في العلم، ولهذا قال أبو حنيفة: إذا خالف قولي الحديث فاضربوا به عُرْض الحائط؛ فاعلم أنه ليس كل خلاف يُستراح له ويُعمل به.

ب. الابن

يستحب للابن أن يتزوج بإذن ورضا والديه، وينبغي للوالدين أن لا يجبروا أبناءهم وبناتهم على زواج من يكرهون ولا يحبون، فالزواج عشرة طويلة، فإذا كان لا يجب على ابن أن يأكل ما يجبره عليه أبواه فمن باب أولى لا يجب عليه أن يتزوج من لا يرغب في زواجها، وإن رغب في زواجها له والداه أوأحدهما.

ولكن عليه أن يداري في ذلك حتى يقنعهما أويقنعانه.

بل لا تجب طاعة الأبوين إذا كان المرغوب في زواجه من الأبوين أوأحدهما:

1.   منافقاً نفاق اعتقاد مثل الشيوعيين، والجمهوريين، والعلمانيين.

2.   لا يصلي.

3.   مبتدعاً أورافضياً.

4.   منحرفاً في عقيدته بممارسة بعض الشركيات.

5.   متحرراً من القيود الشرعية.

6.   بالنسبة للمرأة إذا كانت متبرجة سافرة.

7.   فاسقاً، شارب خمر، مرابٍ، ممثلاً، فناناً، ونحوه.

أما إذا توفر الدين والخلق، وراقت للابن فالأفضل له طاعة والديه.

ثانياً: الطلاق

لا يجب على الابن طاعة والديه أوأحدهما في طلاق زوجته من غير سبب شرعي، سيما إذا كانت الزوجة مستورة الحال، مقيمة للصلاة، راعية لحق زوجها، غير متبرجة، فليس عليه أن يطيع والديه في ذلك لعدم استلطافهما لها، أولمشكلة حدثت بين أم هذه المرأة أوأختها مع أحد الوالدين أوإحدى بناتهن.

أما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر أن يطلق زوجه التي كان يحبها وكان عمر يأمره بطلاقها لأنه خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد وليس لحظوظ نفس ولا أمر دنيوي، لهذا قال أحمد رحمه الله لرجل طلب منه أبوه أن يطلق زوجه لغير عذر شرعي: لا تطلق؛ فقال له: ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يطلق زوجه لأن أباه أمره بذلك؟ فقال له أحمد: إن كان أبوك مثل عمر أوبشر بن الحارث الحافي فطلق.

بهذا تفهم الأحاديث والآثار التي أمرت بطاعة الأبوين في الأمر بالطلاق، وهي:

1.  عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها؛ فأبيتُ، فأتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها"

2.  وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه"

قال الونشريسي المالكي: (سئل أبو إسحاق التونسي عن رجل له زوجة موافقة له، وبينها وبين أمه سرورة، هل يلزمه طلاقها، إذا طالبته أمه بفراقها للسرورة التي بينهما؟ وهل يكون عاقاً لأمه في ترك طلاق زوجته وهو يعلم أن زوجته غير ظالمة لأمه؟ وهل له أن يرجع على زوجته ويعين عليها مع أمه فيما يجري بينهما من السرورة، ويصول عليها ويقصر من حقوقها ولا يحسن إليها لترضى بذلك أمه إذا لم ترض عنه الأم إلا بفعل ما ذكرنا؟ وهل يلزمه أن تكون معه أمه في بيت واحد على قصعة واحدة؟

فأجاب: لا يلزم الابن ذلك، وإنما عليه القيام بواجبات أمه، ولا يلزمه أن تكون مع زوجته، وإذا كانت زوجته موافقة عنده، ولم يثبت عنده ظلم زوجته لأمه، ولم يكن في ترك طلاق زوجته رضى لوالدته وإثم، وليترَضَّ أمه بما قدر من غير أن يوافقها على ما لا يجوز له من الإضرار بها، ولا يساعدها عليه)

قال ابن مفلح: (قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إنه ليس لأحد الوالدين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه.

وقال أحمد في رواية أبي داود: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً إن فعل لم آمره بفراقها، وإن كان له والدان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج، وإن كان شاباً يخاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا قال له والداه: تزوج فلانة، فإنه يمكنه أن يتزوج غيرها، وهذا معنى ما نقله الفضل بن زياد.

إلى أن قال: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، ذكره أكثر الأصحاب، قال سَنَدي: سأل رجل أبا عبد الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي؟ فقال: لا تطلقها؛ قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه.

واختار أبو بكر من أصحابنـا أنه يجب، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمـر، ونص أحمـد في روايـة بكر بن محمد عن أبيه إذا أمرته أمه بالطلاق لا يعجبني أن يطلق، لأن حديث ابن عمر في الأب.

ونص أحمد أيضاً في رواية محمد بن موسى أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق طلق إذا كان عدلاً، وقول أحمد رضي الله عنه: لا يعجبني كذا، هل هو يقتضي التحريم أوالكراهة؟ فيه خلاف بين أصحابه، وقد قال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها، قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج.

وقال في رواية جعفر: والذي يحلف بالطلاق انه لا يتزوج أبداً؟ قال: إن أمره أبوه تزوج، قال الشيخ تقي الدين: كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح، كذا قال، أوكأنه مزوَّجاً فحلف أن لا يتزوج أبداً سوى امرأته، وقال في رواية المروذي: إذا كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك، وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها، قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟ قال: نعم؛ قال: لا تبعها، قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أوتبيعها، قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك.

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجباً، أو لأن عليه في ذلك ضرراً، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يخف على نفسه يطيعها في ترك التزويج وفي بيع الأمَة، لأن الفعل حينئذ لا ضرر عليه فيه، لا ديناً ولا دنيا.

وقال أيضاً: قيد أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه، لأن بيع السرية ليس بمكروه، ولا ضرر عليه فيه، فإنه يأخذ الثمن، بخلاف الطلاق، فإنه مضر في الدين والدنيا، وأيضاً فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية)

ما يختص به الوالد في ولده دون غيره

هنالك أمور خص بها الشارع الوالد في ولده دون غيره من الأولياء، من تلك الأمور ما يأتي:

1.   يجوز للوالد تزويج بنته البكر من غير إذنها ورضاها

ولا يجوز ذلك لأحد من الأولياء سوى الأب، لأنه غير متهم في تحقيق ما فيه مصلحتها.

2.   لا يقتاد من أحد الوالدين وإن علا بابنه وإن سفل

لا يقتص من أحد الوالدين بابنه، لأنه ربما نتج القتل بسبب ضربه وتأديبه، قال مالك رحمه الله: إلا إذا تكاه وذبحه ذبح الشاة؛ في هذه الحال يقتاد به لأنه لا مجال للتأويل لظهور التعمد في القتل.

وفرق بعض أهل العلم بين الأب والأم، فقالوا: تقتل الأم بولدها ولا يقتل الأب لأن له الولاية دونها؛ والراجح التسوية بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقتل والد بولده"، ولأن شفقة الأم ورحمتها على ولدها أشد من شفقة الأب.

قال ابن قدامة رحمه الله في شرح ما قاله الخرقي في مختصره: "ولا يقتل والد بولده وإن سفل": (وجملته أن الأب لا يقتل بولده، والجد لا يقتل بولد ولده، وإن نزلت درجته، وسواء في ذلك ولد البنين أوالبنات، وممن نقل عنه أن الولد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال ربيعة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي الأحناف، وقال ابن نافع، وابن عبد الحكم، وابن المنذر: يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص، فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه، كالأجنبيين؛ وقال ابن المنذر: قد رووا في هذا الباب أخباراً؛ وقال مالك: إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أوقتله قتلاً لا يشك في أنه عَمَدَ إلى قتله دون تأديبه، أقيد به؛ ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقتل والد بولده".

إلى أن قال: والجد وإن علا كالأب في هذا، سواء كان من قبل الأب أومن قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب، وقال الحسن بن حيّ: يقتل به؛ ولنا أنه والد، فيدخل في عموم النص.. والجد من قبل الأم كالجد من قبل الأب)

3.   تصرفه في مال ابنه

مما خص به الوالدان دون غيرهما أنه يجوز لهما أن يتصرفا في أموال أبنائهما من غير إسراف ولا إضرار به وبزوجه وأولاده، فلا ضرر ولا ضرار.

ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: إن أبي أخذ مالي- وفي رواية: اجتاح مالي-: "أنت ومالك لأبيك".

وفي ذلك قصة.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله: "وبالوالدين إحساناً الآية: (وقد روينـا بالإسنـاد المتصـل عن جــابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: فائتني بأبيك؛ فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه؛ فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته، أوخالاته، أوعلى نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي؛ قال: قل وأنا أسمع؛ قال: قلت:

غَذَوتُك مولـوداً ومُنْتُك يافعـاً              تُقـلّ بما أجني عليك وتُنْهِـلُ

إذا ليلة ضافتك بالسُّقـم لم أبِتْ             لسقمك إلا سـاهـراً أتملمـلُ

كأني أنا المطروق دونك  بالذي             طُرِقتَ به دوني فعيني تَهْمَـلُ

تخاف الردى نفسي عليك وإنها             لتعلم أن المـوت وقت  مؤجل

فلما بلغتَ السن والغـاية  التي             إليهـا مدى ما كنتُ فيك أؤمل

جعلتَ جزائي غلظة وفظاظـة             كأنك  أنت المنعـم المتفضـل

فليتك إذ لم ترع حـق أبـوتي             فعلتَ كما الجار المصاقب يفعل

فأوليتني حق الجوار ولم   تكن            عليَّ بمــال دون مـالك تبخل

قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه، وقال: "أنت ومالك لأبيك").

4.   لا يحل له أن يشتكيهما لحاكم أوقاضٍ أويتظلم منهما لأحد من الناس

مما خص به الأبوان دون غيرهما أنه لا يحق للابن أن يشكو أحد أبويه ويوقفه في المحاكم ولا أن يتظلم منه عند أحد من الناس وإن ظلماه وتعديا على ماله، أونفسه، أوعياله، أوزوجه، لمنافاة ذلك لبرهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أمسى وأصبح مرضياً لوالديه، أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحداً، ومن أمسى وأصبح مسخطاً لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحداً فواحد؛ فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".

5.   أن يبالغ في مداراتهما ويحذر من مغايظتهما

مما يخص به الأبوان دون غيرهما من الأبناء المبالغة في مداراتهما والحذر من مخاشنتهما والإغلاظ عليهما.

قال ابن أبي زيد رحمه الله: (وسأله أي مالكاً رجل له والدة وأخت وزوجة، قال: فكلما رأت لي شيئاً قالت: أعطِ هذا لأختك؛ فأكثرت عليَّ من هذا، فإن منعتها سبتني ودعت عليًّ؟ قال له مالك: ما أرى أن تغايظها، وتخلص منها بما قدرتَ عليه، وغيِّب عنها ما كان لك؛ قال: أين أخبئه؟ ذلك معي في البيت، قال: أما أنا فما أرى أن تغايظها، وأن تتخلص من سخطها بما قدرتَ عليه.

وذكر عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في بلد السودان، فكتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ قال له مالك: أطع أباك ولا تعصِ أمك؛ وكره أن يأمره بعصيان أمه.

وذكر أن الليث أمره أي هذا السائل بطاعة الأم لأن لها ثلثي البر)

قلت: مالك رحمه الله أمر هذا السائل بمداراة والديه كلاهما، وأبى له أن يغضب أحدهما على حساب الآخر، وطريقة مالك هذه أسلم مما ذهب إليه الليث.

هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي

قال ابن مفلح رحمه الله: (قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؛ وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، ليس الأب كالأجنبي؛ وقال في رواية يعقوب بن يوسف: إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهما وخرج عنهما.

وقال في رواية ابن هاني: إذا كان له أبوان، ولهما كَرْمٌ يعصران عنبه ويجعلانه خمراً يسقونه، يأمرهما وينهاهما، فإن لم يقبلا خرج من عندهما، ولا يأوي معهما؛ ذكره أبو بكر في "زاد المسافر" وذكر المروزي أن رجلاً من أهل حمص سأل أبا عبد الله: أن أباه له كروم يريد أن يعاونه على بيعها؛ قال: إن علمتَ أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.

قال المروذي لأبي عبد الله: فإن كان يرى المنكر ولا يقدر أن يغيره؟ قال: يستأذنها، فإن أذنت له خرج، قال المروذي: سألتُ أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته، يسألني أن أشتري له ثوباً أوأسلم له غزلاً؛ فقال: لا تعنه ولا تشتر له إلا بأمر والدتك، فإن أمرتك فهو أسله، لعلها أن تغضب)

بمَ يكون برُّ الوالدين؟

أولاً: المسلمين

أ. في حياتهما

يكون بر الوالدين المسلمين في حياتمها بالآتي:

1.   طاعتهما في المعروف.

2.   موافقتهما فيما يريدان في غير معصية الله.

3.   الإنفاق عليهما إن كانا محتاجين.

4.   الإحسان والإهداء إليهما إن كانا مكتفين.

5.   عدم التعرض لسبهما.

6.   لا يحدّ النظر إليهما.

7.   لا يمشي أمام أبيه إلا في الظلمة.

8.   ولا يقعد قبله.

9.   لا يدعو أباه باسمه.

10. التكلم معهما بلين وتلطف.

11. عدم رفع الصوت عليهما.

قال البغوي رحمه الله: (سئل الحسن: ما بر الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية.

ثم قال: ألم تعلم أن نظرك في وجوه والديك عبادة، فكيف بالبر بهما؟

وقال عروة بن الزبير: ما برَّ والده من سدَّ الطريق إليه، وقال أبو هريرة لرجل وهو يعظه في بر أبيه: لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه.

وقال ابن محيريز: من مشى بين يدي أبيه فقد عقه إلا أن يميط له الأذى عن الطريق، وإن كناه أوسماه باسمه فقد عقه إلا أن يقول يا أبه)

قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أف ولا تهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً"، قال ابن عباس: لو كان هناك أدنى من الأف لنهى عنه.

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام الفَزَع الرديء الخفي، وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف، والآية أعم من هذا، والأف والتف وسخ الأظفار.

ثم قال: خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاً عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على والديه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المركوه ما يظهره بنَفَسِه المتردد من الضجر، وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب)

ب. بعد وفاتهما

أما بر الأبوين المسلمين بعد وفاتهما فيكون بالآتي:

1.   الدعاء والاستغفار لهما.

2. قضاء ما عليهما من دين لله أوللآدميين مثل أن يحج ويعتمر عنهما إن لم يحجا ويعتمرا، وإخراج الزكاة عنهما إن وجبت عليهما وحال عليها الحول.

3.   تنفيذ وصاياهما.

4.   التصدق عنهما.

5.   صلة أرحامهما.

6.   صلة أهل ودهما.

ثانياً: الكافرين أوالمشركين

أ. في حياتهما

1.   الإحسان إليهما.

2.   الرفق بهما.

3.   وصلهما إن كانا محتاجين.

4.   الدعاء لهما بالهداية.

5.   الاجتهاد في دعوتهما إلى الإسلام وترغيبهما فيه.

6.   يستأذنهما في الخروج إلى السفر ونحوه، وفي استئذانهما للخروج للجهاد قولان.

ب. بعد وفاتهما

1.   لا يدعو ولا يستغفر لهما لنهي الإسلام عن ذلك.

2.   صلة أرحامهما المسلمين خاصة.

فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة

لقد وعد الله البارين بأبائهم وأمهاتهم بالخير الكثير والفضل العميم في الدنيا، والثواب الجزيل والأجر الكبير في الآخرة.

أولاً: ما يناله البار بوالديه في الدنيا

1.   يُنسأ له في أجله - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الأجل.

2.   يُوسَّع له في رزقه - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الرزق.

3.   تُجاب دعوته.

4.   يبره أبناؤه وأحفادُه ويكافئونه.

5.   يحبه أهله وجيرانه.

6.   تدفع عنه ميتة السوء.

7.   يحمده الناس ويشكرونه.

8.   يرضى عنه ربه لرضا والديه عنه.

الأدلة على ذلك

   عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر"

   حديث الثلاثة الذين دخلوا غاراً في جبل فانحطت على فم الغار صخرة فسدته، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها؛ فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي طلب الشجر، فما أتيت حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء؛ ففرج الله لهم حتى يرون السماء.." الحديث

وفي الحديث فوائد، منها:

1.   أن بر الوالدين سبب قوي لإجابة الدعاء.

2. أن التوسل المشروع يكون بالأعمال الصالحة كما يكون بسؤال الله باسم من أسمائه أوصفة من صفاته، أوبطلب الدعاء من الحي الحاضر من غير اعتقاد أنه ينفع ويضر، وما سوى ذلك من التوسل بجاه وذات الأنبياء والصالحين أحياءً وأمواتاً، حاضرين وغائبين، فهو ممنوع محرم.

3.   أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان مخلصاً لله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم: "رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"

وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بر والديه فطوبى له زاد الله في عمره"

ثانياً: فضل وثواب البارّين بوالديهم في الآخرة

1.   البر من أقوى أسباب دخول الجنة.

2.   يدخل الجنة مع أول الداخلين.

3.   مكفر للذنوب.

الأدلة على ذلك

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط باب الجنة، فإن شئتَ فاحفظ الباب أوضيِّع"

وروى أبوبكر بن حفص أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا؛ قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم؛ قال: فبرها"، وروي نحوه عن ابن عمر

وقال مكحول: "بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادراً على البر ما دام في فصيلته من هو أكبر منه"

جزاء الوالدين

لا يستطيع أحد أن يجزي والديه أوأحدهما إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، ولكن الأبناء مطالبون بالإحسان والبر، وليس بالإجزاء، والله يبارك في القليل، ويجزي باليسير كثيراً.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه"

وعن سعيد بن أبي بردة قال: "سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمَّه وراء ظهره يقول:

إني  لهـا بعيرهـــا المــذلل          إن  أذعرت ركابها لم أذعــر

حملتهـا أكثــر مما  حمــلت           فهل ترى جازيتها يا ابن عمـر

ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يجزيك بالقليل كثيراً"

وقد صدق من قال:

لأمك حـق لوعلمـتَ كبيـــر          كثيـرك يا هذا لديه يسيـــر

فكـم ليلةٍ باتت بثقـلك  تشتـكي          لها  من جواهـا أنة وزفيــر

وفي الوضع لو تدري عليك مشقة          ومن ثديها شُرْب لديك نميــر

وكم مرة جاعت وأعطتك قوتهـا           حُنـواً وإشفاقاً وأنت صغيــر

فضيعتها لما أسنت جهـــالـة           وطـال عليك الأمر وهو قصير

فآهاً لذي عقــلٍ ويتبـع الهوى            وواهاً لأعمى القلب وهو بصير

فدونك فارغب في عميم  دعائـها            فأنت لمـا تدعـو إليه فقيــر

ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.

وكان رجل يقبِّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه، فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات

تعريف العقوق

العقوق لغة: من العق، وهو القطع.

العقوق شرعاً: كل فعل أوقول يتأذى به الوالد من ولده ما لم يكن شركاً أومعصية.

قال الحسن البصري وقد سئل: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما، يهجرهما، ويحد النظر إليهما؛ وقال عطاء: لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك؛ وقال عروة بن الزبير: لا تمتنع من شيء أحباه.

حكم العقوق

العقوق حرام ومن أكبر الكبائر.

دليل ذلك

من القرآن قوله تعالى: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ"

ومن السنة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور"

وقد أجمعت الأمة على حرمة العقوق وأنه من الكبائر المتفق عليها.

عقوبة العاق لوالديه

أ. في الدنيا

1.   يضيَّق عليه في رزقه وإن وسِّع عليه فمن باب الاستدراج.

2.  لا يُنسأ له في أجله كما ينسأ للبار لوالديه والواصل لرحمه.

3.  لا يُرفع له عمل يوم الخميس ليلة الجمعة.

4.  لا تفتح أبواب السماء لعمله.

5.  يبغضه الله.

6.  يبغضه أهله وجيرانه.

7.  يخشى عليه من ميتة السوء.

8.  يلعنه الله وملائكته والمؤمنون.

9.  لا يستجاب دعاؤه.

10.  تعجل له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له يوم القيامة.

11.  يعقه أبناؤه وأحفاده.

ب. في الآخرة

1.  لا يدخل الجنة إن كان من الموحدين مع أول الداخلين.

2.  لا ينظر الله إليه وإن دخل الجنة.

قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث"، وفي رواية: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رَغِمَ أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أوأحدهما ثم لم يدخل الجنة"

وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة قاطع"، وفي رواية: "قاطع رحم".

من صور العقوق

العقوق صوره كثيرة، ونماذجه وفيرة، وسنشير إلى بعض تلك الصور، وهي:

1.  السب واللعن.

2.  التبرؤ من والديه.

3.  تقديم الصديق على الأب والزوجة على الأم.

4.  الكذب عليهما.

5.  غيبتهما.

6.  التكبر والترفع عليهما.

7.  التسبب في بكائهما.

8.  عدم طاعتهما في ترك المباحات والمستحبات.

الأدلة على ذلك

  عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؛ قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمه"

  قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بكاء الوالدين من العقوق والكبائر".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات مستجابات لهن، لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولديهما"

أسباب العقوق

لا يقدم على عقوق والديه، ويتجرأ في الإساءة إليهما إلا شقي جاهل، وأسباب العقوق كثيرة، ولكن سنشير إلى بعضها، وهي:

1. الجهل بقدر الوالدين، وبالعقوبة المترتبة على عقوقهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل من عصى الله فهو جاهل؛ ولذلك قيل: من جهل شيئاً عاداه.

2. تفضيل بعض الأبناء وإيثارهم على بعض، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن ذلك نهياً شديداً، وحذر من مغبته، وعندما جاء بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهب لابنه النعمان، قال له: "أكل بنيك منحت هكذا؟" قال: لا؛ قال: "لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري، ألا تحب أن يكونوا لك في البر سواء؟".

3.  التقصير في الإنفاق على الأبناء في الصغر وإهمالهم.

4.  التقصير في حق الأم والميل لإحدى الزوجات على حساب غيرها.

5.  رفقاء السوء.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده"

مما يدل على أهمية العلم في معرفة الحقوق والواجبات على العبد، ومتى يقدم هذا ويؤخر هذا، قصة جريج العابد ودعاء أمه عليه، لأنه قدم التطوع بالصلاة وهي سنة على طاعة والدته، وعدم إجابته لها وهي واجبة - وقد دعته ثلاث مرات، إذ لو كان عالماً لقطع صلاته وأجاب أمه، ثم دخل في صلاته مرة ثانية.

خرج مسلم في مسنده بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كان جريج يتعبد في صومعة، فجعلت أمه قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه فقالت: أنا أمك كلمني؛ فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فرجعت ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني؛ فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى يرى المومسات؛ قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، قال: فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلاماً، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير؛ قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوه فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون دَيْره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه؛ قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن؛ فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني لك ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة؛ قال: لا، ولكن أعيدوه تراباً كما كان؛ ثم علاه".

في هذه القصة من الفوائد والعبر ما يأتي:

1.  تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم الدقيق لأم جريج وهي تنادي ابنها بوضع كفها على حاجبها ورفع رأسها إليه كما تفعل العجائز.

2.  دقة وجودة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه.

3.  إذا تزاحم على الشخص أمران قدم الأهم ثم المهم، وقدم الواجب على الندب.

4.  تحذير الوالدين من استعجال الدعاء على الأبناء.

5.  أن العلم مقدم على العمل.

6.  أن عقوبة العقوق تعجل، مع ما يُدخر للعاق في الآخرة.

7. ما دعت به أم جريج على جريج بأن لا يموت حتى يرى المومسات - وهن الزواني مصيب لكل المشاهدين للفنانات، والممثلات، والنساء الكاسيات العاريات، فهن في حكم الزواني لتبرجهن، وسفورهن، وفتنتهن لعباد الله.

قال الإمام النووي معلقاً على قصة جريج هذه: (فيه أي في الباب قصة جريج رضي الله عنه، وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، وقال العلماء هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها، لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته، فلعله خشي أنها تدعوه لمفارقة صومعته والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه)

قلت: كانت هذه هي العقوبة بسبب عدم إجابته لأمه وهو في حال عبادة وتقرب إلى الله عز وجل، فكيف تكون عقوبة من يدعوه أحد والديه وهو مرتكب لحرام أومكروه ولا يجيب؟ فكثير من الأبناء قد يدعوهم أحد الأبوين ويكون وهو يشاهد مسلسلاً، أويلعب "بالكتشينة" "الورق"، أويلعب كرة، أووهو يقرأ، أويكون جالساً مع صديقه، ونحو ذلك، ولا يتردد مجرد تردد كما تردد جريج في إجابة أمه أم الاستمرار في صلاته.

على الأبناء أن يتقوا الله في أنفسهم وفي والديهم، وليعلموا أنهم ليسوا أعز على الله من جريج، ذلكم العابد الناسك، حيث عجَّل الله له العقوبة لصالحه، ولكن كثيراً من الأبناء والبنات قد تؤخر عنهم العقوبة استدراجاً لهم لشدة غفلتهم وعظيم جريمتهم، لأن بعض الأخيار قد يطهره الله من الذنوب والآثام في الدنيا، ويمحصهم بشيء من الابتلاءات، ولهذا جاء في الخبر: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل والأمثل"، وهذا مصداق قوله عز وجل: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً".

لقد ورد في حديث قال الترمذي غريب، عن أبي هريرة يرفعه: "إذا اتخِذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير العلم، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة، وخسفاً، ومسخاً، وقذفاً، وآيات تتابع كنظام بالٍ قطع سلكه فتتابع"، الشاهد فيه التحذير من طاعة الزوجة على حساب بر الأم، وإدناء الصديق وإقصاء الأب، وعد ذلك من علامات الساعة المنذرة بنهاية الدنيا وظهور الشرور.

قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان صخر بن الشريد أخو الخنساء خرج في غزوة فقاتل فيها قتالاً شديداً، فأصابه جرح رغيب، فمرض، فطال به مرضه وعاده قومه، فقال عائد من عواده يوماً لامرأته سلمى: كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حياً فيُرجى، ولا ميتاً فينسى؛ فسمع صخر كلامها فشق عليه، وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا؟ قالت: نعم، غير معتذرة إليك؛ ثم قال آخر لأمه: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحاً، ولا يزال بحمد الله بخير ما رأينا سواده بيننا؛ فقال صخر:

أرى أمَّ صخر ما تمـل عيادتي             وملت سليمى مضجعي ومكاني

وما كنتُ أخشى أن أكون جنازة            عليك ومن يغتـر بالحدثـان؟

فأي امرئ سـاوى بأمٍ  حليلـة             فلا عـاش إلا في أذى و هوان

أهم بأمر الحـزم  لـو أستطيعه            وقـد حيـلَ بين العَيْر والنزوان

لعمري قد أنبهت من كان نائمـاً             وأسمعت من كانــت له أذنان

فلما أفاق عَمَدَ إلى سلمى فعلقها بعمود الفسطاط حتى فاضت نفسها، ثم نكس من طعنته فمات)

نماذج للأبناء البررة

سنورد في هذه الصفحات بعض النماذج الحية والصور النادرة لبر الوالدين والإحسان إليهما، عسى أن تكون شاحذاً ودافعاً للأخيار، ومذكراً ومنبهاً للمقصرين والعاقين لآبائهم، فالاقتداء بالسلف الصالح هو سبيل المهتدين، وطريق العقلاء الكيسين من المؤمنين، فنقول وبالله التوفيق:

1.   سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم

يتجلى بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوالديه، وعمه، وزوجه خديجة بعد وفاتها، وبقومه في أحسن صوره في حرصه على هداية الأحياء منهم الذين أدركوا الإسلام، وفي سؤاله لربه أن يستغفر لأمه، فلم يجبه ربه لذلك، ولكن عندما سأله أن يزور قبرها أذن له في ذلك، فزار قبرها.

قال تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم"

خرج مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله"؛ فقال أبوجهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب؛ وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"؛ فأنزل الله عز وجل: "ما كان للنبي..." الآية، وأنزل الله في أبي طالب لرسوله صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين".

قال القرطبي: (هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين)

2.   سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنت باراً بأمي، فأسلمتُ، فقالت: لتدعنَّ دينك، أولا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي، ويقال: يا قاتل أمه؛ وبقيت يوماً ويوماً، فقلت: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي؛ فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون")

وكذلك نزلت فيه آية لقمان: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُّه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون".

قال القرطبي: (وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها)

3.   حارثة بن النعمان رضي الله عنه

ممن اشتهروا ببر الأبوين الصحابي البدري الجليل، فقد نال ببره لأمه الدرجات العلا، وشهد له بذلك رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعتُ فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر"، قالت عائشة: وكان باراً بأمه

4.   عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الصحابي الجليل رضي الله عنه

كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه عبد الله رأس النفاق قبل الإسلام، وعندما تظاهر أبوه بالإسلام كان عبد الله حريصاً على هداية أبيه، ولكن أبى الله ذلك.

من بره بأبيه بجانب ما سبق ذكره كما قال ابن عمر: جاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له؛ فأعطاه قميصه، وقال: "إذا فرغتم فآذنوني"، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا بين خيرتين، استغفر لهم أولا تستغفر لهم"، فصلى عليه، فأنزل الله عز وجل: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً"، فترك الصلاة عليهم.

قـال أبو عمـر: (كان رسـول الله صلى الله عليه وسلم يثني على عبد الله بن عبد الله بن أبيّ هذا، واستشهد عبدالله بن عبدالله بن أبيّ يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق سنة12ﻫ، وروت عنه عائشة)

5.   أبو هريرة رضي الله عنه

كان من البارين بأمهاتهم المحسنين إليهن.

عن أبي مُرَّوة مولى عقيل: "أن أبا هريرة كان يستخلفه - مروان على المدينة - وكان يكون بذي الحليفة، وكانت أمه في بيت وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: السلام عليك يا أمتها ورحمة الله وبركاته؛ فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته؛ فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً؛ فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً؛ ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله"

6.   عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

كان عبد الله بن عمر من عباد الله المتقين، ومن الصحابة المتميزين، ومن الأبناء البارين بآبائهم في الحياة وبعد الممات، ومن ذلك بره وإحسانه لبدوي كان أبوه من أصحاب عمر رضي الله عنه.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبر البر أن يصل الرجلُ وُدَّ أبيه".

وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه".

وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروَّح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة، وقال اشدد بها رأسك؛ فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي حماراً كنت تروَّح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولى"، وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه

7.   أويس القرني رحمه الله

أويس القرني سيد التابعين منعه من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بره بأمه، فعوضه الله عما فقده من الهجرة أن كان مجاب الدعاء والاستغفار.

عن أسير بن جابر قال: "كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم؛ قال: من مراد ثم من قَرَن؟ قال: نعم؛ قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم؛ قال: ألك والدة؟ قال: نعم؛ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قَرَن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي؛ قال: فاستغفر له؛ فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة؛ قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؛ قال: أكون في غُبُرَّات الناس أحب إلي؛ قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رث الهيئة، قليل المتاع.

فأخبره عمر بحاله، فعندما رجع إلى الكوفة قال لأويس: استغفر لي؛ قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم؛ فاستغفر له، قال: ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسوته بردة، وكان كل من رآه قال: من أين لأويس هذه البردة"

8.   محمد بن سيرين رحمه الله

من الأبناء البررة كذلك الإمام محمد بن سيرين التابعي الجليل، والمعبِّر القدير.

روى الذهبي في ترجمته عن هشام بن حسان قال: (حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها)

9.   عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رحمه الله

كان من أبر أهل زمانه ومن أتقاهم رحمه الله.

قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان لعمر بن عبد العزيز أربعة عشر ابناً، منهم عبد الملك الولد الصالح ابن الصالح، كان من أعبد الناس، توفي في خلافة أبيه وهو ابن سبعة عشرة سنة وستة أشهر، وكان أحد المشيرين على عمر بمصالح رعيته، والمعينين له على الاهتمام بمصالح الناس، وكان وزيراً صالحاً وبطانة خير رحمه الله، وكان أبر أهل عصره بوالده، أومن أبرهم، وله مناقب مشهورة)

10.   محمد بن المنكدر رحمه الله

قال: "بتُّ أغمز رجلي أمي، وبات عمي يصلي ليلته، فما سرني ليلته بليلتي".

11.   قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما ردَّ الله عقوبة سليمان عن الهدهد لبره لأمه".

نماذج للأبناء العاقين

سنعرض في مقابل الأبناء البررة نماذج من الأبناء العاقين حتى تكتمل الصورة، ويتضح الفرق بين الصنفين، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فلولا وجود الكفر والشرك لما عُرفت قيمة الإيمان، ولولا وجود الأشرار لما عُرف فضل الأخيار.

1.   الذي قال لوالديه أفٍّ لكما

يمثل العقوق أصدق تمثيل ما حكاه لنا القرآن على لسان ذلك الابن الكافر العاق لوالديه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين. أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين"

قال الحسن وقتادة: (هي نعت عبد كافر عاق لوالديه)

وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وقد كان أبوه يدعوه إلى الإسلام فلا يجيبه، وقيل نزلت في أخيه عبد الرحمن، ولا يصح ذلك، وقد كذبت ذلك عائشة رضي الله عنها ونفته نفياً قاطعاً.

خرَّج ابن كثير بسنده إلى ابن أبي حاتم قال: (أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان، فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلف فقد استخلف أبوبكر عمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده؛ فقال مروان: ألستَ الذي قال لوالديه أفٍّ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبتَ ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان؛ ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف.

وفي رواية للنسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه، قال مروان: سنة أبي بكروعمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر؛ فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما" الآية؛ فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضفض من لعنة الله)

2. يحكى أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان والده صالحاً ذا دين وخلق، كثيراً ما يعظه ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألحَّ عليه زاد في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم ألحَّ على ابنه بالنصح كعادته، فمدَّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده، فخرج إلى البيت الحرام وتعلق بأستار الكعبة، وأنشأ يقول:

يا من إليه الحجاج قد  قطعـوا          عَرْضَ المهامة من قرب ومن بعد

إني أتيتك يـا من لا يخيِّب من           يدعـوه مبتهـلاً بالواحد الصمـد

هذا مُنُـازلُ لا يرتد  من عققي          فخذ  بحقي يا رحمن من  ولـدي

وشلَّ منه بحـول منك جـانبه           يا من تقدس لم يولــد و لم يلـد

فاستجاب الله دعاءه فشلَّ شق ولده الأيمن في الحال.

3. وحُكي أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة، وكان يتمنى أن يرزق ولداً وينذر عليه النذور، فولد له وسرَّ به، وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إلى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد، وقد أحسن إليه غاية الإحسان، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره، فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة، فقال الشيخ وهو يضطرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله؛ أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان، وأراد بالاستغفار أن الله حذره فلم يحذر من ابنه بقوله: "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ، فجمع في هذه الكلمات كل ما يحتاج إليه في هذه الحال.

4. ورد في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم" عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت بالمدينة وبقيتها مكية في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده.

وعن عطاء بن يسار: كان أي عوف ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؛ فيرق فيقيم.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.

قال القرطبي: (كما أن الرجل يكون ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، وعموم قوله: "من أزواجكم" يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية.

ثم قال: قال الحسن في قوله "إن من أزواجكم": أدخل من للتبعيض لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر "من" في قوله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما)

5. من العقوق البيِّن الواضح تصرف بعض الأبناء الغلاة الجفاة مع آبائهم وأمهاتهم، ومخاشنتهم لهم، والغلظة عليهم، ثم هجرهم وتكفيرهم في نهاية المطاف.

الواجب على هؤلاء أن يتلطفوا ويرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وذوي أرحامهم، وأن يتأسوا بالأنبياء والرسل في صنيعهم مع آبائهم وذويهم من الكفار، فقد سلكوا معهم شتى السبل، وسألوا الله نجاتهم، فنوح عليه السلام: "ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِِ ما ليس لك به علمإني أعظك أن تكون من الجاهلين، ولم ييأس من ابنه ولم يتوقف عن دعوته حتى بعدما ركب السفينة، قال له: "يا بنيَّ اركب معنا".

وهاهو إبراهيم أبو الأنبياء وإمام الأتقياء لم يتبرَّأ من أبيه وقومه إلا بعد أن بذل معهم كل مجهود، وداراهم وناظرهم، بل إن أباه كان يلزمه في أول نشأته أن يبيع له مع إخوته الأصنام التي كان يصنعها، فكان إبراهيم عليه السلام يأخذها ويخرج، وينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم، ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي.

وها هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم ييأس من عمه إلى ساعة الاحتضار، وسأل ربه أن يستغفر لأمه، فأبى، ثم سأله أن يزورها فأذن له في ذلك.

ما يفعله هؤلاء منافٍ للدين، والعقل، والعرف، إذ أن أمر الوالدين حتى في الأمر والنهي يختلف عن أمر الآخرين، وإن كان الرفق مطلوباً مع جميع الخلق، فما دخل في شيء إلا زانه، فهو مع الوالدين من باب أولى وبالأحرى، حتى إذا يئس منهم اعتزلهم بالحسنى، ورحم الله أبا داود صاحب السنن عندما سئل هل يروي عن أبيه، فقال للسائل: سل عن هذا غيري؛ فأصرَّ عليه، فقال: إنه الدين، لا تروِ عنه.

ولله در ابن عمر عندما سئل عن الخوارج، وقيل له: ما تقول في فتية شببة، ظراف، نظاف، وذكِر له من اجتهادهم في العبادة، ثم قيل له: ولكن يكفِّر بعضهم بعضاً؛ قال: ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً.

فالتكفير بالذنوب والمعاصي من غير استحلال من علامات أهل الأهواء، وعلامة على قلة العلم والفقه في الدين، وعلى دناءة الأخلاق وفساد الاعتقاد.

المراجع

   الآداب الشرعية لابن مفلح.

   إحياء علوم الدين للإمام الغزالي.

   الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.

   بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس لأبي عمر يوسف بن عبد البر (368-463ﻫ) تحقيق محمد مرسى الخولي.

   تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي.

   الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي.

   رياض الصالحين للإمام النووي.

   حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة، لصديق حسن خان.

   فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.

   فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري تأليف فضل الله الجيلاني طبع دار الفكر.

   كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386هـ، حققه وعلق عليه محمد أبو الأجفان عثمان بطيخ طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1403ﻫ.

   شرح السنة للإمام أبي الحسن محمد بن مسعود البغوي (436-516ﻫ) تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى.

   موارد الظمآن لدروس الزمان لعبد العزيز المحمد السليمان، الطبعة الحادية عشرة 1402ﻫ.

0000000000000000000000

التحية بالقُبَل من المنكرات المحرمات

تحية الإسلام السَّلام، والمصافحة، والمعانقة، في بعض الأحيان

أولاً: تحية الإسلام السلام

يسلم الرجالُ على الرجال والنساءُ على النساء

متى يجوز سلام الرجل على المرأة أوالعكس بالتلفظ ومتى لا يجوز؟

ثانياً: المصافحة

أدلة مشروعية المصافحة لغير الأجانب

أدلة تحريم مصافحة الأجانب

ثالثاً: المعانقة

رابعاً: التقبيل

1. التقبيل الممنوع

2. التقبيل الجائز وأدلته

أ. تقبيل الأطفال الصغار

ب. تقبيل الرجل ولده وبنته الكبيرين

ج. تقبيل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم

د. تقبيل يد ورأس العلماء، والكبراء، وأهل الفضل والصلاح من الرجال

ﻫ . تقبيل ومعانقة المودَّع والقادم من سفر

و. تقبيل الميت الصالح في رأسه وجبهته

خامساً: القيام للسلام

سادساً: الانحناء

 

الحمد لله الذي لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدىً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك"، ورضي الله عن سلمان بن الإسلام الذي قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة وآداب قضاء الحاجة".

على الرغم من ذلك فإننا نجد طوائف من المسلمين لم يسعهم ما وسع سلفهم الصالحين، فهم لا يزالون مولعين بالابتداع في الدين، وبالتشبه بالمغضوب عليهم والضالين.

فما من يوم يمر بل ولا ساعة إلا ونرى فيها ما كنا ننكر، بغياب سنة وظهور بدعة.

من تلك المصائب ما ابتدعته بعض البنات واخترعنه في الجامعات وخارجها، مقلدات فيه وناقلات لما يشاهدنه في المسلسات الهابطات، والمواقع الساقطات، والعادات الوافدات، وهي التحية بالقبلات، حيث تحيي إحداهن صاحبتها أوزميلتها بوضع فمها في فمها، وليت الأمر اقتصر على البنات، على الرغم من حرمته ونكارته وشناعته، بل قاسمهن في ذلك بعض الشباب والرجال، حيث أصبح البنات يحيين الرجال والنساء بتلك التحية المحرمة.

أولاً: تحية الإسلام السلام

معلوم أن تحية الإسلام السلام، في الدنيا والآخرة، كما أخبر ربنا: "وتحيتهم فيها سلام"، وصيغته: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، والرد كذلك، سواء كان المسلِّم أوالمسلَّم عليه فرداً أوجماعة فيأتي بصيغة الجمع.

وقد صحَّ أن الله لما خلق آدم عليه السلام قال له: "اذهب فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك؛ فقال: السلام عليكم؛ فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله".

يسلم الرجالُ على الرجال والنساءُ على النساء

يسلم الرجال على الرجل أوالرجال مستوري الحال ممن لم يشتهروا ببدعة أوفسق، أما المجاهر ببدعة وفسق فلا يسلَّم عليه، وإن سلَّم لا يرد عليه، وكذلك النساء مع النساء، تسلم المرأة الواحدة على المرأة وعلى جماعة النساء بالتلفظ والإشارة، ويجب على المسلَّم عليه الرد.

متى يجوز سلام الرجل على المرأة أوالعكس بالتلفظ ومتى لا يجوز؟

   يجوز لكل من الرجال والنساء السلام على محارمهم.

   يسلم الرجل على المرأة العجوز التي لا يفتتن بها، وتسلم هي كذلك على الشيخ إذا أمنت الفتنة.

   يجوز للرجل الواحد أن يسلم على جماعة النساء، وكذلك للمرأة الواحدة أن تسلم على جماعة الرجال إذا أمنت الفتنة.

   لا يجوز  للرجل الواحد أن يسلم على المرأة الواحدة في الطريق خاصة، ولا أن تبدأ المرأة الرجل الواحد بالسلام في الطريق.

قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك: أيُسَلَّمُ على النساء؟ قال: أما المتجالة فلا أكرهه، وأما الشابة فلا أحبه).

قال الإمام النووي: (اعلم أن الرجل المسلم الذي ليس مشهوراً بفسق ولا بدعة يسلِّم ويسلَّم عليه، فيسن له السلام ويجب الرد عليه، قال أصحابنا: والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، وأما المرأة مع الرجل فقال الإمام أبو سعد المتولي: إن كانت زوجته، أوجاريته، أومحرماً من محارمه فهي معه كالرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه، وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، إن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل السلام عليها، وإذا كانت النساء جميعاً فيسلم عليهن الرجل، أوكان الرجال كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه أوعليهن الفتنة).

وقال القرطبي: (وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أوخائنة، وأما المتجالات والعُجْز فحسن للأمن فيما ذكرناه، هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء، ومنع منه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم، وقالوا لما سقط عن النساء الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة في الصلاة، سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن والصحيح الأول).

دليل جواز سلام الرجال على المتجالات ما خرجه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كانت لنا عجوز.. فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها".

وكذلك ما رواه الترمذي وحسنه عن أسماء بنت يزيد: "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا".

قال ابن حجر: (قال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سداً للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقاً، وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال، فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة).

وقال معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: (بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء، فقال: ما كان الرجال يسلمون على النساء، إنما النساء يسلمن على الرجال، وقال منصور عن إبراهيم: كانوا يسلمون على النساء).

ثانياً: المصافحة

حكمها

مستحبة لمن تجوز لك مصافحتهم، هذا ما عليه عامة أهل العلم، وقد كرهها مالك في رواية عنه.

من تجوز مصافحتهم

1.   الرجل للرجل.

2.   المرأة للمرأة.

3.   لمحارم كل من الرجل والمرأة.

من لا تجوز مصافحتهم

1. النساء الأجنيات، فلا يجوز لأجنبي أن يصافح أجنبية، سواء كانت أمينة سر - ويحرم على الرجل أن يتخذ أمينة سر من النساء - أوزميلة دراسة، أوعمل، أوجارة.

2.  الشاب الأمرد.

أدلة مشروعية المصافحة لغير الأجانب

1.  عن قتادة قال: قلت لأنس: "أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم".

2.  وعن عبد الله بن هشـام رضي الله عنه قـال: "كنـا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب".

3. وعن أنس رضي الله عنه قال: "قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أوصديقه أينحني له؟ قال: لا؛ قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا؛ قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم".

4. وصح من حديث كعب بن مالك في توبته قال: "فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول، حتى صافحني وهنأني".

5. وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما جاء أهل اليمن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة".

6.  وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا".

7. وأخرج مالك في موطئه من مراسيل عطاء الخرساني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء".

أدلة تحريم مصافحة الأجانب

أدلة تحريم مصافحة الأجانب رجالاً ونساءً صحيحة، وصريحة، ومفزعة، منها:

1.  عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لا والله ما مست يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قط، غير أنه بايعنه بالكلام".

2. وفي رواية عنها: "والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كفُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاماً".

3. وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً؛ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبـايعـة".

4. وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن "أن لا يشركن بالله شيئاً" الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن؛ قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا؛ قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة".

5. وعن معقل بن يسار رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة أجنبية".

امتناعه صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء الأجانب في البيعة وهي مظنة المصاحفة دل على تأكيد حرمتها فيما سوى البيعة، وهذا الحكم ليس من خصائصه كما يزعم البعض، لأن خصائصه صلى الله عليه وسلم معلومة ومعروفة، وقد وضحها العلماء.

أقوال العلماء في المصافحة المستحبة والمحرمة

قال ابن أبي زيد القيرواني: (وسئل مالك عن المصافحة؟ قال: إن الناس ليفعلون ذلك، وأما أنا فما أفعله.

ثم قال: وروي عنه في المصافحة غير هذا، أنه صافح سفيان بن عيينة).

وقال الإمام النووي: (واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له.

إلى أن قال:

وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه، فإن النظر إليه حرام كما قدمنا في الفصل الذي قبل هذا، وقد قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ونحو ذلك، ولا يجوز مسها؛ ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه، والدعاء بالمغفرة، وغيرها).

قال ابن حجر: (قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته.

إلى أن قال: ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية، والأمرد الحسن.

وقال: قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازها جماعة العلماء سلفاً وخلفاً).

وقال البغـوي في شرح السنـة: (وقال عبد الله بن مسعــود: من تمـام التحيـة المصـافحـة؛ وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه).

ثالثاً: المعانقة

1.  المعانقة من غير شهوة

المعانقة لمن قدم من سفر

ذهب أهل العلم في مشروعية المعانقة واستحبابها أوكراهيتها مذهبين، هما:

أ. المعانقة للقادم من السفر مشروعة ومستحبة، ودليلها:

   معانقة  الرسول صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب عندما رجع من الحبشة.

   وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فابتعتُ بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتى قدمتُ الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول، فقال: جابر بن عبدالله؟ فقلت: نعم؛ فخرج فاعتنقني".

   وعن أنس رضي الله عنه: "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا".

   وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "ما لقيته أي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صافحني، وبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ولم أكن في أهلي، فلما جئت فأخبرت أنه أرسل إليَّ فأتيته، وهو على سرير فالتزمني، فكانت تلك أجود أجود".

   وقد عانق الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة حين رجع من قتال بني فزارة.

وهذا مذهب سفيان بن عيينة ومن وافقه، وهو الراجح للأدلة السابق.

ب. المعانقة للقادم من السفر غير مشروعـة، وهذا مذهب مـالك بن أنـس ومن وافقه، وعد معانقة جعفر بن أبي طالب وغيره من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولا دليل على ذلك.

2.  المعانقة بشهوة

وهي حرام، سواء كان المعانق من ذوي المحارم أومن غيرهم.

3.  المعانقة للمرأة الأجنبية وللأمرد الحسن الوجه

محرمة.

أقوال أهل العلم في المعانقة

روى ابن أبي زيد عن مالك بعدما صافح سفيان بن عيينة: (قال له: لولا أنها بدعة لعانقتك؛ فاحتج عليه سفيان بمعانقة النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر حين قدم من أرض الحبشة، فقال مالك: كان ذلك خاصاً لجعفر؛ ورآه سفيان عاماً، وأجاز مالك في رسالته لهارون الرشيد أن يعانق قريبه يقدم من سفر، وقيل: إن هذه الرسالة لم تثبت لمالك).

وقال ابن حجر: (قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة، ثم ساق قصتها، قال: استأذن ابن عيينة على مالك فأذن له، فقال: السلام عليكم؛ فردوا عليه، ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته؛ فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته؛ ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك؛ قال: قد عانق من هو خير منك؛ قال: جعفر؟ قال: نعم؛ قال: ذاك خاص؛ قال: ما عمه يعمنا؛ الحديث.

قال الذهبي في "الميزان": هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم، قلت: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد).

وقال النووي في الأذكار: (وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير الطفل ولغير القادم من سفر ونحوه فمكروهان، نص على كراهيتهما أبو محمد البغوي، إلى أن قال: وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة، وأنه لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، فأما الأمرد الحسن فيحرم بكل حال تقبيله، سواء قدم من سفر أم لا؛ والظاهر أن معانقته كتقبيله، أوقريبة من تقبيله؛ وقال ابن أبي زيد: (وكره مالك معانقة الرجل الرجلَ وقال: قال الله: "تحيتهم فيها سلام).

وقال العلامة فضل الله الجيلاني: (والمكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة، فأما على وجه البر والكرامة إذا كان عليه قميص واحد فلا بأس به، وعليه يحمل حديث أنس أخرجه الترمذي في المصافحة وحديث أبي ريحانة شمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المكاعمة والمكامعة، فالمكاعمة المعانقة، والمكامعة التقبيل بشهوة).

وقال البغوي: (وكره قوم المعانقة، ورخص فيها قوم، قال أبو هريرة: جاء الحسن بن علي فالتزمه رسول الله).

رابعاً: التقبيل

من يجوز لهم التقبيل، ولمن، وفي أي موضع من الجسم

هذه المسألة هي الدافعة لكتابة هذا البحث، وفيها تفصيل، منه ما هو جائز مشروع، ومنه ما هو ممنوع.

1.  التقبيل الممنوع

   التقبيل بشهوة في أي موضع من الجسم لذوي المحارم وغيرهم على النساء والرجال.

   تقبيل المرأة الأجنبية.

   تقبيل الصبي الأمرد حسناً كان أم قبيحاً.

   تقبيل حالق اللحية.

   التقبيل لغرض دنيوي لمال أوجاه أوشوكة، وهو ما كان على وجه الملق.

   في الحضر.

   التقبيل في الفم، سواء كان بين النساء بعضهم لبعض، أوبين الرجال، أوبين النساء والرجال.

2.   التقبيل الجائز وأدلته

ويكون في الرأس، والخد، واليد، والجبهة.

أ. تقبيل الأطفال الصغار

ذكوراً كانوا أم إناثاً، كانوا له أولغيره، للرجال والنساء، وشمهم مالم يكن بشهوة، أومن عائن.

وإليك الأدلة:

   عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد، ما قبلتُ منهم أحداً؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم".

   وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم؛ قالوا: لكنا والله ما نقبل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوأملك إن كان الله تعالى نزع منكم الرحمة؟".

   وعن أنس رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم فقبله وشمه".

   وعن إياس بن دغفل قال: "رأيت أبا نضرة قبَّل خد الحسن بن علي رضي الله عنهما".

قال النووي: (أما تقبيل الرجل خد ولده الصغير، وأخيه، وقبلة غير خده وأطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة والتلطف ومحبة القرابة فسنة، والأحاديث فيه كثيرة صحيحة مشهورة، وسواء الولد الذكر والأنثى، وكذلك قبلته ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال، على هذا الوجه، وأما التقبيل بالشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام بالاتفاق على القريب والأجنبي).

ب. تقبيل الرجل ولده وبنته الكبيرين

كذلك يجوز للرجل تقبيل ولده وبنته الكبيرين في الرأس والجبهة والخد، وإليك الأدلة:

  تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيتُ أحداً أشبه حديثاً ولا كلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فرحب بها، وقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فرحبت وقبلته وأجلسته، فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فرحب بها وقبلها".

  تقبيل أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما

عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "دخلتُ مع أبي بكر رضي الله عنه أول ما قدم المدينة، فإذا عائشة ابنته رضي الله عنها مضطجعة قد أصابتها حمى، فأتاها أبو بكر، فقال: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها".

  تقبيل ابن عمر رضي الله عنهما لولده سالماً

كان ابن عمر يقبل ولده سالماً ويقول: شيخ يقبل شيخاً؛ وفي رواية: اعجبوا من شيخ يقبل شيخاً.

ج. تقبيل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم

من التقبيل المشروع تقبيل الأبناء والبنات الكبار والصغار لآبائهم وأمهاتهم، فقد مر أن فاطمة رضي الله عنها كانت تبادر وتقبل أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

د. تقبيل يد ورأس العلماء، والكبراء، وأهل الفضل والصلاح من الرجال

كذلك يجوز تقبيل يد ورأس العالم، والصالح، والحاكم العادل، والأعمام، والأخوال، والقرابات، وذي الشيبة المسلم، من غير اعتقاد أنه ينفع أو يضر.

أنكر التقبيل مالك، وأجازه طائفة من أهل العلم.

وإليك الأدلة:

   عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: "اذهب بنا إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكر الحديث إلى قوله: قبلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي".

   عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهم لما رجعوا من الغزو حين فروا قالوا: نحن الفرارون؛ فقال: بل أنتم العكارون، أنا فئة المؤمنين؛ قال: فقبلنا يده".

   قبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصـاحبـاه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تـاب الله عليـهـم.

   وقبل أبو عبيدة يد عمر حين قدم الشام.

   وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه.

قال الحافظ ابن حجر: وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءاً في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً، فمن جيدها:

   حديث الزارع العبدي، وكان في وفد عبد القيس، قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" أخرجه أبو داود.

   ومن حديث مزيدة العصري مثله.

   ومن حديث أسامة بن شريك قال: "قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده"، وسنده قوي.

   ومن حديث جابر: "أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده".

   ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة، فقال: "يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك؛ فأذن له".

   وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين قـال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها".

   وعن ثابت أنه قبل يد أنس.

   وأخرج أيضاً أن علياً قبل يد العباس ورجله.

   وقال أبو مالك الأشجعي: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فناولنيها فقبلتها.

   وقال النووي: إن سهل بن عبد الله التُّسْتَري كان يأتي أبا داود السجستاني، ويقول: "أخرج لي لسانك الذي تحدث به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبله فيقبله".

   وقال الإمام مسلم لشيخه البخاري رحمهما الله: "دعني أقبل رجليك - بعد أن قبل يده ورأسه يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".

أقوال العلماء في تقبيل اليد والرأس لأهل العلم والفضل والصلاح

لا شك أن تقبيل يد ورأس أهل العلم والفضل والصلاح من العلماء، والحكام الأخيار، والأكابر جائز، أما الممنوع المنهي عنه فهو التقبيل لأحد سببين:

1.  الاعتقادات الشركية الفاسدة.

2.  الملق والأغراض الدنيوية.

قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن أورد عدداً من الآثار لجواز تقبيل يد العلماء والفضلاء: (وأفعال السلف في هذا الباب أكثر من أن تحصر، والله أعلم).

وقال الحافظ ابن حجر: (قال ابن بطال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد، فأنكره مالك وأنكر ما روي فيه، وأجازه آخرون).

ثم دلل على ذلك، إلى أن قال:

قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه الكبر والتعظيم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه، أولعلمه، أولشرفه، فإن ذلك جائز).

وقال النووي: (إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده، وصلاحه، أوعلمه، وشرفه، وصيانته، أونحو ذلك من الأمور الدينية لم يكره بل يستحب، وإن كان لغناه، ودنياه، وثروته، وشوكته، ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام).

وقال ابن أبي زيد القيرواني: (وسئل مالك عن الرجل يقبل يد الوالي أورأسه، والمولى يفعل ذلك بسيده؟ قال: ليس ذلك من عمل الناس، وهو من عمل الأعاجم.

قيل: فيقبل رأس أبيه؟ قال: أرجو أن يكون خفيفاً.

وسئل في رواية أخرى : هل يقبل يد أبيه أوعمه؟ قال: لا أرى أن يفعل، وإن من العبرة أن من مضى لم يكن يفعل).

مما يدل على إنكار مالك للآثار المجيزة للتقبيل ما رواه ابن أبي زيد كذلك: (قيـل أي لمالك -: كان ابن عمر إذا قدم من سفر قبل سالماً، وقال: شيخ يقبل شيخاً؛ فأنكر الحديث، وقال: لا نتحدث بمثل هذه الأحاديث، لا تهلكوا فيها).

وقال البغوي: (قال حميد بن زنجويه: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المعانقة والتقبيل، وجاء أنه عانق جعفر بن أبي طالب وقبله عند قدومه من أرض الحبشة، وأمكن من يده حتى قبلت، وفعل ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بمختلف، ولكل وجه عندنا، فأما المكروه من المعانقة والتقبيل فما كان على وجه الملق والتعظيم، وفي الحضر، فأما المأذون فيه فعند التوديع، وعند القدوم من السفر، وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله، ومن قبل فلا يقبل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة، وإنما كُره ذلك في الحضر فيما يُرى لأنه يكثر ولا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض وجد عليه الذين تركهم، وظنوا أنه قد قصر في حقهم، وآثر عليهم، وتمام التحية المصافحة).

وقال فضل الله الجيلاني: (لا بأس بتقبيل يد العالم، والمتورع، والحاكم المتدين، والسلطان العادل، وتقبيل رأسه أجود، أي أكثر ثواباً، ولا رخصة فيه لغير عالم وعادل.

وفي "المحيط" إن كان التعظيم لإسلامه وإكرامه جاز، وإن كان لنيل الدنيا كره أوحرم بحسبه، والتقبيل على سبيل البر بلا شهوة جائز بالإجماع، وتقبيل يد نفسه إذا لقي غيره فهو مكروه ولا رخصة فيه.

أما تقبيل يد إنسان ليس عالماً ولا صالحاً ولا عادلاً ولا ممن يرجى صلاحه فمكروه بالإجمـاع).

ﻫ . تقبيل ومعانقة المودَّع والقادم من سفر

من الحالات التي يجوز فيها التقبيل وبالأحرى المعانقة والالتزام عند وداع المسافر وعند استقباله.

فيجوز للرجال أن يفعلوا ذلك بالرجال، وبمحارمهم من النسب، وكذلك يجوز للنساء أن يفعلن ذلك مع النساء وبمحارمهن من النسب.

وإليك الأدلة:

   عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه".

   وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقـام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عُرياناً يجر ثوبـه فاعتنقـه وقبله".

   وعن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فاعتنقه وقبله.

أقوال العلماء

قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك: أرأيت من قدم من سفر فتلقاه ابنته أوأخته فتقبله؟ قال: لا بأس بذلك؛ وقال أيضاً: لا بأس أن يقبل خد ابنته؛ قيل: أفترى أن تقبله ختنته، أوتعانقه وهي متجالة؟ فكره ذلك.. وكره معانقة الرجل للرجل.

وقال مالك: لا بأس أن يقبل الرجلُ خد ابنته إذا قدم من سفره.

وقال: ويقال من تعظيم الله تعالى تعظيم ذي الشيبة المسلم).

وقال النووي: (وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة أنه لا بأس به عند القدوم من السفر ونحوه ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، وأما الأمرد الحسن الوجه فيحرم بكل حال تقبيله، سواء قدم من سفر أم لا، والظاهر أن معانقته كتقبيله، أوقريبة من تقبيله، ولا فرق في هذا أن يكون المقبِّل والمقبَّل رجلين صالحين أوفاسقين، أوأحدهما صالحاً، فالجميع سواء، والمذهب الصحيح عندنا تحريم النظر إلى الأمرد الحسن، ولو كان بغير شهوة، وقد أمن الفتنة، فهو حرام كالمرأة لكونه في معناها).

وقال البغوي: (وعن تميم بن سلمة قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام، استقبله أبو عبيدة بن الجراح، فأخذ بيده فقبلها، قال تميم: كانوا يرون أنها سنة؛ وقال الشعبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصافح بعضهم بعضاً، وإذا جاء أحدهم من سفر عانق صاحبه، وقدم سلمان فدخل المسجد فقام إليه أبوالدرداء فالتزمه، وقال عمر بن ذرٍّ: كنتُ إذا ودعت عطاء بن أبي رباح التزمني بيده وضمني إلى جلده).

و. تقبيل الميت الصالح في رأسه وجبهته

كذلك من الحالات التي يجوز فيها التقبيل تقبيل الميت الصالح، يقبله أهله وغيرهم، الرجال يقبلون الرجال الصالحين، وكذلك النساء يقبلن إن شئن الصالحات منهن ومحارمهن.

فقد صح عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "دخل أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى".

قال النووي: (ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك، ولا بتقبيل الرجل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه).

خامساً: القيام للسلام

ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار

   عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك".

   وعن أبي مِجْلز أن معاوية خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير جالسان، فقام ابن عامر، وقعد ابن الزبير، فقال معاوية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده في النار".

   وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه: "قوموا لسيدكم".

حكم القيام للسلام

يختلف حكم القيام باختلاف المقام إليه، وله حالات:

الحالات التي يجوز فيها القيام

1.  يجوز القيام لأهل العلم، والفضل، ولولاة الأمر المقسطين.

2.  للآباء والأجداد ونحوهم من الكبراء من الأقارب وذوي الأرحام.

3.  لذي الشيبة المسلم.

4.  إذا تعارف أهل بلد واعتادوا أن يقوموا للمسلم المصافح.

الحالات التي يحرم فيها القيام

1.  لمن أحب أن يُقام إليه.

2.  لأهل البدع والفجور المجاهرين بذلك.

3.  للطغاة المتجبرين.

فهؤلاء لا يُقام لأحد منهم إلا لمن خاف من شرهم، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.

أقوال العلماء

قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك -: فالرجل يقوم للرجل له الفقه والفضل فيجلسه؟ قال: يكره ذلك، ولا بأس أن يوسع له.

قيل له: فالمرأة تبالغ في بر زوجها، فتلقاه فتنزع ثيابه، ونعليه، وتقف حتى يجلس؟ قال: أما تلقيها ونزعها فلا بأس، وأما قيامها حتى يجلس فلا، وهذا فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه، فإذا طلع قاموا إليه، ليس هذا من فعل الإسلام.

ويقال: إن عمر بن عبد العزيز فُعِلَ ذلك به أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره، وقال: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين).

وقال النووي: (وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم، أوصلاح، أوشرف، أوولاية مصحوبة بصيانة، أوله ولادة، أورحم مع سن، ونحو ذلك، ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام، لا للرياء والإعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمر عمل السلف والخلف).

وقال البغوي: (وهذا فيمن سلك فيه طريق التكبر أي النهي عن القيام فأما القيام على وجه الاحترام فغير مكروه).

زار أبو جعفر المنصور المدينة بعد حجة حجها، وحضر الناس لزيارته والسلام عليه، فعندما خرج على الناس قام الكل إلا ابن أبي ذئب، فقيل له: لِمَ لمْ تقم؟ فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين؛ وقال أبو جعفر لحاجبه: دعه، فقد قامت كل شعرة من شعر رأسي أي هيبة منه.

وقال فضل الله الجيلاني: (قال النووي في التبيان في آداب حملة القرآن: يجوز بل يندب القيام تعظيماً للقادم، أي إذا كان ممن يستحق التعظيم، وقيام الجالس في المسجد لمن دخل عليه تعظيماً، وقيام القارئ القرآن لمن يجيء تعظيماً لا يكره إذا كان ممن يستحق التعظيم.

وفي "مشكل الآثار": القيام لغيره ليس بمكروه لعينه، إنما المكروه محبة القيام لمن يقام له، فإن قام لمن لا يقام له لا يكره، وقال ابن وهبان: وفي عصرنا ينبغي أن يستحب ذلك لما يورث تركه من الحقد والبغضاء والعداوة لا سيما إذا كان في مكان اعتيد فيه القيام، وما ورد من التوعد عليه في حق من يحب القيام بين يديه، كما يفعله الترك والأعاجم، وعن الشيخ الحكيم أبي القاسم: كان إذا دخل عليه غني يقوم له ويعظمه ولا يقوم للفقراء وطلبة العلم، فقيل له في ذلك، فقال: الغني يتوقع مني التعظيم فلو تركته لتضـرر، والطلبة إنما يطمعـون في جواب السـلام، والكلام منهم في العلـم).

سادساً: الانحناء

الانحناء عند اللقاء وفي التحية لا يجوز سواء فُعِلَ تديناً أوعادة، وما يفعله بعض المريدين لمشايخهم تقديراً أواحتراماً، وبعض المسلمين من الأفارقة والآسيويين وغيرهم تمشياً ومجاراة للعادات والتقاليد عندهم لا أصل له في الدين، ولا يحل فعله وتقليدهم فيه.

وما حكاه لنا القرآن في سورة يوسف: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً"، فقد نُسِخَ بشرعنا.

قال النووي: (ويكره حني الظهر في كل حال، لكل أحد، ويدل عليه ما قدمناه في الفصلين المتقدمين من حديث أنس وقوله: "أينحني له؟ قال: لا"، وهو حديث حسن كما ذكرنا، ولم يأت له معارض فلا مصير إلى مخالفته، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى علم أوصلاح وغيرهما من خصال الفضل، فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال: "وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".

وقال الفضيل بن عياض: اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين").

المراجع

   الأذكار للنووي.

   التبيان في آداب حملة القرآن للنووي.

   الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

   شرح السنة للبغوي.

   فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر.

   فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري تأليف العلامة فضل الله الجيلاني.

   الكتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386ﻫ .

00000000000000000

صلة الرّحم وقطعها

تعريف صلة الرحم

نوعا الرحم

حكم صلة الرحم وقطعها

فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة

عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة

بم توصل الرحم؟

ذوو الأرحام ليسوا سواء

بم يوصل ذوو الأرحام من الكفار والفجَّار غير المحاربين؟

ليس الواصل بالمكافئ

تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم

أهمية عقيدة الولاء والبراء في صلة الأرحام وقطيعتها

نماذج للتبري والتخلي عن القرابات الكافرة والفاجرة

ليحذر الواصل المخالفات الشرعية

صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك

 

لقد أمر الله بصلة الأرحام، والبر والإحسان إليهم، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.

على الرغم من وصية الله ورسوله بالأقارب، وعدِّ الإسلام صلة الرحم من الحقوق العشرة التي أمر الله بها أن توصل في قوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.. وبذي القربى" إلا أن جلّ المسلمين أضاعوا هذا الحق مثل إضاعتهم لغيره من الحقوق، أوأشد، مما جعل الحقد، والبغضاء، والشحناء، تحل محل الإلفة، والمحبة، والرحمة، بين أقرب الأقربين وبين الإخوة في الدين على حد سواء.

فعلى المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، ويرعوا وصية ربهم ورسولهم، ويقوموا بواجباتهم، لينالوا حقوقهم، فكما تدين تدان، فالإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات مع أمره بالعفو عن الزلات والهفوات، ومقابلة السيئات بالحسنات.

وبعد..

فهذا بحث مختصر عن صلة الأرحام، وعن حقوق الأقارب والأهل، عن تعريف الرحم بنوعيها الخاصة والعامة، وعن فضل وثواب الصلة، ووزر وعقوبة القطيعة، وعن الفروق الرئيسية بين صلة الرحم المؤمنة المستقيمة، والرحم الكافرة والفاجرة، وما يتعلق بذلك، فأقول:

تعريف صلة الرحم

الصلة: الوصل، وهو ضد القطع، ويكون الوصل بالمعاملة نحو السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والزيارة، وبالمال، ونحوها.

الرحم: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم وغيرهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى قصر الرحم على المحارم، بل ومنهم من قصرها على الوارثين منهم، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد رحمهما الله، والراجح الأول.

نوعا الرحم

الرحم التي أمر الله بها أن توصل نوعان:

الأول: رحم الدين، وهي رحم عامة تشمل جميع المسلمين، وتتفاوت صلتهم حسب قربهم وبعدهم من الدين، وكذلك حسب قربهم وبعدهم الجغرافي.

ويدل على ذلك قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم"، فأثبت الله الأخوة الإيمانية لجميع المسلمين، وقوله: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسـدوا في الأرض وتقطِّعوا أرحـامكـم"، قال القرطبي: (وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار).

الثاني: رحم القرابة، القريبة والبعيدة، من جهتي الأبوين.

ولكل من هذين النوعين حقوق ونوع صلة.

قال القرطبي رحمه الله: (وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنَّصفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، وحقوق الموتى من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم، وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب، وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم مَحْرَم، وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال، وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث مِحْرماً كان أم غير مَحْرم، فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم، وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم يجب صلته في كل حال قربة ودينية).

وقال ابن مفلح رحمه الله: (وذكر أبو الخطاب وغيره في مسألة العتق: قد توعد الله سبحانه وتعالى بقطع الأرحام باللعن وإحباط العمل، ومعلوم أن الشرع لم يرد صلة كل ذي رحم وقرابة، إذ لو كان ذلك لوجب صلة جميع بني آدم، فلم يكن بد من ضبط ذلك بقرابة تجب صلتها وإكرامها ويحرم قطعها، وتلك قرابة الرحم المَحْرَم.

إلى أن قال معلقاً على قول أبي الخطاب: وهذا الذي ذكره من أنه لا يجب إلا صلة الرحم المَحْرَم، اختاره بعض العلماء، ونص أحمد الأول، أنه تجب صلة الرحم محرماً كان أولا).

وقال الحافظ في الفتح: (يطلق على الأقارب وهم مَنْ بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا مَحْرَم أم لا، وقيل هم المحارم فقط، والأول هو المرجح، لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام، وليس كذلك).

حكم صلة الرحم وقطعها

صلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة، ومن الكبائر.

قال القرطبي رحمه الله: (اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة).

وقال ابن عابدين الحنفي: (صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل).

الأدلة على ذلك

الأدلة على ذلك كثيرة، منها:

1. قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام".

2. وقوله تعالى: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم".

3. وجاء في حديث أبي سفيان لهرقل عندما قال له: فما يأمر؟ قال: "يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والصلة".

4. وعن عائشة رضي الله عنها ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم شُجْنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته".

فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة

لقد وعد الله ورسوله واصل الرحم بالفضل العظيم، والأجر الكبير، والثواب الجزيل، من ذلك:

أولاً: في الدنيا

1. فهو موصول بالله عز وجل في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق، حتى إذا فَرَغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؛ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب؛ قال: فهو لك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا إن شئتم: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".

2.  يُبسط له في رزقه.

3.  يُنسأ له في أجله أن يزاد في عمره بسبب صلته لرحمه.

4.  تعمر داره.

5.  صلة الرحم تدفع عن صاحبها ميتة السوء.

6.  يحبه الله.

7.  يحبه أهله.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سـرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمـه".

وعن عائشة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "صلة الرحم، وحسن الجوار، وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" ، ولأبي يَعْلى من حديث يرفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء".

لا تعارض أخي الكريم بين هذه الأحاديث وبين قوله عز وجل: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون"، لأن هذه الزيادة وهي على حقيقتها بالنسبة إلى علم المَلك الموكل بكتابة الأجل، وشقي أم سعيد، أما الآية فهذا بالنسبة إلى علم الله عز وجل، فعلم الله لا زيادة فيه ولا نقصان، ولكن يوحى للملك بأن عمر فلان ستون سنة، وبسبب صلته لرحمه يبلغ عمره ثمانين سنة مثلاً، وهو الذي أشار إليه ربنا بقوله: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"، ولهذا لا داعي لصرف اللفظ عن معناه الظاهر بأن المراد أن يبارك الله في عمره، والله أعلم.

ثانياً: في الآخرة

صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة مع أول الداخلين، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم".

عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة

أولاً: في الدنيا

1.  لا يرفع له عمل ولا يقبله الله

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم".

وفي رواية: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيهما لمن لا يشرك بالله إلا المهاجرين".

2. لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع

الشر يعم والخير يخص، فلا تنزل رحمة على قوم فيهم قاطع رحم، ولهذا يجب التواصي ببر الآباء وصلة الأرحام، والتحذير من العقوق، فإذا فعلوا ذلك سلموا من هذه العقوبة.

عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم".

قال الطِّيبي في توجيه ذلك: (يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم، ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر، وأنه يحبس عن الناس بشؤم التقاطع، ولا يدخل في القوم عبد قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلاً، كما رق صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لما سألوه برحمهم بعدما دعا عليهم بالقحط، وكما أذن لعمر ولأسماء رضي الله عنهما) ببر أرحامهما من المشركين.

3. تعجيل العقوبة للعاق في الدنيا قبل الآخرة

عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجل اللهُ لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدِّخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي".

4. أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم

ثانياً: في الآخرة

1.  لا يدخل الجنة مع أول الداخلين

قاطع الرحم لا يدخل الجنة مع أول الداخلين إن كان من الموحدين، ولكن بعد أن يطهره الله بالنار من تلك المخالفة، لأنه لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع".

وعن أبي موسى رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدِّق بسحر، ولا قاطع رحم".

2.  لا تفتح له أبواب الجنة أولاً.

3.  يدخر له من العذاب يوم القيامة مع تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يتب أويتغمده الله برحمته.

4.  يُسف المَلّ، وهو الرماد الحار

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليّ، ويجهلون عليّ، وأحلم عنهم؛ قال: "لئن كان كما تقول كأنما تسفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك".

قال النووي: (كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم).

بم توصل الرحم؟

الصلة تكون بالفعلن وهو الإحسان، أوبالترك وهو كف الأذى، وهي درجات دنيا وعليا.

أولاً: صلة الرحم العامة

وهي رحم الدين، ووشيجة التقوى، فإنها تحصل بالآتي:

1. التناصح والتشاور.

2.  التوادد.

3.  العدل والإنصاف.

4.  القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة على قدر الطاقة.

5.  التعليم، والإرشاد، والتوجيه.

6.  الأمر والنهي.

7.  الشفاعة الحسنة.

8.  تحمل الأذى.

9.  كفُّ الأذى عنهم، وهذا أضعف الإيمان أن يكفَّ الإنسان أذاه عن إخوانه المسلمين.

والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمن القرآن:

1.  "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم".

2.  "واخفض جناحك للمؤمنين".

ومن السنة:

1. "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً"، وشبَّك بين أصابعه.

2. "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

3. "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه، وماله، ودمه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر أن يحْقِر أخاه المسلم".

4. "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".

5. "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجُزُه أوتمنعه عن ظلمه فإن ذلك نصره".

6. "حق المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".

7. "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"، أي المضمر العداوة.

هذه الحقوق من الواجبات الكفائية، وقد تتعين في بعض الأحيان لبعض المسلمين على بعض.

والحقوق الكفائية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا تركها الجميعُ أثم الجميعُ، ولهذا فإن بعض الحقوق الكفائية المضاعة قد تكون أهم من الحقوق العينية، لأهميتها، وخطورتها، وحاجة المسلمين العامة إليها، نحو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتعليم والإرشاد.

ثانياً: صلة الرحم الخاصة

وهم جميع القرابات من جهة النسب، من قبل الأم والأب، وهؤلاء صلتهم عامة كذلك وخاصة:

)   الصلة العامة

وهي شاملة لجميع حقوق الصلة لعامة المسلمين التي ذكرناها آنفاً.

)  صلة خاصة

وهي زيادة حقوق على حقوق المسلم العامة.

على المرء أن يسع جميع أرحامه بالحقوق العامة والخاصة، فإن تزاحمت أرحامُه فعليه أن يصل الأقرب فالأقرب، كما ورد في الحديث: "من أحقُّ الناس بحسن صحابتي"، الذي جاء فيه: "ثم أدناك أدناك".

وفي الجملة فإن الصلة الخاصة تكون بالآتي:

الحد الأدنى

وهذا يحصل بـ:

1.  السلام.

2. طلاقة الوجه، التبسم.

3. كف الأذى.

الحد الأعلى

وهذا يحصل بـ:

1. الزيارة.

2. عيادة المريض.

3. الإهداء.

4. الإنفاق على المعسرين.

5. المشاركة في الأفراح والأتراح.

6. التهنئة بالأعياد، وليس للمسلمين سوى عيدي الفطر والأضحى.

7. تمييزهم على غيرهم في الصدقات الواجبة والصدقات التطوعية.

8. تمييزهم في الشفاعات الحسنة.

9. تمييزهم في التوجيه والتعليم.

10.  تمييزهم على غيرهم في الجيرة.

11.  تمييزهم على غيرهم في تحمل الأذى.

الأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمن القرآن:

1. "وأنذر عشيرتك الأقربين"، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن يبدأ بدعوة أهله وعشيرته أولاً.

2. "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها".

3. "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً".

فالأهل والأقارب أولى بالتوجيه والمناصحة والتعليم من غيرهم.

ومن الأحاديث:

1. عندما نزل قوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قال أبو طلحة رضي الله عنه: إن أحبَّ مالي إليّ بَيْرَحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين؛ فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".

2. وعن ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرتَ يا رسول الله إني أعتقتُ وليدتي؟ قال: أوفعلتِ؟ قالت: نعم؛ قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".

3. "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة".

4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: "وأنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ، وقال: "يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رَحِماً سأبلها ببلالها".

5. "بلوا أرحامكم ولو بالسلام".

ذوو الأرحام ليسوا سواء

لقد أمر الله بالعدل والإنصاف، ونهى وحذر من الظلم، وقد حرمه الله على نفسه وجعله بيننا محرماً، لهذا فليس من العدل والإنصاف التسوية في الصلة بين الأرحام، مسلمهم وكافرهم، برَّهم وفاجرهم، مستقيمهم وفاسقهم، سنيهم ومبتدعهم، لهذا فلابد للمسلم أن يراعي هذه الفروق في صلته ومعاملته لذوي الأرحام الخاصين والعامين، فعليه أن يصل من أمر الله بوصلهم، وأن يقطع - ولا يتحرَّج في ذلك من أمر الله بقطعهم: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون".

بل الكفار والمبتدعة والفجار ليسوا سواء، فالكفار منهم المحارب المقاتل للمسلمين، ومنهم المسالم، والمبتدعة والفجار منهم المجاهر ببدعته وفسقه الداعي لذلك، ومنهم المستتر ببدعته وفجوره، ولكل من هؤلاء حكم، ولهذا فرَّق الله سبحانه وتعالى بين الكافرين، حيث جعل النار دركات كما أن الجنة درجات، فأبو لهب في الدركات السفلى من النار وذلك لشدة بغضه وعداوته وفجوره في الخصومة لابن أخيه، وأبو طالب في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، وذلك لحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عنه حميَّة.

فذو الأرحام في الصلة درجات كذلك:

الأولى: أهل الاستقامة والدين والتقوى

وهؤلاء يوصلون بالأسباب السابقة الذكر، سواء كانت رحمهم عامة أم خاصة.

الثانية: أهل البدع والفسق والفجور

وهؤلاء نوعان:

أ. مجاهر ببدعته، وفسقه، وفجوره، داعٍ لذلك.

فهؤلاء يهجرون هجراً تاماً، وهجر هؤلاء من أجلِّ القرب عند الله عز وجل، ولا ينبغي أن يجامل في ذلك. وإن كان في مداراتهم واتقائهم درء مفسدة أوجلب منفعة استحب مداراتهم واتقاؤهم حسب الحاجة إلى ذلك، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وقد قال الله عز وجل: "إلا أن تتقوا منهم تقاة"، وقد هشَّ وبشَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وجه عيينة بن حصن، وقد قال عندما استأذن عليه: "بئس أخو العشيرة"، وعندما قيل له في ذلك، قال: "إنا نهشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم"، أوكما قال.

ب. متسترين ببدعهم وفسقهم.

هؤلاء يعاملون معاملة المسلم مستور الحال، إلا لمن علم حقيقتهم، وحتى في هذه الحال إن كان في معاملتهم والإحسان إليهم درء مفسدة أوجلب منفعة لهم أولغيرهم عوملوا ووصلوا، سيما من أقربائهم.

الثالثة: الكفار والمنافقون

وهؤلاء نوعان كذلك:

أ. محاربون، وهؤلاء يقاطعون ولا يوصلون إلا من باب المداراة واتقاءً لشرهم.

ب. غير محاربين، وهؤلاء يوصلون بالإحسان وبحسن المعاملة ونحو ذلك.

بم يوصل ذوو الأرحام من الكفار والفجَّار غير المحاربين؟

إجمالاً، فإن هؤلاء يوصلون بالطرق التالية:

1. بذل الجهد في وعظهم ومناصحتهم، ودعوتهم إلى الإسلام وإلى الاستقامة بشتى الطرق، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية عمه أبي طالب حتى ساعة الاحتضار، ولم ييأس منه إلىأن نزل قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء".

2. الدعاء لهم بالهداية بظهر الغيب، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو لقومه: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، "اللهم اهدِ دوساً وائتِ بهم".

3.  برُّهم وصلتهم ووصلهم إن لم يكونوا محاربين معاندين.

وإليك الأدلة:

1. "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون".

2. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "رأى عمر حُلَّة سِيَراء تُباع، فقال: يا رسول الله ابتع هذه والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود؛ قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال: كيف ألبسها وقد قلتَ ما قلتَ؟ قال: إني لم أعطكها لتبلبسها، ولكن لتبيعها أوتكسـوهـا؛ فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسـلـم".

3. وعن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؛ قالت: نعم، صلي أمك".

ليس الواصل بالمكافئ

الناس في صلة الرحم وقطيعتها أصناف ودرجات:

الأول: الواصل للمسيء إليه

وهي حال المصطفَيْن الأخيار من الرسل وأتباعهم، كحال رسولنا مع قومه، ومقابلة إساءتهم له بالإحسان إليهم، فقد دعا الله أن ينزل عليهم الغيث وقد أخرجوه من بلده ومسقط رأسه، وكان دائماً يسأل لهم الهداية، وعندما دخل مكة فاتحاً منتصراً وقال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخي كريم؛ فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء" وقال: "من دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فعل أبوبكر الصديق رضي الله عنه مع مِسْطح ابن خالته الذي كان ينفق عليه، بعد أن سعى في إشاعة الفاحشة على الصديقة بنت الصديق عائشة، فأقسم أبوبكر أن لا ينفق عليه، ولكن ما إن نزل قوله تعالى: "ولا يأتلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"، حتى عاد أبوبكر إلى الإنفاق والإحسان إلى مسطح، وقال: نحبّ؛ أوكما قال.

الثاني: الواصل

وهو الذي يصل من قطعه، وهذه درجة رفيعة كذلك، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها".

ولا يقدر على ذلك إلا الصابرين المحتسبين الأجر عند الله عز وجل.

الثالث: المكافئ

وهو الذي يصل من وصله ويقطع من قطعه، أي يعامل الناس بمثل ما يعاملونه به، والمكافأة فيها نوع من الصلة، ودرجة من الوصل.

الرابع: المقاطع

الذي يقطع من وصله، وهو الذي يُتفضَّل عليه، ولا يَتفضَّل.

الخامس: المسيء

وهو أسوأ الأصناف، وهو الذي يسيء إلى من أحسن إليه، ولم يكتف بقطعه بل تعدى ذلك لإيذائه، ولهذا شاع بين الناس: "اتق شرَّ من أحسنتَ إليه" وهو من الأحاديث الموضوعة الشائعة على الألسن.

تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم

مما يدل على مكانة صلة الأرحام في الإسلام وعلو منزلتها أن الشارع الحكيم أمر بتعلم الأنساب ومعرفة القرابات التي تعين على صلة الأرحام والإحسان إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".

فيجب على الآباء والأجداد تبصير الأبناء والأحفاد بحقوق القرابات، وبصلتهم بها، فإن كثيراً من شباب اليوم لا يعرف شيئاً عن كثير من أرحامهم، ويرجع ذلك إلى تقصير الكبار في هذا الشأن، فقد جاء في الأثر: "لا يزال الناس بخير ما تعلم الصغير قبل موت الكبير"، فإذا مات الكبار ذهبوا بما عندهم من علوم وتجارب ومعارف قد لا توجد عند غيرهم من الناس.

فعلم النسب من أهم العلوم ما لم يدع إلى التفاخر والعصبية، وكان أبوبكر الصديق وابنته عائشة من أعلم المسلمين بالأنساب، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت بملازمة أبي بكر ليمده بمخازي القوم المشركين ليتمكن من الرد عليهم والذبِّ عن الإسلام ورسول الإسلام.

أهمية عقيدة الولاء والبراء في صلة الأرحام وقطيعتها

من المجالات المهمة التي تتجلى فيها عقيدة الولاء والبراء عند المسلم أصدق تجلٍ، وتتضح فيها في أجمل صورها، صلة من يستحقون الصلة من الأقارب والمسلمين، وقطع من يستحقون القطع من غير خوف ولا وجل ولا حرج، لأنه ينبغي للمسلم أن يكون حبه وبغضه في الله، ووصله وقطعه لله، وحركاته وسكناته في ابتغاء مرضات الله.

لقد جسد هذه العقيدة الأنبياءُ والرسلُ وأتباعُهم في أقربائهم وذويهم أصدق تجسيد، وحققوا هذه العقيدة أفضل تحقيق، وإليك بعض النماذج، حيث لم تأخذهم في ذلك لومة لائم.

نماذج للتبري والتخلي عن القرابات الكافرة والفاجرة

1. نوح عليه السلام، حيث قال الله على لسانه: "ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً"، وفي هؤلاء الكافرين الذين دعا عليهم ابنه وزوجه وكثير من أقاربه.

2. إبراهيم عليه السلام وقومه: "إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة البغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده".

3. آسيا امرأة فرعون عليها السلام، حيث تبرَّأت من زوجها الكافر: "وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين".

4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليِّي الله ورسوله وصالح المؤمنين" الحديث.

5. وقال صلى الله عليه وسلم عندما جاء أسامة بن زيد يشفع في المخزومية التي كانت تسرق المتاع وتجحده: "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها".

6. الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه بعد إسلامه ورجوعه إلى أهله، جاءته زوجه وأبوه، فقال مخاطباً لكل منهما: إليكَ عني، فلستُ منك ولستَ مني؛ فقالا: لِمَ؟ فقال: لقد فرَّق الإسلامُ بيني وبينك؛ حتى قال له كلٌّ منهما: ديني دينك؛ فأمرهما بالاغتسال ثم تشهدا، فسلم عليهما.

أورد القرطبي في تفسير قوله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادََّ الله ورسوله" عدداً من النماذج الفريدة في هذا الباب، وهي:

7. قال السدي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن سلول رضي الله عنه، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماءً، فقال له: يا رسول الله، ما أبقيتَ من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفضل له، فأتاه بها، فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم، جئتُك بها تشربُ بها لعل الله يطهر قلبك بها؛ فقال له أبوه لعنه الله -: فهلا جئتني ببول أمك، فإنه أطهر منها؛ فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، ما أذنتَ لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسنُ إليه".

8.  وهذا موقف آخر لعبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول مع أبيه، رأس الكفر والنفاق، عندما قال وهم راجعون من غزوة: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ"، ويعني الأذل الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف له ابنه الصالح هذا عند مدخل المدينة، وقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأذن له الرسول، وقيل إنه استأذن الرسول في قتله كذلك فلم يأذن له.

9. وقال ابن جريج: حُدثتُ أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم، فصكه أبوبكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: أوفعلته؟ لا تعد إليه؛ فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته؛ وقيل كان هذا سبب نزول هذه الآية.

10. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقيل يوم بدر، وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حينئذ: "لا تجد قوماً.."، قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجلاً من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام.

11. لقد دعا أبو بكر ابنه عبد الله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر".

ويروي أنه بعدما أسلم عبد الله قال لأبي بكر: كنت أحيدُ عنك يعني يوم بدر؛ فقال له أبوبكر: لو رأيتُك لقتلتك.

12.  وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد الله بن عمير يوم بدر.

13.  وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر.

14. ما قاله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأمه وكان باراً بها عندما أسلم وخرجت في الشمس وامتنعت عن الأكل والشرب، فراجعها فلم ترجع، ثم قال لها: والله يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت الواحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.

15. هجر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه لأحد أقاربه لأنه نهاه عن الخسف بالحجارة فلم ينته.

16. هجر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لابن بلال عندما قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؛ فقال بلال: أنا أمنع من باب الغيرة -، فسبه عبد الله سباً لم يسبه أحداً من قبل وهجره حتى الممات.

17. أم حبيبة رضي الله عنها عندما جاءها أبوها أبو سفيان وكان مشركاً، وأراد الجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطوته عنه ومنعته من الجلوس عليه لشركه.

ليحذر الواصل المخالفات الشرعية

تمسك البعض بالعادات والتقاليد والأعراف المخالفة للشرع، وإصرارهم وحرصهم عليها، يوقع الملتزمين في حرج اجتماعي لا يقوى عليه كثير منهم.

من تلك الأعراف والتقاليد التي تمحق أجر وثواب صلة الرحم لمن يقترفها ما يأتي:

1. مصافحة المرأة الأجنبية، وهي كل من يجوز لك زواجها من غير المحارم، نحو بنت العم والعمة والخال والخالة، وأخت الزوجة، وما أشبه ذلك.

2.  دخول الرجال على النساء الأجنبيات والانبساط معهن.

3.  اختلاط النساء بالرجال.

4.  الخلوة بالأجنبية.

5.  شهود حفلات الزواج وغيرها.

6. المجاملة بالجلوس للعزاء.

7. التكلف بما لا يستطاع في مناسبات الأفراح والأتراح.

وغيرها كثير.

وعليك أخي الكريم أن تعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كانت صلتك لرحمك توقعك في أحد هذه المحاذير الشرعية فلا تجب عليك الصلة والحال هكذا.

والتخلص من هذه العادات الرذيلة والمخالفات الجاهلية القبيحة تحتاج إلى تضافر وتعاون من الجميع، وذلك لسيطرة هذه العادات والتقاليد على بعض المجتمعات، والتعاون على ذلك مرغوب فيه لأنه تعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على ذلك بالضرورة تعاون على الإثم والعدوان.

لا ينبغي لأحد أن يجامل في دينه، ولا أن يبيع آخرته بهذا الثمن البخس، وليعلم أن من أرضى الناس بسخط الله عز وجل أسخط اللهُ عليه الناسَ، ومن أسخطهم برضا الله أرضى الله عليه كلَّ الناس.

صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك

وأخيراً أخي الحبيب عليك بفواضل الأعمال، ودع عنك قبيحها وسيئها، واعمل بوصية ربك ورسولك، وتخلق بخلق الأنبياء الأخيار، واحذر سلوك الحمقى الأغمار.

عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؛ فقال: "يا عقبة، صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك".

واحرص أخي المسلم أن تكون سيرتك مع أهلك وأقاربك المحسنين منهم والمسيئين كسيرة المقنع الكندي مع أهله وعشيرته، لتسعد في آخرتك، وتُحمد وتُشكر في دنياك، حيث قال مبيناً منهجه ومعاملته لهم:

يعـاتبني في الديـن قومي وإنمـا         ديوني في أشيـاء تكسبهـم  حَمْداً

أسُـدُّ به ما قد أخلـوا  وضيعـوا         حقـوق ثغـور ما أطاقوا  لها سداً

و لي جفنة لا يغلق البـاب دونهـا        مكللــة لحمــاً مدفقـة  ثـرداً

ولي فرس نهـد  عتيــق  جعلته        حجـاباً لبيتي ثم أخـدمته عبــداً

وإن الـذي بيني وبيـن  بني  أبي         وبيـن بني عمي  لمختلـف جـداً

إذا أكلوا لحمي وفـرتُ لحومهـم         وإن هدمـوا مجدي بنيتُ لهم مجداً

وإن ضيعوا غيبي حفظتُ  غيوبهم         وإن هُمْ هَووا غيِّي هويتُ لهم رشداً

وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هُمُ         دَعَـوْني إلى نصـر أتيتُهم  شـداً

وإن زجروا طيراً بنحس يمـر بي         زجـرت لهم طيـراً يمر بهم سَعْداً

ولا أحمل الحقـد القديـم عليهـم         وليس رئيسُ القوم  من يحملُ الحقدا

لهم جـلُّ مالي إنْ تتـابع لي غنى         وإن قـلَّ مـالي لم أكلفهم رفــداً

وإني لعبـد الضيف مـا دام نازلاً         وما شيمة لي غيرهـا تشبه العبـدا

وأخيراً اعلم أيها الأخ الكريم أن العبرة بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية والسريرة، ولله در ابن عباس حين قال: "قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب"؛ وفي رواية عنه: "تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً"؛ ثم تلا: "لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم".

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والإحن والآثام.

ونسألك اللهم قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك من خير ما نعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلى الله وسلم وبارك على محمد صاحب القلب السليم، والقدر العظيم، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

000000000000000000000000

أيها المسلمون اتقوا الله في الخدم وارعوا فيهم وصية نبيِّكم

حق الخادم على مستخدمه

نماذج حسنة لمعاملة بعض الأخيار لخدمهم

العفو عن الخدم من أجلِّ القربات

 

الحمد لله الذي جعل الكرم الحقيقي والشرف الأصلي بالتقوى، فقال: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ولهذا نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الانخداع بالمظاهر، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع؛ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".

وبيَّن أن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فقال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وقال: "رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره".

اللهم إنا نعوذ بك أن نكون عظماء في أنفسنا وعند الناس، حقراء أذلاء مدفوعين عندك.

وبعد..

أخي المسلم، عليك أن تتقي الله عز وجل فيمن اضطرته الظروف، ودفعته الحاجة، وسخره الله لخدمتك وخدمة آل بيتك، من إخوانك المسلمين وغيرهم، وأن ترعى فيهم وصية نبيك صلى الله عليه وسلم، حيث قال موصياً بالإحسان إليهم، ومحذراً من تكليفهم ما لا يطيقون، ومن الإساءة إليهم: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله قِنْيَة تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه".

واعلم أخي المسلم وأختي المسلمة أن خادمك هذا أوخادمتك تلك قد تكون عند الله عز وجل أكرم وأفضل منكما، وربما كان الخادم أعف نفساً، وأحسن خلقاً، وأعز معتداً، وأفضل نسباً من مخدمه.

كثير من المسلمين اليوم يعاملون الخدم الأجراء معاملة الخدم الأرقاء في الخلوة والانبساط معهم، وبين الخدم الأرقاء والخدم الأجراء من الفروق الشيء الكبير، حيث نجد الرجل يخلو بخادمته الأجيرة، والمرأة تخلو بخادمها وتبرز محاسنها أمامه، وكذلك الأمر بالنسبة للأولاد والبنات البالغين، ونجد المخدمين يرسلون الخادمات إلى المحال التجارية، وإلى الأسواق، مما يعرضهن للفتن، ولا يحرص على حجابها الشرعي حرصه على محارمه، وفي ذلك وغيره كثير من المخالفات الشرعية وانتهاك لحدود الله ومخالفة لأوامره.

وفي بعض الأحيان قد يتعدى الأمر أكثر من ذلك إلى الشروع في الزنا ومقدماته، هذا إلى جانب الضرب، والسباب، والشتم، والإهانة، مما يضطر بعض الخدم لارتكاب بعض الحماقات، كالانتحار، والانتقام، والهروب، ونحو ذلك، وما نسمعه من سوء معاملة بعض المستخدمين وذويهم لخدمهم من أمور يندي لها الجبين، ويشمئز منها الضمير، ولا تناسب بحال من الأحوال ولا تشبه أخلاق أتباع محمد البشير النذير.

فعليك أخي المسلم إذا دعتك قدرتك إلى ظلم من جعله الله تحت ولا يتك وسلطانك من خادم، أوعامل، أورعية، أن تتذكر قدرة الله وبطشه وجبروته عليك.

عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود مرتين - أن الله أقدر عليك منك عليه؛ فالتفتُ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

حق الخادم على مستخدمه

لم يُحْوجنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلى تشريعات منظمات العمل المحلية والدولية، وإنما بين لنا كل ما نحتاجه في أمر ديننا ودنيانا، من ذلك فقد وضَّح صلى الله عليه وسلم أهم حقوق الخدم على مستخدميهم، كما مر في الحديث السابق وغيره، سواء كانوا أرقاء أم أجراء، وهي:

أولاً: أن يطعم خادمه مما يطعم.

ثانياً: أن يلبسه مما يلبس.

ثالثاً: لا يكلفه ما يغلبه وإلا أعانه عليه، إما بنفسه، أوبأجراء آخرين.

رابعاً: أن يسكنه فيما يسكن، أوفي سكن يقيه الحر، والبرد، والمطر.

خامساً: أن يعطيه من الأجر ما يناسب عمله ومجهوده، ولا ينبغي أن يستغل حاجته وفقره، وانخفاض مستوى دخل الفرد في بلده، كما يحدث الآن في كثير من البلاد.

وينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لاستغلال الشركات والمؤسسات والأفراد الذين يقومون بالتعاقد مع هؤلاء الخدم واستجلابهم من بلادهم، ففي بعض الأحيان تكون هناك عقود صورية مخالفة لما يتعاطاه الخادم عندما يباشر عمله.

واعلم أخي المسلم أن مثل هذه الإجراءات التعسفية واستغلال حاجة الخدم الماسة للعمل لا تحلل الحرام ولا تجيز استغلال حاجة المضطرين.

سادساً: أن لا يسبه، ولا يشتمه، ولا يضربه.

سابعاً: أن يحسن معاملته ويكرمه.

ثامناً: أن يعامله ذكراً أوأنثى المعاملة الشرعية التي بينها الشارع.

تاسعاً: أن يتجاوز عن خطئه وتقصيره.

عاشراً: يجتهد أن يعوضه ما فقده من أهل وعشيرة وتباين بيئة.

أحد عشر: أن يمسكه بإحسان أويتخلى عنه بإحسان، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.

الثاني عشر: أن يخصَّ الخدم المسلمين بعناية ورفق أكثر من غيرهم، وأن لا يظلم غير المسلمين، بل ينبغي أن يدعوهم إلى الإسلام بسلوكه الحسن، ومعاملته الطيبة، ولا ينفرهم ويبغضهم في الإسلام بسلوكه، فالدين المعاملة.

قال المناوي في فيض القدير في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فليطعمه": (أي وجوباً، والأفضل كونه "من طعامه" الذي يأكله، ويلبسه مما يليق من لباسه، قال الرافعي: لا مناقضة بينه وبين الخبر الآتي: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف"، لأن ما هنا في حق العرب الذين طعامهم وطعام عبيدهم وكسوتهم متقاربة، وذلك في حق المترفهين في الطعام واللباس، فليس عليهم لمماليكهم إلا المتعارف لهم بالبلد، سواء كان من جنس نفقة السيد أوفوقه أودونه).

نماذج حسنة لمعاملة بعض الأخيار لخدمهم

سنعرض في هذه العجالة لبعض النماذج الطيبة، والصور الحسنة، لمعاملة نفر من الأخيار لخدمهم، لعل الله ينفع بها، فنقول:

1.  سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم

كانت معاملة رسولنا صلى الله عليه وسلم لمن يخدمه معاملة الوالد الشفوق لولده، والأخ الرحيم لأخيه، لا يميز بين رقيق وأجير ومتطوع، مما جعل زيد بن حارثة رضي الله عنه يفضله على والديه وعشيرته.

زيد بن حارثة عربي من بني كلب أسِرَ وهو طفل في الجاهلية، وبيع بمكة، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها، ثم تبناه بعدُ، وكان يُدْعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: "ادعوهم لآبائهم" الذي أبطل التبني.

قال ابن عبد البر رحمه الله: (قال أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده:

بكيتُ على زيـد ولم  أدر مـا فعـلْ          أحَيٌّ يُرْجَّى أم  دونه أتى الأجــلْ

فوالله لا أدري  وإن كنتُ  سـائــلاً          أغالك سَهْلُ الأرض أم غالك الجبلْ

فياليت شعري هل لك الدَّهْـرُ رجعـة          فحسبي من الدنيا رجوعك لي  بجَلْ

تذكرنيه الشمـسُ عنـد طلـوعــها          وتعرضُ ذكـراه إذا قـارب الطَّفَلْ

وإن هبت الأرواحُ هيجن  ذكـره          فيا طول حزني عليه ويا  وَجَــلْ

سأعمِلُ نَصَّ العيس في الأرض جاهداً         ولا أسأمُ التطـواف أوتسـأم  الإبلْ

حيــاتي أو تـــأتي  عليَّ  منيتي          وكل امـرئ فانٍ وإن غـرَّه الأجلْ

سأوصي به عمـراً  وقيسـاً كليهمـا          وأوصي يزيـدَ ثم من بعـده جَبَـلْ

إلى أن قال:

فحج ناس من كلب، فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا عني أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا عليَّ؛ فقال:

أحن إلى قومي وإن كنتُ  نائيــاً            فإني قعيـد البيت عند المشاعــر

فكفـوا من الوجد الذي قد  شجاكم           ولا تعملوا في الأرض نَصَّ الأباعر

فإني بحمد الله في خيـر أســرة            كرام معـدٍّ كابـراً بعـد  كابــر

فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه، فقال: ابني وَرَبَّ الكعبة؛ ووصفوا له موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه، وقدما مكة، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد؛ فدخلا عليه، فقال: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن إلينـا في فيـدائه؛ قـال: ومن هو؟ قالـوا: زيد بن حارثة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذلك! قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه فأخيِّره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً؛ قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت؛ فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم؛ قال: من هذا؟ قال: هذا أبي وهذا عمي؛ قال: فأنا من قد علمتَ ورأيتَ صحبتي لك، فاخترني أواخترهما؛ قال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً؛ فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحِجْر، فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه؛ فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا).

وإليك نموذجاً آخر لحسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمه، عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، قالت أم سليم رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا غلامي أنس يخدمك؛ فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمره آنذاك عشر سنين، فخدم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فقال: "خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما قال لي لشيء فعلتُه لم فعلتَه، ولا لشيء تركتُه لم تركته".

2.  عمر بن الخطاب رضي الله عنه

من النماذج الطيبة، والصور الحسنة، والمواقف النادرة، معاملة الخليفـة الراشـد والإمـام العـادل عمر بن الخطاب لخدمه ومماليكه، هذا على الرغم من شدة عمر في الحق وهيبة الناس له، يوضح ذلك ما حكاه عنه مولاه أسلم رحمه الله.

قال الحافظ الذهبي في ترجمة أسلم: (وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال ابن عمر: يا أبا خالد، إني أرى أمير المؤمنين يلزمك لزوماً لا يلزمه أحداً من أصحابك، لا يخرج سفراً إلا وأنت معه، فأخبرني عنه؛ قال: لم يكن أولى القوم بالظل، وكان يرحِّل رواحلنا، ويرحل رحله وحده، ولقد فزعنا ذات ليلة وقد رحَّل رحالنا وهو يرحل رحله ويرتجز:

لا يأخذ الليـلُ عليك بالهـم              وألبسن له القميص واعتـم

وكن شريك نافع وأسلم              واخدم الأقـوام حتى  تُخدم

3.  أبو ذر الغفاري رضي الله عنه

لقد ضرب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في حسن معاملة الخدم المثل الأعلى الذي لا يدانى، فكان يُلبس خادمه ويُطعمه ويُسكنه من نفس ما يلبس ويطعم ويسكن، وذلك لأن مناسبة الحديث السابق: "إخوانكم خولكم" كانت خاصة به.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث السابق: (وفيه قصة أي وذلك لأن المعرور بن سويد رأى أبا ذر وعليه حُلَّة وعلى غلامه مثلها، فسأله عن ذلك، فذكر أنه سابَّ رجلاً فعيره بأمه، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية أي خلق من أخلاقهم، فذكره).

العفو عن الخدم من أجلِّ القربات

لم يقتصر كثير من السلف على حسن معاملة ومعاشرة الخدم، وإنما تعدوا ذلك إلى العفو والصفح عنهم عند حدوث الزلات، والعتق للأرقاء.

جاء في تفسير قوله تعالى: "والعافين عن الناس" كما قال القرطبي رحمه الله: (العفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو، وحيث يتجه حقه، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، واختلف في معنى "عن الناس"، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: "والعافين عن الناس" يريد عن المماليك، قال ابن عطية: وهذا حسن علىجهة المثال، إذ هم الخَدَمَة، فهم يذنبون كثيراً، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسِّر به.

وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارَّة، وعنده أضياف، فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: "والكاظمين الغيظ"؛ قال لها: قد فعلت؛ فقالت: اعمل ما بعده "والعافين عن الناس"؛ فقال: قد عفوتُ عنك؛ فقالت الجارية: "والله يحب المحسنين"؛ قال ميمون: قد أحسنتُ إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى؛ وروي عن الأحنف بن قيس مثله، وقال زيد بن أسلم: "والعافين عن الناس" عن ظلمهم وإساءتهم، وهذا عام، وهو ظاهر الآية).

اللهم كما حسَّنتَ خلْقنا فحسِّن أخلاقنا، وأخلاق أبنائنا وبناتنا، وأصلح أحوالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وبالطيبات آجالنا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

00000000000000000000000

ما خاب من استخار ولا ندم من استشار

ما يُستخار فيه وما لا يُستخار

هل يفرد دعاء الاستخارة بصلاة ركعتين غير الفريضة أم يستخير عقب أي نافلة؟

ما يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة

دعاء الاستخارة يكون بعد التشهد أم بعد السلام؟

السُّنة أن يسمي حاجته

ما يفعله المستخير بعد الاستخارة

المستشار مؤتمن

الرضا بما اختاره الله

الحذر الحذر من الخيرة وما يعرف بفتح الكتاب

 

من نعم الله العظيمة، وآلائه الجسيمة على العبد المسلم، استخارته لربه، ورضاه وقناعته بما قسمه وقدَّره له خالقه ومولاه، ففي ذلك السعادة الأبدية، وفي التبرم والتسخط بالمقدور الشقاوة السَّرمدية، وذلك لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه أحد سواه.

لهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سعادة ابن آدم استخارته الله".

لقد أرشد الناصح الأمين والرؤوف الرحيم محمد بن عبد الله أمته وعلمها ودلها على جميع ما ينفعها في دينها ودنياها، من ذلك إرشاده الأمة لدعاء الاستخارة.

فما معنى الاستخارة؟ وما حكمها؟ ودليلها؟ وكيفيتها؟ وماذا يفعل بعدها؟ وهل هناك وسيلة شرعية غيرها؟

كل ذلك وغيره سنعرض له بتوفيق الله في هذا البحث المختصر، فنقول:

تعريف الاستخارة لغة وشرعاً

لغة: الاستخارة هي استفعال من الخير، أومن الخِيَرَة، بكسر أوله وفتح ثانيه، اسم من قولك خار الله له، واستخار الله، طلب منه الخيرة، وخار الله له أعطاه ما هو خير له.

اصطلاحاً: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.

حكمها

مندوب إليها ومستحبة، والأمر بها أمر إرشاد.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (قوله "من غير الفريضة": أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة ليس على الوجوب، قال شيخنا: ولم أر من قال بوجوب الاستخارة لورود الأمر بها).

دليلها

ما خرجه البخاري في صحيحه بسنده عن جابر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن: إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري أوقال: في عاجل أمري وعاجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري أوقال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به؛ ويسمي حاجته"، وإن لم يحفظ هذا الدعاء فله أن يقرأه من كتاب أوأن يُلقنه.

ما يُستخار فيه وما لا يُستخار

بعد أن أجمع أهل العلم في أنه يُستخار في فعل:

1. المباح.

2. والمستحب الموسع في وقته.

وأنه لا يُستخار في:

1. الحرام.

2. والمكروه.

اختلفوا في الاستخارة في فعل الواجب على قولين:

1. منهم من قال يُستخار في فعل الواجب.

2. ومنهم من قال لا يُستخار في فعل الواجب، لأنه لا يُستخار فيما ترجحت مصلحته أومفسدته.

أقوال أهل العلم في ذلك

قـال ابن مفلـح رحمه الله تحت "فصل في الاستخـارة وهل هي فيما يخفى أوفي كل شيء": (قـال جعفـر بن الصائغ: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: كل شيء من الخير يبادر به.

وقال محمد بن نصر العابد: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: كل شيء من الخير يبادر فيه؛ قال: وشاورته في الخروج إلى الثغر، فقال لي: بادر بادر؛ وهذا يحتمل أنه لا استخارة فيه كما قال بعض الفقهاء لظهور المصلحة، ويحتمل أن مراده بعد فعل ما ينبغي فعله من صلاة الاستخارة وغيره.

وقول جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها.

وقد استخارت زينب بنت جحش لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، قال في "شرح صحيح مسلم": فيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همَّ بأمر، سواء كان الأمر ظاهر الخير أم لا؛ قال: ولعلها استخارت لخوفها من تقصيرها في حقه صلى الله عليه وسلم).

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله: (الاستخارة سنة إذا هم بشيء، ولم يتبين له رجحان فعله أوتركه، أما ما تبين له رجحان فعله أوتركه، فلا تشرع فيه الاستخارة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل الأمور الكثيرة، ولا يفعلها إلا بعد الهم بها قطعاً، ولم ينقل عنه أنه كان يصلي صلاة الاستخارة، فلو همَّ الرجل بالصلاة، أوأداء الزكاة، أوترك المحرمات، أونحو ذلك، أوهمَّ أن يأكل، أويشرب، أوينام، لم يُشرع صلاة الاستخارة).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله "في الأمور كلها"، قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه، قلت: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمانه موسعاً، ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم).

الراجح والله أعلم أن ما ترجحت مفسدته لا يُستخار فيه، وما ترجحت مصلحته لا يُستخار فيه كذلك إلا إذا كان أمراً أجاز الشرع فيه التراخي، ومن استخار في كل أوبعض ما ترجحت مصلحته فله ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا همَّ بأمر"، ولم يخصص.

هل يفرد دعاء الاستخارة بصلاة ركعتين غير الفريضة أم يستخير عقب أي نافلة راتبة أم مطلقة؟

أقوال لأهل العلم:

1. دعاء الاستخارة يفعل عقب صلاة أي ركعتين من النافلة، راتبة أم مطلقة.

2. دعاء الاستخارة لا يفعل إلا عقب ركعتين مستقلتين لدعاء الاستخارة.

3. يجوز عقب نافلة إذا نوى الاستخارة قبل الشروع فيها.

قال الإمام النووي في الأذكار: (قال العلماء: يستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد، وغيرها من النوافل).

قال الحافظ ابن حجر: (قوله "من غير الفريضة" فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلاً، ويحتمل أن يُراد بالفريضة عينها، وما يتعلق بها، فيحترز عن الراتبة كركعتي الفجر مثلاً.

وعلق على ما قاله النووي: كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معاً أجزأ، بخلاف ما إذا لم ينو.

إلى أن قال: ويبعد الإجزاء لمن عرض له طلب بعد فراغ الصلاة، لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر).

وقال الشيخ العثيمين: (ولا يقال دعاء الاستخارة إذا صلى تحية المسجد أوالراتبة ولم ينوه من قبل، لأن الحديث صريح بطلب صلاة الركعتين من أجل الاستخارة، فإذا صلاهما بغير هذه النية لم يحصل الامتثال.

وأما إذا نوى الاستخارة قبل التحية والراتبة، ثم دعا بدعاء الاستخارة، فظاهر الحديث أن ذلك يجزئه لقوله: "فليركع ركعتين من غير الفريضة"، فإنه لم يستثن سوى الفريضة، ويحتمل أن لا يجزئه، لأن قوله: "إذا همَّ فليركع" يدل على أنه لا سبب لهاتين الركعتين سوى الاستخارة، والأولى عندي أن يركع ركعتين مستقلتين، لأن هذا الاحتمال قائم، وتخصيص الفريضة بالاستثناء قد يكون المراد به أن يتطوع بركعتين، فكأنه قال: فليتطوع بركعتين، والله أعلم).

الراجح والله أعلم أن يستخير المرء عقب ركعتين مستقلتين لذلك، وإن نوى الاستخارة قبل الشروع في نافلة راتبة أومقيدة فله ذلك.

ما يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة

استحب بعض أهل العلم أن يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة في الأولى بالكافرون، وفي الثانية بالإخلاص، وإن قرأ بما تيسر له جاز ذلك.

قال النووي في الأذكار: (ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد).

وقال الحافظ في الفتح: (وأفاد النووي أن يقرأ في الركعتين الكافرون والإخلاص، قال شيخنا في "شرح الترمذي": لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك، قال شيخنا: ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: "وربك يخلق ما يشاء ويختار"، وقوله: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة"، قلت: والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى والأخريين في الثانية).

دعاء الاستخارة يكون بعد التشهد أم بعد السلام؟

قولان لأهل العلم:

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً).

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية: (دعاء الاستخارة يكون بعد التسليم من صلاة الاستخارة).

الذي يترجح لدي والله أعلم أن الأفضل أن يكون دعاء الاستخارة بعد السلام، ولو دعا به بعد التشهد لا يبعد، ويستحب أن يفتتحه بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يختمه.

قال النووي رحمه الله: (ويستحب افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم).

السُّنة أن يسمي حاجته

المتسخير يسمي حاجته في نهاية الدعاء لقوله صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: "ويسمي حاجته"، وفي رواية: "ثم يسميه بعينه"، وإن نواها ولم ينطق بها هل يجزئه ذلك؟ محتمل.

قال الحافظ ابن حجر: (وظاهر سياقه أن ينطق به، ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء، وعلى الأول تكون التسمية بعد الدعاء، وعلى الثاني تكون الجملة حالية، والتقدير فليدع مسمياً حاجته).

ما يفعله المستخير بعد الاستخارة

بعد الاستخارة لا تخرج حال المستخير عن ثلاث حالات، هي:

الأولى: قد يطمئن المستخير لأحد الأمرين، ويحدث هذا بأحد طريقين:

1.  إما أن ينشرح صدره لذلك ويطمئن.

2.  وإما أن يرى رؤيا حسنة.

الثانية: قد يظل في حيرة من أمره، ففي هذه الحال عليه أن يكرر الاستخارة مرات ومرات، فقد استخار أبوبكر رضي الله عنه عندما أراد جمع القرآن كله في مصحف واحد شهراً كاملاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وليس في عدد مرات الاستخارة حد، وقد ورد في ذلك حديث لا تقوم به الحجة أنه يستخير سبع مرات.

الثالثة: قد يستخير عدة مرات ولا يستبين له ترجيح أحد الأمرين على الآخر، فعليه في هذه الحالة أن يستشير أهل الفضل والصلاح من ذوي الاختصاص، ثم يتوكل على الله، ويشرع فيما أشير به عليه، ولا يتردد، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار" الحديث، وكما أن الاستشارة مشروعة قبل الاستخارة فكذلك تشرع بعدها.

قال الإمام النووي رحمه الله: (واعلم انه يستحب لمن همَّ بأمر أن يشاور فيه من يثق بدينه، وخبرته، وحذقه، ونصيحته، وورعه، وشفقته، ويستحب أن يشاور جماعة بالصفة المذكورة ويستكثر منهم، ويعرِّفهم مقصوده من ذلك الأمر، ويبين لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكد الأمر بالمشاورة في حق ولاة الأمور العامة، كالسلطان، والقاضي، ونحوهما).

المستشار مؤتمن

المستشار مؤتمن، فعليه أن يتقي الله ويجتهد ويجد في نصح من استشاره، وليحذر خداع وغش من استشاره، فإن هذا من حق المسلم لأخيه المسلم: "فإذا استنصحك فانصح له" الحديث.

الرضا بما اختاره الله

على العبد بعد الاستشارة والاستخارة أن يقدم على ما ترجح لديه نفعه، وعليه أن لا يتردد، فقد روي عن وهب بن منبه قال: قال داود عليه السلام: "يارب، أيُّ عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض".

فإذا استخار الله عز وجل فعليه أن لا يفعل ما ينشرح إليه صدره مما كان له فيه هوى ورغبة قبل الاستخارة، لأنه في هذه الحالة لم يصنع شيئاً بالاستخارة، وإنما فعل ما كان يهواه.

قال الحافظ ابن حجر: (والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة، وفي ذلك الإشارة بقوله في آخـر حديث أبي سعيـد: "ولا حول ولا قوة إلا بالله").

الحذر الحذر من "الخيرة" وما يعرف "بفتح الكتاب"

الاستخارة هي الطريقة الوحيدة لمن تردد في مصلحة أومضرة أمر من الأمور، ولم يستبن له رجحان أحدهما على الآخر، أما ما يفعله بعض الناس مما يعرف "بالخيرة"، بأن يرقد له بعض المشايخ بالخيرة، أويطلب من بعضهم أن "يفتح له الكتاب"، فهذا العمل ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُؤثر عن علم من أعلام المسلمين المقتدى بهم، وإنما هو من جرب بعض المشعوذين، فينبغي للمسلم أن لا يفعله، ولا يعتقد فيه، وهو من باب الكهانة، وقد نهينا عن إتيان الكهان: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

واعلم أخي الكريم أن الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع في الدين ما لم ينزل به سلطاناً، ورحم الله مالكاً حيث كان كثيراً ما ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنة          وشر الأمور المحدثات البدائع

اللهم خر لنا واختر لنا، ورضِّنا بما قسمت لنا.

00000000000000000000

لقد أخطأت إسْتُكَ الحفرةَ يا شيخ الأزهر!!

"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم

واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون"

وقال صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة" أهل السنن

استنكر واستهجن المؤمنون الأخيار الأغيار كلام شيخ الأزهر بحضرة المسؤول الفرنسي الكافر قبل أيام، استنكاراً واستهجاناً شديدين، القاضي بعدم وجوب الحجاب على المسلمات المقيمات في فرنسا وغيرها من ديار الكفر بحجة أن قوانين تلك البلاد لا تسمح بذلك، وهي قوانين هوائية تعدَّل حسب الأهواء والمصالح.

وبادئ ذي بدء نقول: إن مثل هذه الفتاوى المشبوهة المشؤومة لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، إلا أنها تعطي الكفار مستنداً غير شرعي يرفعونه في وجوه الملتزمين هناك، وتباعد بين قائلها وبين الأخيار، ومن فضل الله على هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلال، فقد اعترض على كلام شيخ الأزهر جل المشايخ الحاضرين، واستنكروا وصرحوا بذلك جزاهم الله خيراً، وذلك لأن الحجاب واجب على المسلمة سواء كانت في دار الإسلام أودار الكفر، بل وجوبه عليها في دار الكفر أكبر، للتفسق، والتحلل، والإباحية، والبهيمية التي يتمتع بها أهل تلك البلاد، فهم كالأنعام بل هم أضل.

ومما يجب التنبيه إليه والتحذير منه أن العيش في بلاد الكفر لا يحل إلا لمضطر لم يجد بلداً من بلاد المسلمين يأويه، وأن الهجرة لا تحل إليها، بل يجب على المسلمين فيها أن يهاجروا إلى بلاد الإسلام إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومما يؤسف له أن البلاد الإسلامية لا تسمح بهجرة كثير من هؤلاء إليها، بينما يسمح لهم الكفار ويرحبون بهم، ولا فرق في ذلك لمن هدفه الدعوة أوالدنيا.

هذه الفتوى الخاطئة الخاسرة إما أن تكون صدرت من شيخ الأزهر نتيجة جهل، وفي هذه الحال نقول له كما قال عمر لمن هو خير من ملء الأرض منه، الصحابي البدري قدَامَة بن مظعون رضي الله عنه، عندما أخطأ في تأويل قوله تعالى: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا.." الآية، فظن أن الخمر حلال له: "أخطأت إستُك الحفرة"، ثم أمر الحاضرين من الصحابة أن يردوا عليه خطأه، فلا تستغرب وتستنكر أخي الكريم هذه المقولة، فقد قالها من هو خير مني لمن هو خير من شيخ الأزهر كما قلت.

أوصدرت نتيجة هوى ومجاملة للزائر الكافر، فنقول له ونبشره بما قاله وبشر به الرسول صلى الله عليه وسلم من يسلكون هذا المسلك: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة" الحديث، أوكما قال، ونبشره كذلك بما بشر به ربنا أحبار السوء الكاتمين للحق: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون".

ولله در عبد الله بن المبارك العالم المجاهد حين قال:

وهل افسد الدينَ إلا الملوكُ            وأحبارُ سوء ورهبانُها؟!

ففساد الدين بسبب هذه الأصناف الثلاثة: الحكام الظلمة، وعلماء السوء، والعُبَّاد الضالين المبتدعين.

ونذكِّر كذلك شيخ الأزهر أن هذه الفتوى لن تضر إلا قائلها، ونقول له على لسان الفتيات والنساء المتحجبات في تلك الديار لمن يعتقد أن مثل هذه الفتاوى تحول دون الحجاب الذي أمرنا به ربنا ورسولنا، والتزمت به أمهات المؤمنين، والصحابيات، وجميع المسلمات الصالحات: "امصص بظر اللات"، ولا تستنكر هذه المقولة كذلك أخي القارئ، فقد قالها أبو بكر الصديق، وهو خير مني، لعروة بن مسعود وهو خير من شيخ الأزهر، عندما اتهم عروةُ الصحابة بأنهم سيفرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركونه في الحديبية.

ومن عجيب أمر هذا الشيخ، وأمره كله عجب، تأكيده لزلته هذه بقوله: "من حقهم ثلاثاً أن يمنعوا الحجاب!!"، ألا يعلم أنه ليس لمخلوق حق مؤمناً كان أم كافراً إلا أن يتبع شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وما يصنعه الكفار والمتفلتون من المسلمين ظلم بيِّن لأنفسهم.

وأخيراً نقول لشيخ الأزهر، سيد طنطاوي، سامحه الله: لقد نافقتَ في فتواك، وأغضبتَ ربك ومولاك، وخنتَ من ائتمنك وولاك من المسلمين، ولو كانوا راضين بمقولتك هذه، لأن كل من عصى الله فهو جاهل، وخذلتَ المؤمنين، ونصرتَ الكافرين، والمنافقين، والإباحيين، وبُؤتَ بوزرك ووزر من يقلدك في ذلك، حيث لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.

عليك أن تتقي الله في نفسك أولاً، وفي هذه المشيخة والمسلمين ثانياً، وعليك أن تبادر بتخطئة نفسك، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة وأي رذيلة؟ فإنك إن كنت أرضيت مسؤوليك فقد أغضبتَ ربك، ورسولك، والمؤمنين.

فقد روى الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها وقد بعثت به إلى معاوية رضي الله عنه، ترفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أرضى اللهَ بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس"، وفي لفظ: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً"، وفي لفظ: "عاد حامدُه من الناس ذاماً".

وثمة أمر لا أحسب أن شيخ الأزهر يجهله، وإلا تكون تلك مصيبة أخطر وأكبر من هذه الطامة التي جاء بها، وهي أن الضرورة التي تبيح المحظور هي القتل أوالتعذيب الشديد، وحتى في مثل هذه الحال فالثبات على المبادئ أولى من الأخذ بالرخصة، ونحن نعلم أن من يخالف هذا القانون الجائر إما أن يُمنع من الدراسة، وهذه قد تكون نعمة وليست نقمة، وغاية ما هناك أن يرحل، وفي ذلك والله خير كثير.

وقبل هذا وذاك نقول كما قال ربنا: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً".

وكلنا يعلم أن معاملة الحكام الكفار للمسلمين أفضل من معاملة حكام المسلمين لكثير من إخوانهم المسلمين، وأن القوانين والمحاكم عند الكفار أرحم بالمسلمين في بعض الأمور منها في البلاد الإسلامية، ولهذا فمن يرد الكفار الانتقام منه والمكر به يحاكمونه خارج بلادهم في البلاد الإسلامية وغيرها، وبغير قوانينهم، نحو مكرهم وعزمهم على محاكمة صدام بالعراق.

وأخيراً أحب أن أذكر نفسي وشيخ الأزهر وغيره من العلماء وطلاب العلم الشرعي أن العلماء والحكام مثلهما كمثل الملح، فإذا فسد الملح فما الذي يصلحه؟!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام

0000000000000000000

المحافظة على رمم وجيف الكفار الهالكين، وعلى الأصنام، وعلى آثارهم  مخلفاتهم  عمل جاهلي وثني

 

"لقد أعزنا الله بالإسلام فمن أراد العزة في غيره أذله الله"

لا غرابة أن يهتم الكفار ويحافظوا على جيف ورمم الهالكين من أسلافهم، وعلى الأصنام، حماية للوثنية ودفاعاً عن الشرك، والجاهلية.

ولا غرابة كذلك أن تغضب أمريكا راعية الكفر وحلفاؤها من الكفار على حكومة الطالبان عندما شرعت في هدم وتحطيم صنم بوذا.

ولكن العجيب الغريب أن يذهب وفد من العلماء لإثناء تلك الحكومة الراشدة عن ذلك، لأن ما قامت به كان من أوجب واجبات الحاكم، وهو حماية جناب التوحيد، وهو من أجل أعمالهم التي قاموا بها في عهدهم الراشد.

ما فعله الطالبان بـ"بوذا" فعله أسلافهم الفاتحون الأول.

روى الطبري وابن كثير رحمهما الله أن قتيبة بن مسلم رحمه الله عندما فتح مدينة سمرقند ودخلها بُني له فيها مسجد، فصلى فيه، وأتي بالأصنام فسلبت، ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصناماً من حرقها هلك؛ فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي؛ فجاء "غورك" فجثا بين يديه، وقال: أيها الأمير إن شكرك عليَّ واجب، لا تعرض لهذه الأصنام؛ فدعا قتيبة بالنار، وأخذ شعلة بيده، فخرج وكبر ثم أشعلها وأشعل الناس، فاضطرمته، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.

لقد قلد كثير من المسلمين الكفار، وتشبهوا بهم في كل شيء، في حماية الوثنيات القديمة، والمحافظة على رمم وجيف الهالكين والأصنام والتماثيل، وفي إنشاء وزارات للسياحة تعنى بما يعتني به الكفار، ومتاحف، ومعاهد لدراسة حضارات الكفار، وإنفاق الأموال الطائلة في ذلك.

كما قلت لا يعجب الإنسان كثيراً من اهتمام أمريكا، وأذنابها، والمنظمات التي تدور في فلكها أن يكونوا هم المسؤولون الأول عن جميع الأصنام، وجيف الكفار في سائر العالم، إلى درجة أن مصر لا تستطيع أن تتصرف في شيء من أصنامها إلا تحت رعاية تلك المنظمات.

ولكن العجب كل العجب من المسلمين في سلوكهم لهذا المسلك المشين، وتقليدهم وتشبههم بالكافرين، ويتمثل ذلك في الآتي:

1. أن تنقل مصر صنماً من أصنامها بطائرة خاصة إلى إيطاليا لترميمه هناك.

2. وأن تكون مدائن صالح في شمال المملكة العربية السعودية منطقة سياحية يؤمها الأساتذة والطلاب وغيرهم في العطل، وتهيأ لاستقبالهم، وتعنى بها الدولة، وهي من مناطق العذاب التي لا ينبغي لأحد أن يدخلها إلا وهو باكٍ، وفي غزوة تبوك جيش العسرة عندما أخذ بعض المسلمين ماءً من آبارها من غير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في غاية الضيق والعطش، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريقوا ما أخذوه من ماء، وأن يتخلصوا من الأطعمة التي صنعوها بهذا الماء.

3. أن ينازع ويجادل البعض في هل أصل ومنبع الحضارة النوبية السودان أم مصر؟

4. أن يُنْشأ معهد لرعاية وحماية جيف الفراعنة وأصنامهم وآثارهم في البجراوية، ومروي، ودنقلا، وغيرها في السودان، وأن تبنى الاستراحات وتحمى تلك الرمم، وتفتخر مصلحة الآثار بأنها تمكنت من القبض على من يريدون سرقة جيفة من تلك الجيف!

5. أن تطمئن الحكومة المصرية متمثلة في وزارة السياحة حكومة إيران بأنها ستقوم بترميم وصيانة ما أصاب الأصنام في مدينة "بم" التي ضربها الزلزال فوراً.

هذه مجرد أمثلة، وما غاب عني وما لم أذكره أضعاف ما ذكرته.

ونحن نسأل أليس من الأولى أن تنفق هذه الأموال الطائلة على الأحياء المحتاجين من المسلمين؟ هل ترميم أصنام "بم" أولى من بناء مساكن لآلاف الأسر التي تسكن في المقابر في القاهرة، والتي تسكن في درج بعض العمائر؟

وهل حماية جيف الفراعنة وأصنامهم في البجراوية ومروي ودنقلا وغيرها في السودان أولى من حفر آبار للأعراب الذين لا يجدون ما يشربون ويغتسلون به ويغسلون به أمواتهم في بعض مناطق السودان؟

ألم يعلم المسؤلون أن الأحياء أولى من الأموات ولو كانوا مسلمين؟ ألم يأمر أبو بكر أن يكفَّن في ثوبيه اللذين مات فيهما وأن يشترى له ثوب واحد، وقال: "الحي أولى بالجديد من الميت، إنما هو للدود"؟ قل لي بربك كم غرفة تبنيها تكلفة بناء قبة على جيفة من الجيف عندنا في السودان وغيره؟ أواستراحة أقيمت عند هذه الأصنام والأوثان؟

أرجو أن تقارن أخي الكريم بين اهتمام حكام المسلمين اليوم وحرصهم على المحافظة على جيف ورمم الكفار، والأصنام، وآثار الحضارات الوثنية، وما أمر به عمر أن يفعل بجثة دانيال عليه السلام، لتعلم الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين أسلافنا.

لما فتح المسلمون "تُسْتَر" التي يسميها العجم "شُشْتَر" وجدوا عندها قبراً عظيماً، قالوا: إنه قبر دانيال؛ ووجدوا عنده مصحفاً، قال أبو العالية: أنا قرأت ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم، وسيرُكم، ولحون كلامكم؛ وشموا من القبر رائحة طيبة، ووجدوا الميت بحاله لم يُبْل، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفر بالنهار عشر قبراً، فإذا كان الليل دفنه في قبر من تلك القبور، ليخفى  أثره، لئلا يفتتن به الناس، فينزلون به، ويصلون عنده، ويتخذونه مسجداً.

وثمة شيء آخر، ما للمسلم وللحضارات الوثنية؟! ألم يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر عندما جاءه بصحيفة من التوراة غضباً شديداً؟ ألم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء يقربنا من الجنة ويباعد بيننا وبين النار؟

رضي الله عن لبيد، ذلكم الشاعر المسلم المخضرم، الذي عاش مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، عندما طلب منه عمر أن يكتب له شيئاً من شعره، كتب له سورة البقرة وآل عمران، وفي رواية قال له: إن الله أبدلني خيراً منه؛ وكذلك لم تقل الخنساء شعراً بعد إسلامها، وهما من فحول الشعراء.

جل المسلمين اليوم يجهلون أوجب الواجبات عليهم نحو ربهم، ورسولهم، ودينهم، ولا يعرفون شيئاً عن الغزوات، ولا الفتوح الإسلامية، ولا الأبطال المسلمين، أليس من الأولى أن ندرسهم ذلك ونعلمهم إياه؟ رحم الله أخانا العبد الصالح الشيخ عبد الرحيم عمر، عندما هلك "جيفارا" وأقام الشيوعيون الدنيا ولم يقعدوها في جامعة الخرطوم، فسأله أحد الإخوة مداعباً له: هل تعرف "جيفارا"؟ فقال: لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه، هل أنا أ عرف جميع الصحابة؟!

اللهم إنا نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً، وأن تستعملنا في طاعتك، وأن تشغلنا بمعرفتك ومعرفة رسولك ودينك، والسلام

0000000000000000000

تغيير المناهج الذنب الذي لا يُغتفر، والخطر المحدق

ليس للمسؤولين عن التعليم في معظم البلاد الإسلامية هذه الأيام شغل وهم سوى تغيير المناهج الدينية، وتعديل الكتب الدراسية، لتتمشى مع الخطة الأمريكية، ولتخدم أهداف الحرب الصليبية العسكرية، والثقافية، والتعليمية، والإعلامية، والاجتماعية، وقد صدرت التعليمات إلى حكام المسلمين، وكررت التحذيرات لهم، ولهذا فهم يتسابقون في ذلك ويتنافسون ولا يستحيون.

ما كنا نظن والله أن يصل الذل والهوان بالمسلمين، ويستكين حكامهم للكافرين، حتى يتدخلوا في أخص خصائصهم، وفي قراراتهم السيادية.

ما كنا نظن أن تبلغ الجرأة بالكفار أن يأمروا حكام المسلمين أن يحذفوا من المقررات الدينية كل آية أوحديث أو أثر يتكلم عن الجهاد، أوعن الولاء والبراء، أوفيه لعن لليهود والنصارى الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين إلى يوم الدين، في كتاب الله المبين: "لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".

أوأن يتحكم الكفار ويأمروا بإغلاق العديد من المدارس والمعاهد الدينية داخل البلاد الإسلامية في باكستان والسعودية وغيرهما.

أوأن يتدخلوا في مصارف الزكوات والصدقات، فيحرموا منها من شاءوا من أصحابها الذين بينهم ربنا في كتابه الكريم، بحجة تجفيف منابع الإرهاب، وما علم هؤلاء أن أمثال هذه التصرفات تولد أصنافاً من الإرهاب، لا يعلم مداه إلا الله والراسخون في العلم.

ما كنا نظن أن الأمر يصل إلى أن يتدخل الكفار عن طريق إخوانهم المنافقين في عزل ومنع بعض الخطباء والمدرسين من الخطب والتدريس، وتعيين آخرين لا يكون لهم أدنى تأثير إلا التأثير السلبي.

بل ما كنا نصدق أن بعض أئمة المساجد منعوا عن القنوت والدعاء على الكفار.

ما كنا نتخيل أن يكون لأحفاد القردة والخنازير من اليهود والصليبين الكلمة الأولى والأخيرة في مصير العالم الإسلامي قبل غيره.

كل هذا وغيره حدث بسبب الغفلة وتخلي المسلمين عن دينهم، وبسبب اشتغالهم بخلافاتهم الداخلية، وتعلقهم بمصالحهم الدنيوية، وبركونهم إلى الدنيا، وبإسناد الأمر إلى غير أهله، وبترك التناصح والأمر والنهي، وبتمكين الفكر الإرجائي والصوفي، وبالتهاون في أمر العقيدة والسلوك، وصدق الله العظيم: "من يُهن الله فما له من مكرم"، "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

وصدق القائل:

من يهن يسهل الهوان عليه               ما لجـرح بميت إيـلام

لقد نسي حكام المسلمين قبل الكفار أن أمر هذا الكون بيد الله عز وجل، وأن الله يُمهل ولا يُهمل، وأن الحكم لله يؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وأن الله غالب على أمره، وأن العاقبة للتقوى، وأنه لن تزول قدما عبد عن الصراط حتى يُسأل عن كل ما جنته يداه، وخطاه بنانه، ونطقه بلسانه.

اللهم اصرف عنا كيد الأشرار، واحفظنا من فتن الليل والنهار، ولا تجعل للكافرين والمنافقين علينا وعلى المؤمنين سبيلاً، ولا تؤاخذنا بما كسبت أيدين

0000000000000000000000

الأدلة الشرعية والحجج القوية في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية:

"لأن يُطعن أحدكم بمِخْيَط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له"

حديث رواته ثقات

 

الأدلة على حرمة مصافحة الأجنبية

قَسَمُ عائشة رضي الله عنها وتأكيدها على عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم في البيعة يدل على ردها لآثار وشبه واهية في جواز المصافحة

عدم المصافحة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم

كيف ومتى يسلم على النساء؟

الخلاصة

 

لقد شاع في كثير من مجتمعات المسلمين في العصورالمتأخرة بسبب الجهل، والاستعمار، والتعليم المدني، والإعلام الموجه، كثير من المخالفات الشرعية، من تلك المخالفات ما يتعلق بالمرأة، نحو الدعوة إلى تحريرها، وخروجها من بيتها، والمطالبة بحقها السياسي، واختلاطها بالرجال، والتهاون في مصافحة الرجال الأجانب لها، ودخول الرجال على النساء، والاختلاط بهن، والانبساط معهن، على الرغم من نهي الإسلام الصحيح الصريح عن كل ذلك وغيره.

من الأمور التي عمت بها البلوى في مجتمعنا السوداني خاصة، وغيره من المجتمعات الأخرى، مصافحة المرأة الأجنبية، سيما لو كانت زميلة للرجال في العمل أوالدراسة، أوجارة في السكن، أوقريبة، لغير محارمها.

وأسوأ من المصافحة التهاون والتساهل فيها، ومقابلة ومواجهة من لا يصافح من الرجال والنساء بالإزدراء والاستهجان، والنيل منهم، والشين لهم، واعتبار بعض النساء، أن الذي لا يصافحهن فقد أهانهن وجرح كرامتهن، وخدش وطعن في أنوثتهن، بل زين الشيطان لهؤلاء أن المانع لمن لا يصافح سوء النية وسواد الطوية، وإلا لو كانت نيته سليمة وقلبه أبيض لما امتنع عن ذلك، وأن العفه في القلب، فالعفيف عفيف ولو عانق دعك أن يصافح.

وقد تعجبت كثيراً ممن تجاوز المصافحة باليد إلى السلام بالحضن والمعانقة بين من لا يجتمعان إلا في آدم وحواء عليهما السلام، من الموظفين، والطلاب، والعاملين في مصلحة واحدة، ونسي هؤلاء أن الإسلام يحكم بالظاهر ولا يلتفت إلى السرائر التي لا يملك علمها إلا صاحبها وخالقها، فلا مكان لسلامة القلب وخبثه، ولا داعي لاتهام النيات، والتطاول على الأبرياء والبريئات، وانتهاك الحرمات بمثل هذه الحجج الواهيات.

فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما حذر من الدخول على النساء الأجنبيات، بقوله: "إياكم والدخول على النساء"، لم يستثن من ذلك سليمي النيات من غيرهم، وهل هناك أبرُّ قلوباً وأطهر نفوساً من الصحابة الذين خوطبوا بذلك؟!

الدافع لهذه الاتهامات، والمبرر لارتكاب تلك المحظورات هو الجهل والغرور، ومن العجائب الغرائب أن يخوَّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويجرح الملتزم ويمدح المتهاون، ويشكر المتفلت ويذم المتعفف عن ذلك.

وبعد..

فإليك أخي المسلم وأختي المسلمة الأدلة الشرعية والحجج القوية على حرمة مصافحة المرأة الأجنبية، لتكونا على بينة من هذا الأمر، نصيحة لله، ولرسوله، ولدينه، ولعامة المسلمين والمسلمات، لعلها تجد أذناً صاغية، وآذاناً واعية، وقلوباً سالمة من الشبه، ولنعلم أي القولين أرجح، وأي الطريقين أفلح، طريقة المحرِّمين للمصافحة، أم المجيزين لها الحاملين على من خالفهم في ذلك؟

الأدلة على حرمة مصافحة الأجنبية

الأول: عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم، وهو ولي لكل نساء العالمين للمبايعات له على الإسلام، ولو جازت المصافحة للأجنبية لجازت في هذه الحال، ولما لم يجزها صلى الله عليه وسلم في البيعة فعدم جوازها فيما سواها أولى وأحرى.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمتحن بقول الله عز وجل: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولايزنين.." إلى آخر الآية.

قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتن؛ ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعنه بالكلام.

قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاماً".

قال الندوي في شرح الحديث السابق: (فيه أن بيعة النساء بالكلام، من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف).

وفي رواية لعروة عن عائشة عند البخاري: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً؛ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة".

وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: "أن لا يشركن بالله شيئاً.." الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن؛ قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا؛ قلنا: يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة".

الثاني: التحذير من ملامسة المرأة ومصافحتها: عن معقل بن يسار رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة أجنبية".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرْج ويكذبه".

قَسَمُ عائشة رضي الله عنها وتأكيدها على عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم في البيعة يدل على ردها لآثار وشبه واهية في جواز المصافحة

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على قسم عائشة وتأكيدها ونفيها لعدم مصافحته صلى الله عليه وسلم لامرأة أجنبية ولا في البيعة، مشيراً لقولها: "ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة: (كأن عائشة رضي الله عنها أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية رضي الله عنها).

ثم أورد عدداً من الآثار بعضها واهٍ، وبعضها مرسل، وبعضها مبهم، وليس فيها شيء يقاوم ما صح عن عائشة، وأميمة، ومعقل بن يسار رضي الله عنهم، وليس فيها كذلك ما يدل على أنه لامس أوصافح.

والآثار هي

1. ما عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبزار، والطبري، وابن مردويه، عن طريـق إسماعيـل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: "فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد".

2. وفي رواية عنها قالت: "قبضت منا امرأة يدها".

الشبهة التي يثيرها البعض من قبض هذه المرأة ليدها "أي ولم يقبض سائر النساء"، وينفي هذا هذا الفهم الخاطئ قَسَمُ عائشة وقولُ أميمة، وسبب قبض هذه المرأة ليدها عندما نهاهن صلى الله عليه وسلم عن النياحة، فاستدركت واستفسرت هذه المرأة الصادقة قائلة: "فلانة أسعدتني -أي أنها بكت معي ميتاً لي- وأنا أريد أن أكافئها بالبكاء على ميتها"، والبكاء بالدمع من غير نياحة جائز.

قال ابن حجر معلقاً على هذين الخبرين: (فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمكن الجواب عن الأول بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة، وعن الثاني: أن المراد بالقبض التأخر عن القبول، أوكانت المبايعة تقع بحائل).

3.  روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببُرْد قطري فوضعه على يده وقال: إني لا أصافح النساء".

4.  وعند عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً نحوه.

5.  وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك.

قلت: ما في الصحيح الصريح المرفوع غنى عن هذه المراسيل المقطوعة المبهمة، هذا بجانب ما فيها من التكلف الذي ينافي هديه صلى الله عليه وسلم.

6.  وأخرج ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بُكَيْر عنه عن إبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يغمس يده في إناء وتغمس يدها فيه".

قلت هذا الخبر على ما فيه من التعسف والكلفة ومخالفة السنة، لا يمكن أن يورد معارضاً للأخبار الصحيحة الصريحة.

روى كذلك الحافظ نور الدين الهيثمي رحمه الله عدداً من الآثار الضعيفة والواهية في هذا الشأن، وواحداً مقبولاً ولكنه ليس في موضع النزاع، نذكر طرفاً منها حتى لا يغتر بهاأحد.

7.  عن أم عطية قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، فقلن: مرحباً برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تبايعن على ألا تشركن بالله شيئاً، ولاتسرقن، ولاتزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف؛ قلن: نعم؛ فمد عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم اشهد؛ وأمر أن يخرج في العيدين الحيض والعتق، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوله: ولا يعصينك في معروف؛ قال: هي النياحة".

قلت: ليس هذا الأثر في موضع النزاع، وليس فيه أن عمر رضي الله عنه صافحهن، ولكن مد يده وهو خارج الباب، ومددن أيديهن وهن داخل الدار، وتلى عليهن مفردات البيعة، وأشهد الله على ذلك.

8.  وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يصافح النساء من تحت الثوب".

9.  وعن عروة بن مسعود الثقفي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده الماء، فإذا بايع النساء غمسن أيديهن في الماء".

عدم المصافحة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم

يرفع البعض شبهة أخرى، وهي أن تحريم مصافحة المرأة الأجنبية من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب التدليس، إذ أن خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم معلومة ومعروفة، وقد أفردت بمصنفات، وكتب عنها، فلم يشر واحد من أهل العلم إلى إدخال المصافحة في ذلك، مما يدل على أن هذه مجرد شبهة الغرض منها التدليس والتلبيس على العوام، فالخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو يتكلم عن المصافحة، وعن أنها حسنة وسنة: (.. ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن).

كيف ومتى يسلم على النساء؟

المرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، والنساء إما محارم وإما أجنبيات بالنسبة للرجل.

فالمحارم يسلم عليهن ويصافحهن كما يصافح الرجال، أما الأجنبيات: فيجوز السلام عليهن مجتمعات، أما الواحدة فإن كانت مُتَجَالَّة، أوأمِن الفتنة، أوكانت من أهله وأقاربه ومعارفه سلم عليها.

وكيفية سلام الرجال أوالرجال على المرأة والنساء الأجنبيات أن يلوي أحدهم يده بالتسليم ويتلفظ به من غير مباشرة ولا مصافحة.

الأدلة على ذلك

عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسَلَّم علينا".

وفي رواية للترمذي عن أسماء كذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فألوى يده بالتسليم".

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كانت فينا امرأة"، وفي رواية: "كانت لنا عجوز، تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكرر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه لنا".

وعن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو يغتسل، وفاطمة تستره، فسلمت".

وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على نسوة فسلم عليهن".

أقوال العلماء في ذلك

قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أصحابنا ـ الشافعيةـ : والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، وأما المرأة مع الرجل فقال الإمام أبو سعيد المتولي: إن كانت زوجته، أوجاريته، أومحرماً من محارمه فهي معه كالرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه، وإن كانت أجنبية فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتن بها جاز أن تسلم على الرجال، وعلى الرجل أن يسلم عليها.

وإذا كانت النساء جمعاً فيسلم عليهن الرجل، أوكان الرجال جمعاً كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهن الفتنة، ولا عليها وعليهن فتنة).

وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله وهو يتكلم عن الفروق بين الرجل والمرأة: (ومنها أنها لا تبتدئ شابة بسلام وتعزية، ومنها أنها لا تجاب ولاتشمت، قال الحموي: يعني أنها لو بدأت بالسلام قيل عليه في باب "البزازية" ما يدل على أنه يجيبها بصوت غير مسموع، وعبارته: امرأة عطست أوسلمت شمتها ورد عليها لو عجوزاً بصوت يسمع، وإن شابة بصوت لا يسمع، انتهى. وفي "خزانة المفتين": وإذا عطست امرأة فلا بأس بتشميتها إلا أن تكون شابة يرد عليها سراً في نفسه انتهى.

إلى أن قال موجهاً للكلام السابق: سلام الشابة غير مسنون بل منهي عنه، لما في ذلك من الفتنة، فلا يجب رده فضلاً عن أن يشترط فيه الإسماع، وإن أبيح له أن يرد عليها بصوت لا يسمع لأن السلام تحية أهل الإسلام فيباح له الرد عليها بصوت لا يسمع رعاية لحق الإسلام والله أعلم).

وقال المقدم في كتابه "عودة الحجاب" القسم الثالث وهو من الكتب النافعة المفيدة في هذا الجانب: (ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه، وسلامة نيته، وأنه لا يتأثر بذلك فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم: "لا أمس أيدي النساء"، ويقول: "إني لا أصافح النساء"، ويمتنع عن ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً").

الخلاصة

ذهب الناس في مصافحة الأجنبية ثلاثة مذاهب: وسط وطرفي نقيض، يمثل طرفي النقيض المتمسكون بالعادات والأعراف والتقاليد، وهم صنفان:

أحدهما: لا يصافح محرمة عليه أوأجنبية، لا أختاً، ولا عمة، ولا غيرهما من المحارم، ومن باب أولى الأجنبيات، بسبب الجهل، وتقليداً وتمسكاً ببعض العادات والتقاليد القبلية، وهم كم هائل من المسلمون في إفريقيا وآسيا.

الثاني: يصافح كل النساء، لا يميز بين محارمه والأجنبيات، بل انبساطه مع الأجنبيات أكثر، بسبب الجهل كذلك، وتمشياً مع العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، وبسبب التعليم المدني، وتقليداً للكفار، وتمشياً مع الدعوات التحررية، وهؤلاء صنفان كذلك: مقلد للآباء والأجداد، وسافر متحرر من القيود الشرعية.

أما الوسط فهم الملتزمون بهدي نبيهم وسنته صلى الله عليه وسلم، فيصافحون من كان يصافح، ويسلمون بالكلام لمن كان لا يصافحهن، فالحسنة بين سوأتين، وهم الوسط بين أهل الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، كثر الله سوادهم، وثبتهم على الحق والسنة، وما ذهبوا إليه هو الحق الذي تؤيده النصوص الصريحة الصحيحة، وهو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام، والخلف العقلاء، الممتثلين لسنة خير الأنام.

فعجلا أخي وأختي المتهاونين في المصافحة بالتوبة والاستغفار، قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وتجتمع عليكما سكرة الموت وحسرة الفوت، واحذرا أن تكونا عبيداً للعادات، ومقلدين للكفار، واعلما أنكما لن تقويا على أن تُطعنا بكل مصافحة واحدة في رأسيكما بمخيط من حديد، هذا إذا كنتما موقنين أن رسولكما لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإن كنتما موقنين بالجنة والنار، وأنه لن تزول قدماكما حتى تسألا عن كل مخالفاتكما الشرعية، وتأكدا أنه لا فرق في حرمة المصافحة بين غريبة وقريبة، وجارة وبعيدة، وزميلة وغير زميلة، فالكل سواء.

واعلم أخي المسلم كذلك أن الحرج الذي ليس بعده حرج مخالفة الأوامر الشرعية، وانتهاك الحدود والآداب المرعية، وأن ما تعانيه من حرج وصدود بسبب الامتناع عن المصافحة في أول الأمر لا يساوي شيئاً بالنسبة لما ينتظرك من الحرج، والتثريب، والتعذيب، والطعن، فانظر أي الأمرين أيسر؟ وأي الحرجين أخف؟ واختر لنفسك ما فيه صلاحها، وتيقن أن رضا الناس غاية لا تنال، وأن رضا العامة لا ينال إلا بغضب الجبار.

واعلمي اختي المسلمة أن الذي لا يصافحك مكرم معز لك، وأن الذي يصافحك مذل مهين لك، علم بذلك أم لم يعلم، وتذكري قول ربك: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، فاحذري أصدقاء الدنيا أعداء الآخرة.

وفقني الله وإياك أخي المسلم وأختي المسلمة لما يحب ويرضى، وقَسَم لنا من الخشية ما يحول بيننا وبين معاصيه، وختم لنا بخير، وجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الناصح الأمين، وعلى آله وأصحابه أئمة الدين، وعلى من تبعهم بإحسان وتأسى بهم إلى أن تكتمل العدتان.

00000000000000

المنافقون اليوم أكثر عدداً، وأعظم خطراً وشراً من المنافقين الماضين، أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإخوانهم اليوم يعلنون نفاقهم

كثرة المنافقين ووفرتهم في الماضي والحاضر

كذب دعوى بعض المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق بعد العهد النبوي

أسباب كثرة المنافقين وظهورهم في هذا العصر

أخطر أدوار المنافقين في حرب الإسلام والمسلمين في هذا العصر ووسائلهم في ذلك

 

لا ولن تبتلى الأمة الإسلامية قط، في ماضيها ولا حاضرها ولا في مستقبلها، بأخطر من النفاق والمنافقين، فالمنافقون أعظم ضرراً وأكثر خطراً وأدوم مصيبة على الإسلام والمسلمين من إخوانهم الكافرين، لأنهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويرفعون شعاراتنا، ويتظاهرون بإسلامنا، وينتمون إلى جماعاتنا وفرقنا، ومع ذلك لا يفتُرون ولا ييأسون من الكيد لنا، ويتعاونون مع أعدائنا، ويوالونهم أكثر من موالاة المسلمين، لهذا فقد حذر الله ورسوله والمؤمنون من خطرهم، ونبهوا على ضررهم، وأمروا بأخذ الحيطة والحذر منهم، ويدل على ذلك ما يأتي:

1. أن الحديث عن النفاق والمنافقين ورد في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من جملة ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم).

2. خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من أئمتهم، فعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان".

قال المناوي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: (كل منافق عليم اللسان، أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغرٍ للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام).

3. خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق.

o فقد قال عمر لحذيفة ـ أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين رضي الله عنهما: ناشدتك بالله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً.

o وكان أبو الدرداء يكثر التعوذ في صلاته بعد تشهده من النفاق، فقيل له: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخرج منه.

o وقال ابن أبي مليكة ووهو من كبار التابعين: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه.

o وقال الحسن البصري رحمه الله: ما خافه ـ أي النفاق ـ إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.

o وقيل لأحمد: ما تقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟

وسبب ذلك كما قال ابن القيم رحمه الله: (إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والفساد، فلله كم من معقل للإسلام هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من علم له قد طمسوه؟ فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

كثرة المنافقين ووفرتهم في الماضي والحاضر

كان المنافقون بقسميهم ـ نفاق الاعتقاد والعمل ـ ولا يزالون في الماضي والحاضر أكثر من المؤمنين، ويزداد عددهم ويعظم خطرهم كلما مضى الزمان، وضعف الإيمان، وقويت شوكة الكفار، مما يدل على كثرة المنافقين ووفرة عددهم حتى في القرون الفاضلة أن حذيفة رضي الله عنه سمع رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين؛ فقال: "يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".

وقال الحسن البصري أيضاً رحمه الله: "لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات".

وقال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات".

إذا لم ينج من هذا الداء العضال والمرض البطال بعض العلماء والمتنسكة في الماضي فكيف بغيرهم وبمن بعدهم؟ قال الحافظ الذهبي رحمه الله في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم بهم، قال تعالى: "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم"، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم بعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته).

كذب دعوى بعض المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق بعد العهد النبوي

الآثار التي ذكرناها عن حذيفة، والحسن، وأحمد رحمهم الله فيها تكذيب للدعوى الباطلة والشبهة الخاسرة التي يرفعها بعض المرجئة، وهي نفيهم لوجود النفاق في هذه الأمة، وإنما كان النفاق في العهد الأول فقط، أما اليوم فلا نفاق، وإنما كفر وإيمان فقط.

وقصروا قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها" الحديث في المنافقين الأولين، وبرأوا من هم شر منهم، انتصاراً لمذهبهم واغتراراً ببدعتهم، حيث يشهدون على كل من نطق بالشهادتين أنه مؤمن كامل الإيمان، وأن إيمانه مثل إيمان جبريل وميكائيل!!

وقد رد السلف الصالح على هؤلاء المرجئة قولهم هذا، وأنكروا عليهم أشد الإنكار، وشنعوا بهم، واعتبروا بدعة الإرجاء صنواً لبدعة الخروج.

قيل للحسن البصري: "إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق؛ فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً".

وقال سفيان الثوري رحمه الله: "خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث؛ وذكر منها: نحن نقول النفاق، وهم يقولون لا نفاق".

وجاء رجل من المرجئة إلى أيوب السختياني رحمه الله فقال: "إنما هو الكفر والإيمان؛ فقال أيوب: أرأيت قوله: "وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم"، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي".

بل إن حذيفة رضي الله عنه اعتبر المنافقين التالين أشر من السابقين، فقال: "المنافقون الذين فيكم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون".

لهذا عد بعض أهل العلم بدعة الإرجاء أخطر من بدعة الخروج، وكلاهما خطر.

قال الزهري رحمه الله: "ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه"، يعني أهل الإرجاء.

وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: "المرجئة أخوف عندي على الإسـلام من عدتهم من الأزارقـة"، والأزارقة شر فرق الخوارج.

وقال سعيد بن جبير رحمه الله: "مثل المرجئة مثل الصابئين".

وقال الأوزاعي رحمه الله: قد كان يحيى وقتادة يقولان: "ليس في الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء".

وذلك لأنهم لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، بل يقولون: لا يضر مع الإيمان -أي مجرد النطق بالشهادتين- معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

قد يقول قائل: ما تقولون فيما خرَّج البخاري عن حذيفة رضي  الله عنه أنه قال: "إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان"؟ نقول لهم ما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: (والذي يظهـر أن حذيفة لم يرد نفي الوقـوع -أي وقوع النفاق- وإنما أراد نفي اتفاق الحكم، لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف، لعدم الاحتياج إلى ذلك).

ويؤيد ما قاله الحافظ الآثار العديدة عن حذيفة رضي الله عنه التي بين فيها كثرة المنافقين في عهده، وحذر من خطورتهم.

أسباب كثرة المنافقين وظهورهم في هذا العصر

الأسباب التي أدت إلى وفرة المنافقين وظهورهم وعظيم خطرهم في هذا العصر أكثر من ذي قبل، كثيرة جداً، نشير إلى طرف منها، فنقول من ذلك:

1.  تفشي الفكر الصوفي في معظم بلاد الإسلام.

2.  تفشي الفكر الإرجائي من غير انتساب إليه.

3.  تفشي الفكر الاعتزالي كذلك من غير انتساب إليه.

وذلك لتسرب هذه الأفكار الخطيرة إلى المسلمين عن طريق المدرسة التي نسبت إلى الإصلاح، التي أنشأها محمد عبده، حيث أفرزت الكثير من الأفكار الاعتزالية، متمثلة في تجسيم وتعظيم دور العقل، وجعله الحَكَم على كثير من النصوص التي توقع المنهزمين في حرج مع الكفار، وكذلك أفرزت بعض عقائد المرجئة.

4.  فساد العقيدة، وانتشار كثير من الممارسات الشركية والبدع، حتى اعتبرت من أصل الدين.

5.  تفشي الجهل في الأمة بسبب هيمنة التعليم اللاديني، وإنشاء الكثير من المعاهد والجامعات على غرار المعاهد والجامعات عند الكفار.

6.  إقصاء الإسلام عن معظم مناحي الحياة، وحكم المسلمين بالقوانين الوضعية المستمدة من القانون الفرنسي وغيره.

7.  ضعف عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، الذي نتج من الأسباب السابقة الذكر، وعقيدة الولاء والبراء هي صمام الأمان لهذه الأمة.

8.  تقدم الكفار العسكري والاقتصادي والمدني حبَّب للمسلمين الجهلة المغلوبين على أمرهم تقليد الكفار والتشبه بهم.

9.  السياسة التي انتهجها الكفار بعد أن قضوا على الدولة العثمانية، وتقاسموها مستعمـرات فيمـا بينهم -فرِّق تسد- وسعت دائرة الخلاف بين المسلمين.

10.  هيمنة الكفار على أنظمة الحكم في جل البلاد الإسلامية.

11.  حرص كثير من حكام المسلمين على كراسي الحكم، ولو أدى ذلك إلى إقصاء الإسلام بالكلية.

12.  غياب فريضتي الجهاد -جهاد الطلب والدفاع- والأمر بالمعروف عن الأمة.

13.  تضخيم دور الإعلام الكافر جعل الإعلام في بلاد الإسلام عبارة عن بوق لما تنشره وسائل الإعلام الكافرة.

14.  حرب المصطلحات التي أفلح فيها الكفار أدت إلى تغيير كثير من المفاهيم، وزعزت كثيراً من المسلمات عند المسلمين.

15. سيطرة المنافقين على وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية قاطبة، وحجب الأخيار عن ذلك، حيث لا يفتح لغيرهم إلا لمن اطمأنوا أنه لا للإسلام الخالص ناصر، ولا للكافرين والمنافقين والزنادقة كاسر.

16. الحرب الصليبية التي شنتها أمريكا وأذيالها وعملاؤها على الإسلام وفي كل المجالات في آخر القرن الماضي وأول الحالي، وهيمنتها على المؤسسات الدولية، وعلى الحكومات الإسلامية وغيرها، زاد من جرأتهم ورفع عقيرتهم ومجاهرتهم بمحاربة الإسلام.

أخطر أدوار المنافقين في حرب الإسلام والمسلمين في هذا العصر ووسائلهم في ذلك

ما من مجال يكون فيه ضرب للإسلام وإضعاف لأهله إلا ونجد للمنافقين المتظاهرين بالإسلام في هذا العصر أوفر الحظ والنصيب، كانت المجالات التي يسلكها المنافقون لضرب الإسلام ومحاولة القضاء عليه كلما وجدوا سانحة ولا تزال هي:

1.  التخذيل للمسلمين والتهوين من شر أعداء الدين.

2.  الإشاعات المغرضة.

3.  التجسس على المسلمين ومد الأعداء بما يعينهم على ذلك.

4.  الإعلام لتغيير المفاهيم، والتشكيك في المسلمات، وزرع الخوف في نفوس الضعفاء.

5.  موالاة الكفار ومعاداة أهل الإسلام.

كل هذه المجالات سلكها المنافقون في الماضي، ولكن زاد عليها منافقو هذا العصر مجالات أخر لم تخطر ببال إخوانهم وسلفهم الطالح، ألا وهي:

6.  القتال والتخطيط والتعاون على ذلك جنباً إلى جنب مع الكفار، من غير خوف ولا وجل ولا حياء، مبررين لذلك بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تخطر على بال الشيطان.

7.  إعلان حربهم ومجاهرتهم بعدائهم للإسلام والمسلمين، بينما كان شيوخهم عبدا السـوء ابن سلـول، وابن سبأ، ومن والاهما يستترون من الناس، ويستحيون بعض الشيء، ولكن منافقي اليوم نُزِع الحياء من قلوبهم بسبب اطمئنانهم وتقويهم بالكفار.

الأدلة على ما ذكر لا تحصى كثرة، ولكن سنكتفي بالتمثيل لدور المنافقين في حربهم ضد الإسلام والمسلمين في جانب واحد ولقطاع واحد من قطاعاتهم العديدة، وجوانبهم الكثيرة، الا وهو الجانب الإعلامي، حيث يقوم المنافقون بحملات مسعورة لطمس الحقائق، ولتزوير الوقائع، وللتشكيك في المسلمات، والطعن في الثوابت، والتلبيس والتدليس على العامة، ويتمثل هذا الدور أصدق تمثيل في الآتي:

1.  تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام غير سياسي، والتركيز على أن الإسلام السياسي هذا من صنع الحركات الإسلامية، ولا وجود له في الدين، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض نفاقاً، وإلا فجلهم لا يؤمن بجميع الكتاب، ويصورون للعامة أن الإسلام السياسي محدث، وشن حملة شرسة ضد الحركات الإسلامية، مع التركيز على بعض الرموز.

2.  تحرير المرأة من القيود الشرعية حتى تنطلق كما انطلقت أختها في الغرب، وتخرج من بيتها سافرة متبرجة لتكون لقمة سائغة للذئاب البشرية، زاعمين حرصهم على المرأة، لتتمكن من الحصول على حقها السياسي، ولتساوي الرجل، ولتنزع الحجاب، ولتختلط بالرجال، فالنساء شقائق الرجال، فلِمَ يخص الرجل بوظائف والمرأة بوظائف أخرى؟ هذا من نسج خيال الأصوليين المتطرفين.

3.  الدعوة إلى مساواة الأديان والاعتراف بالأديان المحرفة المنسوخة، ووضعها على قدم المساواة مع الإسلام، والتوحيد بين أتباعها تحت مظلة الحزب الإبراهيمي، إذ الجميع مؤمنون، ومن ثم الدعوة إلى التعايش السلمي بين أتباع هذه الأديان، وذلك على أساس "النسبية الثقافية"، وعدم هيمنة ثقافة واحدة على الثقافات الأخرى، ويعنون بالثقافة الواحدة الإسلام، أما أن تهيمن الثقافة المادية الكافرة علىجميع الثقافات فهذا لا غبار عليه ولا خطر فيه.

4.  السعي إلى إباحة الردة وإنكار حدها، حتى يتسنى لهم ما يهوون مصداقاً لقول الله عز وجل: "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة".

5.  القضاء على عقيدة الولاء والبراء، لأنها تفرق ولا تجمع بين البشر.

6.  محاولة شطب مفهوم الجهاد من قاموس المسلمين، والتدليل على أن الإسلام لم ينشر بحد السيف، ورداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة".

7.  القضاء على ما تبقى من أثارة من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

8.  التدخل السافر والدعوة الماكرة لإصلاح المناهج والمقررات، حتى تؤتي ثمارها، وتقضي على ما تبقى عند المسلمين من نخوة ورجولة واعتداد بهذا الدين.

9. التبرير لما تقوم به أمريكا في حربها الصليبية المتعددة الجوانب والأهداف لإذلال المسلمين وإضعافهم، عن طريق غزو البلاد الإسلامية واستعمارها وإشاعة الرعب والفوضى في ربوعها.

10.  إظهار أن أمريكا قوة لا تقهر، وأن المسلمين لا قبل لهم بها، ولهذا عليهم أن يستسلموا لها ويخضعوا لسيطرتها.

هذه مجرد أمثلة لما يقوم به المنافقون بألوانهم المختلفة، ونكهاتهم المتعددة في الجانب الإعلامي، بغرض القضاء على الإسلام، واستسلاماً للقطب الأوحد والطاغوت الأكبر، دعك عن الجوانب الأخرى.

فعلى المسلمين أن يحذروا مكر هؤلاء، وتدليسهم، وتخطيطهم، وعليهم أن يواجهوا هذا التخريب والإفساد بحزم وعزم وشدة، وبرجوع صادق إلى شرع الله المصطفى، وبتوحيد الجهود وتنسيق العمل، وبنبذ الخلافات، وتغيير ما بهم من ضعف واستكانة وخذلان، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وليعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الضيق بعده الفرج، وأن الأمر بيد الله، وأن الله غالب على أمره، وناصر لمن نصره، ومتولٍ لمن تولاه، وخاذل لمن عاداه وخالف أمره.

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والفواحش والآثام، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على محمد خير الأنام، وآله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

000000000000000000000

لا حوار مع الكفار في سوى التخيير بين الإسلام، والجزية، والقتال

محاورة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع زعماء الروم في فتح بلاد الشام

محاورة أبي عبيدة رضي الله عنه مع رسول الروم

محاورة عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس

مخاطر الحوار مع الكفار في غير الخصال الثلاث

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

عندما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب، ودخل كافة أهلها في دين الإسلام، وتشرفوا وعزوا وأكرموا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه إلى كافة ملوك الدنيا ورؤسائها المحيطين بالجزيرة في ذلك الوقت يدعوهم إلى الإسلام، فمنهم من أجاب، ومنهم من أذعن وهادن، ومنهم من استكبر واستنكف ومزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشقاهم كسرى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزق ملكه، وأن تدك دولته، وأن يخسر آخرته، فكان ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دُكت هذه الدولة المجوسية، ودخل أهل فارس في دين الإسلام كما دخل غيرهم عندما رُفعت راية الجهاد ـ جهاد الطلب ـ وخرج المسلمون فاتحين، ومبشرين، وناصحين للبشرية، في تبوك وما تلتها من الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ولم تزل هذه السنة الحميدة ماضية في المسلمين في عهد الدولتين الأموية والعباسية وما تلاهما، استجابة لأمر ربهم: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله"، وطلباً للتجارة الرابحة، وحرصاً على السلعة الغالية: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".

وهروباً من النفاق ومن الميتة الجاهلية، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"، وفي رواية عن أبي أمامة: "من لم يغز، أويجهز غازياً، أويخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".

هكذا كان حال المسلمين إلى أن أسقطت الدول العثمانية، بعد تكالب اليهود، والنصارى، والمنافقين عليها، وقسِّمت إلى دويلات فيما بينهم، وجثم الكفار على صدر الأمة، وعملوا على تغيير هويتها، وإذابة شخصيتها، والإخلال بعقيدتها، والتشكيك في مسلماتها، ولهذا استبدل البعض الذي هو أدنى بالذي هو خير، ورضوا بالدنية في دينهم، وطلبوا العز في غيره فأذلهم الله.

فقد استبدلوا الحوار مع الكفار، والتعايش السلمي معهم، والتشبه بهم، وموالاتهم، برفع راية الجهاد، والاعتداد بهذا الدين، والتبرؤ من الكفار، وعمل فيهم الإعلام الكافر والموجه عمله، فتغيرت الموازين، وتبدلت المفاهيم، فأضحى جهاد المدافعين عن أوطانهم ودينهم إرهاباً، واغتصاب الكفار لديار الإسلام وقتل الأبرياء والآمنين منهم عملاً مشروعاً، وسخروا عملاءهم في الداخل والخارج لتحقيق أهدافهم، ومنهم كثير من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويرفعون شعاراتنا، بعد أن فرقوا بين المسلمين، وزرعوا الشك وسوء الظن بينهم، وصدقت فيهم نبوءة رسولهم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن غثاء كغثاء السيل".

ونسوا أوتناسوا أوجهلوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، وأن رضا الكفار لا ينال إلا بالانسلاخ من دين الإسلام، وأن موالاة الله ورسوله والمؤمنين لا تجتمع في قلب واحد مع موالاة وممالأة الكافرين.

الأدلة على أن الحوار مع الكفار لا يكون إلا في الاختيار بين أحد ثلاث خيارات، هي: الإسلام، أوالجزية، أوالقتال، من الكتاب، والسنة، وسيرة السلف الصالح كثيرة، نورد منها ما تيسر:

قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".

وقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في صحيح مسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ـ إلى قوله: فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".

وبهذه الخصال خيَّر قواد المسلمين في الفتوحات الإسلامية الأولى أبو عبيدة، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم وغيرهم الكفار، ولم يتعد حوارهم ذلك أبداً، وكان لهم ما أرادوا، وإليك نماذج من ذلك:

محاورة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع زعماء الروم في فتح بلاد الشام

طلب زعماء الروم من أبي عبيدة أن يرسل إليهم رجلاً ليعرفوا حاجة المسلمين، فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل وكان ذلك في سنة 13 هـ، قبل معركة اليرموك.

قال معاذ لترجمانهم: افهم عني أن أول ما أنا ذاكر حمد الله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن أول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا في ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية إلينا في كل عام وأنتم صاغرون، ونكف عنكم، وإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله عز وجل نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وندعوكم إليه.

فلما فرغ معاذ من خطابه قالوا: ما نرى بيننا وبينك إلا متباعداً، وهذه خصلة نحن نعرضها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم، نعطيكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأرض، وتنحَّوا عن بقية أرضنا وعن مدائننا، ونكتب لكم كتاباً نسمي فيه خياركم وصلحاءكم.

فقال معاذ: هذا الذي عرضتم علينا وتعطونه كله في أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي وصفت لكم ما فعلنا.

فغضبوا عند ذلك، وقالوا: نتقرب إليك وتتباعد عنا؟ اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجوا أن نفرقكم في الجبال غداً.

فقال معاذ: أما الجبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا، أولنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون، فانصرف معاذ إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا، وبما رد عليهم.

محاورة أبي عبيدة رضي الله عنه مع رسول الروم

ثم بعثوا إلى أبي عبيدة رجلاً يخبر به عنهم قالوا: إنك بعثت إلينا رجلاً لا يقبل النَّصَف، ولا يريد الصلح، ولا ندري أعن رأيك ذلك أم لا، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلاً منا يعرض عليك النَّصَف. فقال لهم أبو عبيدة: ابعثوا من شئتم.

عندما وصل رسولهم قام أبو عبيدة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الله بعث فينا رسولاً نبياً، وأنزل علينا كتاباً حكيماً، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم، رحمة منه للعالمين.

إلى أن قال: وأمرنا رسولنا فقال: إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وبالإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل، فمن آمن وصدَّق فهو أخوكم في دينكم، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية حتى يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أويؤدوا الجزية فاقتلوهم وقاتلوهم، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله، وهو في جنات النعيم، وقتيل عدوكم في النار.

فإن قبلتم ما سمعتم مني فهو لكم، وإن أبيتم ذلك فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

محاورة عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس

طلب المقوقس من عمرو بن العاص رضي الله عنه رسولاً يفاوضه، فأرسل إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وآخرين، وكان عبادة أسود قصيراً، وأمره أن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث، وقال: إن أمير المؤمنين قد تقدم إليَّ في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئاً إلا خصلة من هذه الثلاث خصال، وهي: الإسلام، أودفع الجزية، وإلا فالقتال؛ فالتزم عبادة بوصية أميره أبي عبيدة.

هذه هي الخصال التي ينبغي أن يحاور فيها المسلمون الكفار، ليختاروا ما يرونه، أما ما سوى ذلك فلا مجال للحوار.

هذا إن كان للمسلمين قوة ومنعة وعدة على ذلك، وإلا فعليهم أن يعدّوا لذلك العدة، وأن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، كما فعل أسلافهم في حرب التتار، وحرب الصليبيين، شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه، وصلاحُ الدين الأيوبي وأسلافه.

فهل يا ترى سيلتزم المحاورون الآن للكفار بهذه الخصال، وليس لهم قدرة عليها ولا شأن بها؟ أم أن الحوار يتركز على محاولة إيقاف جهاد الدفاع المشروع الذي يمارسه المستضعفون من المسلمين في كثير من بلاد الدنيا، وعلى كيفية التعايش السلمي بين المسلمين والكفار، وعلى تطبيع العلاقات وتحسينها بين الدول الإسلامية والكافرة؟! أم لدفع تهمة الإرهاب عن الإسلام، التي أشاعها الكفار عن المسلمين زوراً وبهتاناً؟ وكما قيل: رمتني بدائها وانسلت!!

مخاطر الحوار مع الكفار في غير الخصال الثلاث

1.  إزالة ما تبقى من عقيدة الولاء والبراء التي هي أساس هذا الدين.

2. خذلان إخواننا المجاهدين عن دينهم وأرضهم وعرضهم في كل من فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والفلبين، وغيرها من البلاد.

3.  تنكيس راية الجهاد بنوعيه: جهاد الطلب الذي هو أساس الجهاد، وجهاد الدفاع الذي هو الوسيلة الوحيدة لرد الحقوق إلى أهلها.

4 .  تشجيع ظاهرة الغلو والتطرف لدى الشباب.

5.  زعزعة الثقة أوانعدامها لدى طائفة كبيرة من الشباب في هؤلاء المحاورين، وفي ذلك خسارة كبيرة.

6.  توسيع دائرة الخلاف في الأمة الإسلامية.

7. الاعتراف بالأديان المنسوخة والمبدلة كاليهودية والنصرانية، والتسوية بينها وبين الدين الناسخ للأديان، الإسلام.

8 .  المستفيد الأول من هذه الدعوات التقريبية بين الأديان هم الكفار، والخاسرون هم المسلمون.

9. الدعوة إلى المساواة بين الأديان المبدلة والإسلام بأي صورة من الصور من الدعوات الإنسانية التي تسعى لتجميع الخلق على غير الدين، وهي دعوة كفرية.

10 .  التشكيك في كفر اليهود والنصارى ناقض من نواقض الإسلام.

11.  الغرض من هذه الحوارات أن يكف الكفار أذاهم عن المسلمين ويرضوا عنهم، وهذه غاية لا تنال بنص القرآن إلا بالانسلاخ عن الإسلام: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".

وأخيراً أحب أن أذكر أننا لا نشك قط في نوايا الداعين والمشاركين في هذه المؤتمرات والحوارات، بأن هدفهم من ذلك رفع العناء والضغط عن المسلمين، ودفع الشبه التي يرفعها أعداء الإسلام ضد الإسلام والمسلمين، لكن كم من طالب أمر لم يصبه؟ وراج رجاء فأخطأه، وصدق النية وحده لا يكفي، فلابد من موافقة ذلك لما جاء به الشارع الحكيم، ولهذا ننصح جميع إخواننا المسلمين بعدم الدعوة والمشاركة في هذه المؤتمرات والحوارات، لما فيها من الأضرار والمخالفات الشرعية.

والله أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إلى الحق رداً جميلاً، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يعز به أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكرن، اللهم ارفع علم الجهاد، وأهلِك أهل الكفر، والفسق، والعناد، وانشر رحمتك وأمنك على العباد.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أتباعهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

بمناسبة مؤتمر "الإسلام والغرب في عالم متغير"

الذي عقد في الخرطوم السبت 19 شوال 1424ﻫ

000000000000000000000000

عدم نظر الكريم المنان لمسبل الأزر، والثياب، والسراويل، والقمصان

جر الإزار خُيلاء كبيرة من الكبائر، ويمنع من نظر المولى للعبد، ويحتاج إلى توبة

الإسبال يكون في كل الملابس

حكم الإسبال

الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً

الحالات التي يجوز فيها الإسبال

الحالات التي يجوز فيها الإسبال

حكم وضوء وصلاة المسبل

الخلاصة

 

الحمد لله الذي أمرنا بالاقتداء والتأسي بالأنبياء وأتباعهم، وحذرنا من التشبه بالكفرة، والفجرة، والفاسقين، فقال: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر"، وقال: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله... لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"، ورضي الله عن ابن مسعود حين قال ناصحاً لإخوانه المسلمين من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا فضلهم، واتبعوهم في أقوالهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على صراط مستقيم".

اعلم أخي الكريم أن أحب الكلام كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، واعلم كذلك أن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما أخبر الصادق المصدوق.

وما من هدي ولا سمت أفضل ولا أحسن ولا أكرم ولا أصلح من هدي وسمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان من الأنام.

من هذا السمت الصالح والهدي الفالح تعاهد الأزر، والقمصان، والسراويل، والعمائم، والأكمام، ألا تزيد وتتجاوز على ما كان عليه هدي سيد ولد عدنان، (وكان هديه في لبسه لما يلبسه، أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرُّسْغ، لا تجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعه خفة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه فتبرز للحر والبرد.

وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي ويؤوده، ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقه فتنكشف فيتأذى بالحر والبرد.

ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذي الرأس حملها ويضعفه، ويجعله عُرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسط بين ذلك).

ومن عجيب أمر غالبية الذكران من المسلمين تهاونهم في أمر تواترت فيه الأحاديث والسنن تواتراً معنوياً، وزاد عدد رواتها عن ست وعشرين صحابياً، وورد فيه من التحذير والتغليظ الشيء الكثير، نحو: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً"، و"ما أسفل من الكعبين فهو في النار"، و"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"، وذكر منهم: "المسبل".

وأعجب من إسبال الرجال، تشمير بعض النساء عن سوقهن بعد الإسفار عن شعورهن ووجوهن، وقد أمرن بإسبال ذيولهن ذراعاً، مخالفات بذلك أمر رسولهن، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح تورد المهالك، قال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"، قال الإمام أحمد: (الفتنة الشرك، لعله إن ترك بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)، ومخالفات لما سنته لهن هاجر أم إسماعيل عليها السلام، كما ذكر ذلك الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار": (أول امرأة جَرَّت ذيلها هاجر أم إسماعيل عليه السلام)، فقد عكسن الآية كما يقولون.

ولله در أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ما أطهرها وأعفها، عندما خشيت أن يكون التشمير عاماً للرجال والنساء استفسرت عن ذلك في الحال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً، فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن، فقال: يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه".

وبعد..

فهذا بحث عن الإسبال في اللباس، عن حكمه للرجال والنساء، وعن الحالات التي يباح فيها الإسبال، وعن أدلته، وهل هناك فرق بين من يصنعه تكبراً وخيلاء وبين من يفعله عادة وتقليداً؟ وعن مذاهب أهل العلم في حكم وضوء وصلاة المسبل، وما يتعلق بذلك.

والله أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص، وأن يوفقنا للاتباع، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا وإلى جميع المسلمين الكفر والفسوق والعصيان، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل الرسل والنبيان، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واتبع رضاهم.

الإسبال يكون في كل الملابس

الإسبال يكون في جميع ما يلبسه الرجال، سيما في الآتي:

1. الإزار.

2. القميص، الثوب، الجلباب.

3. الكم.

4. السراويل.

5. لعمامة.

6. العباءة، المشلح.

قال صلى الله عليه وسلم: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة" .

القدر المستحب والجائز الذي يصل إليه حد الثوب في الإزار، والقميص، والسراويل يختلف من نوع إلى آخر فيما فوق الكعبين، وإليك التفصيل:

1. الإزار

له ثلاثة حدود، وهي:

أ. عضلة الساق، وهي أعلاها.

ب. نصف الساقين، وهو أوسطها.

ج. فوق الكعبين، وهو أدناها، وما غطى الكعبين أوزاد فهو حرام.

2. القميص، الثوب، والجلباب، والعباء

هذه لها حدان:

أ. أعلاهما وأحبهما إلى نصف الساقين.

ب. وأدناهما إلى ما فوق الكعبين، وهو الجائز.

هذا في الطول، أما في العرض فينبغي أن لا يكون واسعاً فضفاضاً وأن لا يكون ضيقاً واصفاً للعورة.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج ـ أولا جناح ـ فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار".

3. الكُمّ

الإسبال يكون في طوله وعرضه، أما الطول فينبغي أن لا يتجاوز الرّسغ، وأما العرض فلا يكون واسعاً.

4. العمامة

الإسبال يكون في طولها وعرضها على أن لا يزيد الطول على المعتاد 3-4 أمتار، وفي ذؤابتها أن لا تتدلى أكثر من شبر.

5. السراويل

من نصف الساقين إلى ما فوق الرجلين.

6. العباءة والمشلح

من لبس عباءة عليه أن يدخل يديه في كميها فيضمها إلى جانبيه.

قال الشيخ بكر أبو زيد: (وبه يُعلم أن من يلبس العباءة أي "المشلح" فيرسله على جانبيه دون أن يدخل يديه في كميه، فيضمه، أويضم جانبيه، أن هذا من السدل المنهي عنه، وهو مُشاهَد من عمل الروافض، ولدى بعض المترفين من المسلمين).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي، قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جَرَتْ به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال، وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفيها بين كتفيه"، وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك.

قال شيخنا في شرح الترمذي: ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه. قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيداً، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة).

حكم الإسبال

(أ) حكم الإسبال للرجال

كل ما زاد على الكعبين أوالرسغين فهو حرام وكبيرة، وإن كان مصحوباً ببطر وخيلاء فهذا مع كونه كبيرة فإنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة.

(ب) حكم الإسبال للنساء

ما زاد على الذراع فهو حرام.

الأدلة على ذلك

الأدلة على تحريم الإسبال على الرجال كثيرة جداً بلغت حد التواتر المعنوي، وقد رواها ما يقارب الثلاثين من الصحابة، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن والمسانيد، ومنها ما هو في دواوين السنة الأخرى، وإليك طرفاً منها:

1. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".

2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفل عن الكعبين ففي النار".

3.  وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً".

4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يجلجل إلى يوم القيامة".

5. وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: "كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّسغ".

6.  وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبوذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".

7. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" .

8. وعن أبي جُرَي جابر بن سُليم رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة".

9. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك؛ فرفعته، ثم قال: زد؛ فزدتُ، فما زلت أتحراها بعد؛ فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين".

الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً

الإسبال حرام، فإن كان مصحوباً بخيلاء وبطر فهو كبيرة من الكبائر، ولا ينظر إلى صاحبه يوم القيامة، والوصف بالخيلاء خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند عامة الأصوليين كما قال الشيخ بكر أبو زيد، كما في قوله: "وربائبكـم اللاتي في حجـوركم"، فبنت المرأة محرمة على زوجها،  ربيبة كانت عنده أم لا، ونحو قوله: "ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة"، فالربا قليلُه وكثيرُه حرام.

والأدلة على ذلك كثيرة، منها:

1.  عن ابن عمر يرفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جرَّ الإزار من المخيلة".

2.  وعن أبي جري رضي الله عنه مرفوعاً: "وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة".

3.  وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على جابر بن سليم رضي الله عنه، وأنكر على عمرو الأنصاري رضي الله عنه رفع إزاره.

4.  وأنكر على رجل من ثقيف، ورفع كذلك.

قال الشيخ بكر أبو زيد: (ورد النهي عن الإسبال مطلقاً في حق الرجال، وهذا بإجماع المسلمين، وهو كبيرة إن كان للخيلاء، فإن كان لغير الخيلاء فهو محرم مذموم في أصح قولي العلماء، والخلاف للإمام الشافعي والشافعية إنه إذا لم يكن للخيلاء فهو مكروه كراهة تنزيه، على أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقضي بأن مجرد الإسبال خيلاء).

قلت: ليس كل خلاف يستراح له، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أقوى الأدلة على تحريم الإسبال من غير خيلاء استفسار أم سلمة رضي الله عنها، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها بأن تسدل المرأة ذيلها مقدار شبرين معتدلين، أي حوالي ذراع.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على استفسار أم سلمة: (ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقيب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم على فهمها.

إلى أن قال: والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقصر الإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك النساء على استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمد عن حميد عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبراً"، ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه).

الحالات التي يجوز فيها الإسبال

الإسبال إما كبيرة من الكبائر إذا قرن بالبطر والخيلاء، بجانب عدم نظر المولى إليه، وإما حرام إذا خلا من ذلك، ولا يحل إلا في بعض الحالات التي استثناها الشرع، وهي:

1.  للنساء لستر أقدامهن.

2.  عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات، ولهذا فإن للضرورات أحكام خاصة.

3.  عند الاستعجال، حيث يغفل الإنسان ويسها عن بعض الأمور من غير قصد، فإذا ذكر وجب عليه في الحال أن يرفع.

4.  لمن يتعاهد ذلك دائماً، ولكن يسبل إزاره لنحافته، كحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وإليك الأدلة على ذلك

1. الحديث السابق عن ابن عمر: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبوبكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".

وأبوبكر في الحقيقة لا يفعله خيلاء ولا من غير خيلاء، ولكن لنحافته فإن إزاره مهما شمره ينزل ما لم يتعاهده دائماً.

2. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس، فصلى ركعتين، فجلي عنها، ثم أقبل علينا وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها"، والشاهد فيه: "فقام يجر ثوبه مستعجلاً"، وذلك لفزعه صلى الله عليه وسلم من هذه التغييرات الكونية.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح معلقاً على هذا الحديث: (فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي).

وقال كذلك: (ويستثنى من إسبال الإزار مطلقاً ما أسبله لضرورة، كمن يكون بكعبيه جرح مثلاً يؤذيه الذباب مثلاً إن لم يستره بإزاره، حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي"، واستدل على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي).

3.  والدليل على إباحة ذلك للنساء استفسار أم سلمة السابق وإقراره صلى الله عليه وسلم على ذلك.

أما لدقة الساقين أولعيب فيهما فلا يحل الإسبال، ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني من حيث أبي أمامة رضي الله عنه: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حُلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك؛ حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين؛ فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث.

قال ابن حجر في الفتح: (وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته عن "عمرو بن فلان"، وأخرجه الطبراني أيضاً عن "عمرو بن زرارة"، وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار؛ ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرو المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة.

وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك؛ فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي؛ قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن"، وأخرجه مسدّد وأبوبكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" أي الإسبال، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد: "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك، فقال: إني أحمش الساقين"، فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساقين، ولا يظن أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة، والله أعلم، وأخرج النسائي وابن ماجةو صححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهل وهو يقول: "يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين").

حكم وضوء وصلاة المسبل

ذهب أهل العلم في وضوء وصلاة المسبل مذهبين:

الأول: صحح وضوء وصلاة المسبل مع الكراهة، وهم العامة من أهل العلم.

الثاني: أبطل وضوء وصلاة المسبل، وهذا مذهب ابن حزم وأحمد بن حنبل.

استدل المبطلون لوضوء وصلاة المسبل بما يأتي:

1. بما أخرجه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال النووي في رياض الصـالحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ؛ فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ؛ فقال له رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل".

2. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام".

قال الشيخ بكر أبو زيد: (لشدة تأثير الإسبال على نفس المسبل، وما لكسب القلب من حالة وهيئة منافية للعبودية، منافاة ظاهرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسبل بإعادة الوضوء، وأن الله لا يقبل صلاة مسبل، وحمل الفقهاء ذلك الحديث على الإثم مع صحة الصلاة، كحال فيمن صلى في كل ثوب يحرم لبسه، وفي الدار المغصوبة، وكما في تحريم آنية الذهب والفضة اتخاذاً واستعمالاً، وتحريم الوضوء منهما، خلافاً لابن حزم، ومذهب أحمد القائل ببطلان وضوء المسبل صلاته، وأن عليه الإعادة لهما غير مسبل، نعم، لا يصلي المسلم خلف مسبل اختياراً).

الخلاصة

1. أن ما زاد على الكعبين للرجال، ويقاس عليه ما زاد على الرُّسغين من اليدين، من الأزر، والقمصان، والسراويل، والأكمام، ونحوها فهو في النار، أما بالنسبة للمرأة فتجر مقدار شبر أوذراع.

2.  لا فرق في الإسبال بين القميص، والإزار، والرداء، والعمامة، والكم، والعباءة.

3.  لا فرق في حرمة الإسبال بين من فعله خُيلاء وبطراً أم لا، إلا أن من فعله بطراً إثمه أشد ووزره أكبر لأنه كبيرة، ويحتاج إلى توبة منه قبل اجتماع سكرات الموت وحسرات الفوت عليه.

أدل دليل على عدم التفريق ما قاله الخليفة الراشد، والإمام العادل، والعبقري الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو محتضر لذلك الشاب الأنصاري العاقل، الذي أثنى على عمر خيراً، وعندما خرج قال عمر: ردوه عليّ؛ فعندما رد إلى عمر قال له: "ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك".

قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: (لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجرُّه خيلاء! لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره).

وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على ما قاله الإمام ابن العربي المالكي: (وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة").

4. الإسبال حرام، ولا يليق بأي مسلم ذكر، صغيراً كان أم كبيراً، وتشتد حرمته ويقبح فعله من المنتسبين إلى العلم والدين، سيما الأئمة منهم في الصلاة، لما يعرض وضوءهم وصلاتهم إلى النقصان إن لم نقل إلى البطلان، فالحذر الحذر أخي الحبيب من الإسبال المؤدي إلى البطر والخيلاء والخسران، وعليك أن تبادر باتباع أمر رسولك وحبيبك محمد، وعليك أن تقتدي بأصحاب رسولك في سرعة الاستجابة لأوامره ونواهيه، وعليك أن يكون لك في خُريم الأسدي الأسوة الحسنة، عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم الرجل خُريم، لولا طول جمته وإسبال إزاره"، فأخذ خريم شفرة وقطع بها جمته، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.

فعليك أخي الحميم أن تأخذ جلاليبك وسراويلك وقمصانك، وإن كنت مبتلياً بلبس "البناطلين" فخذها كذلك واذهب بها إلى أقرب ترزي، وقص ما زاد على الكعبين والرسغين، والله يسامحك على سعتها، واحذر أن تخيط ثياباً جديدة تزيد على كعبيك ورسغيك، وإلا فاعلم أن النار ستسع ذلك كله، أعاذنا الله وإياكم من النار ومن غضب الجبار.

5. لا ترغب أخي المسلم عن نظر الله إليك يوم القيامة، فهو من أعظم النعم، وقد توعد الله أنه لا ينظر إلى من جر إزاره خيلاء وبطراً، واعلم أن مجرد الجر هو خيلاء.

6. احذر اخي الكريم لباس الشهرة، ولا تشمر سراويلك، وقمصانك، وجلاليبك أعلى من نصف ساقيك، فإسبال الثياب وسعتها شهرة وكذلك تشميرها الزائد عن الحد الشرعي شهرة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور الوسط، فلتكن ثيابك ما بين نصف ساقيك إلى ما فوق كعبيك.

والشهرة في اللباس تكون في الإسبال، وفي التشمير المخل، وفي السعة، واللون، والهيئة، والصفة، والتشبه بالكفار، وهو كل ما خرج عن العادة والعرف الشرعي، خرَّج أبو داود بسنده عن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله"، زاد عن أبي عوانة: "ثم تلهب فيه النار"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه كذلك: "من تشبه بقوم فهو منهم".

قال الشيخ بكر أبوزيد: (وتحصل الشهرة بتميز عن المعتاد: بلون، أوصفة تفصيل للثوب، وشكل له، أوهيئة في اللبس، أومرتفع أومنخفض عن العادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، وإظهار الترفع، أوإظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلك.

وقال غير واحد من السلف: لباس الشهرة مما يزري بصاحبه ويسقط مروءته.

وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميص، فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره.

وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وعليَّ قميص أسفل من الركبة وفوق الساقين، فقال: أي شيء هذا؛ وأنكره، وقال: هذا بالمرة لا ينبغي.

وإذا حملتك الغيرة في الإنكار على المسلمين، فتخلص قبلُ من لباس الشهرة، كما يتعين على المسبل أن لا ينكر على المرتدي لباس الشهرة وهو متلبس بالإسبال، ابدأ بنفسك فانهها عن غيها..).

7. أما حجاب المرأة فلا يدخل في هذا، فلها أن تلبس العباءة أوأي لباس يغطي جميع جسدها، سواء كان معتاداً في بلدها أم غير معتاد، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنبوذ ما نبذه الشرع.

8. كانت العرب في جاهليتها وبعد إسلامها تمدح تشمير الإزار كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار"، قال متمم بن نويرة في مدح ورثاء مالك أخيه:

تراه كنصل السيف يهتز للندى            وليس على الكعبين من ثوبه فضل

وقال العجير السلولي:

و كنتُ إذا داعٍ دعا لمضـوفة            أشمر حتى يَنْصُفَ  السَّاقَ مئزري

وفي رواية:

وكنتُ إذا جاري دعا لمضوفة            أشمـر حتى يبلغ السَّـاقَ مئزري

بله قال عمر بن أبي ربيعة معرضاً برجل يجر ثوبه:

كتب القتـلُ والقتـالُ علينـا            وعلى الغـانيـات جـرُّ الذيـول

وأحب أن أختم هذا بما قال الحافظ الذهبي معلقاً على قول ابن عمر رضي الله عنهما: "أخاف أن أكون مختالاً فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور"، لما فيه من الرد على القائلين أن الإسبال ليس حراماً إلا إذا صُحِبَ بكِبْر وبطر:

(قلت: كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخراً فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربع مئة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر، وقال: ما فيّ خيلاء ولا فخر؛ وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه، وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار"، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء؛ فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري؛ فقال: "لستَ يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء"، فقلنا: أبوبكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي، وقد قال عليه السلام: "أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بين ذلك والكعبين"، ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس، وقد يُعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خُلع على رئيس خلعة سِيَراء من ذهب وحرير وقندس، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها، الشخص يسحبها ويختال فيها، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مَكَس، أوولاية شرطة، فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب، وفي الآخرة أشد عذاباً وتنكيلاً، فرضي الله عن ابن عمر وأبيه، وأين مثلُ ابن عمر في دينه، وورعه، وعلمه، وتألهه، وخوفه، من رجل تُعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاءُ من مثل عثمان فيرده، ونيابة الشام لعليّ فيهرب منه؟ فالله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب).

واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، وأن يوفقنا وإياهم إلى التمسك بسنة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

000000000000000000

أحكام تارك الصلاة في الحياة وبعد الممات

من القرآن

من السنة

إجماع الصحابة

الآثار عن الصحابة

الآثار عن التابعين وتابعيهم

أولاً: في الدنيا

ثانياً: بعد الممات

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد..

فالصلاة عماد الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، وهي آخر عُرى الإسلام نقضاً، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلاته فقد فاز ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، كما أخبر الصادق المصدوق.

بعد أن أجمع أهل العلم على كفر جاحد وجوب الصلاة، وأجمعت العامة منهم على قتل تاركها المقرِّ بوجوبها، اختلفوا هل يُقتل كفراً أم حداً على قولين، أرجحهما أنه يقتل كفراً، وذلك للأدلة الآتية:

من القرآن

قوله تعالى على لسان الكافرين، وقد قيل لهم: "ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين"

وقوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً"، والغي وادٍ في جهنم.

وقوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين"، فقد نفى الله عن تاركي الصلاة الأخوة الإيمانية.

وقوله: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون"، فيسجد المصلون لله في الدنيا، ويُجعل ظهر تارك الصلاة والمنافق المرائي بصلاته طبقة واحدة، فلا يتمكن من السجود.

من السنة

ما صح عن جابر عند مسلم يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة".

وعن بريدة رضي الله عنه عند أهل السنن: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".

إجماع الصحابة

قال عبد الله بن شقيق وهو من كبار التابعين: "لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم ـ يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة".

الآثار عن الصحابة

قال عليّ رضي الله عنه: "من ترك صلاة واحدة متعمداً فقد برئ من الله وبرئ الله منه".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من ترك الصلاة فلا دين له".

وقيل لابن مسعود: "إن الله تعالى يكثر من ذكر الصلاة في القرآن: "الذين هم على صلاتهم دائمون"، و"الذين هم على صلاتهم يحافظون"، و"ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"؛ قال: ذلك على مواقيتها؛ قالوا: ما كنا نرى يا أبا عبد الرحمن إلا على تركها؟ قال: تركها كفر".

وقال عمر وهو مطعون: "لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة".

وعن زيد بن وهب قال: "كنا مع حذيفة جلوساً في المسجد إذ دخل رجل من أبواب كندة، فقام يصلي، فلم يتم الركوع والسجود، فلما صلى قال له حذيفة: منذ كم هذه صلاتك؟ قال: منذ أربعين سنة؛ قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم".

وقال أبو الدرداء: "لا إيمان لمن لا صلاة له".

وقال ابن عباس: "من ترك الصلاة فقد كفر".

هذا مذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس من الصحابة، ولم يوجد لهم مخالف.

الآثار عن التابعين وتابعيهم

هذا مذهب نافع مولى ابن عمر، قال معبد بن عبيد الله الجزري: (قلت لنافع: رجل أقر بما أنزل الله تعالى وبما بين نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أترك الصلاة وأنا أعرف أنها حق من الله تعالى؟ قال: ذاك كافر؛ ثم انتزع يده من يدي غضباناً مولياً).

وأيوب السختياني رحمه الله قال: (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه).

وعبد الله بن المبارك رحمه الله، قال يحيى بن معين: (قيل لعبد الله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان؟ قال: لا نقول نحن كما يقول هؤلاء ـ يعني المرجئة ـ من ترك الصلاة متعمداً من غير علة، حتى أدخل وقتاً في وقت فهو كافر).

وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله عمن ترك الصلاة متعمداً؟ فقال: (لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمداً، فإن ترك صلاة إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى يستتاب ثلاثاً).

وسئل صدقة بن فضل عن تارك الصلاة، فقال: (كافر).

وقال محمد بن نصر المروذي في كتابه القيم "تعظيم قدر الصلاة": (سمعت إسحاق بن راهويه يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر).

فهذا مذهب من علمتَ من الصحابة والتابعين وتابعيهم، هذا بجانب أنه مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومن الأئمة المعاصرين فهو مذهب الشيخين الفاضلين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح العثيمين، رحم الله الجميع.

وعليه فتارك الصلاة كسلاً كافر كفراً أكبر يُخرج من الملة، وتُجْري عليه أحكام المرتدين في الدنيا والآخرة.

أولاً: في الدنيا

1.  لا يُسلم عليه ولا يُردُّ عليه إذا سلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي ولا يجيب دعوته).

2.  لا تُجاب دعوته.

3. لا يُزوج بمسلمة، فإن عُقد له فالنكاح باطل، قال تعالى: "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن".

وإذا ترك الصلاة بعد العقد والدخلة يفسخ نكاحه ولا تحل له زوجة.

إذا كان شارب الخمر يحال بينه وبين زوجه فكيف بتارك الصلاة؟!

قال مهنا: (سألت أحمد، قلت: ختن لي، زوج أختي، يشرب هذا المسكر، أفرق بينهما؟ قال: الله المستعان.

وقال علي بن الخواص: نقل المروزي عن أحمد أنه قال لرجل سأله عن مثل هذه، فقال: حولها إليك).

4.  لا يُزار في بيته.

5.  لا يُعاد إذا مرض.

6.  لا يُساكن في منزل معه.

7.  يُمنع من دخول مكة المكرمة، قال تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا".

8.  لا يُعطى شيئاً من الزكاة الواجبة.

9.  لا تُؤكل ذبيحته.

10.  يُمنع من التصرف في ماله.

11.  لا يرث أحداً من أقاربه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث الكافرُ المسلم".

12.  لا يُزوج كريمته ولا وليته.

13.  يقتل كفراً بعد أن يؤتى به إلى الإمام أوالقاضي فيأمره بالصلاة ويبين له كفر تاركها، فإن أبى أن يصلي حتى خرج وقت الصلاة الحاضرة قتِل، ولا يُستتاب، ومن أهل السنة من قال يُستتاب ثلاثاً، والراجح الأول.

ثانياً: بعد الممات

1.  لا يُغسل.

2.  ولا يُكفن، ويُدفن في ملابسه.

3.  لا يُصلى عليه، قال تعالى: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً".

4.  لا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما تحفر له حفرة في الصحراء فيُوارى فيها كي يؤذي المسلمين.

5.  لا يشيعه أحد من المسلمين.

6.  يُعزي أهله ولا يترحم عليه، فيقال لوليه: أعظم الله أجرك، وأحسن الله عزاءك؛ وإذا كان وليه كافراً يقال له: أخلف الله عليك.

7.  لا تعتد عليه زوجه إن لم يفرَّق بينهما من قبل.

8.  لا يرثه أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلمُ الكافر"، ويكون ماله لبيت مال المسلمين، وقيل يصرف منه على ورثته.

9.  لا يُدعى له بالرحمة، ولا يُستغفر له، ولا يُزار قبره.

10.  تحرم عليه الجنة، ويخلد في النار مع قارون، وهامان، وأبيِّ بن خلف، وغيرهم من أئمة الكفر.

11.   يُحرم من شفاعة سيد الأبرار، ومن شفاعة غيره.

والله أسأل أن يجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، وأن يتقبل دعاءنا، ويتجاوز عن أخطائنا، ويرحم أمواتنا، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

000000000000000000000

أيها المسلمون لا يكن أهل الجاهلية والكلاب أحسن جواراً منكم

الجيران ثلاثة

وصية الله ورسوله بالجار

حد الجيرة

الجار الحسن يُشترى

الجار السوء يباع بأبخس الأثمان

حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً

أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر

 

الإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، بدءاً بالعلاقة بين الخالق والمخلوقين، وانتهاءً بالعلاقة بين المسلم وأخيه، فمن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا معه غيره، ومن حقهم عليه إن فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة، وكذلك العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الزوج والزوجة، وبين الجار والجار، وبين المسلم والمسلم.

وهذه الحقوق منها ما هو واجب، ومنها ما هو من فروض الكفايات.

لقد أضاع جل المسلمين كثيراً من هذه الحقوق وقصروا فيها، وأكثر الحقوق ضياعاً حقوق الجوار، خاصة في المدن وفي هذه الأعصار.

وإذا كان أبو حازم رحمه الله، وهو من التابعين، ينعي على المسلمين في وقته ضياع حقوق الجار، حيث قال كما روى عنه مالك: كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:

ناري ونار الجـار واحـدة                    وإليه قَبْلي تنـزل القـدر

ما ضر جار لي أني أجاوره                   أن لا يكـون لبابه ستـر

أعمى إذا ما جارتي  برزت                    حتى يواري جارتي الخدر

ونحن لا نطالب الجار بما قرره هذا الشاعر الجاهلي، فهذا مطلب بعيد المنال، عزيز التحقق، ولكن نطالب الجار بالالتزام بما أمر به الشارع، نحو:

1.  أن يتعرف عليه إذا حل في جواره.

2.  أن يبدأه بالسلام إذا خرج أودخل.

3.  أن يشاركه أفراحه وأتراحه.

4.  أن يعوده إذا مرض أوأحد من أهله.

5.  أن يشيع جنازته.

6.  أن يتفقده إذا غاب أومرض.

7.  أن لا يؤذيه.

8.  أن لا يتجسس ولا يتحسس عليه.

9.  أن يجيب دعوته.

10.  أن يصون حرمته.

11.  أن يعينه عند الشدائد.

12.  أن يواسيه ويكثر بره ويحسن إليه.

13.  أن يستر عيبه.

14.  أن ينصح له.

15.  أن يحسن عشرته.

لقد ورد في ذلك حديث عن معاذ بن جبل، قال القرطبي: سنده حسن، وبيّن أهم حقوق الجار: "قلنا: يا رسول الله، ما حق الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن أعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرك وهنيته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقُتَار قدرك إلا أن تغرف له منها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإلا فأدخلها سراً لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده، وهل تفقهون ما أقول لكم، لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.

وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلافك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.

وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.

والجوار ليس قاصراً على السكن، وإنما يشمل الجار في السوق، وفي الزراعة، والطلب، ونحوها.

ã

الجيران ثلاثة

1.  جار قريب مسلم، وهذا له ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام.

2.  وجار مسلم، وهذا له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.

3.  جار كافر، وهذا له حق واحد هو حق الجوار.

وحقوق الجار تتفاوت كذلك بين الجار الأقرب، والأدنى، والأبعد.

ã

وصية الله ورسوله بالجار

لقد وصى الله ورسوله بالجار حقاً، فقال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب".

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب": (أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين: "والجار ذي القربى" أي القريب، "والجار الجنب" أي الغريب.

إلى أن قال: وعلى هذا فالوصاة بالجار مندوب إليها مسلماً كان أوكافراً، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه).

أما الأحاديث التي توصي بالجار وتأمر بالإحسان إليه وتنهى عن أذاه فكثيرة، منها:

1.  ما صح عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".

2.  وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "إن خليلي أوصاني: إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءها، ثم انظـر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعـروف"، وفي رواية: "فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".

3.  وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة".

4.  وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه".

5.  وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم".

6.  وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً".

ã

حد الجيرة

ذهب أهل العلم في حد الجوار مذاهب هي:

1.  أربعون داراً من كل ناحية، وهذا مذهب الأوزاعي والزهري.

2.  من سمع النداء فهو جار.

3.  من سمع إقامة الصلاة فهو جار المسجد.

4.  من ساكن رجلاً في محلة أومدينة.

والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض وأولى.

ã

الجار الحسن يُشترى

حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة، ولهذا قال علي: الجار قبل الدار؛ فالدار الطيبة الواسعة القريبة تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بحسن الجوار.

باع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني.

فبلغ ذلك سعيداً فبعثه إليه بمائة ألف درهم.

ã

الجار السوء يباع بأبخس الأثمان

كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك:

كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.

ولله در القائل:

يلومونني أن بعت بالرخص منزلي            ولم  يعرفـوا جاراً هناك ينغصُ

فقلت لهـم كفـوا المـلام  فإنـها            بجيرانهـا تغلو الديار وترخص

ã

حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً

ورد في وفيات الأعيان أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني، ويقول متمثلاً بقول العرجي:

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا                 ليوم كريهـة وسداد ثغر

ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع جلبته في كل يوم ويصبر.

وفي يوم كان أبو حنيفة يصلي بالليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسعس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط؛ ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره، فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومناً هذا؛ فأطلقوهم أيضاً، فذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج الإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار.

ثم تاب، ولم يعد إلى ما كان يفعل، بسبب هذه المعاملة الكريمة ومقابلة الإساءة بالإحسان.

قال الأصمعي رحمه الله: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار:

جاورت شيبان فاحلوى جوارهم            غريباً عن الأوطان في زمن المحل

فما زال بي إكرامهم وافتقـادهم            وبرهـم  حتى حسبتهــم أهـلي

لقد استعاض بعض الناس من الكفار وغيرهم الكلاب بالجيران، فأصبحوا يربونها، ويعتنون بها، ويوصون لها بالأموال بعد هلاكهم، لما لمسوا من وفائها وتنكر الأهل والجيران لهم.

ذكر صاحب كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كلب أمين خير من صاحب خؤون".

وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:

وما زال يرعى ذمتي ويحوطني              ويحفظ عرسي و الخليل   يخون

فيا عجباً للخـل يهتـك حرمتي              ويا عجبــاً للكلب كيف يصــون

فاحذر أخي المسلم أن يكون الجاهليون أحسن جواراً منك، بل والكلاب، واحذر أن تكون جار سوء، واحرص أن ترعى وصية ربك ورسولك في جيرانك، واجتهد أن يكون لك في رسولك، والصحب الكرام، والسلف العظام، والجاهليين الراعين لحق الجوار الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، والمثال الذي يحتذى.

ما نسمعه من قصص وحكايات عن سوء الجوار، وغلظتهم وغفلتهم عن حقوق إخوانهم المسلمين يندي لها الجبين، ويشيب لها الوليد، فكم سمعنا أن شخصاً مات في شقته ولم يعلم جيرانه بوفاته حتى تجيّف ويشموا رائحة ذلك فيبلغوا الشرطة فتأتي لتكسر الباب.

وأن شخصاً مات أبوه أوماتت أمه ولم يجد من جيرانه من يعزيه، دعك من أن يعينه على تجهيز الميت وحمله وتشييعه ودفنه إلا عن طريق الأجرة، وهذه كلها من الحقوق الكفائية للمسلم على إخوانه المسلمين، وبالنسبة للجيران اللصيقين من الواجبات العينية.

وكم سمعنا أن جاراً يمرض ويذهب إلى الاستشفاء خارج البلد ولا يسمع به جيرانه الأقربون.

هذا بجانب الكيد، والتجسس، والإيذاء الحسي والمعنوي، والحسد، وغير ذلك.

فهؤلاء وأولئك لا بوصية ربهم ونبيهم عملوا، ولا بأخلاق أجدادهم تمسكوا، ولا من مسبات الأحاديث خافوا، قال حاتم الطائي مخاطباً أزواجه:

أيـا ابنة عبد الله وابنة مـالك              ويا ابنـة ذي البُرْدين والفرس الورد

إذا ما عملت الزاد فاتخـذي له             أكيـلاً فإني لست  آكلـه وحــدي

بعيداً قصيـاً أوقريبـاً فإننـي              أخاف مذمـات الأحـاديث من بعدي

وكيف يُسيغُ المرءُ زاداً وجاره              خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد

ã

أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر

الواجب على الجار أن يحسن إلى جاره، وأن يصبر على أذاه، ويسر لنفعه، ويحزن لضره، فإن لم تستطع على ذلك فأضعف الإيمان أن تكف عن جارك أذاك، وحسدك، وعداوتك.

وأنت أخي الكريم إذا ابتلاك الله بجار سوء، حسود، ظلوم، فعليك أن تصبر على أذاه، وأن تحسن إليه، فالإحسان يزيل العداوات ويصيرها صداقات، واعلم أن المؤمن مبتلى، بل "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كما أخبر الصادق المصدوق، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.

فقد يبتلى الصالحون بالطغاة الظالمين، أوبالسفهاء الجاهلين، أوبالجيران المؤذين الحاسدين الحاقدين، أوبالأقارب المعادين المخاصمين، أوبالأبناء العاقين، أوبالنساء الخميم الرميم، أوبالمنافقين الفاجرين، وكل ذلك لحكمة يعلمها هو، لدرجة يرفعها، أولخطيئة يكفرها، إذا صبر العبد واحتسب.

قال الحسن البصري رحمه الله: إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه.

ولهذا قيل: أزهد الناس في عالم جيرانه.

وقيل: الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب؛ لغلبة ذلك عليهم.

قال رجل لسعيد بن العاص: والله إني لأحبك؛ فقال له: ولمَ لا تحبني ولست بجار لي ولا ابن عم.

وقيل: إن أحسد الناس لعالم وأنعاه عليه قرابته وجيرانه.

وأخيراً نقول كما روي عن داود عليه السلام أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للقيام بجميع الحقوق، وأن يغفر لنا تقصيرنا في ذلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل جار في العالمين، محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

000000000000000000000

أيها المبتدعة احذروا أن يحل بكم ما حل بعمرو بن لحي الخزاعي لتغييره دين إسماعيل عليه السلام

"ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً"

الابتداع في دين الله خطره جسيم، وضرره عظيم، وعاقبته يوم القيامة وخيمة، خاصة لمن مات وخلف بدعته بعده، فالويل له ثم الويل له، إذ البدعة وزر جارٍ وذنب دائم على صاحبها، بحيث لا ينقص ذلك من أوزار متبعيها شيئاً إلى يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق.

ولخطورة الابتداع في الدين فإن المبتدع لا يُقْبل منه صرف ولاعدل، أي لا فرض ولا سنة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، "ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

والمبتدع تندر توبته، وتصعب رجعته منها، كما هو مشاهد، وترد عليه عبادته، ويخسر آخرته.

فالمبتدعة في الدين في الحقيقة مغيِّرون لشرع الله، مبدلون لما جاء به محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، محيون لملة عمرو بن لحي الخزاعي، مغير دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام وغيره، ومجددون لها، شاءوا أم أبوا، علموا بذلك أم لم يعلموا.

خرَّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رأيتُ عمرو بن لُحي بن قَمعَة بن خِنْدِف يجر قُصَبه  في النار، وكان أول من سيَّب السوائب"، وفي رواية في الصحيح كذلك: "عمرو بن لحي بن قَمَعة بن خِنْدِف أخا بني كعب هؤلاء، يجر قُصْبه في النار".

وعن أبي هريرة كذلك قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقـول لأكثم بن الجُـون: "رأيتُ عمرو بن لحي بن قمعَة بن خِنْدِف يجر قُصَبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا به منك"، فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؛ قال: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي"، وفي رواية: "رأيته رجلاً قصيراً أشعر له وفرة يجر قُصَبه في النار"، وفي رواية لمالك: "إنه يؤذي أهل النار بريحه".

قال القرطبي رحمه الله: (روى ابن إسحـاق أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي، خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها المطر فنمطر، ونستنصر فننصر؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه).

اعلم أخي الكريم أن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا التقوى، واتباع هذا النبي الكريم، فإذا كان الله عز وجل صنع بعمرو بن لحي هذا ما حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتغييره لملة إبراهيم ولشرعة إسماعيل عليهما السلام، وهو امرؤ جاهلي من أهل الفترة، فما عساه فاعلاً بمن ينتسبون إلى الإسلام، ويسيرون بسيرة عباد الأوثان، المغيرين لشرعة ولد عدنان؟!

لا تظنن أخي المسلم أن ماجاء به عمرو بن لحي مغاير ومخالف لما يمارسه كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم، بل ما تفعله طائفة كبيرة من المسلمين اليوم يفوق ما جاء به عمرو بن لحي وما كان عليه الجاهليون الأوائل، فقد بين الله لنا أنهم كانوا عند الشدائد يدعون الله ويذرون هذه الأصنام، لعلمهم أنه هو الخالق القادر المتصرف في هذا الوجود: "فإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون".

خرج البيهقي في سنه بسند حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للحصين الخزاعي قبل إسلامه: "يا أبا عمران، كم إلهاً تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء؛ قال: فإذا هلك المال من تدعو؟! قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فإذا انقطع القطر من تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فإذا جاع العيال من تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فيستجيب لك وحده أم يستجيبون لك كلهم؟ قال: بل يستجبيب وحده؛ فقال: يستجيب لك وحده، وينعم عليك وحده، وتشركهم في الشكر، أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك؟ قال حصين: لا، ما يقدرون عليه؛ فقال: يا حصين، أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن" الحديث، ثم أسلم.

لكن قومي في الرخاء وضده يدعون غير الله بالإحسان، كما صور ذلك أبو السمح أحد أئمة الحرمين الشريفين السابقين، حيث قال مقارناً بين حال المشركين الأوائل وحال بعض المنتسبين إلى الإسلام، الذين يستغيثون بالأموات في الشدة والرخاء:

ولقد أتى في الذكر أن  دعاءهم              في الكـرب كان لربنـا الرحمن

وإذا دنا فرج و شـامـوا برقه             عـادوا إلى الكفـران و الطغيان

لكن قومي في الرخـاء و ضده              يدعـون غيـر  الله  بالإحـسان

يدعون أمواتاً غدوا تحت الثرى              ما إن لهم في ذي الورى من شأن

و الله كاشـف كل كرب قـادر              وسـواء ذو عجـز  فقيـر فان

بل منهم من يستغيث بالأموات وهو في الصلاة إذا شعر بألم، قال أحدهم وهو في صلاة: "يا أب شام"، ومنهم من يعتقد أن بعض المشايخ له "كوتة" في الخلق، نحو الذي يقول: "تخلق خلائقك يا أب كساوي"، ومنهم من يحلف ويقول: "وحيات الشيخ تاي الله الخلقني شحمة ولحمة"، ومنهم من يزعم أنه يعرف المولود الذي منحه الشيخ يوسف "أبو شرا" بأنه مختوم في عنقه يوسف، وأن الشيخ دفع الله كان يجر الشمس مع الملائكة ولا يزال، وهو ميت، ويمدح بذلك:

(الشمس مع الملاك جرها ما غلبو            والتمساح حجر في شان جلوك قلبه)

وجاء في قصيدة "جل جلاله" للشيخ المكاشفي:

بهاري بهر بنور الكون

من الله بمحروس بالصون

أوتي الحرف الكاف و النون

أي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

ويقول الشعراني في طبقاته الكبرى وقد نقل عنه ذلك "ود ضيف" في الطبقات: "هذه أقل المراتب"، بل هناك من الأولياء من هم أعلى مرتبة من مرتبة الألوهية.

ألا توافقني أخي الكريم أن ما جاء به بعض قومنا لا يدانيه ولا يقاربه ما جاء به عمرو بن لحي، وأن التغيير الذي أحدثه هؤلاء في شرع محمد صلى الله عليه وسلم لا يساويه التغيير الذي أحدثه عمرو بن لحي في شرعة إسماعيل؟!

o فقومنا كثير منهم يدعون ويستغيثون بالأموات والأحياء في حال الرخاء والشدة.

o وقومنا منهم من يعتقد أن "صلاة الفاتح لما أغلق" تعدل القرآن ستة آلاف مرة.

o وقومنا منهم من يعتقد أن مقام الولي أعلى من مقام الرسل، ويلبسون على الجهلة بأن ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر من نبوته، يقول كبير مجددي ملة عمر بن لحي فاتح باب الزندقة "ماحي الدين" ابن عربي:

مقام النبوة في برزخ                    فويق الرسول ودون النبي

o وقومنا منهم من يستغيث بالحلاج وابن عربي، فيقول: "بالشبل بالحلاج بابن عربي"، وقد حكم العلماء بكفر الحلاج وابن عربي، يقول القاضي عياض المالكي رحمه الله: (أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية وغيرهم على قتل الحلاج وصلبه، لدعواه الألوهية، والقول بالحلول، وقوله أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته).

وقال عنه الذهبي رحمه الله: (فهو صوفي الزي والظاهر.. وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل).

o وقومنا منهم من يبني القباب، ويطوف بالأضرحة، ويسأل الأموات الحاجات التي لا يستطيعها إلا الله، نحوالعافية، والولد، والسعادة في الآخرة، وهذه القباب والأضرحة ما هي إلا أصنام تعبد من دون الله عز وجل.

هل تعلم أن بمصر وحدها حوالي ستة آلاف ضريح -كبرى وصغرى-، نحو ضريح الحسين، والسيدة زينب، والشافعي، منها ما هوكذب كضريح الحسين رضي الله عنه، يطاف حولها ويستغاث بأصحابها، ولهذا زعم الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني أنها مؤمنة بأهل الله، ولهذا فهي من أكثر البلاد اختراقاً منذ عهد محمد علي، ولو اعتمد أهلها على الله وتوكلوا عليه حق التوكل لأمنهم.

وفي دمشق وحدها حوالي 194 ضريحاً، منها ما هو كذذب كضريح يحيى وزكريا عليهما السلام، ولذلك عندما خاف أهل دمشق من التتار طمأنهم أحد القبوريين بقوله:

يا خائفين من  التتار                لوذوا  بقبر أبي عمر

لوذوا بقبر أبي عمر                ينجيكـم  من التتـار

فقال له شيخ الإسلام مفتي الأنام في حياته وبعد وفاته ابن تيمية رحمه الله: لو كان أبو عمر حياً لما استطاع أن يفعل شيئاً، ونحن في هذه الحال من الانغماس في الشركيات والمعاصي وعدم الإعداد لهم؛ فعندما حرض شيخ الإسلام حكام الشام على القتال، وحث العامة عليه هو وتلاميذه، واستعدوا لذلك، نصرهم الله على عدوهم.

o وقومنا منهم من يعتقد أن الأولياء يحضرون موت المريد وهم أموات، ويلقنونه كلمة التوحيد، فقال أحدهم:

هم حاضرين يا ليلى               مع المَلَكين يا ليلى

وملقنيـن  يـا  ليلى                   للكلمتيـن  يا ليلى

o وقومنا منهم من يدين الله بعقيدة الحلول والاتحاد والفناء، وهي عقائد كفرية، فقد قال شيخ شامي لأتباعه وقد مرت عليهم بقرة، فقال لهم: وحدوه؛ فما كان منهم إلا أن قالوا جميعاً: لا إله إلا الله؛ من اعتقد هذه العقيدة كان كفره أشد من كفر اليهود والنصارى، لأن النصارى يعتقد بعضهم بحلول اللاهوت في الناسوت، وهؤلاء يعتقدون بحلول الله في كل مخلوق حتى الكلب والخنزير.

يقول ابن عربي في كتابه "فصوص الحكم":

الرب حق والعبـد حق                يا ليت شعري من المكلف؟

إن قلتَ عبد فذاك ميت                 وإن قلتَ رب أنى يكلـف؟

يقول شيخ الإسلام عمن يعتقد ذلك: (ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى).

o ومن قومنا من يعتقد أن بعض المشايخ يمكنهم الاستغناء عن شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التكاليف رفعت عنهم، فبعضهم لا يصلي ولا يصوم ولا يحج، ومع ذلك يوجد من يعتقد أنهم من الأقطاب الكبار.

o ومن قومنا من ابتدع العديد من الاحتفالات، كالاحتفال بالمولد النبوي الشريف، أسبوعي وسنوي، والاحتفال بالإسراء والمعراج "الرجبية"، والاحتفال بأول السنة الهجرية، والاحتفال ببعض الغزوات ونحوها، وكلها أمور محدثة، ابتدعت في العصور المتأخرة في القرن السابع الهجري وقبله وبعده، واستغواهم الشيطان فأحدثوا حوليات المشايخ، بل ومن الناس من أحدث حولية لأفراد الناس وعزموا أن يستمروا عليها.

o ومنهم من تمسك بالذي أدنى وترك الذي هو خير، فاستعاض عن الأوراد والأذكار التي علمنا لها صاحب الشريعة بأوراد وأذكار بدعية وشركية.

o ومن قومنا من أباح الردة عن الإسلام وأنكر حدها، وأنكر كثيراً مما هو معلوم من الدين ضرورة.

o ومن قومنا من يدعو إلى وحدة الأديان ويعتقد أن الكل سواء، لا فرق بين مسلم، ونصراني، ويهودي، وشيوعي، وجمهوري، وعلماني، ومنافق.

o وجل قومنا اليوم لا يريدون التحاكم لشرع الله عز وجل، بل نبذوه ونابذوه وراءهم ظهرياً.

o ومن قومنا من يحب الكفار ويواليهم أكثر من محبته للمسلمين وموالاتهم، ويتشبه بهم ويقتدي بهم، ويقاتل معهم.

o ومن قومنا من يعتقد أن الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله إرهاب، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في الحرية الشخصية.

o ومن قومنا من يقتل أهل الإسلام ويعز ويكرم ويَسْتَحْيي أهل الكفر والفسوق والعصيان.

كل هذا وغيره مما لم أذكر شرع جديد، وملل محدثة، قامت وتقوم على أنقاض شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ويعتبر أصحاب كل واحدة من هذه البدع من مجددي ملة عمرو بن لحي، ومن المغيرين لشرع الله الخارجين عليه، وعليهم أن يحرصوا على تجديد إسلامهم، وإلا فإنه سيصيبهم ما أصاب قدوتهم وسلفهم الطالح عمرو بن لحي، ولن يضروا الله شيئاً: "يا عبادي، لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والله غالب على أمره، ومميت لجميع هذه البدع والملل، ومحيي للملة الخالدة والشريعة الباقية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على المغيِّرين المبدلين لشرائع الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلينا وعلى جميع عباد الله الصالحين، لا ينال سلامه ورضاه المبدلو

000000000000000000000000

من وقَّر صاحب بدعة أوفسق فقد أعان على هدم الإسلام

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولاعدوان إلا على الظالمين الجاهلين، ونعوذ بالله من اختلال المفاهيم، واختلاف الموازين، وقلة العقل والدين، وتعظيم الفسقة والفجرة المجاهرين، وصلى الله وسلم على محمد الناهي عن تسويد المنافقين، إذ تسويدهم مغضبٌ لرب العالمين، ولهذا جاء في الأثر: "من بجَّل صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين".

وبعد..

لقد ساءني جداً وساء كل مسلم تكريم جامعة الخرطوم متمثلة في إدارتها واتحادها لمحمد وردي، بمنحه الدكتوراة الفخرية، وذلك لسببين، هما:

الأول أن وردي شيوعي مجاهر بشيوعيته، واعتناق الشيوعية كفر ومحادّة للدين، سواء كان منكراً لوجود الخالق أومؤمناً بنظريتها الاقتصادية التي تنكر لها أسياد الشيوعية في روسيا، ولا ينفعه مع هذا الاعتقاد النطق بالشهادتين ونحو ذلك.

الثاني أن وردي مشتغلٌ بالغناء، والاشتغال بالغناء فسق وسفه تردُّ به الشهادة، ولهذا قال مالك الإمام: "إنما يفعله عندنا الفساق"، هذا إن لم يكن مستحلاً له، فإن كان مستحلاً له فمصيبته أكبر، وقال الأحناف: التلذذ بالغناء كفر؛ وقد نقل الإجماع على تحريم الغناء والموسيقى عدد من أهل العلم، ولم يقل بتحليل ذلك إلا من زلَّ وأخطأ كابن حزم رحمه الله.

وهذا يدلُّ على قلة علم إدارة الجامعة بما هو معلوم من الدين ضرورة، إذ لو كان عندهم أقل القليل من العلم الشرعي لاستبان لهم فداحة وشناعة ما أقدموا عليه من تكريم الفسقة الداعين إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

روى ابن ماجـة في سننه عن صفـوان بن أمية يرفعه إلى الرسـول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرو بن قرة عندما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن  له في الغناء في غير فاحشة قائلاً: "فما أراني أرْزَق إلا من دفي بكفي"، فقال له: "لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة عين، كذبتَ يا عدو الله، لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلَّ الله لك من حلاله"؛ فقام عمرو وبه من الشر والخزي ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء العصاة من مات منهم بغير توبة حشره الله عز وجل عريان لا يستتر بهدبه كلما قام صرع".

هذا بجانب ما صحب ذلك من الحفلات والرقص المختلط الذي حدث في كلية الطب وفي الميدان الشرقي للجامعة، والذي تولت كبره وحمته إدارة الجامعة بالحرس الجامعي، وكان الواجب عليها المحافظة على هذه الأعراض التي سيُسألون عنها يوم القيامة، حيث لن تزول أقدامهم عن الصراط إلا بعد أن يسألوا عنها، فليعدوا للسؤال جواباً فإنه كائن ولابد، وكل آت قريب، ولن يفيدهم يومئذ منافقتهم للشيوعيين وغيرهم.

أرجو أن تقارن أخي الكريم بين ما فعلته إدارة جامعة الخرطوم وبين مـا همَّ به سليمان بن عبد الملك رحمه الله عندما أراد أن يخصي المغنيين الذين سمعهم بناحية عسكره، لولا أن نهاه عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأن ذلك مثلة؛ وبما فعله عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة وأراد الدخول عليه جرير، والفرزدق، والأخطل، فمنعهم من الدخول ولم يأذن إلا لجرير، وهم قطعا أفضل وأحسن حالاً من محمد وردي، بما فيهم الأخطل النصراني، فالنصراني خيرٌ من الشيوعي، بل ليس هناك وجه للمقارنة بين وردي وهؤلاء، فقد كانوا من فحول الشعراء.

ماذا قدَّم وردي حتى يستحق التكريم؟ وردي هو الذي أهدر طاقات الأمة وضيَّع شبابها، بدلاً من أن يملأوا ساحات الجهاد والدعوة ملأوا ساحات الغناء، والرقص، والطرب، قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله"، وهو الذي يدعو إلى عبادة غير الله، كقوله "بعبد حبِّك".

أرجو من المسؤولين أن يتقوا الله في أنفسهم وفي هذا الدين، وفي هذه الأمة التي ولاهم الله أمرها، ولا يسلطوا عليها العلمانيين أعداء الملة والدين، والله أسأل أنْ يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه، واتقاه، واتبع رضاه.

0000000000000000000

الحكمُ بغير ما أنزل الله كفرٌ ناقلٌ عن الملة إلا في صورتين

الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر ناقلاً عن الملة

الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر

تنبيهات

الأدلة على ذلك

أقوال أهل العلم في ذلك، قديماً وحديثاً

 

الإسلام دين كامل لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فلا يضرَّن إلا نفسه: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" الحديث.

لقد حكم الله بكفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض من اليهود وغيرهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقال: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردُّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون".

لم ينتقل رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل الله على يديه الدين، وأتم علينا النعمة، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وحذرنا من الالتفات إلى غيرها ولو كان موافقاً لشرعنا، مهما كانت منزلة الملتفت إلى غيره.

روى خالد بن عرفطة قال: (كنتُ جالساً عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم؛ فضربه بعصا معه، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس؛ فجلس، فقرأ عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم. ألر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين"، فقرأها عليه ثلاثاً وضربه ثلاثاً، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتب دانيال؟ قال: مرني بأمرك أتبعه؛ قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه أنت، ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أوأقرأته أحداً من الناس لأنهتك عقوبة؛ ثم قال: اجلس، فجلس بين يديه، قال: انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي في يدك يا عمر؟ فقلتُ: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد علماً إلى علمنا؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح؛ فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوَّكوا ولا يغرَّنكم المتهوِّكون"؛ فقال عمر: فقمتُ فقلتُ: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً؛ ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وعن أبي الدرداء قال: جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق؛ فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن زيد الذي أري الأذان: أمسخ الله عقلك، ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً؛ فسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين".

قلتُ: إذا كان جزاء عمر رضي الله عنه الزجر، وجزاء العبدي الضرب والزجر، لمجرد أنهما نسخا ونظرا لشي من التوراة وإلى ما نسب إلى دانيال، فكيف يكون جزاء أولئك الجراء، الأشقياء، المتفيقهون، المتطفلون، الذين سطروا الدساتير العلمانية، وكتبوا القوانين الوضعية الجاهلية على غرار دساتير وقوانين الكفار، سيما الدستور الفرنسي، الضالون المضلون، المفضِّلون لزبالة أذهان الكفار ونحالة أفكارهم الساقطة، كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق رحمه الله، على حكم الله ورسوله، حيث لم يكتفوا بتسوية القوانين الوضعية مع الشريعة الربانية ـ وذلك كفر صريح ـ بل فضَّلوها عليها، وفتنوا الراعي والرعية؟!

جزاؤهم في الدنيا أن يقتلوا أويصلبوا لمحاربتهم لله ورسوله، التي هي أشدُّ من محاربة قطاع الطريق، وفي الآخرة فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، حينما يعترفون بضلالهم، وتُكشف عنهم أستارُهم، وتُقطَّع الحسرة أكبادهم: "تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسوِّيكم برب العالمين".

وبعد..

فإن الحكم بغير ما أنزل الله والرضا به ينقسم إلى قسمين كبيرين، هما:

1. كفر اعتقاد أكبر ناقل عن الملة، وله عدة صور.

2. كفر عمل أصغر، وله صورتان لا ثالث لهما.

الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر ناقلاً عن الملة

الأولى: أن يضع الحاكم دستوراً علمانياً على غرار دساتير الكفار، نحو الدستور الفرنسي، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومستعيضاً به عن حكم الله ورسوله، سواء كانت هذه الاستعاضة كلية أوجزئية.

وهذا اعتقاد ضمني من واضعي الدستور، ومنفذيه من الحكام والقضاة، والراضين به من الرعية، على تفضيله على حكم الله ورسوله أو مساواته له.

الثانية: أن يعتقد أن حكم الله ليس بواجب عليه، وإنما هو بالخيار، إن شاء حكم به وإن شاء حكم بغيره.

الثالثة: أن يعتقد أن حكم الله واجب، ولكن القوانين الوضعية أفضل منه، وأصلح لمشاكل العصر.

الرابعة: أن يعتقد أن القوانين الوضعية المستمدة من الكفار ليست أصلح من حكم الله ولكنها مساوية له.

الخامسة: أن يعتقد أنه يجوز له أن يتحاكم للقوانين الوضعية.

السادسة: أن يتحاكم إلى ما وضعه زعماء العشائر والقبائل، من العادات، والتقاليد، والأعراف، وسوالف الجاهلية، نحو "الياسق" الذي وضعه جنكيز خان لقومه.

السابعة: أن يدع التحاكم لشرع الله خوفاً من الكفار وحرصاً على الكرسي.

الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر

حالتان فقط، هما:

الأولى: أن يجتهد في الوصول إلى حكم الله ولكنه لا يوفق لذلك.

الثانية: أن تحمله شهوته وهواه في قضية معينة، فيحيد عن حكم الله، مع تيقنه أن ما حاد عنه هو حكم الله.

تنبيهات

1.  هذا فيما يتعلق بالحكام، والقضاة، وواضعي الدساتير والقوانين المحادة لكتاب الله وسنة رسوله، أما العامة والجمهور فمن رضي بهذا الحكم وانشرح له صدره فحكمه حكمهم، إذ الرضا بالكفر كفر، قال تعالى: "إنكم إذاً مثلهم"، فمن لم يرض وأنكر ولو بقلبه فلا حرج عليه.

2.  على هاتين الحالتين: وهما أن يجتهد في الوصول إلى حكم الله فلا يوفق لذلك وأن تحمله شهوته على مخالفة حكم الله مع إقراره بأنه حكم الله ويجب عليه التحاكم به يُحمَلُ كلامُ ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، وعطاء، وأبي مِجْلَز رحمهم الله.

قال ابن عباس: "ليس بالكفر الذي يذهبون إليه".

وقال عطاء: "كفرٌ دون كفر، وظلمٌ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق".

وقال أبو مِجْلز: "إنهم يعملون بما يعملون، ويعلمون أنه ذنب".

أما أن يحمل كلام هؤلاء الأئمة على الصور السبعة الأوَل ففي ذلك تعدٍّ وتجنٍّ.

3.  إنزال مثل هذه النصوص على حال حكام المسلمين اليوم فيه اعتداء كبير وعدم إنصاف، لأن جل البلاد الإسلامية اليوم تحكم بدساتير وقوانين علمانية من وضع البشر قامت على أنقاض الإسلام، بينما كان المسلمون إلى سقوط الدولة العثمانية لا يعرفون لحكم الله ورسوله بديلاً، ولم يكن لهم دستور ولا قانون مخالف لشرع الله، والذي كان يحدث من مخالفات يرجع إما إلى خطأ المجتهدين أوميل عن الحق لشهوة وهوى، فأين هذا مما نحن عليه الآن؟

4.  دعوى أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر كفراً أكبر إلا إذا اعتقد ذلك بقلبه، هذه عقيدة المرجئة الكرامية الذين يقولون: الإيمان مجرد تلفظ باللسان، أوالمرجئة الجهمية الذين حصروا الإيمان في معرفة القلب؛ فعلى شرعهم هذا فإن إبليس وفرعون من أهل الإيمان،  تعالى الله أن يكون إبليس وفرعون من أوليائه، أما أهل الحق والعدل، أهل السنة، فيحكمون على الناس بما ظهر منهم ويدعون سرائرهم إلى الله، إذ الكفر الأكبر ليس قاصراً على الاعتقاد فقط.

5.    لا يغني عمن ردَّ حكم الله ورضي بحكم الطاغوت صلاة ولا صيام ولا غيرهما.

الأدلة على ذلك

الأدلة على كفر من رفض حكم الله ورضي بحكم الطواغيت من الكتاب كثيرة جداً، نشير إلى طرف منها.

   قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلموا تسليماً".

وقوله عن المنافقين: "ويقولن آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين".

وقال مادحاً المؤمنين: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون".

وقوله في سورة المائدة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.." إلى آخر الآيات.

وقوله: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى".

وقوله: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً".

أقوال أهل العلم في ذلك، قديماً وحديثاً

لقد أطبق أهل العلم من أهل السنة قاطبة، قديماً وحديثاً، على كفر من ردَّ حكم الله ورضي بحكم الطواغيت، وإليك بعضاً من أقوالهم.

1.  ابن حزم رحمه الله

قال عند قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ.." الآية: (لما كان اليهود والنصارى يحرِّمون ما حرَّم أحبارُهم ورهبانُهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، وقد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله عبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف).

وما ذهب إليه ابن حزم قرّره الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الصليب على عدي بن حاتم، وتلا عليه هذه الآية، فقال: ما عبدناهم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال؟" قال: نعم؛ قال: "تلك عبادتكم إياهم" الحديث.

فدل ذلك على أن الرضا بما يشرعه البشر ليس ناقضاً لتوحيد الألوهية فقط، بل ناقض لتوحيد الربوبية.

2.  ابن تيمية رحمه الله

قال: (ذمَّ اللهُ عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يعيب ذلك كثير ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أوغيرهم، أوإلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام.

إلى أن قال: ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً".

3.  ابن القيم رحمه الله

قال: (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفس قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض).

4.  العز بن عبد السلام

قال: (وتفرَّد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه، وكذلك لا حكم إلا له).

5.  ابن كثير رحمه الله

قال: (فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: ".. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، أي ردُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر).

6.  ابن أبي العز الحنفي رحمه الله

قال: (إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أواستهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر).

7.  أبو السعود محمد بن محمد العمادي الحنفي المفسَّر المتوفى 982ﻫ رحمه الله

قال عند تفسير قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون": (ومن لم يحكم بما أنزل الله كائناً من كان دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً، أي من لم يحكم بذلك مستهيناً منكراً.. فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم).

8. القرطبي المفسِّر رحمه الله

قال: (إن حكم بما عنده ـ أي بما وضعه من قوانين ـ على أنه من عند الله تعالى فهو تبديل يوجب الكفر).

9.  الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

قال: (من اعتقد أن غير هدى الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أوأن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر).

10.  الشوكاني رحمه الله

قال في تفسير قوله تعالى: "فلا وربك لايؤمنون.." الآية: (فلا يثبت الإيمانُ لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره مما قضى عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه تسليماً لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة).

11.  محمود شكري الألوسي رحمه الله

قال: (لاشك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر أمر الشارع، كما شهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم..

فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بيِّن المخالفة للشرع منها ـ أي القوانين ـ ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها).

12.  محمد رشيد رضا رحمه الله

قال في تفسير المنار في تفسير قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله.." الآية: (والآية ناطقة بأن من صدَّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ،ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يُعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام).

13.  الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية الأسبق رحمه الله

قال: (إن قوله تعالى: "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه).

14.  الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله

قال: (ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بيَّن أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يُتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا أن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت").

15.  الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله

قال في تفسيره: (الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان.. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية "ألم تر إلى الذين يزعمون.." الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت فهو كاذب في ذلك).

16.  الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله

قال: (القرآن مملوء بأحكام وقواعد جلية، في المسائل المدنية، والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال، والغنائم، والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص، فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أولهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال ذلك مسلم ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة ورفضه كله، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم).

17.  الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله

قال: (الذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.

وقال عن تعلق أهل الأهواء بكلام التابعي أبي مِجْلز السدوسي السابق: (اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء، والأعراض، والأموال، بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل بها.

إلى أن قال: لم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.

ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مِجْلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سنَّ حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة).

18.  الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

قال وقد سئل: هل يعتبر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً؟ وإذا قلنا إنهم مسلمون، فماذا نقول عن قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" الآية؟

قال: (الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم بالقوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائز، حتى لو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل، فهو كافر، لكونه استحل ما حرَّم الله، أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى، أوللرشوة، أولعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أولأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاصٍ لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر، وظلماً أصغر، وفسقاً أصغر، كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن طاوس، وجماعة من السلف، وهو المعروف عند أهل العلم، والله ولي التوفيق).

19.  الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله

قال: (من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أواحتقاراً له، أواعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه).

20.  هيئة كبار العلماء بالسعودية

قالوا، وقد سئلوا: من لم يحكم بما أنزل الله، هل هومسلم أم كافر كفراً أكبر؟ بعد ذكر آيات المائدة: (لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كافر كفراً اكبر، وظلماً أكبر، وفسقاً أكبر، يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة، أومقصد آخر، وهو يعتقد تحريم ذلك، فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر).

21.  سيد قطب رحمه الله

قال: (فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، مع الرضى بحكم هذه الشريعة، والذين يزعمون لأنفسهم أولغيرهم أنهم مؤمنون، ثم لا يتحاكمون بشريعة الله في حياتهم، أولايرضون حكمها إذا طبق عليهم.. إنما يدَّعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: "وما أولئك بالمؤمنين").

22.  د. صلاح الصاوي

قال: (إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشؤون الدولة، والحجر عليه ابتداء أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب، وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعية، وإننا أمام قوم يدينون بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق للمجالس التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرَّمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرعته..).

وأخيراً أسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان أمر رشد يعزُّ فيه أهل الطاعة، ويذلك فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يرد حكام المسلمين وعامتهم إلى الدين رداً جميلاً، اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق وهو ليس من أهله، اللهم فردَّه إلى الحق حتى يكون من أهله، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله وأنبيائه، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان، وسلم.

00000000000000000000000

قال عمر رضي الله عنه: "إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء"

قال ذلك عمر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها حين ولِي الخلافة.

قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: (ومعنى صرف الدعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظالمين، ولا يُحوجهم أن يسألوا الله، وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين، فما أفصح هذه الكلمة، وما أجمعها لمعظم الحقوق).

نفس هذا المعنى قاله أبو بكر عندما ولي الخلافة في أول خطبة له: "أيها الناس إن قويكم عندنا ضعيف حتى نأخذ الحق منه، وإن ضعيفكم عندنا لقوي حتى نأخذ الحق له"، ولا غرو في ذلك فهما حسنتان من مدرسة النبوة، وأفضل ما خرجته تلك المدرسة، حيث كانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كثيراً ما يقول صلى الله عليه وسلم: "خرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر" رضي الله عنهما.

لقد جمع عمر رضي الله عنه في مقالته تلك جل دعاء المسألة، فدعاء الناس عامة لا يكون إلا لطلب الحاجات أو لدفع الظلم والمضرات.

أما حكامنا اليوم ـ أصلح الله حالنا وحالهم ـ فكأنما كلفوا بتوجه جل الدعاء إلى الله عز وجل، لكثرة تقصيرهم في حقوق الرعية، وتضييعهم لها، وبسبب توليهم ومن يليهم لتقنين الظلم والتعدي.

فكم من حقوق ضائعة للرعية، ومظالم واقعة عليها؟! بدءاً بعدم تحكيم شرع الله فيهم، ومروراً بعدم الحكم بالسوية، والعدل في القضية، والتفريط في حق الرعية، وانتهاء باللهو والانشغال عما فيه صلاح الدين والدنيا، وتضييع فريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما المظالم التي تدفع الناس دفعاً إلى توجيه الدعاء إلى الله، والتي تفتح لها أبواب السماء، فلا تُحصى ولا تُعدّ، منها التعدي على المال العام، وفرض الباهظ من الضرائب والرسوم من غير مراعاة لحال الفقراء والضعفاء، والتقصير وعدم القيام بما يخفف ويرفع المعاناة عن الفقراء والمساكين خاصة في مجال التعليم والعلاج، وفي خلف الوعود، والتسويف في الفصل بين المتخاصمين، وحماية كثير من المتعدين على حقوق الضعفاء، ومن تفشي المحسوبية، والرِّشوة، وأكل المال بالباطل.

أين حكامنا من حرص عمر على العدل وخدمة الرعية: "لو أن بغلة بشاطئ الفرات عثرت لخشيتُ أن أسال عنها: لِمَ لم أعبِّد لها الطريق؟"، ومن قول سيد البرية: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها"، ومن قول أبي بكر في أول الردة: "أينتقص الدينُ وأنا حي؟"

فكم من حد معطَّل، وبدعة ممكِّن لها، وفساد مقنَّن، وغني مترف، وفقير معدم، وحق مضيَّع، ومحبوس مهمَل، وأمين مخوَّن، وخائن مؤتمن، ومستعاذٍ بهم يسلم، وكافر وفاسق مكرَّم معظَّم، وولي لله مهان مُحْرَم.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال عن الولاية: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها"، ونصح حين صرفها عن عمه العباس وصاحبه أبي ذر رضي الله عنهما، وحين قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".

والله الموعد، وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقلب ينقلبون.

000000000000000000000

رسالة إلى حكام المسلمين

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الوعد المبين.

وبعد..

التفرُّق، والتشتت، والتشرذم الذي أصاب الأمة في القرن الهجري المنصرم وبداية القرن الحالي، والذي أدى إلى ضعفها، وذلِّها، وهوانها، وتكالب الأمم عليها، له عدة أسباب رئيسة، هي:

[1] الفرقة: وقد دلَّ عليها قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات".

[2] اتباع المتشابه من القرآن والسنة والأحكام: وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب".

[3] اتباع الهوى: ودلَّ عليه قوله تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم"، وقوله: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله".

[4] حكام المسلمين: وبادئ ذي بدء لا بد من التنبيه على أن جميع شرائح المجتمع مسؤولة عن ذلك ـ من حكام وعلماء، ودعاة وعامة، مع تفاوت مسؤولياتهم واختلاف تقصيرهم ـ مسؤولية تامة، ولها دور في الذي حدث ويحدث الآن، ولكن دور الحكام أكبر، ومسؤوليتهم أخطر وأعظم، ولهذا سأقصر حديثي على حكام المسلمين ومسؤوليتهم فيما أصاب الأمة، وأحب أن أذكر أن حديثي هذا شامل لكل حكام المسلمين ممن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس خاصة لطائفة منهم دون غيرهم، لأن الدين النصيحة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، وسأقصر حديثي كذلك في جانب واحد فقط، وهو جانب اختلاف المواقف وتباين الرؤى في القضية الواحدة المعينة من وجه نظر الدين، لما لهذه القضية من أثر بليغ في توسيع دائرة الخلاف، وزعزعة ثقة العامة في الخاصة، ولله درُّ عمر عندما غضب لاختلاف أُبيٍّ وزيد في مسألة فرعية، وقال: "من أين يصدر الناس؟".

 

ولهذا أسباب عديدة فيما يتعلق بالحكام، ألخصها في الآتي:

[1] استجابة حكام المسلمين للسياسة التي انتهجها أعداء الإسلام بعد القضاء على الدولة العثمانية وتقسيمها إلى دويلات وأسلاب صغيرة، وهي سياسة (فرِّق تَسُدْ)، فقد عملوا على زعزعة الثقة بين الحكام المسلمين، وقد أججوا نار ذلك بالحدود السياسية الوهمية التي بين الدول.

[2] طلب العزة والوحدة في غير الإسلام: في النزعات الوطنية، والقومية، والعرقية، كالطورانية، والعربية، والهندية، ومن طلب العزة في غير الإسلام أذله الله.

[3] حرص الحكام على كراسيهم وأنظمتهم أكثر من حرصهم على الإسلام، بحيث إذا تعارضت المصلحتان ضربوا بالإسلام عرض الحائط ولم يبالوا.

[4] اعتماد جل الحكام على أحزاب علمانية.

[5] تخويف الكفار للحكام من الجماعات والأحزاب الإسلامية، وتحذيرهم لهم منهم؛ مما جعل حاجزاً وهمياً منيعاً بين الحكام وبين هذه الجماعات.

[6] موالاة كثير من الحكام للكفار، إن رغبة أو رهبة، وثقتهم بهم، وقيام تحالفات بينهم وبين الكفار.

[7] عمل كثير من الحكام على نشر الفاحشة واللهو في الذين آمنوا، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، والرياضة، واللهو، ليلهوهم عن الجادة، ويشغلوهم عن معالى الأمور بسفاسفها.

[8] عدم تحكيم جلُّ الحكام لشرع الله واستعاضتهم عن ذلك بالقوانين الوضعية.

[9] إضعاف المنظمات التي كانت تمثل كل الدول الإسلامية والعربية: جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، بسبب الخلافات، والاستعاضة عنها بمنظمات إقليمية ضعيفة: مجلس التعاون الخليجي، منظمة الدول الإفريقية، كل ذلك أدى إلى ضعف التضامن الإسلامي.

[10] انتشار الفساد أدى إلى إفراط وتفريط: طائفة استجابت للفساد، وطائفة غلت.

[11] كسر شوكة العلماء وإلزامهم بتبني ما تراه الدولة، مما نتج عنه تضارب في الفتاوى والمواقف، كما حدث ويحدث في سلسلة الحروب الصليبية التي قادتها أمريكا على أفغانستان والعراق.

[12] اعتماد الحكام على الوزراء والمستشارين العلمانيين الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.

[13] شراء الدول الغنية لبعض وسائل الإعلام وبعض الأقلام الرخيصة.

نتج عن كل ذلك:

[1] غياب عقيدة الولاء والبراء، حيث أصبح المسلم يوالي الكافر ويعادي أخاه المسلم، بل يقاتل جنباً إلى جنب تحت راية الكفار للقضاء على دولة مسلمة وأرض مسلمة، دونما خجل ولا مواراة.

[2] الجهل بأبسط قواعد الشرع: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، أي قاعدة أخف الضررين التي هي أساس الدين.

[3] الخضوع والاستكانة للكفار، وتسلطهم على المسلمين، والتدخل في أخص خصائصهم، مثل تعديل مناهج وأساليب التربية.

[4] انقلاب الموازين، بحيث اعتبر دفاع المظلومين عن أعراضهم وأنفسهم إرهاباً وجريمة يعاقب عليها حكام المسلمين قبل رواد الكفر.

[5] ضعف روح العزة والاعتداد بالدين لدى كثير من المسلمين.

[6] استسلام كثير من المسلمين إلى اليأس والقنوط والرضا بالواقع.

[7] هيمنة قوى الشر والطغيان وتحكُّمها في مصير العالم، وأصبح لسان حالها: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، كما قال الطاغية فرعون لعنه الله.

[8] تداعي قوى الشر على الإسلام والمسلمين كما تداعى الأكلة على قصعتها:

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد      تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

0000000000000000000

الدين النصيحة

النصيحة في الدين مكانتها عظيمة، ومنزلتها عند الله عالية رفيعة، وحاجة الإنسان، كل إنسان للنصح لا تقل عن حاجته إلى الطعام والشراب و الهواء، لذلك حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الدين فيها فقال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، لأنها بها قوامه و صلاحه؛ وعندما قيل له: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم."

ولهذا عُدَّ هذا الحديث من جملة الأحاديث الأربعة التي تجمع أمر الإسلام؛ قال الخطابي: "معنى الحديث قوام الدين وعماده النصيحة، كقوله الحج عرفة".

حكم النصيحة لكل مسلم الوجوب وإن لم يسأله، وقد قال بعضهم وجوب النصح يتوقف على السؤال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنصحك فانصح له"، وهو يعد من حقوق المسلم على أخيه المسلم.

ووجوبها آكد من ولاة الأمر، علماء و حكام نحو رعاياهم ، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم."1

والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه تكون بالإيمان والتصديق والعمل بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإنتهاء عما نهيا عنه، والذب والدفاع عن الله وكتابه ورسوله، وإزالة الشبه، وتعليم الناس ما جهلوا من ذلك؛ والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه في حقيقتها نصح لأنفسنا، وتزكية وتطهير لها.

ولهذا فإن هدفنا وغرضنا الأول والأخير في هذا الموقع إسداء النصح للمسلمين، وتبصيرهم و إرشادهم لما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، متلزمين في ذلك بالآداب الشرعية والسنن المرعية، من غير تعنيف ولا تشهير، راجين الأجر والثواب من العلي القدير؛ قال المروزي: "سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل لمسعر بن كدام: تحب أن تنصح؟ قـال: نعم، أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا"؛ وقال مسعر: "رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني و بينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع".

هذا فيما يتعلق بالأمور الشخصية ولمستورى الحال؛ أما المسائل العامة، وللمجاهرين بالبدع والمعاصي، المعلنين عنها، الداعين إليها ، فلا حرج من نصحهم علناً؛ وذلك عن طريق التعليم، والتذكير، والإفتاء.

والله أسأل التوفيق والسداد والعون والرشاد ؛ وأقول كما قال العبد الصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي.

**********************

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس العام

مقدمة هامة  1

الباب الأول- ركن النصيحة  3

إمامة المرأة للرجال   3

الفضائيات وخطرها على الناشئة والمجتمع   7

هل تعلم أيها الصوفي؟!  10

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان نداء عاجل إلى الأمة الإسلامية: أغيثوا إخوانكم المحاصرين   21

الحكم بغير ما أنزل الله    23

أباطيل الترابي المنكرة توجب التكفير والتشهير    33

من لم يكفِّر اليهود والنصارى أوشك في كفرهم أوصحَّح مذهبهم فقد كفر  62

الحلاج قُتل بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صدِّيق   73

لم يعد يوم الجنائز ذلكم اليوم المشهود  79

أيها الشباب المسلم ألِلْعَبث واللعب وُجدتم، أم للعبادة والجد خلقتم؟   81

دخول قوات التحالف الكافرة ما هو إلا غزو مغلف للسودان   84

ها أنتم هؤلاء جادلتم عن الترابي في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنه يوم القيامة؟   85

ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ أبو النجا 87

تلك عبادتكم إياه  91

نعم للوسطية، ولكن ما هي الوسطية؟   93

ومنزلة الفقيه من السفيه     كمنزلة السفيه من الفقيه  96

بين شرعنا العتيق وشرع الترابي المبدل   97

أَوَ يَكْفُر أحد من أهل القبلة؟!  108

بين حزب الله وحزب الشيطان   116

الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان   118

"لكنَّ الله أمرنا ببغض الأعداء"   121

عام الرمادة، ومواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه والعظات والعبر المستفادة  129

حكم مالك وأتباعه في السماع الصوفي، والرقص، والتواجد   139

" إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "نصيحة إلى ولاة الأمر  149

أيها السنيون احذروا أحفاد ابن سبأ، وابن العلقمي، وأبي طاهر القرمطي... الشيعة  165

أيها السنيون السلفيون انتبهوا واتحدوا فأنتم المعنيون   173

من الكفر البيِّن تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام تعبدي    174

الاعتراف بالآخر كلمة حق يُراد بها باطل   184

حرية الفكر صنم هذا العصر      192

من شك في كفر وردة محمود "مذموم" محمد طه أوصحَّح ما يعتقده فهو كافر مرتد   195

لا خير في أمة لا تثأر لرسولها المجتبى ولحبيبها المصطفى   197

تعقيب على ما جاء في ندوة د. الترابي ببورسودان   205

وقفات مع أخطر مخالفات دستور السودان 1426ﻫ - 2005م للإسلام  221

لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني   238

الوعيد الشديد لمن هنّأ أوشارك في أعياد عبّاد الصليب     243

الأعياد وعلاقتها بالعقائد والشرائع   246

مذاهب العلماء في حكم صلاة المنفرد خلف الصف     254

حكم الهجرة إلى ديار الكفار، والعيش بين ظهرانيهم، والتجنس بجنسية إحدى الدول الكافرة  260

ختان الإناث بين شريعة الإسلام وقانون حقوق الإنسان   267

أيها الشاب المسلم إذا قلد البعضُ الفنانين والفسقة، فاقتد أنت بنبيك والسلف البررة  270

العدالة ليست شرطاً في الآمر الناهي   274

أين أنت يا والي الخرطوم من هذه المهازل؟   280

أيها الحكام أين أنتم من سلفكم الصالح في عدم الأخذ بالظنة وفي عدم التجسس واتباع العورات؟   282

ويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه، ولا يهلك على الله إلا هالك     301

توبة من بيده مال حرام  303

تباً لعبدة الشيطان وتباً لمن عبد سوى الرحمن   306

العمليات الجهادية الاستشهادية بين المجيزين والمانعين    308

العمليات الجهادية الاستشهادية  حكمها، شروطها، فضلها، ثوابها 316

ما أطيب الإسلام وأحسنه، وما أخبث الكفر وأقبحه  324

الحق لا يُعرف بالكثرة ولا بالرجال، ولكن بالأدلة والآثار  328

الفروق الأساسية بين السياسة الشرعية والسياسة الجاهلية  330

يا أيها المؤمنون احذروا كيد الكفار والمنافقين    336

ما هو من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات كفر  338

النحس في الكفر، والشرك، والمعاصي، وليس في الأيام والشهور  351

بيان من الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة  حول قرار مجلس الأمن الجائر  353

حكم الانتماء والانتساب إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية  356

بمناسبة عيد الأم  358

أمينة ودود من المبدلات لشرع الله،  المستحقات لمقته وغضبه  360

أيها العلماء احذروا أن يؤتى الإسلام من قبلكم   363

تنبيه الإخوان للبدع والمخالفات المصاحبة لختم القرآن   406

تذكير الساجد بعدم جواز تخطي ما يليه من المساجد   418

بدع الجنائز ومحدثاتها 420

تعقيب على مقال"السلفيون الجدد وفتاوى الفتنة"   463

رسالة إلى طالب جامعي مبتدئ    473

رسالة إلى أصحاب الحافلات وسيارات الأجرة، وسائقيها، ومعاونيهم   476

إذاعة "المانجو" 96 FM وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا 479

رفعة الدين وعز الإسلام والمسلمين بمجاهدة الكفاروالمنافقين    482

مفاهيم ينبغي أن تصحح بين اليسر والتفلت     500

مفاهيم ينبغي أن تصحح ما حقيقة الصوفية؟   509

تهنئة وتعزية بالعيد   519

بدع رمضانية ومحدثات محلية وعالمية  522

أخي الكريم كن ربانياً ولا تكن رمضانياً 527

أيها الموسرون الأخيار ساهموا في نشر ميراث  سيد الأبرار  529

أيها المسلمون أشركوا المجاهدين في دعائكم، ولا تنسوا أمواتكم   532

رسالة إلى تارك الصلاة  534

أشر ما دخل جوف ابن آدم الربا 537

رسالة إلى محروم  538

إمام ظلوم غشوم ، خير من فتنة تدوم  540

التثويب "الصلاة خير من النوم" في أي أذَانَي الصبح يُقال: الأول أم الثاني؟   572

ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون شهر رمضان   583

غياب المرجعية الشرعية لدى المسلمين في هذا العصر سبب لكل بلية  585

خير الناس من طال عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُه  592

أيها المفرط في قضاء الصوم والكفارة انتبه فإن رمضان على الأبواب     593

الأهلة لا تثبت بالحساب وإنما بالرؤية  595

أيها المسلمون دارفور تستغيث بكم فأغيثوها 603

بمناسبة مأساة دارفور "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقابَ بعض"   608

فتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وكفارتها 613

ما ذُبِح لغير الله عز وجل فلا يؤكل   625

إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم   627

من تهاون في المندوب ترك الواجب، ومن تساهل في المكروه فعل الحرام  630

أهم العوائق والصعاب التي تواجه معلمي العلوم الشرعية للمبتدئين الناطقين بغير العربية  635

النصائح الغالية في التحذير من أسباب الخلاف الواهية  643

مطل الغني ظلم   665

احذر أخي المسلم أن يكون الحلال عندك ما حلَّ في يدك، والحرام ما حُرِمته  666

من علامات النفاق المتهاون فيها خلف الوعد   668

أيها المسؤولون تداركوا مشروع الجزيرة  670

لِمَ أخي المسلم تعطى الدنية في دينك؟!  673

إسرائيل وأمريكا رائدتا الإرهاب والقرصنة اليوم في العالم  677

أيها المسلمون لا تبخلوا على إخوانكم المجاهدين بأموالكم ودعائكم   678

أيها العلماء والدعاة احذروا أسباب التفرق: التشرذم، والانغلاق، وسوء الظن   680

أيها المجاهدون إنكم تقاتلون عن دينٍ وعد الله بنصره  683

لتسألنَّ يومئذ عن النعيم   684

أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سنَّا حرب المقاومة والعصابات في الإسلام  687

احذروا الركون إلى الكفار "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار"   691

أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟   696

لن يُفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة  699

أيها المسؤولون، أيها الموظفون احذروا استغلال سلطتكم وجاهكم   701

العاقل الذي يعرف خير الشرين   708

ردٌّ على كافرة ازدادت كفراً وردة بنيلها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته  709

أيها الموسرون الأسخياء ارعوا العلم والعلماء  715

يا رجال المرور انتبهوا واعملوا على تدارك حوادث المرور  728

ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟   735

التحقيق في موضع رأس الشهيد الحسين بن علي  رضي الله عنهما  737

أيها المنافقون احذروا 740

المستشار مُؤْتمن   741

أخي الشاب  احذر الاشتغال بتصنيف الخلق   745

مفاهيم ينبغي أن تصحَّح هذا متشدد؟   748

سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين   767

التحية بالقُبَل من المنكرات المحرمات     808

صلة الرّحم وقطعها 826

أيها المسلمون اتقوا الله في الخدم وارعوا فيهم وصية نبيِّكم   844

ما خاب من استخار ولا ندم من استشار  850

لقد أخطأت إسْتُكَ الحفرةَ يا شيخ الأزهر!!  857

المحافظة على رمم وجيف الكفار الهالكين، وعلى الأصنام، وعلى آثارهم  مخلفاتهم  عمل جاهلي وثني   860

تغيير المناهج الذنب الذي لا يُغتفر، والخطر المحدق   863

الأدلة الشرعية والحجج القوية في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية:  864

المنافقون اليوم أكثر عدداً، وأعظم خطراً وشراً من المنافقين الماضين، أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإخوانهم اليوم يعلنون نفاقهم   873

لا حوار مع الكفار في سوى التخيير بين الإسلام، والجزية، والقتال   881

عدم نظر الكريم المنان لمسبل الأزر، والثياب، والسراويل، والقمصان   886

أحكام تارك الصلاة في الحياة وبعد الممات     900

أيها المسلمون لا يكن أهل الجاهلية والكلاب أحسن جواراً منكم   904

أيها المبتدعة احذروا أن يحل بكم ما حل بعمرو بن لحي الخزاعي لتغييره دين إسماعيل عليه السلام  912

من وقَّر صاحب بدعة أوفسق فقد أعان على هدم الإسلام  918

الحكمُ بغير ما أنزل الله كفرٌ ناقلٌ عن الملة إلا في صورتين    919

قال عمر رضي الله عنه: "إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء"   930

رسالة إلى حكام المسلمين    932

الدين النصيحة  934

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج13. الصحاح في اللغة الجوهري

      ج13. الصحاح في اللغة الجوهري يقول الراعي لصاحبه من بعيدٍ: ياهِ ياهِ، أي أقبل. قال ذو الرمّة : يُنادي بيَهْياهٍ وياهٍ كأنَّه ...