الجمعة، 2 سبتمبر 2022

موسوعة الدين النصيحة المؤلف علي بن نايف الشحود{2}

 

الدين النصيحة (2) 

الباب الثاني - ركن الذكرى

تحذير المصلين من خطر القصَّاص والمذكِّرين

 

أيها الخطباء والوعاظ والقصاص احذروا الاستدلال بالأحاديث الموضوعة والضعيفة

عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة مع أول الداخلين

يتوهم البعض أن كل الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة، وأنه يجوز الاستدلال بها من غير تحرٍ لها، بل هناك طائفة تنكر جرح وتعديل الرواة جملة واحدة.

نسي هؤلاء أوتناسوا أنه لا يحل لأحد أن يروي حديثاً موضوعاً أوضعيفاً ولا يستدل به إلا ليبين أنه موضوع أوضعيف، وإلا فهوداخل في وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

قال الإمام الدارقطني رحمه الله في مقدمة كتاب "الضعفاء والمتروكين": (توعد الله بالنار من كذب عليه، بعد أمره بالتبليغ عنه، وفي ذلك دليل على أنه إنما أمر أن يبلغ عنه الصحيح دون السقيم، والحق دون الباطل، لا أن يبلغ عنه جميع ما روي، لأنه قال: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، فمن حدث بجميع ما سمع من الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يميز صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، باء بالإثم، وخيف عليه أن يدخل في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه منهم).

وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: (ولا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ما كان في الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، وكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح، بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع).

هذا بالنسبة لذوي الاختصاص.

أما غيرهم من العامة فعليهم الاقتصار بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول، كأحاديث الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة المعروفة، ما لم يبين أهل العلم المختصون بذلك ضعف بعضها فتترك، وقد قام العلماء قديماً وحديثاً بتوضيح الصحيح من السقيم من الأحاديث، بحيث لا يوجد حديث إلا وقد حكم عليه العلماء بالصحة، أوالضعف، أوالوضع، علم ذلك من علمه، ومن جهله فعليه بسؤال أهل العلم، أوالاكتفاء بدواوين السنة المحققة، إذ السلامة لا يعدلها شيء.

من تلكم الأحاديث الواهية والآثار الموضوعة التي يحلي بها بعض الخطباء، والوعاظ، والقصاص خطبهـم، وأحاديثهـم، وقصصهـم، لشد قلوب العـوام إليهم، بهدف ذم المـال وجمعه لمن جمعه من حـلال وأنفقه في سبـل الخيـر المختلفة من أصحـاب رسـول الله صلى الله عليه وسلم، من أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة حبواً!!!

نحو:

1.  ما رواه أحمد بسنده وغيره إلى عُمارة بن زاذان عن ثابت بن أنس أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عثمان كذا هذا، فقال: إن لي حائطين، فاختر أيهما شئت؛ قال: بل دلني على السوق؛ إلى أن قال: فكثر ماله، حتى قدمت له سبع مائة راحلة تحمل البُرَّ والدقيق والطعام، فلما دخلت سُمِع لأهل المدينة رَجَّة، فبلغ عائشة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عبد الرحمن لا يدخل الجنة إلا حبواً"، فلما بلغه قال: يا أمَّهْ! إني أشهدك أنها بأحمالها وأحلاسها في سبيل الله.

قال الذهبي في السير: أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الصمد بن حسان عن عمارة، وقال: حديث منكر.

وفي لفظ لأحمد: فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد رأيت عبد الرحمن يدخل الجنة حبواً"، فقال: إن استطعتُ لأدخلنها قائماً، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله.

2.  وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت خَشَفَة، فقلت: ما هذا؟ قيل: بـلال، إلى أن قـال: فاستبطـأت عبد الرحمن بن عوف، ثم جـاء بعد الإيـاس، فقلت: عبد الرحمن؟ فقال: بأبي وأمي يا رسول الله! ما خلصت إليك حتى ظننت أني لا أنظر إليك أبداً؛ قال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي أحاسب وأمحص".

3.  أما الأثر الموضوع المختلق فقد حكاه الغزالي في الإحياء عن الحارث المحاسبي: "وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك! فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن، كسب طيباً، وأنفق طيباً، وترك طيباً! فبلغ ذلك أبا ذر، فخرج مغضباً يريد كعباً، فمر بعظم لحي بعير، فأخذه بيده، ثم انطلق يريد كعباً، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، وأقبل أبوذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه يا ابن اليهودية! تزعم أنه لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف".

قال الحافظ ابن الجوز رحمه الله في "تلبيس إبليس" له بعد أن قال: (فهذا كله كلام الحارث المحاسبي، ذكره أبوحامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة... وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال من وضع الجهال، وخفاء صحته عنه ألحقه بالقوم، وقد روي بعض هذا وإن كانت طريقه لا تثبت، وإسناده عن مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر أنه جاء يستأذن عثمان فأذن له وبيده عصا، فقال عثمان: يا كعب، إن عبد الرحمن توفي وترك مالاً فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله تعالى فلا بأس به؛ فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني، أذر خلفي ست أواقي؛ أنشدك الله يا عثمان أسمعت هذا؟ ثلاث مرات، قال: نعم.

قال ابن الجوزي: وهذا حديث لا يثبت، وابن لهيعة مطعون فيه، قال يحيى: لا يحتج بحديثه، والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة 25هـ، وعبد الرحمن توفي سنة 32هـ، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين، ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة رضي الله عنهم: إنا نخاف على عبد الرحمن؟ أوليس الإجماع منعقداً على إباحة جمع المال من حله؟ فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أويأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه؟ هذا قلة فهم وفقه.

ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة، فإنه قد خَلَّف طلحة ثلاثمائة بهار، في كل بهـار ثلاثة قناطير، والبهار الحمل؛ وكان مال الزبير خمسين ألف ألف ومائتي ألف، وخَلَّف ابن مسعود رضي الله عنه تسعين ألفاً، وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها، ولم ينكر أحد منهم على أحد، وأما قوله: "إن عبد الرحمن يحبو حبواً يوم القيامة، فهذا دليل على أنه لا يعرف الحديث، أوكان هذا مناماً وليس في اليقظة، أعوذ بالله من أن يحبو عبد الرحمن في القيامة، أفترى من يسبق إذا حبا عبد الرحمن بن عوف، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر المغفور لهم، ومن أصحاب الشورى؟).

من أكثر الكتب شيوعاً التي يستمد منها الوعاظ والقصاص والأئمة هذا الصنف من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والآثار المختلقة كتاب إحياء علوم الدين للغزالي سامحه الله، حيث حوى هذا السفر على حوالي ستمائة حديث بين ضعيف وموضوع، وجزى الله الحافظ العراقي خيراً حين تنبه لخطورة ما في هذا الكتاب من الأحاديث المختلفة، فحققه في مؤلف أسماه "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار"، وهو مطبوع وبعض نسخ الإحياء مذيلة به.

ولهذا قال تلميذ الغزالي أبوبكر بن العربي المالكي: لم أر كتاباً تحت أديم السماء مليء بالكذب على رسول الله مثل كتاب الإحياء، أوكما قال؛ والغزالي نفسه رحمه الله يعترف بأن بضاعته في الحديث بضاعة مزجاة، ولهذا وجب التنبيه للتثبت والتحقق فيما ورد في هذا الكتاب من الأخبار، وأنه لا يحل لأحد أن يستدل بما ورد فيه من أحاديث إلا بعد التأكد من صحتها.

لهذا السبب حذر السلف من القصاص والوعاظ ونهوا عن تمكينهم من المساجد والجلوس إليهم، وعدوا ذلك من البدع المنكرات والحوادث المهلكات.

قال ابن الحاج المالكي في المدخل: (مجلس العلم الذي يُذكر فيه الحلال والحرام واتباع السلف رضي الله عنهم، لا مجالس القصاص فإن ذلك بدعة.

وقد سئل مالك رحمه الله عن الجلوس إلى القصاص، فقال: ما أرى أن يجلس إليهم، وإن القصص لبدعة.

وقال ابن رشد: كراهة القصص معلومة من مذهب مالك.

وروى يحيى بن يحيى أنه قال: خرج معنا فتى من طرابلس إلى المدينة، فكنا لا ننزل منزلاً إلا قص علينا حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب من ذلك، فلما أتينا المدينة إذا هو قد أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بهم، فرأيته وهو قائم يحدثهم، وقد لهَوْا عنه، والصبيان يحصبونه، ويقولون له: اسكت يا جاهل.

فوقفت متعجباً لما رأيت، فدخلنا على مالك، فكان أول شيء سألناه عنه بعد أن سلمنا عليه ما رأيناه من الفتى، فقال مالك: أصاب الرجال إذا لهَوْا عنه، وأصاب الصبيان إذ أنكروا عليه باطله.

قال يحيى: وسمعت مالكاً يكره القصص، فقيل له: يا أبا عبد الله! فإن تكره هذا، فعلام كان يجتمع من مضى؟ فقال: على الفقه.

وقال ابن أبي زيد في الكتاب "الجامع": وأنكر مالك القصص في المسجد.

وعن الفضل بن مهران قال: قلت ليحيى بن معين: أخ لي يقعد إلى القصاص؛ قال: انْهَهُ؛ قلت: لا يقبل: قال: عظه؛ قلت: لا يقبل؛ قال: اهجره؛ قلت: نعم.

ينبغي للمسؤولين عن المساجد أن لايمكنوا قاصاً ولا واعظاً من غير المعروفين من الحديث إلى الناس، لظن البعض أن كل من علا المنبر أوقام خطيباً فهو عالم، وإن لم يفعلوا فعلى الحاضرين أن يخرجوا ويتركوهم، وهذا أضعف الإيمان.

0000000000000000

لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت

 

هذه الملاحظـة الدقيقـة صدرت من في الخليفة الراشـد، والإمام العـادل، والعبد الصـالح، عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث قال: "لم أر يقينا أشبه بالشك كيقين الناس بالموت"، ثم علل ذلك بأنهم:"موقنون أنه حق ولكن لايعملون له" أوكما قال، لأن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، ولهذا قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن ماوقر في القلب وصدقه العمل؛ وعندما قال له  الحطيئة: أليست "لا إله إلاالله" مفتاح الجنة؟ فهم مراده ومقصوده فقال له: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلاَ فلا.

قضية الإيمان واليقين هي القضية الأساس في هذا الدين، ولهذا جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشرة سنة ليس له شغل إلاَ تثبيت وترسيخ أمر العقيدة، واكتفى القرآن المكي بمعالجة هذا الأمر ولم ترد التشريعات إلا بعد الهجرة في القرآن المدني.

إن كان عمر قال هذه الكلمة مخاطبا بها قرنه وهو قرن التابعين ومن القرون الفاضلة، فما عساه قائلاً لو رأى ما عليه المسلمون اليوم؟ حيث أضحى إيمانهم إيمانا نظريا يخالطه الشك، ويشوبه الجدل والمرآء، ويشاركه الهوى.

كل منا يشهد أن الموت حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن البعث بعد الموت حق، ونحو ذلك، ولكن لا أثر لهذه الشهادة لا في عبادتنا، ولا في سلوكنا حيث يكذب عملُنا قولَنا، ويخالفُ باطنُنا ظاهرَنا.

كان بعض السلف إذا شهد جنازة لا ينتفع به لمدة ثلاثة أيام، ورأى ابن مسعود رجلاًًًًًًًًًًًًً يضحك وهو مشيع لجنازة، فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟! والله لا أكلمك ابداً.وكان سفيان الثوري يبول الدم من شدة خوفه، وكانت مجالس الإمام أحمد كما حكى عنه تلميذه الإمام أبو داود: مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا قط.

أما مجالسنا نحن اليوم فهي مجالس الدنيا، ونادراً أن يذكر في غالبها شيء من أمر الآخرة، وحالنا عند تشييع الجنائز، وزيارتنا للقبور، التي شرعت للتذكير بالآخرة ضحك، وغيبة، وتشاغل، وفي أحسن أحوال كثير منا الإتيان ببدعة، نحو التهليل والتكبير، أوقراءة شيء من المنكرات، ولله در ابن عمر عندما سمع أحد المشيعين يقول: استغفروا للميت يغفر الله لكم! أنكرعليه قائلاً: "اسكت لاغفر الله لك، ما بهذا أمِرنا ولاهكذا كنا نفعل".

فكثير منا ينقض إسلامه في اليوم الواحد بضع مرات بدعاء واستغاثة غير الله من الأموات والأحياء، أوبنفي أوإثبات ما هو معلوم من الدين ضرورة، أوبموالاة الكافرين، والتبرء ومعاداة المؤمنين، ومنا من يترك الواجبات ويتهاون فيها، وبعضنا يقترف الكبائر وينغمس فيها صباح مساء، ولا يشعر أحد منا إلا من رحم ربك بأنه سلب إسلامه، أوارتكب منكراً من القول وزوراً.

لو حققنا إيماننا، وأسلمنا أمرنا لربنا، وأيقنا بصدق رسولنا، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، لما فعل أحدنا شيئاً من ذلك ولا دون ذلك.

فالذي يتخذ مع الله نداً أوشريكاً يصرف إليه شيئاً من العبادة، جليلة كانت أم قليلة، فإيمانه بالله، والرسول، وبالجنة، والنار، والموت، ونحو ذلك، أشبه بالشك أوهو بَيِّن الشك، وكذلك الحاكم الذي يحكم الرعية بغير شرع الله، ويستبدل ذلك بالدساتير والقوانين الوضعية، وكذلك المسلم الذي يوالي الكفار بالعمل في منظماتهم، والتجسس لصالحهم، ويعادي المسلمين.

وقل مثل ذلك في:

   المرابين التعساء الأشقياء.

   والفنانين، والمسيقيين، والممثلين البؤساء.

   والنساء الكاسيات، العاريات، الملعونات، اللائي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.

   والمجادلين والرادِّين لما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

   والمبتدعين في دين الله من العبادات ما لم ينزل به سلطاناً.

   والآكلين لأموال اليتامى بالظلم والعدوان.

   والمنتهكين لحقوق إخوانهم المسلمين.

   والمقترفين للفواحش والمنكرات.

   والغاشين في البيع والشراء وسائر المعاملات.

   والعاقين لآبائهم والقاطعين لأرحامهم وذويهم.

   والتاركين المتهاونين في الواجبات، المتجاسرين على المحرمات، وغير المبالين بالشبه والمكروهات.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" الحديث، على الرغم من أن إيمانه لم يسلب بالكلية، ولكنه ضعف ضعفاً شديداً بحيث لم يَحُل بينه وبين إرتكاب هذه المحرمات، واقتراف هذه القاذورات، وقد شبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإيمان في هذه الحال بالمظلة التي لها صلة ما بحاملها.

فعلينا جميعاً أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نزن أعمالنا قبل أن توزن علينا، وأن نتزين ليوم العرض الأكبر كما قال عمر، وأن نستعد للموت فهو آتٍ، وكل آتٍ قريب، ولنحذر أشد الحذر الأدواء المضلة، والأمراض المذلة: طول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، واعلم أن الدنيا مطية الآخرة ومزرعتها، وأنها ليست بدار قرار، ولا تدوم على حال.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

000000000000000000

المساجد هي بيوت الله في الأرض فاعرفوا لها قدرها

 

زخرفة المساجد وتزيينها

من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها عند بناء المسجد ما يأتي

أمور ينبغي أن تصان منها المساجد

المساجد هي بيوت الله عز وجل، وقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف، فقال: "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً" ، وهي أحب البقاع إليه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها".

ولهذا أوجب علينا تشييدها، وعمارتها، وصيانتها، وإكرامها عن كل ما لا يليق بها ويناسب شرفها، فقال: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب".

كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وطئت قدماه الشريفتان دار هجرته المدينة هو بناء مسجده الذي أسس على التقوى من أول يوم، فكان المسجد هو الركيزة الأولى واللبنة الأساس في تكوين المجتمع المسلم، حيث لم يكن قاصراً على إقامة الصلوات والدروس العلمية، بل سائر نشاط المسلمين، من جهادي، وسياسي، واجتماعي، ونحوه كان منطلقه من المسجد.

وظل هذا الحال مستمراً في عهد الخلافة الراشدة وما بعدها، حتى غشيت المسلمين عصور الظلام والجهل، فاقتصرت رسالة المسجد على أداء الصلاة، وفي أحسن الأحوال إقامة الدروس، بينما نجد النواة الأولى للجامعات الإسلامية العريقة في عواصم العالم ومدنه الكبرى مثل المدينة، ومكة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان، وغيرها كانت في المسجد.

لقد حث رسول الإسلام وحض على بناء المساجد، ووعد مشيديها بالثواب الجزيل والأجر العظيم، لمكانتها في الإسلام، وحاجة المسلمين إليها في سائر البلاد والأزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجداً ولو كمَفحَص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة".

هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل مشروط بشرطين كسائر الطاعات، هما:

1.  أن يبتغي بذلك وجه الله، كما جاء في إحدى روايات الحديث: "يبتغي به وجه الله".

2.  أن يبنيه بمال حلال طيب.

لأن الله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.

لهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: (من كتب اسمه على المسجد بناه فهو بعيد عن الإخلاص).

قال الزركشي رحمه الله: (خصَّ القطاة بالذكر دون غيرها لأن العرب تضرب به المثل في الصدق، ففيه رمز على المحافظة على الإخلاص في بنائه والصدق في إنشائه).

زخرفة المساجد وتزيينها

لقد أمر الشارع ببناء المساجد وبتشييدها وتعميرها، ولكنه نهى عن المبالغة في زخرفتها.

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".

وروي عنه أنه قال: "إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدبار عليكم".

وعن ابن عباس رضي الله عنه: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، ثم لا تعمرونها إلا قليلاً".

وكتب عمر رضي الله عنه لأحد عماله: "ابن لهم ما يكنهم الحر والبرد، وإياك أن تحمِّر وتصفِّر فتفتن الناس".

قال القرطبي رحمه الله: (إذا قلنا إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك، فكرهه قوم وأباحه آخرون.

ثم ذكر بعض الآثار السابقة التي تنهى عن الزخرفة.

وقال: احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: "في بيوت أذن الله أن ترفع"، يعني تعظم، وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي بالساج وحسنه، وقال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته، وذكِرَ أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات، وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه).

قلت: الآثار التي تنهى عن المبالغة عن زخرفة المساجد وتزيينها أحق بالاتباع، والمهم كما قال عمر: أن يكون المسجد واسعاً يقي الناس الحر والبرد والمطر، ولا مانع من الزخرفة والتزين غير المبالغ فيهما من باب تعظيم شعائر الله وإكرام بيوته في الأرض.

من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها عند بناء المسجد ما يأتي

1. أن تكون المحلة، أوالحارة، أوالقرية، أوالحي في حاجة إلى مسجد، حيث نلاحظ كثرة المساجد في بعض الأحياء، وندرتها أوعدمها في أماكن أخرى هي في أمس الحاجة إليها.

2. الحرص أن يكون للمسجد وقف ثابت بقدر المستطاع يستفاد من ريعه في صيانته وتجهيز ما يحتاجه من فرش ونحوه.

3. الاهتمام بدورات المياه والمواضئ والعناية بنظافتها وتهيئتها.

4. توفير الماء، سواء كان بحفر بئر أوعمل خزانات ونحو ذلك.

5. اختيار إمام كفء مقتدر، وأن لا تكون الإمامة خاضعة للأهواء أوأن تورث.

6. اختيار مؤذن وعمال لحراسة المسجد ونظافته ممن يقدرون المسجد قدره.

7. تشجير المسجد.

8. تنظيفه وتجميره.

9. الاهتمام بتهوية المسجد وتكييفه إن أمكن ذلك.

أمور ينبغي أن تصان منها المساجد

إنما بنيت المساجد لذكر الله، ولإقامة الصلاة، ولتعليم الناس أمور دينهم، ولهذا لابد أن تصان من بعض الأمور التي لا تليق ولا تناسب الأغراض التي بنيت المساجد من أجلها.

سنشير في هذه العجالة إلى أهم تِلك الأمور، وهي:

1. لا يُقبَر في المسجد أحد، لا أمام القبلة ولا في الجهات الأخرى، مهما كان الموصي بذلك، فلا تنفذ وصيته، ولو كان الذي بناه، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال: "إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد".

2. إنشاد الضوالِّ في المسجد.

3. أن يتخذ المسجد مكاناً للإعلانات عن الأفراح والأتراح.

4. الصخب ورفع الصوت في المسجد، إلا في العلم، وقد كره مالك أن يرفع الصوت في المسجد ولو كان في حلقة علم.

5. تجنيبه الروائح الكريهة.

6. البيع والشراء ولو في رحاب المسجد، ولو عن طريق الجوالات.

7. دخول الكفار، حيث أصبحت المساجد الأثرية في بعض البلاد أماكن يرتادها السواح الكفار والنساء العاريات.

8. لا يشهر فيه سلاح.

9. لا يقام فيه حد من حدود الله عز وجل.

10. لا يتخذ مسكناً دائماً اللهم إلا لغريب أومحتاج، مع مراعاة الآداب المتعلقة به.

11. يجنب السماع الصوفي، وعمل الموالد والحوليات.

12. يجنب المجانين والأطفال إلا إذا كانوا بصحبة آبائهم وذويهم.

13. إنشاد الأشعار الماجنة أوالتي فيها هجاء ونحوها.

14. لا تمارس فيه أي حرفة من الحرف ممن يقيمون فيه ولا غيرهم.

15. تعليق لوحات ولو كان فيها آيات وأحاديث، إلى جهة القبلة خاصة.

16. إيقاف الأجراس في الساعات الحائطية التي تعلق بالمساجد.

17. الأوساخ، والقاذوات، والمخاط، والبزاق، وما شاكل ذلك، فهي من الخطايا العظيمة في المسجد.

18. الحرص على أخذ الزينة في المساجد، وتجنب الثياب المتسخة ذات الروائح الكريهة.

19. لبس ما فيه صورة من الثياب، ولبس الملابس التي تصف العورة أوتكشفها.

20. التجمر بحيطان المسجد، أوالبول والتغوط حول أسواره، وكذلك النهي عن الحجامة والفَصْد فيه.

21. تعليم الصبيان غير المميزين، والأفضل أن يكون ذلك في ملحقات بالمسجد

والله أسأل أن يعيننا على تعظيم حرمات الله وتقدير شعائره، وأن يرزقنا الأدب في بيوته ومساجده

0000000000000000000

أيها المسلمون "اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة"

 

"فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد"

من الأدواء الخبيثة، والأمراض الخسيسة، أعني أمراض القلوب المعنوية التي هي أخطر وأشد من أمراض الأبدان الحسية، الغفلة، وطول الأمل، والتسويف، وحب الدنيا، وكراهية الموت.

حيث أضحى لا تنفع معها ذكرى، ولا تفيد بسببها موعظة ولا فكرة، ولا يؤثر في النفوس زجر ولا تخويف، ولا آية ولا حديث، لأن الغفلة بلغت مداها، والتسويف وطول الأمل غاية مناها.

هذا هو الفرق بيننا وبين سلفنا الأطهار وسادتنا الأخيار، كان أملهم في الدنيا قصير، وخوفهم من الله وأهوال الطامة وأن تحبط أعمالهم كبير، ولم يأمنوا مكر الله كما أمنا نحن، فالمؤمن يجمع بين العمل والخوف، والمنافق يجمع يبن الأمل والتقصير.

قال الحسن: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمناً.

يقول ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.

وعندما سئل الحسن البصري رحمه الله: أتخاف من النفاق؟! قال: وما يؤمنني وقد خافه عمر رضي الله عنه.

وكان طاوس اليماني إذا مر ببائع الرؤوس وقد رآه يخرج رأساً مشوياً غشي عليه، ولم يتعش تلك الليلة.

وقال سفيان بن عيينة: خلق الله النار رحمة يخوِّف بها عباده لينتهوا.

وكان صهيب بن سنان رضي الله عنه إذا ذكر الجنة طال شوقه لها، وإذا ذكر النار طار نومه خوفاً منها، كما وصفته زوجه رضي الله عنها.

ذكرني شدة الحر في هذه الأيام قوله صلى الله عليه وسلم: "إن النار اشتكت إلى ربها سبحانه وتعالى قائلة: يا رب! أكل بعضي بعضاً؛ فجعل لها نَفَسَين، نَفَساً في الشتاء ونَفَساً في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها".

وقول ابن عمر رضي الله عنهما ناصحاً لإخوانه المسلمين ومحذراً لهم من نار الجحيم: "احذروا النار، فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد"، أوكما قال.

إي وربي، فإن نار الآخرة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا حرها شديد، ولو كانت مثل نار الدنيا لكفت، ولزجرت أصحاب القلوب والنهى.

وهل تدري أخي المسلم أن قارون الذي خسف به منذ أمد بعيد لا زال يجلجل فيها لم يصل قعرها؟

وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟! قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حَجَر رمي في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها".

هذه النار التي وصفها لنا ربنا ورسولنا، ولا ينبئك مثل خبير، النار التي لا تفنى ولا تبيد، والتي لأهلها الخالدين فيها زفير وشهيق، النار التي لا تمتلئ بل تطلب المزيد، النار التي طعام أهلها الغسلين، وشرابهم الحميم، كشرب الهيم، الواجب على كل مسلم أن يقي نفسه ويسعى لوقاية أهلها منها، عملاً بوصية ربنا سبحانه وتعالى، اللطيف الرحيم بعباده، والناصح الكريم: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون".

واتقاء النار ليس بالأمر العسير لمن وفقه الله لذلك، فقد نجى الله بغياً من بغايا بني إسرائيل لسقيها كلباً كان يأكل الثرى من العطش، حيث تدلت في بئر وحملت له ماءً في موقها، فشكر الله لها هذا الصنيع، فغفر لها، وأدخلها الجنة، ونجاها من النار.

وقد أرشد رسولنا إلى ما هو أيسر من ذلك، إلى التصدق ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة، حيث قال: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل".

وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".

وزاد ابن حجر: "ولو بكلمة طيبة".

فالصدقة قليلة كانت أم كثيرة، إن كانت من صادق ومن كسب طيب، والله لا يقبل إلا طيباً، من أجل القربات، وهي تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، فعليك أخي المسلم أن لا تستحي من أن تتصدق بما تملك، شريطة أن تكون طيبة بذلك نفسك.

قال الإمام النووي في شرح الحديث السابق: (وفيه الحث على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار).

وقال المناوي: ("اتقوا النار" أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية، أي حجاباً من الصدقة، ولو كان الاتقاء بالتصدق بشيء قليل جداً مثل شق تمرة، أي جانبها، أونصفها، فإنه يفيد، فقد يسد الرمق، سيما للطفل، فلا يحتقر المتصدق ذلك، فلو هنا للتقليل كما تقرر، وهو معدود من معانيها كما في المغني عن اللخمي وغيره، وقد ذكر التمرة دون غيرها كلقمة طعام لأن التمر غالب قوت أهل الحجاز، والاتقاء عن النار كناية عن محو الذنوب، "إن الحسنات يذهبن السيئات"، "أتبع السيئة الحسنة تمحها"، وبالجملة ففيه حث على التصدق ولو بما قلَّ.

إلى أن قال: ("بكلمة" أي فاتقوا النار بكلمة طيبة تطيِّب قلب السائل مما يتلطف به في القول والفعل، فإن ذلك سبب للنجاة من النار، وقيل: الكلمة الطيبة ما يدل على هدى، أويرد عن ردى، أويصلح بين اثنين، أويفصل بين متنازعين، أويحل مشكلاً، أويكشف غامضاً، أويدفع تأثيراً، أويسكن غضباً).

قلت: أعمال الخير كثيرة ومتنوعة، وأسباب دخول الجنة والنجاة من النار لا تحصى، وكل ميسر لما خلق له، فمن الناس من يسر لقضاء حوائج الناس، ومنهم من فتح له في الصلاة، أوالصيام، أونشر العلم، وهكذا، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

فالسعيد كل السعادة من زحزح عن النار وأدخل الجنة، والتعيس الشقي من حرم جنة عرضها السموات والأرض كما أخبر الصادق المصدوق: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيتَ خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب؛ ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيتَ بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيتُ شدة قط" الحديث.

اللهم إنا أطعناك في أحب الأمور إليك وهو التوحيد، ولم نعصك في أبغض الأمور إليك وهو الشرك، فاغفر لنا ما دون ذلك، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على النبي الأمي الكريم، وعلى صحابته والتابعين

00000000000000000

الدِّينُ رأسُ المالِ فاستمسِكْ به ** فضياعُه من أعظمِ الخُسْران

 

لقد صدق الإمام القحطاني في نونيته الشهيرة كلها وأجاد، سيما في قوله:

الدين رأس المال فاستمسك به                 فضياعه من أعظم الخسران

إي وربي، فالدين هو رأس المال الحقيقي، وكل ما يناله العبد في هذه الحياة الدنيا من متاع هو تابع وربح لهذا الدين، وإذا فقد رأس المال فقد معه كل خير، وخسر كل شيء.

ماذا تعني الحياة وما فائدتها؟ إذا ذهب دينك، وضاعت عقيدتك، وسفرت وتبرجت حريمك، وفسدت أخلاقك، وخسرت أبناءك؟

ما طعم الحياة إذا أضحى الإنسان كالسائمة، همه ملأ بطنه، وتحقيق شهواته، والاستجابة إلى نزواته؟

ماذا ينتظر المؤمن إذا سلب حلاوة الإيمان؟ "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغض أن يعود إلى الكفر كما يبغض أن يلقى في النار" الحديث، وأصبح يعيش كما يعيش الحيوان؟ من غير ولاء ولا براء، ولا خوف ولا استحياء؟

كيف يهدأ بالك، وتطمئن نفسك، وتسعد حياتك؟ واليهود والنصارى وعملاؤهم قد ملكوا أمرك، وغزوا ديارك؟ واستولوا على حياضك؟ وجاءوا عند بابك وأذلوا كبرياءك؟ وداسوا كرامتك، وأيموا نساءك، ويتموا أطفالك؟ وقتلوا شبابك وصبيانك؟ وعاثوا فساداً في فتياتك، ونهبوا ثرواتك؟

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد              تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

لقد أذل الكفار الأعزاء من أبناء الأمة، وأكرموا الأذلاء، وحرموا العلماء من الخطابة والحديث والتدريس، وأنطقوا الرويبضة، وفسحوا المجال للعملاء والسفهاء فتطاولوا على الكبراء الأجلاء، وأشانوا سمعة الأخيار الفضلاء، لقد غيروا الموازين، وخلطوا بين المفاهيم، وأساءوا إلى المحسنين، وأحسنوا إلى المسيئين.

ليس للخروج من هذه المحن من سبيل إلا بالاستمساك بحبل الله المتين، والاعتصام بسنة سيد المرسلين، والاقتداء بالسلف الصالحين، والعود إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الميامين.

ولا يتم ذلك إلا بتصحيح العقائد، ونبذ اليأس والقنوط والخلاف، وبالعزم والإصرار، وموالاة جميع المسلمين، وبذل النصح والتوجيه لكافة إخوة الدين، وبدعم المجاهدين ومواساة الفقراء والمساكين، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

والله المسؤول أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يلهمهم رشدهم وصوابهم، وأن يلم شعثهم، ويعينهم على أنفسهم وعدوهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواه، ولا إله غيره، وصلى الله على نبي الملحمة الضحوك القتال، وعلى آله وصحبه الأخيار، وعلى أتباعهم بإحسان

00000000000000000000

أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات

 

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "أكثروا من ذكر هادم اللذات"، الموت، مفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات، المجرع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات.

من العجيب الغريب أن كثيراً من الناس لا يذكرون الموت ولا يحبون أن يذكَّروا به، ومنهم من يتشاءم بمن يذكره بذلك، وينبهه لما هنالك، كأنما كتب الموت على غيرهم، ونسوا أوتناسوا أن الأحياء جميعاً هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أين الآباء والأجداد؟ بل أين بعض الأبناء، والازواج، والأقارب، والجيران، والأحفاد؟

ما منا من أحد إلا ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا رسولنا، ونعانا إلى أنفسنا، فقال: "إنك ميت وإنهم ميتون"، وما يستخرج من شهادة بعد الوفاة إنما هي صورة طبق الأصل لما سجله الملائكة للعبد وهو في رحم أمه، ورحم الله ابن الجوزي حين قال في قول الله عز وجل: "كل من عليها فان": (هذا والله توقيع بخراب الدنيا)، إي وربي، إنه توقيع وأي توقيع! ليس فيه تزوير، لا يقبل المراجعة، ولا تجدي فيه الشفاعة.

فالموت لا يميز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير ووزير وغفير، ولا عالم ولا جاهل،ولا بر ولا فاجر: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون".

رحم الله العلامة الشهير، والشاعر المجود القدير، والواعظ الناصح البصير، أبو إسحاق الألبيري حين قال مذكراً ابنه أبا بكر بأن الموت لا يفرق بين صغير وكبير، في قصيدته الشهيرة التي حث فيها ابنه على طلب العلم والاشتغال به، التي مطلعها:

تفتُّ فيـؤادك الأيـامُ  فتـاً         وتنحتُ جسمكَ الساعاتُ نحتا

وتدعوك المنونُ دعاءَ صدق         ألا يا صاح أنت أريــدُ أنتا

أراك تحب عِرْساً ذات  خدر        أبتَّ طلاقها الأكيــاسُ  بتا

تنام الدهر ويحك في غطيط          بها حتى إذا مت انتبهـــا

فكم ذا أنت مخـدوع وحتى         متى لا ترعوي عنهـا وحتى

أبابكـر دعـوتك لو أجبتَ          إلى ما فيه حظك لوعقلنــا

إلى علم تكـون به  إمامـاً         مطاعاً إن نهيتَ و إن أمرتـا

إلى أن قال:

ولا تقل الصبـا فيه امتهـال         وفكـر كم صغيـر قد دفنتـا

وقال مذكراً نفسه على لسان ابنه:

تقطعني على التفريط  لومـاً        وبالتفريط دهـرك قد قطعتا

وفي صغري تخوفني المنايا         وما تدري بحالك حيث شبتا

وكنتَ مع الصبا أهدى سبيلاً         فمالك بعد شيبك قد نكثتـا

ونـاداك الكتـاب فلم تجبه          ونبهك المشيب فما  انتبهتا

ويقبح بالفتى فعـل التصابي         وأقبح منه شيخ قد  تفتــا

ونفسك ذم لا تذمم سواهـا          لعيب فهي أجدر من  ذممتا

وأنت أحـق بالتنفيـذ مني           و لو كنت اللبيب لما نطقتا

ولو بكت الدُّما عيناك خوفاً          لذنبك لم أقل لك قد  أمنتـا

ومن لك بالأمان وأنت عبد          أمرتَ فما ائتمرت ولا أطعتا

الأدواء العصيبة والأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذكر الموت والاستعداد له هي أمراض القلوب المعنوية: حب الدنيا، وطول الأمل، والغفلة، وكراهية الموت، وذلك لأن كثيراً منا إيمانه بالموت إيمان نظري شبيه بالشك، كما قال الخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز: (لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق ولكن لا يعملون له)، أوكما قال.

إذا أردت الخـلاص من هذه الأدواء المضلـة المذلـة فعليك بوصيـة رسـولك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أوعابر سبيل".

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

قال النووي رحمه الله: (قالوا في شرح هذا الحديث، معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق).

هذا هو الداء المانع من ذكر الموت والاستعداد له: حب الدنيا، وطول الأمل، ينتج منه كراهية الموت، وهذا هو الدواء: التقلل من الدنيا، والعزوف عنها، المؤدي إلى الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له.

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك الأنصاري عندما سأله: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ مؤمناً حقاً؛ فقال له: لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأقمتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها؛ قال له: يا حارث، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم".

إليك أخي الكريم أنموذجاً واحداً من سلف هذه الأمة، ممن عرفوا قدر الدنيا فعزفوا عنها، وقد جاءتهم راغمة، وأدركوا مصيبة الموت، ومآل المقبورين، وحال الهالكين، فاستعدوا لذلك، وشمروا لما هنالك، ذلكم هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لعل الله ينفع بها، فالذكرى تنفع المؤمنين.

روى ابن الجـوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز له عن أبي فروة قال: (خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني أمية، فلما صلى عليها ودفنت قال للناس: قوموا؛ ثم توارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد أبطأت فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني أبي، فسلمتُ فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأحبة؟ قلت: ما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت العينان؟ قلت: وما لقيت العينان؟ قال: قدعت المقلتان، وأكلت الحدقتان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأبدان؟ قلت: وما لقيت الأبدان؟ قال: قطعت الكفَّان من الرُّسغين، وقطعت الرسغان من الذراعين، وقطعت الذراعان من المرفقين، وقطعت الكتفان من الجنبين، وقطعت الجنبان من الصلب، وقطع الصلب من الوركين، وقطعت الوركان من الفخذين، والفخذان من الركبتين، وقطعت الركبتان من الساقين، وقطعت الساقان من القدمين؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك بأكفان لا تبلى؛ قلت: وما الأكفان التي لا تبلى؟ قال: اتقاء الله والعمل بطاعته؛ ثم بكى عمر، وقال: ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها؟ أقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، مر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وعن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ امحت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، وقبحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم؟ والله ما زادوهم فراشاً، ولا وضعوا هنالك متكأ، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات؟ أليس عليهم الليل والنهار سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، وصاروا بعد السعة في المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناظر فيه، المتنعم بلذته.

يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمرك الحاضر ينعه؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وأين بخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاءه من الأجل ما لا يمتنع منه، هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر راجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى؟ يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، يا ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا؟ وما يأتيني به من رسالة ربي.

ثم تمثل بهذه الأبيات:

تسرُّ بما يفني وتشغل بالصبى       كما غر باللذات في النوم حالم

نهارك يا مغرور لهو و غفلة        و ليلك نوم والـردى لك لازم

وتعمل فيما سوف تكره غبـه       كذلك  في الدنيا تعيش البهائـم

ثم انصرف، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة)، أي أسبوعاً.

اللهم إنا نسألك أن تقيل العثرات، وتغفر الزلات، وتبدلها حسنات، وتستعملنا في الطاعات، وتشغلنا بما يهمنا في الحياة وبعد الممات، وأن تطيبنا للممات، وأن تستر الخطيئات، وأن تغفر للآبـاء والأمهـات، وأن تصلح الأزواج والذريات، إنك ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواك، ولا إله غيرك.

000000000000000000

احذر أخي المسلم اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت

 

الحمد لله الذي كتب الموت على كل حي، ولم يستثن منهم أحب خلقه وعباده إليه، بل أذاقه رسله وأنبياءه، بله وأصفى أصفيائه وأحب أحبائه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، فقال عز من قائل: "إنك ميت وإنهم ميتون"، وقال: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون"، وقال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم"، وصحَّ فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: "وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد منه".

وبعد..

جاء في تفسير قوله تعالى: "والتفت الساق بالساق"، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله عن كثير من السلف: "أن المراد بذلك اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت"؛ فلا يسأل عن عن سوء حاله، ولا رداءة مآله.

فالسعيد من طاب للموت وطاب له الموت، فجعل يشتاق إلى لقاء ربه لاستعداده لذلك، وتوقعه لما هنالك، والشقي من اجتمعت عليه الحسرتان، وتطابقت عليه الشدتان، واستبان له الخسران، وواجه مغبة التسويف، والمماطلة، والنسيان.

اعلم أخي الكريم أن للموت سكرات وأي سكرات؟! قال تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"؛ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن للموت سكرات"؛ وروي: "إن الموت أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض"؛ ولهذا قال عيسى عليه السلام: "يا معشر الحواريين ادعو الله أن يهوِّن عليكم هذه السكرة"، وقال لحوارييه: "ادعو الله أن يخفف عني الموت، فقد خفت الموت خوفاً أوقفني مخافة الموت على الموت"؛ وروي عنه أنه لما قبض إبراهيم عليه السلام قال له عز وجل: "كيف وجدتَ الموت؟ قال: يارب، كأن نفسي تنزع بالسَّلى؛ فقال: هذا وقد هونا عليك الموت"؛ وقال لموسى: "كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب؛ قال: هذا وقد هونا عليك الموت".

إذا كانت هذه حال أولي العزم عند الموت، وقد هونه الله عليهم، فكيف تكون حالنا نحن يا ترى؟!

إن كنا نحن أبناء الموتى، وأن الله نعى إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم ونعانا إلى أنفسنا، فما منا من أحد إلا وهو يحمل أصل شهادة وفاته، وما يستخرج له من شهادة بعد وفاته إن هي إلا صورة من تلك الشهادة: "إنك ميت وإنهم ميتون"، "كل نفس ذائقة الموت"، التي هي توقيع بخراب الدنيا، كما قال الحافظ ابن الجوزي؛ نعى رجلٌ لرجلٍ أخاه وقد وجده يتغدى، فقال: ادنُ تغدَّ، فقد نُعِيَ إليَّ أخي من قبل؛ فتعجب الرجل، من نعاه إليه وهو أول قادم؟ فتلى عليه: "إنك ميت وإنهم ميتون"؛ وأرواحنا عارية في أجسادنا، ولابد لصاحب العارية من ردها وقبضها.

لهذا علينا أن نكثر من ذكر هادم الذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، ومنغص العيشات، وعلينا أن نستعد له بتجديد التوبات، والحرص على الطاعات، والبعد عن المحرمات، والاستعداد للممات، والحذر من اجتماع الحسرات، والانغماس في الشهوات، واغتنام الفرص، والاستفادة من الأوقات.

ألم تعلم أخي الكريم أن إسرافيل ملتقم بوقه للنفخة الأولى قبل حين؟ وأن الساعة كادت أن تسبق بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟ وأن أعمار هذه الأمة تتراوح بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك؟ فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك"، وقال: "أعذر الله إلى من بلَّغه ستين من عمره"، وروي عنه أنه قال: "معترك المنايا بين الستين إلى السبعين"، وفي حديث آخر: "إن لكل شيء حصاداً، وحصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين"، وفي هذا المعترك قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفناً؛ وقال وهب بن الورد: إن لله ملكاً ينادي في السماء كل يوم وليلة: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب، أبناء السبعين ماذا قدمتم؟ وماذا أخرتم؟ وأبناء الثمانين لا عذر لكم.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة؛ قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ؛ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جواباً؛ فقال الرجل: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ فيما بقي أخذتَ بما مضى وبقي.

وأنت أخي الشاب، لا تأمن مكر الله، ولاتأمن الموت، ولا تظنن أنك في أمان منه، فقد يموت الصغير، ويعمر الشيخ الكبير، ويهلك الصحيح، ويصحُّ المريض؛ فكم من صغير دفنتَ، وشاب وشابة واريتَ؟ وكم من عروس قبرتَ؟ وشيخ عجوز عاصرتَ؟ فقد مات أبناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم قبله إلا فاطمة، ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قبله، هذا على سبيل المثال لا الحصر.

ولله در الإمام أبي إسحاق الألبيري، حيث قال يعظ ابنه أبا بكر، ويحثه ويحضه على طلب العلم، والاستعداد للدار الآخرة، في قصيدته التي مطلعها:

تفتُّ فـؤادك الأيــامُ فتـا       وتنحتُ جسمك الساعات نحتاً

وتدعوك المنونُ دعاء صدق       ألا يـا صاح أنتَ، أريد أنتَ

قال مذكراً ابنه أن الموت ليس قاصراً على الكبار دون الصغار:

ولا تقل الصبا فيه امتهـال       وفكر كم صغيـراً قد دفنتَ

كان آخر خطبة خطبها العبد الصالح، والإمام العادل، والخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أن قال فيها: (إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه؛ ثم رفع طرف ردائه، وبكى حتى شهق، ثم نزل، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه).

فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة وطول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، فهذه أدواء مضلة، وأمراض مذلة، وأماني مخلة.

فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واعلم أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، واحرص أن لا يكون يقينك بوعد الله وبالمغيبات شبيهاً بالشك، سيما الموت.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق، ولكن لا يعملون له"؛ فمن كد وجد، ومن زرع حصد، ومن اجتهد نجح، ومن عمل أفلح.

واعلم أن دوام الحال من المحال، فاليوم في الدور وغداً في القبور، واتق ليلة فجرها يوم القيامة، واعمل لدار السلامة، ولا تعجز فتكون في دار الندامة، فيس هناك إلا داران.

قال القحطاني رحمه الله في نونيته:

يوم القيامـة لـو علمتَ بهــوله       لفررتَ من أهل ومن أوطان

يومٌ تشققت السمـــاءُ لهـولـه       تشيب فيه مفـارقُ الولـدان

يوم عبـوسٌ قمطريـرٌ  شــرُّه        في الخلق منتشرعظيم الشان

والجنة العليـا و نــار جهنــم       داران للخصمين دائمتــان

يوم يجيء فيه المجرمون إلى لظى       يتلمظون تلمظ العطشــان

فكن أخي الكريم من الكيسين، عباد الله الفطنين، ولا تكن من المغرورين المخدوعين:

إن لله عبـــــاداً فطنــــاً       طلقـوا الدنيا وخافوا الفتنـا

نظـروا فيهـا فلمــا علمــوا       أنهـا ليست لحـي وطنــاً

جعلـوهـا لجــة واتخـــذوا      صالح الأعمـال فيها سفنـاً

أقول كل هذا ولا أعلم أحداً عنده من الذنوب، وعليه من الوزر، ويحمل من التقصير، والتفريط، والتسويف أكثر مني، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

وأخيراً أقول كفى بالقرآن مذكراً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم مبشراً ومنذراً، وبالموت واعظاً، وبالدهر مفرقاً.

اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالذكرى، واجعلنا ممن يخشاك في السر والنجوى، وممن يتقيك حق التقوى، وممن ختمتَ له بالحسنى، وجعلتَ عاقبته الفردوس الأعلى، وألحقت بهم أزواجهم، وذرياتهم، وذويهم، وأحبابهم، في الجنات العلى، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، محمد، وعلى آله وصحبه السادات النجباء، والأكارم الفضلاء، ما أقلت أرض وأظلت سماء.

0000000000000000000000

ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة

 

لكل منا همة تسكن قلبه.. وتيسر دربه.. ويخطط على منوالها مستقبله، والهمم تتفاوت بين البشر، فشتان بين همة في الثرى وأخرى في الثريا، وعلو الهمة مبتغى كل إنسان ناجح يتطلع إلى حياة أفضل، بيد أن شروطها هنا يراد بها وجه الله تعالى، وأن تكون عونا على البذل والعطاء لهذا الدين إذن نحن لا نقصد علو الهمة لذاته.. فذلك يتساوى فيه الكافر والمسلم لا فرق بينهما.. بل نحن نبحث عن التميز الذي ميزنا به ديننا لذا أين نصرف همتنا وكيف؟!! وحتى لا نطيل فلندخل إلى الموضوع مباشرة:

لماذا نريد أن تعلو الهمم ؟

أول سؤال نسأله في هذا الموضوع هو لماذا نريد أن تعلو الهمم ؟! وهذا هو السؤال الذي بادرتنا به الأخت الداعية الدكتورة رقية المحارب مديرة عام الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات والوكيلة المساعدة لشؤون الطالبات، حيث أردفت قائلة: هل هو مجرد انسياق وراء رغبة الوالدين أو المجتمع أو المدرسة ؟ أم هو مطلب النفس والشخصية المتميزة؟ إن الإجابة على هذا السؤال هو مفتاح النجاح وطريق الإبداع .

وإذا علمتْ أختي الكريمة أن دنو همتها فيه ضياع لكنوز كثيرة داخلها، وطاقات عظيمة تتمتع بها، فإنها سوف تبدأ في التأمل والمحاسبة لكيفية قضاء وقتها، وإن الذين يفكرون في كيف سيكون مستوى تفكيرهم بعد عشرين سنة، وكيف ستكون ثقافتهم، وكيف علاقاتهم ونجاحاتهم سوف يعملون على التخطيط للنجاح منذ اليوم الأول وإذا كان هذا التفكر ولد حرصاً عند كثيرين وكثيرات وهو لا يتعدى هموم ونجاحات فترة زمنية مؤقتة وهي هذه الحياة الدنيا القصيرة، فكيف بمن يفكر في حياته الخالدة في الآخرة؟!

إن فترة الشباب هي زمن الأحلام ووقت تشكل العقلية المبدعة المعطاءة فتلك التي لا تتعدى اهتماماتها ملابس تتأنق فيها، أو أخبار التافهين تتابعها، أو أمور ترفيه صرفت وقتها الثمين فيه، كيف يمكن أن تضيف لحضارة أمتها؟!

أسباب علو الهمة

وقد ذكرت الأخت الدكتورة الفاضلة الأسباب التي تؤدي إلى دنو الهمة حيث قالت (وأكثر الأشياء التي تؤدي إلى دنو الهمم في نظري هو الجهل الجهل بالنفس وبدورها في هذه الدنيا، وكذلك الجهل بهذا الدين وعظمته، والجهل بالأحكام الشرعية، والبعد عن الأجواء العلمية التي تعطرها آيات الكتاب المبين وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إن التي تجهل أن هذه الدنيا مزرعة للآخرة حيث الخيرات الحسان، والنعيم المقيم، وحيث الراحة والسعادة الأبدية سوف تخسر كثيرا، وهذه الخسارة فادحة؛ لأن مجرد كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ولأن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولأن السيئة بمثلها، ولذلك يا لخيبة من غلبت سيئاته حسناته رغم هذا الفضل والإكرام !!

وثاني الأسباب العجز والكسل ولذلك أكثر النبي صلى الله عليه وسلم التعوذ منهما .. الكسل في أمور الدراسة شيء سيئ، والكسل في الدعوة وعدم ابتكار طرق ووسائل جديدة أمر مزعج، والكسل في تكوين علاقات طيبة تكون بداية لأخوة في الله تكسب حلاوة في هذه الدنيا والكسل في طلب العلم ينـتج شخصية معتمدة على الآخرين في كل شيء، والكسل في القيام بحقوق الناس من خوارم المروءة كل هذا يصِمُ صاحبه بدنو الهمة .

وثالث هذه الأسباب سماع الباطل من الغناء وقراءة الروايات الهابطة من مثل روايات نجيب محفوظ أم غيره

وكذلك مشاهدة المسلسلات والبرامج التي تقضي على الحياء وتشجع على الرذيلة وتهون من شأن القيم والمبادئ الإسلامية، وتحرض على التمرد على الآداب.. وهذا كله باسم الحرية الشخصية. فهذا السماع يقضي على الخير في الشخصية السوية، ويجعل منها شخصية تجري وراء ملذاتها من غير اعتبار لأي فضيلة فأي خسارة في الدنيا والآخرة يكتسبها صاحب هذا المسلك؟!

ورابع الأسباب ترك صحبة الأخيار، وصحبة من لا ترعى واجبات ربها.. فالأخلاق تنتقل بالمجالسة والمزاملة!!

وحين نقرأ آيات الله تعالى نرى من النصوص ما يُرغّب في معالي الأمور ويحفّز عليها ومنها أنه تعالى أثنى على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والرسل وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى :{فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف 35] وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} [الحديد: 21] وقال تعالى:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133] وقال تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون}[الصافات61] وقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتافسون} [المطففين: 26] وختمت الدكتورة الفاضلة حديثها بنصيحة أخوية جاء فيها: "فلتحرص أختي على أن تكون في أسرتها ومدرستها وجامعتها منبراً للخير، مدافعة عن قيمه ولتكن قدوتها أمهات المؤمنين والصالحات. آسية، ومريم، والصالحات من سلفنا.. وأتمنى لكل من تقرأ هذه العبارات أن تتأملها وتفكر فيها وتجعل لنفسها مشروعاً ينفعها الله به وينفع بها أمتها".

سفاسف الأمور ودنو الهمة

ثم شاركتنا الأخت الداعية الأستاذة نادية الكليبي، حيث ذكرت أن هناك أسباباً كثيرة لظاهرة دنو الهمة وفي الوقت ذاته تعد مانعاً لعلو الهمة ولا بد للفتاة المسلمة من معرفة تلك الموانع التي تقف في طريق سيرها إلى الهمة العالية والمطالب السامية وقد حصرت تلك الأسباب بإيجاز وهي كما يلي:

أولاً: الانشغال بسفاسف الأمور وغيبة الاهتمامات الجادة وهذا السبب في الواقع يعد نتيجة وأثرا لغياب علو الهمة، وهو في الوقت نفسه يعد مانعاً يمنع المسلمة عن معالي الأمور، فالمرأة المسلمة المعاصرة لديها قائمة طويلة من الاهتمامات غير الجادة، ولنضرب لذلك مثالاً: الاهتمام بالجمال والزينة واللباس، وهذه ظاهرة أصبحت متفشية نوعاً ما بين طبقات مختلفة ولا يستعجل القارئ الكريم فيفهم من حديثنا أننا ضد الجمال المباح والزينة المعتدلة ! فلا يمكن هذا والله تعالى يقول {قل من حرم زينة الله التي أخرج بعباده والطيبات من الرزق.. } [الأعراف: 32] فالمطلوب هو الاعتدال وألا يكون هماً في ذاته.. فليس الخطأ في الممارسة ذاتها ولا يعيب المرأة المسلمة أن تهتم بجمالها وزينتها وأن تختار ما يتناسب مع شكلها وإنما الخطأ أن يكون ذلك الجمال هدفاً أسمى، وهماً كبيراً. يصرف من أجله المال والوقت والجهد وكذلك الفكر!!

ثانياً: ومن الأسباب أيضاً هشاشة البِنية التربوية التي قامت عليها المرأة المسلمة، ولا شك أن التربية منذ الصغر على معالي الأمور من أهم الأشياء التي تعين المرء على اكتساب المطالب العالية مهما صعبت.

ثالثاً: ومن أسباب دنو الهمة الحرب الموجهة للمرأة المسلمة المتمثلة في الغزو الفكري الذي شمل جوانب المرأة، ولا شك أن للمرأة دوراً كبيراً في بناء المجتمعات وصناعة الأجيال ولذا كان للمرأة المسلمة حظ وافر من ذلك الغزو الذي يراد به ذوبان شخصية المرأة المسلمة وفقدان هويتها الإسلامية.. ولا يمكن للهمة العالية أن تنشأ في من انسلخ عن أصالته وتتبع كل ناعق يدعو للمحاكاة والتقليد والسير وراء ما هو غربي بدعوى التحضر والعصرية والتطور!!

والحديث عن موانع تحقيق الهمة العالية يطول ولعل ما ذُكر فيه الكفاية ومما ينبغي على المسلمة أن تكون إيجابية في مواجهة تلك الموانع التي تمنع المرأة المسلمة من علو الهمة.. ونجد ولله الحمد الكثير من بنات الإسلام ممن تجاوزن تلك العقبات بالعزيمة الصادقة والتوكل على الله .

ومن أجمل ما كتب حول هذا الموضوع ما سطرته يراع الأستاذ الفاضل محمد أحمد إسماعيل المقدم في كتابه الموسوم بـ "علو الهمة" يقول في موضع من الكتاب "الهمم العالية لا تعطي الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور:

إذا ما كنت في أمر مرومِ *** فلا تقنع بما دون النجومِ

فطعم الموت في أمر حقيرٍ *** كطعم الموت في أمر عظيمِ

إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئاً في الدنيا فسوف يكون زائداً عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة، بل لا بد أن يكون في صلبها ومتنها عضواً مؤثرا:

وما للمرء خير في حياة *** إذا ما عد من سقط المتاع

إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته- بحول الله وقوته- ما يراه غيره مستحيل، وينجز- بتوفيق الله- ما ينوء به العصبة أولو القوة ويقتحم- بتوكله على الله- الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء

له همم لا منتهى لكبارها *** وهمته الصغرى أجل من الدهرِ

فمن ثم قيل: "ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، لأن الهمم العالية طموحة وثابة، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.. ".

النفوس الضعيفة

وقبيل الانتقال من أسباب دنو الهمة أتحفتنا الأستاذة حصة الفواز مديرة مدارس حنين بقولها "لدنو الهمة أسباب عدة، وهي تختلف من إنسان إلى إنسان آخر ولعلها تنحصر في أسباب ثلات وهي

1- دونية الاهتمامات الشخصية لكل فرد، فأي إنسان لا بد أن يكون لديه مبتغى في هذه الحياة وطبيعي أن النفوس الضعيفة اهتماماتها بسيطة جداً لا ترتقي إلى المستوى العالي.

2- مخالطة أصحاب الأهواء والشهوات والذين وصلوا إلى درجة من دونية الأهداف عظيمة فحسبهم لهو يقضون به وقت فراغهم، أو مطلب دنيوي زائل !! فهؤلاء إنما يعيشون عيشة هامشية

3- الخواء الروحي الذي يعيش في داخلهم.. فحينما تركوا لتلك السخافات أن تحتل مساحة كبيرة من اهتماماتهم غابت الأهداف العالية، والآمال السامية".

الإحساس بالفشل

كما تشاركنا الأخت وفاء إحدى طالبات كلية التربية/الأقسام العلمية بقولها "من أسباب دنو الهمة عند بعض الأشخاص. إحساس الفرد بالفشل في محاولة قام بها، ونتيجة لذلك يبتعد عن المحاولة نهائياً، وهذا خطأ لأن النتيجة الإيجابية لا تأتي إلا بالمحاولة والصبر. ومنها ضعف الوازع الديني في البيئة المحيطة به كوجود المغريات والملهيات التي تحيط به وربما يكون لها دور كبير في دنو همته تدريجياً.. كذلك عدم وجود المعين له. كأن يكون بين أبوين لا يهتمان به ولا يوفران له الجو المناسب. فيعيش مقعداً لا همة عالية لديه!!.. وأخيرا من الأسباب عدم الصبر على ظروف الحياة المختلفة فأول ما يخوض غمار ظرف من الظروف نجد أوراقه تتمزق، وينفك شمله.

وعودا مرة أخرى إلى الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات حيث التقينا بالدكتورة الجوهرة المبارك مديرة عام الإدارة العامة لنشاط الطالبات والتي أدلت برأيها حول هذا الموضوع قائلة:((إذا جلست في المجالس العامة استمعت للعديد من الآراء والاهتمامات والمعاناة.. تسمعين العجب.. آراء مختلفة، واهتمامات شتى، وهمم متفاوتة.. منهن من همتها تعلو لإصلاح من حولها وإصلاح بيتها ومجتمعها لا تكل ولا تمل ولا تفتر ولا تيأس.. ومنهن من همتها لا تتجاوز شهواتها وملذاتها. لم تستطع أن تصلح نفسها فكيف بأبنائها ومجتمعها!

ومنهن من تتمنى ولكنها كلها أماني تذهب أدراج الرياح ليس لديها من الهمة وقوة الإرادة ما تسلك به طرق الإصلاح لنفسها ولمن ترعاهم !

إن الهمم متفاوتة كالثرى عن الثريا، وسينال المرء أجره على قدر همته، وقد تحدث في هذا الموضوع الأستاذ محمد المقدم في كتابه، وأنقل لكن بعض ما قال حيث يقول: "إن من الناس من ينشط للسهر في سماع سمر ،ولا يسهل عليه السهر في قراءة القرآن الكريم، ومنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيها فهذا مغتر بالأماني الكاذبة:

وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قوم منال *** إذا الإقدام كان لهم ركابا

ويقول المتنبي:

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسامُ

وقد قيل للإمام أحمد- رحمه الله- متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال عند أول قدم في الجنة !!

عوامل وظاهر دنو الهمة

"إن في دراسة عوامل ومظاهر دنو الهمة ما يضع أمام الدعاة والمصلحين الضوابط والقواعد التي ترتفع بالأمة من مستنقع الدونية والاستسلامية" كان هذا ما بدأت به حديثها لنا الدكتورة الفاضلة أفراح الحميضي أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر في كلية التربية ولنرع سمعنا لحديثها حيث واصلت قائلة "وفي اعتقادي أن من عوامل دنو الهمة الغفلة عن حقيقة الاستخلاف، والتعلق بالمكتسبات الأرضية، وعدم الثقة بوعود النصرة الإلهية {إن تنصروا الله ينصركم..} [محمد: 7] والاستسلام للهزائم النفسية الفردية والجماعية، وعدم استشعار حقيقة التميز، وقد تتمحور هذه العوامل في نفسية الفرد أو الأفراد فينـتج عن ذلك أن تنجذب نفسه نحو الدونية، وتضعف عن السمو والعلو ويظهر دنو همته في المظاهر التالية على سبيل المثال لا الحصر:

الانحراف العقدي والتعصب الأعمى للجماعات والمذاهب، وضعف الإيمان، وتبلد الحس تجاه المعاصي، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألفة المعاصي السمعية والبصرية، التبعية للغرب أو الشرق والانجراف في مظاهر التقليد دون اعتبار لاستقلالية الشخصية الإسلامية، اتباع الأماني والهوى والتسويف والعجز والكسل وحب الراحة، الترفل في النعيم والاستغراق في الترف، الهزيمة النفسية والشعور بالإحباط على المستوى الفردي والجماعي الشعور بغلبة العدو وفوقيته، التعلق بقشور الدنيا مثل المال، والأكل، والملبس، والغفلة عن الطاعات ".

لقد خارت العزائم

أما الأستاذة لطيفة العتل- معلمة- فقد حصرت مظاهر دنو الهمة في أمور، ولكن قبل الحديث عنها قدمت لها بمقدمة جاء فيها "نحن وعلو الهمة على قسمين منهم سابق بالخيرات ومنهم مسرف وظالم لنفسه، وثالث بينهما مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ولما كانت الهمة العالية تتطلب جهدا ، مضاعفاً وتعباً ومشقة كان سالكوها قلة قليلة قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]

والآن فقد خارت العزيمة وفترت الهمم أنا لا أقول هلك الناس وإلا كنت أهلكهم ولكن أين أصحاب الهمم العالية؟!! إنهم والله ندرة وإن وجدوا فهم على تفاوت في الهمم لا يصل بعضهم أعلى الدرجات .

إن دينا فيه قول الله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133] وقوله: {فإذا فرغت فانصب} [الشرح: 7] وقوله {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12] لا يقبل من أتباعه الخمول والكسل وضعف الهمة، بل يريدهم مثل المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين سباقين للخيرات في جميع الأحوال والأوقات وكانت همتهم العظمى هي الدار الآخرة ودخول جنة عرضها السموات والأرض، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة. هي المستحقة للهمة المثالية وما دونها فهو الدون.

ثم ذكرت الأستاذة لطيفة تلك المظاهر على سبيل المثال حين قالت "ولعل من مظاهر دنو الهمة: التكالب على الدنيا والاهتمام بسفاسفها، ويرجع سبب ذلك إلى ضعف الإيمان بالله عز وجل إذ يتبع ضعف الإيمان ضعف الهمة. وهذا هو حال الكثير منا!! تجده في أمور الدنيا يجهد نفسه ويهلكها للوصول إلى ما يريد وأما أمور الآخرة فعندها يتوقف يراجع نفسه : لن أطيق .. قد لا أطيق .. عجباً له والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا سألتم الله فأسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة".

ومن مظاهر دنو الهمة أيضا أن يقصر الإنسان الصلاح على نفسه فقط ولا تتعالى همته لإصلاح غيره هو ليس وحده، بل الجميع في سفينة واحدة إذا ثقبها أحدهم غرقوا جميعا نحن لا نثبط العزائم هو فعل خيرا إذا أصلح نفسه وكبح جماحها لكن المطلوب المزيد"

عدم الثقة بالنفس

كما حصرت لنا الأخت فتاة الإسلام من كلية التربية تلك المظاهر بقولها :

أولا إحساس الشخص بالفشل في جميع الحالات فتراه دائما هيابا يخشى اقتحام أي عمل ما خوفا من الفشل فلا يلبث أن يزدري نفسه.

وثانيا: إحساسه بأن كل ما يواجهه صعب ومستحيل، ولا يتسنى لأمثاله اقتحام هذه الأعمال، فتراه دائما يحجم عن العمل قبل الدخول فيه. ويمكن أن نعبر عن هاتين النقطتين بقولنا "عدم الثقة بالنفس ".

ثالثا: عدم المبادرة، فهو دائما ينـتظر التكليف والإسناد حتى في الواجبات التي لا ينبغي التأخر فيها فمثلا في واجب الدعوة إلى الله تراه ينتظر من يسند إليه مهمة توزيع نشرة ما أو شريط.. رغم أن التكليف قد أسند إليه أكثر من ألف وأربعمائة سنة حين قال تعالى في محكم التنزيل {يا بنيّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17] وقوله:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئكم هم المفلحون } [آل عمران: 104].

رابعا: كثرة الانتقاد وتعليق الأخطاء على الآخرين فهو يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه!! مع أنه في أعماق قلبه يدرك أنه مقصر ولكنه يعمد إلى هذا الأسلوب كنوع من التهرب من المسؤولية الذي أصبح فنا من الفنون.

خامساً: الاهتمام بسفاسف الأمور فلا ترى له إسهاماً جاداً ولا فكراً، وإن كانت فتاة اهتمت بالموضة وآخر صيحاتها والفنانين وآخر أخبارهم، وإن كان فتى اهتم بالمركبات الفارهة والمظاهر الفارغة، والله المستعان.

أين نحن من دروس الماضي؟

وقبيل لملمة أوراقنا هنا سؤال يطرح نفسه وهو : كيف السبيل إلى همة عالية؟

هذا السؤال توجهنا به إلى الدكتورة نائلة الديحان وكيلة كلية التربية/ الأقسام العلمية حيث أجابتنا بقولها "إن دروس الماضي وعبره وذكراه المجيدة خير دافع للنفوس المرتفعة والهمم الأبية في ميادين العلم والدين، كما أن للموجه والمعلم الموهوب دوراً أساسياً في إلهاب المشاعر والعمل كفريق متكامل يقدم أعمالاً قيمة.. وإن للقائد أو المعلم دوراً مهماً في شعور الإنسان أو الطالب بأهميته مما يعلي همته ثم إن تشجيع الطلاب وتدريبهم وسؤالهم رأيهم وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة في اتخاذ القرار وتشجيعهم على تحمل المخاطر والإعلان عن الإيمان بقدرات الطلبة والثقة والاحترام كلها من العوامل التي تساعد على رفع الهمم، لذا فإن رفع الهمم في رأيي يكمن في ثلاثة اتجاهات:

1- تشجيع العمل كفريق ولا بد أن يشارك الطلاب في جهود جماعية، ففي هذا لا يمكن السماح لهم بالشعور بالتدني إذا لم يحققوا جميع الإجابات كما أنه في عالم الواقع العمل الناجح هو عمل جماعي.

2- الاعتراف دائما بأهمية الفرد واحترامه.

3- التشجيع على القيام بمهام أعلى والاعتراف بذلك والمكافأة عليه، فكلما عاملت الناس على أنهم أذكياء سوف يتصرفون على هذا الأساس.

إن توسيع المناهج التدريـبية لتشمل بعض مهارات العلاقات الإنسانية أمر مهم للحث على الإبداع والإنجاز واكتشاف المواهب داخل كل شخص، ومهما كانت الخصائص فإن المثابرة والإصرار والعقل الراجح والخيال الواسع والمواقف الإيجابية والشعور القوي بالقيمة لا بد أن يزهر ويتحول إلى نجاح.

الهمة المعطلة

كما أدلت الأستاذة شذا المصطفى وكلية المدارس برأيها قائلة "إن تطلع الإنسان إلى معالي الأمور، والتفكير المتواصل في كيفية الحصول عليها كفيل بإيجإد همة عالية تسكن قلب ذلك الشخص.. أما أن يعيش الإنسان حياة هامشية دون أن يحاول تطوير نفسه، أو نفع مجتمعه فها هنا تكون الهمة معطلة - ومكانك سر- وصدق الشاعر حين قال:

ومن يتهيبْ صعودَ الجبال *** يعش أبدَ الدهر بين الحفرْ

أما الطالبة بثينة عبد العزيز فقد حصرت أسباب الارتقاء بالهمة بالآتي: العلم والبصيرة، حيث قالت: "فالعلم يرفع طالبه عن حضيض التقليد ويصفي نيته. إلى جانب الدعاء لأنه سنة الأنبياء، كذلك لا بد من حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور والتحول عن البيئة المثبطة إلى صحبة الأخيار وأولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم.. فكل قرين بالمقارن يقتدي.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس :62] قال هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم ".

أنت في الناس تقاسُ *** بالذي اخترت خليلا

فاصحب الأخيار تعلو *** وتنل ذكراً جميلا

إضافة إلى المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]

نماذج نيرة من أصحاب الهمم العالية

ما أجمل الحديث عن سيرة سلفنا الصالح، وما أجمل ذكراهم والنهم في قراءة سيرتهم، وتتبع منهجهم.. ذلك لأنهم منابر عصرنا، ونور دربنا، نهتدي بهم ونحن نمضي في طريقنا.. ولعلنا في ختام استطلاعنا نقف على بعض أخبار أولئك الأفاضل علنا نصل إلى ما وصلوا إليه، وإلا فإن التشبه بالكرام فلاح.. فلنر كيف كان حال السلف مع طلب العلم، وكيف كان الواحد منهم يسهر ليله، ويضني جسده، ويبقى وحده مستأنساً بكتبه، مستعيضاً بها عن الأهل والأصحاب.. فلله درهم.

قيل لبعض السلف "بم أدركت العلم؟ قال بالمصباح والجلوس إلى الصباح " وقيل لآخر فقال ((بالسفر والسهر والبكور في السحر)).. وحكى شيخ الإسلام النووي عن شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق المرادي قال "سمعت الشيخ عبد العظيم- رحمه الله- يقول: "كتبت بيدي تسعين مجلدة وكتبت سبعمائة جزءا" قال النووي "قال شيخنا" "ولم أر ولم أسمع أحداً أكثر اجتهاداً منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار".

ولم يكن العلم في ذلك الوقت ميسراً وسهلاً، بل لا بد من السفر وشد الرحال.. وهذا بطبيعة الحال يتبعه ترك الأهل والأولاد وتحفل التعب والمشاق روي عن الرازي ما يدهش اللب من علو همته في الرحلة لتحصيل العلم إذ قال:

"أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة".

سأضرب في طول البلاد وعرضها *** لأطلب علماً أو أموت غريبا

فإن تلفت نفسي فلله درها *** وإن سلمت كان الرجوع قريبا

والحقيقة أن انتشار العلم كان بفضل الله تعالى ثم بجهد وتعب هؤلاء الرجال الأفذاذ ولعل ذكر الجزء يغني عن ذكر الكل ولو ذكرناه لطال بنا المقام.

ويمتد الخير إلى زمننا، ولا نعدم فيه أصحاب الهمم العالية، رجالاً كانوا أو نساء.. ولنأخذ على ذلك مثالاً من زمننا حيث امتدت زيارتنا إلى إحدى دور القرآن "دار الصالحات " وفيها التقينا بأم الوليد (40 سنة) التي تبقى لها على ختم القرآن بأكمله جزءا واحد فقط،.. وكان لنا معها هذا الحوار:

ما هي الأسباب التي أعانتك على حفظ القرآن وفقك الله ونحن نعلم أن لديك عدداً من الأولاد الصغار المتقاربين في السن كما أنك ربة منزل، ولاتوجد لديك خادمة؟

أولاً لا بد من وجود الرغبة الصادقة مع الاستعانة بالله تعالى وطلب توفيقه، ثم إن المواظبة على الحضور عامل مهم ومساعد في الحفظ مع تنظيم الوقت والمدارسة وأسأل المولى أن يعيننا على العمل به إنه ولي ذلك والقادر عليه.

تتفاوت الهمم يا أم الوليد بين البشر فما هي نصيحتك لمن همته لا تتعدى مصلحة نفسه فقط؟

- النصيحة له هي أن هذه الدنيا زائلة لا محالة ، وأنها لا تساوي شيئاً فلماذا التكالب عليها والغرق في ملذاتها ؟ ولو فكر الإنسان بعقله سوف يعلم أن هناك أمورا يجب عليه أن يفيد منها ويحفل بها ما دام يعيش فسحة العمر والذي يرى في نفسه ذلك لا بد أن يرفع من مستواه وذلك ليس عيباً ، بل العيب أن نبقى كما نحن .

مجلة الدعوة - العدد 1734 - 17 ذو الحجة هـ - 23 مارس 2000 م

أنت .. والتربية .. والمناهج وراء دنو الهمة.............إعداد : أمل الذييب

حتى لا تعيش أبد الدهر بين الحفر !

تحقيق أسماء بنت صالح

0000000000000000

اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية

 

رسالة مهداة إلى الشعب العراقي المجاهد

تأليف/د. وسيم فتح الله

الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، والصلاة والسلام على نبينا محمد قائد المجاهدين وإمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد؛

فإن سحب التضليل وغمامات الفتن لا تبرح تشوش على المسلم فكره وبصيرته بغية فتنته عن دينه، ولا يزال الحق نوراً ساطعاً يبدد هذه الغمام ويقشع تلك السحب، ولكن لا بد لنور الحق من منابر يرتقيها وقراطيس يُسطر عليها كما لا بد له من صدورٍ تحمل الحق وأجسادٍ تفنى في سبيل الله على بينة.

ولما تولى كِبر فتنة المسلمين عن دينهم اليوم كيانٌ مسخ حقود تلبَّس بمائة لبوس ولبوسٍ ليوهم ويضلل ويفتن المسلمين عن الحق، كان لزاماً علينا معاشر المسلمين أن نفضح هذا الكيان ولو عن طريق تقرير البدهيات، ولكنه تقرير مؤصلٌ بثوابت الشرع ومؤطرٌ بأطر الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من عزيز حميد.

لقد لبَّست الولايات المتحدة الأمريكية على العالم مصطلحات الإرهاب والتخلف والجريمة والخروج على القانون، فكان لزاماً علينا أن نحاكمها إلى بعض هذه المصطلحات ولكن بضبطٍ اصطلاحي آخر لا لبس فيه ولا غموض، ولهذا اخترت أن أضع هذه الدولة المارقة في قفص الإتهام أمام محكمة القرآن لأثبت للعالم عامةً وللمسلمين خاصةً حقيقةً ثابتةً يجب أن تستقر في روح وفكر كل واحد منا ألا وهي أن الولايات المتحدة مجرمةٌ مجرمةٌ مجرمة، نعم، لقد استقرأت وأحصيت كل ألفاظ الجريمة الواردة في القرآن الكريم فهالتني الحقيقة التالية وهي أنه ما من جريمة وردت في القرآن الكريم نصاً إلا وقد تلبست بها هذه الدولة المارقة، فوجدت لزاماً عليَّ أن أبلغ إخواني لأن تنزيل هذا الحكم القرآني على هذا الكيان المجرم بعينه هو من جنس تنزيل حكم الكفر على من استكبر عن عبادة الله على إبليس عليه لعائن الله.

وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني في هذه الرسالة الموجزة إلى عرض أدلة تجريم الولايات المتحدة الصليبية كما أسميتها لأنه أفصح في بيان هويتها وأصول جريمتها، ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.كما أنني أردفت ببيان وسائل التصدي لجرائم هذا الكيان لدحر عصاباته المجرمة وكف بأسها عن المسلمين وعن العالم أجمعين. والله أسأل القبول لما وفقت فيه من خير والمغفرة لما زل به القلم من خطأ، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، والله المستعان وعليه التكلان.

فصل : تسليط جيوش القرآن على جرائم الأمريكان

وسأعرض في هذا الفصل إن شاء الله تعالى عشر جرائم أثبتها القرآن الكريم وأثبتنا تلبُّس الولايات المتحدة بها لنخرج بناءً على ذلك بالحكم النهائي الفاصل إن شاء الله.

فصل: سبل التصدي الشرعية لجرائم الولايات المتحدة الصليبية

إننا حين ننظر إلى تجريم الولايات المتحدة بالاعتبار الشرعي نكون قد ألزمنا أنفسنا بالعمل وفق مقتضى الشرع لمجابهة هذه الجرائم والتصدي لأصحابها، ولن نقبع في أقبية التاريخ منتظرين صدور حكم محكمة جرائم الحرب الدولية على عصابة الإجرام هذه علماً أن الولايات المتحدة قد حصنت نفسها ضد محاكمة أي من جنودها أو قياديها في محكمة جرائم الحرب الدولية وكأنها تعلم أنها ستكون من أوائل من يشغلون أقفاص الإتهام لا لن ننتظر، فلقد صدر الحكم الذي لا معقب له، نعم صدر حكم القرآن الكريم بأن هذه الدولة مجرمة ولا بد من التصدي لها حماية لدين الله وحماية لأنفسنا من أن تطالنا آثار جرائمها. وهذا الفصل المختصر عبارة عن إشارات موجزة استقرأتها من نفس الآيات التي جرَّمت هؤلاء لتكون لصيقة الصلة بالتصدي لهذه الجرائم، وصدق الله العظيم إذ قال :" وننزل من القرآن ما هو شفاءٌُ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" ، فهلم بنا نستلهم من آيات الذكر الحكيم سبل التصدي هذه :

أولاً: بيان الحق :

إن أول خطوة في التصدي للباطل وجرائمه هي فضحه والاجتهاد في بيانه وفضح سبله وخدعه في نفس الوقت الذي يبين فيه سبيل الحق فبضدها تتميز الأشياء، والدليل على وسيلة التصدي هذه مأخوذ من قوله تعالى:" وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" ، وهذا يعني أن يجتهد أهل العلم علماء وطلاب في بيان الحق واستفاضة البلاغ به وتحذير الناس والعامة من مكائد المجرمين وآثار الجريمة وآثار السكوت على هذه الجريمة، ولا بد من أن تُسمى الأشياء بأسمائها بسبب اللبس والغموض والتخبط والحيرة الذي أصاب الناس اليوم، فلا كنايات ولا ألغاز ولا التفاف على المصطلحات، بل كلمة حق مدوية ترضي الله عز وجل رضي من رضي وسخط من سخط بعد ذلك؛ فيا أيها العلماء قولوها بملئ أفواهكم : أمريكا مجرمة صليبية حاقدة ، ولا تحدثوني اليوم عن التتار وعن المغول ولا تكلموني عن الشيوعية والبوذية، فالذي يستبيح حمى الإسلام اليوم صليبية صهيونية جمعتها عداوة الإسلام وصهرتها في بوتقة واحدة اسمها الولايات المتحدة الصليبية، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..

ثانياً: تطبيب ومعالجة القلوب:

إن الحق بعد بيانه يحتاج أن يستقر في قلوب صالحة لغرس الحق حتى يشتد عوده ويستغلظ ويؤتي أُكله كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولما كانت سنّة الله تعالى أن يعاقب بالسيئة السيئة وأن يجازي بالحسنة الحسنة، كان لزاماً علينا أن نقي قلوبنا ونحفظها من غرس الإجرام وميول الإجرام حتى لا نُعاقب بتمكُّن الجريمة من قلوبنا كما فعل سبحانه وتعالى بالمكذبين بالرسل والمستهزئين بهم حيث جازاهم على جريمتهم بأن مكَّن لهذه الجريمة من قلوبهم تأمل معي قوله تعالى:"وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين" ، ومثله قوله تعالى:" كذلك سلكناه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون" ، فلا منجاة من هذا إلا بإشغال القلوب بما يصلحها وقايةً لها مما يفسدها، فقد قيل المشغول لا يُشغل؛ ونحن إذا شغلنا قلوبنا بكلمة التوحيد حفظناها بإذن الله من تسرب بذور الإجرام إلى تربتها، فتهيأ لنا من القلوب المؤمنة الصالحة جيوشاً وحجافل تكر على قلوب المجرمين كرةً واحدة وتميل عليها ميلةً واحدة فتفنيها بإذن الله وتذرها أثراً بعد عين؛ بئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيد...

وإن خصوصية هذه المعركة اليوم تستلزم منا أن نعقد قلوبنا على حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية مجرمةٌ شرعاً، وأن نعقد قلوبنا على الكفر بهذا الكيان المجرم وعلى البراءة كل البراءة منه وممن يواليه، وبغير هذا لا يمكن أن تسلم لنا قلوب، ولا يمكن أن تطهر لنا صحائف أعمال ...

ثالثاً: محاربة الفساد :

إن من أهم وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة الأمريكية تطهير المجتمع من آثار هذه الجرائم التي تدنس أرض المجتمع وماء المجتمع وهواء المجتمع، تدنس أفراد المجتمع، تدنس المجتمع كله..

علينا أن ندرك أننا كلما نهينا عن منكر نكون قد تصدينا لجريمة من جرائمها، وكلما أزلنا منكراً نكون قد محونا أثر جريمة من جرائمها، وعلينا أن ندرك أن السكوت على المنكر ليس إلا مشاركة للولايات المتحدة في جرائمها، تأمل معي قول الحق عز وجل:"فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مجرمين" ، نعم؛ إن الإقرار على الجريمة جريمة، وإن السكوت على الجريمة جريمة، وإن الرضا بالجريمة جريمة..

إن واقع الأمر اليوم يملي علينا ويفرض علينا التنبه إلى أن كل ما له مساس بالولايات المتحدة له وجه من وجوه الإفساد؛ وتوضيح ذلك أن الأمر إن كان جريمةً من جرائمها فهو مفسدة من هذا الوجه، وإن كان أمراً مستقلاً لا شر فيه في نفسه فهو مفسدة من جهة اعتقاد الخيرية في هذا الكيان المجرم ومن ثمَّ افتتان الناس والمسلمين به، ألا فلنعلم أن قبح جرائم الولايات المتحدة تنأى بنا عن الركون إلى أي من خيراتها في هذه المرحلة، ولا تذهب أنفسنا حسرات على فوات خيرات الولايات المتحدة بل حسبنا في هذا قوله تعالى:" وإن خفتم عَيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم" .

رابعاً: هجر الترف :

فأنت إذا تأملت قوله تعالى :" فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مجرمين" وجدت أن حياة الترف والدعة والإسراف رديفة الظلم وسبيل الإجرام لا محالة، فالمترف لا يأبه لشيء سوى وسائل ترفه ومتعته ولهوه ومجونه، ترى جراحات البعض تثج بالدماء ثجاً في سبيل هذه العقيدة في حين ينشغل المترفون بالمهرجانات والقيان والأغاني ؛ مجونٌ وفجور ، أفخاذٌ وخمور، اختلاط وسفور، ربا وثبور، يفيق البعض من سكرةٍ غربية ليغط بعدها في سهرةٍ شرقية، ولربما قال في آخر السهرة : اللهم انصر المسلمين...

ألا فلنهجر حياة الترف والدعة، ألا فلنتق الله قبل أن نكون في الجريمة شركاء بعد أن كنا الضحايا الأبرياء، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..

خامساً: عدم مظاهرة المجرمين:

وهذه خطوة مهمة من خطوات التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، فلا يتصور أن ننشغل بالصد عن جرائم هذه الدويلة المارقة في حين أننا نمثل عناصر مشاركةٍ فعالة في منظومتها الإجرامية. إن التوقف الفوري عن مظاهرة الولايات المتحدة الأمريكية على المسلمين ومظاهرتها في كل أنواع جرائمها هو واجب الساعة، ابتداءً بالكاتب الذي يبرر جريمتها، ومروراً بالشاب الذي يحفظ أغنيتها، والفتاة التي تنزع ثوب عفتها، والحارس الذي يحفظ أمنها، والحاكم الذي يبيح بيضة الإسلام لها، والتاجر الذي يودع أمواله عندها، وكل كلمة أو فكرة أو فعل أو شعور مؤيد لها فهو مظاهرة لا تقل إجراماً عن جرائمها، ولتكن قدوتك في هذا رسولٌ من أولي العزم من الرسل موسى عليه السلام، قال تعالى:" قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين"

ألا فليتق الله قومٌ يسارعون في هذه الدولة المجرمة تأييداً وتبريراً وإرجافاً وتغريراً، اللهم إنا نبرؤ إليك من هؤلاء فلا تأخذنا بذنوبهم، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد...

سادساً: التوبة والاستغفار:

بعد أن ذكرنا مجموعة من وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة يدور معظمها حول التطهر من أنواعٍ من الذنوب والآثام التي يؤدي اقترافها إلى التمكين لهذه الجرائم واستفحال شرورها، فإن من المناسب أن نتبع الإقلاع عن هذه المعاصي بالتوية والاستغفار حتى ننتقل بعد ذلك إلى الدور الفاعل والإيحابي في هذه المجابهة الحتمية، وإن القرآن الكريم لم يترك لنا هذه الوسيلة دون ضبط أو بيان، وإنما جنَّد سلاح التوبة والاستغفار ضد جحافل المجرمين الكفار، تأمل معي قوله تعالى:" ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين" .

ومن المعلوم من دين الإسلام أن التوبة والاستغفار ليست كلمات تجري على الألسنة، وإنما هي إقلاع حقيقي عن المعاصي والجرائم وندم على ما اقتُرف منها، ونية خالصة في التوبة إلى الله ، وعزمٌ قويٌ على ألا يعود، ورد الحقوق إلى أهلها، فإذا ما تمثلنا بتويةٍ كهذه فإننا نطمع في أن يقبل الله منا ونطمع في أن يجعل توبتنا هذه سهماً يصيب مجرمي أمريكا في مقتل، وسيفاً يفل منظومتها الإجرامية، ونوراً يهتك حجب ظلماتها الحالكة إنه ولي ذلك والقادر عليه، فهلم إخواني توبةً نصوحاً، جنِّدوا جنود الاستغفار في الليالي والأسحار، فإني والله لأراها صارماً بتاراً على هؤلاء ، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب...

سابعاً: العمل الصالح:

إن من يتأمل المشهد القرآني التالي في قوله تعالى:" ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون" ، ليدرك تلك الحقيقة التي وعيها سلف هذه الأمة وهي أننا إنما نُنصر على عدونا بذنوبهم وبصالح أعمالنا؛ فإن كانت لنا ذنوبٌ كذنوبهم أو لم تكن لنا أعمال ترجح على ذنوبهم وُكلنا إلى أنفسنا فخبنا وخسرنا.

إن التزود بالعمل الصالح الواجب منه ثم المندوب ثم المستحب، والاستكثار من ذلك كله وسيلة من أقوى وسائل التصدي لهذه الدولة المجرمة، عندما نصد جريمة الشرك بالتوحيد، ونصد جريمة الاستكبار بالسجود لله تعالى، ونصد جريمة الزنا بالعفاف والإحصان، ونصد جريمة الربا بالكسب الطيب والزكاة، ونصد جريمة الاعتداء وسفك الدماء باحترام حرمة الدماء وحقنها، ونصد جريمة الكذب والتضليل بالدعوة إلى الله، ونصد جريمة الاستعلاء بغير الحق بالتواضع والاستعلاء الإيماني، ونصد جريمة استضعاف الناس بالنصرة والتأييد لهم، ونصد جريمة تولي الكافرين بتولي المؤمنين، ونصد جريمة التبرؤ من المؤمنين بالتبرؤ من الكافرين، ونصد جريمة انتهاك الحرمات بالجهاد في سبيل الله، ونصد جريمة المداهنة في دين الله بكلمة حق لا تخاف في الله لومة لائم، ونصد كل جريمة للولايات المتحدة بعملٍ صالحٍ يدرؤها ويفضحها، عند ذلك نتمكن بإذن الله من دحر عصابات الإجرام وردها خاسئة إلى مزبلة التاريخ وأماكن جمع قمامة البشرية، عندها فقط نتمكن من ذلك ...

ثامناً: نصرة المؤمنين:

لقد تقدمت معنا بعض أنواع الجريمة الأمريكية وما فيها من عدوان ظالم حقود آثم على حرمات المسلمين؛ حرمات الدماء وحرمات الأبضاع وحرمات الأموال، فهم سفاحوا دماء منتهكوا أعراض سارقوا أموال، ولا بد لمواجهة جرائمهم القبيحة هذه من أن نهب لأجل نصرة المؤمنين أينما كانوا وإلا تمادى زحف المجرمين ليطال دماء وأعراض وأموال مزيد من المؤمنين ومزيد من المسلمين ومزيد من الآدميين، وكيف لا نهب وقد انيطت بنا مهمة نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم واستنقاذ البشرية من استعباد بعضها البعض، ألا فلنتأمل جيداً قوله تعالى:" ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" ، لنتأمل هذه الآية جيداً لندرك أن نصر المؤمنين وسيلة لازمة من أجل وضع حد لجرائم هؤلاء، ومن أجل الأخذ على أيدي هؤلاء قبل أن يُهلكوا ويَهلكوا

تاسعاً: الجهاد في سبيل الله:

نعم لا بد لهذه المهمة البطولية من تضحيات وفداء، ولا بد لكتابة صفحات التاريخ هذه من مداد الشهداء، لا مندوحة عن ذلك ولا بديل عنه البتة، ولتعلم أيها المسلم أن هذا اختبار وابتلاء الله عز وجل فلتصبر على ما فيه من مشقة فإن ما يليه من حلاوة ولذة أعظم شاناً وأدوم حالاً، تأمل معي حكمة الله عز وجل في سنِّ هذه السنة لهذه الأمة العظيمة :" وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون" ، نعم لا بد من الجهاد حتى تمضي جحافل الحق وتدحر جيوش الكفر والإجرام، فإن سفينة الإسلام لا تبحر ما لم تكن روافد الحق أنهارٌ من دماء الشهادة الزكية العبقة، وإن فئران الباطل وقطاع الطرق المجرمين لا يخنسون ما لم يبهرهم بريق السيوف ولمعان الأسنة، فبمثل هذا الجهاد المبارك جهاد السيف والسنان ينقطع دابر الكفر ويبطل سحر الباطل ويشق نور الحق سحب الظلام ، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، ألا هل من بائعٍ ومشتري...

عاشراً: اليقين بوعد الله:

إن استيفاء المقدمات والأسباب السابقة لا يجدي شيئاً ما لم تكن الثقة بوعد الله تعالى مطلقة، لأن الرحلة شاقة، والطريق موحشة ، والقرح والجراح أمر لا بد منه، فما هو وقود المعركة إذا فترت الهمة، وما هو الزاد إذا أوحش الطريق، تأمل معي قول الحق تبارك وتعالى:" حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنُجِيَّ من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين"

فلا سبيل لصد جرائم هؤلاء إلا باليقين والثقة المطلقة في وعد الله بالغلبة والنصر، وإلا فإن ما عندنا من أسباب لا يُركن إليه، وما عندنا من قوة وعتاد لا يُعول عليه، بل إن شهود الأسباب وعدمه لدينا سواء إن نحن أعددنا فأحسنا العدة، وتوكلنا فأحسنا التوكل، وآمنا حق اليقين ، وجاهدنا في سبيل الله حتى نراها عين اليقين ...

حادي عشر: التدبر في عاقبة المجرمين:

ولا بد للسائر في طريق مكافحة الجريمة وتعقب المجرمين من أن يدرك أن المجرم مهما كانت له صولة وجولة وعزة ومنعة ظاهرة فإن مصيره إلى السوء، وعاقبته إلى الخسران، وقد أمرنا الله تعالى بالتدبر في هذا الأمر ليكون عوناً لنا على اجتناب سبيل المجرمين من جهة، وعلى عدم الوهن في ابتغاء هؤلاء المجرمين ومحاسبتهم ومعاقبتهم بما يليق بهم في الدنيا مع إيكالهم إلى الله تعالى في الآخرة، وتأمل معي هذه القاعدة القرآنية في تقرير هذا الأصل العظيم، حيث قال تعالى:" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين"

فلنقرأ التاريخ لا لنتباكى على أمجاد الماضي وإنما لنأخذ العبر التي تفيد الحاضر، نعم لقد استباح التتار بغداد وسفكوا دم مليوني مسلم، ولا يعني هذا أن نسلم بغداد لصليبيي أمريكا ليقتلوا مليوني مسلم آخرين، وإنما يعني أن نلحق الصليبيين المجرمين بمن سبقهم من كفرة التتار والمغول والصليبيين الأول لتعوي على جثثهم الهالكة كلاب التاريخ ولتقف بغداد شماء أبية تقول بملء فيها : حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ...

ثاني عشر: الدعاء :

وقد جعلته آخراً لأن الدعاء لا بد من أن يكون معه شيء من قطران ، وهذا القطران هو تحصيل ما يمكن تحصيله من مقدمات وأسباب وبذل الوسع في تحصيل ما يرضي الله عز وجل قبل أن نمد أيدي التضرع والذلة بين يدي الله الحق، لنكون أقرب إلى حال العبد المجتهد في خدمة سيده الواقف ذليلاً بين يديه معترفاً بتقصيره، لا كحال ذلك العبد الآبق الكسول المتخاذل الذي يرجو سيده ولا حسنة لديه تشفع له ولا عمل لديه يدلل على صدق ذله وضراعته بين يدي مولاه.

ونحن إذا ما قمنا بالاجتهاد في تحصيل وسائل التصدي لهذه الدولة المجرمة واستنفذنا وسعنا وبذلنا جهدنا بصدق وإخلاص وجد وعزيمة، فإننا نأمل من الله تعالى أن نرفع أكف الدعاء كما رفعها من قبل موسى عليه السلام حيث قال تعالى:" فدعا ربه أن هؤلاء قومٌ مجرمون" ، ونأمل أن يجيب الله تعالى دعاءنا بهلاك هذه الدولة الصليبية المجرمة كما استجاب لموسى عليه السلام بهلاك فرعون وجنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وبعد، فهذه اثنتا عشرة وسيلة من وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة الصليبية، ليس منا أحد لا يستطيع الانشغال ولو بواحدة منها على الأقل، أي إنه ليس لأحد منا حجة في عدم الانخراط في منظومة الدفاع القرآنية لصد هذه الجحافل الإجرامية، فلا حجة لأحدٍ منا أن يقبع في أقبية التخاذل والتثبيط، أو أن يلجأ إلى زوايا الدراويش ليواجه بزعمه عصابات الإجرام بحضرات الدروشة والمسكنة والسلبية والخذلان، إلا فليحذر هؤلاء قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير"

اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..

وكتبه الفقير إلى رحمة ربه

وسيم فتح الله

25 محرم 1424 / الموافق 8 مارس 2003

0000000000000000000

الجليس الصالح

 

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، اعلم أخي الزائر الكريم بعد سلام الله عليك ورحمته وبركاته أن جليسك إما أن يكون صالحاً وإما أن يكون سيئاً كما أخبر الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فاحرص على مجالسة الأخيار الصالحين من الإخوان، والكتب، والمواقع، وكل ما يُشاهد، ويُسمع، ويُقرأ، الذين يعينونك على أمر دينك ودنياك؛ واحذر مجالسة الأشرار فإنها لا تأتي بخير.

واحفظ جميع جوارحك عما عنه تسأل غداً، فإنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة عن الصراط حتى يُسأل عن عمر وشبابه فيما أفناه وأبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، واعلم أخي الزائر أن أنفاسك معدودة، وساعاتك في هذه الدنيا محدودة، وحركاتك وسكناتك مرصودة، وأعمار هذه الأمة بين الستين والسبعين محصورة، ولهذا عندما أخبرت إحدى الصالحات ممن كان قبلنا من الأمم ممن كانوا يعمرون أنه ستأتي أمة تتراوح أعمارها بين الستين والسبعين قالت لمخبرها بذلك بعد أن أطرقت ملياً: أويبنون؟! لو كنتُ منهم لقضيت العمر ساجدة لله عز وجل.

فاستعمل ما آتاك الله من نعم فيما ينفع.

كما أن الكتب في الآخرة قسمان لا ثالث لهما، كتب الأبرار الأخيار التي تؤخذ بالميامن، وكتب الفجار الأشرار التي تعطى بالشمائل، كما أخبر الحق عز وجل، كذلك الأمر في الدنيا، فالكتب إما خيرة صالحة، وإما سيئة طالحة، وليس كل كتاب جليساً صالحاً خيِّراً كما قال أبو الطيب:

وخير جليس في الزمان كتاب

فمن الكتب والمواقع والإخوان ما تحرم مجالستهم، ومنها ما يستحب أو تجب مجالستهم

000000000000000000

أصدقاؤنا كيف نختارهم!

شباب

لا بد للإنسان عامة والشباب خاصة أن تكون لهم علاقات وصداقات وأصحاب وأحباب يأنسون إليهم في وقت فراغهم ويساعدونهم عند شدتهم ويستشيرونهم فيما يلم بهم، وهذا أمر قد جبلت وفطرت عليه النفس البشرية فلا يمكن لها أن تنفك عنه.

ومن المسلم به أن الناس يختلفون في اختيار الصديق والجليس باختلاف أفكارهم وآرائهم وطبائعهم وعاداتهم وميولهم.

ضرورة وجود وقواعد وأسس لاختيار الصديق

ونظرا لخطورة الصديق وتأثيره البالغ على الإنسان فإنه لا بد أن تكون هناك ضوابط وقواعد لاختياره وإلا أصيب الإنسان بالضرر والعنت ولذا يحذر القرآن الكريم من صديق السوء في غير ما موضع من كتاب الله في إشارة إلى ضرورة اختيار الصديق وفق مواصفات معينة يقول سبحانه "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا" فتأمل حفظك الله كيف كان هذا الصديق والخليل سببا لدخول هذا البائس عذاب الله، وبعده عن رحمته.

والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حيث قال: إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك أي يعطيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة".

من أقوال الحكماء في الصحبة

هذه المثال الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم جدير باستحضار الإنسان له دائما ليبني عليه الأسس التي من خلالها يقيم علاقته مع الآخرين ، إذ أن قضية الصحبة ليست قضية عابرة وقديما قال الشاعر:

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه*** فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقال الآخر:

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم***ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

ووعظ بعضهم ابنه فقال له: إياك وإخوان السوء، فإنهم يخونون من رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب،ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الأدب والدين، والمرء يعرف بقرينه، والإخوان اثنان فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلية، وتجنب صديق العافية فإنه أعدى الأعداء.

الأصدقاء ثلاثة

والأصدقاء ليسوا كلهم على درجة واحدة بل إنهم يختلفون فبعضهم أنت بحاجة له دائما وهذا أخطرها وبعضهم تفرضه عليك الظروف وطبيعة الحياة وإن كنت لا تريده وبعضهم شر ووبال عليك وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله الأصدقاء ثلاثة: أحدهم كالغذاء لا بد منه، والثاني كالدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث كالداء لا يحتاج إليه قط.

وقال أحد السلف الأخ الصالح خير لك من نفسك، لأن النفس أمارة بالسوء والأخ الصالح لا يأمر إلا بخير.

ويقول الإمام الشافعي رحمه الله لولا القيام بالأسحار وصحبة الأخيار ما اخترت البقاء في هذه الدار.

معايير اختيار الجليس

فثمة صفات لا بد من توافرها في الصديق الذي تبحث عنه وتختاره لتكون صداقتك قائمة على أساس متين قوي ولتجني من خلالها ما ترجوه وتأمله ولتحقيق ذلك لا بد أن تضع أمامك دائما معيار الدين والتقوى والصلاح في اختيار الصديق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى ذلك بقوله "لا تصاحب إلا مؤمنا " والله جل وعلا يقول "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكفانهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يبغضك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.

العاقل اللبيب خير صديق

الصديق العاقل اللبيب أمر أساسي في اختيار الأصدقاء فإنه ينفعك بعقله ولا يضرك بتصرفاته ويفيدك عند المشورة وأخذ الرأي، واحذر كل الحذر من مصاحبة الأحمق المغفل فتجلب لنفسك كثيرا من ا لأضرار والمصاعب وكيف تصاحب من لا يفرق بين النافع والضار

وليكن في صديقك الذي تختاره مع ما سبق حسن خلق ينفعك في وقت عسرك ويواسيك بماله ورأيه ومشورته ويقف معك في الملمات ويعفو عن الزلات ويملك نفسه عند الغضب فكم من صديق في اليسر لا تحمله أخلاقه على مواساة أصدقائه ولا على إيثارهم وقت شدتهم وعسرهم وكم من صديق سريع الغضب والضيق يغلب غضبه عقله ويقدم هواه على غيره، وكم من صحبة وصداقة ومودة أفسدها سوء الخلق وقبح الكلام وسوء التعبير وشدة الانفعال.

واسمع لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لولا ثلاث في الدنيا لما أحببت البقاء فيها، لولا أن أحمل أو أجهز جيشا في سبيل الله، ولولا مكابدة الليل، ولولا مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتفي أطايب التمر.

الجد والاجتهاد والهمة العالية لا يمكن الاستغناء عنها

ولا بد في الصديق الذي تختاره أن يكون جادا سويا ذا همة عالية مبتعدا عن سفاسف الأمور وصغائر الأعمال لا يمارس ما يكون سببا للحكم عليه بالفسق أو قلة العقل والسفاهة والانحراف فإن ذلك كله له أثر على سمعتك وقد تتأثر من طول صبحته ببعض أخلاقه وصفاته الذميمة.

وأخيرا اعلم أن قضية الصحبة قضية دين وليست دنيا فقط وتأمل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.

00000000000000000000

من السنة النبوية في التربية الأسرية (8)

( حامل المسك )

إعداد الدكتور: نظمي خليل أبو العطا

من وسائط الثقافة التي تؤثر في سلوك الإنسان جماعة الرفاق أو الصحاب , وتخاف معظم الأسر من قرناء السوء على أبنائها , وتعاني بعض الأسر من هذا الأمر ولا تعرف كيف تتصرف، من هنا وجب أن تتضمن مناهج التربية الأسرة موضوعات تعالج هذا الأمر، وقد عالجت السنة النبوية المطهرة هذا الأمر بطريقة تربوية معجزة وهذا ما سنوضحه في السطور التالية بإذن الله.

الحديث النبوي الشريف:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة ). متفق عليه.

نستنتج من الحديث التربية الأسرية التالية:

1ـ بيان أنواع الرفاق والجلساء:

يبين الحديث أنواع الرفقاء والجلساء والأصدقاء فإما أن يكون الصديق صالحاً نافعاً على كل الوجوه كحامل المسك، وإما أن يكون صديقاً سيئاً ضاراً وهذا كنافخ الكير وعندما تصنف الأصدقاء يعلم الصديق ماذا سيجني من صديقة.

2ـ نفع الأصدقاء ومضارهم:

فبعد أن يتعلم المتعلم أصناف الأصدقاء والجلساء , يبين الرسول صلى الله عليه وسلم نفع النافع وضرر الضار وفي هذا تربية إيمانية صحيحة.

فالجليس الصالح يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك , ويحثك على الاجتهاد والعمل الجاد ومكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وعمله , ويرفع همتك وإيمانك فالهمة والإيمان تتأثران بالبيئة المحيطة بالإنسان فالصحابي قال للصحابي هيّا بنا نؤمن ساعة أي: نجلس في طاعة الله ساعة وأنت على كل حال متنفع بالصالح إما بالرؤية الطبية أو السماع الطيب أو المسلك الطيب.

أما الصنف الثاني جليس السوء وصاحب السوء فهو شر على من خالطه يكون عوناً للنفس الإمارة بالسوء ويضرك في دنياك ودينك ويقلل همتك للعمل والتفوق والنجاح.

3ـ التحبيب في الجليس الصالح:

ففي الحديث دعوة إلى التقرب والقرب وملازمة الصالح فهو نافع رائحته طيبه وسلوكه طيب وعمله طيب , وهو كمن يجالس بائع المسك إما أن ترى الطيب وإما أن تشم رائحة الطيب وإما أن يهديك أو تشتري منه، وهذا المثل يقرب النفوس وهذا يحبب النشء في الجليس الصالح.

4ـ التنفير من الجليس السوء:

ـ ففي الحديث تنفير من جليس السوء والصديق السيء فهو ضار وحارق ونتن المنظر نتن الرائحة نتن المسلك نتن العاقبة وإذا وعي النشىء هذا المثل نفر من الجليس السيء.

ـ تحويل المعنويات إلى محسوسات:

فالخلق السيء والخلق الحسن أشياء مجردة المعنى محسوسة النتائج , وضرب المثل يحول المعنويات إلى محسوسات أي حول السلوك الطيب إلى مسك ورائحة وشراء للطيب، كما حول السوء إلى نار ودخان وفحم ورائحة كريهة وحرق للثياب , وهذا أسلوب تربوي حديث التعلم بضرب الأمثال، والتعلم بالوسائل التعليمية، والمواقف التعليمية وفي هذا إحداث للتعلم القوي في وقت قصير وأوضح مفاهيم.

5ـ استغلال المتضادات في التربية:

فالمثل يقول: وبضدها تميز الأشياء، فوضع صوره المسك وبائع المسك، ورائحة المسك وشراء المسك وإهداء المسك، بجوار صورة الفحم والكير والنار والدخان والرائحة الكريهة وتلف الثوب يجسد المعاني كما قلنا ويؤكد عليها.

6ـ التعلم بضرب المثل:

استخدم المصطفى صلى الله عليه وسلم تعديل السلوك والتعلم بضرب المثل , وهذا نوع من التربية يجب التأكيد عليه واتباعه عند إعداد مناهج التربية الأسرية وتنفيذها.

7ـ الطبع يُعدي:

يؤكد الحديث على أن الطبع يُعدي ويَعْدي , ويجب الفرار من قرين السوء فرارنا من المريض بالأمراض المعدية الفتاكة والمنفرة , وهذا ما أكد عليه الحديث وما يجب أن نؤكد في مناهجنا وعند توجيهنا لأبنائنا لأن بعض الطلاب والأبناء يتصورون أنهم محصنون ضد التأثير بأخلاق الصحبة السيئة.

8ـ الوقاية خير من العلاج:

ففي الحديث وقاية من الوقوع في مجالس السيئين والتأثر بأخلاقهم , وهذا مبدأ تربوي مهم فقد كان الصحابي الجليل حذيفة يقول: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) وهذا ما يجب أن نعلمه لأبنائنا وطلابنا ومعلمينا أثناء تدريبهم للتربية الأسر

00000000000000000

التحذير من صحبة السوء

إعداد- صلاح عبد المعبود

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:

فإن المرء على دين خليله، والمرء يُعرف من صديقه، لأن الأشباه تجتمع وتتقارب، والطيور على أشكالها تقع، ولا أنفع للإنسان ولا أضر عليه من البيئة والصحبة، ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي".

وأخرج مسلم في صحيحه، قصة رجل من الأمم السابقة قتل تسعًا وتسعين نفسًا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض- بغية التوبة- فدلوه على عابد، فأتاه وأخبره أنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال له: ليست لك توبة فقتله فأكمل به المائة- لكن الشعور بالذنب والندم على فعله والخوف من الله والإنابة إليه والحنين إلى التوبة، كل ذلك تحرك في قلبه، وجاشت في صدره العودة والرجوع إلى الله خوفًا من عذابه وطمعًا في جنته، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عالم، فأتاه وأخبره أنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال له: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك في أرض سوء يُعبد فيها غير الله، فاذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قومًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، فحمل متاعه وخرج من قريته وبينا هو في منتصف الطريق أتاه ملك الموت فقبض روحه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: إنه رجع إلى الله تائبًا، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل حسنة قط، فأرسل الله إليهم ملكًا ليُحَكِّموه بينهم، فقال لهم: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيتهما كان أقرب فخذوه إليها، فأوحى الله عز وجل إلى الأرض الطيبة أن تقاربي، وإلى الأرض الخبيثة أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه إلى الأرض الطيبة أقرب فأخذته ملائكة الرحمة إلى الجنة.

إنها قصة عظيمة النفع، أرشد فيها هذا العالمُ الرجل التائب إلى عدة أمور من أهمها:

1- تغيير البيئة بالانتقال من أرض السوء إلى الأرض الطيبة.

2- تغيير الصحبة السيئة إلى صحبة طيبة تعين على طاعة الله.

فالإيمان يزيد في البيئة النقية، وفي جوار الصالحين والمتقين، ولذلك كان من دعاء سليمان عليه السلام: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين".

وكل فساد وبلاءٍ وانحراف إنما ينشأ من أعوان الشيطان وجنوده من الأنس الذين يفتحون على العبد أبواب الغفلة والشهوات ولا يعينون على فعل الطيبات والصالحات، وكم من عبد قد احتوشه قرناء السوء وأصحاب الشهوات، فزينوا له الباطل وأَعْمَوْا بصره وبصيرته عن رؤية الحق ومشاهدة مواطن الخير والفضل، وثبطوا همته عن التشمير عن ساعد الجد ومواصلة السير في طريق الجنة وسبل الخير، ولقد نهانا ربنا عن مصاحبة الأشرار، وبين أنهم يوم القيامة سيتبرأ بعضهم من بعض وسيلعن بعضهم بعضًا، وسيتهم كل منهم الآخر أنه كان وراء ضلاله وإفساده قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون.

أما المؤمنون الصادقون فقد نزع الله من صدورهم الغل وجعلهم إخوانًا على سرر متقابلين في جنات النعيم: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين.

ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى من تجب مصاحبته وملازمته، وذكر سمات الجليس الصالح والجليس السوء، فقال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد: لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة". {البخاري: 2049}.

فالصاحب الصالح هو المطيع لربه المستقيم على أمره، الأمين على دينه، العاقل الذي يقهر هواه، فلا خير في مصاحبة الأحمق السفيه الخائن الفاجر، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أمارات النفاق وحذر أمته من شعبه بقوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر". متفق عليه.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقلبك منه، واعتزل عدوك، ولا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمورك الذين يخشون الله تعالى...".

فلا بد من صحبة الأخيار والعيش معهم، فإن العبد وحده ضعيف أمام الأوامر والتكاليف، ولذلك فإن الجماعة رحمة وعون على الطاعة والاستقامة، والفرقة عذاب وشؤم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، وذلك يتأكد بالحث الدائم على صلاة الجماعة في المسجد حيث تذوب الفوارق وسط الجماعة بين المؤمنين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله تعالى غدًا مؤمنًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".

فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والشيطان يفترس العبد إذا كان وحده وهو عليه أشد بصحبة السوء وأعوان الشر، ومن ثَمَّ فعلى العاقل أن يتخير أقرب الناس إليه والملتصقين به، فإنه يُعرف بهم، ومن أحب قومًا حُشر معهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أدخل نفسه مدخلاً يتهمه الناس فيه فلا يلومن إلا نفسه، فقد سبق بذلك الإنذار والوعيد والأمر والنهي.

إن صحبة السوء عدوٌ مبين، وبطانة خبيثة، وجنود حاضرة للشيطان أينما يوجهها تسير وتعمل، ولذلك فلا خير إلا في صحبة المؤمن، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

والله من وراء القصد.

000000000000000

من وسائل اكتساب الأخلاق..الصحبة الصالحة

أثنى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه فقال : ( وإنِّكَ لَعلَى خُلُقٍ عظيم ) وأمره سبحانه بمحاسن الأخلاق فقال: ( ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليُّ حميم

وجعل جل وعلا الأخلاق الفاضلة سبباً تُنال به الجنة فقال : ( وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها السموات والأرض أُعدَّت للمتقين الذين ينفقون فى السَّراء والضَّراء والكاظمين الغيظَ والعافينَ عنِ النَّاس واللهُ يُحبُ المحسنين ) وبعث رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمامها فقال عليه الصلاة والسلام :إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

بيناالرسول صلى الله عليه وسلم فضل محاسن الأخلاق فقال: ما من شيءٍ فى الميزان أثقل من حسن الخلق. وقال: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقا.ً

رواه احمد وابو داود وسئل صلى الله عليه وسلم عن أى الأعمال أفضل فقال : حسن الخلق ولما سُئِل عن أكثر ما يُدخل الجنة قال: تقوى الله وحسن الخلق. فإذا كان الدين هو حسن الخلق فالواجب على كل من آمن بالله واليوم الآخر وآثرنجاة نفسه أن يتعرف على هذا المعنى الجليل وأن يلتزم به.

طبيعة الإنسان

الطبع يسرق من الطبع، والإنسان ابن بيئته، حقائق لامراء فيها،إذ من طبيعة الإنسان أن يتأثر بالوسط المحيط به والجماعة التى يتعايش معها.يقول الباحث الاسلامى ماهر السيد:إن الفرد حين ينخرط فى سلك مجموعة من مجموعات البشر يجد نفسه مدفوعاً لالتزام طريقتها، واستحسان ما تستحسنه الجماعة،واستقباح ما تستقبحه،وبذلك يكتسب الفرد - ولو لم يشعر - أخلاق الجماعة التى ينتسب إليها وينخرط فيها.إن البيئة التى يعيش الإنسان فيها تؤثر فيه ولاشك، فإذا وُضع بخيل بين كرماء مدة طويلة من الزمن خف عنده البخل وتعود على بعض مظاهر الكرم،وإذا وُضع جبان بين شجعان اكتسب منهم قسطاً من الشجاعة، وبذلك تخف عنده نسبة الجبن.

الصحبة الصالحة

وكذلك البيئات المنحرفة تؤدى دوراً عظيماً وكبيرًا فى اكتساب أفرادها الرذائل ومساوئ الأخلاق، ومما يؤسف له أن تُستغل هذه الوسيلة من قبل المغرضين والمفسدين لإضلال الشباب والفتيات وغوايتهم وتنشئتهم على مفاهيم وقيم مخالفة لتعاليم وقيم الإسلام.

ومن أجل التأثير العظيم للبيئة فى نفوس أبنائها وجدنا الإسلام يحث المسلمين على اختيار الصحبة الصالحة، ويحذرهم من صحبة السوء.

قال صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة"

وقال الله تعالي:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الكهف/28.

وقال صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" حسن0

فيا ابن الإسلام، ويا مريد الخير، ويا سلالة الصالحين:

أنت فى الناس تقـاس بالذى اختـرت خليـلاً

فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكــراً جميــلا

ولا تصاحب الفساق والفاسدين فتكون مثلهم:

ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي

قال على بن أبى طالب رضى الله عنه:لاتصاحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله.

وأختم هذه المقالة بكلام الغزالى رحمه الله إذ يقول: (أما الفاسق المصر على فسقه فلا فائدة فى صحبته، بل مشاهدته تهون أمر المعصية على النفس، وتبطل نفرة القلب عنها، ولأن من لا يخاف الله لا تؤمن غوائله، ولا يوثق بصداقته، بل يتغير بتغير الأغراض.

0000000000000000

رجل.. ونصف رجل.. ولا شيء

من الطرق السهلة التي يمكنك بها هندسة التأثير أن تستفيد من شخص مؤثر، وذلك بالالتصاق به والاستفادة من علمه وموقعه ومهاراته وحماسه والفنون التي يجيدها وكذلك من آرائه واقتراحاته، فالصاحب ساحب، "والمرء على دين خليله".

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة".

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه               فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقيل: "الناس: رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فالرجل من له رأي صائب ويشاور، ونصف الرجل من له رأي صائب ولا يشاور أو يشاور ولا رأي له، ولا شيء هو من لا رأي له ولا يشاور".

ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من الأصحاب الذين تربطهم به علاقات قوية، ولكن نفراً منهم التصق به التصاقاً قوياً حتى كان بعضهم لا يفارقه إلا حين النوم، ولذا كانت أكثر الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها هؤلاء الملتصقون به كأبي هريرة وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله! وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقوله"، فبسطت نمرة عليَّ، حتى إذا قضى مقالته، وجمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء".

وهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الذي كان من أكثر الصحابة التصاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، شهد بدراً، وهاجر الهجرتين، ومناقبه غزيرة وروى علماً كثيراً. عن مسروق قال: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.

وهناك كثير من العلماء من جمهور التابعين وتابعيهم كانوا أشد الناس حرصاً على الالتصاق بشيوخهم، ليأخذوا عنهم الحديث والفقه واللغة والأدب وغيرها من العلوم والفنون.

فقد وصل عدد شيوخ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الذين كتب عنهم (1080) شيخاً، منهم أحمد بن حنبل، ومحمد بن عيسى الطباع، وإسحاق بن منصور. وأما عن تلاميذه الذين التصقوا به فعلى رأسهم الإمام مسلم، والترمذي، وابن خزيمة، والبغوي والنسفي.

وكذا الإمام مسلم فقد وصل عدد شيوخه إلى أكثر من (220) شيخاً، منهم: الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى ابن معين، والدارمي، والبخاري، وابن حميد. وأما عن تلاميذه الذين لازموه وأخذوا عنه فهم كثير، منهم: الفراء، وأبوحاتم الرازي، وابن خزيمة، والترمذي.

ورغم أهمية الاتصال بهؤلاء المؤثرين والالتصاق بهم إلا أنه ينبغي لصانع التأثير ألا يذوب فيهم، وألا يفقد شخصيته عندهم، وألا يكون كالميت بين يدي المغسِّل، وألا ينسى هدفه الرئيس الذي من أجله التصق بهم، وإنما عليه أن يستثمر صلته بهم من أجل تفعيل مشروعه التأثيري النافع وتسريعه وإنجازه بيسر.

لما قدم السلطان عبدالعزيز مصر، وزار الجامع الأزهر، صحبه الخديوي إسماعيل فلحظ الخديوي على شيخ بالجامع كأنه غير مهتم، فهو مسند ظهره، ماد رجله، فأسرع بالسلطان عنه، ثم كلف أحد رجاله أن يذهب له بصرة، يريد أن يعرف حاله، فلما جاء الرسول ليعطيه قبض الشيخ عنه يده، وقال له: قل لمن أرسلك: إن من يمد رجله لا يمد يده.

ويقول روبرت غرين: ابق مترفعاً وسيأتي الناس إليك، إذ سيصبح كسب عواطفك نوعاً من التحدي لهم، وما دمت تقلّد الملكة العذراء وتذكي آمالهم فإنك ستظل مغناطيساً يجتذب الاهتمام والرغبة.

وعند حديثنا عن هذا النوع من الاستثمار فإننا لا نقصد به استغلال هؤلاء المؤثرين لمصالح شخصية محدودة وإنما استثمارهم لمصلحة الأمة، خاصة ونحن عندما نتكلم عن صناعة التأثير وهندسة الحياة فإننا نقصد به التأثير الإيجابي النافع لا التأثير السلبي الضار.

وهنا نقول: إذا أردت أن تكون خطيباً مؤثراً فالتصق بخطيب مؤثر واستفد من أسلوبه وأخلاقه وحماسه، ولكن لا تكن نسخة طبق الأصل منه، لأن الناس لا يحترمون التقليد وإنما يحترمون الأصل ويقدرونه، ولذا يحسن بك تجنب نواقص هذا الخطيب وأخذ أفضل ما عنده، ومن ثمَّ إضافة شيء من عندك لتتميز به عنه، فيكون لك طعمك الخاص ولونك الفاقع ورائحتك المميزة، وقس على ذلك بالنسبة للالتصاق بالأنواع الأخرى من المؤثرين.

د.على الحمادي

00000000000000000000

حسن الخاتمة وسائلها وعلاماتها والتحذير من سوء الخاتمة

 

عبد الله بن محمد المطلق

الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وأحصى كل شيء عدداً رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة فثابروا على طاعته واجتهدوا في عبادته إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيراً لهم وإن أصابتهم ضراء صبروا، فكانوا ممن قال الله فيهم: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا أما بعد: فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. [البخاري 11/88، 89 ومسلم أيضاً].

وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوماً في عظمة من عصاه فكانت سبباً في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات [البخاري 11/283]. وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران، آية 102]. وقال - تعالى -: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [سورة الحجر، آية: 99].

فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت لتحصل الخاتمة الحسنة وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" [البخاري 11/417 ومسلم برقم: 2643].

وورد في حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رجلاً من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلى بلاءً شديداً فأعجب الصحابة ذلك وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنه من أهل النار" فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه سأنظر ماذا يفعل فتبعه، قال فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فرجع الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟ " قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" وفي بعض الروايات زيادة "وإنما الأعمال بالخواتيم" رواه البخاري ومسلم.

وقد وصف الله - سبحانه - عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [سورة المؤمنون آية 57- 61]. وقد كانت هذه حالة الصحابة - رضي الله عنهم -

وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن وكان رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد" وكان علي بن أبي طالب يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى قال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وكان يقول: ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة قد أسرعت مقبلة ولكل واحدة منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". وقد كان موت الفجأة مذموماً في الإسلام لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة. وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً، قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله - تعالى - إذ قال: (وقلوبهم وجلة). وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث على العمل وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" [الترمذي برقم 2452].

لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب الرجاء وأن يشتاق إلى لقاء الله فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -" [مسلم برقم 2877]. لكن كثيراً من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله وعفوه ومغفرته فاسترسلوا في المعاصي ولم ينتهوا عن السيئات بل جعلوا علمهم بهذه الصفات من أعظم الدواعي على الاستمرار على المعاصي، وهذا خطأ واضح واستدلال موصل للهلاك فإن الله غفور رحيم وشديد العقاب كما صرح بذلك في كتابه في كثير من المواضع فقال جل من قائل: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) [سورة الحجر، آية 49-50]. وقال: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [سورة غافر آية 1-3]. قال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.

وقال بعض العلماء: من قطع عضواً منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. وينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتخلص من ديون الناس ومظالمهم فإن ما كان للعبد عند أخيه سيطلبه منه يوم القيامة لا محالة، فإن كانت له حسنات أخذ منها وإن لم يكن له حسنات أخذت من سيئاته وطرحت عليه وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز. أولاً: التسويف بالتوبة: والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله - تعالى -: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [سورة النور، آية: 31].

وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخرن يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة. روى الأغر المزني قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" [مسلم برقم 2702]. وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له [ابن ماجة برقم 4250 وإسناده حسن].

ومن أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة فإن أمامه زمناً طويلاً ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً ويلزم المسجد ويكثر القربات أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن.

هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة. قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفاً من سوء الخاتمة ومحبة لله. والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته كمثل قوم في سفر دخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهباً للرحيل. أما المفرط فإنه يقول: كل يوم سأتأهب غداً حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم أما العاصي المفرط فإنه يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت

ثانياً: طول الأمل: وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدعه الشيطان فيصور له أن أمامه عمراً طويلاً وسنين متعاقبة يبني فيها آمالاً شامخة فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الآمال وينسى الآخرة ولا يتذكر وإذا ذكره يوماً برم منه لأنه ينغص عليه لذاته ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أشد التحذير فقال: "إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا" [رواه ابن أبي الدنيا بسند ضعيف].

فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر فإن الأنفاس معدودة والأيام مقدرة وما فات لن يعود وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقر منس أو غنى مطغ أو مرض مفسد أو هرم مفند أو موت مجهز أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" [الترمذي برقم 2408 وقال: حديث غريب حسن].

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" رواه البخاري 11/190-200].

وقد أرشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له وسنتكلم عن ذلك بإيجاز: أ - أما ذكر الموت دائماً فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية وقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" [الترمذي برقم 2409 وقال: حديث غريب حسن ورواه ابن ماجة برقم 4258].

وعن ابن عمر قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة" [رواه ابن ماجة برقم 4259 بسند ضعيف مختصراً. ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح جيد قاله العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/451].

ثم يفكر الإنسان في الموتى ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها وعلى عظامهم فبددها ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار ويتأهب بالأعمال الصالحة فإنها العملة النافقة في الآخرة

ب - أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحباء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق وإغلاقه عليه بلبنات من طين ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله ويتملكون مخصصاته وتزوج نساؤه وينسى بعد مدة يسيرة بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت يأمر فيطاع وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم برقم 976].

ج - أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة إذ هو في حال حياته وقوته لا يستطيع أحد أن يقلبه ولا أن يدنو منه إلا بإذنه، وربما كان شديد البطش عظيم الهيبة وقد صار بالموت جسداً خامداً لا حراك به يقلبه الغاسل كيف يشاء. وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له، وكان عثمان رضي الله عنه إذا شيع جنازة ووقف على القبر بكى فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي إذا وقفت على القبر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد" رواه أحمد الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه.

د -أما زيارة الصالحين فإنها توقظ القلب وتبعث الهمة فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعة لا غاية لهم إلا رضى الله ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف، وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: آية 28].

وقيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع أنجالس أقواماً يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف.

ثالثاً حب المعصية وإلفها واعتيادها فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي على قلبه وتستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء. رجل كان يعمل دلالاً في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة فكانوا يقولون له قل: لا إله إلا الله فيقول أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يغني [الجواب الكافي 96]. وربما أدركه الموت في المعصية نفسها فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات على شيء بعثه الله عليه" [رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي].

رابعاً الانتحار: فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجراً وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له أن يتخلص به من هذه المشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصية وأسرع إلى غضب الله وقتل نفسه بدون حق وقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: شهد رجل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفاً أنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [البخاري 6/125 ومسلم برقم 111].

بشائر تدل على حسن الخاتمة نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بشائر تدل الخاتمة إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فألا طيباً وبشارة حسنة منها:

:1- نطقه بكلمة التوحيد عند الموت فقد روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].

2- أن يموت شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله قال - تعالى -: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) [سورة آل عمران آية 169-171]. 3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرماً بحج، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" رواه مسلم وأحمد، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقّعته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" [مسلم برقم 1206].

4- أن يكون آخر عمله طاعة الله فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة" [رواه أحمد 5/391].

5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد" [رواه أبو داود برقم 4772 والترمذي برقم 1418و 1421].

6- أن يموت صابراً محتسباً بسبب أحد الأمراض الوبائية وقد نبه النبي صلى اله عليه وسلم إلى بعضها فمنها: I- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [البخاري 10/156-157]. II- السل: روى راشد بن حبيش قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قتل المسلم شهادة والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة والسل شهادة" [رواه أحمد 3/289]. ج- داء البطن: روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن مات في البطن فهو شهيد" [رواه مسلم برقم 1915]. د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وصاحب ذا الجنب شهيد" وسيأتي بتمامه بعد قليل.

7- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: روى عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة" [رواه أحمد 4/201و 5/323].

8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم" [الترمذي برقم 1063 وروى نحوه مسلم برقم 1915]. وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة" [رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي].

9- الموت ليلة الجمعة أو نهارها: روى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" [رواه أحمد 2/176 والترمذي برقم 1080 وقال: حديث غريب وليس إسناده بمتصل]. 10- عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة عن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين" [رواه الترمذي برقم 982 والنسائي 4/6 وسنده حسن].

خاتمة: وفي نهاية هذا اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سبباً في حسن الخاتمة وهي:

1- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سبيل النجاة، قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران آية 102]. وأن يحذر العبد من الذنوب أشد الحذر فإن الكبائر موبقات وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" [رواه احمد 5/331].

2- المداومة على ذكر الله فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله نال بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله" [المغني لابن قدامة 2/450].اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

لا تأمن أخي المسلم مكر الله

 

الحمد لله مسدي النعم، كاشف الغم، كاسي العظام لحماً بعد الفناء والعدم، وصلىالله وسلم على من ختمت به الرسالة، وتمت به النعمة، وكمل به الدين، وجعل كتابه خاتم الكتب، والمهيمن عليها، وشريعته ناسخة للشرائع، ورسالته أفضل الرسائل ، وأمته خير الأمم.

وبعد ..

فإن الأعمال بخواتمها، فالسعيد من ختم له بخير، والشقي البعيد من رحمة الله من ختم له بسوء، وحُرم من جنة عرضها السموات والأرض، ولم تسعه رحمة الله التي وسعت كل شئ، وكل هذا مقضي مقدر  بما سبق عليه الكتاب، وحكم به رب العباد، كما ورد في حديث الصادق المصدوق: "فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلاَ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاَ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"1، فكل ميسر لما خلق له: "فأما من أعطى و اتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى  وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى"؛ و لهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالخواتيم"2.

ما الذي يؤمننا مكر الله، وقد حذرنا ربنا مغبة ذلك؟ وبين أن ذلك خُلُق القوم الخاسرين: "أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاَ القوم الخاسرون"3، ما الذي يؤمننا وقد خاف ذلك  أسلافنا الصالحون؟ ما الذي يؤمننا وقد أغلق الخوف من سوء الخاتمة الأتقياء من المؤمني ؟ ليس لذلك سبب سوى الغفلة والتفريط والجهل بقدر الله عزّ وجل؛ ورحم الله الحسن البصري حين قال: "المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن"؛ كيف يأمن المؤمن وما من قلب إلاّ وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء ثبته وإن شاء قلبه كما صح في الخبر؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يكثر من قول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"4؛ "اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"5.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "فالخواتيم ميراث السوابق، وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق.

وقد قيل إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة  بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟

ويحكي أن بعض الصحابة خاف عند موته، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أي القبضتين كنت."

كيف تأمن سوء الخاتمة وقد ختم بها لبعض من بايع الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهد في سبيل الله وأبلى في الجهاد؟

فذو الخويصرة التميمي وهو الحرقوص السعدي، قال عنه ابن الأثير في "أُسْد الغابة في تمييز الصحابة": (من الصحابة، ذكره الطبراني وقال: إن الهرمزان الفارسي، كفر ومنع ما قِبَله، واستعان بالأكراد، وكثر جمعه، فكتب عتبة بن غزوان إلى عـمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عـمر يأمـره بقصده، وأمر المسلمين بحرقوص بن زهير وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بالقتال، فاقتتل المسلمون والهرمزان، فانهزم الهرمزان، وفتح الحرقوص سوق الأهواز ونزل بها، وله أثر كبير في قتال الهرمزان؛ وبقي حرقوص إلى أيام علي رضي الله عنه، وكان مع الخوارج لما قاتلهم علي، فقتل حرقوص يومئذ سنة سبع وثلاثين).

هذا الرجل خلط عملا صالحا وآخر سيئاً، ولذلك ختم له بسوء، لما سبق له في الكتاب الأول، فهو الذي:

بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو الرادّ على الرسول صلى الله عليه وسلم قوله وهو يقسم: اعدل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟"

وهو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة، وقال: إن كان ابن عمتك؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء حقه.

وهو الذي خرج على عليّ فيمن خرج، وفجر، وقاتله قتالا شديداً.

وهو من القوم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "ينكر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية"، وفي رواية: "ثم لا يعودون".

وهو الذي قتله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، واستبشر عندما وجده بين القتلى مع أهل النهروان.

هذه الفعال هي التي أوردت هذا الرجل موارد الهلاك، وجعلت ربنا سبحانه و تعالى يحكم عليه بما ختم له به، وما ربك بظلام للعبيد.

فاحذر أخي موجبات سوء الخاتمة، وأسباب فساد الدنيا والآخرة، التي أوردت حرقوص وغيره المهالك، وأخطرها ما يلي:

1. الرد على الله و الرسول صلى الله عليه وسلم.

2. عدم تعظيم شعائر و محارم الله عزوجل.

3. الطعن والتشكيك والإنتقاص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4. الخروج على جماعة المسلمين.

5. حب الجاه والزعامة والمال.

6. الإصرار على المعاصي فهي بريد الكفر.

7. تسويف التوبة و تأخيرها.

8. الغفلة، وطول الأمل، وكراهية الموت.

9. الأمن من مكر الله .

10. الاسترسال مع الشبه و الشهوات.

11. الإعراض عن العلم الشرعي.

12. حب الجدل و المراء في الدين.

والله أسأل أن يختم لنا ولجميع إخواننا المسلمين بخير ، وأن يجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير ، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها ، وخير أعمارنا أواخرها ، وخير أيامنا يوم نلقاه ، وآخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله ، وأن ينعم علينا بالاجتماع مع أنبيائه ، ورسله ، والشهداء ، والصالحين ، في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مذلة ، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الملحمة ، وعلى آله وصحبه أفضل هذه الأمة ، والسلام

00000000000000000

الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله

أوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله العلي العظيم اتقوا الله حق تقاته واعلموا أن ربنا سبحانه وتعالى حذرنا من الأمن من مكره وحذرنا من القنوط من رحمته يقول ربنا عز من قائل { َلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.

من هنا أنصح نفسي وأنصحكم إياك ثم إياك، إياك ثم إياك أن تأمن مكر الله ما معنى ذلك؟ فرعون إسترسل حتى قال أنا ربكم الأعلى، أمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، ضرب موسى عليه الصلاة والسلام البحر بعصاه فانفلق البحر فلقتين بينهما أرض يابسة نستطيع أن نلحق بموسى ولكنهم جهلوا ما كتبه الله عليهم فنجى موسى ومن معه وأمر البحر أن ينطبق على فرعون فأدركه الموت فقال ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين قال ربنا الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. فكان الإجماع أن فرعون لم تقبل توبته إذا فرعون ما عرف كيف جزاء الله ومعاقبته للكافرين فرعون أراد أن يبطش بموسى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.

المكر بالنسبة للإنسان هو الخداع إذا قيل عن إنسان ماكر معناه مخادع أما مكر الله معناه أنه يوصل الجزاء والعقوبة، يوصل الجزاء والعقوبة للماكرين من حيث لا يشعرون وأوصل الجزاء والعقوبة لفرعون.

إخواني إياكم أن تسترسلوا بالحرام أن تسترسلوا في إرتكاب ما حرم الله من صغيرة أو كبيرة معتمدين على رحمة الله جازمين أن الله لن يعذبكم بل سيسامحكم، إياكم وهذا، هذا هو الأمن من مكر الله، لا يجوز هذا لا يجوز، لا يجوز أن تأمن مكر الله، لا يجوز أن تأمن عقوبة الله وتسترسل بالحرام، لا يجوز أن تأمن عقوبة الله وأن تسترسل فيما حرم الله عليك فاتقوا الله واعلموا أن الأمن من مكر الله ذنب كبير، وكذلك القنوط من رحمة الله بعض الناس يقول لهم شيطانهم أنت عصيت الله كثيرا إرتكبت الكثير الكثير من الحرام كيف تتوب الآن ذنوبك كثيرة بعض الذنوب ما عدت تذكرها، يغلق عليه الباب حتى يصير قانطا من رحمة الله، وربنا قال: {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.

القنوط من رحمة الله ذنب كبير، إعزم على التوبة، إعزم في قلبك أنك لن تعود إليها أبدا إعزم بقلبك أن لا تعود إليها أبدا وتحسر وتندم فإن ربنا يقول: {عبدي لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا إلا أتيتك بقرابها مغفرة} معناه أن الله يغفر لمن يشاء إلا الذين لم يحافظوا على الإسلام يسبون الله أو رسل الله أو يسبون الملائكة أو دين الإسلام أو يعبدون غير الله أو يجعلون لله شبيها أو شريكا.

هؤلاء الكفرة إن ماتوا على الكفر فلن يغفر الله لهم وأما المؤمن العاصي فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.

نسأل الله أن يتوفانا وهو راض عنا.

عباد الله إتقوا الله حق تقاته إننا أمام أيام عظيمة أيام طواف وسعي أيام وقوف عرفة أيام طواف حول البيت العتيق بيننا وبين تلك الأيام شهر فمن أراد حج بيت الله الحرام فليجمع ماله من مال حلال وإياكم والحرام. ولا تأكلوا لحما من مال حرام واعلموا أن الله سبحانه يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وتذكروا أن الصدقة تدفع البلاء داووا مرضاكم بالصدقة، تدفع الصدقة عنكم البلاء فتصدقوا ولو بقليل ابتغاء مرضاة الله واعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم، أمركم بالصلاة والسلام على النبي المصطفى الكريم.

0000000000000000

رسالة إلى مسؤول وتاجر

 

بسم الله نبدأ وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير

إلى كل مسؤول مسلم سمع ورأى سب المشركين واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم:

لقد وضع الله في رقبتك أمانة هي من أعظم الأمانات , إنها خير أمة أخرجت للناس , فالله الله في الأمانة , وليتق كل امرئ منا ربه فيما استرعاه.

أخي المسؤول المسلم :

فرطنا في ديننا وتركنا شريعة ربنا وراء ظهورنا فصرنا في ذيل الأمم , فهلا ساهمت في رد الأمة إلى صدارة الدنيا.

أخي : اعلم أن الله اختارك لمكانك ليبتليك ويبتلي بك ثم إما أن يدخلك الجنة أنت ومن تبعك على الحق وصبر معك على تحقيق العدل ونشر الخير, وإما أن يدخلك جهنم أنت ومن تبعك على تزيين الباطل وطمس الحق وتشويهه.

أخي المسؤول المسلم: كلنا نحب شريعة ربنا وكلنا نحب نبينا صلى الله عليه وسلم , ولكن منا من يؤثر حب النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ومنا من يؤثر دنياه فضلاً عن نفسه على محبة نبيه ودينه , و أذكرك بأن المتاع قليل والدنيا معبر للآخرة وسيجد كل منا ما قدم غداً.

أخي المسؤول المسلم : نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأزمة التي أعلن فيها الغرب عدائه لنبي الإسلام , إنما يكون بالمساهمة في نشر سنته صلى الله عليه وسلم , وتحريك الناس لشريعته واتباعه ومساعدة الدعاة على نشر دعوته صلى الله عليه وسلم , والتحذير من كل بدعة ومبتدع , ولا يكون هذا إلا في يد السلطان المسلم وكل مسؤول في مكانه يملك يد التغيير " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "

أخي المسؤول المسلم : دعمك لمقاطعة بضائع المعتدين بداية الطريق لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن هذا نخاطب به التجار أما أنتم أهل السياسة والرياسة فنخاطبكم بالمقاطعة الدبلوماسية التي تليق بمكانكم وتثبتوا بها للعالم ثباتكم على مبادئ دينكم , وتناغمكم مع مشاعر شعوبكم , واعلملوا أن هذا يجلب لكم الاحترام حتى من عدوكم.

أخي المسؤول : ما فقدنا احترامنا بين الأمم وما قلت مهابتنا وانكمشت إلا بتركنا لتحكيم شريعة ربنا فإلى حكام المسلمين: هلا أعدتم إلينا مهابتنا الضائعة وهلا اعدتم إلينا اقتصادنا الإسلامي بعدما جربتم كل منهج ولم تجدوا إلا الخسارة وانهيار الاقتصاد , هلا أعدتم إلينا حكمنا الإسلامي بعدما جربتم قوانين الغرب وفشلت في إنهاء مشاكلنا بما تحمله من ثغرات في وقت نملك فيه أفضل نظام وأشمل قانون على وجه الأرض ألا وهو قانون السماء شريعة رب البرية .

حكام المسلمين هلا أعدتم إلينا أنفسنا بإعادة شريعة ربنا لتعلنوا انتصاركم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم, أعيدوا لنا أنفسنا بإعادة شريعة ربنا.

أما أنت أخي التاجر المسلم ....

لما هاجر صهيب الرومي فاراً بدينه من كفار قريش لحقه بعضهم يريدون قتاله على ما معه من مال كان قد اكتسبه من تجارته بينهم , فوقف شامخاً وذكرهم بأنهم من أرماهم وخوفهم بالقتل ثم ساومهم أن يتركوه ويأخذوا المال ففعلوا , فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد تجرد من أمواله عاجله النبي صلى الله عليه وسلم بالبشرى قائلاً " ربح البيع أبا يحيى "

وسائل الثبات وأسبابه

 

الحمد لله، وبعد...

فاتقوا الله أيها المؤمنون كما أمركم ربكم، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102]}[سورة آل عمران]. واعلموا أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ- ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ] رواه مسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم-مبيناً شدة تقلب قلوب العباد-: [لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا] رواه أحمد بسند لا بأس به .

وقد قيل:

وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ   ولا القلب إلا أنه يتقلب

ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس، فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح؛ إذا به انقلب على وجهه، فترك الطاعة، وتقاعس عن الهدى. وبينا ترى الرجل من أهل الفساد، أو الكفر والإلحاد؛ إذا به أقبل على الطاعة، وسلك سبيل التقى والإيمان.

إن تذكر هذا الأمر: لتطير له ألباب العقلاء، وتنفطر منه قلوب الأتقياء، كيف لا.. والخاتمة مغيّبة، والعاقبة مستورة، والله غالب على أمره، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: [وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ] متفق عليه.  فالله المستعان.

فاجتهدوا في أخذ أسباب الثبات، واعلموا بأن المقام خطير والنتائج لا تخالف مقدماتها، والمسببات مربوطة بأسبابها، وسنن الله ثابتة لا تتغير.

إننا في هذه العصور أحوج ما نكون إلى معرفة أسباب الثبات والأخذ بها، فالفتن تترى بالشبهات، والشهوات، والقلوب ضعيفة، والمعين قليل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن سرعة تقلب أهل آخر الزمان؛ لكثرة الفتن، فقال: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا]رواه مسلم.

بعض أسباب الثبات:

1- الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى: فليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله، وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا[74]}[سورة الإسراء]. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: [لَا وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ]رواه النسائي وابن ماجة بسند جيد.  مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.

2- الإيمان بالله تعالى: قال عز وجل:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...[27]}[سورة إبراهيم] والإيمان الذي وُعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب، وينطق به اللسان، وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن، والمنشط والمكره، هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا...[66]}[سورة النساء]. فالمثابر على الطاعة، المبتغى وجه الله بها؛ موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.

3- ترك المعاصي والذنوب: صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها: فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم.

وأما الصغائر: فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ]رواه أحمد.

خـل الذنـوب صغيرهـا وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقـرن صـغـيرة إن الجبال مـن الحصى

4-  الإقبال على كتاب الله: تلاوةً، وتعلمًا، وعملًا، وتدبرًا: فإن الله سبحانه أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد؛ تثبيتاً للمؤمنين، وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى:{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[102]}[سورة النحل]. فكتاب الله هو الحبل المتين، والصراط المستقيم، والضياء المبين، لمن تمسك به وعمل.

 

5- عدم الأمن من مكر الله: فإن الله سبحانه قد حذر عباده مكره، فقال عزوجل:{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[99]}[سورة الأعراف]. وقد قطع خوف مكر الله تعالى ظهور المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان وقال الله تعالى:{ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ[39]سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ[40]}[سورة القلم].

أما المحسنون من السلف والخلف، فعلى جلالة أقدارهم، وعمق إيمانهم، ورسوخ علمهم، وحسن أعمالهم؛ فقد سلكوا درب المخاوف، يخافون سلب الإيمان، وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن، حتى صاح حاديهم يقول:

والله ما أخشى الذنـوب فإنها   لعلى سبيل العفو والغفران

لكنما أخشى انسلاخ القلب من   تحكيم هذا الوحي والقرآن

فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس فإنه مادام نَفَسُك يتردد، فإنك على خطر، قال ابن القيم رحمه الله:'إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله:{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[8]}[سورة آل عمران]. فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم'.

6- سؤال الله التثبيت: فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك، قال تعالى:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27]}[سورة إبراهيم]. فألحوا على الله بالسؤال: أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة، فإن من دعائهم: :{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[8]}[سورة آل عمران]. وما ذكره الله عنهم:{...رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[250]}[سورة البقرة]. وقد كان أكثر دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.

7-  نصر دين الله الواحد الديان، ونصر أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]}[سورة محمد]. ونصر دين الله وأوليائه يكون بطرائق عديدة، لا يحدها حد:

1- فالدعوة إلى الله بجميع صورها.. نصر لدين الله .

2- وطلب العلم.. نصر لدين الله .

3- والعمل بالعلم.. نصر لدين الله.

4- وجهاد الكفار، والمنافقين، والعصاة.. نصر لدين الله.

5- والرد على خصوم الإسلام، وكشف مخططاتهم.. نصر لدين الله.

6- والبذل في سبيل الله، والإنفاق في وجوه البر.. نصر لدين الله.

7- والذب عن أهل العلم والدعوة، وأهل الخير والصحوة.. نصر لدين الله.

وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة، ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئاً، فقاعدة الطريق: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ] رواه البخاري ومسلم. قال ابن القيم رحمه الله:

هـذا ونصـر الـدين فـرض لازم  لا للكفاية بل على الأعيان

بيد وإما باللسان فإن عـ       ـجزت فبالتوجه والدعا بجنان.

8- الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى: من العلماء والدعاة: الذين هم أوتاد الأرض، ومفاتيح الخير، ومغاليق الشر، فافزع إليهم عند توالي الشبهات، وتعاقب الشهوات قبل أن تنشب أظفارها في قلبك، فتوردك المهالك، قال ابن القيم رحمه الله -حاكياً عن نفسه وأصحابه-:'وكنّا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه أي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنّا، وينقلب انشراحًا، وقوةً ويقينًا وطمأنينةً'.

9- الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي: فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله نبيه بالصبر، فقال:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[28]}[سورة الكهف]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:[مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ]رواه البخاري ومسلم.

فالصبر مثل اسمه مر مذاقته    لكن عواقبه أحلى من العسل

10- كثرة ذكر الله تعالى: كيف لا وقد قال:{...أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]}[سورة الرعد]. وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ]رواه البخاري. وقد أمر الله عباده بذكره كثيرا فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا[41]وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[42]هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[43]}[سورة الأحزاب]. فذكر الله كثيرًا، وتسبيحه كثيرًا سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور.. فيا حسرة الغافلين عن ربهم، ماذا حرموا من خيره، وفضله، وإحسانه؟!

11- ترك الظلم: فقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين، والإضلال حظ الظالمين، فقال جل ذكره: :{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27]}[سورة إبراهيم]. فاتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب، واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم، والتضييع لهم، واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

هذه بعض أسباب الثبات على الحق والهدى والدين والتقى، من أخذ بها؛ فقد أخذ بحظ وافر، ووقاه الله سوء العاقبة والمآل. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.

من خطبة:' وسائل الثبات وأسبابه ' للشيخ /خالد المصلح

00000000000000000

مع الثبات وأسبابه

الحمد لله رب العالمين الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شي عليم واشهدا ن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمد عبه ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم وبعد

:-أيها المسلمون

عباد الله اتقوا الله وراقبوه

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))آل

عمران102

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))النساء1

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))الحشر18

عباد الله

سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع الثبا واسباب الثبات لعلنا نكون واياكم ممن ثبتهم الله على الحق حتى ماتوا عليه

نتكلم على الثبات في وقت تمر الأمة فيه بمراحل حرجة من حروب وفتن ربما لو فكر فيها الرجل العاقل لشرد ذهنه وانخلع قلبه مما يرى، ولكن اعلم أخي المسلم أن الثبات على الحق والتمسك به من صفات المؤمنين الصادقين، قال - تعالى -: ((يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ))إبراهيم27 وقدوتنا في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد لاقى ما لاقى ومع ذلك كان أشد ثباتًا حتى بلغ رسالة ربه على أتم وجه.

عباد الله

إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم

وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده الترمذي في جامعه بإسناد صحيح وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح

وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ *** ولا القلب إلا أنه يتقلب

ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أصبحت وزهرها يابس هشيم فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح ومن أرباب التقى والفلاح قلبه بطاعة ربه مشرق سليم إذا به انقلب على وجهه فترك الطاعة وتقاعس عن الهدى. وبينا ترى الرجل من أهل الخنا والفساد أو الكفر والإلحاد قلبه بمعصية الله مظلم سقيم إذا به أقبل على الطاعة والإحسان وسلك سبيل التقى والإيمان.

أيها الإخوة المؤمنون:

إن تذكر هذا الأمر لتطير له ألباب العقلاء وتنفطر منه قلوب الأتقياء وتنصدع له أكباد الأولياء كيف لا والخاتمة مغيّبة والعاقبة مستورة والله غالب على أمره والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه،

فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله

أعلموا أنه على قدر ثبات العبد على الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثباته على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذا الصراط في الدنيا يكون سيره على ذلك الصراط فمنهم من يمر مر البرق ومنهم من يمر مر كالطرف ومنهم كالريح ومنهم من يمشي مشياًومنهم من يحبو حبواً ومنهم المخدوش ومنهم من يسقط في جهنّم وهل تجزون إلا ما كنتم تعملون ولذا نحن في اليوم مرات ومرات ندعو الله أن يثبّتنا على الصراط المستقيم ونقول ((اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7}))

يارب ثبّتنا على طريق الصالحين طريق الايمان طريق التقوى طريق التوحيد طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولائك رفيقاً

فيا عباد الله عليكم أن تجتهدوا في أخذ أسباب الثبات وأن تحتفوا بها علماً بأن المقام جد خطير والنتائج لا تخالف مقدماتها والمسببات مربوطة بأسبابها وسنن الله ثابتة لا تتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

فمن أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين والتقى

أولاً الشعور بالفقر إلى تثبيت الله - تعالى - وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً")) وقال - تعالى -: ((إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله: ((لا ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.

ثانيا ًومن أسباب الثبات على الخير والصلاح الإيمان بالله تعالى

قال عز وجل -: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة")). إبراهيم 27 والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب وينطق به اللسان وتصدقه الجوارح والأركان فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات

قال الله تعالى -: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)). فالمثابرة على الطاعة المداوم عليها المبتغى وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.

ثالثاً من أسباب الثبات على الطاعة والخير ترك المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:

((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))

وأما الصغائر فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى *** واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صـغـيرة إن الجبال من الحصى

رابعاً من أسباب الثبات على الإسلام والإيمان الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلماً وعملاً وتدبراً فإن الله - سبحانه و تعالى - أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتاً للمؤمنين وهداية لهم وبشرى قال الله تعالى -:

((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ")) فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.

خامساً ومن أسباب الثبات على الصالحات عدم الأمن من مكر الله

فإن الله - سبحانه و تعالى - قد حذر عباده مكره فقال عز وجل -:

((أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) وقد قطع خوف مكر الله - تعالى - ظهور المتقين المحسنين وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعاً بالأمان وقال الله تعالى -: ((أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ` سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ))

يا آمناً معَ قبحِ الفعل منه *** هل أتاك توقيعُ أمن أنت تملكه

جمعت شيئين أمناً واتباع هوى *** هذا وإحداهما في المرء تهلكه

أما المحسنون من السلف والخلف فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ علمهم وحسن أعمالهم فقد سلكوا درب المخاوف يخافون سلب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن حتى صاح حاديهم يقول:

والله ما أخشى الذنـوب فإنها *** لعلى سبيل العفو والغفران

لكنما أخشى انسلاخ القلب من *** تحكيم هذا الوحي والقرآن

فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس فإنه مادام نَفَسُك يتردد فإنك على خطر قال ابن القيم رحمه الله: ((إن العبد إذا علم أن الله - سبحانه و تعالى - مقلب القلوب وأنه يحول بين المرء وقلبه وأنه - تعالى - كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم.

سادساً من أسباب الثبات على الهدى والحق سؤال الله التثبيت

فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك -: فألحوا على الله - تعالى - بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم فالقلوب ضعيفة والشبهات خطافة والشيطان قاعد لك بالمرصاد ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة فإن من دعائهم: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)). وما ذكره الله - تعالى - عنهم: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)). وقد كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))

أسال الله ان يثبتنا واياكم على الخير والصلاح

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على احسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله تعضيما لشانه واشهد ان محمد عبده ورسوله الداعي الى رضوانه وعلى اله واصحابه وجميع اخوانه

وبعد .لا زلنا واياكم مع اسباب الثبات

سابعاً من أسباب الثبات على الإيمان نصر دين الله الواحد الديان ونصر أوليائه المتقين قال الله تعالى -: ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))

ونصر دين الله - تعالى - وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدها حد ولا تقف عند رسم فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله وطلب العلم نصر لدين الله والعمل بالعلم نصر لدين الله وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين الله والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة جعلنا الله وإياكم منهم من أوليائه وأنصار دينه ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئاً فقاعدة الطريق اتق النار ولو بشق تمرة قال ابن القيم - رحمه الله -:

هذا ونصر الدين فرض لازم *** لا للكفاية بل على الأعيان

بيد وإما باللسان فإن *** عجز ت فبالتوجه والدعاء بجنان.

 

ثامناً من أسباب الثبات على الهدى الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة فهم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشر فافزع إليهم عند توالي الشبهات وتعاقب الشهوات قبل أن تنشب أظفارها في قلبك فتوردك المهالك قال ابن القيم - رحمه الله - حاكياً عن نفسه وأصحابه: (وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه أي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة).

عاشراً من أسباب الثبات على الحق والتقى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي

فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا وقد أمر الله - تعالى - نبيه بالصبر فقال: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا")) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر))

فالصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل

الحادي عشر من أسباب الثبات على الحق والهدى ترك الظلم

فالظلم عاقبته وخيمة وقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين والإضلال حظ الظالمين فقال جل ذكره: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ))إبراهيم 27

. فاتقوا الظلم أيها المؤمنون اتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم والتضييع لهم واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم من العمال ونحوهم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

وقال - صلى الله عليه وسلم (( تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين، قلب أبيض كالصفا، وقلب أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبًا) لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا.))

وهذه صفة أهل النار ويقول - صلى الله عليه وسلم ((تعس عبد الدينار. تعس عبد الدرهم. تعس عبد الخميصة. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش))

ومن المعروف أن الدينار مملوك والعبد مالك للدينار فكيف يكون الدينار هو المالك والعبد هو المملوك؟ من ذلك يتبين لنا أن العبد إذا انشغل بجمع الدينار وتركَ عبادة الله كان عبدًا للدينار من دون الله ولذلك يدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الصنف فيقول "تعس وانتكس".

وأعجب من ذلك أن يكون المال سببًا في الانتكاس الكلي وهو الردة، فقد ثبت عند الإمام مسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل عمر رضي الله عنه لجمع الزكاة فذهب إلى ابن جميل وكان فقيرًا فأغناه الله فطلب عمر منه الزكاة فمنع ولم يعترف بها قال - تعالى -: (( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون )) التوبة: 55-57

الحادي عشر ومن أسباب الثبات على الدين والصلاح كثرة ذكر الله - تعالى

كيف لا وقد قال جل شأنه : ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))

وقد أمر الله - تعالى - عباده بالإكثار من ذكره فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرا ` وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ` هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً))) فذكر الله كثيراً وتسبيحه كثيراً سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله وإحسانه.

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة

اللهم ثبتنا على الطاعة يارب العالمين

وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال - تعالى -:( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

أمير بن محمد المدري

إمام وخطيب مسجد الإيمان اليمن

00000000000000000000

التسويف

أبدأ معكم تلخيص المحاضرات القيمة والتي هي بعنوان / آفات على طريق المسلم

لفضيلة الشيخ / محمد بن علي صالحين حفظه الله تعالى

واليوم تلخيص الدرس الأولى وهي عبارة عن ثلاث محاضرات ألقاها الشيخ في مدينة 6 أكتوبر بمصر وهي بعنوان ((( التسويف )))وأعرضها لحضراتكم كنقاط حتى تصل إلى الأذهان بسرعة وحتى تكون باختصار بقدر المستطاع فبسم الله أبدأ ...

يقول الشيخ حفظه الله :

إن التسويف من الأمراض والأعراض الكبيرة والتي تعيق حياة المسلم في طاعته لربه وفي حياته كمسلم بشكل عام

يقول أحد الصالحين : من كان يومه كأمسه فهو مغبون ( مغبون : أي تجارته خاسرة )

ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون .

* أسباب التسويف :-

1/النشأة وتعني التربية التي تكون من جهة الأهل

2/ رفقة الكسالى وكما يقال ( الصاحب ساحب فاعلم من تصاحب )

3/ الإرادة الضعيفة وهذه ناتجة للإفتقار إلى تربية وتزكية النفس

4/ الأمن من مكر الله تعالى {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

5/ طول الأمل مع نسيان الآخرة

6/ الإستهانة بالأمر مع الإعتماد على النفس

7/ التواكل على الله ونسيان قوّته سبحانه وغضبه

8/ عدم المتابعة والمحاسبة

9/ الإنغماس في المعاصي والسيئات

10/ عدم تقدير العواقب المترتبة على السيئات

* النتائج والآثار المترتبة على هذا التسويف :-

1/الحسرة والندم بعد فوات الأوان

2/ الحرمان من الأجر والثواب

3/ تراكم الذنوب مما يترتب عليه تأجيل التوبة

4/ تراكم الأعمال وصعوبة الأداء

5/ ضياع الهيبة من أمام الناس ( وهذا خاص بأصحاب الذنوب )

وكان من دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ( اللهم اجعلني في عيني صغيرا وفي أعين الناس كبيرا )

6/ الحرمان من عون الله ومدده {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } (125) سورة آل عمران

* العلاج من آفة التسويف :-

وكما يقال ( لكل داء دواء ) فالتسويف إعترفنا أنه مرض وآفة فيلزمنا حتى نتجنبه من علاج وهذا العلاج نضعه بين أيديكم على نقاط كالتالي :

1/ عدم القنوط واليأس من رحمة الله تعالى

2/ التذكير بأن التسويف عجز وضعف وأن الإنسان قادر بعون الله

3/ المداومة على الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى

4/ على أولياء الأمور الإهتمام بمن تحت ولايتهم

5/ البعد عن صحبة الكسالى وإن كثروا في هذا الزمان فكما يقال ( لا يغرنك كثرة الهالكين ولا تستوحش قلة السالكين )

6/ المداومة على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم

7/ الإحتراز من المعاصي والسيئات

8/ تذكر الموت والدار الآخرة

9/ معايشة السلف الصالح والتطلع في سيرهم العطرة

10/ أن تقوم الأمة بمحاسبة المسويفين

11/ عدم الإستهانة بأي أمر من الأمور

12/ التذكير دائما بعواقب التسويف

وفي الختام لا يسعني إلى أن أدعو لنفسي ولكل مسلم بأن يجيرنا الله من هذه الآفة التي نخرت بيوت كثير من المسلمين

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أخوكم

أبو الحارث

سلسلة آفات على طريق المسلم : ((( التسويف )))

أبو الحارث محمد الدالي

0000000000000000000

ففروا إلى الله

 

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة إن نجت نجونا جميعاً وإن هلكت هلكنا جميعاً.

ولقد حسم النبي  هذه الحقيقة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير  أن رسول الله  قال: { مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً }.

فواجب على أهل الحق من المصلحين الصادقين أن ينذروا، ويحذروا أهل الفساد، والواقعين في حدود الله عز وجل، وأن يأخذوا على أيديهم قبل أن تغرق السفينة بالجميع.

وهذا الواجب قد جعله رسول الله  فرض عين على كل مسلم على اختلاف مراتبه ودرجاته.

ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري  أن رسول الله  قال: { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان }.

وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود  أن النبي  قال: { ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل }.

فإن عجز أحد من الناس أن ينكره بيده أو بلسانه فإن إنكار القلب كمرتبة الإنكار فرض عين على كل مسلم ومسلمة ولا يعذر بتركه على الإطلاق.

وذلك بكره المنكر وبغض أهل المنكر، أما هذه السلبية المدمرة القاتلة التي يرفع العلمانيون شعارها بقولهم: ( دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله. فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. ولكل أحد أن ينتقد ما يشاء وأن يفعل ما يشاء في أي وقت شاء وأن ينطلق ليختار لنفسه من المناهج والقوانين ما يحب ويرضى، وليس من حق أحد أن ينكر عليه أو أن يأخذ على يديه!! ).

بل وقد يتشدق أحدهم كالثعلب في ثياب الواعظين ويردد قول الله عز وجل:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  [المائدة: 105].

وقديماً خاف صديق الأمة الأكبر أبوبكر  وأرضاه خاف هذه السلبية القاتلة، من منطلق فهم مغلوط مقلوب لهذه الآية الكريمة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله  يقول: { ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب }.

وهكذا فإن وجود المصلحين الصادقين سبب من أسباب النجاة من الإهلاك العام، فإن فقدت الأمة هذا الصنف الكريم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحل عليها عذاب الله وإن كثر فيها الصالحون الطيبون لأنهم سكتوا حتى كثر الخبث وأصبح أمراً عادياً مستساغاً تألفه النفوس.

وحينئذ يستحق الجميع عقاب الله جل وعلا كما في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي  دخل عليها يوماً فزعاً وفي رواية استيقظ يوماً من نومه فزعاً وهو يقول: { لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه } وحلق بإصبعيه السباب والإبهام فقالت زينب يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون قال: { نعم إذا كثر الخبث }.

ولقد بوب الإمام مالك رحمه الله في موطئه باب بعنوان ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة.

بل قد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند حسن من حديث عدي عن عمير أن النبي  قال: { إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون، فإذا فعلا ذلك عذب الله الخاصة والعامة }.

انتكاس الفطرة

حيث أننا نرى مؤامرة مفضوحة يريد أصحابها وأذنابها أن يفرضوا على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الغربية الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة.

فالجاهلية الحديثة في أوروبا وأمريكا لم تكتف بنشر الزنا، والشذوذ الجنسي، ونكاح الحارم بل قننت لهذا.. ! !، وأصبح هذا الانتكاس للفطرة أمراً عادياً عندهم لا يثير الدهشة أو التساؤل.. !!

وهم الآن يريدون أن يملوا ويفرضوا هذا الانحراف الشاذ على المجتمعات المسلمة.

وقد صدرت دراسات عديدة تبين أن اليهود وأتباعهم، قد نجحوا من خلال سيطرتهم على بيوت المال، وأجهزة الإعلان المرئية.. والمسموعة.. والمقروءة، قد نجحوا في نشر الرذيلة في العالم كله بصفة عامة، وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة. حتى أضحت المشكلة كبيرة وخطيرة بشكل لا يتصور.

وإليك - أخي المسلم - بعض ما جاء في هذه الدراسات:

أولاً: تشير الدراسة إلى أن 90% من غير المتزوجات يمارسن الزنا بطلاقة أو من حين لآخر في أوروبا وأمريكا.

ثانياً: تشير الدراسة إلى أن عدد حالات الإجهاض الجنائي قد بلغ في عام 1983 إلى 50 مليون طفل !!!.

ثالثاً: أصبح الحمل لدى المرهقات، مشكلة كبيرة في أوروبا وأمريكا ففي أمريكا وحدها أكثر من مليون فتاة صغيرة تحمل سنوياً من الزنا.

ولم يتوقف الأمر عند الزنا فقط بل انتشر الشذوذ الجنسي بكل صورة، ما دام بدون إكراه.. !!

بل وتكونت آلاف الجمعيات والنوادي التي ترعى شئون الشاذين والشاذات.

وتشير الدراسات إلى أن عدد الشواذ في أمريكا وحدها أكثر من عشرين مليوناً وأصبحت لهم معابد وكنائس خاصة تقوم بتزويجهم.. أي تزويج الرجال للرجال، وتزويج النساء للنساء.. في حفلات خاصة يدعى إليها الأهل والأصدقاء!!!

بل لم يتوقف هذا الانتكاس السحيق عند هذا الحد بل تعداه أيضاً إلى نكاح المحارم من الأمهات والأخوات.

وأول من دعا إلى ذلك فرويد اليهودي الذي جاء بنظريات هابطة لا تقوم إلا على الجنس.

حتى ادعى أن الطفل لا يحب أمه إلا حباً جنسياً محضاً.. !! و لهذا يكره الابن أباه.. !! وسمى فرويد اليهودي هذه الكُره بعقدة "أوديب".

وقال بأن الفتاة أو البنت أيضاً لا تحب أباها إلا حباً جنسياً محضاً.. !! و لذا تكره أمها، و سمى هذه الكُره بعقدة "إليكترا".

ومما يدمي القلب أن هذا الهراء.. والغثاء.. يدرس لأبنائنا وبناتنا في أخطر المراحل الدراسية.. !! على أنه من أبواب علم النفس، وهذا شئ يؤلم النفس ولا يعلمها !!!

ولقد نشرت مجلة التايم الأمريكية تحقيقاً واسعاً عن نكاح المحارم وذكرت فيه تقرير أحد الباحثين:

( لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحارم ليس شذوذاً.. !!، ولا دليلاً على الاضطراب العقلي.. !! بل قد يكون نكاح المحارم، وخاصة بين الأطفال وذويهم أمراً مفيداً لكليهما.. !!! ) أليس هذا انتكاساً للفطرة؟ !!

قال تعالى:  فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى  [طه:123-126].

و قال تعالى:  أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ  [الأعراف:97-99].

ونتيجة لهذا الأمن من مكر الله، بل لهذا الكفر بمنهج الله، ابتلي الله هذه المجتمعات الغربية الكافرة بهذه الأمراض الفتاكة الخطيرة التي وقفوا أمامها وقفة العاجز على الرغم مما وصلوا إليه في الجانب العلمي.

عقاب إلهي

نعم إنه عقاب إلهي لكل من خرج من منهج الله وتحدى الفطرة فلقد انتشر الإيدز المعروف بمرض نقص المناعة، وبدأ يتزايد في السنوات الأخيرة بصورة مرعبة فلقد ذكرت منظمة الصحة العالمية في اجتماعها المنعقد في باريس في يونيه عام 1986م ذكرت أن عدد الذين يحملون فيروس الإيدز يتراوحون ما بين خمسة عشر مليون شخص.

هذا في عام 1986م فما بالنا كم بلغ عددهم الآن؟؟!! وقد خصصت أمريكا ألفي مليون دولار سنوياً للإيدز.

ومما يثير الرعب والخوف أن هذا المرض لم ينج من براثنه أحد من المصابين به على الإطلاق حتى الآن رغم هذه الملايين التي تنفق بسخاء في الأبحاث للوصول إلى علاج لهذا المرض الفتاك، ولن يصلوا إلى العلاج الحقيقي على الإطلاق، ما دامت الأسباب الحقيقية لانتشاره لازالت موجودة. وهي انتشار الزنا والشذوذ الجنسي بكل صورة.

وهذا ما أكدته الأبحاث والدراسات العلمية في أن هؤلاء هم أكثر الناس إصابة بهذا المرض الخطير.

هذا بالإضافة إلى الأمراض الخطيرة الأخرى التي انتشرت واستشرت كالسرطان و الزهري والهربس والسيلان وغيرها.

وتحقق قول من لا ينطق عن الهوى  إذ يقول: { لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم }.

وأخيراً: لا ملجأ من الله إلا إليه

فلا سعادة للبشرية عامة، وللمسلمين خاصة، إلا بالعودة لمنهج الله عز وجل الذي خلق الإنسان وحده، وهو وحده الذي يعلم ما يسعده و ما يفسده  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ  [الملك:14].

فمنهج الله لا يحارب دوافع الفطة ولا يستقذرها إنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني والبهيمي ويرقيها إلى أسمى المشاعر والعواطف، التي تليق بالإنسان كإنسان، ويقيم العلاقة بين الرجل والمرأة فقط على أساس من المشاعر النبيلة الرقيقة الراقية الطاهرة فيقول سبحانه:  وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  [الروم:21].

ويهيئ منهج الله المناخ الطاهر النظيف ليتنفس المسلم في جو اجتماعي طاهر نقي يتفق مع الفطرة السوية.

بل ويحدد منهج الله كثيراً من الضمانات الوقائية التي تحمي المجتمع المسلم من الوقوع في مستنقع الرذيلة الآسن العفن.

ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الضمانات طائعاً مختاراً، و راح ليتمرغ في وحل الرذيلة والفاحشة وليعيث في الأرض الفساد.

وهذا هو قمة الخير للإنسانية كلها، ولتعيش الجماعة كلها، في هدوء وأمان. إذ أن منطق العقلاء يقول:

لو أن إنساناً أصيب في طرف من أطرافه بمرض السرطان وقرر الأطباء أنه إذا لم يبتر هذا الطرف فإن الداء سوف يسري في جميع الجسد ويقضي على حياة صاحبه. أما يكون من الرحمة أن نستأصل هذا الطرف للإبقاء على حياته بإذن الله جل وعلا.

كذلك الفرد إذا استعصى علاجه ولم تؤثر فيه تربية ولم تنفعه موعظة ولم يقبل نصيحة وتأصلت روح الجريمة في نفسه وقام منتهكاً للأعراض مضيعاً للحرمات.

أيكون الأخذ على يديه لكف شره عن الجماعة كلها قسوةً وعنفاً؟ !! لا والله بل إنها الرحمة والحكمة بعينها مصداقاً لقول ربنا عز وجل:  وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  [البقرة:179].

ومن هنا جاء منهج الله بهذه الأحكام ليحفظ على الإنسانية عرضها وشرفها ونسلها.

فقال الله سبحانه:  الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ  [النور:3،2].

أما إذا كان الزاني محصناً فإنه يرجم كما دلت على ذلك السنة الصحيحة.

وقد عاقب الله قوم لوط أشد العقاب لاتنكاس فطرتهم وخروجهم عن منهج الله الذي أمرهم به نبي الله لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام:

قال الله تعالى:  وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ  [النمل:54-75].

وقال تعالى في حقهم:  فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ  [الحجر:74].

وعن ابن عباس  قال: قال رسول الله  : { من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه الفاعل والمفعول به }.

وبعد.. فلقد آن الأوان بعد ما رأينا هذه المآسي أن نفيء جميعاً إلى منهج الله. إذ لا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى منهج الله بعد أن أحرقنا لفح الهاجرة القاتل، وأرهقنا طول المشي في التيه والظلام.

وها هو الإسلام لازال يعرض نفسه كمخلص للبشرية كلها من كل أمراض وعللها لأن هذه الحيلة البشرية من خلق الله ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله.

وأخيراً أردد مع مؤمن آل فرعون:  فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ  [غافر:44].

وصلى الله على نبينا محمداً وعلى آله وأصحابه أجمعين.

00000000000000

العجب أسبابه وعلاجه

 

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد ..

فإن العُجب من الآفات الخطيرة التي تصيب كثيراً من الناس ، فتصرفهم عن شكر الخالق إلى شكر أنفسهم ، وعن الثناء على الله بما يستحق إلى الثناء على أنفسهم بما لا يستحقون ، وعن التواضع للخالق والانكسار بين يديه إلى التكبر والغرور والإدلال بالأعمال ، وعن احترام الناس ومعرفة منازلهم إلى احتقارهم وجحد حقوقهم .

حدُّ العُجب

والعجب هو الزهو بالنفس ، واستعظام الأعمال والركون إليها ، وإضافتها إلى النفس مع نسيان إضافتها إلى المُنعم سبحانه وتعالى .

مساوئ العُجب

من مساوئ العجب أنه يحبط الأعمال الصالحة ، ويخفي المحاسن ، ويكسب المذام .

قال الماوردي : (( وأما الإعجاب فيخفي المحاسن ، ويظهر المساوئ ، ويكسب المذام ، ويصد عن الفضائل .. وليس إلى ما يكسبه الكبر من المقت حد ، ولا إلى ما ينتهي إليه العجب من الجهل غاية ، حتى إنه ليطفئ من المحاسن ما انتشر ، ويسلب من الفضائل ما اشتهر ، وناهيك بسيئة تحبط كل حسنة ، وبمذمة تهدم كل فضيلة ، مع ما يثيره من حنق ، ويكسبه من حقد )) .

حكم العُجب

العجب محرم ؛ لأنه نوع من الشرك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( وكثيراً ما يقرن الرياء بالعجب ، فالرياء من باب الإشراك بالخلق ، العجب من باب الإشراك بالنفس ، وهذا حال المستكبر ، فالمرائي لا يحقق قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } والمعجب لا يحقق قوله :{ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن حقق قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } خرج عن الرياء ومن حقق قوله : { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خرج عن الإعجاب ))

وقال صلى الله عليه وسلم (( ثلاث مهلكات : شحُّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه )). [ أخرجه البيهقي وحسنه الألباني ] .

ومن السنة النبوية كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( بينما رجل يمشي في حلةٍ تعجب نفسه ، مرجل جمته ، إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )) [ متفق عليه ] .

وقوله : (( إذ خسف الله به )) يدل على سرعة وقوع ذلك به . وقوله : (( فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )) وفي رواية الربيع عند مسلم : (( فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة )) .

قال ابن فارس : التجلجل : أي يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ، ويندفع من شق إلى شق ، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطرباً متدافعاً )) .

ومن الأدلة كذلك على ذم العجب حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، فعن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ قال : أيّةُ آية؟ قال : قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [105: سورة المائدة].

قال أبو ثعلبة : أما والله لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( بل ائتمروا بينكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شَّحاً مطاعاً ، وهوىً متبعاً ، ودنيا مؤثَرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع العوامَّ ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن كالقبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم )) [ رواه الترمذي وقال : حسن غريب وضعفه الألباني ] .

من أقوال السلف في ذم العجب

1- قال ابن مسعود رضي الله عنه : الهلاك في اثنين : القنوط والعجب ..

2- وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءُوا ذُكِرَ الله تعالى والدار الآخرة ، لمواظبته على العبادة ، فأطال الصلاة يوماً ، ورجل خلفه ينتظر ، ففطن له بشر ، فلما انصرف عن الصلاة قال له : لا يعجبنك ما رأيت مني ، فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله مع الملائكة مدة طويلة ، ثم صار إلى ما صار إليه .

3- وقيل لعائشة رضي الله عنها : متى يكون الرجل مسيئاً ؟ قالت : إذا ظن أنه محسن .

بين العُجب والكفر

وربما طغت آفة العجب على المرء حتى وصل به الحدّ إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام ، كما هو الحال مع إبليس اللعين ، حيث أعجب بأصله وعبادته ، ودفعه ذلك إلى الكبر وعصيان أمر الرب تعالى بالسجود لآدم عليه السلام .

وحكى عمر بن حفص قال : قيل للحجاج : كيف وجدت منزلك بالعراق ؟ قال : خير منزل ، لو كان الله بلغني قتل أربعة ، فتقربت إليه بدمائهم . قيل : ومن هم ؟ قال : مقاتل بن مسمع وليّ سجستان ، فأتاه الناس فأعطاهم الأموال ، فما عُزل دخل مسجد البصرة ، فبسط له الناس أرديتهم ، فمشى عليها ، وقال لرجل يماشيه {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [61: سورة الصافات] .

وعبد الله بن زياد بن ظبيان التميمي ، خوّف أهل البصرة أمراً فخطب خطبة أوجز فيها ، فنادى الناس من المسجد : أكثر الله فينا مثلك . فقال : لقد كلفتم الله شططاً !!

وأبو سمّال الأسدي أضل الله راحلته فالتمسها الناس فلم يجدوها فقال : والله إن لم يَرُد إليًّ راحلتي لا صليت له صلاة أبداً ، فالتمسها الناس فوجدوها ، فقالوا له : قد ردًّ الله عليك راحلتك فصلِّ ، فقال : إن يميني يمين مُصِرِّ !

قال الماوردي : فانظر إلى هؤلاء كيف أفضى بهم العجب إلى حمق صاروا به نكالاً في الأولين ، ومثلاً في الآخرين ، ولو تصور المعجب والمتكبر ما فطر عليه من جِبِلّة ، وبُلي به من مهنة لخفض جناحه لنفسه ، واستبدل ليناً من عُتوه ، وسكوناً من نفوره ، وقال الأحنف بن قيس : عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر ؟!

يا مظهرَ الكبر عجاباً بصورته *** انظر خلاك فإن النتن تثريب

لو فكر الناس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

هل في ابن آدم مثل الرأٍس مكرُمةً *** وهو بخمس من الأقذار مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك *** والعين مرفضة الثغر ملعوب

يابن التراب ومأكول التراب غداً *** أقصر فإنك مأكول ومشروب

علاقة العجب بالكبر والإدلال

قال ابن قدامة : اعلم أن العجب يدعو إلى الكبر ، لأنه أحد أسبابه ، فيتولد من العجب الكبر ، ومن الكبر الآفات الكثيرة وهذا مع الخلق .

فأما مع الخالق فإن العجب بالطاعات نتيجة استعظامها فكأنه يمنّ على الله تعالى بفعلها ، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها ، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها ، وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها ، دون من رضيها وأعجب بها .

 

وقال أبو حامد : والإدلال وراء العجب ، فلا مدلّ إلا وهو معجب ، وربّ معجب لا يدلّ ، إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة ، دون توقع جزاء عليه ، والإدلال لا يتم إلا مع توقع الجزاء ، فإذا توقع إجابة دعوته ، واستنكر ردها بباطنه ، وتعجب منه كان مدلاًّ بعلمه ، لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق ، ويتعجب من ردّ دعاء نفسه لذلك ، فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه .

أسباب العجب

1- الجهل ، والغريب أن بعض الناس يعجب بعمله ومعرفته لمسائل الخلاف وأقوال العلماء ، ولو علم أن إعجابه بعلمه يدل على جهله لما كان من المعجبين بأنفسهم ، قال أبو حامد : وعلّة العجب : الجهل المحض ، فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط .

2- قلة الورع والتقوى .

3- ضعف المراقبة لله عز وجل .

4- قلّة الناصح .

5- سوء النية وخبث المطية .

6- إطراء الناس للشخص وكثرة ثنائهم عليه مما يعين عليه الشيطان .

7- الافتتان بالدنيا وتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء .

8- قلة الفكر ؛ لأنه لو تفكر لعلم أن كل نعمة عنده هي من الله .

9- قلة الشكر لله عز وجل .

10- كثرة الذكر لله عز وجل .

11- عدم تدبر القرآن والسنة النبوية .

12- الأمن من مكر الله عز وجل والركون إلى عفوه ومغفرته .

مظاهر العجب

مظاهر العجب كثيرة منها :

1- رد الحق واحتقار الناس .

2- تصعير الخد .

3- عدم استشارة العقلاء والفضلاء .

4- الاختيال في المشي .

5- استعظام الطاعة واستكثارها .

6- التفاخر بالعلم والمباهاة به .

7- الغمز واللمز .

8- التفاخر بالحسب والنسب وجمال الخِلقة .

9- تعمد مخالفة الناس ترفعاً .

10- التقليل من شأن العلماء الأتقياء .

11- مدح النفس .

12- نسيان الذنوب واستقلالها .

13- توقع الجزاء الحسن والمغفرة وإجابة الدعاء دائماً .

14- الإصرار على الخطأ .

15- الفتور عن الطاعة لظنه أنه قد وصل إلى حد الكمال .

16- احتقار العصاة والفساق .

17- التصدر قبل التأهل .

18- قلة الإصغاء إلى أهل العلم .

مجالات العجب وعلاجه

ذكر أبو حامد أن العجب يكون بثمانية أمور وذكر علاج كل واحد منها :

الأول : أن يعجب ببدنه :

في جماله وهيئته وصحته وقوته ، وتناسب أشكاله وحسن حورته وحسن صوته ، فيلتفت إلى جمال نفسه ، وينسى أنه نعمة من الله تعالى ، وهو معرض للزوال في كل حال . .

وعلاجه : هو التفكر في أقذار بطنه في أول أمره ، وفي آخره ، وفي الوجوه الجميلة والأجسام الناعمة كيف أنها تمزقت في التراب وأنتنت القبور ، حتى استقذرها الطباع .

 

الثاني : العجب بالبطش والقوة :

كما حكي عن قوم عادٍ أنهم قالوا { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [15: سورة فصلت].

وعلاجه :أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ، ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه يوسوس ويجن بحيث يُضحك منه ، فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ، ولم يقم بشكره ، وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا ، وأن ما جهله أكثر مما عرفه .

الرابع : العجب بالنسب الشريف :

حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له ، ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موالٍ وعبيد !

وعلاجه : أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظنّ أنه ملحق بهم فقد جهل ، وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب ، بل الخوف والازدراء على النفس ومذمتها ، ولقد شرفوا بالطاعة العلم والخصال الحميدة لا بالنسب ، فليتشرف بما شرفوا به .

ولقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وكانوا عند الله شرًّا من الكلاب وأخسَّ من الخنازير ، ولذلك يبين الله تعالى أن الشرف بالتقوى لا بالنسب ، فقال{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [13: سورة الحجرات] .

الخامس : العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم ، وهذا غاية الجهل .

وعلاجه : أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله والفساد في دين الله ، وأنهم الممقوتون عند الله تعالى، ولو نظر إلى صورهم في النار وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ، ولتبرأ من الانتساب إليهم ..

السادس : العجب بكثرة العدد :

من الأولاد والخدم والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع ، كما قال الكفار : {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا } [35: سورة سبأ] .

وعلاجه : أن يتفكر في ضعفه وضعفهم ، وأن كلهم عبيد عجزة ، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعا ، ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيتفرقون عنه إذا مات ، فيدفن في قبره ذليلاً مهيناً وحده لا يرافقه أهلٌ ولا ولد ولا قريبٌ ولا حميمٌ ولا عشير ٌ .

السابع : العجب المال :

كما قال تعالى إخباراً عن صاحب الجنتين { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [34: سورة الكهف] .

وعلاجه : أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله ، وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة ، وإلى أن المال غادٍ ورائح ولا أصل له ، وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال ، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم (( بينما رجل يتبختر في حلةٍ له ، قد أعجبته نفسه إذا خسف الله به ، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )) [متفق عليه] . وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه .

الثامن : العجب بالرأي الخطأ :

قال تعالى {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } [8: سورة فاطر] . وقال تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [104: سورة الكهف] . وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم .

وعلاجه : أن يكون متَّهماً لرأيه أبداً لا يغترُّ به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ، فإن خاض في الأهواء والبدع والتعصب في العقائد هلك من حيث لا يشعر .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

إعداد القسم العلمي بدار الوطن

-------------

قصة الذي قتل مائة نفس

 

يحيط بابن آدم أعداء كثيرون من شياطين الإنس والجن, والنفس الأمارة بالسوء, وهؤلاء الأعداء يحسنون القبيح , ويقبحون الحسن ، ويدعون الإنسان إلى الشهوات , ويقودونه إلى مهاوي الردى, لينحدر في موبقات الذنوب والمعاصي .

ومع وقوع المعصية من ابن آدم فقد يصاحبه ضيق وحرج , وشعور بالذنب والخطيئة, فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل, ويدخل في دائرة اليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, ولكن الله العليم الحكيم , الرؤوف الرحيم ، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير, فتح لعباده أبواب التوبة, وجعل فيها ملاذاً مكيناً, وملجأ حصيناً، يَلِجُه المذنب معترفاً بذنبه, مؤملاً في ربه, نادماً على فعله, غير مصرٍ على خطيئته، فيكفر الله عنه سيئاته, ويرفع من درجاته .

وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته , والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا , فسأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على راهب , فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا , فهل له من توبة , فقال : لا , فقتله فكمل به مائة , ثم سأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل عالم , فقال : إنه قتل مائة نفس , فهل له من توبة, فقال : نعم , ومن يحول بينه وبين التوبة , انطلق إلى أرض كذا وكذا , فإن بها أناسا يعبدون الله , فاعبد الله معهم , ولا ترجع إلى أرضك , فإنها أرض سوء , فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب , فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله , وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط , فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي , فجعلوه بينهم , فقال : قيسوا ما بين الأرضين , فإلى أيتهما كان أدنى فهو له , فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد , فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : فقال الحسن : ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ).

هذه قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات , حتى قتل مائة نفس , وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق , ومع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال عنده من الرغبة في عفو الله ومغفرته ,ما دعاه إلى أن يبحث عمن يفتيه في أمره , ويفتح له أبواب الأمل , ولم يسأل عن أي عالم , بل سأل عن أعلم أهل الأرض , فدلوه على رجل راهب كثير العبادة قليل العلم , فأخبره بما كان منه , فاستعظم الراهب ذنبه , وقنَّطه من رحمة الله , وازداد الرجل غيّاً إلى غيِّه عندما أخبره أن التوبة محجوبة عنه , فقتله ليتم به المائة .

وبعد قتله للراهب لم ييأس , ولم يقتنع بما قاله له , فسأل مرة أخرى عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل , وكان عالما بالفعل , فسأله القاتل ما إذا كان يمكن أن تكون له توبة بعد كل الذي فعله , فقال له العالم مستنكرا ومستغربا : ومن يحول بينك وبين التوبة , وكأنه يقول : إنها مسألة بدهية لا تحتاج إلى كثير تفكير أوسؤال , فباب التوبة مفتوح , والله عز وجل لا يتعاظمه ذنب , ورحمته وسعت كل شيء , وكان هذا العالم مربيا حكيما , فلم يكتف بإخباره بأن له توبة , بل دله على الطريق الموصل إليها , وهو تغيير البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها , ومفارقة الرفقة السيئة التي تعينه على الفساد, وتزين له الشر , فأمره بأن يترك أرض السوء , ويهاجر إلى أرض أخرى فيها أقوام صالحون يعبدون الله تعالى , وكان الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة , وخرج قاصدا تلك الأرض , ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله , فابتعد بصدره جهة الأرض الطيبة مما يدل على صدقه في التوبة حتى وهو في النزع الأخير , , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ,كل منهم يريد أن يقبض روحه , فقالت ملائكة العذاب إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا أبدا , وقالت ملائكة الرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله , فأرسل الله لهم ملكا في صورة إنسان , فأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين , الأرض التي جاء منها , والأرض التي هاجر إليها , فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب , وأرض الشر والفساد أن تتباعد , فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر , فتولت أمره ملائكة الرحمة , وغفر الله له ذنوبه العظيمة كلها .

إن هذه القصة تفتح أبواب الأمل لكل عاص , وتبين سعة رحمة الله , وقبوله لتوبة التائبين, مهما عظمت ذنوبهم وخطاياهم , إذا صدق الإنسان في طلب التوبة , وسلك الطرق والوسائل التي تعينه عليها , ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله , فقد ظن بربه ظن السوء, فعلى العبد أن لا ييأس من رحمة الله , وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب , فكذلك القنوط من رحمة الله , قال عز وجل : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } (يوسف: 87) .

0000000000000000

الإيمان وأثره في الأمن

 

فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

الموضوع الذي نريد أن نتحدث نحن وإياكم عنه، ليس عليكم بجديد، خصوصاً وأنتم تعيشون معمعة الجهاد من أجل تحقيقه إذا خلصت النية وصلح العمل -بإذن الله تبارك وتعالى- فإن ذلك كالجهاد، بل هو نوع من أنواع الجهاد.

والعلاقة بين الأمن والإيمان، وبين الإيمان والسلوك والعمل؛ قد جاءت واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأي أمل وأي هدف تسعى إليه الشعوب والدول والأمم في هذا الزمان وفي كل زمان أعظم من الأمن، إن العالم اليوم -كما تشاهدون- يعيش في بحبوحة من التقدم المادي والرفاهية الحضارية.

وإن الأمم الكبرى فيه والتي تسمى بالتحررية أو التقدمية تعيش في قمة التطور المذهل في مجالات الحياة المادية ولكنها مع ذلك تعيش في حضيض وفي نكد فقدان الأمن والأمان وتعيش في حالة من الرعب، والخوف، والقلق، والضياع الذي يسيطر عليها في جميع مناحيها.

وما أشبهها في ذلك بحال الأمم قبل بعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وما تزال رسالته التي تحقق الرحمة للعالمين بين أيدينا غضة طرية، وما نزال نحن حملة هذه الرسالة التي يجب أن نؤديها إلى العالم كله وإلى أنفسنا أولاً.

أدلة الأمن والإيمان من كتاب الله

العلاقة بين الأمن والإيمان، من جميع جوانبها جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، وأوضحها في حال الأمم السابقة وفي حالنا نحن لنتعظ ولنعتبر، فالله تبارك وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  [الأعراف:96]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، ويقول جل شأنه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً  [الجن:16] وآيات كثيرة تبين أنه لا أمن ولا رخاء ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وأن كل من يبحث عن الأمن في نفسه، أو مجتمعه، أو أمته فإنه لن يجده إلا في الإيمان بالله.

فعليه أولاً أن يؤمن بالله، وأن يخضع أعماله وجوارحه وهواه لله تبارك وتعالى، يكون تابعاً لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهدى والنور والحق والسُنة.

ولهذا يقول جل شأنه في حال الطرف الآخر: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

ويقول تبارك وتعالى في حال الطرف الآخر الذي لم يحقق الإيمان: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].

والعلاقة بين الأمن وبين الإيمان تتضح من نفس مبنى الكلمة في اللغة العربية، فإن الإيمان تتركب حروفه الأصلية من نفس الكلمة التي تتركب منها حروف الأمن، وهي الهمزة والميم والنون (أَمِنَ)، هذه المادة -مادة (أمن)- يشتق منها الإيمان، وتدل عليه كما تدل على الأمن، وتدل على مادة أخرى وهي (الأمانة) فنجد أن الأمانة والأمن والإيمان متقاربة في الاشتقاق في اللفظ، فهي متقاربة في المعنى وفي الدلالة، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأييداً لذلك: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم } أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والأمانة يقول الله تبارك وتعالى فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، فما هذه الأمانة؟

 

هي نفس عبء وحمولة الإيمان بالله وعبادة الله تبارك وتعالى التي قال فيها في موضع آخر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالأمانة هي مدلول الإيمان، وهي تشمل جميع الإيمان.

الإيمان أعظم أمانة حملها الإنسان

وأعظم أمانة أعطيها الإنسان أو كلف بها هي الإيمان بالله، وعبادة الله وتوحيده تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت يجب على الإنسان أن يكون أميناً، وأن يأمنه المسلمون ويأمنه الناس وأن يكون مؤمناً بالله تبارك وتعالى.

فهذه كلها خصال مشتركة مجتمعة يجمعها جميعاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المتفق عليه: {الإيمان بضع وسبعون -أو وستون - شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } فشهادة أن لا إله إلا الله هي الشعبة العليا، وهي التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها، والحياء صفة تجمع صفات الخير جميعاً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أيضاً: {إن الحياء لا يأتي إلا بخيرأو إن الحياء خير كله } فالحياء كله خير، وهو جماع خصال الخير جميعاً، فإذا استحيا الإنسان من الله ومن خلق الله ومن المؤمنين، فإنه لن يرتكب عملاً محظوراً قط.

ونتيجة لذلك سيكون الأمن في قلبه، وذلك نتيجة لخوفه من الله تبارك وتعالى، وسيكون الأمن في المجتمع لأن كل إنسان يستحي أن يعصي الله تبارك وتعالى، وأن يراه الله تبارك وتعالى على معصية وهو خال وحده، فكيف يفعلها جهاراً أمام الناس، فلا يعصي الله جهرةً إلا من سلخ ربقة الحياء وثوب الحياء منه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

أعظم الأمن إنما يتحقق بتوحيد الله

خصال الإيمان وشعبه تتفق وتلتقي حول هذه النقطة وحول هذا المبدأ، وأعظم الأمن إنما يتحقق بتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، ولهذا قال جل شأنه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] والأمن بالألف واللام (أل) هكذا للاستغراق، أي: أن كل الأمن إنما يكون لمن لم يلبس إيمانه بظلم, والظلم هنا هو الشرك كما فسره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما شق على أصحابه هذا عند نزول الآية السابقة، فقالوا: {وأينا لم يظلم نفسه }، فصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنه أفضل الناس بعد الأنبياء خافوا ألا يكون لهم هذا الأمن، لماذا؟ قالوا: {وأينا لم يظلم نفسه } وأينا لم يعص الله، ولم يرتكب خطيئةً أو ذنباً، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طمأنهم فقال: {ليس ذلك، وإنما هو كما قال العبد الصالح :يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] } فمن ترك الشرك، ولم يلبس ولم يخلط توحيده بشرك فله الأمن: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فله الأمن في الدنيا وفي الآخرة، وله الهداية في الدنيا وفي الآخرة.

أما في الدنيا فهو يعيش على الصراط المستقيم فهو من أهل الهداية، وأيضاً من أهل الأمن؛ لأن من لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى فإنه آمن من كل شيء.

الصحابة ضربوا أروع الأمثلة في تحقيق الأمن

ضرب أصحاب النبي من ذلك أعظم المثل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فليس هناك أي خوف: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فالمؤمن بالله تبارك وتعالى لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى، ومن حقق التوحيد لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى.

ولهذا لا يخاف من الكفر وأممه وأسلحته وقوته وعدده وعدته أبداً, ولا يخاف من ذي هيبة أو شأن أن يقول له: اتق الله! أبداً، ولا يخاف من صاحب معصية أو فجور إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكما أمره الله بالحكمة وبالموعظة الحسنة.

فهذا في الدنيا وفي الآخرة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه [الأعراف:43] فلا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته ابتداءً إلا من حقق التوحيد كاملاً غير منقوص، ومن كانت عليه من المعاصي ومن الكبائر ما يستحق بها دخول النار ولم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى بداية، فإن مصيره إلى الجنة -بإذن الله- لِمَا حقق من التوحيد؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تأذن لمن لقيه لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، وإن زنا وإن سرق.

فإذا حقق الإنسان التوحيد فلا بد أن يدخل الجنة ولو بعد حين، ولا يعني ذلك أن من ارتكب هذه المنكرات لا يدخل النار -عافانا الله تبارك وتعالى وإياكم من النار- لكن يعني: أن مصيره -بإذن الله- إلى الأمن وإلى الجنة، وإن عذب ما عذب قبل ذلك، وإن خوف بما خوف، فتبين أن أعظم أمن يتحقق للإنسان هو تحقيق التوحيد، أي: طمأنينة الإيمان التي تكون بتوحيد الله.

وانظروا إلى حال الذين لا يحققون توحيد الله تبارك وتعالى، كيف يعيشون في خوف، ولا يشعر بذلك الخوف -ولله الحمد- الذين تربوا على التوحيد وفهموه، وانظروا إلى حال الذين يتعلقون بالشياطين، والذين يعبدون الأولياء، والذين يعبدون السحرة والكهان والعرافين، والذين يتعلقون بالدجالين وأمثالهم يعيشون في خوف دائم وفي رعب وفي قلق نتيجة عدم تحقيقهم للتوحيد، فالإنسان منهم يخاف إذا عمل أي عمل، فهو يتكلم هو وصديقه في البيت وليس معهما أحد، ويقول له صاحبه: يا أخي اتق الله، ولا تذهب إلى الدجال ولا إلى الساحر ولا إلى الكاهن فهو إنما يضحك عليك، ويسلب مالك، وينهب عقيدتك، فيقول: اسكت، لا يسمعك الولي، وكأنه حاضر! فجعله رباً من دون الله تبارك وتعالى، وخاف منه وكأنه حاضر معه في ذلك المجلس، وقد يكون بينهما مئات الأميال.

وهذا الخوف وهذا الرعب الذي يلقى في القلوب إنما هو نتيجة عدم تحقيق توحيد الله تبارك وتعالى.

وأما من وحد الله تبارك وتعالى، ومن علم أن الله تبارك وتعالى هو وحده المعبود لا سواه، وهو وحده المدعو لا سواه، وهو وحده الذي يملك الضر والنفع، ولا أحد من العالمين يملك ذلك، فإنه لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى في سره وفي علانيته.

فهذا هو أعظم ما يتحقق من أنواع الأمن بالإيمان بالله وبتوحيد الله تبارك وتعالى.

وأما ما يطلق الآن في هذا العصر وفي غيره، من الأمن الذي يقصد به خلاف الخوف، والذي يراد به أن يعيش الأفراد وتعيش المجتمعات في طمأنينة وفي رخاء وفي راحة لا تعكرها جريمة المجرمين، ولا عبث المعتدين، الأمن بهذا المفهوم متحقق ويتحقق أعظم التحقق بالإيمان بالله تعالى، وبصدق التوحيد لله، والإخلاص في امتثال أوامر الله تبارك وتعالى، ولا يتحقق بسوى ذلك، وإن شئتم الأدلة من الواقع، فما أعظمها من أدلة:

حالة العرب الأمنية قبل البعثة

ذكان العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال من الرعب والخوف والجريمة تقشعر منه الأبدان، فما بالكم بالرجل العاقل الحليم البالغ الشجاع من سادات القوم يقبض على ابنته التي ناهزت الحلم ويدسها في التراب، وهي حية تصرخ، أي أمن يمكن أن يتحقق في مجتمع يفعل عظماؤه وقادته هذا، وأي قسوة في القلوب تتخيل بعد هذه القسوة، فلا رحمة ولا شفقة، كما أن الغزو والنهب والسلب هو حياتهم، ولهذا يقول شاعرهم:

وأحيانا على بكر أخينا     إذا لم نجد إلا أخانا

فنحارب نحن وبكر من عدانا من العرب؛ لننهب ونجمع، فإذا لم نجد من نحارب إلا بكراً حاربنا بكراً وغنمنا بكراً، فهذه هي الجاهلية وهذه حياتهم، فما كانوا يجدون للأمن طعماً.

كان الرجل يمشي بالضعينة -أي: المرأة التي تكون في حوزته- وإذا برجل يخرج له من الطريق ويقول له سلم الضعينة وإلا قتلتك، وهنا لا حكم إلا للسيف، فإن قتله أخذ ضعينته، وإن قتل ذلك المجرم فإن مجرماً آخر يترصد في الطريق في مكمن آخر، لا طمأنينة ولا سعادة ولا راحة.

حال المسلمين الأمنية بعد البعثة

ولما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان المشركون يعذبون أصحابه رضي الله عنهم أشد العذاب، ونالهم أشد الأذى، بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الظرف وفي ذلك الوقت الحالك وبشرهم بأن دينه هو دين الأمن ودين الرخاء والسلام للإنسانية جميعاً، فإنه لما جاءه أصحابه وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوسداً بردته في الكعبة، قالوا: يا رسول الله! إن البلاء قد اشتد بنا فادع الله لنا، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محمر الوجه، متأثراً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استعجالهم وعدم صبرهم، ولا غرابة في ذلك فهذا شأن النفوس البشرية، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ما يلاقون من الأذى هو حال الأمم قبلهم، وقال: {قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه ويشق شقين، لا يرده ذلك عن دينه } إلى أن قال: {والذي نفسي بيده لتسيرن الضعينة ما بين عدن وصنعاء -أو أبين وصنعاء - لا تخاف إلا الله } فبشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأمن سوف يستتب بفضل الإيمان بالله تبارك وتعالى، حتى إن الضعينة سوف تقطع هذه المسافة في جزيرة العرب لا تخاف إلا الله تبارك وتعالى، وفعلاً لم يمض وقتاً طويلاً حتى كان الراعي وغيره يقطع المفاوز وهو لا يخاف إلا الله تبارك وتعالى والذئب على غنمه، أما البشر فلا يخاف منهم أبداً.

وقد تحقق هذا الأمن على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما آمن الناس ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى أفواجاً، والعجيب أن هذا الأمن الذي تحقق على يد محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الهداية والخير للبشرية، تحقق بأقل ما يمكن أن يتحقق من الدماء، فقد أحصى المؤلفون في السيرة عدد القتلى الذين قتلوا في جميع الحروب التي خاضها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزيدوا على ألف قتيل فقط، ومن هؤلاء الألف بنو قريضة، مع أن بني قريضة لا ينطبق عليهم في الحقيقة أنهم قوم حاربوا، فليسوا قوماً أو أمةً أو عدواً خارجياً محارباً، وإنما هم بتعبيرنا الحديث: (مواطنون ارتكبوا الخيانة العظمى) لأنهم كانوا تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموالاة العدو الخارجي -الأحزاب- الذي جاء لحصار المدينة ، ومع ذلك قتل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضع مائة، فهؤلاء يدخلون ضمن هذا العدد المقارب للألف من القتلى، فقد حقق الله تبارك وتعالى الأمن وعممه في جزيرة العرب وأطراف الشام والعراق ، وكل ما دخل في حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حكم المسلمين.

ولو أننا قارنا - ولا مجال للمقارنة، ولكن لأن خفافيش الأبصار والمقلدين لا يجدون ولا يريدون أن يجدوا قدوة إلا أعداء الله تبارك وتعالى في الغرب والشرق- بين هذا العدد وبين ضحايا الحرب العالمية الثانية، كم قُتل في الحرب العالمية الثانية، وكم جرح، يقال في الإحصائيات الدولية: إن ضحايا هذه الحرب ستين مليوناً من القتلى والجرحى، وماذا حققت من خير، أو أمن، أو رخاء؟!!!

فانظروا إلى ثمرة الإيمان كيف تثمر الأمن العظيم بأقل عدد، وانظروا إلى الكفر بالله عز وجل، وإلى أفعال الجبابرة والطواغيت الذين يريدون العلو والفساد في الأرض، كيف يدمرون الأمم والشعوب، وهذه الملايين من البشر تذهب ضحايا نزوات شخصية لطواغيت من البشر متألهين فأين هذا من ذاك.

العرب في الجاهلية اقتتلوا في حرب داحس والغبراء أربعين سنة، حتى تفانت عبس وذبيان، سبحان الله! وما هي داحس والغبراء؟! فرسان للسباق، اتهم كل فريق الطرف الآخر بأن هذه سبقت تلك؛ فتحاربت القبيلتان اللتان كانت منهما هذان الفرسان أربعين سنة.

وما عهد ذلك منكم ببعيد، أيضاً في الجاهلية الحديثة فإن دولتين من دول أمريكا الوسطى ، أظنها الدومينيكان والسلفادور ، اقتتلتا أيضاً ودامت الحرب بينهما، من أجل مباراة لكرة القدم.

الإنسان إذا فقد الإيمان وأخذ يرفع ويضخم التوافه ويعظمها في قلبه إلى حد أنه يقاتل من أجلها ويقتتل، فهو ذلك الإنسان الجاهلي، سواء كان قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم بعد بعثته.

فإذا فقد الإيمان فقد الأمن ولو لأتفه الأسباب، ولو لأحط الغايات وأدنى ما يستمتع به من الشهوات، فكيف تحقق الأمن في المجتمع المسلم؟ وكيف كان سلوك المؤمنين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين تحقق بهم ذلك الأمن؟

مثال يوضح علاقة الأمن بالإيمان

الأمثلة كثيرة، ونضرب مثالاً واحداً لعلاقة الأمن بالإيمان:

أم الخبائث هي: الخمر, وهي التي وراء كل جريمة، أو هي التي إذا شُربت فلتتوقع كل جريمة بعد ذلك، وليكن بعد ذلك ما يكون، وما المخدرات إلا فرع وتابع لها، والأمة التي تحارب الخمر بشدة لن تنتشر فيها المخدرات، بل الأمة التي تحارب التدخين بقوة وحزم لن ينتشر فيها الخمر، وبعد ذلك وأبعد منه المخدرات.

هذه الخمر لدينا فيها مثالان حقيقيان وواقعيان، ويغنيان عن كثير من الأدلة النظرية، لو تأملنا فيهما لعلمنا قوة العلاقة بين الأمن وبين الإيمان:

كان الناس يشربون الخمر في الجاهلية ثم نزل الإسلام بتحريمها بالتدريج، وكان الحكماء والعقلاء حتى في الجاهلية لا يشربون الخمر، ولا يشربها عاقل لا في جاهلية ولا في غيرها، والحكماء من العرب تعففوا عنها حتى في الجاهلية، وكان عدد من كبار الصحابة رضي الله عنه متعففاً عنها حتى قبل أن تحرم التحريم الكلي، وقد تدرج تحريمها، والشاهد أنه لما نزل التحريم الصريح في الآيتين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] فلما نزلت فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ  وتلاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه وتنادوا بها، وذهب وافدهم إلى من يشربها في منتدياتهم ومجامعهم: [[ألا إن الخمر قد حرمت -وإذا بأزقة المدينة تجري أنهاراً، فأريقت الخمر- وقال الصحابة انتهينا ربنا ]] ولم يكن جوابهم إلا ذلك: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:51] في كل زمان ومكان: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] وإذا قيل: لهم انتهوا، فإنهم يقولوا: انتهينا، فانتهوا وأريقت، ولم يحتفظوا بها ويقول قائلهم: لن نشربها ولكن يمكن أن نبيعها على أحد من اليهود أو أهل الذمة، فما فكروا في هذا ولم يقولوا، أو يقل قائل منهم: لماذا لا نشربها في الخفاء ونبقيها، ولم يُشَكِّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجنة للمراقبة تدخل البيوت وتحث على مراقبة الله تبارك وتعالى وعلى الخوف من الله تبارك وتعالى، فهؤلاء هم تربية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تربوا على مرتبة الإحسان: {أن تعبد الله تبارك وتعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك } فعلموا أن الله تبارك وتعالى عليهم رقيباً، وأنه مطلع على أحوالهم، وأن مقتضى إيمانهم، بل من إيمانهم أن ينتهوا حيث نهاهم الله ورسوله، فانتهوا وانتهت الخمر، وما بقي إلا الشواذّ الذين لا تخلوا منهم أمة، ومع ذلك ممن أقيم عليه الحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شهد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحبة الله ورسوله فهو قد أخطأ وغلط نتيجة الضعف البشري الذي ينتاب كل إنسان، لكن لم يعد هناك منهج استحلال وإصرار وعناد لأمر الله ورسوله، والسبب أنهم لما كانوا مؤمنين حققوا ذلك.

ولنأخذ المثل الآخر من الأمة التي لا تؤمن بالله ورسوله:

فـأمريكا خرجت من الحرب العالمية الأولى وهي تريد أن تربي شبابها تربية جديدة، لأنها انفتحت على العالم، وتريد أن تخطط لتسيطر على العالم كله ما أمكن، وكانت تريد لشبابها القوة، بالنظرة المادية المجردة، لا إيماناً بالله وبرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بالآخرة وبالبعث من بعد الموت، ولكن ليكون الشباب قوياً ناهضاً ولتكون الأمة ناشطة ناهضة، فقالوا: لا بد أن نحرم الخمر، لأن الخمر دمر المجتمع الأمريكي.

وكتب الأطباء التقارير عن أخطارها، وشكى العقلاء الصفحات الطويلة عن مصائبها، والآباء والأمهات والمدرسون وكل المجتمع يشتكي من المجرمين، كل ذلك لماذا؟ قالوا: هذا نتيجة الخمر، قالوا: وما المانع، ولماذا لا نحرم الخمر؟! ودُرِسَ الأمر دراسة جادة، وحسبت التكاليف التي يمكن أن تنفق للدعاية لتحريم الخمر، وعينت وشكلت اللجان والهيئات في مداخل البلاد، وعينت لجان التفتيش على مصانع الخمور، وضُبط الأمر ورتب وأعلن رسمياً باسم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية : أن الخمر قد حرمت في الولايات المتحدة جميعاً، وأن الحرب عليها قد أعلنت رسمياً وشعبياً، وعملت الدعاية دورها، وكلكم يعلم قوة الدعاية الأمريكية إذا أرادت أن تدعو إلى أي شيءٍ شراً كان أم خيراً.

ومرت السنة الأولى والثانية وتفاقم الأمر خطراً، فضوعفت البنود للنفقات، وبعثت هيئات التفتيش ورجال التفتيش، وبذلوا الجهود أكثر وأكثر، وبذلوا التحريات أكبر وأكبر، ثم جاءت التقارير بأن الأمر قد تفاقم، وأن شربها قد ازداد، وأن المصانع قد أصبحت في الخفاء أكثر مما كانت في العلانية، وأن الناس يحتالون على إدخالها من المنافذ بجميع أنواع الحيل، وأن الأمر قد تجاوز الحد، وأن كل المليارات التي أنفقت في الدعاية لم تجد أي شيءٍ، واجتمعوا وأعادوا الاجتماع مرة إثر مرة، وفي النهاية لم يجدوا بُداً من أن يعلنوا رسمياً وشعبياً أن الحرب على الخمر قد انتهت وأنها حلال كالماء، لماذا؟ هل تنقصهم حضارة؟! هل تنقصهم ثقافة؟! هل تنقصهم معلومات طبية عن أضرار الخمر؟! هل تنقصهم إحصائيات عن الجريمة وعن أثر الخمر في إفساد المجتمع؟! لا، لا يوجد دولة في العالم تملك في هذا الشأن مثل هذه الدولة، فما الذي ينقصهم؟ ولماذا لم ينجحوا إذاً؟ ولماذا نجح المجتمع الإسلامي في محاربة هذا الداء الخبيث بأقل ما يمكن من الجهود، فبنداء واحد: ألا إن الخمر قد حرمت، انتهى كل شيء، ولم تنجح أرقى المجتمعات كما يسميها المخدوعون والمغرورون، ولم تنجح بلد التكنولوجيا في ذلك!!

 

لأن الأمر يتعلق بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمتى كان الإيمان كان الأمن وتحققت النتائج العظمى، ومتى فُقِد الإيمان فإنه لا خير في الإنسان ولا في المجتمع ولا في الأمة.

 

فالإيمان هو الذي يحول قاطع الطريق واللص المحترف إلى ذلك الإنسان الرقيق، الودود الحليم، الذي يبكي من خوف الله تبارك وتعالى، والذي لو قلت له: اتق الله! لخشع وبكى أمامك، ولو أخبرك أحد أن هذا كان لصاً مجرماً، وكان قاطع طريق محترف، لما صدقت إلا في ظل الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

نتائج ضعف الإيمان على الأمن

الإخوة الذين يبعثون للدراسة في أمريكا ، يعرفون أن السجون الأمريكية أصبحت ترحب وتفتح الأبواب لمن يدعو إلى الإسلام، بل إلى أي دين وأي ملة: إلى الهندوسية أو المجوسية أو البوذية المهم: ادخلوا السجون وعلموا هؤلاء الناس أي دين من الأديان حتى لا يحترفوا الإجرام، سبحان الله! إنه الخلو من الإيمان، لا تنقصهم الأجهزة الدقيقة، كل حياتهم بالكمبيوتر، فهو ينظم جميع أمورهم، ووسائل اكتشاف الجريمة قد تفوقوا فيها إلى حد لا يكاد يخطر ببال، وكثير منه سري لا يعلنونه حتى لا يعرف ذلك المجرمون، لكن في المقابل تكنولوجيا الإجرام تتفوق، والمجرمون محترفون، ومنهم مَنْ هم أعضاء في المحاكم، ومنهم مَنْ هم أعضاء في الحلقات أو في الهيئات العلمية التي تبحث الخطط لمحاربة الجريمة، ويوجد ضمن الأعضاء من هو مجرم محترف لكنه أستاذ جامعة، أو رجل من رجال الأمن أو من رجال الاجتماع الكبار.

فلماذا تتفوق تكنولوجيا الجريمة على تكنولوجيا مقاومة الجريمة؟ لأنه إذا فقد الإيمان بالله سبحانه وتعالى فلا تستغربوا أبداً أن يكون هذا ولهذا انظروا إلى مجتمعنا ونحن لا نزكي أنفسنا ولا ينبغي لنا ذلك ونحن نعلم الفرق والبعد الشاسع بين مجتمعنا هذا، وبين ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا نحن نرجو ويجب علينا جميعاً رجال الأمن وخلافهم، أن نتعاون ليعود مجتمعنا هذا إلى ما كان عليه مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدر الإمكان، -وإلى واقعنا ولله الحمد، كل ما نعيش فيه من أمن ورخاء ومن نسبة متدنية للجريمة فإنها نتيجة لوجود بقايا الإيمان في مجتمعنا، وروابط الإيمان التي تشد بعضه إلى بعض، ونتيجة تطبيق حدود الله تبارك وتعالى على هؤلاء المجرمين، وبقدر ما يتعكر الأمن فعلينا أن نراجع أنفسنا ولا نتهم إلا أنفسنا، ولنعلم أن ما أصابنا فبما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير، وأنه بقدر بعدنا عن تحقيق الإيمان، بقدر ما يكون الخلل في الأمن.

فنحن لن نبلغ الجنة ولا نبلغ رضا الله تبارك وتعالى إلا بالإيمان بالله حق الإيمان، وبتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت لن يتحقق لنا الأمن والرخاء والاستقرار في مجتمعاتنا وفي حياتنا الدنيا إلا بتحقيق الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

إن الله تبارك وتعالى لما أنزل أبانا -الإنسان الأول آدم عليه السلام- إلى الأرض، جعل له منهج الهدى، وقال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] ومعنى لا يضل ولا يشقى. أي: الهداية والسعادة، فتكفل الله تبارك وتعالى لمن اتبع الكتاب والسنة وطريق الرشد الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهداية والسعادة، منذ أن نزل الإنسان الأول وإلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها، ولا يمكن أن تتحقق الهداية والسعادة والرخاء إلا في ظل الإيمان بالله، والحياء منه، وامتثال أوامره وطاعته تبارك وتعالى.

من صور فقدان الأمن في الآخرة

قال الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] نعوذ بالله من ذلك، فالصراط أحدُّ من السيف وأدَّق من الشعرة، فكيف إذا بعث الإنسان أعمى، هل يمشي على هذا الصراط أم يقع في النار -نعوذ بالله-؟ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه:125] يقول: إنك يا ربنا تعيد الخلق كما بدأته أول مرة، فكيف هذا العمى بعد البصر في الدنيا؟ قال: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:125-126] - نعوذ بالله - ولهذا نخاف والله من أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً لرب العالمين: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].

فهجر القرآن هو الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، وعن تحكيم كتابه، عن التعاون لإقامة دينه، وخصوصاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نخشى والله أن يكون هذا الهجر واقعاً فتكون النتيجة هي أن نفقد السعادة والهداية.

وانظروا إلى الذين يتعاونون لإسقاط حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو الشفاعة في حد من حدود الله تبارك وتعالى، إن ذلك يسبب الهلاك، ولذلك لما سرقت امرأة مخزومية من قريش، وهاب الصحابة أن يكلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنها، وعلموا أنه سيقطع يدها، فكلموا أسامة بن زيد لعله يشفع لها عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنزلته عنده، فأتاه فكلمه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأن الأمة قد انقض عليها صاعقة من السماء، وقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد }.

 

فإذا كان المجتمع يتواطأ ويتعاون على أن لا يقام حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو على أن يشفع في حد من حدوده، فإن النتيجة الحتمية لهذا المجتمع هي أن يزداد الخوف، وتزداد الجريمة، أما إذا كان التعاون على البر والتقوى، وكان موظف أو رجل الهيئة مع رجل الأمن، ومع الرجل العادي، كلهم يتعاونون على ألا تشرب الخمر -مثلاً- وعلى ألا يكون الزنا، وتكون السرقة، وإذا كان حد من حدود الله تبارك وتعالى لم يشفعوا فيه، ولم يبدلوا ولم يغيروا في البيانات ولا في الأوراق، ولا في أي شيء من شأنه أن يعطل هذا الحد أو ينفيه، فإن النتيجة حينئذٍ أن يكون الأمن والرخاء بإذن الله تبارك وتعالى.

من صور فقدان الأمن في الدنيا

ذكر الله في سورة النحل قوله تبارك وتعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] هذه الآية تدل على ذلك، وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى عن قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، بماذا يحلم أي مجتمع في هذه الدنيا بأعظم من ذلك، الأمن والطمأنينة والرزق الرغد، والعيش الهنيئ الرخي الذي يأتي من كل مكان، تجلب فاكهة الشتاء في الصيف وتجلب فاكهة الصيف في الشتاء، انظروا إلى حالنا ولله الحمد، لا يوجد لون من ألوان النعيم المادي والترف إلا ونحن نعيش في بحبوحته، فكل أنواع الفواكه، وكل أنواع المشروبات، والملبوسات، والمطعومات، والروائح، وكل أنواع الأبنية، وما يتعلق بها، وكل أنواع التجهيزات موجودة في المجتمع أو في البيوت.

ولكن حين تبارز الله تبارك وتعالى بالمعاصي، وتعارض أوامر الله تبارك وتعالى وتعترض على ما أنزل الله جهرة وعلانية -كما تفعل كثير من المجتمعات- فإن ذلك لا يستغرب أن تصاب بما ذكره الله تبارك وتعالى حين قال:  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] فهؤلاء القوم أغرقهم الله تبارك وتعالى بأن فتح عليهم أبواب كل شيء ولم يقل كما في الآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وكما في الآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] فهذا النعيم إنما هو في حق المؤمنين إذا آمنوا واتقوا، لكن لما نسوا ما ذكروا به، نسوا الإيمان وتخلوا عن التوحيد إلى الشرك والبدع والضلال، وتخلوا عن الطاعة وأخذوا المعصية وتركوا أمر الله تبارك وتعالى إلى ما حرم فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] وانظروا إلى الإحصائيات الدولية في التفوق المادي، الدول الغربية هي الأولى في إنتاج الذهب، والفواكه، والزراعة، والصناعة، وكل شيء، ولا تنسى الجانب الآخر، فهي في الجرائم متفوقة متقدمة، وفي الاختطاف متفوقة متقدمة، وفي الزنا متفوقة متقدمة، وفي الإيدز متفوقة متقدمة، فهي الأولى في كل شيء.

ولكن ما هي النتيجة بعد ذلك؟  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام:44] وقال تعالى في آية أخرى حَتَّى إِذَا الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24] حتى أنهم درسوا كيف يواجهون الأعاصير - الإعصار الذي يأتي وقد يكون قطره مائة كيلو متر أو أكثر من عرض البحر- بواسطة الطائرات وبواسطة العلم، وبواسطة كذا:  وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24]، ظنوا أنهم يستطيعون حتى في الزلازل وحتى في الأعاصير.

فماذا تكون النتيجة؟!  أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ [الأنعام:44] نعوذ بالله من عذاب الله، بغتة أي: فجأة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  [الأنعام:45] وقال تعالى في آية أخرى: فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40]، وهذه قاعدة عامة، وهي: أن جميع الأمم أخذوا بذنوبهم، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14] فالذين طغوا في البلاد فإن الله لهم بالمرصاد في كل زمان وفي كل مكان، إذا قضى الله تبارك وتعالى أمراً، وسنة كونية؛ فإن هذه السنة لا تختلف ولا تتغير ولا تجامل ولا تحابي أحداً، بل ربما تكون العقوبة لمن يطيع الله تبارك وتعالى، ولمن يعصيه عن علم أشدُّ وأعظم من عقوبة من تنزل به وهو في غفلة وإعراض وراء إعراض.

لنحذر عقوبة الله تبارك وتعالى، ولنحذر أثر المعاصي وأثر الذنوب، فإنها هي التي تعكر الأمن، ولا بد أن نحذر أولاً من الشرك: لأن الشرك هو الذي يعكر أمن الإنسان، فالإنسان الذين تطارده أشباح الشياطين والدجالين ووساوس المشعوذين؛ لا ينام ولا يهدأ ولا يستقر؛ لأنه قد لبس إيمانه بظلم وهو الشرك، فليس من أهل الأمن ولا من أهل الهداية.

وأيضاً: الإنسان الذي يعصي الله تبارك وتعالى، فإنه قد تأذن أن يذل من عصاه، وكتب أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا بد أن يذل وأن يشقى، ولا بد أن يتنغص ويتكدر عيشه بمقدار ما يعصي الله تبارك وتعالى.

أما بالإيمان بالله سبحانه فإن الخير والسعادة والنجاح والفلاح يتحقق للإنسان، يقول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ولما أخبر الله تبارك وتعالى وبدأ القصة عن فرعون وجبروته وطاغوتيته قال: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5] سبحان الله! التمكين والنصر والعز يكون للمؤمنين وإن كانوا أقلية، مهما كان ضعفهم ومهما كانت قلتهم، وقد تحقق ذلك، فقال في سورة أخرى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ  [الأعراف:137]، فذهبت حضارة فرعون وذهبت أمجاده ودمرت، وأورث الله تبارك وتعالى المستضعفين الذين كانوا مؤمنين متمسكين بما أنزل الله تبارك وتعالى، والذين ثبتوا مع نبي الله موسى، ثم من بعده فتحوا وأطاعوا الله، فأورثهم الله تبارك وتعالى مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها.

الإيمان بالله شرط في التمكين في الأرض

التمكين إنما يكون لمن آمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول الله تبارك وتعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ  [الحج:39-41] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد وعد من يحقق ذلك بأن يمكنه ويعزه ويُؤَمِّنه ويطمئنه في الدنيا والآخرة,.

ويقول أيضاً جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ  [فصلت:30] أي: لا تخافوا من أمرٍ أنتم مقبلون عليه، ولا تحزنوا عما تركتم وراءكم أو عما خلفتم، لا خوف عليكم ولا حزن، بل هو الأمن والطمأنينة التامة لأنهم كانوا في الحياة الدنيا مطمئنين بذكر الله، وبتقوى الله، ومطمئنين بامتثال طاعة الله تبارك وتعالى، فكانت عاقبتهم أيضاً أن يطمئنوا برضى الله تبارك وتعالى، وبالقرار والفوز برضاه، وبرؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتي هي أعظم نعيم.

فإذن العلاقة بين الأمن والإيمان، ومن جانب آخر بين الذنوب والمعاصي، وبين الجريمة والنكد والمعيشة الضنك، علاقة واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا أردنا الإصلاح -ونحن نريده بإذن الله- فما أقرب طريقه.

طريق الإصلاح يكون بالعودة إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين

لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان قد قبضه الله إليه فإن سنته بين أيدينا، ومنهج الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ومنهج كل المسلمين الذين كانوا يداً واحدةً على من سواهم، ويداً واحدةً على تقوى الله تبارك وتعالى.

فرجل الأمن أو الهيئة أو أي مسلم هو مسئول عن أمن أمته، مسئول أولاً عن أمن نفسه، أن يؤمِّنها بالتوحيد، ويؤمنها من خوف عذاب الله، ويؤمِّنها بتوحيد الله من تعكير الشرك ودواعي الشرك، وأن يؤمِّن إخوانه المسلمين، فإن المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم.

وأيضاً مسئول عن أمن مجتمعه كله،فإن المسلمين يداً واحدةً على من سواهم، ويداً واحدةً على من يعكر أمنهم ويعبث به، وكل مجرم وعاصٍ لله تبارك وتعالى فإنه معكر للأمن.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإنقاذ المجتمع

هذا المجتمع كسفينة كما ضرب المثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل القائم في حدود الله والواقع فيها -القائم أي: على الأمور كما ينبغي، ومثل الواقعين أي: المرتكبين لما حرم الله- كمثل قوم استهموا في سفينة فكان قوم في أعلاها وقوم في أسفلها } فكون هذا الإنسان مسئول وكون هذا الإنسان أقل، هذا مثل الاستهام في القدر، والله تبارك وتعالى هو الذي يقدر، وإلا كم من مسئول برتبة كبيرة ودونه إنسان أقل منه لكنه أكثر منه عقلاً أو ذكاءً أو علماً، فالغنى والمنصب وأمثال ذلك كلها بتوفيق وبقدر من الله تبارك وتعالى، فلا يتكبر أحد على أحد نتيجة ماله أو منصبه، فإنما هي مثل الأسهم، كأنهم استهموا فكان هؤلاء في أعلاها وهؤلاء في أسفلها.

فهذه السفينة إذا خرقت من أي مكان فإنها تغرق جميعاً، ولهذا نقول: إن من يعصي الله تبارك وتعالى فإنه يعكر على نفسه وعلى مجتمعة كله، بالتبرج أو بالربا أو بالزنا أو بالاختلاط أو بالخمر، أو بأي معصية مما حرم الله تبارك وتعالى.

{ فكان الذين أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، } أي: إذا أرادوا أن يحققوا أي أمر يأخذونه عن طريق الذين في القمة الذين هم مسئولون عن إعطائهم هذا الحق وهذا الأمر وهذا المطلب، فقالوا: {فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا } لماذا نصعد إلى أعلى والماء عندنا هنا قريب؟! فلو خرقنا هاهنا لأخذنا الماء من قريب، وهكذا كل إنسان، إذا أراد أن يعف نفسه عن الشهوة -مثلاً- شرع الله تبارك وتعالى له أن يتزوج، والزواج يحتاج إلى صعود إلى فوق، كأن تذهب وتبحث عن الفتاة المؤمنة ثم تدفع المهر، ثم تذهب إلى من يعقد، فهذا فيه صعود إلى أعلى، لكن الزنا قريب ولا يتطلب هذا الطلوع، لكن ما هو الحال وما هي النتيجة بعد ذلك.

{ فإن أخذوا على أيديهم نجو ونجو جميعاً } فالطبقة التي هي مسئولة عن الأمن، ومسئولة عن المجتمع ومنهم الأب والأم -الزوجة راعية أيضاً في بيت زوجها- إن أخذوا على أيديهم نجو جميعاً، { وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً } ولكن إن تركوهم فخرقوا السفينة غرقوا، ولو كانت السفينة طولها ألف متر أو أكثر وحفرت في ركن من أركانها لغرقت جميعاً، فلا يقول إنسان: أنا هنا بعيد لن يصيبني شيء، وذاك الذي يعصى الله تبارك وتعالى بعيد هناك، لا، بل يجب إذا أردنا الأمن والرخاء لأمتنا ولأنفسنا أن نكون يداً واحدة على تقوى الله تبارك وتعالى، ويداً واحدة على طاعة الله تبارك وتعالى، ونحقق الإيمان في قلوبنا ونحقق ما أمر الله تبارك وتعالى به ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحينئذٍ تكون السعادة وتكون الطمأنينة، ويتبدل الحال بعد الذل عزاً، وبعد الفرقة اجتماعاً، وبعد الشدة رخاءً، وبعد القحط غيثاً ورحمةً.

وهذا من فضل الله تبارك وتعالى أن جعل الله تبارك وتعالى باب التوبة مفتوحاً لأعدى أعدائه، فما ظنكم بمن يأتي بالمؤمنين الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله فيخد الأخاديد -الحفر العميقة- ويلقي النار فيها ويلهبها، ثم يقذف بهم وهم أحياء في هذه النار، وانظروا إلى هذا الذي يحارب الجبار -سبحانه وتعالى- بهذا النوع من أنواع الحرب، يحرق أولياءه وهم أحياء، ومع هذا يقول الله تبارك وتعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] ثم لم يتوبوا: سبحان الله! يعرض الله التوبة حتى على أعدى أعدائه، فما بالكم بأوليائه الذين غرقوا في الغفلة، وأطغتهم النعمة وبطروا معيشتهم ونسوا أوامر الله تبارك وتعالى، وتراخوا في تطبيق أوامره، مع أنهم لم يشركوا بالله، ولم يرضوا ولم يجاهروا حد المجاهرة الواضحة، فما بالكم بأوليائه! إذاً هم أحوج إلى التوبة، وفي نفس الوقت هم أقرب إلى أن ينالهم رضا الله ورحمته تبارك وتعالى، فلا نيأس من رحمة الله ومن روح الله تبارك وتعالى، ولا نيأس من إصلاح مجتمعنا، وإعادته إلى مثل ما كان عليه مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمن والطمأنينة، لأننا إذا بذلنا الجهد الصحيح، والحكمة والموعظة الحسنة، والنصيحة تلو النصيحة، وأخلصنا العمل لله سبحانه، وتبنا إلى الله فإن الله تبارك وتعالى يغيثنا بالإيمان في قلوبنا، وبالمطر والرحمة في أوطاننا، وبالأمن الذي هو النعمة التي يفقدها العالم اليوم، ولا يغني عنها أية نعمة من النعم، ولا يجدي ولا ينفع مع فقدانها أي رغد ولا أي نوع من أنواع الحضارة والتقدم.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب.

ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول.

الفرق بين الأمن والأمن من مكر الله

السؤال : ما هو الفرق بين الأمن، والأمن من مكر الله تبارك وتعالى؟

الجواب: الأمن بمفهومه العام هو كما ذكر الله تبارك وتعالى: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ  [الأنعام:82] هو: الطمأنينة والراحة والسكينة.

وأما الأمن من مكر الله تبارك وتعالى -نعوذ بالله من ذلك- فهذا لا يجوز: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ  [الأعراف:99] والأمن من مكره تبارك وتعالى قد يكون مناسباً للإدمان وللإصرار على المعاصي حتى يطبع على القلب فيأمن من مكر الله تبارك وتعالى ومن عقوبته، وينسى سنة الله تبارك وتعالى في عذاب الأمم، فهو إذاً من النقم ومما يعكر المجتمع ومما يعكر الأمن، فإذا أمن مكر الله تبارك وتعالى في أي مجتمع من المجتمعات، فاعلم أنه سيفقد أمنه وراحته، وأنه معرض للهلاك والدمار عافنا الله وإياكم من ذلك.

وكلما كان الفرد والمجتمع خائفاً من الله تبارك وتعالى غير آمن من مكر الله؛ فإنه أقرب إلى رحمة الله، وإلى رضا الله، وإلى الأمن والطمأنينة.

وسائل تثبيت الإيمان

السؤال: ما هي وسائل تثبيت الإيمان؟

الجواب: لتثبيت الإيمان وسائل كثيرة، وقد تعود في أصلها إلى أمرين: الذكر والفكر.

أما الذكر فهو: ذكر الله تبارك وتعالى، وأفضل الذكر كتاب الله تبارك وتعالى، ثم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذكر المعروف مثل الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسائر الأدعية المعروفة والموجودة في كتب الأذكار الصحيحة، فهذه الأذكار من ذلك.

وأما الفكر: فإنه التفكر في مخلوقات الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] والتفكر في نعمه وآلائه تبارك وتعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13].

التفكر في الكون، وكيف خلق الله الإنسان، والتفكر في الآخرة، وفي الموت، وأن الإنسان سوف يموت، وسوف يلاقي ربه، وذكر الآخرة والحساب والصراط والميزان، تذكر عقوبة العاصين ونعيم المطيعين، كل هذا مما يقوي الإيمان ويثبته، ورأس ذلك كله تقوى الله سبحانه في السر والعلانية، والوقوف حيث أمر الله، فإذا قرأ الإنسان أية من كتاب الله، أو سمع حديثاً من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه حرام فليزدجر وليرتدع، وإن كان فيه أمر فليمتثل وليعمل به، فهذه كلها مما يقوي الإيمان.

والوسائل التي تؤدي إلى ذلك كثيرة أيضاً: مثل حضور حلقات الذكر، ومثل الاستماع إلى أهل الخير والعلماء، ومثل قراءة الكتب النافعة المفيدة، فكل ذلك مما يقوي ويحقق تثبيت الإيمان، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه سميع مجيب.

نصيحة لرجال الأمن

السؤال: ما هي نصيحتكم لرجال الأمن؟

الجواب: الإخوة رجال الأمن جزء منا، وجزء من مجتمعنا، فالإنسان قد يكون في سلك التعليم وأخوه أو أبوه في سلك الأمن، فنحن جزء واحد، وما ينصح به هذا ينصح به هذا، والنصيحة والوصية للجميع، وهي ما وصى به الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] هي تقوى الله في السر والعلانية.

وإن كان هناك مما يخص به رجال الأمن فإنما هو نتيجة اختصاصهم بأمر هم قائمون عليه لا يشركهم فيه غيرهم إلا على سبيل التعاون، أما هم فهم على سبيل الواجب، وإن كان واجباً على الجميع، وهو أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً، وأن يكونوا يداً واحدة على أمر الله مع كل من يدعو إلى الله، ومع كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يحتسبوا هذا العمل عند الله، فإنهم يسهرون الليل ويجهدون ويتعبون أنفسهم، وهذا التعب والجهد لا يمكن أن يعوضه أي شيء من الدنيا، بل الدنيا من طبيعتها أن الإنسان إذا اطمأن إليها وأخذ منها أن يعتاد ذلك، فهو يشعر بقيمتها، حتى لو بذل للإنسان مقابل هذا الجهد والضنك والتعب أضعاف أضعاف ما يعطى غيره؛ فإنه سرعان ما يتعود ذلك ويصبح هذا أمراً عاديا في حياته، فالحافز المادي لا يكفي ولا يستمر أبداً لأن مفعوله مؤقت، لكن حافز الإيمان وحافز الاحتساب والعمل لوجه الله، وأن يحتسب الإنسان كل خطوة منه أنها في سبيل الله ومن أجل إخوانه المسلمين، فهذا حافز قوي، يجعل الإنسان يضحي ويستمر وهو لا يشعر بل يستلذ التعب ويستلذ السهر والألم لأنه من أجل الله ومن أجل إخوانه المسلمين وله الأجر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ثم إنه يجب على الإخوة جميعاً أن نتعلم من العلم قدر الاستطاعة، لأن الإنسان إذا علم أن هذا حرام وهذا حلال، فإنه يدعو ويأمر وينهى، ويعمل وفق منهاج بَيِّن ونور واضح، أما مع جهل بعض الأحكام أو كثير منها فإن الإنسان يفعل الخطأ وهو يظن أنه صواب، ويرتكب المحرم وهو يظن أنه يؤدي الواجب، فلذلك نحتاج أيضاً إلى العلم، والعلم موجود ولله الحمد فالحلقات موجودة، فمن لم يستطع فبالأشرطة المسجلة وغيرها من الأمور التي يسرها الله لطرق ووسائل طلب العلم، ونسأل الله أن يعينهم وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، وأن يولي أمرنا خيارنا، إنه سميع مجيب.

كتب نافعة تتحدث عن الإيمان والسلوك

السؤال : أرجو منكم أن تدلوني على كتب نافعة عن الإيمان وأثره في السلوك؟

الجواب: الكتب لا تخرج عما قلنا من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كتبه السلف الصالح في هذا المجال، ومن ذلك مثلاً كتاب الجواب الكافي لابن القيم رحمه الله، وقد بين فيه أضرار المعاصي وأثارها في الفرد وفي الأمة، وعدَدَّ من أنواعها الشيء الكثير، وكتاب إغاثة اللهفان فقد ذكر القلوب وأقسامها وأحكام ذلك، وما يتعلق به، وأنواع الأضرار التي يأتي بها الشيطان إلى القلوب، وكتاب العبودية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، وهي رسالة على صغرها ولكنها نافعة عظيمة يعرف الإنسان بها لماذا خلق، وماذا ينبغي له، وماذا يجب عليه من حق العبودية لله تبارك وتعالى، وعموماً كل الكتب التي تعلم الإنسان العقيدة الصحيحة والعلم الصحيح وتقوي إيمانه بالله سبحانه مما ألفه السلف الصالح ، ومما في إمكان كل إنسان أن يستشير فيه من يعرفه من خاصة الإخوة الطيبين، ويقول أنا عندي كذا وأنا ينقصني كذا، ويدله على مراجع هي أقوى وأشمل مما قد يقال الآن فيما قد يكون عند الإنسان وغيره أولى منه أو لا يكون كذلك، لأن الحاجات تتفاوت، وكل إنسان دواؤه يختلف عن الآخر، وإن كانت الأدوية العامة في الجملة مشتركة.

علاقة حجاب المرأة بالأمن والإيمان

السؤال : هل حجاب المرأة من الأمن والإيمان؟

الجواب: نعم، وكيف لا يكون الحجاب وتمسك المرأة المؤمنة من الإيمان ومما يحقق الأمن، وهو من الخصال العظمى التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه، والإيمان بضع وسبعون شعبة، ومن أعظم هذه الشعب بل ومما يحقق كثيراً من شعب الإيمان الحجاب، وغض النظر من شعب الإيمان، وحفظ الفرج من شعب الإيمان، وحماية القلب من مرض الشهوة من شعب الإيمان، ومن ضرورات الإيمان.

وكل هذه تتحقق بأن تحتجب المرأة المسلمة وأن تغطي وجهها وجسمها، بل وأن تبقى كما قال الله عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].

وفي المقابل فإن أعظم فتنة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء } فأعظم فتنة في هذه الأمة بعد الدجال هي فتنة النساء، وإذا كان التبرج وسفور المرأة وكشفها عن وجهها أو عن شيء آخر من جسمها، فإنه يعقب ذلك النظر، والنظر المحرم قد يتلوه ارتكاب الفاحشة، وارتكاب الفاحشة مؤذن بعقوبة الله وبغضب الله وبتعكير الأمن، فلن يقر أمن مجتمع أبداً إلا بأن تحتجب المرأة وأن تقر في بيتها كما أمر ربها تبارك وتعالى، فالعلاقة إذاً من أوضح ما يمكن بين أن تحتجب المرأة وتظل في بيتها تربي أولادها على الإيمان بالله، وبين أن تترك البيت وتخرج إلى المجتمع.

وفي كل دول العالم تجرى الإحصائيات وتدرس نتائجها، ويتبين أن المجرمين المحترفين الذين يعكرون الأمن، أو الغالبية منهم لم تربهم أمهاتهم، وإنما ربوا في الملاجئ أو في المحاضن أو على أيدي الخادمات والمربيات، فنشئوا في حقد على المجتمع، فينتقمون من هذا المجتمع بتعكير أمنه، لأن من لم يذق طمأنينة وسكينة الأم، وتربيتها، وعنايتها وهو صغير، كيف نريد منه يذيق المجتمع هذه الطمأنينة بعد أن أصبح فتاً يافعاً قوياً.

فإذا كانت هذه الدول التي لا تؤمن بالله، ولا ترجو الله ولا اليوم الآخر، بدأت تطالب أن تعود المرأة إلى البيت، وأن تشرف على تربية الأبناء، وأن تكون أماً ولا تكون شيئاً غير ذلك، فكيف بالمجتمع الذي يؤمن بالله ورسوله ويرجو الله والدار الآخرة، والذي هو حريص على أن يزيد أمنه دائماً وأبداً.

فالعلاقة من أوضح ما يكون بين هذا وذاك، بل بين جميع شعب الإيمان لأنها جميعاً شعب للإيمان، والإخلال بأي شعبة مخل للأخرى بلا شك، والمعاصي هي بريد الكفر، وليس هناك مجتمع يتبرج إلا وينحل، ويكون ذلك بريداً لانتشار الرذائل والمخدرات، والأفكار الهدامة، فأعداء الله حرصوا على أن يفسدوا المرأة المسلمة، ثم يدخلوا من خلالها إلى إفساد القلوب فيقضون على العقيدة والإيمان، وعلى الأخلاق والتماسك الاجتماعي، وكل شيء يقضون عليه إذا قضوا على المرأة المسلمة وأخرجوها إلى الشارع وإلى المجتمع وخلعت عنها الحجاب.

والكلام في هذا يطول، ولكن لا بد أن نشير إلى ذلك، وأن نؤكد الإشارة إليه، فلعلنا ننتفع بما نسمع.

نصيحة إلى من لا يجد الطمأنينة

السؤال: إني لا أجد طمأنينة فما هو الطريق إلى الطمأنينة والإيمان؟

الجواب: الطريق تجدها في قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:123-124] فهذا الأخ -ونحن كلنا مقصرون في طاعة الله بلا شك- نقول له: إن كنت تبالغ وتظن أنك تريد أن تكون بدرجة الصديقين والمقربين -لأن بعض الشباب يبالغ ويريد الطمأنينة العليا الكاملة التي لا تتحقق لكل إنسان، ولا تتحقق إلا بطول المجاهدة- فننصحك بأن لا تبالغ في ذلك وأن تجاهد ويجاهد نفسه حتى يصل إلى الطمأنينة الكاملة.

وأما إن كنت لا تجد الحد المعروف من الطمأنينة فإن في ذلك دليلاً على أن لديك ضعفاً وخللاً في الإيمان، وكلنا لدينا ذلك الضعف - نسأل الله أن يقوي إيماننا- فعليك أن تصلح نفسك، وأن تنظر إلى باطنك، وإلى مالك أهو من حلال أم من حرام؟ لأن الجسد الذي يغذى بالحرام النار أولى به، وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟ }.

فإذا كان الإنسان يأكل من الحرام، إما من الربا في البنوك، وإما أنه لا يقوم بواجبه الوظيفي، أو أي مال من أموال الحرام، فإنه مهما صلى واجتهد ودعا وتعبد يظل دعائه مردوداً عليه -والعياذ بالله- ويظل هذا الجسد كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أيما جسم نبت من حرام فالنار أولى به }.

فعليك أن تنظر إلى مصدر رزقك، إلى قلبك فلعل فيه مرض من شبهة أو شهوة أو ما أشبه ذلك، وإذا قال الإنسان: كيف أعرف هذا، فهنا نعلم ضرورة الأخ الرفيق، والإنسان الصادق المؤمن، لأن المرء يحشر مع من أحب، فانظر إلى أحسن الأصدقاء الذين يبينون لك عيوبك ويبصرونك بعيبك، فإذا وفقت وسددت بينوا لك ذلك وأعانوك فتحمد الله، وإذا أخطأت أو قصرت بينوا لك ذلك ونصحوك فتتوب وتعود إلى الله سبحانه، فاختر الرفيق الصالح، واحضر حلقات الذكر، واذهب إلى العلماء وجالسهم واستمع إلى كلامهم، واقرأ كتاب الله، وادع الله أن يرزقك الطمأنينة والإيمان، وهذا ما نرجوه لنا جميعاً، إنه على كل شيء قدير.

حكم من يتستر على المجرمين

السؤال: ما خطورة التستر على المجرمين وعلى المنحرفين الذين لهم شر عظيم على الإسلام والمسلمين؟

الجواب: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لعن الله من آوى محدثاً } وهذا الحديث ذُكر بعدة روايات في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، والإحداث أول ما ينطبق على الإحداث في الدين أي: المبتدعين، ثم كل من أحدث أمراً يضر بالمسلمين، ويهدد أمنهم واستقرارهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن من آوى هؤلاء ومن شابههم في معنى الإحداث، ومن إيواء المحدثين التستر عليهم، وتغطية آثار الجريمة، وكأن شيئاً من ذلك لم يكن، وقد ذكرنا القصة التي وقعت في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي المرأة المخزومية التي سرقت، وكيف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل ذلك سبباً في هلاك الأمم فقال : {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ }.

فالتستر على الإنسان إن كان مقابل رشوة فإن هذه جريمة أخرى؛ لأن الرشوة شأنها عظيم وهي من الكبائر وتعلمون جميعاً ما ورد فيها.

وإن كان لأجل شيء آخر من مصلحة من مصالح الدنيا فإنها جميعاً تدخل في باب الرشوة.

وإن كان لضعف الإيمان، ولضعف النفس عن احتمال التبعة التي تكون من فضح هذا المجرم أو إيصاله، كما هي عليه الأمور الشرعية وحسب الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالة، فإن كان ذلك نتيجة ضعف الإيمان بالكسل والتراخي، وملاحقة من يجب عليك أن تلاحقه، فلتتق الله يا أخي ولتعلم أنك إنما وجِدت، وجعلت على هذه الثغرة وتأخذ هذا الراتب من أجل أن تؤدي واجبها، فالله الله أن يؤتى الإسلام من ثغرتك وأن يؤتى الإسلام من قبلك.

وتذكر أيضاً ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مثال، وهو أن المجتمع كالسفينة، وأن هذا المجرم إن خرق أي جزء من السفينة فإنها تغرق جميعها، وأنه إذا اعتدى على عرض، فإن هذا العرض يكون لأخيك المسلم أيضاً وقد يعتدي على عرضك أنت في يوم من الأيام، وهذا الفعل منك منافٍ للإيمان كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } فإذا كنت تحب لإخوانك المسلمين مثلما تحب لنفسك فاحرص على أمنهم، وذلك يكون بأن تحرص على متابعة وملاحقة كل مجرم بمقتضى ما يجب عليك من العمل الذي أمر الله به، ووفق المعروف والمتبع في مثل هذه الجريمة.

وقد يقول بعض الإخوان: هل يدخل هذا العمل في قضية التجسس؟ أقول: هذا شيء آخر، يعني فنحن -مثلاً- الأفراد الآخرين الذين ليس من مهمتنا أن نتتبع بعض المجرمين، أو أن نتتبع بعض القضايا فنحن يجب علينا وجوباً عينياً أن ننكر المنكر الظاهر بقدر الاستطاعة، وكل من رأى منكراً ينكره إما باليد وإما باللسان وإما بالقلب، لكن من كان عمله وشأنه أن يتتبع الخمور أو المخدرات أو بيوت الدعارة أو غير ذلك، فهذا يجب عليه أن يتتبعها، ويجب عليه أن يتعاون هو مع من يعينه على تتبعها؛ لأن هذا شأنه، وهذا واجبه، وبلا شك أن المسئولية على الجميع، وأن الواجب مشترك على الجميع، وأنه لا بد من التعاون، وهذا ما أمر الله تعالى به وما يجب علينا جميعاً، ولكن العبء الأكبر إنما هو على المسئول الأصلي، وهو رجل الأمن أو رجل الهيئة أو ما أشبه ذلك.

000000000000000000

الرجاء والخوف

 

الرجاء

لم أخطط للحديث عن الرجاء عندما كتبت عن الخوف ، إلا أنني وجدت بعد الانتهاء من الكتابة أن الحديث عن الخوف لا يستكمل بنوده إذا لم يبحث موضوع الرجاء ، وذلك خشية الوقوع في التعسير الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) ، رواه البخاري .

كما أن الخوف من الله عز وجل ورجاء ورحمته أمران متلازمان في عدة نواح منها :

1- اسم الرجاء غالباً ما يرد مقروناً بالخوف أو بأحد معانيه ، وهذا القِران ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربك كان محذوراً } الإسراء ، 57.

كما ورد أيضاً في السنة الشريفة ، حيث ذُكر أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت ، ( فقال : " كيف تجدك ؟ " فقال : أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمعان في قلب عبد ، في مثل هذا الموطن ، إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف " ) رواه ابن ماجه .

2- اسم الرجاء قد يطلق في بعض الأحيان ويُراد به الخوف كما ورد في قوله تعالى : {ما لكم لا ترجون لله وقاراً } نوح ، 13. أي لا تخافون لله عظمة .

ولهذا لم يفرق الحارث المحاسبي في تعريفه للرجاء بينه وبين الخوف فكان مما قال : الرجاء هو " أن ترجو قبول الأعمال ، وجزيل الثواب عليها ، وتخاف مع ذلك أن يرد عليك عملك ، أو يكون قد دخلته آفة أفسدته عليه " .

معنى الرجاء ودلائله

جاء في معنى الرجاء أنه : " حسن الظن بالله تعالى في قبول طاعة وُفِّقت لها أو مغفرة سيئة تُبت منها " .

ومن هذا التعريف يمكن الاستنتاج أن رجاء رحمة الله لا يكون مع ترك الطاعات وعدم الالتزام بالنواهي ، فإن هذا يسمى اغتراراً والله تعالى يقول :{ يا أيها الناس  }، فاطرإن وعد الله حق فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور 5.

كما أن الله سبحانه وتعالى سمى من يقوم بهذا الفعل بالخَلف ، والخَلف اسمٌ يطلق على الرديء من الناس ، قال تعالى :{ فخلف من بعدهم خَلفٌ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون } ، الأعراف ، 169.

أما دلائل وجوب رجاء رحمة الله عز وجل فقد وردت في القرآن والسُّنة وأحاديث الصحابة والصالحين ، قال تعالى :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } ، الزمر ، 53 .

وقد ذم الله عز وجل اليأس والقنوط من رحمته فقال تعالى :{ إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون }، يوسف 87.

وقد جاء في أخبار النبي يعقوب عليه السلام " أن الله تعالى أوحى إليه : أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف عليه السلام هذه المدة ؟ قال : لا ، قال لقولك لاخوته : { أخاف أن يأكله الذئب وأنتم غافلون } لم خِفت الذئب عليه ولم ترجني له ، ولم نظرت إلى غفلة اخوته ولم تنظر إلى حفظي له ؟ ومِن سِبْقِ عنايتي بك أني جعلت نفسي عندك أرحم الراحمين فرجوتني ، ولولا ذلك لكنت أجعل نفسي عندك أبخل الباخلين " .

أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت لتؤكد على سعة رحمة الله عز وجل، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لما خلق الله الخلق كتب ، وهو يكتب على نفسه وهو وضعٌ عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي ) ، رواه البخاري .

وقال عليه الصلاة والسلام : ( جعل الله الرحمة في مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) ، رواه البخاري .

أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان لاستيعابهم القوي لمعاني صفات الله عز وجل- والتي منها صفة الرحمة- أثره في أقوالهم وأفعالهم ، فها هو التابعي الجليل أبو سفيان الثوري يفضّل رحمة الله عز وجل على رحمة أبويه فقال : " ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبويّ ، لأني أعلم أن الله تبارك وتعالى أرحم بي منهما " .

وها هو الفضيل بن عياض ينظر في يوم عرفة إلى المؤمنين وهم واقفون يبكون ويتضرعون ، "فقال لرجل إلى جانبه : أرأيت أن هؤلاء كلهم واقفون على باب رجل من الأغنياء يطلبون دانقاً (الدانق : سدس الدرهم ) أكان يردّهم ؟ فقال : لا ، قال : فإن المغفرة عند الله تعالى أهون من دانق عند أحدكم" .

نتائج الرجاء ودواؤه

إن نتائج الرجاء لا تختلف عن نتائج الخوف ، إذ أنهما يؤديان إلى العمل والسعي لمرضات الله بالعبادات والطاعات وفعل الخيرات ، قال تعالى في وصف أفعال الراجين :{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله  } البقرة ، 218.والله غفور رحيم

وقال أيضاً :{ أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } ، الزمر ، 9 .

ولهذا كما اتفقت نتائج الرجاء والخوف اتفق الدواء بينهما ، بمعنى آخر أن العلماء عالجوا هذين النوعين علاجاً مترابطاً فداووا الخوف بالرجاء وداووا الرجاء بالخوف ، قال لقمان لابنه : "يا بني خف الله تعالى خوفاً لا تيأس فيه من رحمته وارجه رجاءً لا تأمن فيه مكره ، ثم فسره مجملاً فقال : المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر " .

ويكون الخوف كدواء وعلاج أفضل في حالة الشخص الذي يأمن مكر الله عز وجل ، فالله سبحانه وتعالى يقول : { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }، الأعراف ، 99 .

ويكون الرجاء كدواء أفضل عند من غلب على قلبه اليأس والقنوط من رحمة الله قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " ، الزمر ، 53.

إلا أن أفضل لحظات الرجاء هي لحظة احتضار الموت ، حيث يواسى المحتضر بالآيات والأحاديث التي تدل على سعة رحمة الله عز جل ، ومن هذه الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النار : ( لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال حبة من خردل من كِبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان ) ، رواه أبو داود .

اللهم اجعلنا ممن يرجون رحمتك ويخافون عذابك ، اللهم آمين .

د. نهى قاطرجي

00000000000000

الرجاء والخوف

والرجاء والخوف من المقامات الشريفة وقد وصف الله به أنبياءه والمرسلين وأتباعهم بإحسان إليهم من صالحي المؤمنين قال الله تعالى : (( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )) .. وقال تعلى (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )) . وقال تعالى : (( إن الذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( يقول الله تعالى : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني .. )) الحديث .

وقال عليه الصلاة والسلام : ( يقول الله تعالى : ياابن آدم ، غنك مادعوتني ورجتوني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي ، ابن آدم لو بغلت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة )) .

وقال عليه الصلاة والسلام : (( قال الله تعالى : وعزتي لا أجمع لعبدي خوفين ولا أمنين ، فإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وإن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة )) .

وقال عليه الصلاة والسلام : (( راس الحكمة مخافة الله )) .

ودخل صلى الله عليه وسلم على شاب يعوده وهو في الموت فقال له : (( كيف تجدك ؟ فقال أخاف ذنوبي وأرجوا رحمة ربي . فقال عليه الصلاة والسلام : ماجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه اله مايرجوا وأمنه مما يخاف )) . واعلم أن الخوف زاجر ، يزجر الإنسان عن المعاصي والمخالفات والرجاء قائد يقود العبد إلى الطاعات والموافقات فمن لم يجره خوفه عن معصية الله عز وجل ، ولم يقده رجاؤه إلى طاعة الله تعالى ، كان خوفه ورجاؤه حديث نفس لا يعتد بهما ولا يعول عليهما لخلوهما ن ثمرتهما المقصودة وفائدتهما المطلوبة . )) ثم الأفضل للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء ، حتى يكونا كجناحي الطائر وكفتي الميزان قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا )) .

00000000000000

محبة الله بين الخوف والرجاء

عبد العزيز قاري

المدينة المنورة

قباء

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن المؤمن الموحد المحسن حبه لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم إنه حب المملوك لمالكه حب العبد لسيده حب المخلوق المقهور الضعيف لله الواحد القهار. ولذلك فإن المحبين الصادقين هم في هذا المقام في مقام المحبة هم في مقام موزون بين الرجاء والخوف.

فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى ولا يخافون إلا الله هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في قوله سبحانه:  أولئك      الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه       [الإسراء:57]. وهم يتقربون إلى الله تعالى بحبه وبفعل ما يحبه ويرجون رحمته ومع ذلك يخافون عذابه.

فبين سبحانه في هذه الآية أن الملائكة والأنبياء وعباد الله الصالحين يتقربون إلى الله تعالى بحبه ويرجون رحمته ويخافون عذابه فهم في مقام حبهم لله في مقام موزون بين الرجاء والخوف. وذلك لكمال عبوديتهم لله تعالى وإجلالهم وتعظيمهم إياه.

لكن المحبة إذا خلت من الإجلال والتعظيم تحولت إلى نوع لا يليق بهذا المقام فيقع المحب إذًا في التدلل وفي سوء الأدب مع محبوبه.

قال أحد العباد الجاهلين الذين جهلوا هذا المقام قال هذه القولة الشنيعة: ما عبدتُ الله طمعًا في جنّته ولا خوفاً من عذابه إنما عبدته حباً في ذاته.

هذا جهل بهذا المقام وسوء أدب مع المحبوب، وزاد في سوء الأدب مع الله فقال:- وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت تمتحني؟

يا لجرأة هذا العبد المسكين، يا لجرأته وجهله بهذا المقام جرأته وسوء أدبه مع مقام المحبوب، إنه جبار السماوات والأرض، الله الواحد القهار لا يتدلل أحد من عبيده، عليه الأدب في محبته معه. كيف يتدلل العبد المقهور المملوك على الواحد القهار، ومع هذا ذلك العبد المسكين يقول: يا رب، إن حبي كله لك ليس لغيرك منه نصيب، فامتحن حبي إن شئت امتحنه كما تريد فإني لا أخاف ذلك، وامتحنه ربه ابتلاه سبحانه وتعالى، ذُكِرَ أن هذا العبد المسكين امتُحن بأن حبس الله بوله فأصيب بعسر البول، فكان كلما اشتدت عليه هذه المصيبة يطوف على الصبيان الصغار في الكتاتيب يقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.

وقد ذكر فيما مضى قصة نبي الله وعبده الصالح يونس عليه السلام، مع الفرق بين الرجلين والفرق بين الهفوتين، ذلك نبي كريم عالم بربه لكن هفوته قد تبدو لنا قليلة دقيقة عاقبه بها ربه وابتلاه ذلك البلاء.

لما أذن يونس عليه السلام متكلاً على محبة ربه ومقامه عند ربه. إذن لما ذهب مغاضبًا. انظر كيف ابتلاه الله تعالى وهو نبي كريم وعبد صالح وعابد صادق ابتلاه بأن حبسه في بطن الحوت.

لا يتدلل أحد من العبيد على الله الواحد القهار.

الصحابة الكرام وهم أكرم هذه الأمة بعد نبيها  وهم من هم في مقام إيمانهم وعلمهم وعملهم مع ذلك رباهم الله تعالى قال تعالى:  ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون  [آل عمران:143].

لذلك كان سيدنا رسول الله  يعلم أصحابه الكرام ألا يغتروا بأنفسهم لا يغتروا بمقامهم لا يغتروا بقوة إيمانهم، لا يغتروا بحسن عملهم فيتمنوا لقاء العدو قال  لأصحابه الكرام: ((لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاثبتوا))[1].

فلا يغتر العبد بهذا المقام، العبد المحب لله تعالى إذا أصابه الغرور وذهب الخوف من قلبه حُرم من هذا المقام، هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعظم المحبين لله تعالى، ومع ذلك كانوا في مقام حبهم في مقام موزون بين الرجاء والخوف يرجون رحمة الله ويخافون أشد الخوف من عذابه.

في الصحيح[2] أن النبي  قال: ((أما إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وكان  إذا قام يصلي لربه يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل[3] من شدة البكاء بين يدي ربه وخوفًا من ربه سبحانه وتعالى، هذا مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكنه  لعلمه بربه وبعظيم قدره وسلطانه وعظيم عقابه وشديد عذابه، كان أشد الناس خوفًا منه سبحانه وتعالى.

وكلما كان العبد أعلم بالله كان أخوف له. قال تعالى:  إنما يخشى الله من عباده العلماء

[فاطر: 28].

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :وكفى بخشية الله علمًا.

المؤمنون الموحدون المحسنون العالمون بربهم عز وجل يخافون الله أشد الخوف لأنهم سمعوه يأمرهم بذلك قال تعالى في كتابه:  وخافوني إن كنتم مؤمنين  [آل عمران:175].

وقال سبحانه:  فلا تخشوا الناس واخشون  [المائدة:44].

ويخافون ربهم عز وجل لما يعلمون من أنه سبحانه وتعالى يقلب القلوب.

هؤلاء المؤمنون الموحدون المحسنون المستقيمون في أعمالهم على طريق المحبة والاستقامة ومع ذلك يخافون ربهم أشد الخوف، لما يعلمون من أنه يقلب القلوب فالقلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء.

قال سبحانه:  واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه  [الأنفال:24].

فمن ذا الذي لا يخاف على قلبه من تقلب الحال وعلى نفسه من انحياد المآل.

لذلك كان  وهو أكرم الخلق على الله كان  يُكثر في يمينه أن يقول: ((ولا مقلب القلوب))[4] وكان يقول في دعائه  : ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))[5].

ويخافون ربهم عز وجل أشد الخوف لما يعلمون أيضًا من أن عملهم قليل، يخافون منه أشد الخوف فرقًا من أنه لا يقبل عملهم الصالح. فهم مشفقون من ذلك أشد الإشفاق وقلوبهم وجلة قال تعالى:  والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون  [المؤمنون:60].

فالمؤمن الحق الصادق الموحد المحسن يخاف ألا يُقبل عمله، لا يغتر بعمله إنه يعلم أنه لن ينجو بعمله إنما ينجو برحمة الله تعالى ومنه وكرمه وعفوه.

وإن كان سبحانه وتعالى قد جعل العمل سببًا للنجاة ولكن العمل ليس مقابلاً للنجاة فلو كان الأمر على سبيل المقابلة ما استحق عبد أن ينجو بعمله مهما كان مقامه.

قال  : ((لن ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال :ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته))[6].

فالمؤمن لا يغتر بعمله أيضًا لأنه يعلم أن النجاة معلقة برحمة الله تعالى ومنّه وكرمه.

المؤمنون الموحدون المحسنون يخافون ربهم أشد الخوف، ولا يزالون في خوف من الله تعالى مازالوا في هذه الدنيا، لا يذهب الخوف من قلوبهم حتى يستقروا في جنته هذا إذا أكرمهم الله عز وجل فأدخلهم في مستقر رحمته وأسكنهم جنته، حين ذلك فقط يذهب الخوف من قلوبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أما ما داموا في هذه الدنيا في هذه الحياة فهم في خوف دائم على أنفسهم لأنهم يعرفون قدر أنفسهم.

هذا حال المستقيمين منهم الذين أعرضوا عن المعاصي فما بالك بالمذنبين الذين يعلمون جناية أنفسهم وتفريطهم في جنب الله تعالى، ما أحراهم أن يكونوا أشد خوفًا لله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانوا يعرفون ربهم فإنهم حينئذ يعلمون أن ربهم سبحانه وتعالى ما أغير منه، [7]إنه يغار أن تُنتهك محارمه.

وأخوف ما يخاف الموحدون المذنبون من أن يُحرموا من التوبة فذلك من أعظم العقوبات أن يجد العبد المذنب باب التوبة موصدًا أمامه فلا يوفق إلى التوبة أبدًا والعياذ بالله. هذا من أعظم العقوبات وهو من أخوف ما يخاف المؤمن الموحد المذنب على نفسه، فالمؤمن الموحد هو في خوف من الله تعالى شديد ورجاء في رحمته كبير ولذلك فإن لإيمانه بالله تعالى مقاماً موزوناً، ولمحبته لله تعالى مقاماً موزوناً بين هذين المقامين.

أما ذلك العابد الجاهل المسكين الذي لا يطمع في جنة ربه ولا يخاف من عذابه فقد أخطأ هذا المقام وحُرم من هذا المقام، أخطأ في دعواه المحبة فإن المحب الصادق الذي يعرف ربه فهو في خوف ولا يأمن على نفسه أبدًا حتى يستقر في جنة ربه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:  وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين  [الأعراف:56].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

000000000000

[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الجهاد باب لا تمنّوا لقاء العدو (3/1101) رقم (3024،3026).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه في النكاح باب الترغيب في النكاح (5/1949).

[3] أخرجه أحمد (4/25و26) والترمذي في الشمائل (323) وأبو داود (904) والنسائي (3/13)وغيرهم.

[4] أخرجه البخاري في صحيحه في القدر باب يحول بين المرء وقلبه (6/2440).

[5] مسند أحمد (3/112، 257) سنن الترمذي (2140،3522).

[6] أخرجه البخاري في صحيحه في الرقاق باب القصد والمداومة على العمل (5/2373).

[7] أخرجه البخاري في صحيحه في التفسير  (4/1696).

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد  وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون  [آل عمران:102].

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا  [الأحزاب:70-71].

وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل:  إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا  [الأحزاب:56].

وقال  : ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[1].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

000000000000

[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

00000000000000000

أثر الأسماء والصفات في الإيمان

 

الحمد لله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وسلم الذي عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وعبده بها حق العبادة ، وبعد: ففي هذه العجالة ستناول عقيدة أهل السنة في باب الصفات وآثار الإيمان بالأسماء والصفات .

الفرق بين الاسم والصفة

يتميز الاسم عن الصفة بأمور منها :

أولاً : أن الأسماء يشتق منها صفات ، أما الصفات ؛ فلا يشتق منها أسماء ، فنشتق من أسماء الرحيم والقادر والعظيم ، صفات الرحمة والقدرة والعظمة ، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر.

ثانياً: أن الاسم لا يُشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال.

ثالثاً: الأسماء يجوز أن يتعبد الله بها فنقول: عبد الكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، لكن لا يُتعبد بصفاته؛ فلا نقول: عبد الكرم، وعبد الرحمة، وعبد العزة.

رابعا: الأسماء يدعى الله بها بخلاف الصفات فنقول : يا رحيم ! ارحمنا ، ويا كريم! أكرمنا ، ويا لطيف! الطف بنا ، لكن لا ندعو صفاته فنقول : يا رحمة الله! ارحمينا،  أو: يا كرم الله ! أو: يا لطف الله ! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف؛ فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفةٌ لله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [إنَّ مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماتِه جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث، وأمَّا دعاء صفاته وكلماته فكفر باتِّفاق المسلمين؛ فهل يقول مسلم: يا كلام الله! اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني، أو: يا علم الله، أو: يا قدرة الله، أو: يا عزَّة الله، أو: يا عظمة الله ونحو ذلك؟! أو سمع من مسلم أو كافر أنَّه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره، أو يطلب من الصِّفـة جلـب منفعة أو دفع مضرَّة أو إعانةً أو نصراً أو إغاثةً أو غير ذلك؟!] .

خامسًا: أن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ] [رواه مسلم]، لكن تختلـف في التعــبد والدعاء.

إن لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى ثمارا مستطابة على قلب العبد المؤمن ،وهذا القلب كلما انطرح في ببيداء المطالعة والتبصر والاعتبار وتعرض لشمس التوحيد التي أشرقت عليه توالت عليه بشائر المعرفة فانصبغ القلب بصبغتها وعُمِرَ باطنه وظاهره بالعبودية وسلم من أدواء الشبهات وأمراض الشبهات ،فغشيته السكينة ونزلت عليه الطمأنية ورزق بإذن بارئه وفاطره الثبات حتى الممات .

التعبد بالأسماء والصفات:

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : وهذا فصل عظيم النفع والحاجة , بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية معرفة واتصافا وذلك : أن الإيمان هو كمال العبد , وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة.

والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها: وقد جعل الله له مواد كبيرة تجليه وتقويه, كما كان له أسباب تضعفه وتوهيه...وأعظمها: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة, والحرص على فهم معانيها, والتعبد لله بها.  فقد ثبت في الصحيحين عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أنه قال : [إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ] رواه البخاري ومسلم .

أي : من حفظها وفهم معانيها, واعتقدها, وتعبد لله بها دخل الجنة . والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فعلم: أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.

ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان, والإيمان يرجع إليها. ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية , وتوحيد الإلهية , وتوحيد الأسماء والصفات . وهذه الأنواع هي روح الإيمان وروحه , وأصله وغايته . فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته, ازداد إيمانه, وقوي يقينه. فينبغي للمؤمن : أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات.

معنى إحصائها:

قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله : [الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد ، وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها ].

وقال العز بن عبد السلام رحمه الله : [فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات ].

مراتب التعبد بالأسماء والصفات:

تنقسم هذه العبادة إلى مراتب ،وهي راجعة إلى يقين القلب وخضوعه وذله لله جل جلاله ،وتفاوت الناس في هذه العبادة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم بفساد الشُبَه المخالفة لحقائقها.

قال العز ابن عبد السلام رحمه الله : [وقد يحصل التحديق إلى هذه الصفات من غير تذكر ولا استحضار ،والعارفون متفاوتون في كثرة ذلك وقلته وانقطاعه ومداومته ،فهم في رياض المعرفة يتقلبون ،ومن نضارة ثمارها يتعجبون ،ولا تستمر الأحوال لأحد منهم على الدوام والاتصال لتقلب القلوب وتنقل الأحوال ، والغفلات حجب على العارف مسدلات ،إن أسدلت على جميعها نكص العارف إلى طبع البشر ،فربما وقعت منه الهفوات والزلات فإذا انكشف الحجاب عن بعض الصفات ظهرت آثار تلك الصفة وأينعت أثمارها].

وأكمل الناس في هذا الباب من تعبد الله بجميع أسمائه وصفاته ونال قصب السبق في عبودية الله بها ،وهذه منزلة تحقيق العبودية بالأسماء والصفات ، قال ابن القيم رحمه الله : [وأكمل الناس عبودية  المتعبد  بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[180]][الأعراف]].

ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات:

1ـ أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلِّي بها على ما يليق به، فالله كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، رفيق يحب الرفـق، فإذا علم العبد ذلك ؛ سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله تعالى أن يتحلَّى بها العبد على ما يليق بالعبد.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: [وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته فانه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال...،وهو سبحانه وتعالى رحيم  يحب الرحماء وإنما يرحم من عباده الرحماء وهو ستير  يحب من يستر على عباده وعفو  يحب من يعفوا عنهم من عباده وغفور  يحب  من يغفر لهم من عباده ولطيف  يحب من اللطيف من عباده ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ ورفيق  يحب الرفق وحليم  يحب الحلم...ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة, فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه ...،فكما تدين تدان وكن كيف شئت فان الله تعالى لك كما تكون أنت لعباده] .

  تورث تعظيمه تعالى :قال الشيخ السعدي رحمه الله : وهو تعالى موصوف بكل صفة كمال , وله من ذلك الكمال الذي وصف به أكمله وأعظمه وأجله , فله العلم المحيط , والقدرة النافذة , والكبرياء والعظمة , حتى أن من عظمته أن السموات والأرض في كف الرحمن كالخردلة في يد المخلوق , ...وهو تعالى ... يستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم, وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته, والذل له والخوف منه, وإعمال اللسان بالثناء عليه, وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى, ويشكر فلا يكفر, ومن تعظيمه وإجلاله أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه, بل يخضع لحكمته, وينقاد لحكمه.

وتعظيم الله تعالى يورث العبد الذل والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى ،[ويحكى عن بعض العارفين أنه قال : دخلت على  الله من  أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.]

3- تورث العبد محبة الله جل جلاله: من تأمل أسماء الله وصفاته وتعلق بها طرحه ذلك على باب المحبة ،وفتح له من المعارف والعلوم أمورا لا يعبر عنها ،وإن من عرف الله أورثه ذلك محبة له سبحانه وتعالى.

وهذه المحبة عاطفة شرعية إيمانية وعبادة قلبية وهي محبة إجلال وتعظيم ،ومحبة طاعة وانقياد يبرهن بها العبد على صدق عبوديته لمولاه تعالى . فالمحبة هي ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته واعتقاد جماله وكماله وجلاله ،والاعتراف بإحسانه وإنعامه .

4- تورث اليقين والطمأنينة: إن قلب العبد لا يزال يهيم على وجهه في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفته يشاشة قلبه ،فحينئذ يبتهج قلبه ويأنس بقربه من معبوده جل جلاله ويحيى حياة طيبة ويصبح فارغا إلا من ذكر الله تعالى وذكر أسمائه وصفاته ويأتيه من روح اللذة والنعيم السرور وريحان الأمان والطمأنينة والحبور ما يعجز عن ذكره التعبير ويقصر عن بيانه التقرير .

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: [وحقيقة الطمأنينة التي  تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كما له إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به فإنه معرفة من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله فلا يزل القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم وقال إذا استوحش من الغربة: قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينة شيئا, فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه.

ومن عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق معرفة خالقه جلا وعلا،وعظمه حق التعظيم فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين ،قال الحبر ابن القيم رحمه الله : [فاليقين هو  الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق  علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم] .

5- تورث زيادة الإيمان: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : [من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيمانا مجملا] فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته , ازداد إيمانه , وقوي يقينه . فينبغي للمؤمن : أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات.

6- تورث زيادة في الطاعات البدنية : لما كان القلب للجوارح  [كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما يشاء فكلها تحت عبوديته وقهره وتكسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يلحه ]  ؛ كانت لهذه الثمرات التي يجنيها القلب من توحيد الله بأسمائه وصفاته سريان إلى الجوارح ،ولا بدَّ ،فكلما [قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه سرى ذل النور إلى الأعضاء وانبعث إليها فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها].

7- تُطْلِعُ العبدَ على خسةِ الدنيا: فالدنيا زائلة خسيسة ومن تعلق بالأسماء الحسنى والصفات العلى تبين له حقيقة هذه الدنيا, قال ابن القيم: [فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها ويرى أهلها وعشّاقها صرعى حولها قد بدّعت [خذلتهم] بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمر الشراب أضحكتهم قليلا وأبكتهم طويلا سقتهم كؤوس سمها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها ،فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقا فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ ] رواه مسلم.

وقال بعض التابعين: [ما الدنيا في الآخرة إلا أقل من ذرة واحدة في جبال الدنيا] ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبعد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم...فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولبس ثياب الخوف والحذر وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.

8- معرفة الأسماء والصفات تجعل العبد يتنقل بين درجات الرجاء والخوف : فالخوف والرجاء جناحي الإيمان وبهما يصل العبد لمرضاة الرحمن،ويظهر أثر الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى في مواطن عدة منها:

* أن العبد إذا آمن بصفة [الحب والمحبة] لله تعالى وأنه سبحانه [رحيم ودود] استأنس لهذا الرب، وتقرَّب إليه بما يزيد حبه ووده له،وحبُّ الله للعبد مرتبطٌ بحبِ العبدِ لله ، وإذا غُرِست شجرةُ المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص،ومتابعة الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أثمرت أنواعَ الثمار، وآتت أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها.

* ومنها : أنه إذا آمن العبد بصفات: [العلم ، والإحاطة ، والمعية] ؛ أورثه ذلك الخوف من الله عَزَّ وجَلَّ المطَّلع عليه الرقيب الشهيد، فإذا آمن بصفة [السـمع]؛ علم أن الله يسمعه؛ فلا يقول إلا خيراً، فإذا آمن بصفات [البصر ، والرؤية ، والنظر ، والعين] ؛ علم أن الله يراه ؛ فلا يفعل إلا خيراً .

* ومن ثمرات الإيمان بصفات الله: أن لا ينازع العبدُ اللهَ في صفة [الحكم، والألوهية، والتشريع ، والتحليل ، والتحريم] ؛ فلا يحكم إلا بما أنزل الله, ولا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله . فلا يحرِّم ما أحلَّ الله، ولا يحل ما حرَّم الله.

* ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ : تَنْزِيه الله وتقديسه عن النقائص، ووصفه بصفات الكمال ، فمن علم أن من صفاته [القُدُّوس، السُّبُّوح ]؛ نَزَّه الله مـن كلِّ عيبٍ ونقصٍ.

* ومنها أن الإيمان بصفة [الكلام] وأن القرآن كلام الله يجعل العبد يستشعر وهو يقرأ القرآن أنه يقرأ كلام الله ، فإذا قرأ: [يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] [الانفطار:6]. أحسَّ أن الله يكلمه ويتحدث إليه، فيطير قلبه وجلاً ، وأنه إذا آمن بهذه الصفة ، وقرأ في الحديث الصحيح أن الله سيكلمه يوم القيامة ، ليس بينه وبينه ترجمان ؛ استحى أن يعصي الله في الدنيا ، وأعد لذلك الحساب والسؤال جواباً.

9- يورث العبد حسن الظن بالله: القلب الممتلئ بأسماء الله وصفاته علما ومعرفة يضع الرجاء بالله تعالى وحسن الظن  في محله اللائق به، فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة وإما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتي إحسان الظن. فإن قيل: بل يتأتي ذلك ويكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وأن رحمته سبقت غضبه وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو قيل: الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر والمؤمن والكافر ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته وأوقع في محارمه وانتهك حرماته بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن فهذا حسن ظن والأول غرور والله المستعان.

في بستان الأسماء والصفات

السميع البصير:

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : كثيرًا ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين ' السميع , البصير ', كمثل قوله : [ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً][النساء: من الآية134]. فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة , فالسميع هو الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات , فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلانيتها , حتى كأنها لديه صوت واحد , لا تختلط عليه الأصوات , ولا تغلطه اللغات , والقريب منها والبعيد والسر والعلانية كلها عنده سواء . قال تعالى: [سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ] [الرعد:10] .  وسمعه تعالى نوعان : أحدهما : سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والخفية , وإحاطته بها إحاطة تامة . والثاني : سمع الإجابة منه للسائلين والعابدين والمتضرعين , فيجيبهم ويثيبهم , ومنه قول العبد في صلاته : سمع الله لمن حمده , أي استجاب الله لمن حمده وأثنى عليه وعبده , ومنه قول إبراهيم عليه السلام : [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ] [ابراهيم:39] .

' وهو البصير ' أي الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات , حتى أخفى ما يكون منها , فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء , ويرى جميع أعضائها الظاهرة والباطنة , حتى أنه يرى سريان القوت في أعضائها الصغار جدا , ويرى سريان المياه في الأشجار وأغصانها وعروقها وجميع النباتات , ويرى نياط عروق النملة والبعوضة وأصغر من ذلك .

فتبارك من تنبهر العقول عند التأمل لبعض صفاته المقدسة , وتشهد البصائر كماله وعظمته ولطفه , وخبرته بالغيب والشهادة والحاضر والغائب والخفي والجلي , ويرى تعالى خيانات العيون بلحظها , أي حين يلحظ العبد منظرا يخفيه على جليسه , فالله تعالى يراه في تلك الحالة التي يحرص على إخفاء ملاحظته عن كل أحد , ويرى تقلب الأجفان حين يقلبها الناظر من آدمي أو ملك أو جني أو حيوان ,وحين يطبقها ويفتحها . قال تعالى: [الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ] [ الشعراء: 218 - 219 ]. وقال تعالى : [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] [غافر:19]

صفة الرحمة: تشمل اسم الرحمن، والرحيم، والرءوف:

المفهوم من الرحمن نوع من الرحمة هي أبعد من مقدورات العباد بالإيجاد أولا ، وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا ،وبالسعادة في الآخرة ثالثا ،وبالإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا .

 

وروى مسلم في صحيحه : [ خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً ].

وقد ورد اقتران الرحمن والرحيم كثيرا في القرآن كما في البسملة والفاتحة ،وفي هذا الاقتران دلالة على سعة الرحمة وشمولها،  كما في صحيح البخاري 'قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ] قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: [ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا].

وإن قام بقلبه شاهد الرحمة رأى الوجود كله قائما بهذه الصفة قد وسع من هي صفته كل شيء رحمة وعلما، وانتهت رحمته إلى حيث انتهى علمه،فاستوى على عرشه برحمته لتسع كل شيء ،كما وسع عرشه كل شيء.

ومعنى الرؤوف : ذو الرأفة وهي شدة الرحمة فهذا الاسم بمعنى الرحيم مع شدة المبالغة ،من رأفة الله أن يصون عباده عن موجبات عقوبته فإن العصمة من الزلل أبلغ في الرحمة من المغفرة للمعصية .

ومن رأفته ما شرعه من العقوبات لمن أخل بأمن المجتمع ، كجلد الزاني في قوله تعالى : [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ] [النور:2] . وقطع يد السارق في قوله تعالى : [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] [المائدة:38] .

ووجه الرأفة في هذا كله: هو أن الله تعالى يغفر لهم هذه الذنوب فلا يعاقبهم عليها في الآخرة كما في الحديث الذي رواه البخاري [.....َلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ].

والوجه الآخر: أنه رحمة بالمجتمع المسلم حتى لا تنتشر فيه الجرائم والموبقات.

الحي القيوم:

الحي إذا أطلق على الله تعالى فمعناه كامل الحياة أي لم يزل حيا ولم يسبق ذلك عدم ولن يلحقه عدم ،فهي حياة أبدية ،بل لا يعتريها حتى مجرد النقص بالنوم .

والقيوم هو القائم بنفسه المستغني بصفاته ونعوت كماله فلا يحتاج لغيره، وهو المقيم لغيره فكل شيء محتاج له، فهو الغنى عن كل شيء في الوجود وكل الوجود محتاج له.

فالكون كله محتاج لقيومته وحياته الدائمة الكاملة ،فجميع الكائنات قائمة به وتدوم به وتبقى في الوجود به، ولو انقطع هذا الانتساب للحي القيوم طرفة عين لانمحى الوجود كله.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله  واصفا حال العبد الذي يتعبد الله بالأسماء والصفات: [..ثم يُفْتَحُ له باب الشعور بمشهد القيومية فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده فيشهده مالك الضر والنفع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فيتخذه وحده وكيلا ويرضى به ربا ومدبرا وكافيا وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه وصفات كماله ونعوت جلاله فلا  يحجبه    خلقه   عنه سبحانه بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء  خلقه] .

فعلى هذين الأسمين مدار الأسماء الحسنى كلها ،وإليهما يرجع معانيها فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ،فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ،فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياةٍ وأتَّمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضادُّ نفيه كمال الحياة ،وأما القيوم فمتضمن كمال غناه وكمال قدرته فإنه القائم بنفسه ـ كما تقدم ـ فلا يحتاج لغيره ، فانتظم هذا الاسمان صفات الكمال أتم انتظام .

صفة المُلكْ: ويشمل اسم الملك ،والمالك،والمليك

ومعناها: التام الملك الجامع لأصناف المملوكات، الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاح إليه كل موجود .

وفي الأمر والنهي تتجلى كذلك صفة الملك إذ هو المعبود الحق يأمر فيطاع.ومن تأمل حديث البخاري الذي رواه عن عبد الله بن مسعود قال :' جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] [الزمر:67] .

الصمد: وقيل في معناه:

الصمد هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج وأصل الصمد القصد, قال البخاري: قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده, وقيل: معناه الدائم, وقيل: الباقي بعد فناء الخلق. قال شيخ الإسلام رحمه الله: [الصمد الذي لا جوف له ومن قال منهم إنه السيد الذي انتهى سؤدده].

فالعبد الذي تعرف على ربه الصمد لا يسأل غيره فهو السيد للكامل في صفاته وهو الذي يسد حاجة من انطرح بين يديه ،وهو الذي يرزق في العاجل والآجل ،وهو الذي يشفى من الأسقام والأمراض .

صفة التَّشْرِيعُ:

فالله جل وعلا هو المشرع فقط ، فالشرع ما أمر به والدين ما سنه ،وما خالف أمره فهو باطل ،وهذه الصفة صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة ، من خصائص ربوبِيَّتِه ، من نازعه فيها فقد كفر، والله هو [[الشارع]] و هو [[المُشَرِّع]] وليسا هما من أسمائه سبحانه [صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَ جل ـ علوي بن عبد القادر السَّقَّاف ].

والدليل من الكتاب : قولـه تعالى : [ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ 000] الآية [الشورى : 13].

والدليل من السنة : حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : [ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى 000] رواه مسلم .

 

وقد كثر في أقوال العلماء إضافة التشريع لله سبحانه وتعالى ومن ذلك :

1- قول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: [[ والعجب ممن يحكِّم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام ]] [أضواء البيان 3/400].

2- قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية: [الشرك الأكبر أن يجعل الإنسان لله نداً إما في أسمائه وصفاته ، و إما أن يجعل له نداً في العبادة 000و إما أن يجعل لله نداً في التشريع بأن يتخذ مشرِّعاً له سوى الله أو شريكاً لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات أو يستحله وإن لم يُرِدْهُ ديناً ] [فتاوى اللجنة الدائمة1/516] .

كما كثر إطلاقهم لكلمة [[الشارع]] و [[المُشَرِّع]] على الله عَزَّ وجَلَّ من باب الصفة .

من:'أثر الأسماء والصفات في الإيمان'

للشيخ/ عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي

 

***************

الباب الثالث- ركن   الدعوة

نعي أليم إلى جنات الخلد الشيخ أحمد يس ورفقاؤه

 

فجعت الأمة الإسلامية فجر هذا اليوم الاثنين غرة صفر 1425هـ، في شيخ من شيوخها الأخيار، ومجاهد من مجاهديها الأبطال، وقائد من قوادها الأطهار، حيث اغتالته هو ومن معه قوى الشر والعدوان، من إخوان القردة والخنازير، وهم خارجون من صلاة الفجر، بصاروخ غاشم ورصاص غادر، متوهمين أنهم بذلك سيوقفون الحركة الجهادية التي يرعاها الشيخ أحمد يس منذ أمد بعيد وهو مقعد، وما علموا أن أمة يقود أحد مقعديها حركة جهادية قضت مضاجع قوى الشر والعدوان في العالم لن تستكين في يوم من الأيام ، ولن يخيفها الغدر والطغيان، بل سيزيدها قوة إلى قوتها، وعزماً وتصميماً بأن طريق الجهاد هو الطريق الوحيد لاسترداد الحق المغصوب والمسجد الأقصى المسلوب.

ولن تفقد الحركة سوى شخص شيخها، وهو فقد كبير، وهي تعلم أن ما عند الله خير له وأبقى، وأن الموت مصير كل كائن، فلا نامت أعين الجبناء.

من لم يمت بالسيف مات بغيره              تعدد الأسباب والموت واحد

والله نسأل أن يجزي الشيخ أحمد يس وصحبه وكل الذين مضوا في هذا الدرب عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يتقبلهم في الشهداء، وأن يبوأهم في الجنة دار السعداء، وأن يبارك في تلك الأشلاء، وأن يرفع الأبناء، وأن يجير الأمة فيهم، ويخلف عليها بخير منهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعل دمه لعنة على اليهود الغاشمين، والنصارى الحاقدين، والمنافقين المخذلين.

عزاؤنا أن الشيخ أحمد يس قُتل مسلماً، مقبلا غير مدبر إن شاء الله، صابراً محتسباً، فماذا يبالي؟!

فلست أبالي حين أقتل مسلمـاً         على أي جنب  كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشـأ         يبـارك على أوصـال شَلْـوٍ ممزَّع

اللهم ارفع علم الجهاد، وأقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغا للحاضر والباد،  وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم

-------------

يا فارس الكرسي

/ د عبد الرحمن العشماوي

 

1.     أكسبوكَ من السِّباقِ رِهانا              فربحتَ أنتَ وأدركوا الخسرانا

2.    هم أوصلوك إلى مُنَاكَ بغدرهم           فأذقتهم فوق الهوانِ هَوانا

3.    إني لأرجو أن تكون بنارهم               لما رموك بها، بلغتَ جِنانا

4.    غدروا بشيبتك الكريمة جَهْرةً             أَبشرْ فقد أورثتَهم خذلانا

5.     أهل الإساءة هم، ولكنْ ما دروا        كم قدَّموا لشموخك الإحسانا

6.    لقب الشهادةِ مَطْمَحٌ لم تدَّخر          وُسْعَاً لتحمله فكنتَ وكانا

7.    يا أحمدُ الياسين، كنتَ مفوَّهاً     بالصمت، كان الصَّمْتُ منكَ بيانا

8.     ما كنتَ إلا همّةً وعزيمةً                 وشموخَ صبرٍ أعجز العدوانا

9.    فرحي بِنَيْلِ مُناك يمزج دمعتي             ببشارتي ويُخفِّف الأحزانا

10. وثََّقْتَ باللهِ اتصالكَ حينما      صلََّيْتَ فجرك تطلب الغفرانا

11. وتَلَوْتَ آياتِ الكتاب مرتِّلاً                    متأمِّلاً تتدبَّر القرآنا

12.  ووضعت جبهتك الكريمةَ ساجداً       إنَّ السجود ليرفع الإنسانا

13. وخرجتَ يَتْبَعُكَ الأحبَّة، ما دروا       أنَّ الفراقَ من الأحبةِ حانا

14. كرسيُّكَ المتحرِّك اختصر المدى       وطوى بك الآفاقَ والأزمانا

15.  علَّمتَه معنى الإباءِ، فلم يكن          مِثل الكراسي الراجفاتِ هَوانا

16. معك استلذَّ الموتَ، صار وفاؤه           مَثَلاً، وصار إِباؤه عنوانا

17. أشلاءُ كرسيِّ البطولةِ شاهدٌ             عَدْلٌ يُدين الغادرَ الخوَّانا

18. لكأنني أبصرت في عجلاته              أَلَماً لفقدكَ، لوعةً وحنانا

19.  حزناً لأنك قد رحلت، ولم تَعُدْ          تمشي به، كالطود لا تتوانى

20. إني لَتَسألُني العدالةُ بعد ما            لقيتْ جحود القوم، والنكرانا

21. هل أبصرتْ أجفانُ أمريكا اللَّظَى        أم أنَّها لا تملك الأَجفانا؟

22.  وعيون أوروبا تُراها لم تزلْ               في غفلةٍ لا تُبصر الطغيانا

23. هل أبصروا جسداً على كرسيِّه            لما تناثَر في الصَّباح عِيانا

24. أين الحضارة أيها الغربُ الذي        جعل الحضارةَ جمرةً، ودخانا

25. عذراً، فما هذا سؤالُ تعطُّفٍ          قد ضلَّ من يستعطف البركانا

26.  هذا سؤالٌ لا يجيد جوابَه               من يعبد الأَهواءَ والشيطانا

27. يا أحمدُ الياسين، إن ودَّعتنا            فلقد تركتَ الصدق والإيمانا

28. أنا إنْ بكيتُ فإنما أبكي على                مليارنا لمَّا غدوا قُطْعانا

29. أبكي على هذا الشَّتاتِ لأُمتي         أبكي الخلافَ المُرَّ، والأضغانا

30.  أبكي ولي أملٌ كبيرٌ أن أرى               في أمتي مَنْ يكسر الأوثانا

31. يا فارسَ الكرسيِّ، وجهُكَ لم يكنْ          إلاَّ ربيعاً بالهدى مُزدانا

32. في شعر لحيتك الكريمة صورةٌ            للفجر حين يبشِّر الأكوانا

33.  فرحتْ بك الحورُ الحسانُ كأنني           بك عندهنَّ مغرِّداً جَذْلانا

34. قدَّمْتَ في الدنيا المهورَ وربما         بشموخ صبرك قد عقدتَ قِرانا

35. هذا رجائي يا ابنَ ياسينَ الذي               شيَّدتُ في قلبي له بنيانا

36. دمُك الزَّكيُّ هو الينابيع التي           تستقي الجذور وتنعش الأَغصانا

37.  روَّيتَ بستانَ الإباءِ بدفقهِ                     ما أجمل الأنهارَ والبستانا

38. ستظلُّ نجماً في سماءِ جهادنا              يا مُقْعَداً جعل العدوَّ جبانا

0000000000000000

ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً

 

قال تعالى :  {  وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) [فصلت/33-36]

الدعوة إلى الله هي وظيفة الرسل، والأنبياء، وأتباعهم، والصالحين، ومن تشبَّه بهم، فالتشبه بالرجال فلاح ونجاح.

قال صلى الله عليه وسلم لعليّ عندما بعثه إلى اليمن داعياً ومفقهاً لأهلها: "لئِن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم".

لقد قصر الله الخيرية في هذه الأمة على المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"، وأوجب على طائفة من هذه الأمة التفرغ للدعوة: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، وقال: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".

والدعوة إلى الله واجبة حسب الطاقة في كل الظروف والملابسات، فيوسف عليه السلام عندما ألقي في السجن ظلماً وعدواناً باشر وظيفته رغم مشاق الحبس وظروفه: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عندما أودع سجن القلعة بدمشق، وعندما سجن كذلك ظلماً وعدواناً بالإسكندرية، لم يحل ذلك بينه وبين وظيفة الدعوة، فقد ظل يباشر الدعوة إلى الله وسط المسجونين، وقد استفادوا من وجوده الشيء الكثير، ولهذا عندما أدخل القلعة تلا قوله تعالى: "وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب".

000000000000000000

ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:

عباد الله إن مما خص الله به نبي هذه الأمة محمداً صلى الله عليه وسلم وخص به رسالتَه والنورَ الذي جاء به أنها رسالةٌ ودعوةٌ عامة للثقلين الجن والإنس ، والعربِ والعجم ،والأسودِ والأبيض ، والذكرِ والأنثى ، والسادةِ والعبيد ،كما قال جل وعلا : (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ، وقال سبحانه : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) ،(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (بعثت إلى الناس كافة وكانت الأنبياء تبعث إلى أقوامهم خاصة ) .

أيها المسلمون: وبعد أن تقرر ما سبق فإن هذه الأمة مأمورة بما أمر بها نبيه فهي مأمورة بتبليغ الدين إلى الناس كافة ،كما قال سبحانه (، وقال سبحانه(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) آل عمران[104]،

هي المكلفة بنشر هذا الدين الذي فيه سعادة البشرية ولا نجاة ولا مخلص للناس إلا بالدخول في هذا الدين والانضواء تحت لواءه والاهتداء بتعاليمه وتشريعاته ، إننا لانشك لحظةً واحدة أن دين الإسلام هو الدين الذي به تحل كل المشاكل العالمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ، وسوف نقف مع هذه العبادة العظيمة والمهمة الجسيمة ، والوظيفة الشريفة وقفات عدة:

الوقفة الأولى : الدعوة إلى الله وظيفةٌ من أشرف الوظائف ،ومهمةٌ من أعظم المهمات.

كيف لا ؟وهي وظيفة الأنبياء والرسل ومهمة كل من أراد الله به خيراً ورفعةً وسعادةً في الدنيا والآخرة ، ولا أعظم وصفاً ولاأصدق قولاً من قول ربنا جل وعلا حيث يقول:( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)فصلت [33] قال الحسن البصري عند هذه الآية :" هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته ، فهذا حبيب الله هذا ولي الله "أ.هـ، فمقام الدعوة من أشرف المقامات ، فياخسارة من قامت حياته ، وذهبت أيامه ولم يكن له نصيب من هذه العبادة العظيمة ، فيا عبدالله تدارك أيامك واضرب بسهم في هذا الميدان المبارك بعلمك أو بجهدك أو بمالك أو برأيك على قدر استطاعتك حتى تنال هذا الشرف العظيم .

الوقفة الثانية : العلم وأثره في الدعوة

الله سبحانه أمر بالدعوة إلى الله وأوجبها على هذه الأمة على كل من قدر وعلى حسب مقدار العلم الذي مع الإنسان ،قال سبحانه (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )يوسف [106]، فالبصيرة : العلم ،و قال سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )النحل [125] فالعلم يتضمن العلم بما تدعوا إليه والعلم بحال الداعي وكلما كان العلم أغزر كانت الدعوة أقوى وأنفذ ، ولكن لا يقعدن بك هذا الأمر وتقول أنا لست من أهل العلم ، فنقول لك : ادع على قدر العلم الذي معك كما قال صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية ) ، وكن دليلاً على الخير ، ومساهماً بمالك ، ورأيك وجهدك فأنت بإذن الله من الدعاة إليه، واعلم أن أجرك عظيم كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)

وقال صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )قال ابن القيم " وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس " أ.هـ وفقنا الله وإياكم لهذه النعمة العظيمة.

الوقفة الثالثة : الحكمة في الدعوة إلى الله هي كما قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على قول الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة):"جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، المعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن"أ.هـ

الوقفة الرابعة : لا تنس إخلاص النية فهي الأساس في الدعوة كما قال جل وعلا (ادع إلى سبيل ربك ) لا إلى سبيل أحد غيره ، وقال في الآية الأخرى(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله) لا إلى نفسي أو إلى مطمع من مطامع الدنيا، ومن خلصت نيته بارك الله له في جهده ووقته وظهر أثر ذلك عليه .

الوقفة الخامسة: شعارك في الدعوة إلى الله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، وأيضاً (إن عليك إلا البلاغ ) ، وقوله(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، وقوله (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )

فيا من تدعوا إلى الله لا تذهب نفسك حسرات ولكن احذر من التقصير في الدعوة إلى الله والعلم والعمل ، فإن لم تجد الثمرة فلا تترك هذا الطريق فإن الهداية وإدخال الإيمان إلى القلوب ليس إليك وإنما إلى الله (إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، والنبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد .

الوقفة السادسة : أن مهمة الدعوة إلى الله يستطيع كل إنسان أن يقوم بها كل على حسب جهده وقدرته كما سبق ولكن مهمتنا نحن أن نرسخها في قلوب الأجيال وفي نفوس الناشئة وفي عقول الناس وتكون من أولى إهتماماتهم فيا أيها المدرس الناصح وأيها المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات ويا أئمة المساجد يا طلاب العلم أيها الموظفون لا تتركوا هذه الوظيفة وهذه المهمة لحظة واحدة من لحظات حياتكم فبها سعادتكم وعزكم ونصر دينكم وظهوره على كل الأديان ، وهنا أقف وقفة عتاب ووقفة تعجب مع ذلكم الكاتب في جريدة الوطن هداه الله الذي كتب مقالاً جرح أفئدتنا وآلم نفوسنا لما عاب على إخواننا المدرسين نصحهم وإرشادهم في المدارس وقال إننا لسنا في مكان للدعوة إلى الله فنقول يا مسلم ياعبدالله نحن بغير الدعوة إلى الله وبغير الدين لا وزن لنا بين الناس ولا عز لنا إلا بهذا الدين فوجب أن نكون كلنا دعاة إليه ،ولا خير فينا إذا لم نكن كذلك فالله الله أيها الإعلاميون اعتزوا بدينكم وانشروه وساهموا في الدعوة إليه وحث الناس على القيام بهذه العبادة العظيمة وفقنا الله وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

د. ناصر بن يحيى الحنيني

0000000000000000000

هل تتمنى أن تكون من العلماء؟

كلٌ منا يتمنى أن يكون عالماً عاملاً، وخطيباً مفوهاً، وقدوة حسنة، وإماماً في كل خير؛ وحُق للعبد تلك الأماني السامية عندما يطرق سمعه قول الله - تعالى-: ((ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ))[سورة فصلت أية 33]، وتزداد تلك الرغبة عندما يتذكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (العلماء ورثة الأنبياء)، وقوله: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)[رواه مسلم]، وتبلغ تلك الأمينة أقصاها عندما يبلغه قول المصطفى الهادي بإذن ربه إلى صراط مستقيم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)[رواه مسلم]  قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره: (( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله )): "أي دعا عباد الله إليه، (( وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )): أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق - تبارك وتعالى - وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بذلك"[تفسير القرآن العظيم 4/126].

والعبد إذ يتمنى ذلك ليس هدفه أن يُشار إليه بالبنان، ولا ليستجديَ العطف والإحسان، بل هي الرغبة الصادقة في الآخرة، وابتغاء وجه الله - عز وجل - مستصحباً معه قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - متوعداًً المرائيين، ومحذراًً الذين يريدون بعلمهم الدنيا : (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة - وذكر منهم - رجلاً تعلم العلم ليقال عالم وقارئ فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار )[أخرجه الترمذي]، (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة - يعني ريحها - يوم القيامة)[رواه أحمد].

لقد مدح الله - تعالى- العلم والعلماءـ وأثنى عليهم ثناءً ينفض عن الكسالى غبار الكسل، ويطمع الزاهدين فيه لتحصيله، ويحث العلماء على طلب المزيد منه (( وقل رب زدني علماً ))، والنصوص في ذلك كثيرة حسبنا منها قول الله - عز وجل -: (( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )) قال السعدي - رحمه الله - عند هذه الآية: "فكل مَنْ كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته كما قال - تعالى-: ((رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه))" فالعلماء هم أهل خشية الله - تعالى-، وكفى بالخشية خصلة فقد أخبر الله - عز وجل - عن الملائكة بأنهم: ((يخشون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون))، وقال في وصف الأنبياء والمرسلين والمتقين: (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً ))[سورة الأنبياء: 90]، وقال: (( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون))[سورة المؤمنون: 57]، وبالجملة فالخشية هي التي تدفع العبد لفعل الطاعات، وتزجره عن المعاصي والسيئات، وتورثه - بإذن الله - أعلى الجنات، فمن رغب - بعد سماع النصوص المرغبة في العلم - عنه فليبكِ على نفسه، وينوح عليها، وليرفع يديه إلى مولاه قائلاً : (اللهم إني أسألك علماً نافعاً)[رواه ابن السني] كما كان يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

إن شغلك طلب الرزق، وألهتك معايشك عن تحصيل العلم؛ رغم نيتك الصادقة في أن تلحق بركب العلماء فتذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلياً نفسك؛ وهو يخبر عن رجل عالم وآخر يتمنى أن يكون له مثل علمه فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها فيقول: يا ليت لي مثل علمه لعملت مثله، قال: فهم في الأجر سواء)، فانظر كيف كانوا في الأجر سواء لأن الأمر كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات)، وهذا فضل الكريم الواسع ذو الفضل العظيم الذي لو أعطى عباده كلهم سؤلهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، إنما هي نية صادقة من قلب سليم مخلص، وهذه النية لا تغنيك عن طلب العلم، بل سعيك في طلب العلم هو تصديق لتلك النية، عسى الله أن يفتح علينا من علمه، ويفيض علينا من بركاته.

تنبيه مهم:  على العبد أن يعلم أنه لا بد له من تعلم الفقه الذي هو فرض عين وهو "معرفة معنى الشهادتين ومقتضاهما وما يناقضهما، ومعرفة أصول العقيدة الإسلامية؛ إذ العقيدة هي الفقه الأكبر، ومعرفة ما تصح به عبادة المرء من أحكام الطهارة والصلاة إجمالاً، وأحكام الزكاة إن كان عنده ما يزكيه، ومعرفة أحكام المعاملات ما يحل منها وما يحرم إن كان له تجارة حتى لا يقع في الحرام، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)[رواه الطبراني في الأوسط والكبير]"،  وإن قعدت بنا ذنوبنا عن تحصيل العلم لأن: (العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه) فكيف بالعلم الذي هو سبب حياة القلب في الدنيا وسلامته الآخرة؛ فلنتب إلى الله - عز وجل -، وإن لم نكن علماء فلنكن متعلمين، وليسلم إخواننا وعلماءنا من ألسنتنا كما قال أحد السلف: "كن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتهلك".

إنّ دلالة الناس على الخير الذي من أعظمه العلم - بل هو الخير كله -، هذه الدلالة على العلم من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، وأسهل سبيل لتحصيل الحسنات من عدة جهات في وقت واحد: فيأتيك أجر صائم وقائم، ومتصدق وعابد كنت أنت السبب في دلالتهم على الخير، وهدايتهم إليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)[رواه مسلم]، فلعلك ترشد عبداً من عباد الله إلى عالم ليصحبه، أو لدرس شيخ، أو تحثه على طلب العلم بأي وسيلة فيصبح عالماً صالحاً يأتي عمله هو ومن تبعه في ميزان حسناتك من غير أي نقص في أجورهم، وأمثلة الدلالة على الخير كثيرة تتعجب منها، ولعل قصة الإمام الذهبي - العالم المشهور - من تلكم الأعاجيب:

أنّ أحد مشايخه رأى خطه فقال له: إنّ خطك يشبه خط المحدثين، قال: فوقع حب الحديث في قلبي، وصدق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين قال: (وإن الرجل ليتكلم من رضوان الله - عز وجل - ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله - عز وجل - له بها رضوانه إلى يوم القيامة)[أخرجه أحمد].

كاتب المقال: عبد العليم صديق

المصدر: المختار الإسلامي

0000000000000000000

الاعتدال في الدعوة

للشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحقّ ، فبلغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .

أما بعد :

فيسرني أن ألتقي بكم هذا اللقاء في موضوع مهم يهمّ المسلمين جميعهم ، ألا وهو الدعوة إلى الله عزّ وجل .

قال تعالى : {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، والاستفهام في الآية بمعنى النفي ، أي : لا أحسن قولاً .

والغرض من الإتيان بالاستفهام في موضع النفي إفادة أمرين :

الأول - انتفاء هذا الشيء .

الثاني - تحدي المخاطب أن يأتي به ، فالاستفهام مشربٌ معنى التحدي ، أي: إذا كان عندك شيء أحسن من هذا فأتِ به ، ولكننا نقول : لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال إنني من المسلمين .

والدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته ، ودعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام تدور على ثلاثة أمور :

أولاً - معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .

ثانياً - معرفة شريعته الموصلة إلى كرامته .

ثالثاً - معرفة الثواب للطائعين والعقاب للعاصين .

والدعوة إلى الله تعالى أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح إلا بها كما قال الله تعالى: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر . إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر}.

فإن التواصي بالحقّ يلزم منه الدعوة إلى الحق ، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله تعالى في أصوله وفروعه .

إن الدعوة إلى الله صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط .

أما الطرفان فجانب الإفراط ، بحيث يكون الداعية شديداً في دين الله يريد من عباد الله تعالى أن يطبقوا الدين بحذافيره ، ولا يتسامح عن شيء الدين يسمح به، بل إنه إذا رأى من الناس تقصيراً حتى في الأمور المستحبة تأثر تأثراً عظيماً ، وذهب يدعو هؤلاء القوم المقصرين دعاء الغليظ الجافي ، وكأنهم تركوا شيئاً من الواجبات، ومن الأمثلة على ذلك :

المثال الأول : رجل رأى جماعة من الناس لا يجلسون عند القيام إلى الركعة الثانية ، أو عند القيام إلى الركعة الرابعة ، وهي التي تسمى عند أهل العلم جلسة الاستراحة ، هو يرى أنها سنة ، ومع ذلك إذا رأى من لا يفعلها اشتدّ عليه ، وقال : لماذا لا تفعلها؟ ويتكلم معه تكلم من يظهر من كلامه أنه يقول بوجوبها ، مع أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن هذه الجلسة ليست بواجبة ، وأن خلاف العلماء فيها دائر بين ثلاثة أقوال :

القول الأول : أنها مستحبة على الإطلاق .

القول الثاني : ليست مستحبة على الإطلاق .

القول الثالث : أنها مستحبة لمن كان يحتاج إليها ، حتى لا يشقّ على نفسه كالكبير ، والمريض ، ومن في ركبه وجعٌ ، وما أشبه ذلك .

فيأتي بعض الناس ، ويشدد فيها ، ويجعلها كأنها من الواجبات .

المثال الثاني: بعض الناس يرى شخصاً إذا قام بعد الركوع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، قال : أنت مبتدع لا بد أن تسدل يديك ، فإن وضعتهما على الصدر فإن ذلك من البدع والمنكرات ، مع أن المسألة مسألة اجتهادية ، وقد يكون الدليل مع من قال : إن اليدين توضعان بعد الركوع على الصدر ، كما توضعان قبله أيضاً على الصدر؛ لأن هذا هو مقتضى الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)).

المثال الثالث : كذلك بعض الناس ينكر على من يصلّي إذا تحرك أدنى حركة، وإن كانت هذه الحركة مباحة ، وقد ورد في السنة ما هو مثلها أو أكثر ، فتجده ينكر عليه الإنكار العظيم ، حتى إنه يجعل هذا الأمر هو محل الانتقاد في هؤلاء القوم ، مع أنها حركة مباحة جائزة ورد نظيرها ، أو ما هو أكثر منها في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا تشديد. وكان أبو جحيفة رضي الله عنه ذات يوم يصلي وقد أمسك زمام فرسه بيده ، فتقدمت الفرس ، فذهبرضي الله عنه وهو يصلي يسايرها شيئاً فشيئاً حتى انتهى من صلاته ، فرآه رجل من نوع هذا المتشدد، فجعل يقول : انظروا إلى هذا الرجل - وأبو جحيفة صحابي جليل رضي الله عنه فلما سلم أبو جحيفة بيّن لهذا الرجل أن مثل هذا العمل جائز، وأنه لو ترك فرسه لذهبت ولم يحصل عليها إلى الليل ، فانظر إلى الفقه في الشريعة والتسامح والتيسير فيها .

وهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه وهو يحمل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدّ هذه الطفلة - فكان يصلي بالناس حاملاً هذه الطفلة ، فإذا قام حملها ، وإذا سجد وضعهاصلى الله عليه وسلم هذا فيه حركة ، وفيه ملاطفة للطفلة، وفيه أنه يؤمّ الناس فقد يلتفت بعضهم لينظر ماذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الطفلة . ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الناس لله تعالى وأعلمهم بما يتقي - كان يفعل ذلك .

ومثال آخر : اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله في السّرّ ، فأخبروا بذلك ، فتقالّوا عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر ، ولكن نحن بحاجة إلى عمل أكثر ليغفر الله لنا ذنوبنا، فقال أحدهم : أنا أصوم ولا أفطر . وقال الثاني : أنا أقوم ولا أنام . وقال الثالث : أنا لا أتزوج النساء ، فبلغ قولهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منّي )) . هذا كله يدل على أنه لا ينبغي لنا ، بل لا يجوز لنا أن نغلو في دين الله ، سواء أكان في دعاء غيرنا إلى دين الله ، أم في أعمالنا الخاصة بنا ، بل نكون وسطاً مستقيماً كما أمرنا الله تعالى بذلك ، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يقول: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون}. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )) ، وأخذ حصيات وهو في أثناء مسيره من مزدلفة إلى منى أخذ حصيات بكفه وجعل يقول : (( يا أيها الناس بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين )).

وضد ذلك : من يتهاون في الدعوة إلى الله تعالى فتجده يرى الفرص مواتية والمقام مناسباً للدعوة إلى الله ، ولكن يضيع ذلك ، تارة يضيعه لأن الشيطان يملي عليه أن هذا ليس وقتاً للدعوة ، أو أن هؤلاء المدعوين لن يقبلوا منك ، أو ما أشبه ذلك من المثبطات التي يلقيها الشيطان في قلبه ، فيفوت الفرصة على نفسه .

وبعض الناس إذا رأى مخالفاً له بمعصية بترك أمر أو فعل محظور كرهه ، واشمأز منه ، وابتعد عنه ، وأيس من إصلاحه ، وهذه مشكلة ، والله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن نصبر ، وأن نحتسب ، قال الله تعالى لنبيه : {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغٌ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}. فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب ، ولو رأى على نفسه شيئاً من الغضاضة، فليجعل ذلك في ذات الله تعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أدميت إصبعه في الجهاد ، قال : هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت.

وهذا عكس الأول حتى إن هذا ليرى الأمر بعينه ، ويسمعه بأذنه يجد هذا الأمر المخالف لشريعة الله ، ولا يدعو الناس إلى الاستقامة وعدم معصية الله تعالى ومخالفته ، بل إنّا نسمع أن بعض الناس يقول :

يجب أن تجعل الأمة الإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام ، وتتجه في صلاتها إلى القبلة ، يجب أن تكون طائفة واحدة غير متميزة ، لا يفرق بين مبتدع وصاحب سنة ، وهذا لا شك خطأ وخطل وخطر ؛ لأن الحق يجب أن يميز عن الباطل ، ويجب أن يميز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل حتى يتبيّن، أما لو اندمج الناس جميعاً، وقالوا : نعيش كلنا في ظل الإسلام، وبعضهم على بدعة قد تخرجه من الإسلام، فهذا لا يرضى به أحد ناصح لله، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

ويوجد أناس يستطيعون الدعوة إلى الله ؛ لما عندهم من العلم والبصيرة ، ويشاهدون الناس يخلّون في أشياء ، ولكن يمنعهم خوف مسبة الناس لهم ، أو الكلام فيهم أن يقولوا الحق ، فتجدهم يقصرون ويفرطون في الدعوة إلى الله تعالى وهؤلاء إذا نظروا إلى القوم الوسط الذين تمسكوا بدين الله على ما هو عليه إذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون ، إن هؤلاء لمتعمقون ، إن هؤلاء لمتشددون متنطعون ، مع أنهم على الحق .

وإذا نظر إليهم المفرطون الغالون قالوا: أنتم مقصرون لم تقوموا بالحق، ولم تغاروا لله تعالى ، ولهذا يجب أن لا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله صلى الله عليه وسلم رسمه لنا رسماً بيّناً، فإذا دار الأمر بين أن أشدّد أو أيسّر، بمعنى أنني كنت في موقف حرج لا أدري الفائدة في الشدة أم الفائدة في التيسير والتسهيل ، فأيهما أسلك؟

أسلك طريق التيسير ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الدين يسر ))، ولما بعث معاذاً و أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: (( يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ))، ولما مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال السّام عليك يا محمد يريد الموت عليك ؛ لأن السام بمعنى الموت - وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت : ((عليك السّام واللعنة )) فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام : (( إن الله رفيق يحب الرفق ، وإن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف ))، فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: (( إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف)) عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن أستعمل الشدة ، أو أستعمل السهولة كان الأولى أن أستعمل السهولة ثقة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (( إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف )).

ومن أراد أن يفهم هذا الأمر فليجرب؛ لأنك إذا قابلت المدعو بالشدة اشمأز ونفر وقابلك بشدة مثلها ، إن كان عامّياً قال: عندي علماء أعلم منك ، وإن كان طالب علمذهب يجادلك ، حتى بالباطل الذي تراه مثل الشمس ، وهو يراه مثل الشمس ، ولكنه يأبى إلا أن ينتصر لنفسه ؛ لأنه لم يجد منك رفقاً وليناً، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة . والحق لا يخفى إلا على أحد رجلين : إما معرض وإما مستكبر ، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد فإنه بلا شك سيوفق له .

ومن التطرف ما يكون من الآباء والأمهات في زمننا هذا حين صار الشباب - ولله الحمد - من ذكور وإناث عندهم اتجاه إلى العمل بالسنة بقدر المستطاع ، صار بعض الآباء والأمهات يضايقون هؤلاء الشباب من بنين وبنات في بيوتهم ، وفي أعمالهم حتى إنهم لينهونهم عن المعروف ، مع أنه لا ضرر على الآباء في فعله ، ولا ضرر على الأبناء أو البنات في فعل هذا المعروف ، كمن يقول لأولاده: لا تكثروا النوافل لا تصوموا البيض، أو الاثنين، أو الخميس، أو ما أشبه ذلك، مع أن هذا لا يضر الوالدين شيئاً ، ولا يحول دون قضاء حوائجهما ، وليس بضار على الابن في عقله ، أو بدنه ، أو في درسه ، ولا على البنت كذلك .وأنا أخشى على هؤلاء القوم أن يكون هذا النهي منهم لأولادهم كراهة للحق والشريعة ، وهذا على خطر ، فالذي يكره الحق أو الشريعة ربما يؤدي به ذلك إلى الردة ؛ لأن الله تعالى يقول : {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}. ولا تحبط الأعمال إلا بردة عن الإسلام كما قال الله تعالى : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. هذا مثال من الشدة في أولياء الأمور .

أما بالنسبة للأولاد من بنين أو بنات إذا كانوا متمشين في مناهجهم وسيرهم على شريعة الله ، فليسوا في شدة .

وهناك في المقابل من يكون شديداً من الأولاد بنين وبنات على أهله ، بحيث لا يتسع صدرهم لما يكونون عليه من الأمور المباحة ، فتجده يريد من أبيه أو أمه أو إخوته أن يكونوا على المستوى الذي هو عليه من الالتزام بشريعة الله ، وهذا غير صحيح ، فالواجب عليك إذا رأيتهم على منكر أن تنهاهم عنه ، أما إذا رأيتهم قد قصروا في أمر يسعهم التقصير فيه كترك بعض المستحبات فإنه لا ينبغي لك أن تشتد معهم ، وكذلك في بعض الأمور الخلافية يجب عليك إذا كانوا مستندين إلى رأي أحد من أهل العلم أن لا تضيق بهم ذرعاً ، وأن لا تشتد عليهم .

فالذي ينبغي للإنسان سواء أكان داعية لغيره إلى الله ، أم متعبداً لله أن يكون بين الغلو والتقصير، مستقيماً على دين الله تعالى كما أمر الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.

وإقامة الدين: الإتيان به مستقيماً على ما شرعه الله تعالى ، ولا تتفرقوا فيه، نهى عن ذلك سبحانه وتعالى؛ لأن التفرق خطره عظيم على الأمة أفراداً وجماعات.

والتفرق أمر مؤلم ومؤسف؛ لأن الناس إذا تفرقوا كما قال الله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، فإذا تفرق الناس، وتنازعوا فشلوا وخسروا وذهبت ريحهم، ولم يكن لهم وزن، وأعداء الإسلام ممن ينتسبون للإسلام ظاهراً، أو ممن هم أعداء للإسلام ظاهراً وباطناً يفرحون بهذا التفرق، وهم الذين يشعلون ناره، ويلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة الدعاة إلى الله ، فالواجب أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه، وأن نكون يداً واحدة ، وأن نكون إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله تعالى ، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة ، والتفرق هو قرة عين شياطين الإنس والجن ؛ لأن شياطين الإنس والجن لا يودون من أهل الحق أن يجتمعوا على شيء ، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله تعالى ويدل على هذا قوله تعالى : {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}، وقوله : {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.

فالله تعالى قد نهانا عن التفرق ، وبيّن لنا عواقبه الوخيمة ، والواجب علينا أن نكون أمة واحدة ، وكلمة واحدة ، وإن اختلفت آراؤنا في بعض المسائل ، أو في بعض الوسائل ؛ فالتفرق فساد وشتات للأمر ، وموجب للضعف ، والصحابة -رضوان الله عليهم - حصل بينهم اختلاف لكن لم يحصل منهم التفرق ولا العداوة ولا البغضاء ، حصل بينهم الاختلاف حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : (( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ))، وخرجوا - رضوان الله عليهم - من المدينة إلى بني قريظة ، وحان وقت صلاة العصر ، فاختلف الصحابة ، فمنهم من قال : لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس ؛ لأن الرسولصلى الله عليه وسلم قال : (( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة )) فنقول سمعنا وأطعنا .

ومنهم من قال : إن النبي - عليه الصلاة والسلام - أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت صلينا الصلاة لوقتها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحداً منهم ، ولم يوبخه على ما فهم ، وهم بأنفسهم لم يتفرقوا من أجل اختلاف الرأي في فهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا يجب علينا أن لا نتفرق، وأن نكون أمة واحدة .

قد يقول قائل : إذا كان المخالف صاحب بدعة ، فكيف نتعامل معه ؟ .

فأقول : إن البدع تنقسم إلى قسمين :

القسم الأول: بدع مكفرة .

القسم الثاني: بدع دون ذلك .

والواجب علينا في القسمين كليهما أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام، ومعهم البدع المكفرة وما دونها، إلى الحق ببيان الحق، دون أن نهاجم ما هم عليه إلاّ بعد أن نعلم منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}، فندعو أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته ، والحق مقبول لدى ذي كل فطرة سليمة ، فإذا وجد منهم العناد والاستكبار فإننا نبيّن باطلهم على أن بيان باطلهم في غير المجادلة معهم أمر واجب .

أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛ فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجرهم، وإذا كانت دون ذلك فإننا ننظر إلى الأمر ، فإن كان في هجرهم مصلحة فعلناه ، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه ، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث )) فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة، أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة .

وحل هذه المشكلة : أعني مشكلة التفرق أن نسلك ما سلكه الصحابة رضي الله عنهم وأن نعلم أن هذا الخلاف الصادر عن اجتهاد في مكان يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤثر، بل إنه في الحقيقة وفاق؛ لأن كل واحد منا أخذ بما رأى بناءً على أنه مقتضى الدليل، إذن فمقتضى الدليل أمامنا جميعاً ، وكل منا لم يأخذ برأيه إلاّ لأنه مقتضى الدليل، فالواجب على كل واحد منا أن لا يكون في نفسه على أخيه شيء، بل الواجب أن يحمده على ما ذهب إليه ؛ لأن هذه المخالفة مقتضى الدليل عنده .

ولو أننا ألزمنا أحدنا أن يأخذ بقول الآخر ، لكن إلزامي إياه أن يأخذ بقولي ليس بأولى من إلزامه إياي أن آخذ بقوله ، فالواجب أن نجعل هذا الخلاف المبني على اجتهاد أن نجعله وفاقاً ، حتى تجتمع الكلمة ، ويحصل الخير .

وإذا حسنت النية سهل العلاج ، أما إذا لم تحسن النية ، وكان كل واحد معجباً برأيه ، ولا يهمه غيره ، فإن النجاح سيكون بعيداً .

وقد أوصى الله عباده بالاتفاق ، فقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، فإن هذه الآية موعظة للإنسان أي موعظة .

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين، والصلحاء المصلحين إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين

0000000000000000000

احذر أخي الحاكم استحلال القتل، والحبس، والتنكيل لإخوانك المسلمين باسم الإرهاب

 

لقد استطاع الكفار اليهود والنصارى لعنهم الله أن يغيروا كثيراً من المفاهيم الإسلامية، وأن يقلبوا الموازين الشرعية، حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والحق باطلاً والباطل حقاً، والجهاد المشروع إرهاباً، والإرهاب الذي يمارسه الكفار باسم الشرعية الدولية عدلاً ورحمة.

ويعود ذلك لأسباب هي:

1.  الحملات الإعلامية المكثفة التي تبثها وسائل الإعلام الكافرة، فقد أضحى للإعلام دور كبير في التأثير على الناس، لتقدم وسائل الاتصال وكثرتها، مما جعل العالم كله عبارة عن قرية صغيرة، ولضعف وسائل الإعلام الإسلامية وتأثرها بمايبثه الكفار.

2.  حرب المصطلحات التي انتهجها الكفار منذ القرن الماضي، التي أتت ثمارها في فرض والترويج لما يريدون فرضه وترويجه.

3.  تقدم الكفار الصناعي والعسكري مكَّنهم من فرض سيطرتهم وهيمنتهم على العالم، وولد في المسلمين روح الانهزام والتبعية للكفار، وهذه دائماً حال المغلوب مع الغالب.

4.  انتهاج الكافر المستعمر ـ بعد أن أسقطوا الدولة العثمانية ـ لسياسة "فرِّق تسُد"، التي قسَّموا من أجلها الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة، بحدود وهمية، وخلفوا في كل دولة منها قبل خروجهم الصوري والاستقلال الرسمي الذي منحوه لتلك الدول ألغاماً موقوتة، سرعان ما تفجرت، نتج عنها أمران، هما:

أ.   تفرق المسلمين، وتشتتهم، وتنافرهم، وتباغضهم، بل وتحاربهم.

ب. موالاة جل حكام المسلمين للكفار، واعتمادهم عليهم في حماية أنظمتهم.

5.  إيهام الكفار لبعض حكام المسلمين بخطورة الجماعات الإسلامية على أنظمتهم وعروشهم، مما خلق عداوة وهمية مع هذه الجماعات، وحاجزاً نفسياً جعل من العسير خلق جسور تفاهم وتقارب بين الطائفتين.

لهذه الأسباب ولغيرها هان على كثير من حكام المسلمين القيام بحملات عنيفة للتفتيش، والتضييق، والحبس، والتقتيل إن دعا الحال لإخوانهم المسلمين، وتسليم بعض اللائذين بهم الفارِّين بدينهم من حكامهم إليهم أوإلى الكفار، وهم يعلمون أن مصيرهم القتلَ والتنكيل.

واستباحوا ممارسة انتهاك هذه الحُرَم بهذه التهمة التي اختلقها الكفار، وفي كثير من الأحيان من غير حجة ولا برهان، وإنما أخذاً بالظنون الفاسدة والتخيلات الكاذبة.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً ومرفوعاً قال: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء، يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالريبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع".

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (فإن الثلاثة المذكورة أولاً قد سنت، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضاً، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة.

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بذلك، فقال: "إن من ضئضئي هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، ولعل هؤلاء المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يصبح الرجلُ مؤمناً ويمسي كافراً" الحديث، يدل عليه تفسير الحسن قال: يصبح محرِّماً لدم أخيه وعرضه، ويمسي مستحلاً، إلى آخره).

لماذا لم يسلك حكامنا مع هؤلاء الشباب ومع غيرهم ما سلكه سلفنا الصالح مع الخارجين عليهم وعلى الدين؟ لماذا لم يناظروهم، ويجادلوهم، ويؤمنوهم، كما فعل عليّ، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من حكام المسلمين؟

روى ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما اجتمعت الحرورية يخرجون على عليّ، جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك؛ قال: دعهم حتى يخرجوا؛ فلما كان ذات يوم قلتُ: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم؛ قال: فدخلتُ عليهم وهم قائلون.. إلخ)

فناظرهم ابن عباس ورجع منهم ألفان، ولم يخرج على عليّ منهم إلا من كتب له الشقاء.

واللهَ أسألُ أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل الرشاد، وصلى الله وسلم على محمد خير العباد، وعلى آله وصحبه الأمجاد

000000000000000000

ما أشد حاجة الدعاة إلى الله إلى الرفق !

 

الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

لقد أمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يرفقا بعدو الله وعدو نفسه فرعون، مع سابق علمه بكِبْره، وصلفه، وكفره، وعناده، قائلاً: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى".

ما أمس حاجتنا معشر المسلمين، سيما الدعاة، إلى الرفق والتلطف في شأننا كله، في:

1.   معاملتنا لأهلينا ومن نعول.

2.   معاملتنا للآخرين.

3.   تعليمنا للناس.

4.   دعوتنا لهم.

5.   الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لقد مدح اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، وشهد له بحسن الخلق فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم"، ووصفه بصفتين من صفاته العلا، فقال: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه من عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".

وقال تعالى: "وقولوا للناس حسناً"، أي خاطبوا جميع المخلوقين بالحسنى، وقال مخاطباً الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، جاء في تفسيرها: (هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين، دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورُجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة، والله أعلم).

لقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم والرفق والرفقاء، وبيَّن أن الله عز وجل رفيق يحب الرفق، فقال لأشج عبد القيس رضي الله عنه: "إن فيك  خَصلتين يحبهما الله: الحِلم والأناة".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق كله".

وفي رواية عنها لمسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".

وعنها كذلك عند مسلم: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".

وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لا تكوني فاحشة، فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء".

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وقولوا للناس حسناً: (قال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به، وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً، مع البرِّ والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يُرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: "فقولا له قولاً ليناً"، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله باللين معه، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ؛ فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: "وقولوا للناس حسناً"، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنفي؟!).

قال يحيى بن معاذ رحمه الله في تفسير قوله: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى" مخاطباً ربه: (هذا رفقك بمن يقول أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟!).

وقد قيل إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان، فقال: لا تفعل، بعد أن كنت ملكاً تصير مملوكاً، وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً؟!

فويل لهامان من فرعون، وويل لفرعون من هامان، والويل ثم الويل لكل من اقتدى بفرعون وهامان من الحكام، والوزراء، والمستشارين، الذين يزينون الباطل ويصدون عن الحق.

وعلى العكس من ذلك فإن الغلظة، والفظاظة، والعنف، والشدة، والفحش، والتفحش لا تأتي بخير قط إلا مع الكفار المعاندين والمنافقين الجاحدين، كما قال تعالى: "إلا الذين ظلموا منهم"، بعد أن تستنفد معهم الوسائل اللينة.

000000000000000

الحكمة في الدعوة إلى الله

 

أهمية الحكمة في الدعوة

يقول الله ـ تعالى ـ : ( يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب) البقرة: 269 ، إذا فالحكمة منة ، ونعمة عظيمة من الله ـ تعالى ـ يمتن بها على من يشاء من عبادة ، وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران.

ويعرف ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ الحكمة بأنها : ( فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ) مدارج السالكين .

يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) أي كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة، الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبدأة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، و إلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر، والنهي المقرون بالترغيب والترهيب ...

إذا فالحكمة في الدعوة أمر مطلوب ، والداعي إلى الله مأمور بتوخي الحكمة حين دعوته ومصداق ذلك قول الله ـ تعالى ـ : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل: 125 ، وقوله ـ سبحانه ـ : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) يوسف: 108.

وحينما طبق الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الحكمة في دعوتهم ، وساروا على هدي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهجه دخل الناس في الإسلام أفواجا ، وانتشر الإسلام في بقاع الأرض

لكن لا يُفهم من الحكمة في الدعوة أنها تعني الرفق ، والحلم مع المدعو فحسب ، بل إن مراتب الحكمة تتجاوز ذلك كثيرا.

فمن الحكمة أن يكون الداعي رفيقا لينا مع المدعوين كما قال ـ تعالى ـ عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر... ) آل عمران : 159 ، وقال ـ سبحانه ـ مخاطباً موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) طه: 43-44.

و من الحكمة أحيانا استخدام الشدة والتأنيب أحيانا ، ذلك لأن الحكمة تعني وضع كل شيء في موضعه ، فهي لين في وقت اللين ، وشدة في وقت الشدة . يقول الله ـ تعالى ـ على لسان موسى ـ عليه السلام ـ مخاطبا فرعون لما طغى وتكبر : ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) الإسراء: 102 ، ويقول ـ تعالى ـ : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين و اغلظ عليهم ومأواهم جهنم و بئس المصير ) التوبة: 73

وإن من الحكمة أيضا أن يكون الداعي قدوة في قوله وفعله ، يقول الله ـ تعالى ـ : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف: 2-3.

ومن أصول الحكمة مراعاة حال المدعوين ، إذ ليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الدعوة مع الكبير والصغير ، والرجل و المرأة ، والمتعلم والجاهل ، والرئيس والمرؤوس ، والهادئ والغضوب ، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة كل بما يناسبه. يقول ـ تعالى ـ: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ...) إبراهيم: 4.

إن الداعي الناجح هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالأسلوب الذي يناسبه ، ويناسب مداركه .

يقول سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : ( ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعـدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر ) من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص/64

ومن مراتب الحكمة المجادلة بالتي هي أحسن من ضرب الأمثلة ، وبيان الحق بالأدلة العقلية والنقلية ، وإعطاء الحجج الصادقة، ونقض الحجج الباطلة، مع تحري الوصول إلى الحق ، يقول الله ـ تعالى ـ: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) العنكبوت: 26. وليحذر الداعي أن يتحول قصده من الدعوة إلى إظهار التفوق في النقاش، أو الغلبة في الجدل، ولكن ليكن القصد والغاية الإقناع والوصول إلى الحق.

كما أن من أعلى المراتب التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله دفع السيئة بالحسنة ، وهي مرتبة رفيعة لا ينالها إلا فئة نالت حظا عظيما كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) فصلت: 34-35.

وفي جميع الأحوال يجب على الداعي قول الحق، والصبر على الأذى، صبر المؤمنين العاملين، لا صبر الخانعين المستسلمين. روى البخاري عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

زاحف

شبكة الفجر

===========

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:

عباد الله إن مما خص الله به نبي هذه الأمة محمداً صلى الله عليه وسلم وخص به رسالتَه والنورَ الذي جاء به أنها رسالةٌ ودعوةٌ عامة للثقلين الجن والإنس ، والعربِ والعجم ،والأسودِ والأبيض ، والذكرِ والأنثى ، والسادةِ والعبيد ،كما قال جل وعلا : (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ، وقال سبحانه : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) ،(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (بعثت إلى الناس كافة وكانت الأنبياء تبعث إلى أقوامهم خاصة ) .

أيها المسلمون: وبعد أن تقرر ما سبق فإن هذه الأمة مأمورة بما أمر بها نبيه فهي مأمورة بتبليغ الدين إلى الناس كافة ،كما قال سبحانه (، وقال سبحانه(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) آل عمران[104]،

هي المكلفة بنشر هذا الدين الذي فيه سعادة البشرية ولا نجاة ولا مخلص للناس إلا بالدخول في هذا الدين والانضواء تحت لواءه والاهتداء بتعاليمه وتشريعاته ، إننا لانشك لحظةً واحدة أن دين الإسلام هو الدين الذي به تحل كل المشاكل العالمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ، وسوف نقف مع هذه العبادة العظيمة والمهمة الجسيمة ، والوظيفة الشريفة وقفات عدة:

الوقفة الأولى : الدعوة إلى الله وظيفةٌ من أشرف الوظائف ،ومهمةٌ من أعظم المهمات.

كيف لا ؟وهي وظيفة الأنبياء والرسل ومهمة كل من أراد الله به خيراً ورفعةً وسعادةً في الدنيا والآخرة ، ولا أعظم وصفاً ولاأصدق قولاً من قول ربنا جل وعلا حيث يقول:( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)فصلت [33] قال الحسن البصري عند هذه الآية :" هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته ، فهذا حبيب الله هذا ولي الله "أ.هـ، فمقام الدعوة من أشرف المقامات ، فياخسارة من قامت حياته ، وذهبت أيامه ولم يكن له نصيب من هذه العبادة العظيمة ، فيا عبدالله تدارك أيامك واضرب بسهم في هذا الميدان المبارك بعلمك أو بجهدك أو بمالك أو برأيك على قدر استطاعتك حتى تنال هذا الشرف العظيم .

الوقفة الثانية : العلم وأثره في الدعوة

الله سبحانه أمر بالدعوة إلى الله وأوجبها على هذه الأمة على كل من قدر وعلى حسب مقدار العلم الذي مع الإنسان ،قال سبحانه (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )يوسف [106]، فالبصيرة : العلم ،و قال سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )النحل [125] فالعلم يتضمن العلم بما تدعوا إليه والعلم بحال الداعي وكلما كان العلم أغزر كانت الدعوة أقوى وأنفذ ، ولكن لا يقعدن بك هذا الأمر وتقول أنا لست من أهل العلم ، فنقول لك : ادع على قدر العلم الذي معك كما قال صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية ) ، وكن دليلاً على الخير ، ومساهماً بمالك ، ورأيك وجهدك فأنت بإذن الله من الدعاة إليه، واعلم أن أجرك عظيم كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)

وقال صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )قال ابن القيم " وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس " أ.هـ وفقنا الله وإياكم لهذه النعمة العظيمة.

الوقفة الثالثة : الحكمة في الدعوة إلى الله هي كما قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على قول الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة):"جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، المعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن"أ.هـ

الوقفة الرابعة : لا تنس إخلاص النية فهي الأساس في الدعوة كما قال جل وعلا (ادع إلى سبيل ربك ) لا إلى سبيل أحد غيره ، وقال في الآية الأخرى(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله) لا إلى نفسي أو إلى مطمع من مطامع الدنيا، ومن خلصت نيته بارك الله له في جهده ووقته وظهر أثر ذلك عليه .

الوقفة الخامسة: شعارك في الدعوة إلى الله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، وأيضاً (إن عليك إلا البلاغ ) ، وقوله(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، وقوله (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )

فيا من تدعوا إلى الله لا تذهب نفسك حسرات ولكن احذر من التقصير في الدعوة إلى الله والعلم والعمل ، فإن لم تجد الثمرة فلا تترك هذا الطريق فإن الهداية وإدخال الإيمان إلى القلوب ليس إليك وإنما إلى الله (إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، والنبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد .

الوقفة السادسة : أن مهمة الدعوة إلى الله يستطيع كل إنسان أن يقوم بها كل على حسب جهده وقدرته كما سبق ولكن مهمتنا نحن أن نرسخها في قلوب الأجيال وفي نفوس الناشئة وفي عقول الناس وتكون من أولى إهتماماتهم فيا أيها المدرس الناصح وأيها المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات ويا أئمة المساجد يا طلاب العلم أيها الموظفون لا تتركوا هذه الوظيفة وهذه المهمة لحظة واحدة من لحظات حياتكم فبها سعادتكم وعزكم ونصر دينكم وظهوره على كل الأديان ، وهنا أقف وقفة عتاب ووقفة تعجب مع ذلكم الكاتب في جريدة الوطن هداه الله الذي كتب مقالاً جرح أفئدتنا وآلم نفوسنا لما عاب على إخواننا المدرسين نصحهم وإرشادهم في المدارس وقال إننا لسنا في مكان للدعوة إلى الله فنقول يا مسلم ياعبدالله نحن بغير الدعوة إلى الله وبغير الدين لا وزن لنا بين الناس ولا عز لنا إلا بهذا الدين فوجب أن نكون كلنا دعاة إليه ،ولا خير فينا إذا لم نكن كذلك فالله الله أيها الإعلاميون اعتزوا بدينكم وانشروه وساهموا في الدعوة إليه وحث الناس على القيام بهذه العبادة العظيمة وفقنا الله وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله

د. ناصر بن يحيى الحنيني

===========

قواعد الدعوة إلى الله

رئيسي :الدعوة :الاثنين 7 رجب 1425هـ - 23 أغسطس 2004

الحمد لله، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فصلى الله وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد،،،

من فضائل الدعوة إلى الله :

فإن الدعوة إلى الله هي أشرف الوظائف، وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى على أن أحسن الناس قولًا هم الدعاة إلى الله، فقال:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ

[33]} [سورة فصلت].

كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله، العاملين بعلمهم، المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرًا وتأثيرًا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعًا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ] رواه البخاري ومسلم.

كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ] فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ: [أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ] فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ] فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: [انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم. يعني من أن تتصدق بأنفس المال .

خير مناهج الدعوة:

ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...[125]}[سورة النحل]. وإذ يقول: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]}[سورة يوسف].

قواعد الدعوة إلى الله:

أولاً:الحكمة في الدعوة إلى الله:

فقد طلب الله من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة:'هي وضع الأمور في مواضعها' فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين .

ومن الحكمة في الدعوة:

1- معرفة نفسيات المدعوين، ومنازلهم: فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف، والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها؛ ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرًا ثلاث سنوات.

2- اغتنام الفرص الملائمة للدعوة: ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[36]}[سورة يوسف].  فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثًا عن معبر لها، ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك، والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه؛ اغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله، وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه، وتشويقهما إلى حديثه، وبيان نعمة الله على أهل التوحيد، فقال:{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...[37]} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر، وأن توحيد الله سبب لكل خير، فقال:{...إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[37] وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[38]} ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سورة يوسف].

وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة، فسّر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[41]}[سورة يوسف].

ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك: أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل: فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم، مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذاك كله، فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة، فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة إملالهم، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم.

كما أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل، فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ].

ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه، ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثًا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.

3- ملاحظة أقدار الناس، وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرًا من كثير من الكلام.

4-مراعاة بيئة كل مدعو، وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته، ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم، وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنًا ويقدره تقديرًا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو، وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.

5- ومن الحكمة كذلك: تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية: وفي ذلك كله يذكر الله حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[5]فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا[6] وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا[7]ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا[8]ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا[9]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].

6- أن يبدأ بالترغيب والتذكير بنعم الله على المطيعين: وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].

ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل، قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ...} ثم يقول زيادة في التكتم: {...وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ...} فقد قدم الكلام على احتمال كذبه على الكلام على احتمال صدقه زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[28]} [سورة غافر].

وكأنه يقول: موسى صادق؛ لأنه مهتد، ولو كان كاذبًا لم يكن مهتديًا، فاستدل باهتدائه على صدقة، ثم قال: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ[30]مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ[31]وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ[32]يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[33]}[سورة غافر].

ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله، والمحاربة لدين الله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[36]أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا...[37]} [سورة غافر].

لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه، وليكن ما يكون، وفي ذلك يقول الله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[38]يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ[39]}[سورة غافر].

ثم يقول: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ[41]تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ[42]لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ[43]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[44]}[سورة غافر].

أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله: فهي سلوك الموعظة الحسنة: والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.

أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن: فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة، والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل، وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية، ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى؛ إذ يقول: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[24]قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ[25]قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ[26]قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[27]}[سورة سبأ].

ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة: أن يكون الداعي على بصيرة: وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله: قولًا، وعملًا، وسلوكًا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيًا أمره بأحسن طرقها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا]. كما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا] رواه البخاري ومسلم

وكان من أمثلة ذلك عمليًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ] فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ-أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-. وفي رواية للترمذي وغيره: [أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] .

ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة: أن يتحلوا بالصبر: ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]}[سورة لقمان].

كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك: أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه: وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت، وفي ذلك يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].

ولله در الشاعر إذ يقول:

يا أيها الرجل المعلـم غيـره     هـلا لنفسك كـان ذا التعليـم

تصف الدواء لذي السقام وذي    الضنى كيما يصح به وأنت سقيم

ابدا بنفسك فانههـا عـن غيها    فـإذا انتهت عنـه فأنت حكيم

فهناك يسمع مـا تقول ويهتدى     بـالقول منـك وينفـع التعليم

لا تنـه عن خلق وتأتي مثله       عـار عليك إذا فعلت عظيـم

ولذلك قال شعيب عليه السلام لقومه:{...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود]. والحمد لله أولاً وآخرًا.

من محاضرة 'طرق الدعوة إلى الله' للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

==============

الدعوة بين تنويع الأساليب وتمييع الحقائق

رئيسي :الدعوة :الاثنين 8 صفر 1425هـ - 29مارس 2004م

إن مما نحتاج إلى إتقانه فن مخاطبة الناس على اختلاف مشاربهم، وتفاوت مستوياتهم، وتنوع انتماءاتهم، وذلك من حيث:

- اختيار المسائل والقضايا المناسبة.

-اغتنام الفرص والأوقات الملائمة.

-اعتبار حال المخاطبين من جهة تفاعلهم، وتقبلهم لما يخاطبون به.

-التعمق في معرفة قدرات عقولهم على تفهم ما يلقى عليهم، وما يراد منهم فهمه وتبنيه.

وغير ذلك من الاعتبارات المهمة، التي لا ينبغي لكل من أراد أن يوصل كلمته، ويجعلها مؤثرة مؤدية للغرض الذي يرنو إليه، ويسعى لتحقيقه أن يهملها ويهمشها، بل عليه أن يكون على دراية تامة وإحاطة قوية بحال من يجتهد لإيصال صوته إليهم، والتأثير به عليهم، خاصة من تصدى لبيان الحق والهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والسعي لإخراج الناس من ظلمات الكفر، أو الجهل، أو البدع والضلال إلى نور الإسلام والسنة والصراط المستقيم .

فكثيرًا ما يكون المرء على معرفة وعلم بما يدعو الناس إليه، ولكن هذا مع حسنه لا يكفي وحده، ولا يغني بمفرده، حتى يتقن صاحبه الدور الثاني المهم، وهو القدرة على إيصال هذا الحق إلى الناس بالكيفية المناسبة، والدخول إليهم به من الباب الصحيح الذي يستقبلونه ويتقبلونه .

فالخطوة الأولى في فشل الداعية، أو المربي، أو المعلم، أو المخاطِب بصورة عامة تظهر عندما يكون همه محصورًا في إبداء ما في صدره، وإخراجه للناس، وإيصاله إليهم بأي طريقة كانت، ومن غير مراعاة للظروف المؤثرة إيجابًا أو سلبًا، ومن غير دراية، أو اهتمام بقدرات المخاطبين على تفهم القضية، أو المسألة التي سيوصلها لهم .

فتراه يخاطبهم كلهم بطريقة واحدة، وكيفية متساوية، وبنفس الأسلوب، سواء عنده العالم والجاهل، والمسلم والكافر، وقديم العهد بالالتزام وحديثه، والمبتدع الضال والمتبع السني، والرجل والمرأة.

ولسنا نقصد بمراعاة نفوس الناس، واعتبار أحوالهم وعقولهم أن تميع القضايا، أو تمطط المسائل الشرعية، وتحرف وتغير لأجل إقناع طائفة من الناس مثلًا بأن الإسلام دين اليسر والتسهيل، أو نحو ذلك، فإن ثمة فرقًا بين تحريف الحق وإخضاعه لأهواء الناس، وبين إبقائه على حاله واضحًا جليًا محددًا كما أنزله الله، وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن يختار 'الأسلوب المناسب' والوقت المناسب لإيصال ذلك الحق ' كما هو في الشرع ' للناس .

فكثيرًا ما يحدث خلط في هذه ا لقضية، ويقع فيها اللبس أو التلبيس، فتزور الحقائق الشرعية، وتغير باسم: سماحة الإسلام ورفقه ويسره، والحكمة في الدعوة إليه.. ونحو ذلك، وهذه الأمور صحيحة في نفسها، ولكن تفسيرها بهذه الكيفية ليس على وجهه الصحيح .

فالإسلام دين الرفق.. نعم ودين السماحة، ودين اليسر، ورفع الحرج، ولكن ليس معنى ذلك أن نأتي إلى حقائقه الثابتة، ومسائله البينة، وقضاياه الجلية؛ ونصرفها عن مدلولها الشرعي الصريح الصحيح، ونؤول معناها، بل نحرفه بغية إقناع الناس بها.

فنحن بهذا العمل وفي حقيقة أمرنا - لا نقنع الناس بحقائق الإسلام التي أنزلها الله، والتي أراد منهم الإيمان بها، والالتزام بتعاليمها، ولكننا تركنا 'حقائق الإسلام ' الصحيحة جانبًا، وقدمنا لهم ما تشتهيه أنفسهم، وتهواه قلوبهم بـ 'اسم الإسلام' .

وليس هذا هو موطن الحكمة في الدعوة إلى الله، ولكن الحكمة، وحسن التبليغ أن نتقن إيصال الحق البين دون خدش ولا تحريف إلى الناس، فالحكمة إنما تكون في الأسلوب والطريقة، والكيفية والوسيلة التي نوصل بها 'الحق'، ولهذا قال الله سبحانه:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... [125]}[سورة النحل] .

فالدعوة إنما تكون إلى:{... سَبِيلِ رَبِّكَ... } التي هي الإسلام الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ... [153]}[سورة الأنعام] . وكما قال عز وجل:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[7]}[سورة الفاتحة].

وما أجمل ما كتبه الأستاذ سيد قطب رحمه الله حيث يقول:'إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله، والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة؛ فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه' [4/2201الظلال].

والحقيقة إن تحريف مسائل الشرع ولو كانت في عين البعض صغيرة أمر في غاية الخطورة، وهو في واقع أمره من الكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا، فإن الشارع قد جوز للعالم، أو الداعية أن يكتم بعض العلم لمصلحة معتبرة يراها، وله في بعض الأحيان السعة في هذا الأمر .

ولكنه لم يجوز لهم بحال أن يغيروا أو يبدلوا شيئا مما بينه وقرره الشرع تحت أي دعوى ولا اعتبار لما يتوهمه البعض من المصالح الموهومة المتعلقة بذلك، بل جاء الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد الذي يزجر القلوب عن ذلك أشد الزجر، ويردعها عنه أعظم الردع، كل ذلك إبقاء للحق على نصاعته، وحفظا له، وصيانة لمصادره .

فقد بوب البخاري رحمه الله قائلًا: [ بَاب: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا ، وَقَالَ عَلِيٌّ:' حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ'؟] . وساق تحته حديث معاذ رضي الله عنه عندما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه :'مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً' . رواه مسلم في مقدمة صحيحه.. هذا فيما يتعلق بترك بيان بعض العلم؛ جلبًا لمصلحة شرعية راجحة، أو درءًا لمفسدة كالتي ذكرها ابن مسعود رضي الله عنه .

أما تحريف الحق وتغييره والتصرف فيه، فهذا ما لا يجوز بحال، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي أغرق فيه اليهود، ورفعوا لواءه قاتلهم الله أنى يؤفكون.

فينبغي التفريق بين:

-سعة الأمر في كيفية الدعوة، واختيار الأسلوب المناسب، والوقت الملائم.

- وبين حفظ ما يدعو المسلمُ إليه، وعدم خدشه، وتمييعه.

ونضرب لذلك مثلًا يتضح به المراد أكثر، ويتجلي به المقصود من واقع توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مثل هذه المسائل:

فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلَاثًا اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَنَحْوَهَا] رواه البخاري ومسلم.

فالمفسدة التي وقعت لهذا الرجل، وهي نفوره من الصلاة، وتركه الجماعة، وانفصاله عن إمامه لم يهملها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يغض الطرف عنها، بل اعتنى بها أشد الاعتناء، وأولاها بالغ الاهتمام، ولكنه لم يعالجها بشيء يقدح في حقيقة الصلاة الشرعية المأمور بها، فلم يأمر معاذا بترك شيء من واجبات الصلاة، أو أركانها، أو حتى مستحباتها بل أرشده إلى الإبقاء على الحقيقة الشرعية، والهيئة الصحيحة مع إقامتها بما يتناسب مع من خلفه من الضعفة، وذوي الحاجات، فالصلاة بقيت صلاة على حالها بصورتها وهيئتها.

وهكذا.. ينبغي أن تبقى كل الحقائق الشرعية التي ندعو الناس إليها، ونعلمهم إياها، ولكن نقدمها بالأسلوب المرتجى أن يكون سببًا في تقبلهم لها، واقتناعهم بها .

أما العبث في تلك الحقائق والتصرف بها النقص والزيادة فيها من أجل الناس؛ فهذا ما لا يقره الشرع، وهي هفوة عظيمة، وزلة جسيمة في حقه .

وأوضح من حديث معاذ رضي الله عنه في إيضاح هذه المسألة المهمة حديثُ الأعرابي الذي بال في المسجد:

فعن أنس رضي الله عنه قال:جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. رواه البخاري ومسلم. وقال لأصحابه رضوان الله عليهم لما زجروا الأعرابي وشددوا عليه: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] رواه البخاري.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أصحابه على أن ما فعله هذا الأعرابي منكر ينبغي تغييره وإزلته، ولكن نهاهم عن الأسلوب والطريقة التي أرادوا بها تغيير ذلك المنكر، وهي زجرهم وتناولهم للأعرابي، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم الكيفية الصحيحة والأسلوب الأمثل القويم في إزالة ما رأوه من ذلك المنكر، ولهذا ترك الأعرابي حتى فرغ من بوله فدعاه وقال له: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا لأصحابه، ومرشدًا وموجهًا لهم لما وقع منهم ما وقع مع هذا الأعرابي: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] رواه البخاري.

والصحابة إنما وقع منهم الخطأ في هذه الحادثة في الكيفية التي أرادوا بها تغيير ما رأوه من المنكر بمعنى أن ' التعسير ' كان في الأسلوب الذي اتخذوه لذلك، أما كون ما فعله الأعرابي من البول في المسجد منكرًا فهذا شيء لم ينكره عليهم صلى الله عليه وسلم بل أقرهم عليه من خلال تعليمه للأعرابي، وإراقة الماء على بوله، وهذه القصة تشير إلى مثيلاتها وتبين حكم نظيراتها، وقد استطردنا في هذه القضية؛ لأهميتها، وبسبب الخلط الواقع فيها، وسوء فهم الكثيرين لها .

وكما ذكرنا فإن هم الخطيب، أو الداعية، أو الكاتب ينبغي أن لا يكون محصورًا في إيصال ما عنده فحسب دون اعتناء وحرص لفهم المخاطبين لقضيته، واستيعابهم لمقاصده ومسائله، فكثيرا ما تسمع:

'عليك بالبلاغ، ولا يهمك مَن قَبِل ممن لم يقبل'، وهذه الكلمة تحتمل معنى صحيحًا وإن كان ليس المتبادر إلى الأذهان وتحتمل معنى خاطئًا:

أما المعنى الصحيح: فهو أن المسلم ينبغي أن تشد همته نحو الدعوة إلى الله، وتبليغ دينه وإيصاله للناس، ويبذل جهده في اختيار الأساليب وتنويعها بحسب أحوال من يخاطبهم، والصبر عليهم في تفهيمهم الحق، ثم بعد ذلك من نكص على عقبيه، وأعرض، فلا يحمل الداعية همّه، ولا يحرف الحق لأجله، أو يشوه صورته، ويمسخ شخصه استعطافًا لقلبه، فيكون معنى العبارة آنفة الذكر من نحو قوله تعالى:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[21]لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[22]}[سورة الغاشية]. وغيرها من الآيات .

أما المعنى السقيم لتلك العبارة: فهو أن الداعية لا يعتني بأساليب الدعوة، ولا يهتم بوسائلها، ولا ينظر إلى حال من يخاطبهم، ولا يعتبر أحوالهم وعقولهم ومستوياتهم، إنما يقول ما يريد، ويفصح عما يعتقد بكيفية واحدة، وطريقة ثابتة في أي مجلس كان، ومع أي قوم كانوا، ولا يهمه قبول الناس لما يقول، فإذا ما أعرض الناس عن تقبلهم لما عنده ' بسبب أسلوبه في إيصال الحق ' فإنه لا يهتم بذلك، ولا يعبأ، ولا يصلح من حاله، أو يغير من شأنه، إنما يقول:' علينا أن نقول ولا يهمنا القبول'، ولا شك في خطأ هذه الفكرة، وانحرافها عن الجادة .

فإن المسلم الداعية معني ببذل الجهد واستفراغ الوسع في اختيار 'الأسلوب أو الطريقة' التي يبلغ بها دعوته بما يؤدي الغرض، ويوصل إلى المقصد وهو ' هداية الناس ' ودخولهم في ' سبيل الله '، فلا يصح أن يكون المسلم داعية إلى الحق بنيته وقصده، وصادًا عنه بأسلوبه وطريقته .

والبون شاسع بين:

- أن يكون صدود الناس، وعدم قبولهم للحق بسبب إعراضهم، أو استكبارهم، وطمس الله على قلوبهم.

- وبين أن نكون سببًا في التنفير من الحق لفساد طرق الدعوة، أو بسبب فقدان القدرة على تبليغه.

ولأن إفهام الناس الحق، ومحاولة إيصالهم إلى معانيه بالوسائل الصحيحة المناسبة لهم أمرٌ ذو أهمية أرسل الله كل رسول بلسان قومه ليبين لهم، كما قال عز وجل:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[4]}[سورة إبراهيم].

قال سيد قطب رحمه الله عند هذه الآية:'وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم، ليبين لهم وليفهموا عنه فتتم الغاية من الرسالة ...' .

ولا أدل على الاعتناء بطرق دعوة الناس إلى الحق مما تضمنه القرآن الكريم وهو أساس الدعوة وقطبها من الأساليب المتنوعة من الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والإنذار والتبشير، والوعظ والتذكير، ومخاطبة العقول بالحجج العقلية المفحمة القاطعة، والأمر بالتفكر في الآيات الكونية المنصوبة القائمة، والدعوة إلى مقارعة الحجة والبرهان بمثلها، والمجادلة بالتي هي أحسن، وضرب الأمثال، وتصريف الآيات للناس ليفهموا الحق ويعقلوه، وقد جاء ذلك مبينًا في آيات لا تحصى.

والمقصود: أن القرآن هو أكمل صور الوعظ، وأتم أحوال التذكير، وهو متضمن لكافة أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يتمرس فيها، ويتقنها، ويبذل جهده في اختيار أمثلها حسب أحوال من يخاطبهم، ودون إهمال لقدرات فَهْمِ وخلفيات وعلائق من يحب هدايتهم، فإذا اجتهد في ذلك، وسدد وقارب، فأعرض الناس وتولوا؛ تلا قول الله:{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ... [56]}[سورة القصص].

ولا شك أن الموضوع أعمق مما دوناه هنا، وهو بحاجة إلى تقصٍ يكشف عن مكنونه، وفهم يوصل إلى لب مضمونه، ولعل هناك من ينشط لذلك، والله الهادي إلى سواء السبيل .

من:' الدعوة بين تنويع الأساليب وتمييع الحقائق' للشيخ/حسن محمد قائد

==============

فن التوجيه

عناصر الدعوة الإسلامية

بعد الحديث عن حكم الدعوة الإسلامية وأن وجوبها كفائي، وأن ثمة فوارق بين الدعوة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتحدث هنا عن أساليب الدعوة أو الطرق الصحيحة لممارسة الدعوة، أو ما يمكن أن أسميه بالعناصر الأساسية لإيصال الإسلام إلى الناس ودعوتهم إليه، ولا شك في أن القرآن الكريم ما كان له أن يهمل تلك المسألة، لذلك بين القرآن العناصر الأساسية والهامة للدعوة الإسلامية بآيات جلية المعنى صريحة العبارة.

قال تبارك وتعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادله بالتي هي أحسن. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النمل: 125).

وقوله:( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: 108).

فعناصر الدعوة كما وردت في الآيتين الشريفتين:

1- الحكمة. 2- الموعظة الحسنة. 3- الجدال الحسن 4- البصيرة.

وهذه العناصر الواردة في القرآن الكريم نمرّ عليها أثناء التلاوة مرور الكرام، أو أن نستشهد بها في كيفية الدعوة وسلامتها إجمالاً دون الوقوف والتأمل في كل عنصر من تلك العناصر الأربعة، بل إنني أذهب إلى أكثر من الوقوف والتأمل وأبعد من ذلك.

أذهب إلى ضرورة دراسة كل عنصر من تلك العناصر دراسة موضوعية هادفة، وهذا ما قصدت بيانه.

أولاً: الحكمة

(الحكمة) في اللغة لفظ مشتق من (حكم) وهو المنع بقصد الإصلاح والضبط، لذلك سُمي لجام الدابة (حَكَمَة) لمنعها من النفور والعصيان.

فيقال حكمت الدابة أي منعتها من فعل لا أريده.

ومن هذا المعنى قيل (حكمت السفينة) أي ربطها لأمنعها من الإنسياب في الماء.

وقال أحدهم:(أبني حنفية أحكِموا سفهاءكم) أي امنعوا سفهاءكم(1).

وقد توسع استعمال اللفظ واشتق منه ألفاظاً متعددة لمعانٍ أخرى نحو قولك: أحكمت الصنعة أي أتقنتها، وحكمت السد أتقنته ومنعت تسرب الماء منه، وأحكم الله آياته أتقنها ومنع وقوع الخلل والاختلاف فيها.

والحكم هو القول الفصل المانع من الاختلاف والخصومة. وتارة ينصف بالعدل فنقول حكم عادل وتارة بالظلم فنقول حكم ظالم.

واشتق منها اسم الفاعل والمفعول والمصدر فنقول: حاكم ومحكوم وحكم وحكومة.

ومنها اشتق كلمة (حِكْمَة) وهي القول المحكم المتقن الذي لا يتسرب إليه خلل من كذب أو خطأ أو إبهام أو غموض أو غير ذلك.

وقد استعملت العرب لفظ الحكمة للطبيب لأنه يمنع المرض، وليس لأن الطبيب هو الحكيم أو أن الحكمة منحصرة في الطب. وإنما لأن الطب كان أحد مصاديق الحكمة واتسع مفهوم الحكمة حتى صار مفهوماً كلياً يندرج تحته مفاهيم متعددة، فكل عمل أو قول تتطابق مع الواقع وامتنع عليه النقد أو الرد والمعارضة كان عملاً أو قولاً حكيماً. فنقول قول حكيم، وسلوك حكيم، ورأي حكيم وهكذا.. لذلك كان الحكم أعم من الحكمة لأن الحكم يتصف بالظلم والعدل والحكمة لا تستعمل لا عند العدل فقط.

فنقول حكم بالحكمة أي فصل بين الناس بما يمنع الخلل، والنقص، والنقد، والمعارضة.. وهذا معنى قوله تعالى:( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) أي ألهمناه الحقيقة، والقدرة على بيانها وإظهارها بالألفاظ والجمل الفاصلة التي لا إبهام فيها وغموض.

فالقول الفاصل الذي لا توجد فيه ثغرة أو جهة ضعف تمنع من قبوله قول حكيم.

وقول الراغب الأصفهاني في )مفردات القرآن( مادة (حكم) بأن الحكمة هي«إيصال الحق بالعلم والعقل» ليس تعريفاً لمطلق الحكمة وإنما تعريف للحكمة المطلوبة في الدعوة الإسلامية.

وعرّفها ابن قيم الجوزي في )هامش التفسير القيم( ص344 بأن الحكمة هي«وضع الشيء في موضعه اللائق به».

وعرفها السيد الطباطبائي في تفسير الآية:( أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة..) بأنها «الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه ولا وهن ولا إبهام» (يراجع تفسير الآية في تفسير الميزان).

والملاحظ أن هذه التعاريف لجانب من جوانب الحكمة وليسا تـــعريفاً لمفهومها الكلي، ولكن كما ذكرت يمكن أن تصلح تعاريف للحكمة في الدعوة الإسلامية.

فإن مراعاة أحوال المدعو إلى الإسلام من الحكمة، أحواله المادية، والنفسية، والفكرية، والاجتماعية حتى أحواله العارضة فإن الحكمة مراعاة تلك الأحوال، وعدم مراعاتها ليس من الحكمة بل من الحماقة التي لا ينتج عنها سوى تنفير المدعو.

والقدرة على استعمال الحجة والبرهان من الحكمة فإن استعمال الدليل في غير موضعه، أو الحجة حتى لو كانت صحيحة في غير مناسبتها ليس من الحكمة.

اختيار أولويات المواضيع من الحكمة، واختيار الموضوع غير المناسب للمقام كذلك ليس من الحكمة.

كما أن دراسة علم الدعوة ومتطلباته من الحكمة في الدعوة، والارتجالية فيها خلاف الحكمة.

ثانياً: الموعظة الحسنة

الموعظة الحسنة عنصر هام من عناصر الدعوة الإسلامية وهي العلامة على مصداقية الداعية أو عدم مصداقيته، وبعبارة أخرى هي العلامة الفاصلة بين الداعية إلى الله الذي لا غاية له سوى الله، وبين الداعية إلى نفسه أو إلى شيء آخر غير الله تبارك وتعالى، لذلك وصفها الله سبحانه وتعالى (الموعظة الحسنة).

لأن الداعية الإسلامي لا يريد من الناس جزاءاً ولا شكوراً بل كل ما يريده منهم هو عودتهم إلى الله، وعبادتهم إياه.

والموعظة كما عرّفها الراغب الأصفهاني في )مفردات القرآن( هي «زجر مقترن بتخويف».

ونقل عن الخليل بن أحمد أن الموعظة هي «التذكير بالخير فيما يرق له القلب».

والواقعان كلاً من المعنيين صحيح فالزجر المقترن بتخويف يسمى موعظة، كما في قوله تعالى:( إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (هود: 46).

وقوله تعالى:( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن..) (النساء: 34).

فمعنى الوعظ في الآيتين هو الزجر المقترن بتخويف.

وكذلك التذكير بالخير بما يرق له القلب ورد في قوله تعالى:( يعظكم لعلكم تتذكرون) (النحل: 60). أي يذكركم لعلكم تتذكرون.

ولكن المعنى الأول هو الأشهر في استعمال لفظ الموعظة.

وأستطيع أن أعرف الموعظة الحسنة بأنها هي النصيحة الهادفة إلى الخير، والدّالة عليه؛ وهذا هو المعنى العام لكلمة موعظة، فالزجر موعظة ولكن الموعظة ليست في كل معانيها زجراً فقد تستعمل كلمة موعظة بقدر الأمر المستتبع للخير كما في قوله تعالى:( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى) (سبأ: 46).

بمعنى قل إنما آمركم بأن تفعلوا واحدة من اثنتين أن تقوموا لله مثنى أو أفراداً.

والزجر أو الأمر أو التذكير أو غير ذلك مما يستتبع شيئاً ما يسمى نصيحة فإن كان المستتبع خيراً كانت موعظة حسنة وإن كان المستتبع شراً كانت الموعظة سيئة.

وقد وردت كلمة موعظة في القرآن بمعاني متعددة، منها على سبيل المثال، قوله تعالى:( فاعرض عنهم وعظهم) (النساء: 63) أي وحذّرهم وخوفهم.

وقوله تعالى:( يعظكم الله أن تعودوا لمثله إن كنتم مؤمنين) (النور: 117). أي ينهاكم ويحذركم.

ويمكن بعد ما تقدم أن نضع تعريفاً للموعظة الحسنة المقصودة في قوله تعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) بأنها هي القول البليغ اللين الهادئ المتضمن لتخويف وزجر مع عدم التصريح بالزجر والتخويف أو الأمر أو التذكير، كالأمر بفعل ما يستتبع خيراً للفاعل أو التذكير بعاقبة الخير للأخيار أو الشر للأشرار بقصد الحث على فعل الخير وترك الشر.

ثالثاً: الجدال بالتي هي أحسن (الجدال الحسن)

والجدال كالموعظة دليلٌ وعلامة على حسن النية أو سوء النية عند الداعية، ولكنها في الجدال أوضح وأكثر دلالة على النية، وذلك لأن الجدال تباري مع الخصم وتبادل حجج لإثبات كل واحد صحة ما هو عليه. وهنا مكمن الخطورة، أو الشعرة الفاصلة بين النية الحسنة في الجدال والنية السيئة فيه. لأن المجادل يبحث عن النصر والتفوق في الجدال. فإن كان الجدال انتصاراً للذات (للأنا) كانت النية سيئة وإن كان الانتصار لله وإحقاق الحق كانت النية صالحة.

فقد يجادل الداعية بقصد الدعوة إلى الإسلام، وفي خضم الجدال والخصام الحواري يتحول القصد إلى سعي لإثبات التفوق الشخصي والمصداقية الأنانية. وبعبارة أخرى يتحول الجدال من السعي لإثبات صحة الإسلام وأحقيته في الاتباع إلى السعي لإثبات أن المجادل على حق وخصمه على باطل. وهنا يكون الجدال حول أمر شخصي وليس جدالاً موضوعياً هادفاً.

وهذا النوع من الجدال لا يصل بالمتجادلين إلا إلى العداء والتخاصم والتنازع لأنه ليس لله ولا لإحقاق حق، وإبطال باطل. وهو النوع الذي نهى الله تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى:( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (البقرة: 197).

ويستطيع المرء أن يميز بين الجدال الحسن الذي لله ونصرة الحق، وبين الجدال السيء الذي للنفس ونصرة (الأنا) أو (النحن).

فالأول من أهم علاماته هو أن المجادل لا يرفض الحق إذا جاء من خصمه ويسلم له ويذعن إليه لأن الوصول إلى الحق هو الهدف فمتى وصلنا إليه سلمنا به.

ومن علاماته أيضاً عدم الخروج عن موضوعية الحوار.

ومن علاماته أيضاً أنه إذا ما وصل المتجادلون إلى مرحلة لا يسلم فيها أحد للآخر ينفصلوا عن وئام واحترام وعلى أمل مواصلة الحوار فلعل كل منهم كان عاجزاً في إثبات ما هو عليه.

وأما الجدال الباطل؛ فن من أبرز علاماته هو رفض رأي الخصم شكلاً وموضعاً وابتداءً حتى ولو كان بداخله يؤمن أنه حق لا شك فيه. لن الهدف في هذا الجدال ليس الوصول إلى الحق بل هو اكتساب انتصارات ذاتية. «أنا أسكتّ فلاناً» «أنا أفحمت علاناً» «أنا أهنت بكراً»... وهكذا.

فـ(الأنا) هي البداية وهي النهاية، وهي الموضوع وهي المحمول، والحق والإسلام لا ناقة له في الجدال ولا جمل.

ومن علاماته الخروج عن الموضوعية العلمية في الحوار إلى أمور شخصية وكشف عورات وتقاذف إهانات، ومن علاماته أيضاً الوصول في النهاية إلى حد العداء والرمي بالقبيح والقذف بالمنكرات، والتوهين بالشتم والسباب.

ولكي نصل إلى مثالية في الجدال ونحقق معنى الجدال الحسن الذي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعه كأسلوب في الدعوة إلى الإسلام، يجدر بنا أن نعرف معنى الجدال ومقوماته.

معنى الجدال:

الجدال في اللغة هو وضع الشيء على الشيء إذا كان من جنسه، فتقول جدلت الحبل أي وضعت بعضه على بعض حتى صار مجدولاً.

ونقول: جدلت المرأة شعرها أي وضعت بعضه على بعض فصار ضفيرة، ومنه أخذ جدول الماء إذ تعلو أمواجه بعضها على بعض.

وقد عرّفه الراغب الأصفهاني في المفردات مادة (جدل):«الجدال هو المفاوضة على سبيل المنازعة من جدلت الحبل أي أحكمت فتله». وهذا التعريف لا يبعد كثيراً عن معنى الجدال، إلا أنه يمكن لي أن أقرب المعنى بقولي «الجدال هو مراجعة القول بإعلاء بعضه على بعض على سبيل الغلبة» وبعبارة أخرى«وهو تبادل الحجج والبراهين في أسلوب حوار على سبيل تفنيد أحدهم قول وحجج الآخر وتثبيت قوله».

والجدال لا يبعد أن نسميه حواراً بزيادة قصد الغلبة، نحو قوله تبارك وتعالى:( فقال لصاحبه وهو يحاور أنا اكثر منك مالاً وأعزّ نفراً) (الكهف: 34)... الآيات.

ويتنوّع الجدال إلى حسن وسيء باعتبار هدفه وغايته، وباعتبار أسلوبه وطريقته.

فالجدال الهادف إلى إحياء عصبيات عرقية أو عنصرية أو طائفية، أو غرضه التعالي، والتفاضل الشخصي والأناني، أو بقصد الشهرة والتظاهر، جدال سيء. حتى لو كانت الوسيلة جيدة وعلمية.

وكذلك إذا كان أسلوبه الطعن والمغالطة والتجريح وكشف العورات والكذب جدال سيء حتى لو كانت الغاية سامية ونبيلة، فلا الوسيلة تبرر الغاية، ولا الغاية تبرر الوسيلة في الجدال السيء وأما الجدال الحسن فهو الذي يكون هدفه الأول والأخير هو الحق ولا سوى الحق والوصول إلى الحقيقة وليس إلى غيرها مع مراعاة الوسيلة العلمية الصالحة الشريفة.

مقومات الجدال الحسن

إن للجدال الحسن مقوماته التي يجب مراعاتها من اجل الوصول إلى المثالية فيه، بحفظ التوازن النفسي والمنطقي ليحول دون الخروج عن الموضوعية والابتعاد عن الهدف المنشود، ويمكننا أن ننوّع مقومات الجدال الحسن إلى: مقومات نفسية، مقومات منطقية أو جدلية.

أولاً: المقومات النفسية.

إن أهم مقوم نفسي للوصول بالجدال إلى أسمى أهدافه هو أن يضع المجادل هدف المجادلة وهو الإسلام أمام عينه بحيث لا يحيد عنه أبداً، ولا يتحول عنه بتاتاً، حتى لا يدع مجالاً لهوى النفس تحت ضغط المجادلة أن تنتصر لنفسها وتنسى هدفها الصحيح.

ثانياً: أن ينظر المجادل الإسلامي إلى خصمه باحترام، وتقدير لعقله ورأيه، ليقطع الطريق أمام نفسه الإمارة بالسوء أن تتكبر أو تتعالى.

ثالثاً: أن يلزم نفسه بخلق الإسلام الذي ينهى عن فحشاء القول ومُنكِر السلوك.

رابعاً: أن يبتعد عن الذاتية والأنانية والانتصار للذات.

وأما المقومات الجدلية أو المنطقية، فكثيرة أهمها:

أولاً: حسن الاستدلال وهو أن يكون الدليل ثابتاً ومباشراً على ما يريد الاستدلال عليه فلا يكون الدليل لشيء والموضوع شيء آخر.

وأن يكون مباشر أي دليل ليس بينه وبين الموضوع واسطة أو أن يكون بعيداً عن الموضوع.

وأن يكون الدليل مما يؤمن به الطرف الثاني من المجادلة، وإلا لما كان للدليل أثر في نفس المجادَل.

ثانياً: أن يكون البرهان صحيحاً نتج عن انضمام مقدمتين صحيحتين في الواقع الملموس للمجادل.

ثالثاً: أن يكون جواب الداعية الإسلامي حال المجادلة دقيقاً، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا أحسن الاستماع للطرف الثاني وفهم واستيعاب قوله، فإن العجلة والمقاطعة، والاستهانة تؤدي دائماً إلى عدم موفقية الإجابة على شبهات الخصم.

رابعاً: العفو عن زلات لسان الخصم، أو قوله غير المقصود منه، وعدم التركيز أو الوقوف عليه.

خامساً: عدم السماح بالخروج عن الموضوعية العلمية، أو تفرع النقاش والجدال.

سادساً: إذا أدرك الداعية أن الجدال سيأخذ شكلاً غير لائق، أو أنه سيصل إلى طريق مسدود فعليه بأدب إسلامي رفيع أن يرجئ المجادلة بحيث يدع الباب أمام خصمه مفتوحاً.

وإليك بعض النماذج لطرق الجدال الحسن نقلتها من كتاب (البلاغة العربية)(2):

المذهب الكلامي(3)

وهو أن يأتي البليغ بحجة قاطعة، ليبرهن على ما يدعيه على طريقة أهل الكلام، بحيث أن تكون هذه الحجة مسلمة عند المخاطب، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت بعد تسليم بالمقدمات المسلتزمة للمطلوب.

وقالوا: إن أول من وضعه الجاحظ، وقال: إنه لا يوجد شيء منه في القرآن!

وأجيب عليه بقولي أن القرآن مشحون بجميع أنواع الحجج، والأدلة، والبراهين ومن أمثلة المذهب الكلامي في القرآن الكريم قال تعالى:( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه) ، فقوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق)، هذه الدعوى مسلّم بها عند الكافرين كما جاء في قوله تعالى:( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن الله) ، وقوله:(ثم يعيده) دعوى أنكرها الكافرون وقوله:(وهو أهون عليه) برهان ساطع، ودليل قاطع، على صحة الدعوى بالقدرة على إعادة الخلق، حيث أن إعادة الخلق أهون من بدئه الذي سلّمتم به، وإذا كان كذلك، يلزمكم التسليم بصحة هذه الدعوى.

ومن ألطف البراهين القاطعة التي تحمل في طياتها المذهب الكلامي قوله تعالى:( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم) .

وقصة الآية: أن الأخنس بن شريق، أو عتبة بن الربيعة، جاء ببعض العظام البالية من المقابر، وطحنها بي يديه، وقال للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله): من يحيي العظام وهي رميم؟ والمقصود أنه أنكر دعوى الإعادة، فكانت الإجابة برهاناً دامغاً، حيث أن دعوى البدء مسلّم بها، وإنّ الإعادة أهون من البدء، فدعوى الإعادة صحيحة مسلتزمة لأن الخلق من موجود أهون من الخلق من عدم.

ومثله قوله تعالى:( يا أيها الناس! إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) ، ونحو قوله:( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاّق العليم) .

ومن أمثلة المذهب الكلامي في كلام الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) نحو قوله(صلى الله عليه وآله):«أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب..».

تضمن هذا القول الشريف أعظم البراهين والحجج؛ فقوله:«وإن أباكم واحد» حجة على أن ربكم واحد، حيث أنكم تسلمون بأنكم جميعاً لأب واحد، وهو آدم.

فلا بدّ أن تسلموا نه لا يمكن أن يكوون الخالق لآدم أكثر من واحد، لأن ذلك من البديهيات. ثم إن هذه حجة ساطعة على دعوى عدم أفضلية جنس على جنس إلا بالتقوى، حيث أنكم تسلمون بأن كل الناس لأب واحد، إذاً فلا قربى لأحد منكم عند الخالق بجنس أو عنصر، وإنما القربى لديه تكون بقدر طاعته، سبحانه وتعالى.

(2)التسليم الجدلي

ويسمى بالافتراض الجدلي: وهو أن يفرض المتكلّم حصول أمر محال الوقوع، ومشروط بحرف الامتناع -لو- أو منفي، ثم يسلم بوقوعه، أو إمكان وقوعه، تسليماً جدلياً، وذلك لإثبات ما بعده.

أقول: هو افتراض وقوع أمرٍ محال الوقوع، افتراضاً جدلياً، لإثبات ما بعده، وبإثبات ما بعده، والتسليم به، تصح دعوى المحالية للأمر المفترض وقوعه. نحو قوله تعالى:( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه إله إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض) ، فقوله:( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله) نفي الشريك، وقوله:(إذاً..) بمعنى إذا سلمنا بصحة دعوى الشريك، فلا بدّ أن نسلم بأن كل إله يذهب بما خلق، ويتعالى بعضهم على بعض، وهذا ما ليس بحاصل، حيث أننا نرى أن كل الخلق ذو نظام واحد، وذلك يدل على أن الخالق واحد.

ولو أن أحد الإلهين علا على الآخر، لكان المتعالي هو الإله الحقيقي الواحد الأحد. وبعد أن تثبت ذلك، يلزم التسليم باستحالة الفرض الذي فرض جدلاً، وهو دعوى الشريك، وهو المطلوب إثباته.

ونحو قول تعالى:( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ، وجود آلة غير الله أمر محال، ولكن افترضت صحته جدلاً بحرف الامتناع، وذلك لإثبات الدعوى بعده، وهو فساد السماوات والأرض، فإن صح فسادهما، صح وجود غير الله، وإن لم يصح فسادهما، بطلت دعوى وجود غيره، تبارك وتعالى. وحيث أن الواقع يثبت أن السماوات والأرض قائمتان بأمره، دلّ على بطلان الدعوة المفروضة.

أقول: قد وجدنا في القرآن الكريم من التسليم الجدلي، ما ليس بمنفي، ولا مشروط، نحو قوله تعالى:( ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذاً قسمة ضيزى) ، بمعنى أنه إذا سلمنا جدلاً بأن لكم الحق في التقسيم، فلا بدّ أن تسلموا بان تجعلوا ما تحبون لكم، وما تكرهون لله، قسمة ظالمة، ومن ثم يلزمكم التسليم بأنه ليس لكم الحق في التقوّل على الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم مشحون بتلك اللطائف والحجج الدامغة.

(3)أسلوب الحكيم

أسلوب الحكيم من أدق وألطف أنواع البديع لأنه من الرادعات لأهل الفضول في الحديث.

وهو: أن يأتي المتكلم بجواب لمخاطب يقتضي ظاهره خطابه، ومخالفاً لمراده، مع علمه به.

وقالوا: إنه إتيان المخاطب بغير ما يترقبه نحو قوله تعالى:( يسألونك عن الجبال قل: ينسفها ربي نسفاً) ، فمراد السائل هو السؤال عن حقيقة الجبال، وفي السؤال فضول حيث أنه ليس من وظائف الرسل بيان مثل هذه الأمور، وإن كانوا عالمين بها، ولذلك كان الجواب على ظاهر السؤال مخالفاً لمراد السائل وهو (ينسفها ربي نسفاً) بمعنى أن هذه الجبال على عظمتها وضخامتها، ينسفها ربي نسفاً، وهذه من وظائف الرسل، وهو بيان صفات الله سبحانه.

ونحو قوله:( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) ، فالمراد من السؤال هو معرفة الأهلة، وأفلاكها، وظهورها، واختفائها، وهذه من المسائل التي قد لا يتحملها عقل السامع وفكره، ولذلك كانت الإجابة حكيمة، حيث أنها جاءت على ظاهر السؤال مخالفة للمراد، فبينت فوائد الأهلة للإنسان.

ونحو قوله(صلى الله عليه وآله) لمن سأله متى الساعة؟ فأجاب: وماذا أعددت لها؟، فالسؤال عن متى الساعة، فضول، وشغل النفس بما لا ينبغي الإنشغال به، بل يجب إشغالها بما يفيدها وهو إعداد النفس لها.

ونحو قول أمير المؤمنين(عليه السلام) لمن سأله عن المسافة بين السماء والأرض؛ فقال:«دعوة مستجابة».

السائل يسأل عن المسافة القياسية بين السماء والأرض، والفضول ظاهر في السؤال. ولكن الإمام (عليه السلام) تجاهل مراد السائل، وأجابه على ظاهر سؤاله فقال:«دعوة مستجابة».

(4)القول بالموجب

القول بالموجب: قريب الشبه بأسلوب الحكيم، لأن القول بالموجب هو ردّ المتكلم قول المخاطب من فحوى كلامه، وذلك بأن يعمد إلى لفظ من ألفاظ حديثه، ويحمله على غير ما أراده المخاطب من دون تغيير في اللفظ.

نحو قوله تعالى:( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أُذُنٌ. قل: أُذُنُ خير لكم، يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، ورحمة الذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (التوبة: 61). الأذن: هو السماع للناس غير المكذب لهم، قالها المنافقون بقصد الإيذاء للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

ولكن الله سبحانه لم ينفها عن نبيه، وإنما حملها بنفس لفظها على غير ما أراده المنافقون. فحملها على حسن الخلق والرحمة للمؤمنين.

ونحو قوله تعالى:( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولله العزّة، ولرسوله، وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون) .

جعل المنافقون أنفسهم على طرفي نقيض مع الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ثم نسبوا صفة حميدة لأنفسهم، وأخرى ذميمة للرسول، والمؤمنين، ثم رد الصفة الذميمة على المنافقين، من دون نفيها عنهم، لأنهما على طرفي نقيض، فبنسبة العزة للمؤمنين، فالذلّة تكون على المنافقين.

ومن لطائف القول بالموجب:

ما حكي أن خالد بن الوليد، سأل أحد أعيان الحيرة عندما فتحها، قال له: من أين خرجت؟ فقال الرجل: من بطن أمي. فعلام أنت؟ فقال: على الأرض. قال: فيم أنت؟ فقال: في ثيابي. قال: أتعقل لا عقلت؟ فقال: أي والله وأقيد! قال: ابن كم أنت؟ فقال: ابن رجل واحد! قال خالد: ما رأيت كاليوم قط إني أسأله وينحو في غيره! فقال الرجل: ما أنبأتك إلا عما سألت. فسل عما بدا لك.

فقصد خالد من السؤال الأول: من أي بلد جئت. فحمل الرجل الخروج على معنى، آخر عير المراد، ولكنه لم يغير ، ولم يبدل.

وقصده من الثاني: على أي عقيدة أنت، أو بأي دين تدين.

وقصده من الثالث: نفس قصده من الثاني.

وقصده من الرابع: أتفهم لا فهمت، فحملها الرجل على عقال البعير.

ومن الخامس: كم مضى من عمرك.

ومن لطائفه في الشعر قول أحدهم:

قلت: ثَقّلْتُ إذا أتيتُ مراراً قال: ثَقْلتَ كاهلي بالأيادي

قلتُ: طوّلت. قال: أوليت طولاً قلت: أبْرَمتُ، قال: حبل ودادي

وفي العدد القادم إن شاء الله نتحدث عن العنصر الرابع من عناصر الدعوة الإسلامية وهو البصيرة في الدين.

(1) بتصرف من تفسير القيم لابن القيم ص344 في تفسير الآية:(ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة).

(2) النماذج منقولة من كتاب المؤلف (البلاغة العربية) علم البديع.

(3) دكتور مصري أستاذ في الأدب العربي والشريعة الإسلام

=============

الحكمة في الدعوة إلى الحق بين الإفراط والتفريط

الحكمة كما قال العلماء: هي وضع الشيء في موضعه، وهي نعمة من نعم الله - سبحانه - من رُزقها فقد أوتي خيراً كثيراً كما قال - تعالى -: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فلابد للعلماء والدعاة أن يتصفوا بالحكمة ويتعلموها لإيصال العلم والحق والإسلام إلى من يخاطبونه.

ومتى عدمت الحكمة فات المقصود وحصل الخلل وكثر الجدل والمراء، وأعظم الحكمة في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -: أن ينزل المدعو المنزلة اللائقة به، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنزلوا الناس منازلهم) حديث حسن المتن رواه جماعة من الصحابة بأسانيد لا تخلوا من مقال، لكن بجموعها يرتفع الحديث، ومن هنا فإن الداعية إلى الله - سبحانه وتعالى - والعالم المعلم للناس الخير عليه أن يدرك من خلال قواعد الشرع تقسيم المدعوين إلى ثلاث أقسام يجب معرفتها:

القسم الأول:

جاهل بالحكم غير مدرك ولا معاند وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى رفق ورحمة وإيضاح للحق معاملة له بالحال التي تناسبه.

القسم الثاني:

عالم بالحكم ولكن عنده شيء من التفريط والإهمال والغفلة وهذا القسم نوعان:

1)نوع يأتي بعد ارتكاب المخالفة وقد صحى ضميره وانتبه قلبه وثاب رشده يريد معرفة ما يلزمه ويبحث عن طريق الخلاص من ذنبه فهذا النوع يحتاج لطريقة خاصة للتعامل معه وتشجيعه وهدايته والرفق به وفتح آمال المستقبل أمامه وتثبيته على الاستقامة حتى يشعر بحلاوة السهولة واليسر فيستمر في إحياء قلبه وإزالة أثار الرجس، والمخالفات فلابد من استعمال الحكمة معه بما تقتضيه حاله.

2)النوع الثاني المستمر في تفريطه وإهماله وغفلته ومخالفته وهذا يحتاج لوصفة خاصة لأنه مازال مريضاً، وربما وقع في أمراض أخرى فالحكمة معه معرفة الأمراض التي تلبس بها وإدراك الأغراض التي تنذر بوقوعه في أمراض أخرى واستعمال الحكمة معه لمعالجته بحسب الحال التي هو فيها.

القسم الثالث:

العالم الذي يتلبس بشيء من العناد والكبر ويتمتع بجرأة فائقة في رد الحق أو التردد في قبوله وربما تجاوز إلى دفعه ومحاربته وقد يمارس الجدل ويتستر بغطاء حق فيما يظهر للناس لكنه يريد بمزاعمه تلك الباطل، وهذا أنواع كثيرة أيضاً يحتاج العلماء والدعاة لمعرفة الحكمة في إدارة الدعوة معهم وكشف خفاياهم وزيفهم وإيضاح كل ذلك بحكمة وبصيرة.

هذه الأقسام إذا أدركناها عرفنا أنه ليس من الحكمة أن نسوي كل قسم بالآخر بل لابد أن ننزل كل قسم منزلته في خططنا الدعوية والعملية، وقد أصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المنهجية بقاعدة مهمة تدرك من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يوم بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن حيث قال له: " إنك تأتي قوماً أهل كتاب" وقصة بعثة معاذ إلى اليمن بكاملها منهج متكامل تحتاج لرصدها بكاملها من قبل الدعاة لأن فيها من منهج الحكمة الشيء الكثير.

وعندما نتأمل في الجملة التي قدمناها من قصته نلحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك، ليكون معاذ على خبرة ودراية بحال المدعوين فيضع له منهجاً لإيصال الحق لهم وخطة لإيصال العلم إليهم فبدأ من حيث يحتاجونه لا من الصفر وهذا يعني أن على الدعاة والعلماء أن يدركوا الأرضية التي يقف عليها المدعو وذلك لا يتأتى دون دراسة ما يحيط بالمدعو من أحوال وأوضاع تسهل إيصال الحق إليه وتعمل بالحكمة والموعظة الحسنة لتجلية ما خفى فإن عرف أن المدعو يريد المكابرة والاستكبار والنفور والتعدي على الحق، كان من الحكمة منع الاستكبار والتعدي ومنع الطرق الملتوية التي ينفذ منها هذا القسم بقصد تجميد الحق وتفسيخه أو إزالته بالكلية وإن زعم الاستقامة والامتثال: وفيما يلي نضرب بعض الوقائع من عمل صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - في استعمال الحكمة في الدعوة والبيان في أمثلة تدلنا على حاجة العلماء والدعاة للدراسة والتأصيل في حال وقعنا ومعرفة ما نحتاجه حتى نوصل الحق لمريديه ونحميه من المعتدين عليه وفق منهجية الرسول محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وبعيداً من سلوك تفسخ القائلين والمفتين لما يحدث من حرب للدين وقيمه بما يصدرونه من أحكام مجانبة للحق في قولهم للمعتدين على الحق: (هذه أمور داخلية تخصكم لا ندخل في قضاياها)

 

وحتى نبعد عن النوم العميق الذي يمارسه كثير ممن يعدون في الدعاة ويحسبون على العلم وأهله بما يمارسونه من تفسير للحكمة بطريقة سلبية أدت إلى ظهور تفسخ الباطل وانتشاره بنشوة تحت ظل ممارسة ذلك السكوت الرهيب الذي يمارسه فريق من حماة الحق تحت مسمى الحكمة دون معرفة مواضع وضع الحكمة بل إنهم جعلوا من الحكمة أن لا حكمة وأصبح يمارس البعد عن الحق والاعتداء على الدين تحت سمع وبصر هذا الفريق الذي قعد للمعاندين قاعدة الدين يسر " ويسروا ولا تعسروا " ليأتوا بها على لسان هذا الفريق بعد كل منكر يقترف وبين يدي كل إثم يراد له أن ينتشر ويسمون كل هذا حكمة. كما أننا نريد من ضربنا للأمثلة محاربة ظاهرة سلوك العنف المطلق بحجة الحكمة أيضاً في حماية الحق وإبرازه وفرضه تحت مبررات كثيرة تستعمل جانب القوة وتنسى الجمع بين أدلة العقوبة وأدلة العفو ولا تتأتى الحكمة إلا في الجمع بين الأدلة ومعرفة إنزال النصوص على أحكامها ومتى يكون العفو ومتى تجب العقوبة.

0000000000000000000

"لأن يهدي الله على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس

 

هذه الوصية الغالية، والكلمة الطيبة، من أهم ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وقد بعثه إلى اليمن معلماً ومرشداً، وفي الحقيقة فإنها وصية للأمة الإسلامية جمعاء، لأن هداية الخلق وإرشادهم هي غاية الشرع ومقصوده، والمراد بالهداية هنا هداية الإرشاد والتوجيه، أما هداية القلوب فلا يملكها إلا الله: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"، "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".

وحكم الدعوة إلى الله الوجوب العيني على من تعينت عليهم من العلماء وطلاب العلم: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"، والوجوب الكفائي على غيرهم من عامة المسلمين حسب الطاقة.

ووسائل الدعوة كثيرة ومتنوعة ومختلفة باختلاف الداعين والمدعوين، فالدعوة إلى الله تكون بالقدوة الحسنة بالفعال والخصال قبل الأقوال، وباللسان والبنان، وبالمال والإحسان، وشروطها الصدق، والإخلاص، والعلم، والرفق، والتلطف، والحكمة: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".

والدعوة إلى الله هي وظيفة الأنبياء والرسل وورثتهم من العلماء العاملين، لهذا فلا يحول بينهم وبين عملهم هذا حائل سوى الموت، لا يمنعهم من ذلك خوف، ولا مرض، ولا حبس، ولا غربة، فإن منعوا من الكلام، وعزلوا عن الأنام، وغربوا عن الأوطان، هرعوا إلى الكتابة، وإن حيل بينهم وبين أدواتها استعاضوا عن ذلك بما تيسر، ففي الفحم عوض عن القلم، وفي الرأس عوض عما في الكراس، وفي الحيطان والجدران عوض عن الدفاتر والليحان.

فرسولنا الكريم وإمامنا العظيم لم يمنعه خوفه من الرصد ومطاردة قريش له من أن يؤدي واجبه ويقوم برسالته، وذلك عندما التقى، وهو في طريق هجرته إلى المدينة، ببريدة بن الحصيب الأسلمي وقومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، وها هو نبي الله يوسف عليه السلام لم يمنعه الحبس والسجن من دعوة المسجونين إلى توحيد الله عز وجل، فقد استغل فرصة سؤال بعض المسجونين له عن تأويل رؤيا منامية قائلاً: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بهــا من سلطــان".

وما فعله الرسل مارسه ورثتهم في الحبس، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وشمس الأئمة السرخسي، وغيرهما كثير، مما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية يحول نقمة السجن إلى نعمة، حيث قال عندما أودع سجن القلعة بدمشق ظلماً وعدواناً: "وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب"، وحيث سخر من صنيع أعدائه به، (فقال عندما قال له بعض المشايخ: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أونفيك، أوحبسك: "إن أنا قتِلتُ كانت لي شهادة، وإن نفيتُ كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص دعوتُ أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبداً، وأنا مثل الغنمة التي كيف تقلبت تقلبت على صوف"، فيئسوا منه وانصرفوا).

عليك أخي الداعية بالوسيلة الباقية، بنشر العلم، وكتابته، وتدوينه.

العلم صيد، والكتابة قيد              قيِّد صيودك بالحبال الواثقة

إذا أردت ألا ينقطع عملك، وأن تتصل دنياك بآخرتك: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وابن صالح يدعو له".

لذلك فإن كثيراً من العلماء الربانيين حرصوا على الكتابة والتأليف، والفتوى والتدريس وهم في غياهب السجون، وقد منعوا من أسبابها، وحرموا من أدواتها، فجل رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية خرجت من السجن، وكتبت بالفحم، ودونت على الجدران والحيطان، منها: منهاج السنة المحمدية، الإيمان، الاستقامة، تلبيس الجهمية، الفتاوى المصرية، الرد الكبير على من اعترض على رسالة الحلف بالطلاق، والرد على الإخنائي، وغيرها كثير.

(وأملى شمس الأئمة السرخسي كتابه "المبسوط" نحو خمسة عشر مجلداً، وهو في السجن بـ"أوزجند" كان محبوساً في الجب بسبب كلمة نصح بها الخاقان، وكان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في أدنى الجب وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات: "هذا آخر العبادات، بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات"، وقال في آخر شرح الإقرار: "انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، أملاه المحبوس في محبس الأشرار").

على العلماء وطلاب العلم والدعاة الاقتداء بأمثال هؤلاء الرجال، والتأسي بسير الأخيار، والتشبه بمن سلف من الأبطال، فإن التشبه بالرجال فلاح، ومن سار على الدرب وصل، كل ذلك مع حسن النية وصدق الطوية، والله الموفق للخيرات، والمقيل للعثرات، والصلاة والسلام على من ختمت به الرسالات، وعلى آله وصحبه السادات، وعلى التابعين لهم في الخيرات

---------------

الإعداد الذاتي للداعية

يعد الجانب الذاتي الجزء المهم و الأساس في برامج التربية و التدريب، و من دونه لا تنجح هذه البرامج و لا تحقق أهدافها، ذلك أن عجلة الحياة لا تتوقف؛ فتأتي في كل لحظة بتجارب و أفكار و خبرات و فرص لا يجوز فوتها.

والمنهج الإسلامي في التربية و العبادة يرى هذه الرؤية و الفلسفة، فالعبادات و المعاملات تنبثق من رقابة ذاتية و مسؤولية لدى المسلم مع الحرص والرغبة في نيل رضا الله تعالى، و الشعور بأنه يراقبه دائماً وينتظر الثواب و يخاف العذاب.

وتؤكد الآيات و الأحاديث دائماً على ضرورة وعي الأهداف والحكم من العبادات، فإنها من غير ذلك تكون أفعالاً جوفاء، قال تعالى -: (أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فإن لم يحقق المسلم بالصوم التقوى؛ فقد أخل بالغرض الذي شرع الصوم من أجله، و إن كان يشارك المسلمين بالشعائر الظاهرة للصوم، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب" وقال تعالى -: (لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم)، وقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم تزده من الله إلا بُعداً".

وحين نفكر في تحقيق حكم العبادات و جوهرها؛ نجد أن الدافع الذاتي والحرص على الشعور بها هو الذي يجعل هذه العبادات و الشعائر ليست حركات شكلية؛ بل أداءً حياً يسري في حياة المسلم اليومية و في ضميره و روحه و عقله، فيصقله و يسمو به عن المعصية و الانحراف.

و يقدم الحديث النبوي تمثيلاً حكيماً مؤثراً حين يرينا كيف يختلف أثر الدعوة في الناس حسب طبائعهم و مشاربهم و صفاتهم الفردية؛ فالناس كما وصفهم الحديث في معاملة ما بعث الله به نبيهم - صلى الله عليه و سلم- كمثل الأرض و التربة: بعضها طيب فيقبل الماء فينبت الكلأ، و بعضها يحفظ الماء للناس ولا تقبله، و بعضها قيعان لا تحفظ ماء ولا تنبت زرعاً!.

و حين نستعير الأفكار السابقة، و نجعلها في برامج العمل؛ نؤكد أولاً أن منهاج العمل الإسلامي يعتمد غالباً في النجاح و الفاعلية على الجهد الذاتي والصفات الفردية لدى الدعاة، وهم يستفيدون من هذه البرامج بقدر استعدادهم وجهودهم الذاتية.

وحتى نعين الأخوة الدعاة على فهم هذه الفكرة في خطوات وبرامج عملية؛ فإننا نقدم الأفكار والاقتراحات التالية:

1 يكف معظم الناس بعد سن الخامسة والعشرين بسبب مشاغل الحياة وزيادة المسؤولية، وضعف الحماس والتقدم في السن، وضعف الصحة عن ممارسة مواهب نافعة، يكفون عن المطالعة و القراءة و المشاركة في الأنشطة العامة، لكن على الداعية أن يلتزم مهما تكن حاله اقتصاص وقت مناسب للقراءة والمشاركة والرياضة والكتابة والأعمال الفنية والحرفية، فإنه إن لم يفعل سيجد نفسه بعد سنوات فقد صلته بالمجتمع المحيط والأجيال الصاعدة.

2 أن يرسم الداعية خطة للثقافة الذاتية الجادة لتحقق فهماً للإسلام وأحكامه و المجتمع الواقع المحيط، و العمل الجماعي وأصوله وقواعده تعتمد على المصادر الأولية والبحث العلمي، و تتجاوز الكتب المبسطة، أو الكتب المختصرة المتكررة.

3 أن يشترك الداعية في مكتبة عامة و يتتبع المجلات المختصة والنتاج الفكري الجديد في مجال واحد يختاره.

4 غنيمة الفرص والسعات التي تتيحها المؤسسات التي يعمل بها أو يدرس، كالدورات مثلاً، و لا يزهد فيها أو تمنعه مشاغله أو ضعف همته و إرادته لتحول بينه و بينها.

5 حيازة أكبر قدر ممكن من المهارات العملية و الفنية و الحرفية، كرخصة السواقة و الحاسوب و المقالة الصحفية و الأدبية و الرسم، أو المهارات اليدوية و الفنية كصيانة السيارات و الأجهزة و الحدادة و النجارة و كل ما ينفع المسلم و المسلمين، والسعي الدائم في الاعتماد على النفس في أداء الأعمال اليومية والاحتياجات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".

6 المشاركة في الدورات التي تعقدها مؤسسات شتى لقاء أجر، كالمراكز المهنية الأهلية المختلفة.

7 إتقان لغة أجنبية يوسع الداعية ويزيد ثقافته.

و أخيراً فثمة أوصاف و شروط تلزم الداعية والمشاركين في العمل الإسلامي نذكر الدعاة بها ليسعوا إلى تحقيقها:

- رحابة الصدر و سعة الأفق.

- احتمال الرأي الآخر والرضى برأي الغالبية.

- فهم الأحداث الجارية و ربطها و تفسيرها.

- فهم المجتمع المحيط فهماً أصيلاً يحيط بتاريخه ونشأته وأسبابه الحضارية و الثقافية و الاقتصادية و الخدمات و المرافق.

- دراسة تاريخ الدعوة الإسلامية و مبادئها، و سبر أعماق العمل الإسلامي الاجتماعية و التنموية و النقابية.

- اغتنام الوقت وحسن تقسيمه.

- القدرة على الإدارة و التخطيط، و إدراك أصول العمل الجماعي وقواعده العلمية.

ولا بد أن يحقق الداعية نفسه جملة من الأخلاق و الشروط ذكرناها آنفاً، لكننا نوردها هنا ليفهم الداعية أنها إطار التكوين الذاتي و جوهره، وبدونها يفقد العمل معناه، ولا يختلف عن سواه من الأعمال، وهي: تقوى الله، وعبادته، والإنابة إليه، والشجاعة، و الكرم، والحلم، و الأناة، والقدوة الحسنة، وسائر ما وصى به ديننا الحنيف، وما تسعى به الدعوة الإسلامية؛ ليتحلى به أبناؤها: (و لباس التقوى ذلك خير)، (و اتقوا الله و يعلمكم الله

000000000000

حكم الدعوة إلى الله وفضلها

للشيخ عبد العزيز بن باز

أما حكمها: فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، وأنها من الفرائض، والأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ومنها قوله جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ومنها قوله عز وجل: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومنها قوله سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله، وهم أهل البصائر، والواجب كما هو معلوم هو اتباعه، والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية، بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة، فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة، وعملا صالحا جليلا.

 

وإذا لم يقم أهل الإقليم، أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام، صار الإثم عاما، وصار الواجب على الجميع، وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد، فالواجب: أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة، تبلغ رسالات الله، وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة، وأرسل الكتب إلى الناس، وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل.

وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر، من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة: عن طريق الإذاعة، وعن طريق التلفزة، وعن طريق الصحافة، ومن طرق شتى، فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشوا في الله لومة لائم، ولا يحابوا في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله، كما أنزل الله، وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر، ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ، والأمر والنهي غيرك، فإنه يكون حينئذ في حقك سنة، وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات، وسابقا إلى الطاعات، ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الآية، قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم، تدعو إلى الله، وتنشر دينه، وتبلغ أمره سبحانه وتعالى، ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله، وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته، وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم، ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم، كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه، فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم، تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك، ووجد فيها من تولى هذا الأمر، وقام به وبلغ أمر الله، كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة، لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه.

ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله، وإلى بقية الناس، يجب على العلماء حسب طاقتهم، وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم، أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة.

وبهذا يعلم أن كونها فرض عين، وكونها فرض كفاية، أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام، لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.

أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار، حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق، كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل، وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم، وحسب علمهم، ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما، وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، أو يتكلوا على زيد أو عمرو، فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك، والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل، ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة، للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.

فضل الدعوة

وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة، كما أنه ورد في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم، ومن ذلك قوله جل وعلا: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم، وأنه لا أحد أحسن قولا منهم، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل، فأنت يا عبد الله يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل، ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المعنى: لا أحد أحسن قولا منه لكونه دعا إلى الله وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه، يعني: دعا إلى الحق وعمل به، وأنكر الباطل وحذر منه، وتركه، ومع ذلك صرح بما هو عليه، لم يخجل بل قال: إنني من المسلمين، مغتبطا وفرحا بما من الله به عليه، وليس كمن يستنكف عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم، أو بأنه يدعو إلى الإسلام، لمراعاة فلان أو مجاملة فلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل المؤمن الداعي إلى الله القوي الإيمان، البصير بأمر الله يصرح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرح بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال عز وجل:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فالفرح برحمة الله وفضله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر، والفرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون:(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)

هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم، وهذا هو الذي ينهى عنه..

أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله، والفرح بهداية الله، والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم، فأمر مشروع وممدوح ومحمود، فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة، وأنها من أهم القربات، ومن أفضل الطاعات، وأن أهلها في غاية من الشرف وفي أرفع مكانة، وعلى رأسهم الرسل عليه الصلاة والسلام، وأكملهم في ذلك خاتمهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فبين سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على بصيرة، وأن أتباعه كذلك، فهذا فيه فضل الدعوة، وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة، والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، وفي هذا شرف لهم وتفضيل، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " رواه مسلم في الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " أخرجه مسلم أيضا، وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعلي رضي الله عنه وأرضاه: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " متفق على صحته، وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم، وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطى مثل أجور من هداه الله على يديه، ولو كانوا آلاف الملايين، وتعطى أيها الداعية مثل أجورهم، فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير العظيم، وبهذا يتضح أيضا أن الرسول عليه الصلاة وللسلام يعطى مثل أجور أتباعه، فيا لها من نعمة عظيمة يعطى نبينا عليه الصلاة والسلام مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة، لأنه بلغهم رسالة الله، ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام، وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم عليهم الصلاة والسلام، وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك، فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.

000000000000000

ضوابط للعمل الجماعي الاجتماع والائتلاف خير، ولكن علام نجتمع؟

 

أسس الائتلاف والاجتماع

1.  الاتفاق على الثوابت والمسلمات

2.  تحديد مجالات العمل

3.  الطاعة لا تكون إلا في المعروف

4.  أن لا يضم التجمع أحداً من أصحاب البدع الكفرية

5.  أن يتولى القيادة علماء شرعيون

6.  الاقتصار على أهل السنة

عوامل تؤدي إلى التفرق

الحذر من السعي لجمع المتناقضات

ما من عاقل إلا وهو قلق وحزين للتفرق والتشرذم الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأدى إلى ضعفها، وهوانها، وتكالب الأمم الكافرة عليها، وإلا وهو يسعى لتضييق دائرة الخلاف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأن التخلص منه كلياً أمر لا سبيل إليه البتة بحكم الله: "وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"، قيل: ما الواحدة؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم"، "وسألتُ ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم شديد فأبى".

بان من ذلك أن المطلوب من المسلم أمران، هما:

1. أن يعتصم هو بالكتاب، والسنة، وما أجمعت عليه الأمة، ولا يحيد عن ذلك.

2. أن يسعى لجمع الأمة وتوحيدها على هذا الأساس.

وهناك فرق كبير بين أمرين، يخلط بينهما كثير من النـاس، سيما العاملون في مجال الدعوة، هما:

1.  الانتساب إلى جماعة مخالفة عقدياً، ومنهجياً، وسلوكياً لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.

2. التنسيق والتعاون مع كافة فرق أهل القبلة من غير استثناء عند نزول الكوارث، وحلول الفتن، وغزو ديار الإسلام، مهما كانت درجة التزام من حلَّ بهم هذا البلاء بالإسلام، كما حدث ذلك قديماً عندما هجم التتار على دار الإسلام، حيث قام العلماء الربانيون في مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه في حث جميع طوائف المسلمين حكاماً ومحكومين للذب عن الدين ودياره وحريمه.

وكما حدث في هذا العصر عندما غزا السوفيت أفغانستان، وتآمر الصرب على المسلمين في البوسنة والهرسك، وهرع البعض لنصرة إخوانهم في الشيشان، وكذلك عندما شرعت أمريكا في حربها الصليبية، بدءاً بأفغانستان والعراق، وهبَّ من وفقه الله لنصرة الإسلام.

فالانتساب في الحالة الأولى لا يحل، لأن الانتساب إلى الجماعة التي تقوم على المنهج الصحيح من المباحات، فكيف إذا كان هناك عدد من الانحرافات؟

أما في الحالة الثانية، حال التنسيق والتعاون ودفع الصائل، قد يصل الأمر فيه إلى درجة الوجوب لمن تعين عليهم ذلك ممن يليهم.

وثمة أمر آخر، وهو أن هناك ساحات ليست بالقليلة يباح الاختلاف غير المصَاحَب بالبغي فيها، وهي دائرة خلاف التنوع في الفروع، كيف وقد خالف ابن مسعود عمر رضي الله عنهما في مائة مسألة من ذلك، ومع ذلك كان حكم عمر على ابن مسعود بأنه: "كنيِّف ملئ علماً"، وقال ابن مسعود عند استشهاد عمر: "لم يصب الإسلام بمثل مصيبته في عمر".

وفي هذا الإطار يمكن أن تحمل المقولة التي قالها الشيخ محمد رشيد رضا وتبناها الشيخ حسن البنا رحمهما الله: "دعونا نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، هذا إذا لم يتعد الاختلاف حدوده السائغة، أما إذا تعداه إلى خلاف التضاد فقد حرم الانتساب والاجتماع معه.

فهذه المقولة لا يمكن أن تطلق على علاتها، إذ لابد أن تقيد بهذا القيد، وإلا فإنها تأتي بالطوام العظام، لأنه لا يملك أحد أن يعذر أحداً أويأذن له في الممارسات الشركية، أوفي تأويل صفات الرب سبحانه وتعالى، أوأن معاني هذه الصفات غير معقولة ولم يتعبدنا الله بها؟

لا يملك هذا إلا صاحب الشريعة، فما أذن وعذر فيه صاحب الشريعة حقَّ لنا أن نأذن ونعذر فيه، وما لم يأذن ويعذر فيه فلا يحل لأحد أن يتجرأ عليه.

ã

أسس الائتلاف والاجتماع

للائتلاف، والاجتماع، والانتساب للعمل الإسلامي أركان وأسس ينبغي مراعاتها:

1.  الاتفاق على الثوابت والمسلمات

حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف أبرز معالم الفرقة الناجية المنصورة التي يتحتم توفرها في كل مسلم يريد النجاة يوم القيامة: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم"، هذه الكلمة الجامعة المانعة، فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.

ما أيسر وأسهل الإقرار بذلك من الناحية النظرية، وما أصعب وأشق الالتزام بذلك عملياً، في العقيدة، والتصور، والمنهج، والعبادة، والسلوك، والمعاملات.

هذا هو الركن الأساس للاجتماع والائتلاف، فإذا فقِد أوأخِلَّ به فلا قيمة لأي أساس أخر، ومن ثم يحرم الاجتماع والانتساب مع فقده كلياً أوجزئياً، فجل التفرق والتمزق الذي أصاب الجماعات العاملة في مجال الدعوة مرده إلى فقدان ذلك أوالإخلال به.

ã

2.  تحديد مجالات العمل

لا بد من تحديد المجالات التي يود العمل فيها، وتستوجب التعاون،  إذ عدم الاتفاق على ذلك بصورة قاطعة معول من معاول التفرق بعد اجتماع.

من أخطر المجالات التي ينبغي أن تكون الرؤية فيها واضحة وجلية:

1. الجانب السياسي: إذ تعتبر السياسة في هذا العصر أول عامل للتفرق والتشتت، لكثرة مزالقها، وقذارة أساليبها.

2. جانب المرأة: لقد حدد الإسلام مجال عمل المرأة وقصره على البيت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية على بيت زوجها و ولده، ومسؤولة عن رعيتها".

أما منح المرأة حقاً لم يمنحه لها الشارع الكريم، ومطالبتها بأن تزاحم الرجل، وتتمنى ما فضل الله به الرجال عليها، وتنخدع بدعايات وأكاذيب دعاة إفساد المرأة وإخراجها من بيتها، فيما يعرف بالحقوق السياسية، فهذا عين المخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.

ã

3.  الطاعة لا تكون إلا في المعروف

من المسلمات في هذا الدين أن الطاعة فيه لكل من وجبت عليك طاعته بالمعروف، فلا مجال لطاعة أحد قائد جماعة أوغيره في غير طاعة الله.

ã

4.  أن لا يضم التجمع أحداً من أصحاب البدع الكفرية

هذا أيضاً من المسلمات في هذا الدين، فالتجمع الذي يضم بعض أصحاب البدع الكفرية ومن باب أولى القادة، دعك عن الكفار، لا يحل لأحد الانتساب إليه، أوالتنسيق معه.

ã

5.  أن يتولى القيادة علماء شرعيون

لا يحل لأحد أن يسعى لتجمع أوينتسب لجماعة يتولى قيادتها غير العلماء الشرعيين، سيما العلمانيين، فلا مجال لتصدر هؤلاء، بل ينبغي الفرار من هذا الصنف أكثر من الفرار من السباع الضارية.

ã

6.  الاقتصار على أهل السنة

هذا الشرط لازم من الشرط الأول، وهو الكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.

ã

عوامل تؤدي إلى التفرق

في غمرة الحرص على التجميع ولمِّ الصف يغفل البعض عن أمور مهمة يجب الحذر منها، لأنها  عوامل هدم، نشير إلى أخطرها:

1.  الحرص على الكثرة من غير التفات إلى الكيف.

2.  تحكيم العواطف على العقل.

3.  الحذر من التعامل بردود الأفعال.

4.  أن لا يكون التجمع غاية في ذاته، وإنما يكون وسيلة لتحقيق غايات وأهداف مشروعة.

ã

الحذر من السعي لجمع المتناقضات

في بعض الأحيان قد يكون التمايز والانفصال من الجماعة المعينة خيراً من البقاء فيها، فالطلاق بغيض وكريه إلى النفوس، ولكن شرعه الله في بعض المواطن التي يستحيل معها البقاء والاستمرار، ولهذا جاء في الأثر: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فآخر العلاج الكي، وما لا يدرك كله لا يترك جله.

فالسعي للتجمع ينبغي أن يكون بين الذين تجمعهم أرضية مشتركة، وأن يكون هناك توافق، خاصة في مجال العقيدة، والتصور، والمنهج، في دائرة أهل السنة الرحيبة.

السعي للتوفيق بين فصائل الجماعة الواحدة إذا كان بينها تباين واضح واختلاف كبير، أوكانت هذه الفصائل بينها جامع مشترك من المخالفات العقدية لا يحل.

فمثلاً إذا كان يتزعم فصيلاً من تلك الفصائل إمام من أئمة البدع فلا يحل السعي للاجتماع بهذا الفصيل، سيما لو كان يغلب على الظن أن يتولى هذا المبتدع قيادة الجماعة إذا اجتمعت لا قدر الله، فالسعي لهذا غير مشكور، والساعي مأزور غير مأجور.

ولهذا لا ينبغي السعي للاجتماع والائتلاف لمجرد التجمع وتكثير "الكيمان"، من غير أن يكون هناك محاولات جادة لمراجعة الأسس والقواعد التي ينبغي أن تقوم عليها أي جماعة من الجماعات التي تريد العمل للإسلام، وبالطبع لا يدخل في ذلك أسباب الخلافات الشخصية المتمثلة في الهيمنة، والسيطرة، والحرص على القيادة والزعامة.

ومن باب أولى وبالأحرى السعي للتوفيق والجمع بين المتناقضين: السنة والشيعة، وقد سعي لذلك من قبل، وكونت لجان ومكاتب للإشراف على ذلك، ولكن دون جدوى، لأن الفوارق بين السنة والشيعة فوارق عقدية كبيرة.

فلا فائدة ترجى ولا ثمرة تجنى من هذه المساعي مع إصرار الرافضة على بعض العقائد الكفرية، نحو:

1. تضليلهم وتكفيرهم لخيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين.

2. رميهم لعائشة بالعظائم التي برأها الله منها.

3. زعمهم أن لهم قرآناً يساوي ثلاثة أضعاف قرآننا، ويعرفونه بقرآن فاطمة الزهراء.

4. خذلانهم لأهل السنة قديماً وحديثاً، وتعاونهم مع الكفار للقضاء عليهم، كما صنع ذلك الرافضي ابن العلقمي مع التتار، وكما يصنع أحفاده اليوم في العراق، حيث كانوا المعين الأساس لضرب الإسلام فيه.

هذا على سبيل المثال لا الحصر، فكيف يمكن الجمع بين أولئك القوم وبين أهل السنة مع هذه المخالفات العظيمة؟!

ومن باب أولى تلك الدعوة الكفرية التي يرفعها البعض للتوحيد أوالتقارب بين الأديان، تحت مسميات مختلفة ذات مدلول واحد.

الذي ينبغي أن يجدَّ فيه دعاة التوحيد قبل العمل على تجميع أهل السنة خاصة، والمسلمين عامة، ويوضحوه ويجلُّوه تجلية كاملة، علام يكون الاتفاق والاجتماع؟! لأن هذا هو الخطوة الأولى والبداية الصحيحة للتجمع المثمر المفيد، ويؤمن بعد الله من حدوث التفرق والانقسامات فيما بعد.

والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل الرشاد، ويريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، والباطل باطلاً ويلهمهم اجتنابه.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي أكمل الله على يديه الدين، وأتم به النعمة، وختم به الرسالة والنبوة، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.

***************

الباب الرابع- ركن  العلم

 

أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء

 

العلماء منزلتهم رفيعة، ومكانتهم عند الله عالية، فهم ورثة الأنبياء، والمبلغون الموقعون عن رب الأرض والسماء، وعن الرسول المجتبى، والحبيب المصطفى، ويكفيهم شرفاً وعزة أنهم الواسطة بين الخلق وربهم، فقد شاطروا الأنبياء، وقاسموا الرسل في التبليغ، والتعليم، والإرشاد، فما أطيب أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.

ثبت في الصحيح من حديث الزهـري عن أبي الطفيـل أن نافـع بن عبد الحـارث أتى عمـر بن الخطاب بعسفان وكان عامل عمر على مكة فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى؛ فقال: من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا؛ فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين".

وقال أبو العالية: كنت آتي ابن عباس وهو على سريره، وحوله قريش، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامز بي قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً، ويجلس المملوك على الأسرة.

جاء في كتاب "الجليس والأنيس" لأبي الفرج المعافى بن زكريا الجريري: (أن معاوية رضي الله عنه ابتنى بالأبطح مجلساً فجلس عليه ومعه زوجه ابنة قرظة، فإذا جماعة على رحال لهم، وإذا شاب قد رفع عقيرته يتغنى:

من يساجلني  يساجل  ماجداً                يملأ الدلو إلى عقـد  الكرب

قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر؛ قال: خلوا له الطريق؛ ثم إذا هو بجماعة  فيهم غلام يتغنى:

بينمــا يذكرنني أبصرنني               عند قيد الميل يسعى بي الأغر

قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم                قد عرفناه وهل يخفى القمر؟!

قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة؛ قال: خلوا له الطريق فليذهب؛ قال: ثم إذا هو بجماعة، وإذا فيهم رجل يُسأل، فيقال له: رميت قبل أن أحلق، وحلقت قبل أن أرمي؟ في أشياء أشكلت عليهم في مناسك الحج، فقال: من هذا؟ قالوا: عبدالله بن عمر؛ فالتفت إلى ابنه وقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة.

قال الذهبي: قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف، وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، اتقِ الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك؛ فقال له: أفعل؛ ثم نهض وقام، فقبض على يده عبدُ الملك، وقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا عن حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة؛ ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد.

وقال الزهري: قال لي عبد الملك بن مروان: من أين قدمتَ؟ قلت: من مكة؛ قال: فمن خلفتَ يسودها؟ قلت: عطاء؛ قال: أمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي؛ قال: فبِمَ سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية؛ قال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا.

ثم سأله عمن يسود بقية الأمصار، فإذا جلهم من العجم، فتعجب عبد الملك من ذلك، فقال له الزهري: يا أمير المؤمنين، إنما هو الدين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.

قال إبراهيم الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه، قوما؛ فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

وقال الحربي: وكان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخل في بدنه، وكان منكباه خارجين كأنهما زجان؛ فقالت له أمه: يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه، المسخور به، فعليك بطلب العلم، فإنه يرفعك.

فولي قضاء مكة عشرين سنة.

قال: وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم.

قال: ومرت به امرأة وهو يقول: اللهم أعتق رقبتي من النار؛ فقالت له: يا بان أخي، وأي رقبة لك!

وقال يحيى بن أكثم: قال الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين؛ قال: فتعرف أجل مني؟ قلت: لا؛ قال: لكني أعرفه، رجل في حلقة، يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: يا أمير المؤمنين، أهذا خير منك، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي عهد المؤمنين؟ قال: نعم، ويلك، هذا خير مني، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبداً، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.

وقال خيثمة بن سليمان: سمعت أبا الخناجر يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون والناس قد اجتمعوا إليه، فمر أمير المؤمنين، فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس ألوف، فالتفت إلى أصحابه وقال: هذا والله الملك.

وقال سفيان الثوري: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بالعلم.

وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.

وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء.

وقال سهل التستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان، إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته؛ ويجيء آخر فيقول: حلفت بكذا وكذا، فيقول: ليس يحنث بهذا القول؛ وليس هذا إلا لنبي أوعالم، فاعرفوا لهم ذلك.

قال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أبي عمران، فمر بنا رجل من بني الدنيا، فنظرت إليه، وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أعطي هذا الرجل من الدنيا؟ قلت له: نعم؛ قال: هل أدلك على خلة؟ هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من مال، ويحول إليه ما عندك من علم، فتعيش أنت غنياً جاهلاً، ويعيش هو عالماً فقيراً؟ قلت: ما أختار أن يحول الله ما عندي من علم إلى ما عنده، فالعلم غنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطان بلا رجال.

وفي ذلك قيل:

العلم كنز وذخر لا نفــاد  له               نعم القرين إذا ما صاحب صحبا

قد يجمع المرء مالاً  ثم يحرمه             عما قليل فيلقى الذل والحربــا

ويا جامع العلم مغبـوط به أبداً               ولا يحاذر منه الفوت و السلبـا

يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه             لا تعدلن به دراً ولا ذهبــــاً

قلت: هل كان للتابعي الجليل، والعالم الكبير، عطاء بن أبي رباح، وهو مولى، أسود شديد السواد، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ليس في رأسه شعر إلا شعرات، وقطعت يده مع ابن الزبير، ثم عمي، أن يسـود، وأن يكـون مفتي أهل مكة أكثر من عشرين سنة، سيما في المناسـك، ويقـول ابن عباس لأهل مكة: تجتمعون عليَّ وعندكم عطاء؟ وكان في زمان بني أمية يأمرون في الحج منادياً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح، إلا بالعلم والتقوى والورع؟!

قال رحمه الله: لو ائتمنت على بيت مال لكنتُ أميناً، ولا آمن نفسي على أمة شوهاء.

وكذلك ما كان لابن أبي أبزى، ولأبي العالية، ولمحمد بن عبد الرحمن الأوقص، وغيرهم كثير أن يتصدروا الناس، ويؤموهم، ويسودوهم إلا بالعلم والتقوى.

ورحم الله الزهري عندما قال لعبد الملك راداً على تعجبه من سيادة الموالي على الأمصار بالعلم: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.

ولله در الفقيه الأديب، والعالم الحكيم، أبي إسحـاق الألبيري ، عندما قـال حاضـاً ومشجعاً ابنه أبا بكر على طلب العلم والاشتغال به، في قصيدته التي مطلعها:

تفت فؤادك الأيـام فتــــاً              وتنحت جسمك   الساعات  نحتاً

وتدعوك المنون   دعـاء صدق              ألا يا صاح أنت   أريد  أنتــا

قال رحمه الله:

أبا بكر دعـوتك   لو أجبتــا              إلى ما فيه   حظك لـو عقلتـا

إلى علم تكون به إمـامـــاً              مطاعاً إن نهيتَ وإن أمرتــا

ويجلو بعينك من   غشاهـــا              ويهديك الطريق إذا  ضللتــا

وتحمل منه في ناديك  تاجــاً              ويكسوك الجمال إذا عريتــا

ينالك نفعه ما   دمت  حيـــاً              ويبقى ذكــره   لك إن  ذهبت

هو العضب المهند   ليس ينبـو              تصيب به مقاتل من  أردتــا

وكنز لا تخاف   عليه  لصــاً              خفيف الحمل   يوجد حيث  كنتا

يزيد بكثرة الإنفــــاق منه              وينقص إن   به كفاً شددتـــا

فلو قد ذقت   من حلواه طعمـاً              لآثرت التعلم واجتهدتــــا

ولم يشغلك   عنه هوى مطـاع              ولا دنيا   بزخرفها فتنتــــا

ولا ألهاك عنه أنيــق روض              ولا خدر   بزينتها  فتنتــــا

فقوت الروح   أرواح المعـاني              وليس بأن   طعمت ولا شربتـا

فواظبه وخذ   بالجــــد فيه              فإن أعطاكه الله انتفعتــــا

وإن أعطيت فيه   طـول بـاع              وقال الناس إنك قد علمتـــا

فلا تأمن   ســـؤال الله  عنه              بتوبيخ: علمتَ    فهل عملتـا؟!

فرأس العلم   تقـوى الله  حقـاً              وليس بأن    يقال لقد رؤستــا

عليكم أيها الكبار والصغار بطلب العلم الشرعي، فطلب العلم ليس له عمر محدد، ولكن يتأكد طلبه للصغار والشباب، وعليك أخي المسلم أن تبدأ بالأهم ثم المهم، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالعلم منه ما هو فرض، فإذا بلغ المسلم وجب عليه أن يتعلم كيف يتوضأ، ويغتسل، ويصلي، فإذا دخل رمضان وجب عليه تعلم أحكام الصيام، وهكذا.

ومن أوجب الواجبات تعلم العقيدة الصحيحة لمن تيسرت له.

وعليك أن تتلقى العلم من المشايخ، وأن تحرص على حضور الدروس التي تنعقد في المساجد، وأن تبدأ بصغار العلم قبل كباره، وبالكتب الميسرة، ثم تتدرج فيها.

واعلم أن هذا العلم دين، فانظر عمن تأخذ وتتلقى هذا العلم.

واحذر كذلك أن تشغلك دراستك النظامية عن تحصيل العلم الشرعي، ولا يخدعنك الشيطان بأنك ستتعلم العلم الشرعي بعد التخرج، فهذا من تلبيس إبليس وبعض الأهل.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، ودعوة مستجابة، ونعوذ بك اللهم من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعين لا تدمع.

ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، وصلى الله وسلم على معلم البشرية، وهاديها إلى الطريق السوية، وعلى صحابته، والتابعين لهم بإحسان، ما تعاقب الليل والنهار، وما ناح قمري على الأغصان.

000000000000000

العلماء بين الدور المنشود والدور المفقود

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

أما بعد. . .

فغير خاف على من له علم ومعرفة بدين الإسلام أن للعلماء من رفيع المنزلة وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس. ففضائلهم في الكتاب والسنة مشهورة ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الشريعة والدلالة عليه جل وعلا. قال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء. فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم يحتاج إليهم الصغير والكبير والذكر والأنثى والحاكم والمحكوم. فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوؤوه في الأمة من المكانة والمنزلة. فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح معاش الناس ومعادهم. ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.

ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان وعدم الكتمان كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ (آل عمران: 187). وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: من الآية140)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة: 159). وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام المحن التي تنطمس فيها سبل الهدى ويلتبس فيه الحق بالباطل وتستحكم فيها الأهواء ويتبع الناس فيها كل ناعق ويخفى فيها الحق على طالبه، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بقطع الليل المظلم، أي: الأسود الذي لا نور فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)). رواه مسلم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

 

ولقد مرت أمة الإسلام عبر تأريخها بأزمات كثيرة وفتن متلاحقة قيض الله فيها للأمة من أهل العلم والفضل وأهل النصح والعدل من أنقذ بهم الأمة وحفظ بهم الملة، فأثر العلماء ودورهم في إخراج الأمة من الفتن والنجاة بها من متلاطم المحن مشهور مذكور، فمعهم مصابيح الدجى ومشاعل الهداية التي يخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور. وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بالعز والسناء والرفعة، وأنه لن يزال فيها قائم بأمر الله حتى تقوم الساعة ففي البخاري (6767) ومسلم (3545) من حديث المغيرة وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)). وأهل العلم هم أئمة هذه الطائفة الظاهرة المنصورة.

ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها تمر بمرحلة بالغة الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم العاملين لدينهم الناصحين لأمتهم العالمين بواقع الأمة وما يحيط بها من أخطار. فهؤلاء بهم تسير السفينة ويبلغ المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من أبنائها المشفقين البررة. فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تأريخ أمتنا أن يترجل الفارس أن ينزوي أهل العلم والخير عن ساحات البيان والنصح ومواقع التأثير والإصلاح، بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يساهم في نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين الدعوة والبناء بإخلاص وجد وعلم وبصيرة، فإن نصر الله عز وجل ونصر دينه واجب على أهل الإيمان قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7). ومن رحمة الله وسعة فضله أن نصر المؤمنين لله ولدينه لا يحده حد ولا يقف عند رسم، بل إن استقامة الواحد منا في نفسه من نصرنا لله تعالى. فينبغي أن لا يحقر أحدنا في هذا السبيل شيئاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات)). فكل جهد في نصر دين الله والذب عن أمة الإسلام نافع مبرور مهما قل في أعين الناس وصغر روى البخاري في صحيحه (2681) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما رأى لنفسه على من دونه فضلاً: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) ورواه النسائي(3127) بلفظ: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)). وفي لفظ آخر (3128) ((ابغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)).

إن نجاح أهل العلم في الاضطلاع بدورهم وفي إنقاذ الأمة والخروج بها من حلقات الفتن وسلاسل المحن والإبحار بها نحو الغايات العظام لا يمكن بلوغه ولا سبيل إلى دركه إلا بأسباب تمخر بها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة فإن السفينة لا تجري على اليبس. وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر من إخلاص العمل لله تعالى وإصلاحه بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقوى الله تعالى في السر والعلن، والنصح للأمة والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم واللين والرفق والصبر وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة المتقين التي ينتظمها قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24)

إن كثيراً من أهل العلم الذين يحملون همَّ هداية الأمة وإصلاح أوضاعها لا يخفى عليهم ما لهذه الأسباب من الأهمية والأثر إلا أن هناك سبباً رئيساً غائباً غفل عنه كثيرون، وهو لا يقل أهمية عن الأسباب المتقدمة لإنجاح دور العلماء المنشود في إنقاذ الأمة من الفتن والمحن، ألا وهو تواصل أهل العلم فيما بينهم وتواصيهم بالبر والتقوى والصبر والمرحمة وتعاونهم في ذلك. إن أهل العلم بحاجة ماسة إلى أن يمدوا بينهم جسور المحبة والألفة والاجتماع والأخوة والمشورة، فإن كثيراً من الخير وحظاً وافراً من الإصلاح يتحقق بذلك. ويتأكد هذا التواصل والتواصي في النوازل الكبار والأزمات الجسام لأمور عديدة أبرزها ما حوته النقاط التالية:

أولاً

أن معالجة ما تمر به الأمة من أخطار ومواجهة ما يعصف بها من أحداث أمر يفوق جهود الأشخاص ويتجاوز طاقات الأفراد مهما كانت ألمعية عقولهم ورسوخ علومهم، وقد كان سلفنا يقولون في بعض ما يرد عليهم من مسائل العلم: هذه مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، فإذا كان هذا هديهم في المسائل الشخصية الفردية، فكيف بالنوازل المصيرية التي يتأثر بها واقع الأمة ويرتسم بها مستقبلها، أفيسوغ أن يبت فيه فرد أو يستقل بها رأي؟! فليت شعري من الذي تقوى درعه على تلك السهام. فلا بد من تضافر الجهود وتراص الصفوف ونبذ الاعتداد بالنفس والاستبداد بالرأي وتضخيم الذات، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.

ثانياً

أن جزءاً كبيراً مما أصاب الأمة ويصيبها من الفتن والنكبات إنما هو بسبب ما جرى في الأمة من التنازع والفرقة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها; وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها)).

ثالثاً

أن مما يؤكد ضرورة أهل العلم إلى وصل ما بينهم في أيام الفتن وتواصيهم بالحق والصبر أن الفتن أعاذنا الله منها تغير القلوب وتشوش عليها بما تبعثه من الشبهات المانعة من معرفة الحق والحائلة دون قصده. ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها كقطع الليل المظلم كما جاء في صحيح مسلم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم))، ووصفها أيضاً بأنها عمياء صماء كما في سنن أبي داود (3706) من حديث حذيفة. وإنما وصفت الفتنة بذلك؛ لأن الإنسان يعمى فيها عن أن يرى الحق، وأن يسمع فيها كلمة الحق.

رابعاً

أن واجب النصيحة للأمة يتطلب من أهل العلم ورثة الأنبياء أن يبذلوا وسعهم في دلالة الأمة على خير ما يعلمونه لهم وأن يحذروهم شر ما يعلمونه لهم وإنما يبلغ الناصح ذلك بالاجتهاد في تبين الصواب ومشاورة أولي الألباب من إخوانه، فقد أثنى الله على أهل الإيمان بهذا فقال في سياق الثناء عليهم: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الشورى: 38). وما كان أغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يشاور أحداً وقد تكفل الله له بالهداية والنصر، ومع ذلك فقد أمره الله تعالى بمشاورة أصحابه رضي الله عنهم فقال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159). ولقد بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ بذلك حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في الترمذي: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فواجب على ورثته أن يتأسوا به. قال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل والعقل الفرد ربما ضل.

وقال بشار بن برد:

إذا بـلغ الرأي المشـورة فاستعن            برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة            فإن الخـوافي قـوة للقوادم

ولا طريق إلى تحصيل ذلك مع هذا التقاطع الذي يخيم على علاقة كثير من أهل العلم والفضل ويعد من أكبر العوائق دونه.

خامساً

أن كثيراً من الشر وفساد ذات البين الواقع بين أهل العلم منشؤه ما يكون بينهم من تباعد وتقاطع يورثهم بذور الجفوة التي يسقيها سعاة الباطل ونزغات الشيطان، فالتواصل والتواصي ضمانة لتضييق الدائرة على أسباب الفرقة، وهو كفيل بمحو بذور الجفوة، وإشاعة الألفة والمحبة. ومما قيل: المحبة شجرة أصلها الزيارة.

00000000000000

جانب من تثبت وتورع السلف الصالح عن الفتيا وتجاسر الخلف عليها

 

نماذج لتورع السلف الصالح وتثبتهم عن الفتيا

الأسباب التي تدفع البعض إلى هذا السلوك المشين، والخلق المعوج اللئيم كثيرة

أخطر المسائل التي يجب التحرز من الفتيا فيها

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

المفتي موقِّع عن الله عز وجل، ومبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الواسطة بين الرب والخلق، فعليه أن يعرف قدره، ويتقي ربه، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب، ويتحرى في فتواه، ويدقق في السؤال، ويتأنى في الجواب، وأن لا يخطئ قول "أدري"، وأن لا يستنكف ويستكبر عن ذلك، وليكن له في رسوله، وملائكة ربه، والسلف الصالح، والخلف الفالح الأسوة الحسنة والقدوة الفاضلة، فالخير كل الخير في اقتفاء آثارهم والتخلق بأخلاقهم.

قال ابن المنكدر رحمه الله: إن العالم بين الله وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم.

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر إلى محاسن العلماء، فيجيء الرجل فيقول: يا فلان، إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأته؛ ويجيء آخر فيقول: حلفت بكذا وكذا، فيقول له: ليس يحنث بهذا القول؛ وليس هذا إلا لنبي أوعالم، فاعرفوا لهم ذلك.

وبعد..

فإليك أيها المفتي، والقاضي، والعالم، وطالب العلم، يا من ابتلاهم الله بالفتوى، وامتحنهم بالقضاء، واختبرهم بالعلم، إليكم جميعاً هذه النصائح الغالية، والنماذج الفريدة، والخصال الحميدة، التي ينبغي لكل منكم أن يتحلى بها، وأن يكون أهلاً لها، لحاجتكم إليها أكثر من حاجة من سبقكم، وذلك لقلة المعين، ولضعف وازع الدين، لتعرف إذا كان هذا حالهم وتلك خصالهم في التحري، والتدقيق، والتثبت، والتأكيد في الفتوى وهم أهلها وأحق بها، أين أنت من ذلك؟ وأين موقعك مما هنالك؟ فإن لم تكن مثلهم فتشبه بهم، فإن التشبه بالرجال فلاح ونجاح.

نماذج لتورع السلف الصالح وتثبتهم عن الفتيا

1.   قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون".

وعن ابن عباس رضي الله عنه نحوه.

2. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من كبار التابعين ومن أئمة الدين: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة فيردها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول منهم، ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".

3. وقال حصن الأسدي: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر".

4. وقال مالك رحمه الله: "سمعت محمد بن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله".

وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

5. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه؛ فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم؛ فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا أعلم.

6. روي من غير وجه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "أي سماء تظلني، وأي أرضٍ تقلني، إذا قلتُ في كتاب الله بغير علم".

7. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يا أيها الناس! من سُئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم، إن الله قال لنبيه: "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ").

8. عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن شيء فقال: "لا أدري"، فلما ولى الرجل قال: نعمَّا قال عبد الله بن عمر، سئل عما لا يعلم، فقال: لا علم لي به".

9. وسئل الشعبي عن مسألة فقال: "هي زباء هلباء وبر لا أحسنها، ولو ألقيت على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعضلت به، وإنما نحن في الغوق ولسنا في النوق"، فقال له أصحابه: لقد استحيينا منك مما رأينا منك، فقال: لكن الملائكة المقربين لم تستح حين قالت: "لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا".

10. وقال مجاهد: "سئل ابن عمر عن فريضة من الصلب، فقال: لا أدري؛ فقيل له: فما منعك أن تجيبه؟ فقال: سئل ابن عمر عما لا يدري، فقال: لا أدري".

11. وعن أيوب قال: تكاثروا على القاسم بن محمد يوماً بمنى، فجعلوا يسألونه، فيقول: لا أدري، ثم قال: "إنا والله لا نعلم كل ما تسألون عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا حلَّ لنا أن نكتمكم".

12. سئل سعيد بن جبير عن شيء فقال: لا أعلم، ثم قال: "ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني عالم".

13. وذكر الشعبي عن علي رضي الله أنه خرج عليهم وهو يقول: "ما أبردها على الكبد، ما أبردها على الكبد"، فقيل له: وما ذاك؟ قال: "أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم".

14. وقال القاسم بن محمد: "يا أهل العراق، إنا والله لا نعلم كثيراً مما تسألونا عنه، ولئن يعيش المرء جاهلاً إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم".

15. وقال ابن وهب: وسمعت مالكاً يحدث عن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: "إني لأحب أن يكون من بقايا العالم بعده لا أدري، ليأخذ به من بعده".

16. وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: "سأل عبد الله بن نافع أيوبَ السختياني عن شيء فلم يجبه، فقال له: لا أراك فهمت ما سألتك عنه؟ قال: بلى، قال: فلمَ لا تجيبني؟ قال: لا أعلمه".

17. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأل الرجل عن مسألة، قال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل، كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، قال: فقال: فأي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعتُ إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن".

18. وقال ابن وهب في "كتاب المجالس": سمعت مالكاً يقول: "ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري، فإنه عسى أن يهيأ له خير".

19. وقال ابن وهب: "وكنت أسمعه كثيراً يقول: لا أدري"؛ وقال: "لو كتبنا عن مالك لا أدري، لملأنا الألواح".

20. وقال عقبة بن مسلم: "صحبتُ ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً، فكثيراً ما يسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً لهم إلى جهنم".

21. وقال ابن عيينة: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً".

22. وقال أبو داود: "قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم، نصف العلم".

23. وكان مالك رحمه الله يقول: "من أجاب في مسألة، فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أوالنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة".

24. وسئل مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا".

فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة.

25. وقال مالك: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة، فكيف بنا نحن الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا؟!"، بل كيف بنا نحن؟!

26. وسئل الشافعي رحمه الله عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيب يرحمك الله؟ فقال: "حتى أدري الفضل في سكوتي أوفي الجواب".

27. وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني".

28. وقال سُحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل فيستمتع بامرأته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا".

29.  وجاء رجل إلى سُحنون يسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك.

وقيل له: إنك تُسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها، فتتوقف فيها، فقال: "إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال".

30. وقال بشر الحافي: "من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأل".

31. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك قال: "أخبرني رجل دخل على ربيعة فوجده يبكي؟ فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".

32. وقال ربيعة: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق".

قلت: هذا المسلك الحميد، والتثبت الكثير، استمده السلف الصالح من رسول الهدى، وإمام المتقين المعصوم من الزلل، المؤيد بالوحي، مع ذلك كان كثيراً ما يقول لا أدري، وكذلك كان يقول أمين الوحي جبريل.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري"، فقال: سل ربك، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: "يا جبريل، أي البقاع خير؟"، فقال: "لا أدري"، فقال: "سل ربك"، فانتفض جبريل انتفاضة كاد يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أسأله عن شيء"، فقال الله عز وجل لجبريل: "سألك محمد أي البقاع خير؟ فقلتَ: لا أدري، وسألك أي البقاع شر؟ فقلتَ: لا أدري؟ فأخبره أن أحب البقاع المساجد، وأن شر البقاع الأسواق".

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أعُزَيْر نبي أم لا؟ وما أدري أتبع ملعون أم لا؟".

وقال: "ما أدري أتبع لعن أم لا، وما أدري ذو القرنين نبي أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟".

أقول: ما بال كثير من أهل زماننا يتجاسرون على الفتيا ولا يخشون مغبتها، ولا يتورعون كما تورع أسلافهم، فيبيعون آخرتهم بدنياهم، وفي كثير من الأحيان يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم من الحكام والعامة؟!

ã

الأسباب التي تدفع البعض إلى هذا السلوك المشين، والخلق المعوج اللئيم كثيرة

ولكن أخطرها ما يأتي:

أولاً: الجهل بخطورة الفتوى وما يترتب عليها، وما تثبت السلف عنها إلا لعلمهم بخطورتها.

ثانياً: خطب ود الحكام.

ثالثاً: محاولة التلفيق بين الإسلام وإفرازات الحضارة الغربية المادية الكافرة.

رابعاً: خطب ود العامة، فمنافقة المجتمع والعامة أخطر من منافقة الحكام.

خامساً: اعتقاد البعض جواز التشهي في الفتوى، فيتخير من أقوال أهل العلم أيسرها لمن يهواه من المستفتين.

سادساً: حب التميز على الآخرين بدعوى التخفيف والتسهيل.

سابعاً: الحرص على تتبع زلات وسقطات بعض أهل العلم بدعوى أنها داخلة في الرخص الشرعية.

ثامناً: توهُّم الضرورة، إذ الضرورة التي تبيح أكل الربا مثلاً إن لم يأكله هلك.

تاسعاً: الاستحياء من قول لا أدري.

عاشراً: إيثار السلامة.

ã

أخطر المسائل التي يجب التحرز من الفتيا فيها

1. دعوى تقارب الأديان وتوحيدها.

2. الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار.

3. الدعوة لتقارب السنة مع الرافضة مع بقائهم وإصرارهم على عقائدهم الكفرية.

4. تحسين بعض البدع بالعقل والهوى.

5. التكفير، والتبديع، والتفسيق.

6. استحلال الفروج والأبضاع.

7. ما يدخل البطون من المآكل والمشارب، وكذلك الملابس: "فكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، كما صح بذلك الخبر.

8. الدماء.

9. الطلاق.

10. التحليل والتحريم، ومن أخطر ما ألف في هذا العصر كتاب "الحلال والحرام" للدكتور يوسف القرضاوي سامحه الله، حيث أحل فيه كثيراً مما حرم الله، نحو التصوير، والتمثيل، والغناء، والموسيقى، والسينما، وغيرها، وصدق من سماه بـ"الحلال والحلال".

عليك أخي القارئ أن تقارن بين ورع السلف الصالح عن الفتيا وتجاسر الخلف عليها، وليت الأمر اقتصر على المنتسبين إلى العلم الشرعي، بل تعداه إلى تطفل بعض الوراقين والصحفيين من الشيوعيين والمنافقين، حيث أصبحوا يحللون، ويحرمون، وينكرون من الدين ما لا تهواه أنفسهم، حيث أباحوا الردة وأنكروا حدها، وشككوا في الكثير من المسلمات، بل وصلت بهم الجرأة إلى التطاول على ثلة من العلماء، وتحريض الكفار عليها، وتخويفهم من خطرها، بما يخيله إليهم باطنهم المريض، وعقلهم الباطن الحاقد، وما تطفح به الصحف من هجوم شرس، وتحامل بغيض، على الفتوى الموفقة التي أصدرتها الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة من عدم جواز الانتساب إلى حركة التحرير ليس ببعيد عنا، فحسبنا الله عليهم، وهو كافينا شرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعند الله تلتقي الخصوم، وينصر المظلوم.

فالله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المفتين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يسلمنا ويسلم منا.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المفتين، وإمام المتقين، محمد بن عبد الله صادق الوعد المبين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

0000000000000

إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 40)

فَصْلٌ .

[ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى ] وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى ، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ : فَإِذَا رَأَى بِهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ أَفْتَى .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَرَاهُ قَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ ، وَلَا يُحَدِّثُ حَدِيثًا إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ .

وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إنَّ بُكَيْر بْنَ الْأَشَجِّ أَخْبَرَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ فَقَالَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَمَاذَا تَرَيَانِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : إنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ ، فَاذْهَبْ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ ائْتِنَا فَأَخْبِرْنَا ، فَذَهَبْت فَسَأَلْتُهُمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَتْك مُعْضِلَةٌ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْوَاحِدَةُ  تُبِينُهَا ، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .

وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ ، قَالَ مَالِكٌ : وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ ، رَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ .

وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ : أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا ، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ .

قُلْت : الْجُرْأَةُ عَلَى الْفُتْيَا تَكُونُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَمِنْ غَزَارَتِهِ وَسِعَتِهِ ، فَإِذَا قَلَّ عِلْمُهُ أَفْتَى عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَإِذَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ اتَّسَعَتْ فُتْيَاهُ ، وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَوْسَعِ الصَّحَابَةِ فُتْيَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فَتَاوَاهُ جُمِعَتْ فِي عِشْرِينَ سِفْرًا ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا ، وَاسِعَ الْفُتْيَا ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرَادِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : كُنْت أَرَى الرَّجُلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيَدْفَعُهُ النَّاسُ عَنْ مَجْلِسٍ إلَى مَجْلِسٍ حَتَّى يُدْفَعَ إلَى مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَرَاهِيَةً لِلْفُتْيَا ، قَالَ : وَكَانُوا يَدْعُونَهُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ الْجَرِيءَ .

وَقَالَ سَحْنُونٌ : إنِّي لَأَحْفَظُ مَسَائِلَ مِنْهَا مَا فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، فَكَيْف يَنْبَغِي أَنْ أَعْجَلَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ الْخَبَرِ ؟ فَلِمَ أُلَامُ عَلَى حَبْسِ الْجَوَابِ ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنَا أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : قَالَ حُذَيْفَةُ : إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ : مَنْ يَعْلَمُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا ، أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ ، قَالَ : فَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : فَلَسْت بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ

000000000000000000

بالعلم والجهاد قوام الدين والعباد

 

قوام دين الله الذي به صلاح العباد والبلاد العلمُ والجهاد.

فبالعلم يعرف الناس دينهم، حلاله من حرامه، وبدعته من سنته، وبالعلم يجاهد المنافقون ويرد على شبه المضلين، وتأويل الجاهلين، وتلبيس الملبسين.

وبالجهاد يحمى حمى الدين، ويدفع عن ديار المسلمين، ويقمع الكفار والمشركون، ويذب عن الأعراض والحريم.

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ".

قال القرطبي في تفسيرها: (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمته من بعده، قيل المراد جاهد بالمؤمنين الكفار، وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان، وشدة الزجر والتغليظ، وروي عن ابن مسعود: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكْفَهِرَّ أي اعبس في وجوههم).

وقال: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافة فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".

فقوام الدين برفع راية الجهاد، ولكن المجاهدين يحتاجون إلى علم يصحح نياتهم، ويحكم تصرفاتهم، ويضبط ممارساتهم، فشرع طلب العلم وتعين على طائفة من هذه الأمة أن تتفقه في الدين لتقوم بتوجيه المسلمين، مجاهدين، وتجاراً، وزراعاً، وغيرهم، وفي ذات الوقت ندب الله طائفة من هذه الأمة، لتحمي ظهورالمجاهدين، وتمولهم، وتجهزهم، وتقوم بشؤون أسرهم وأهليهم.

فكل ميسر لما خلق له، ولا تغني طائفة عن طائفة، إذ الإسلام في حاجة لكل هؤلاء، فكل منهم على ثغرة من ثغور الإسلام.

جاء في تفسير: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً..": (إذ لو نفر الكل لضاع مَنْ وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين،ويحفظون الحريم).

هذا بالنسبة للسرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي بلغت خمساً وثلاثين سرية، فقد أمر البعض أن يبقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقون عنه العلم ليعلموه للغزاة عندما يرجعون إليهم، وإلا فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبع عشرة غزوة، وقد ثبت في بعض الغزوات عندما انفض عنه كثير من الأصحاب، كما حدث في أحُد وحُنَين، ولهذا لقب بنبي الملحمة.

فينبغي لمن استطاع من العلماء والفقهاء أن يكون في مقدمة المجاهدين والمرابطين، فيفعل كما فعل أسلافهم، فقد استشهد كثير منهم في ساحات القتال، أومرابطين في الثغور، وكانوا من المحرضين على القتال بالقول والعمل، وما كانوا منزوين وقاصرين جهدهم على العبادة، والتأليف، والتصنيف، والتقعيد، كما يفعل كثير منهم الآن.

بل ليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذ هناك من أصبح همه الأكبر التثبيط، والتخذيل، والتحذير من جهاد دفع الغزاة الذين غزوا ديار الإسلام، فليتهم إذ لم يخرجوا ويشجعوا سكتوا وكفوا المقاومين المجاهدين شرهم.

معلوم من الدين ضرورة أن كلاً من العلم والجهاد منه ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، والتمييز بين ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية أمر في غاية الأهمية، سيما فيما يتعلق بالجهاد، فجهاد الدفع واجب، فإذا غزا الكفار بلداً من بلاد المسلمين تعين على أهل تلك البلاد دفعهم، فإن لم يتمكنوا من ذلك وجب على من يليهم، حتى يطبق الحكم سائر ديار الإسلام.

ولا يشترط فيه كذلك أن يكون تحت راية إمام، فإذا تخلى الحكام عن ذلك جوهد الكفار تحت أي راية يكون الغرض منها إعلاء كلمة الله، كما لا يشترط فيه إذن الوالدين.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وإنما جعل طلب العلم في سبيل الله لأنه به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني الجهاد بالحجة والتبيان، وهو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه.

قال تعالى في سورة الفرقان: "وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا. فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا"، فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين.

أيضاً فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ"، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.

والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ: "عليكم بطلب العلم، فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد".

إلى أن قال: وكما قيل:

فما هو إلا الوحي أوحَدَّ مرهف                  تميل ظباه اخدعي  كل مائـل

فهذا شفاء الداء من كل عاقـل                  وهذا دواء الداء من كل جاهل

ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله، فسر الصحابة قوله: "أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" بالعلماء والأمراء، فإنهم المجاهدون في سبيل الله عز وجل، هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم، فطلب العلم وتعليمه من أعظم سبيل الله).

0000000000000000

بسم الله الرحمن الرحيم

العــلم، والدعــوة، والجــهاد... توافق أم تنافر؟

أرى خطرا يحدق بالأمة، يتمثل في التنازع بين المؤمنين، بغير حق..

أناس يزنون الأمور بما يقع في نفوسهم، لا بالعرض على الأصول الشرعية..

ويبنون على ما يزنون مواقف لا تمثل إلا نفوسهم، وينسبونها إلى الشرع ، ويحكمون وفقها، فيضللون، ويجزمون بهلاك من لم يكن مثلهم..

ومن قال: هلك الناس؛ فهو أهلكهم..

وما بني على باطل فهو باطل...

وما البلاء إلا من عاطفة لا يحكمها عقل، وفي عقل لا تخالطه عاطفة نصيب من البلاء كذلك..

والتوفيق في عقل وعاطفة يجتمعان، فهذا يرشد هذه، وهذه تحرك هذا..

لأجل هذا كتبت المقال التالي..

والله ولي المؤمنين..

العلم، والدعوة، والجهاد..

جمع بين المحكمات وفصل بين المتشابهات

(1) العلم، والدعوة، والجهاد.. بهذه الثلاثة ننشر الإسلام..

- قال الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.

- وقال تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}..

- وقال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}..

تبليغ الإسلام بالعلم:

- يكون بالمجادلة بالدليل والبرهان وإقامة الحجة على الخصم..وهذه مهمة العلماء الراسخين في العلم، مع أهل العلم والفكر والبحث من غير المسلمين..

وتبليغ الإسلام بالدعوة:

- يكون بعرض الإسلام على الناس، ببيان أصوله ومحاسنه وغاياته، وعلوه على غيره من الملل والنحل والأديان.. وهذا السبيل مع العوام من غير المسلمين، الذين لايحتاجون إلى كبير حجة لإقناعهم، لذا فهو مهمة كل مسلم عنده الحد الأدنى من العلم والفهم.

وتبليغ الإسلام بالجهاد:

- يكون بالقتال، ببذل النفس والمال.. وهذه مهمة كل مسلم عاقل بالغ قادر، عالما كان أو عاميا.. وهذا السبيل مع عموم المحاربين من الكفار، الذين يمنعون تبليغ الإسلام.

(2) كل هذه السبل مهمة، وكلها لازمة لانتشار الدين في الأرض، وبعضها يتقدم على بعض..

فالعلم والدعوة أولاً.. ثم الجهاد ثانيا..

في البدء يدعى الناس إلى الإسلام، يعرض عليهم الدخول فيه، وإن احتاجوا للجدال والمناظرة، فلهم ذلك، فإن أسلموا فبها ونعمت، وإلا فما لهم إلا دفع الجزية، والبقاء على دينهم، فإن أبوا فالجهاد..

فالجهاد آخر المراتب في التبليغ، ولا يلجأ إليه إلا بعد نفاد كل الوسائل المقنعة للدخول في الإسلام، أو الكف عن معاداة واعتراض طريقه.. عن بريدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم..فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) .

(3) والعلم له شروطه، والدعوة لها شروطها، والجهاد له شروطه..

فلا يناظر ويجادل إلا راسخ، وليس كل وقت ينفع فيه الجدال، فإذا وقعت المكابرة امتنعت المجادلة..

ولا يدعو ويرصد نفسه للدعوة إلا فقيه يعرف كيف يدعو؟، وإلى ماذا يدعو؟، ومتى يدعو؟..

ولا يجاهد إلا قادر، وليس الجهاد في كل وقت، بل يشترط له إعداد العدة، وتوفر العدد، وغير ذلك. وليس المقصود استقصاء شروط كل واحدة منها، بل التذكير بأن كونها واجبة، مهمة، فريضة على المسلمين، لكن ذلك لايعني الدخول فيها كيفما اتفق، بل لابد من شروط، لايحصل الدخول فيها إلا بها، وهذا كما أن الطعام مهم للجسد، لكن ذلك لايعني أكل كل الطعام، وفي أي وقت..

(4) هذه الثلاثة لها حد أدنى ، واجب على جميع المسلمين أن يأتوا به..

فالعلم له حد أدنى، لا يصلح الإسلام من دونه، وهو معرفة أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وما فيها من فروض، لا تقوم الشريعة بدونها..

والدعوة لها حد أدنى، فيجب على عموم المسلمين الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا تركوه جميعا أثموا، وإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الآخرين، فهو فرض على الكفاية.

والجهاد له حد أدنى، مثل الدفع عن أرض المسلمين إذا اعتدى عليها معتدٍ، والاستجابة إذا استنفر الإمام، ونحو ذلك، فهذا واجب على كل قادر.

فكل واحدة من هذه الثلاثة لها حد أدنى، ثم بعد ذلك من أراد التوسع فله ذلك، وهو محمود في حقه. فالله تعالى مايز بين الناس، فأعطى كل إنسان ما لم يعط غيره:

فهذا وهبه العلم ويسره له، فهو في دراسة وبحث وحفظ للعلم، وفي تعليم وتدريس وتأليف..

وهذا وهبه فقه الدعوة ويسره له، فهو يجوب الأرض، يدعو إلى الإسلام، يلاحق الناس بدعوته..

وهذا وهبه حب الجهاد ويسره له، لا همّ له إلا فيه، إذا سمع هيعة طار إليها..

هذا التخصص موهبة من الله تعالى، فكل ميسر لما خلق له، لكن ذلك لا يعني ألا يضرب كل من هؤلاء بسهمه في الأبواب الأخرى، كلا، بل يجب على كل طائفة أن تأخذ بالحظ الواجب من كل عبادة من هذه الثلاثة، ثم ما زاد على ذلك من مستحب، فهو مخير في التزود منه.

وقليل جدا من يقدر على الجمع بين هذه العبادات الثلاثة، فيكون عالما داعيا مجاهدا، على التمام والكمال، باستيفاء الواجب والمستحب منها، هذا لايتحقق إلا في الأنبياء، وفي ندرة من غيرهم، وهو مقام كبير، ولم يأمر الله تعالى عباده بتحصيله، لعلمه بضعفهم أن يبلغوه، إنما أمرهم بالحد الأدنى..

تجد إنسانا مبرزا في العلم، ليس كذلك في الدعوة والجهاد.. وآخر مبرز في الدعوة، ليس كذلك في العلم والجهاد.. وثالث مبرز في الجهاد، ليس كذلك في العلم والدعوة.. وهكذا..

فإن هم أخذوا بالحد الأدنى، ثم توسعوا فيما تخصصوا فيه فهم مثابون، وليس عليهم سبيل، وإن هم قصروا في الحد الأدنى، فهم ملومون.. وهذا موجود:

تجد عالما ليس له همّ إلا العلم، وليس له أدنى مشاركة في الجهاد، لابالمال ولابالنفس، وكذا في الدعوة.. وتجد داعية ليس له همّ إلا الدعوة، وليس له أدنى مشاركة في العلم، ولا في الجهاد..

وتجد مجاهدا ليس له همّ إلا في الجهاد، وليس له أدنى مشاركة في العلم، ولا في الدعوة..

فهؤلاء هم أهل التعبد المقيد، بحسب تعبير ابن القيم في "المدارج"، الذين قيدوا أنفسهم في عبادة معينة، واستغنوا عن غيرها، مع كونها مهمة ومطلوبة، فإذا خرج أحدهم عن النوع الذي هو فيه إلى غيره من الطاعات، اتهم نفسه بالنقص والتقصير، فهو يعلي من شأن عبادته على بقية العبادات، ويرى كل الإيمان والقرب في ذلك، كمن يرى أعلى المقامات في العلم، أو من يرى أعلى المقامات في الدعوة، أومن يرى أعلى المقامات في الجهاد، ثم يقلل من شأن بقية العبادات!!..

أما أهل التعبد المطلق، فهم الذين ليس لهم غرض في عبادة معينة، بل غرضهم عبادة الله تعالى في كل ما أمر به، ولو كان حظ نفوسهم في غيرها، تراهم مع العلماء في حلق العلم، ومع الدعاة في أبواب الدعوة، ومع المجاهدين بالنفس والمال، يضربون بسهم في كل طاعة قدر الاستطاعة، ويجتهدون ويجدون فيما تخصصوا وأتقنوا، لكن لا يهملون ولا يضيعون سواه..

فالكمال: الغنيمة من كل العبادات قدر الإمكان..

والواجب: الأخذ بالحد الأدنى منها..

والمفترض: وضع كل إنسان في مكانه اللائق به، ليعطي وينتج أحسن ما لديه:

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقد أرسل خالد بن أنيس إلى خالد الهذلي لما بلغه أنه جمع العرب لقتال المسلمين، ولم يرسل أبا بكر، وأرسل معاذا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن للتعليم والدعوة ولم يرسل خالد بن الوليد وعمرو بن العاصي، وأرسل خالدا وعمرا على رأس السرايا والجيوش ولم يرسل عمر ولا عثمان رضي الله عنهم، فهذا هو الفقه في التعامل مع مواهب البشر..

(5) السمة الجامعة: التآلف والتعاون..

السمة الجامعة بين هذه الفئات الثلاثة هي: التآلف، والتعاون، والمحبة، والنصرة، والإكرام.. مهما تباينت وجهات النظر، إذا كانت ضمن دائرة النص والاجتهاد..

فالعالم يوقر المجاهد والداعية.. والداعية يوقر العالم والمجاهد.. والمجاهد يوقر العالم والداعية..

فكلهم على ثغرة من ثغور الإسلام، وكلهم على عمل عظيم، وكلهم في حاجة إلى بعضهم بعضهم.. فإذا علم أن من الندرة أن تجتمع هذه الثلاثة: العلم والدعوة والجهاد؛ في شخص واحد، علم أن التكامل مرتبط بالاجتماع لا بالفردية، وعلى ذلك فهم بدون اجتماع في نقص وضعف، ولا كمال ولاقوة إلا باجتماعهم، والإسلام لايعلو إلا بهذه الثلاثة، فهي أساسه وقوامه..

وكل هؤلاء له مقام كبير في الدين:

فالعلماء ورثة الأنبياء، هم الذين يعلمون الناس الخير، وهم أهل القرب من الله والخشية لله تعالى..

والدعاة هم رسل القلوب، وهم الذين يمدون أيديهم لإنقاذ الناس، فهم أهل محبة الله تعالى..

والمجاهدون هم حماة الدين وحفظته، وعز الإسلام، فهم جند الله.

فهي أركان ثلاثة، وأهلها هم أركان الإسلام، وإذا سقط ركن سقط الإسلام، فلم يقم في الأرض، ولايمكن لركنين أن يقوما بدون ثالث، أبدا.

والأمة في حاجة إلى العلماء والدعاة والمجاهدين، فإذا غابت فئة اختل ميزان الأمة ومال، وفي ذلك نقصان الأمة وزوالها من مرتبة الريادة وإمامة البشرية.

فمعرفة قدر هذه الأركان يمنع من التهاون في إقامتها، أو التهاون في توقير أهلها، كما يفعل من لم يفهم حقيقتها، كالذي يهون من جانب الدعوة والجهاد، ويطعن وينتقص من أهلها، لاشتغاله بالعلم، أو الذي يهون من جانب العلم والجهاد، ويطعن ينتقص من أهلها، لاشتغاله بالدعوة، أو الذي يهون من جانب العلم والدعوة، ويطعن وينتقص من أهلها، لاشتغاله بالجهاد.

(6) كل هذه الثلاثة فيها أصول لا تقبل الجدال.. ومسائل تقبل الاجتهاد..

  فأما أصل العلم قيامه على الكتاب والسنة وفقه السلف، وما عداه فباطل..

  وأصل الدعوة قيامها على بيان صحة الإسلام، وبطلان ما سواه من الأديان: يهودية أو نصرانية أو غير ذلك، وكذلك بيان أن الصحيح هو ما عليه الفرقة الناجية: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما عدا ذلك فباطل ..

  وأصل الجهاد جهاد الكفار المحاربين، وهو دفع وطلب، وعز الإسلام فيه، وهو ذورة سنامه..

ثم تأتي بعد ذلك المسائل الخلافية التي هي محل الاجتهاد، لكونها تدور على فهم النص، والنص يحتمل الخلاف فيه:

  ففي العلم، فروع الفقه، والعقيدة؛ يسوغ فيها الخلاف، ولايسوغ فيها التنازع والإنكار.

وفي الدعوة، وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟، يسوغ فيها الخلاف، ولا يسوغ التنازع والإنكار.

وفي الجهاد، هل تحققت شروط الجهاد أم لا؟، يسوغ فيها الخلاف، لا التنازع والإنكار.

فإذا وقع خلاف في الأصول وجب الإنكار والرد بالتي هي أحسن، وبيان الخطأ في هذا الأصل، وتحذير الناس من الوقوع فيه، ومن اتباع فاعله، فمن غير المقبول المساس بالأصول..

أما إذا وقع الخلاف في الفروع، التي هي محل اجتهاد، والنصوص تحتمله، جاز النقد والرد بالتي هي أحسن، لكن ليس على المتخالفين أن يقعوا في بعضهم بعضا، وأن يحذر بعضهم من بعض، ولايجوز لهم التنازع والفشل، والمعاداة والعدوان وتسليط اللسان، واتهام النيات، والحكم بالهلاك، فهذا كله جور وظلم ونقص في الحكمة وضيق في الرؤية، وفي مثل يقول الله تعالى:

- {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}..

- {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}.. - {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}..

فهذا هو البلاء، وبدخول المؤمنين فيه تنزع الرحمة، ويحل الفشل، وينزل العذاب..

فالخلاف في مسائل الفروع، في العقيدة والفقه، لا يسوغ التنازع والتدابر والتقاطع..

والخلاف في وسائل الدعوة، لا يسوغ التنازع والتدابر والتقاطع..

والخلاف في تحقق شروط الجهاد، لا يسوغ التنازع والتدابر والتقاطع..

إذا كان الخلاف مبينا على الدليل الصحيح، الذي يقبل كل هذه الأوجه المختلفة..

والحق لاريب أنه واحد، لكن الآفة في الأفهام، قد توفق فتصيبه، وقد لا تصيبه، فإن اجتهد المرء صادقا في إصابة الحق فهو مأجور مرتين إن أصاب، ومرة إن أخطأ، فكان لاجتهاد أجر، ولو لم يصب، وهذا دليل على رضا الله تعالى عن صنيعه، وإلا ما أثابه، أفيرضى الله تعالى عن هذا المجتهد ويثيبه أجرا، ثم يأتي من يدعي الإيمان وحب الله ورسوله فيسخط عليه، وينازعه، ويعاديه ويظلمه؟!!.

وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه حينما اجتهدوا في فهم أمره: (لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فمنهم من صلى في الطريق، ومنهم صلى في بني قريظة، فأقرهما على الاجتهاد، مع أن المصيب واحد لا غير.. وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم بجواز الخلاف في فروع الفقه..

وانسحب خالد بن الوليد بالجيش في معركة مؤتة، خشية عليه من الهلاك، إذ كان عدد جيش العدو مئتي ألف، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، ولما دخل المدينة حثى الناس التراب في وجه الجيش قائلين:

يا فُرار، فررتم في سبيل الله ؟!، فقال النبي صلى الله علي وسلم:

(ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله). الروض الأنف 7/19

فدل على أن الخلاف في مسائل الجهاد، من حيث توقيت الجهاد والهجوم، أو التراجع، واختيار وقت آخر، من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الخلاف، ولا يسوغ في هذا التنازع والعداء..

وبعد هذا: فإذا وجدت أحدا يعادي في مسائل الخلاف، ويقاطع ويدابر، فاعلم أنه:

إما جاهل لا يدري ولا يفرق بين ما يسوغ وما لا يسوغ فيه الخلاف، ومثل هذا كثير، وهؤلاء أصحاب نيات حسنة في الدين، لكن آفتهم عدم البصيرة والعلم.. ودواؤهم التعليم والتبصير..

وإما صاحب هوى، يريد فتنة، ومثل هؤلاء موجودون، ويهمهم الإيقاع بين المؤمنين، كما أوقعوا بين علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهم، فيتخذون من مسائل الخلاف والمشتبهات دخلا لإفساد ذات بين المؤمنين، وتفريق كلمتهم، وحصول التنازع والفشل، متسترين بحب الدين والحرص عليه، وما أضر على الدين منهم، فعلى المؤمنين الحذر منهم، ولن ينجيهم إلا التقوى والبصيرة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط}..

أبو سارة

abu_sarah@maktoob.com

00000000000000000

قصة في التاريخ.. وعبرة للأجيال.!

الكاتب : قاسم الشيباني

كان المسلمون في الأندلس في عزٍ وتمكين لما كانوا يدا واحدة ولما كانوا يعتمدون الجهاد منهج حياتهم وأعظم أهدافهم . إذ كان ملوك المسلمين يقودون كتائب الجهاد لنشر الإسلام أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبدالرحمن الغافقي ثم عبدالرحمن الداخل وإلى عبدالرحمن الأوسط ثم إلى أبي عامر المنصور الذي كان يأمر جنوده إذا رجعوا من غزوة أن يجمعوا له غبار حذاءه فإذا سألوه ما الذي سيفعل به قال إذا مت فاجعلوه في كفني فإذا قدمت على ربي قلت يا رب هذا غبار قدمي في سبيلك. حتى هابه ملوك النصارى وصاروا يسعون جاهدين لعقد الصلح معه ودفع الجزيه حتى إن أحد ملوك النصارى في شمال الأندلس أهدى له الهدايا العظيمه ليصرفه عن قتاله وكان من ضمن الهدايا أن أهدى ابنته له سبية جارية. فهل رأينا عزا كهذا العز أو مجدا كهذا المجد .!!..

ثم مرت السنون والأيام فقعد حكام المسلمين في الأندلس عن الجهاد في سبيله وانشغلوا بالزخرفة و العمران وانتشر اللهو والطرب وصار طبيعة الحياة وانتشرت القيان والمعازف وصار بدل أن يملأ بلاط الحكام العلماء والعقلاء ملأه الشعراء و المغنون و السفهاء وأصحاب اللهو و المصالح الشخصية أضف الى ذلك تنافس الملوك على الحكم وتفرقهم حتى بلغت دويلات الأندلس اثنتين وعشرين دويلة تقريبا حتى صار ذلك العصر يعرف بعصر دويلات الطوائف فهذا المعتمد وهذا المعتضد وهذا المتوكل وهذا المقتدر وهذا القادربالله وهذا الناصر وهكذا القاب ملوك وسير صعاليك جمعة للمال خونة للأمة لايبالون بمايهدد المسلمين من خطر عدوهم وتربصه بهم حتى قال أحد الشعراء المتضجرين من وضع ملوك الطوائف في الأندلس :

مـما يـزهـد في أرض أنـدلــس ألـقـاب معـتضدفيها ومعتـمـد

ألقاب مملـكة في غـير مــوضعـها كالهر يحكـي انتفاخا صـولة الأسـد

واستمر المسلمون دويلات متفككة متناحرة حتى كان بعضهم يعقد الحلف مع دول النصارى ضد بعضهم اذا خاف على دويلته من الآخر وحتى ذكر من سخافتهم انه اذا تزوج أحدهم باخت الآخر أو ابنته اتحدا في الحدود ليصيرا بذلك دويلة واحدة والسبب عقد زواج هكذا بمنتهى السخافة و اللا مبالاة . حتىطمع فيهم النصارى وصاروا يباشرون غزوهم بينما هم يلتزمون موقف الدفاع واذا ماهوجم احدهم تفرج عليه الآخر دون أي حراك وكأنه ينتظر دوره الى المذبحة .

استمر هذا الوضع سنين حتى دخل الأندلس أحد العلماء العاملين الربانيين الناصحين وهو الباجي - رحمه الله - فرأى هذا التفرق والتشرذم فجعل أعظم أهدافه أن يسعى في توحيد دويلات الطوائف وبدأ برحلاته الشهيرة في تاريخ الأندلس بين دويلاتها لتوحيد ملوكهم وجمع كلمتهم فكانوا يظهرون له الموافقة والتأييد لكن دون أي تحرك فعلي صادق وبقي الباجي كذلك ثلاثين سنة يحاول جاهدا توحيد كلمة ملوك الطوائف لكن دون جدوى حتى كان الحدث الذي هز المسلمين في الأندلس وكان كارثة فظيعة تلك هي احتلال مدينة بربشتر من قبل أحد ملوك النصارى ذلك فرلند في جيش من النورمان والفرنسيين وكان عدد جيشهم يقارب الأربعين ألف مقاتل فحاصروا بربشتر قرابة أربعين يوماً وكان ذلك عام 456هـ فدخلوها عنوةً وقتلوا ما يقارب المائة ألف وانتهكوا الأعراض فكانوا ينتهكون عرض المسلمة أمام زوجها أو وليها ، وسبوا قرابة خمسة آلاف فتاة من أجمل فتيات المسلمين وأرسلوهن هدية كسبايا لملك القسطنطينية .

جرى ذلك رغم استنجادات أهل بربشتر بملوك دويلات الطوائف ولم يتحرك أحد ، يذكرنا هذا بما جرى للمسلمين في البوسنة وكأني الساعة أتذكر تجوال رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش بحكام المسلمين يتسولهم شيئاً من المال لكي يسلح المسلمين هناك ولكن لم يجبه أحد فكانت النتيجة ما يقارب مئتي ألف مسلم قتيل وانتهك عرض خمسين ألف مسلمة بينما توزع ثلاثون ألف فتاةٍ مسلمة على معسكرات الجيش الصربي وأرسل الآلاف من الأطفال المسلمين ليباعوا في أوربا على الكنائس والأديرة لإعدادهم ليكونوا رهباناً وقسس نصارى .

لم يصبر العلماء لما سقطت بربشتر ولما حدث ما حدث تحرك العلماء وجمعوا الناس للجهاد وكان من هؤلاء العلماء ابن حزم وابن عبد البر وابن رشد في جيش من المسلمين متطوعين بلغوا خمسة آلاف مجاهد فاستطاعوا أن يهزموا حامية النصارى في بربشتر ولم يقتل منهم إلا خمسين مجاهداً بينما قتل من النورمان النصارى ألف وخمسمائة وتحررت بربشتر وعادت إلى المسلمين مما دل على أن المسلمين ليسوا ضعفاء وأنهم إذا رجعوا للجهاد وابتعدوا عن الإخلاد إلى الأرض والدعة فإنهم هم الأعز وغيرهم الأذل .

لكن الأمر بشكل عام كان كما هو عليه تفرق وتشرذم . حتى إن الفونسو ملك النصارى زاد في إذلال المسلمين فبلغ به الحال أن أرسل إلى ملك إشبيلية المعتمد بن عباد يطالبه باثنتين أن يدفع الجزية وكانت الثانية في منتهى الإذلال للمسلمين وذلك أنه طلب من المعتمد أن يسمح لزوجته أن تلد في جامع قرطبة مما أغضب المعتمد بن عباد وجعله يقتل وفد الفونسو عندها حاصره الفونسو حصاراً شديداً وأرسل له رسالةً في منتهى الغطرسة والتكبر يقول فيها أرسل إلي مروحةً أروح بها عن نفسي فكتب إليه المعتمد رسالةً جعلته يرجع ويترك الحصار إذ قال له : ( والله لئن لم ترجع لأروحن لك بمروحةٍ من المرابطين تروح بها نفسك ) ثم قال: ( والله لئن أرعى الجما ل أحب إلي من أن أرعى الخنازير ) . عندها رجع الفونسو وحاصر طليطلة أهم مدن المسلمين في العالم محاولاً فتحها.

وأخذت الأحداث تتسارع والباجي رحمه الله يرقب الأحداث بقلق وكان ذلك قبيل وفاته عام 474هـ فجمع العلماء وطلب منهم أن يعبروا البحر إلى المغرب حيث دولة المرابطين الدولة الإسلامية القوية دولة العلم والجهاد ليستنجدو بأمير المجاهدين فيها يوسف بن تاشفين رحمه الله وكان آنذاك قد بلغ من العمر ثمانين سنة ومع ذلك لم ينزل عن صهوة جواده يجاهد في سبيل الله فاتجه الوفد إلى حاكم دويلة بطليوس وكان أفضل الموجودين فأيدهم وساعدهم بتموينهم في هذه الرحلة فانطلقت الرحلة وعبرت البحر حتى قدمو على دولة المرابطين وقابلو أميرها يوسف بن تاشفين -رحمه الله- .

وكان لقيام هذه الدولة العظيمة في تاريخ الإسلام قصة طريفة وهي أن شيخ قبيلة جدالة البربرية في المغرب ويسمى يحيى بن عمر بن ابراهيم الجدالي توجه إلى القيروان فقابل علمائها فطلب منهم أن يرسلو معه أحدهم لينشر في قبيلته جدالة العلم والقرآن فتوجه معه أحد العلماء المعدودين آنذاك وهو عبد الله الفاسي فأقام لهم رباطا أي مخيما كبيرا وكان يقوم على العلم والجهاد معاً فالإسلام علم وجهاد حتى تكّون من هذه القبيلة ألف كلهم صاحب علم وجهاد ثم توفي يحيى زعيم هذه القبيلة فتولى بعده أخوه أبو بكر ثم إن خلافا حدث بين قبائل صنهاجة البربرية فذهب أبو بكر ليصلح ما جرى بينهم من خلاف ووكل ابن عمه يوسف بن تاشفين لإدارة الأمور إلى حين رجوعه وكان آنذاك شابا فطنا ذكيا لبيبا حكيما شجاعا فأدار الأمور على خير وجه وطور الدولة وأسس كثيرا من الأنظمة وسن القوانين الإدارية فلما رجع أبو بكر الجدالي وجد ما أذهله وأدهشه من حسن التنظيم فقام بما لم يتوقعه أحد قال هذا الفتى افضل مني في هذا الأمر وتنازل عن الحكم ليوسف بن تاشفين لكفائته رحمه الله فلم يكن ملكا بل كان خليفة صالحا فتولى يوسف الأمور حتى بلغت دولته المغرب العربي كله وصارت كل الدول تهابها هذا ملخص نشأة دولة المرابطين .

أما وفد العلماء فقد عبر البحر كما قلنا حتى قابل يوسف بن تاشفين فتحرك مباشرة لإنقاذ طليطلة المحاصرة ولما بلغ سبتة شمال المغرب المطلة على البحر رفض حاكمها سقوت عبور يوسف بن تاشفين وإعطاءه ما لديه من سفن وبقي يوسف يحاول فيه مقنعا ويحلف له ويعطيه المواثيق والعهود ألا يمس ملكه الضعيف ومع ذلك لم يستجب بل أغلق الحصن دونه واحتار يوسف بن تاشفين فطليطلة ستسقط وهذا لا يبالي خوفاً على دويلته حتى كان عام 478 هـ حيث سقطت طليطلة وابن تاشفين لا يريد مقاتلته حقنا لدماء المسلمين فلما سقطت طليطلة ورأى العلماء ما تسبب فيه سقوت حاكم سبتة أصدروا فتوى ليوسف بإهدار دم سقوت ووجوب دخول سبتة بالقوة هنا دخلها يوسف ابن تاشفين عنوة وقتل سقوت وأُخذت السفن وعبر يوسف وهاج البحر بهم عندها دعا يوسف ابن تاشفين ربه قائلا : اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا خيرة للمسلمين فسهله لنا وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه لنا حتى لا نعبره فسكن البحر فعبر رحمه الله فتقدم إلى أشبيلية فاستقبله المعتمد بن عباد ثم سارا معاً بجيشهما إلى بطليوس فاستقبله المتوكل بالله وكان رجلاً صالحاً فانضم إليهما كجندي وأرسل بقيه ملوك الطوائف ما توفر لديهم من رجال حتى بلغ جيشه خمسة وعشرين ألفاً. عندها سار الفونسو لمواجهة يوسف بن تاشفين واستنجد بملوك النصارى معلنا أنها حرب صليبية فاستنجد بملك جليقيه و فرنسا وإيطاليا وتنادى الرهبان و القسس من علماء النصارى بحثِ ملوك أوروبا على إنجاد الفونسو , فتكون لديه جيش من خمسين ألفاً بأكمل عدة و سلاح فلما رأى الفونسو ما احتشد إليه قال بكل غرور جمعت من الجيوش ما أحارب به الجن والأنس و الملائكة .

وتقابل الجيشان في مكان سمي باسم المعركة الزلاقة سميت بذلك لكثرة الدماء حتى صارت الخيل تزلق في أرض المعركة وتبادل الفريقان المراسلات فأرسل الفونسو إلى يوسف بن تاشفين يهدده ويتوعده بأن يرجع و إلا فعل وفعل فاكتفى يوسف بن تاشفين شيخ المجاهدين بأن قلب رسالته وكتب على ظهرها ثلاث كلمات فقط يقول فيها \" الذي يكون ستراه \" ثم أرسل له رسولاً يخيره بين ثلاث إما الأسلام وإما الجزية وإما القتال فأبى الفونسو متعجباً وأرسل أن اجعل الإثنين بيننا وبينك موعد لبدأ القتال فوافق يوسف بن تاشفين ولم يكن ليخدع ولم يخبر الجيش بموعد الفونسو بل أمرهم بأن يكونوا على استعداد في كل ساعة ولما كانت ليلة الجمعة قام أكبر علماء المسلمين في الجيش وهو ابن رميلة - رحمه الله - ودعى يوسف بن تاشفين وقادة الجيش وأخبرهم أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام يبشره بالنصر وأنه يستشهد ففرح قادة المسلمين بهذه الرؤيا واستبشروا بها واخذ بن رميله يتطيب ويدهن رأسه استعداداً للقتال ولما كان من الغد الجمعة حصل ما توقعه يوسف بن تاشفين فقد هجم الفونسو النصراني غدراً ولكن المسلمين كانوا على حذر مستيقظين لعدوهم و المؤمن كيس فطن لا يركن إلى عدوه ولا يثق به واشتد رحى المعركة ورفع النصارى الصلبان و الإنجيل وكبر المسلمون واستبسلوا في القتال واستبسل المعتمد بن عباد وكان شجاعا حتى عقر تحته ثلاث خيول وأدار يوسف بن تاشفين رحمه الله المعركة خير إدارة حتى إذا رأى جيش المسلمين كلّ وتعب وكان كذلك الأمر بالنسبة للنصارى أمر بجيشٍ خبأه عن أرض المعركة أن ينقسم إلى قسمين ويهجم قسم على قلب جيش النصارى و النصف الآخر ينطلق إلى مؤخرة الجيش فيشعل فيه النيران فصار النصارى لا يدرون من أين يؤتون وقاد يوسف بن تاشفين ذلك الشيخ الجليل تلك الكتيبة التي انقضت على قلب الجيش النصراني حيث الفونسو وكان يتسنم للشهادة يطلبها يلقي بنفسه قبل أصحابه واستمر قتالا ًعنيفاً من الصباح حتى غربت الشمس حتى وصل هو وأصحابه الأبطال إلى الفونسو حتى جرح الفونسو عدة جراح حينها لاذ بالفرار فلما تمزق جيشه وكان الليل قد خيم أمر يوسف بن تاشفين المسلمين بعدم المطاردة لخشيته أن يتفرق الجيش والوقت ليل ووصل الفونسو إلى طليطلة وليس معه إلا مائة فارس وقتل النصارى مقتلة عظيمة لم ير مثلها . ونصر الله يوسف بن تاشفين شيخ المجاهدين . ونصر الله المسلمين لما زهدوا في الحياة وارتفعوا بأرواحهم عن الركون والإخلاد إلى الأرض وملاذها وعن الأخلاد الى الذل والهوان .

عندها جمع يوسف بن تاشفين ولاة الأندلس ووعظهم و ذكرهم بهذه النعمة وأن سبب ضعفهم هو تمزقهم وتفرقهم وحثهم على التوحد وكر راجعا إلى المغرب ليدير شئون دولته ..

فهل يا ترى أعتبر ملوك دويلات الطوائف كلا والله لم يعتبروا بل رجع بعضهم يقاتل بعضا حرصا على الملك ورجعوا يبرمون التحالفات المخزية تحالفات الخيانة مع الفونسو ضد بعضهم البعض حتى استولى الفونسو على حصن شرق الأندلس هو حصن لييط وصار يهاجم المسلمين منه هنا عبر المعتمد بن عباد بنفسه إلى المغرب مستنجدا بيوسف بن تاشفين فبادر يوسف وعبر البحر فاستطاع أن يرد حصن لييط من الفونسو ثم رجع إلى المغرب مرة أخرى فهل إعتبرت حليمة كلا بل عادت إلى عادتها القديمة عندها لم يصبرعلماء المسلمين في الشرق الإسلامي على ما يجري في الأندلس فقام علماء الشام والعراق و على رأسهم أبو حامد الغزالي وأبو بكر الطرطوشي رحمهما الله بإصدار فتوى يحملون فيها يوسف بن تاشفين مسؤليه سقوط الأندلس ويلزمونه عبور الأندلس وإزالة دويلات الطوائف بالقوة فبقاء هؤلاء الصعاليك فيه ضياع لأرض المسلمين واستباحة لبيضتهم .

تأمل يوسف بن تاشفين الفتوى وتأمل حال الأندلس فوجد أن هذا هو الحل الذي لا مفر منه لإنقاذ المسلمين فهؤلاء الحكام الضعفاء لم يعد همهم سوى كراسيهم وإن كانت النتيجة استباحة المسلمين وذهاب أرضهم . فعبر يوسف بن تا شفين ولكن هذه المرة لمقاتلة صعاليك الطوائف وإزالتهم وتخليص المسلمين منهم فسلم بعضهم مفاتيح دويلاتهم كملك غرناطه وبعضهم أبى فأزالهم بالقوة وكان نصيب من يرفض القتل ، وكان ممن رفض التسليم شحا بكرسيه المعتمد بن عباد فدخل يوسف بن تاشفين اشبيليه بالقوة وأصدر أمرا بمصادرة أموال المعتمد وطرده من الأندلس إلى المغرب فعاش فقيرا بالمغرب وذهب بصره فصار يتكفف الناس حتى كانت بناته يغزلن الصوف ويبعنه للناس وكن في عصر مملكته َيخلِطُ لهن الطين بالمسك فيمشين عليه لعباً بأموال المسلمين وطغيانا في الأرض .

مات المعتمد بن عباد لم يعرفه أحد حتى ناد المنادي في مراكش صلوا على الغريب فما صلى عليه إلا ثلاثة نفر ولم يعرفه أحد إلا عند دفنه حيث صرخ بهم رجل قائلاً : أتدرون من هذا هذا المعتمد بن عباد صاحب بلاط أشبيليه وقصورها الحمراء .

و توقف المد النصراني بدخول المجاهدين إلى الأندلس وامتد عمر الأندلس بعد أن كادت تسقط في خلال سنوات معدودة إلى ثلاثمائة عام كل ذلك بفضل الله ثم بفضل المجاهدين في سبيل الله فهل ندرك أن الجهاد هو الحياة .

تلك قصة في التاريخ وعبرة للأجيال فهل يعيها المسلمون (( إن الذين لا يقرؤون التاريخ ولا يعونه هم المحكوم عليهم بتكراره ))(1)

----------------------

مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 346)

وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُونَ إلَى مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ ؛ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ اللَّهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ نَعَتَهُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَقَّبْ إيمَانَهُمْ رِيبَةٌ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ ؛ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا . وَالْكِتَابُ وَالْحَدِيدُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْإِنْزَالِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَزَلَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ الْآخَرُ . حَيْثُ نَزَلَ الْكِتَابُ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } وَالْحَدِيدُ أُنْزِلَ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا . وَكَذَلِكَ وَصَفَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْبِرِّ الَّذِي هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْكَذِبِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . قَوْله تَعَالَى { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالتَّصْدِيقَ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَفِي الْأَعْمَالِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَيُقَالُ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً صَادِقَةً إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُمْ لِلْقِتَالِ ثَابِتَةً جَازِمَةً وَيُقَالُ فُلَانٌ صَادِقُ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا يُرِيدُونَ بِالصَّادِقِ ؛ الصَّادِقُ فِي إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَطَلَبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي عَمَلِهِ وَيُرِيدُونَ الصَّادِقَ فِي خَبَرِهِ وَكَلَامِهِ وَالْمُنَافِقُ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ . أَوْ كَاذِبًا فِي عَمَلِهِ كَالْمُرَائِي فِي عَمَلِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الْآيَتَيْنِ . وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ إذْ " الْإِسْلَامُ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الْآيَةَ . فَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْبَرَ وَمَنْ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ وَكُلٌّ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ ضِدُّ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ . وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَلِهَذَا كَانَ رَأْسُ الْإِسْلَامِ { شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكَ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين دِينًا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لَا تَنْفَعُ بِدُونِهَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ

000000000000

أيها العلماء والدعاة احذروا ذلاقة اللسان، وثناء وإعجاب ومجاراة العوام

 

ويلٌ للعالم من الأتباع

أيها العلماء والدعاة احذروا الشهوات الخفية، والأمراض القلبية، والنزغات الشيطانية، كالرياء، والعجب، والكبر، والتعاظم، ونحوها، واخشوا ذلاقة اللسان، ولا تغتروا بثناء وإعجاب العوام، ورحم الله امرءً عرف قدر نفسه، ولهذا السبب قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ويل للعالم من الأتباع"، وكان عمر رضي الله عنه يقول لمادحيه والمثنين عليه: "المغرور من أغررتموه"، وكان ابن مسعود رضي الله عنه ينهى عن متابعته والسير معه إن قام من المجلس، ويقول لتلاميذه وأصحابه: "لو تعلمون من نفسي ما أعلم لرجمتموني بالحجارة، ولما وطئ قدمي أحد منكم".

ولخطورة المدح والإطراء في الوجه، سيما عندما يقرن بالمبالغة والكذب، وفي الغالب لا يخلو مدح منهما، أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يُحثى التراب في وجوه محترفي المدح، لما يسببه من الفتن والبلاء للممدوح، فقال: "احثوا في وجوه المداحين التراب"، وفي رواية: "احثوا التراب في وجوه المداحين".

قال الإمام أبوبكر بن العربي المالكي في توجيه هذا الحديث: (وصورته أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه وتقول: ما عسى أن يكون مقدار من خُلِق من هذا، وما أنا؟ وما قدري؟ توبخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرِّف المادح قدرك وقدره، هكذا فليحث التراب في وجوههم، قال: وقد كان بعض مشايخنا إذا رأى شخصاً راكباً ذا شارة يعظمه الناس، وينظرون إليه، يقول لهم وله: إنه تراب راكب على تراب، وينشد:

حتى متى، وإلى متى تتوانى           أتظن ذلك يا فتى نسياناً؟).

روى ابن عساكر في تاريخه عن ابن عيينة رحمه الله: أن ربيعة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: رياء حاضر، وشهوة خفية.

من تلكم الأمراض القلبية، والشهوات الخفية، والنزغات الشيطانية التي ينبغي الخوف والحذر منها للناس عامة، وللعلماء والدعاة خاصة، ما يأتي:

1. ذلاقة اللسان، وحلو المنطق والبيان: فهذه نعمة عظيمة، ولكنها قد تنقلب إلى نقمة وخيمة، وتصبح وبالاً على صاحبها إن لم يتداركه ربه ويتعاهد نفسه بالمجاهدة، ومن ذلاقة اللسان خاف أحد السلف الكرام على الأمة، فقال: "أخوف ما أخاف على الأمة منافق ذلق اللسان"، وحق له أن يخاف على الأمة من اجتماع الذلاقة مع النفاق، لأن ذلق اللسان عنده مقدرة على قلب الواقع، وتزوير الحقائق والتلبيس والتدليس على العامة، ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من البيان لسحراً".

2. حب التعالي والتعاظم والتفاخر: وهو الشهوة الخفية، والعلة المهلكة الردية، وقد ورد في ذلك حديث، وإن لم يصح سنده فقد صح معناه، وهو: "احذروا الشهوة الخفية، العالم يحب أن يُجلس إليه".

فالصدق والإخلاص أساس العمل، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل ما شورك فيه، فهو أغنى الشركاء، فحب العالم للعلو والظهور على أقرانه يفسد عمله، ويحط من شأنه.

قال المناوي: (فإن ذلك يبطل عمله لتفويته الإخلاص وتصحيح النية، فليس الشأن حفظ العلم، بل في صونه عما يفسده كالرياء، والعُجْب، والتعاظم بإظهار علمه، وذلك سم وخيم، وسهم من سهام الشيطان الرجيم.

ثم قال: أخرج العلائي في أماليه عن علي: "سيكون أقوم يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمَهم عملُهم، وسرهم علانيتهم، يجلسون حلقاً حلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس لغيره ويدعه").

3. ثناء العوام وإعجابهم: لا شك أن الثناء الحسن والشكر هو عاجل بشرى المسلم، شريطة أن يخلو من الغلو والكذب، فإذا خالطه غلو وكذب وكان في الوجه فهو البلاء، وقصم الظهر، والذبح بلا سكين، والموت غير الرحيم، كيف لا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم المحفوظ بأن يبالغ في مدحه وثنائه ويكذب فيه، فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".

وعندما قال له رجل: ما شاء الله وشئت؛ غضب عليه، وقال له: "أجعلتني لله نداً؟! بل قل ما شاء الله وحده".

4. موافقة العامة ومجاراتهم: هذه كذلك من الفتن المهلكة، أن ينجر العالم وينساق من حيث لا يدري أويدري، إن خوفاً أوطمعاً، في فتاواه إلى ما تهواه نفوسهم، وألفوه عن آبائهم وأجدادهم، وما يتفق مع عاداتهم وأعرافهم.

قد يحدث ذلك بحسن نية وقصد واجتهاد، بغرض نيل ثقتهم والتودد إليهم، أوبسبب تتبع الزلات والهفوات والأقوال المرجوحة.

أوقد يكون بسبب شدة الحرص والمحافظة على المسلمين، أولقناعته أن هذا هو الحق، أوإيثاراً للسلامة.

مهما يكن الدافع لذلك فإن لهذا المسلك خطورته، ولهذا الطريق وعورته، للآتي:

1. الواجب علينا الدعوة إلى الله على بصيرة، وتبصير الناس بما أوجبه عليهم دينهم، استجابوا لذلك أم لم يستجيبوا، فواجب الرسول وأتباعه البلاغ المبين.

2.   هذا المسلك ليس له حد ولا نهاية، فمن خطا فيه خطوة ساقته إلى الأخرى، وهكذا.

3.   نتائجه غير مضمونة، فقد يأتي بالعكس والنقيض لمراد من سلكوه.

4. لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالثبات على المبادئ، وبالأخذ بالعزائم، وبالصبر واليقين.

5.   فيه طمس لكثير من حقائق الإسلام، ومظاهر الدين، وإخفاء لشعائره، وفي ذلك ضرر لا يدانيه ضرر.

6.   العاقل من اتعظ بغيره، فما من عالم أوداعية سلك هذا المسلك الوعر الخطر إلا قد حار بعد الكور.

7. التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء، فمن رام تمكيناً من غير ابتلاء وامتحان واختبار رام الماء من السراب، والعنب من الشوك.

سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل، أن يمكن أويبتلى؟ فقال الشافعي: "لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة".

وقال مالك: "لا تغبطوا أحداً لم يصب في هذا الدين".

فالحذر من نزغات الشياطين، ومن الأماني الكاذبة، وأحلام اليقظة، ومن إتباع النفوس هواها، والغفلة عن مجاهدتها: " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".

وتذكر أن كثرة الأتباع والموافقين وقلة المعترضين ليست دائماً مؤشر خير وعلامة رضى، فقد قال الإمام أويس القرني: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يترك لي صديقاً".

وقال سفيان الثوري: "إذا رأيتَ الرجل يثني عليه جميع جيرانه فهو رجل سوء"، لأنه لو كان آمراً ناهياً لما رضي عنه أحد منهم.

والله أعلم بالصواب، وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على أتقى الخلق وأخشاهم، محمد بن عبد الله، وآله وأصحابه ومن والاهم

000000000000000000

هلموا إلى رياض الجنة، حِلَق الذكر، الجامعات الشرعية المفتوحة

 

كانت المساجد والكتاتيب التابعة لها، والمعاهد، والكليات، والجامعات التي أنشئت فيها هي المحاضن لنشء المسلمين، ولتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، ولتخريج العلماء، والقضاة، والمصلحين.

استمر هذا الأمر إلى أن تآمر الكفار وعملاؤهم من المنتسبين إلى الإسلام على إسقاط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، وعقب ذلك تقسيم دولة الإسلام إلى دويلات صغيرة، وممالك هزيلة، تقاسمها الكفار والمستعمرون، حكموا بعضها بأنفسهم، وأنابوا غيرهم في حكم البعض الآخر.

ثم ما فتئوا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، حيث أقصوا الإسلام عن معظم مناحي الحياة، سيما في جانب السياسة، والحكم، والاقتصاد، ومناهج التربية والتعليم.

لقد فطن بعض الأخيار لذلك فحافظوا على بعض دور التعليم الدينية، وأنشأوا غيرها، مستفيدين من بعض الأوقاف الإسلامية، وحاضين ومشجعين الموسرين على التبرع والإنفاق لتسييرها، واستمر التعليم الديني موازياً للتعليم الرسمي، مع هضم حقوقهم، والتضييق عليهم، وعدم تعيينهم في الوظائف الحكومية المتميزة وغير المتميزة.

وقد استمر هذا الوضع بعد أن نالت الدول الإسلامية استقلالها الاسمي، لان المستعمر لم يخرج إلا بعد أن اطمئن على وجود كادر ممن ربوهم على أيديهم، ووفق مناهجهم عن طريق الابتعاث وغيره.

مما ساعد على استمرار المدارس، والمعاهد، والجامعات الإسلامية فترة من الزمان، اعتمادهم بعد الله على أنفسهم في تمويلها وإدارتها، وعدم قبول شيء من العون الحكومي.

شعر المستغربون وأعداء الدين بخطورة هذا النوع من التعليم عليهم، فأوعزوا للمسؤولين بطرق مباشرة وغير مباشرة بتوحيد مناهج التعليم في البلاد وتوحيد الإشراف عليها، ولم يكن ذلك شاملاً للمدارس الإرسالية والكنسية وإنما فصِّل تفصيلاً على المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية.

كانت الضربة القاضية على ذلك عند شروع أمريكا وحلفائها في حربهم الصليبية على الإسلام، التي بدأتها بحرب الخليج الأولى وبغزو أفغانستان والعراق، وتدجين كل حكام المسلمين، حيث صدرت التعليمات لهم بإغلاق جميع المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية، بحجة أنها محاضن للإرهاب، وتفرخ الإرهابيين.

ولم يقتصر الأمر على القضاء على ما تبقى من تلك المدارس والمعاهد في المملكة العربية السعودية وباكستان، بل تعدى ذلك إلى التدخل السافر في تعديل المناهج والمقررات، حتى في المدارس والجامعات العلمانية التي أنشئت على غرار ما عند الكفار، وحذف كل الآيات، والأحاديث، والآثار، والمراجع، والمصادر، التي تتكلم عن كفر اليهود والنصارى، وعن عقيدة الولاء والبراء، وعن الجهاد، هذا ما علم وما خفي أعظم.

هذا بجانب وسائل الإفساد وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والتشكيك في الثوابت والمسلمات، والتعتيم، والتضليل، والتدليس الذي تقوم به وسائل الإعلام العالمية والمحلية، التي أضحت بوقاً للوسائل العالمية المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة المرئية، والفضائيات، والشبكات العنكبوتية.

لقد عمل كل ذلك وغيره كثير عمله في إفساد العقائد وتدمير الأخلاق، وتسييب الشباب.

لا خروج من هذا النفق المظلم، والفتن المحيطة، والمستقبل القاتم إلا بالرجوع إلى شرعنا المصفى، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

أولى تلك الوسائل وأهم هذه الأسباب العلم الشرعي، إذ مشكلة الإسلام الحقيقية تكمن في جهل أبنائه وكيد أعدائه.

ومعلوم أن المؤسسات التعليمية القائمة جلها مؤسسات علمانية، فهي معاول هدم ومسخ، ومنها كليات وجامعات إسلامية تستوعب أعداداً قليلة بجانب التزامها بنظم وقواعد ومتطلبات قد تعوق قيامها بالدور المناط بها.

هذا بجانب الضغوط والمضايقات التي تواجهها.

من المعلوم ضرورة كذلك أن العلم بالتعلم، وأن العلم الشرعي ومفاتحه لا ينالان إلا بمجالسة العلماء ومزاحمة الحكماء منهم بالركب، والقرب من أنفاسهم، والحرص على الاستفادة منهم، لأن العلم يحتاج إلى الأدب والسلوك والهدي الصالح، والسمت الصالح.

التعامل مع الكتب من غير شيخ، وقبل الحصول على مفاتح العلم له أضرار بليغة ومخاطر كثيرة، ورحم الله أبا حيان الأندلسي حين قال مبيناً مضار ذلك ومحذراً منه:

يظن الغمرُ أن الكتب تهدي            أخا جهل لإدراك العلــوم

وما علم الجهولُ بأن فيهــا            مدارك قد تدقُّ عن الفهيـم

ومن أخذ العلوم  بغير شيـخ           يضل عن الصراط المستقيم

وكم من عائبٍ قولاً  صحيحاً            وآفته من الفهم السقيـــم

من العسير جداً في زماننا هذا التفرغ لطلب العلم، أعني بذلك تفرغ العالم والمتعلم، حيث لم يبق إلا الانتساب إلى الجامعات الشرعية المفتوحة المتيسرة، وفي بعض الأحيان ولبعض الطلاب والشباب تكون في متناول اليد.

أعني بذلك الدروس المنتظمة في المساجد، فهي لا تحتاج إلى رسوم، ولا تسجيل، ولا تفرغ، ولا ترحيل، وغاية ما تحتاجه:

1.   رغبة صادقة في طلب العلم الشرعي.

2.   وعزيمة ماضية.

3.   وقلب حاضر.

4.   وتفرغ جزئي لمدة ساعة أوساعتين بما في ذلك المراجعة.

5.   الكتاب الذي يدرس ودفتر وقلم.

6.   وإن كان هناك جهاز تسجيل فزيادة خير.

فالعلـم صيـد           و الكتــاب قيـد

قيـد  صيـدك           بالحبـال الواثقـة

وأوقات هذه الدروس لا تتعارض مع طالب، ولا عامل، ولا موظف، فهي من بعد صلاة الصبح إلى الشروق، ومن بعد صلاة المغرب إلى العشاء، في أيام معدودة، وساعات محدودة، وأوقات مباركة مشهودة.

وهي مفتوحة للصغير، والكبير، والشاب، والشيخ، والقارئ، والأمي، والمنتظم، وغير المنتظم، للعالم، والمتعلم، والمستعلم، والمحب، في العقيدة، والفقه، والحديث، والسيرة، والسياسة الشرعية، والتفسير، والأدب، والسلوك.

من أمثلة ذلك ما هو قائم في مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمعمورة، حيث تقام فيه بفضل الله عز وجل ثلاثة دروس بعد الفجر، ودرسان بين المغرب والعشاء، على النحو التالي:

1.   شرح موطأ الإمام مالك بعد فجر الإثنين من كل أسبوع.

2.   شرح التجريد الصريح لصحيح البخاري بعد فجر الأربعاء من كل أسبوع.

3.   شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد بعد فجر الثلاثاء من كل أسبوع.

4.   شرح زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم بين المغرب والعشاء يوم الثلاثاء من كل أسبوع.

5.   شرح القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية لابن جُزَي المالكي.

وسيُنقل درس صحيح الترمذي للألباني من مسجد جامعة إفريقيا إلى مسجد المعمورة قريباً بإذن الله.

هذا بجانب العديد من الدروس والدورات القصيرة المدى التي يقيمها السادة العلماء والضيوف الفضلاء من خارج البلد وداخله، التي عمر وأنار الله بها المساجد في معظم مساجد ولاية الخرطوم وغيرها.

والمطلوب من السادة المشايخ الإكثار من هذه الدروس والمداومة عليها، فأحب العمل إلى الله أدومه، والتحضير لها وتنويعها حتى تلبي جميع الرغبات وتحقق كل الطلبات.

وينبغي للشباب خاصة الاستفادة من هذه الدورس والحرص عليها، وتشجيع غيرهم وحضهم، فالدال على الخير كفاعله، ورب مبلغ أوعى من سامع، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.

وينبغي للجان المساجد والمسؤولين عنها أن يسعوا لإقامة هذه الدروس، وأن يهيئوا لها الجو المناسب، وأن لا تضيق صدورهم بها، فعمارة المساجد بعد إقامة الصلوات المكتوبة والاعتكاف يكون بإقامة الدروس، والندوات، والدورات العلمية النافعة.

لا تحرم أخي المسلم، طالباً كنت، أم عاملاً، أم موظفاً، أم تاجراً نفسك من ذلك، واحذر التعليلات الفارغة، والأماني الكاذبة، فما أنت فيه مهما كان ليس بأوجب عليك ولا أحب إلى الله مما ندعوك إليه.

كان الشافعي رحمه الله ينشد:

إذا رأيتَ شباب الحي قد  نشأوا        لا يحملون قِلال  الحبر والورقـا

ولا تراهم لدى الأشياخ في حِلقٍ        يعون من صالح الأخبار ما اتسقا

فعد عنهم ودعهم، إنهم همــج        قد بدَّلوا بعلـو الهمـة الحُمقــا

قال ابن عقيل رحمه الله: (وبعض الناس يحتج لتركه العلم بكبر السن، أوعدم الذكاء، أوالقلة والفقر، أوغير ذلك، وذلك من وسواس الشياطين يثبطون بها، ومن نظر في حال السلف وجماعة من علماء الخلف وجدهم لا يلتفتون إلى هذه الأعذار، ولا يعرجون عليها، وقد قيل:

ومن يجتهد في نيل أمر ويصطبر       يَنَلـهُ، وإلا بعضَه إن تعســرا

فما دمتَ حياً فاطلب العلم  والعُلا        ولا تألُ جهداً أن تموت فتعـذرا

ولكن ينبغي اغتنام أوقات الفراغ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود).

هل تعلم أخي الكريم أن رياض الجنة هي حلق الذكر، التي يدرس فيها الحلال والحرام، ويتعلم منها السنة من البدعة، وأنها الجامعات المفتوحة.

صحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر، فإن لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم".

قال عطاء بن أبي رباح: (مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، كيف يشتري ويبيع، ويصوم ويصلي، ويتصدق، وينكح، ويطلق، ويحج).

فهلم ارتع فيها واستأنس بها.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم وبارك على معلم البشرية الخير، وعلى آله والتابعين لهم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين

000000000000000

مجالس الذكر

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه واشهد ان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه وعلى اله وصحبه وجميع اخوانه أما بعد

إن خير المجالس وأزكاها وأطهرها وأشرفها واعلاها قدراً عند الله وأجلها مكانة عنده مجالس الذكر, فهي حياة القلوب ونماء الإيمان وزكاء النفس وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة , ولهذا ورد في فضلها والحث على لزومها

والترغيب في المحافظة عليها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة , مما يدل على شريف قدر تلك المجالس ورفيع شأنها وعلو مكانتها وأنها خير المجالس . إن مجالس الذكر هي رياض الجنة في الدنيا . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه

, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)), قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال حلق الذكر .

فمن شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا , فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة.

ومجالس الذكر هي مجالس الملائكة , فإنه ليس من مجالس الدنيا مجلس إلا مجلس يذكر فيه الله تعالى فيه , كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن لله ملائكة فضلاً , يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر

, فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالو تنادوا : هلموا إلى حاجتكم , قال : فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا , قال : فيسألهم ربهم تعالى وهو أعلم بهم : مايقول عبادي ؟

قال : يقولون : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال : فيقول : هل رأوني ؟ فيقولون : لا والله مارأوك , قال فيقول : كيف لو رأوني : قال : فيقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة , وأشد لك تحميداً وتمجيداً , وأكثر لك تسبيحاً , قال : فيقول : مايسألوني؟

قال : يسألونك الجنة , قال: فيقول: هل رأوها , قال : فيقولون ل: لا والله يارب ما رأوها, قال : فيقول : فكيف لوأنهم رأوها ؟ قال: يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليهم حرصا , وأشد لها طلباً , وأعظم فيها رغبة , قال: فيقول : فمم يتعوذون ؟ قال : من النار , قال : يقول : وهل رأوها ؟

قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً , وأشد لها مخافة , قال : يقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : فيقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم , إنما جاء لحاجة , قال : هم الجلساء لايشقى بهم جليسهم )) رواه البخاري.

فمجالس الذكر هي مجالس الملائكة بخلاف مجالس الغفلة واللهو والباطل فإنها مجالس الشيطان , والله تعالى يقول: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }الزخرف36 , إن مجالس الذكر تؤمن العبد من الحسرة والندامة يوم القيامة بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنه تكون على صاحبها حسرة وندامة

يوم القيامة , فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :((من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة )) , أي نقص وتبعة وحسرة.

ومن شرف مجالس الذكر علو مكانتها عند الله أن الله عزوجل يباهي بالذاكرين الملائكة , كما ثبت عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه قال : خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ)) روا مسلم.

ومجالس الذكر سبب عظيم من أسباب حفظ اللسان وصونه عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والسخرية والباطل , فإن العبد لابد له من أن يتكلم وما خلق اللسان إلا للكلام فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره بالخير والفائدة , تكلم ولابد بهذه المحرمات أو ببعضها , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يَبُس لسانه عن ذكر الله نطق بكل باطل ولغو وفحش .

ومما ينبغي للمسلم أن يتفطن له في هذا المقام أن ذكر الله تعالى لايختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله بالتسبيح والتكبير ونحوه بل تشمل ماذكر فيه أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه ومايحبه ويرضاه , بل إنه ربما كان هذا الذكرأنفع من ذلك لأ معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم بحسب مايتعلق به من ذلك , وأما ذكر الله باللسان فأكثره يكون تطوعاً وقد يكون واجباً كالذكر في الصلوات المكتوبة , وأمامعرفة ما أمر الله به وما يحبه ويرضاه ومايكرهه فيجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه .(1)

من فوائد الذكر :

1- أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.

2- أنه يرضي الرحمن عزوجل.

3- أنه يزيل الهم والغم عن القلب .

4- أنه يجلب للقلب الفرح والسرور.

5- أنه يقوي القلب والبدن .

6- أنه ينور الوجه والقلب.

7- أنه يجلب الرزق.

8- أنه يحط الخطايا.

9- أنه سبب نزول السكينة .

10- أنه غراس الجنة .(2)

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الذاكرين له , وأن ينفعنا بما كتبنا , وأن يوفقنا في الدنيا والآخرة , إنه جواد كريم و وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

0000000

(1) الفوائد المنثورة إعداد عبدالرزاق البدر

(2) الوابل الصيب لابن القيم

أبو فيصل

==============

مقياس الالتزام

أما بعد: أيها المسلمون :_

قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) ما مقياسُ الالتزام؟ وما معنى الالتزام ؟وكيف فيكون المسلم ملتزماً؟

هذه الكلمة لم تكنْ معروفةً في الصَّدرِ الأوّل من الإسلام ؛ فلم يكون يُوجد لديهم إلا مؤمنُُ أو كافر ؛ أو كان يطلق الاسمُ العام على الداخل في الإسلام ؛ فيقال فلانُ مسلم ؛ أما في الأزمة المتأخرة فقد قسم الناس بعضهم بعضاً إلى ملتزم بدين الله عزَّ وجل وغير ملتزم ؛ وللنّاس فيما يصَّنفون مذاهبُ فيعنونَ غالباً بالملتزم "كل ما أطلق السَّنة الظاهرة وعمل بها ؛ من إعفاء اللحية وتقصير الثياب وما يتبع من ذلك ؛ وبعضهم يقف عند هذا اللحد فلا يتجاوزه  .

والحقيقة أن الالتزام بدين الله سبحانه وتعالى إنما يكون أولاً وأخيراً بخشية الله عز وجل ؛ يكون بمعرفة من هو الله عز وجل ؛ فنخشاهُ حق الخشية ونحبهُ حق المحبة ؛ ونطيعه حق الطاعة ؛ وننتهي عما حرم وننهى عنه .

ولقد جاء القرآن الكريم بهذه التربية العظيمة على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ فصاغَ منها رجال الإسلام الأوائل غدوا رجالاً يحملون بين جنوبهم إيماناً خالطت بشاشته القلوب ؛ حتى أصبح معجزة من المعجزات ؛ فلانت له الصُّم الصَّلاب ؛ وأتتهم الدنيا وهي راغمة ؛ علِموا من العلم ما علموا ؛ فبارك الله في علمهم ؛ ونفع بهم الأمة ؛ وترجموه إلى واقعٍ عمليّ ؛ فأصبحوا عباد ليل ؛ صوّام نهار؛ مجاهدين في سبيل الله ؛ علما في الحلق والمساجد ؛ إذا قالوا فعلوا ؛ وإذا فعلوا أخلصوا ..

وفجأة: وجدنا أنفسنا في أزمنةٍ إنقلبت فيها الموازين ، وأنتكستْ فيها الفطرة وتغيرت فيها الآراء .. رضينا منها أن نكون مع الخوالف ، تعلمنا العلم لغير وجه الله ، تعلمنا العلم للدنيا فمحق الله بركته وغفلنا عن الآخرة فطبع الله على القلوب ونزع منها لذة الإيمان وحلاوة العبادة ..

أيها الأحبة: هل تعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شاب رأسه في ليله واحدة ؟ شاب رأسه ولحيته في ليله واحدة بعد إذ لم يكون كذلك ( شيبتني هود وأخوتها قبل المشيب ) حديث صحيح شيبتني هود وأخوتها ، هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت.

لقد شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه قول الله عز وجل في سورة هود)فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:1121) شاب الرسول صلى الله عليه وسلم من كلمة واحدة ، من كلمة إستقم ، شاب رأسه ولحيته ، ظهر على أصحابه في صباح اليوم التالي، وقد ظهر فيه الشيب ( يا رسول الله قد شاب رأسك في ليله ، قال: شيبتني هود وأخواتها ). ظن أنه لن يستطيع القيام بكل ما أمره به ربه عز وجل ، فشيبته هود وأخوتها .

أين هذا من الذي قضى في الإلتزام على حد زعمه عشرات السنين ، إذا نظرت إلى أحواله رأيت العجب العجاب، إن جئت لحفظ القرآن تجده لم يحفظ منه إلا النز اليسير ، وقد يكون أبنه الصغير يحفظ القرآن كاملاً، وهو مشغول بالدنيا لكنه ملتزم .وإذا جئت إلى طلب العلم لم تجد له فيه ناقةً ولا جملاً ، إلا ثقافة كثقافة مدمني القنوات الفضائية _ يجمعون الغث والسمين ويظنون أنهم بذلك مثقفون علماء ، فلا يعرف من طلب العلم إلا اسمهْ .

وإن جئت إلى الدعوة إلى الله تعالى والحرقة على أوضاع المسلمين وجدته من أكسل الناس فيها ولا فخر ، فإذا غلب على أمره يوماً ، وتفوه بكلمة واحدة استطار لبه وشمخ بأنفه ، وظن أنه قد جاء بشيء لم تستطعهُ الأوائل .

فإذا نظرت إلى عبادته _ قلت رحم الله تلك العجوز ، كانت تقوم الليل وتصوم النهار على ضعفها ، وهذا جيفةٌ بالليل حمار بالنهار. فما هو مقياس الالتزام إذاً ؟

إن العاقل الحصيف والمؤمن الذي يخاف على إيمانه لينظر في أقواله وأفعاله ، فيهما سب نفسه، ويرتقي بها في مدارج الإيمان ، حتى يحط رحاله إن شاء الله تعالى في جنات الله عز وجل .

ويعلم _ أن احمل هذا الدين مسؤولية عظيمة ، الله عز وجل يعطي الدنيا _يعطيها الكافر والمؤمن ، والبر والفاجر والمنافق ، لكن الدين لا يعطيه إلا من يحبه قال صلى الله عليه وسلم :(إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن يكره ولا يعطي الدين إلا من يحبه) .

سأل عن هذا الدين بين يدي الله تعالى يوم القيامة ، هل من المعقول أن يعطيك الله نعمةً قد حرمها كثير من الناس ثم لا تقوم بشكرها ، ولا تأبه بها ، وترضى بالدون .

ما بالنا أيها الأخوة غفلنا عن جوهر الأمر _ ورضينا بزيف بريقه ،أين الإقتداء الصحيح بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وسمته وحسن خلقه ، ألم يكن لنا في رسول الله أسوة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) أين حسن الخلق الذي كان عليه الصلاة والسلام ، لماذا نجد اليوم من بيننا أناساً بغضوا إلى عباد الله دين الله ؟ حببوا إليهم الكفر والفسق والعصيان ، قنطوهم من رحمة الله ، ثم أغلقوا في وجوههم أبواب جنةٍ عرضها السموات والأرض ، فتحوا في وجوههم أبواب النيران ، ألم يقل الله عز وحل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107)

أفيكون الرسول عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين ، رؤوفاً رحيماً بالناس ، ويكون بعضنا عذاباً على العالمين ، يجصي عليهم أنفاسهم ، ويحاسبهم قبل يوم الحساب ، ويسومهم سوء العذاب ، بزعم أنه هو الوحيد الذي يغار على دين الله ، فيتصور أنه موكل على أبناء أدم من بعده ، ويظن بأفعال الناس السوء ، كيف سيهتدي العباد إذا رأوا من هذا حاله .

وقد كان السلف _ رحمهم الله يدعو أحدهم بسلوكه وفعله قبل قوله ، فإذا تكلم ود السامع أنه لا يسكت ، من طيب خلقه وكلامه وسمحته ، أين الذي ما وضعه الله عز وجل في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه .

يأتي معاوية بن الحكيم السلمي _ رضي الله عنه _ رجلٌ يأتي إلى النبي _ صلى الله عله وسلم _ والصحابة يصلون وقد حرم الكلام في الصلاة وهو لا يعلم فتكلم في صلاته فرمقه الصحابة بأعينهم فلما أكثر سكتوه قال: لا كنني سكتُ قال : واثكل أمياه ماذا فعلت وبعد الصلاة يقول أتى النبي _صلى الله عليه وسلم _ فبأبي هو وأمي والله كهرني ولا نهرني ، ولا سبني ولا شتمني ، ولكنه قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس .. إنما هي لذكر الله تعالى قال فما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه عليه الصلاة والسلام .. وكلنا نعرف قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في يوم بارد شاتٍ فجبذ النبي _ صلى الله عليه وسلم _ جبذةً قويةً بحاشية برده عليه الصلاة والسلام .. وكان عليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية فقال: يا محمد _ بكا غلظة _ مُر لي من مال الله الذي عندك "ليسمن مال أبيك ومال جدك فلتفت النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وأبتسم وأمر له بعطاء . وكلنا نعرف قصة الأعرابي الآخر الذي جاء فبال في المسجد ، فقام الصحابة فنهروه فقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ دعوه لا تزرموه .. ثم لما قضى بوله قال: يا أخا العرب :إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من أفعال الناس إنما هي للصلاة والذكر وقراءة القرآن .. فماذا قال الأعرابي..قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.. وكلنا نعرف قصة الأعرابي الثالث الذي يشكوا معاذاً _رضي الله عنه _ من كثرة ما يطيل بهم الصلاة .. فقال :والله أنب لا كره الصلاة من كثر ما يطيل بنا معاذ .. آفتان أنت يا معاذ آفتان أنت يا معاذ .. إذا صليت بالناس فأقصر .. ثم التفت إلى الأعرابي فقال : ماذا تقول في صلاتك إذا صليت .. قال الأعرابي : لا أحسن دندنتك ولا دندنت معاذ .. أسال الله الجنة وأستعيذه من النار .. فتبسم النبي _صلى الله عليه وسلم _ وقال: حولها ندندن

وكلنا أيضاً نعرف قصة الأعرابي الذي جاء فوقف على رؤوس الناس فقال : أعطني يا محمد فأعطاه فقال النبي _صلى الله عليه وسلم _ وهل وفيتك ، قال : لا ولا جزاك الله خيراً ، قلة حياء وقلة أدب .. ثم أعطاه الرسول_صلى الله عليه وسلم _ قال : هل أجزلت لك .. قال: لا ولا جزاك الله خيراً .. فغضب الصحابة وأرادوا أن يفتكوا به .. ثم أعطاه وأعطاه ثم أخذه فأدخله بيتاً فقال : هل أجزلت لك قال: نعم .. جزاك الله من أخ عشيرةٍ خيراً فقال النبي:_ صلى الله عليه وسلم _فإن أصحابي قد غضبوا عليك فهلا خرجت إليهم وقلت لهم ما قلت لي :قال نعم ..فخرج الأعرابي فقال :جزاه الله من أخ عشيرةٍ خيراً قد والله أجزل لي العطية فضحك النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال: أن مثلي ومثلكم ومثل هذا كمثل رجلٍ معه جمل فندمه فجاء الناس ليمسكوه فهيجوه ، ولو تركتكم وهذا الأعرابي فضربتموه فمات ، دخل النار ..

أين العباد يا أيها الأحبة .. أين الذين يصفون أنفسهم بأنهم ملتزمون .. أمعقول أن يكون الضلال الصوفية والرافضة المنحرفون أحرص منا على عبادة الله وأجلد على تحمل مشاق العبادة على ضلال عبادتهم وبدعتهم ..ونحن على الحق المبين ، أين صيام الاثنين والخميس أين صيام ثلاثة أيام من كل شهر .. أين صيام يوم وإفطار يوم .. أم أن الصيام لا يعرفه بعضنا إلا في رمضان قال _ صلى الله عليه وسلم _ "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماوات والأرض " .. "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجه النار سبعين خريفاً" .."من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجه النار مائة عام" .. "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجه النار سبعين عاماً" .. كيف نرجو الدخول من باب الريان ، وهو باب يدخله المكثرين من صيام النفل بعد الفرض .. وأنت لا تعرف إلا صيام رمضان كعامة المسلمين .. ألا تعلم أن الصوم هي العبادة الوحيدة التي لله عز وجل وهو يجزي بها .. فما بالك بعطايا الرحمن عز وجل وكيف سيكون إثباته عليها ؟ نحن في زمن قد غلبت عليه الفتن والشهوات وقد أرشدنا الرسول _صلى الله عليه وسلم _ إلى الصوم في حال عدم وجود الزواج .. وأما اليوم حتى المتزوج يحتاج إلى الصوم ، القنوات تتفنن في الفاحشة ،مواقع الإنترنت تتفنن في الفاحشة ، نساء المسلمين يتففن إظهار أجسادهن في الأسواق ، فتن في كل مكان ، لابد أن يغض بصره الإنسان المؤمن الخائف على إيمانه عن هذا الحرام ، فإذا لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ، يكسر الشهوة ويقللها ، أين كثرة قراءة القران الذي هو شفاء لما في الصدور ،كل شيء له في حياتنا وقت ، العمل والجلوس مع الأهل ، والسمر مع الأصدقاء ، والسفر ، والنوم ، والأكل ، والترف ،إلا القرآن نستكثر عليه دقائق كل يوم ، تحيا بها قلوبنا ، ويورثنا الله عز وجل بركتها ، لو قرأن كل يوم قبل كل صلاة ورقتين ، لختمت القرآن كله في شهر ، في السنة اثنتي عشرة مرة ، هل هذا أمر سهل؟ كم قرأت من شهر محرم إلى الآن ؟ ورمضان قادم ، ألا تستحي من الله عز وجل ، أن يقدم رمضان وأنت لم تقرأ من القرآن إلا ما تقرأه في صلاتك على عجل ، أو تقرأ سورة الكهف يوم الجمعة ، هذا كهذا الشهر ، هذا إذا جاء إلى الجمعة مبكراً ، ولم يأت في دبرها كعادة المتأخرين عن الخير دائماً البطيئين عنه ، والرسول _صلى الله عليه وسلم _ أخبرنا أنه لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل في الجنة وإن دخلوها

أين الشغف بالصلاة ، وأين التبكير إلى الصلاة ، وأين الازدياد من النوافل .. لماذا يا معشر الشباب لا يبكر إلى الصلاة دائماً إلا كبار السن ، لا يكاد يؤذن المؤذن إلا وهم خلف الإمام ، أما الشباب فيعرفون أن بين الأذان والإقامة خمسة وعشرين دقيقة ، فيتأخرون إلى ما بعد إقامته الصلاة ، فهم أكسل من أن يأتوا مبكرين محتسبين أجر التبكير إلى الصلوات ، لماذا لا نرى يقضي الركعات غالباً بعد أنتها الصلوات إلا الشباب ، وأستحي أن أقول : بعض الملتزمين .. أين من صلى لله اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بُني له بيتً في الجنة ..

أين قول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ :( لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدون إلا أن يأتوا إليها حبواً لجاءوا إليها ) لكنهم لا يعلمون ما في النداء ، وما في الصف الأول فلم يأتوا إليها إلاَّ يسحبون أرجلهم .

أين من صلى في جماعة أربعين يوماً قال _ صلى الله عليه وسلم _ ( من صلى لله في جماعة أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى كتب الله له براءتين _ براءة من النفاق وبراءة من النار) يدرك التكبيرة الأولى ، يعني يكبر الأمام وهو واقف في الصف .. ثم في المقابل تجد منا من يتقن فن النقد ، في كل شيء ، كل شيء في نظره أسود أسود ، نقدُُ هادم ، وأنظر إلى أفعاله ، تجده ضعيف الإيمان ، ابتلاه الله بكثرة الكلام وقلة العمل ،كيف يزداد الإيمان في قلوبنا ونحن على هذا الحال .. ملتزم ! ملتزم بماذا ؟ ملتزم الصمت ،أساله عن زيارة المقابر التي هي كان منهيُُ عن زيارتها فيما مضى _ فرخص لهم الرسول_ صلى الله عليه وسلم _ في ذلك لماذا ؟ لأنها تذكرهم الآخرة ..

وأساله عن الصدقات ، التي يأتي المرء في ظلها يوم القيامة في حر ذلك اليوم العظيم الذي تدنوا في الشمس من رؤوس العباد حتى تبلغ قيد ميل حتى يغلي منها الدماغ ، كل في ظل صدقته يوم القيامة .. وأساله عن الدعاء والإكثار من الدعاء .. وأساله عن كثرة ذكر الله والمحافظة على الأذكار .. وأساله عن الاستغفار الذي يحرق الذنوب حرقاً .. وأساله عن الباقيات الصالحات ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . وأساله عن إحياء سنة الرسول_ صلى الله عليه وسلم _ في كل شيء ..، وأساله عن حسن العِشرة ، وتربية من حوله على أخلاق المؤمنين الصادقين .. وأساله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حجمنا دوره وجعلناه في فئة قليلة من الناس يسومهم الناس سوء العذاب ..وأساله عن الغيرة على محارم الله أن تنتهك وهو يرى ، تنتهك المحارم أحياناً وهو يرى ولا يتمعر وجهه ، ولذلك أرسل الله عز وجل جبريل إلى قرية من القرى ،قال: أهلكها بمن فيها ، قال : يا ربّ فيهم عبدك فلان ، لا يعصاك طرفة عين .. فماذا قال الله عز وجل ؟ قال به فابدأ _ عذَّبه أولاً لم يتمعر وجهه فيَّ قَطّ ..وأساله عن الدعوة إلى الله عز وجل بالحسنى .. وأساله عن حلق الذكر والدروس والمحاضرات قد لا تجدوا من ذلك إلا شيئاً قليلاً .. ولا تسأله عن غض البصر عن الحرام ، ومجالس الغيبة الفاحشة التي أبتلينا بها ، ونسأل الله تعالى الإعانة على التوبة منها ..

وتضيع الأوقات في الضحك والسخافات فإذا ما جاء الجد رأيته أبعد الناس عنه ..فبماذا نحن ملتزمون أيها الأحبة ؟

* * *

روى الحاكم رحمه الله عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) وفي رواية (فجددوا إيمانكم بلا إله إلا الله ) ..

فالإيمان أيها الأحبة : يبلى ويهتري في القلب كما يتسخ الثوب ويبلى ، فيعتلي المؤمن أحياناً سحابة من سحب المعصية كما قال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( ما من إلا له سحابة كسحابة القمر بين القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء )

تجد العبد بين هذين الأمرين ، مرة قوي الإيمان ، نشيطاً في عبادة الله عز وجل ، تسهل عليه الطاعات ، لين القلب ، سريع الدمعة .. ومرات تجده متكاسلاً ، قاسي القلب ، جاف العين ، يقع في المعصية بكل سهولة ، ويستغرب إذا وقع فيها فيما مضى فيما بعد ، ويقول أنا فلان الملتزم ، كيف أقع في مثل هذه المعصية ، ويلوم نفسه ، ولهذا أسباب عظيمة عديدة ، إذا علمنا قول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أيضاً: ( ما من عبد إلا وله ذنبُُ يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنبُُ هو مقيم عليه حتى يفارق الدنيا ) أعظم هذه الأسباب : الغفلة وعدم السعي في زيادة الإيمان في قلبه ، وبعضهم يظن أن زيادة الإيمان تأتي بعلاج سحري ، يضعه في الجوف ثم يزداد إيمانه فجأة ، ولا يريد أن يتعب ، ولا يريد أن يعفر وجهه لله ، ويسأل الله تعالى أن يثبت قلبه على دينه ، هذا شيخ الإسلام أبن تيميه _ رحمه الله _ يقول: كنت أقرأ للآية الواحدة مائة تفسير ، ثم لا أفهم ، فأمرغ خدي في التراب ، وأقول: يا معلم إبراهيم علمني ، ويا مفهم سليمان فهمني ، فيفتح الله عز وجل علي من بركات علمه ما لم يكن في الحسبان ، إلا بماذا أصبح شيخ الإسلام ؟ بتعفير خده ووجهه لرب العباد عز وجل ، قاعدة : كلما أذللت نفسك لله كلما أعزك الله _ وكلما تجافيت عن الله وأذللت نفسك للبشر ، كلما زادك الله ذلاً ..

ومن الأسباب : طول الأمل ، والتعلق بهذه الدنيا ، طول الأمل من الشقاء كما جاء في الأثر .. ومن الأسباب : الإفراط في الأكل والنوم والسهر ولا تسأل عن السهر في هذه الأزمنة ، والكلام والمخالطة _ وكثرة الضحك التي تقسي القلب ، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي ..ومنها كثرة الاشتغال بالدنيا ، والدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً ..

ومن الأسباب : التعود دائماً على أجواء المنكرات والمخالطات ، المخالطات المحرمة ، أو وجودة مع شباب شغوفين بالقنوات الفضائية ، ومواقع الجنس الصريح في الإنترنت ، والمجلدات الخليعة ، والنكت السخيفة الجنسية ، هذا وسط يعج بالمنكرات ، فكيف تريد من إنسان يخالطهم أن يزداد إيمانهُ _ لا يمكن أبداً ..

ومنها هجر العلم الشرعي ، والإعراض عن الكتب النافعة ، والأشرطة الفاضلة _ ولو كان لنا يا أحبة : لو كان لنا قراءة يومية في كتب أبن القيم وحده _ رحمه الله _ لوجدنا لذلك على قلوبنا أثراً عظيماً إقرأوا على سبيل المثال : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، هذا هدية أقدمه لنا جميعاً ، لنا نحن الذين ضعف إيمانهم .. من أراد أن يزداد إيمانه فليقرأ في هذا الكتاب العظيم الذي هو جواب على سؤال طرح على الشيخ رحمه الله ، وللأسف أصبح كثير منا اهتماماته حتى في هذا الجانب ، أصبحت دنيئة ، فيفتخر أنه لا يحب القراءة أبداً _ أو تجد أن سيارته مليئة بالأشرطة السخيفة ، كالأناشيد التي يدعونها زوراً وبهتاناً الأناشيد الإسلامية ، وقل أن تجد عنده أشرطة الدروس العلمية الأصلية ، أو المحاضرات الفاضلة ، فكيف يزداد الأيمان في القلب ؟ ..

 

ومن الأسباب: الابتعاد عن القدوة الصالحة ، لا بد من وجود قدوة تقتدي به في دين الله ، لا بد من وجود قدوة ترى عبادته فتقلده ، وترى علمه فتأخذ منه ، وكان ابن القيم _ رحمه الله _عندما سجن شيخ الإسلام ابن تيميه في قلعه دمشق بالشام يقول ابن القيم : كانت تظلم الدنيا في وجوهنا وتقسوا قلوبنا ، فما هو إلا أن نذهب إلى الشيخ في السجن فنرى وجهه فتنفرج أساريرنا ، وتصفوا نفوسنا وننسى هموم الأرض .

الصحابة رضي الله عنهم ، كيف كان حالهم عندما مات الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ؟

وصفهم الواصف فقال : كانوا كالغنم الشاتية في ليلةٍ مطيرة تفرقوا . كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قدوتهم ، يوجههم ، ويضحك إليهم ، ويعطف عليهم ، ويعلمهم ، ويحبهم ، ويجلهم ، ثم فقدوه في ليلةٍ واحدة فتفرقوا ، كانوا كالغنم الشاتية في ليلةٍ مطيرة ، فلا بد من القدوة ..

وأعظم الأسباب في قسوة القلب : الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة لا يذكر نفيه بطاعة ، ولا يتكلف الذهاب إلى زيارة في الله عز وجل إلى أناس يزداد معهم إيمانه ، ألم نعلم قصة الرجل في الحديث الصحيح الذي زار رجلاً آخر في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً _ إلى أين تريد ؟ قال إلى تلك القرية ، ما الذي تريده فيها ؟ قال أخاً لي في الله أحببته ، قال هل لك عليه نعمة ترباها . قال: لا ، إلا أني أحببته في الله ، قال له الملك :فإني رسول الله إليك أن الله يحبك كما أحببته ، والله عز وجل يقول : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) واعلموا إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية..

والسؤال كيف نعالج هذه الظاهرة المخيفة التي لو تمادت بنا .. لانتكس العبد والعياذ بالله ، وتجرأ على المنكرات والمعاصي من حيث لا يشعر ، وأدى به ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله ؟

هذا يكون بأمور :

يكون بالإخلاص لله تعالى ، والجد في علاج النفس ومعرفة مرض النفس .. ويكون بكثرة تدبر كتاب الله تعالى ، يا أخوة : نحن في زمن قد هجر فيه كثير من المسلمين كتاب ربهم ، واتخذوه وراء ظهورهم ظهرياً ، وهجروا تدبره ، والعمل به ، والاستشفاء به ، والتحكم إليه ، وما إلى ذلك ، فكيف نرجوا زيادة الإيمان هذا وضع من هو فيه ، ضعف إيمان يقطع القلب حسرة ، النبي _ صلى الله عليه وسلم _ مع ما هو عليه من رقة في القلب ، قام ليلة واحدة بآيه واحدة يتدبرها حتى الصباح ويبكي (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118) يرددها الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ حتى الفجر ويبكي .

وكذلك استشعار عظمة الله عز وجل من أعظم الوسائل لعلاج هذه الظاهرة المخيفة أن تستشعر من هو الله ؟

الله عز وجل الذي شأنه أعظم شأن ، تعرف أسمائه وصفاته وتتدبر فيها وتعقل معانيها فإذا قلت : يا غفور _ تطلب المغفرة ، يا رحيم :تطلب الرحمة ، يا رزاق : تطلب الرزق ، يا عفو : تطلب أن يعفوا عنك ، وهكذا :

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل * * * خلوت ولكن قل على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ما مضى * * * ولا أن ما تخفي عليه يغيب

لهونا لعمر الله حتى تتابعت * * * ذنوباً على أثارهن ذنوباً

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى * * * ويأذن في توباتنا فنتوب

ومن العلاجات: طلب العلم الشرعي (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر: من الآية28)العالم أكثر الناس يخشى الله ، هل يستوي العالم والجاهل ؟ هل يستويان مثلاً ؟ كلاّ

ومن العلاجات : لزوم حلق الذكر التي رغب عنها كثيراً منا ، حلق الذكر تحفها الملائكة ، وتصعد بذكرهم إلى الله عز وجل تشريفاً (ما أجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) وفي حديث آخر ( يقال لهم قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات ، قال ملك من الملائكة : يا رب فيهم عبدك فلان ليس منهم ، وإنما جاء لحاجة ، فقال الله عز وجل : وهو قد غفرت له معهم ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )

ومنها الاستكثار من الأعمال الصالحة ، وملأ الوقت بها ، نفسك إن لم تشغلها بالطاعة أشغلتك بالمعصية ولا بد ، ولذلك كان الرسول _صلى الله عليه وسلم _ يسأل أصحابه يوماً :من أصبح منكم اليوم صائماً ؟قال أبو بكر :أنا ، من أطعم منكم اليوم مسكيناً ؟ قال أبو بكر:أنا ، من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر: أنا ، من عاد اليوم منكم مريضاً ؟ قال أبو بكر :أنا ، كل وقته مشغولاً بعبادة الله ..هذا أبو بكر ..

أبو بكر هيأه الله تعالى للآخرة ، فما المناع أن نقتدي به ، وأن نملأ أوقاتنا كلها بطاعة الله عز وجل ، ونسارع في الخيرات ، تريدون أن يحبكم الله عز وجل ، تريد أقصر الطرق إلى أن يحيك الله عز وجل سبحانه وتعالى ، أنت تحب الله لا محالة ، لكن هل تعلم هل الله عز وجل يحبك أم لا يحبك ؟ ..

تريد أن يحبك الله فاسمع : قال الله عز وجل في الحديث القدسي :( ما تقرب الله عبدي بشي أحب إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولأن استعاذتي لأعيذ نه ،ولأن سألني لأعطينه ) ..

ومها كذلك : من العلاجات :أن تخاف من سوء الخاتمة ..

كم من رجل نقرأ عنه في السير ، ونسمع من أخباره ، كان على طاعة الله زمن كثيراً ، ثم قبل موته بأيام ، أو حتى بساعات ودقائق : زاغ قلبه ، فمات على الكفر والعياذ بالله ، ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله : كنت أرى عالماً من العلماء عند موته يقول : هاهو الله ذا يظلمني ، ظلمني الله ، فمات على سوء خاتمة والعياذ بالله ..

ومنها أن تكثر من ذكر الموت ، الموت نسيناه ، ولا بد لنا منه ، والموت ميزته أنه يأتي بغتة ، ولا يستأذن أحداً ، ولا يقول عندها الإنسان ربي ارجعون ، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت .. هذا الكلام يقوله المهمل ، ويقوله المسوف المسرف على نفسه في الذنوب ، ولذلك النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كان يكثر من تدبر هذه القضية حتى أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، ولم يأذن الله عز وجل له بالاستغفار لها ..

ومنها كذلك : كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى .. أعرف رجلاً : لا يعرفه الناس إلا بكثرة ذكر الله ، وهو أستاذ دكتور في جامعة من الجامعات ، ومع ذلك يدخل القاعة ويخرج منها ويمشي في الأسواق ، ويخالط الناس ، والناس كلهم يعرفون كثرة ذكر هذا الرجل لله سبحانه وتعالى ، لا تجده إلا شغال ، لسانه دائم بذكر الله ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا أعرف رجلاً أكثر منه انشراح صدر .. تريد قيام الليل أكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى ، وأكثر من الاستغفار ، يهيئك الله عز وجل لهذه الطاعات ..

فكر في حقارة هذه الدنيا ، كم أخذت منك من حبيب وقريب وحاسب نفسك قبل أن تحاسب ..

وأخيراً : مد يدك إلى الله سبحانه وتعالى ، واسأله أن يوفقك إلى زيادة الإيمان في القلب ، وأن يثبتك على دينك حتى تلقاه ، نحن في هذا الزمن الذي يخاف فبه المؤمن على نفسه _ لا بد من الضرع إلى الله سبحانه وتعالى ، لا بد من مد هاتين اليدين إلى الله ومن ذرف الدموع ، ومن استجداء الله عز وجل والتذلل بين يديه .

هل تعلم أن الله يغضب على العبد إذا لم يدعوه ، إذا لم يدعه العبد يغضب عليه ..

غضب الإله إذا تركت سؤاله * * * وبني آدم حين يسأل يغضب

فأسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه حتى نلقاه _ اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين _

موسى محمد هجاد الزهراني

============

طريق السعادة في القرآن الكريم

 

الكاتب : أحمد دعدوش

سؤال جوهري لا بد وأن يؤرق كل شاب وفتاة مقبلان على دروب النضج،. فعليه تتوقف سعادة الإنسان، وبه ترسم الأهداف، وعليه تدور كل أشكال الحياة. إنه السؤال الذي ما زال يعبث بعقول الفلاسفة، ويلهب خيال الشعراء، ويدير دفة التاريخ. وهو الذي قلّما اهتدى الإنسان إلى جوابه، بل لطخ تاريخه الطويل بالمحن التي ما كانت لتنزل به لو أنه أحسن السعي في طلبه والاهتداء إليه. فما أكثر التجاءه إلى الأساطير التي فر إليها من مواجهة الحقيقة، وما أقبح خيانته للأمانة التي حملها على عاتقه طائعا غير مكره: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا".

إنه سؤال الوجود الكبير، سؤال كيف ولماذا ومن أين وإلى أين، السؤال الذي يكاد يلاحق الإنسان كيفما أدار وجهه وهو يشق طريقه في هذه الحياة، وهو السؤال ذاته الذي ما فتئ الإنسان يصطنع الأعذار للإفلات من قبضته، بعد أن زين له الشيطان طول الأمل، فغمس نفسه في الشهوات غير عابئ بما كان وما يكون، يقول ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): " ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع، صعُبت المجاهدة، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه، فإن فتر في الظاهر بطّن له مكيدة وأقام له كمينا"[1].

هذا السؤال هو الذي يجب أن يقف كل منا عنده، وأن يبذل كل جهده في سبيل الخلوص إلى جواب محكم عليه، كي يتصالح مع نفسه وقلبه، ويعيش حياة متوازنة توصله بثقة وثبات إلى بر الأمان، أما المتغافل عن حقيقة وجوده وحكمة خلقه فهو كالذي شبهه الدكتور البوطي برجل دخل مغارة مظلمة في مكان موحش، فوجد عند مدخلها بقايا لجثة إنسان، فما كان منه إلا أن وضع رأسه وأسلم جفنيه للنوم، غير آبه بما يحتمل أن يكون في جوف هذه المغارة من وحوش ضارية، وهو يمنّي نفسه بالفرار إذا استيقظ، مع أن الموت قد يفاجئه في أي لحظة.

ولخطورة الأمر وإلحاح عجلة الزمن، أرى أن أخوض معكم أحبتي القراء غمار هذا السؤال العنيد، ولا أقصد بذلك أن نخرج في هذه العجالة بجواب قاطع يريح العقول ويهدئ النفوس، فكل منيتي أن نضع أقدامنا معا على درب النجاة، وأن نواجه شيطان الهوى بالسعي الدءوب بحثا عن الحقيقة، عسى أن نصل بإذن الله تعالى إلى مفاتيح السعادة في الدنيا والآخرة.

كيـف نبـدأ؟

لا شك في أننا جميعا نؤمن بوجودنا الحقيقي ضمن هذا الزمان والمكان، فلم يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض السفسطائيين الذين أمتعوا دارسي الفلسفة بخزعبلات شكوكهم التي لا تنتهي، فبداية بحثنا عن الحقيقة يجب أن تنطلق من تحديد مكاننا على طريق البحث، وهو واحد من احتمالات ثلاث[2]:

1-  أن يكون أحدنا قد آمن بالله وكل ما جاء به رسوله بالفطرة والبداهة، ولم يخطر بباله شيء من الشك في أصول عقيدته، وهو مشغول بعمله والسعي في رزقه، فهذا الإنسان قد وصل إلى طريق النجاة بأقصر الطرق، ولن نكلفه بشيء من البحث كي لا نفسد عليه إيمانه، لأن الرسول (ص) لم يطالب العرب بأكثر من الإيمان، ولم يكلف أحدا بمعرفة البراهين العقلية الموصلة إليه.

2-  أن يكون قد وصل إلى الإيمان بفطرته، ولكنه يتمتع بذكاء قد يحرك في عقله دائما نوازع الشك والتساؤل حتى اهتزت طمأنينته، فعليه إذن ألا يتغافل عن هذه الشكوك، بل يبحث عن الحقيقة عند أهلها بالحجة والبرهان حتى تطمئن نفسه.

3-  ألا يكون الحظ قد حالفه في الوصول إلى الحقيقة بعد، فهو إما باحث عنها راغب فيها، وهو من نسعى للأخذ بيده وهدايته، وإما معاند مستكبر قد ختم الله على قلبه، فلا بد من ملاطفته بالحكمة والموعظة الحسنة لأن الهداية نور من الله يرسلها إلى من يشاء من قلوب عباده ولا سلطة لنا على ما وراء ذلك.

وبعد أن يحدد كل فرد منا مكانه على هذه الخارطة، ينبغي له الانتقال إلى المرحلة التالية، فإن كان من الفئة الأخيرة، فعليه أن يبدأ إذن بالبحث الجدي عن حقيقة وجوده، وعن حقائق الكون الكبرى، وعن علاقته بكل المكونات من حوله، فإذا وصل معنا إلى الطمأنينة بالإيمان الكامل بالله تعالى خالقا ومدبرا لهذا الكون بكل ما فيه، وبأن هذا الكون قد خُلق لغاية عظمى قد تخفى على عقولنا، وأن غاية وجودنا تتلخص في السعي إلى مرضاة الله تعالى بإعمار أرضه والقيام بحقوقه وحقوق عباده، آن له إذن البحث معنا عن الوسيلة التي يصل بها إلى تحقيق هذه الغايات الكبرى، وهي التي تقوم عليها فلسفة السعادة التي ضل عنها معظم البشر، وجاء بها القرآن الكريم في أكمل صورة وأبلغ بيان.

طريـق السعـادة

لكي يصل الإنسان إلى طريق السعادة، وبعد أن أدرك حقائق الوجود الكبرى، عليه أن يتطلع إلى الكشف عن الطريقة السليمة للتعامل مع المحاور الرئيسية لهذا الوجود، وهي: الله جل وعلا، الإنسان، والكون[3]. ونبدأ بالموجود الأول الذي تخضع له كل الموجودات، فبعد أن يتعرف الإنسان إلى الله سبحانه من خلال ما ورد عنه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم، أو من خلال الأدلة البرهانية التي أبدعها علماء الكلام بطريق المنطق والفلسفة، فإنه سيستنتج بالبداهة حقيقة الوجود الأولى، وهي أن السعادة في الدارين منوطة برضاه تعالى والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده.

أما المحور الثاني وهو الإنسان، فلعله من أكثر الألغاز استغلاقا على العقول منذ القدم، ولا يقتصر ذلك على مرحلة ما بعد سقراط الذي صرف الفلاسفة عن البحث في الكون إلى البحث في الإنسان، بل إن البحث في الكون نفسه لم يكن عند القدماء الذي لم يصل إليهم نور الوحي إلا إسقاطا لطبيعة الإنسان على ما حوله من ظواهر الوجود، بدءاً من التصور الحيوي للطبيعة - وكأنها مخلوق عاقل- ووصولا إلى أنسنة الآلهة المتعددة. أما القرآن الكريم فقد وضع للإنسان منهجا متكاملا ليتبصر ذاته عبر إدراكه للحقيقتين التاليتين:

1-  أنه مخلوق تافه، أصله من تراب وماء مهين، ومصيره إلى جثة هامدة، وهو فيما بينهما يحمل النجاسة في جوفه، ويستقذر كل ما يخرج من بدنه. يقول الله تعالى: "قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره" [عبس: 17- 21].

2-  أنه مع ذلك مكرم على سائر المخلوقات الأخرى[4]، فقد أسجد الله الملائكة لجده آدم، وسخّر له الأرض والدواب، وأكرمه بالعقل الذي صنع به المعجزات. قال تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" [الإسراء: 70].

فجوهر الإنسان إذن لا يمكن فهمه إلا بتصور هاتين الحقيقتين معا، وبهذا التصور يستقيم التوازن القائم على الإيمان بأن كل ما يحققه الإنسان من مجد وعز ومال وعلم وغير ذلك فإنه ليس إلا من فيض الله تعالى عليه، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التي يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع والعمل الصالح، وأنه على الرغم من ضعفه وتفاهته إلا أن الله تعالى قد أكرمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التي لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" [الأحزاب: 72] . وإذا أخل الإنسان في إيمانه بشرط التوازن بين الحقيقتين فإما أن ينصرف ذهنه إلى حقيقته الأولى فلا يرى من نفسه إلا جسدا قذرا شهوانيا لا هدف له ولا غاية، فيقبل على ملذاته كالبهائم حتى يقضي على نفسه بإذلالها كما هو حال الماديين (الماركسيين) الذين لم يروا في الإنسان أكثر من آلة. أو أن تطغى على فكره الحقيقة الثانية فتؤدي به إلى التكبر والتأله كما هو الحال عند الوجوديين[5].

وبعد أن يدرك الإنسان حقيقة وجوده، تتطلع نفسه للتأمل في كنه الحياة التي جُبل على التعلق بها، فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه. وإذا عاد مرة أخرى إلى القرآن الكريم ليستشف منه تعريف الحياة فسيجد نفسه أمام منهج تربوي كامل يقوم على محورين:

الأول: أن الحياة ليست إلا جسرًا تمر عليه الكائنات في طريقها نحو الآخرة، وأن هذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئا يذكر في جنب الخلود الذي سيعقبها، كما أن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى، فهو إذن في مرحلة امتحان دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج وملذات ومتع، أو من مآسي وجراح وكوارث، فإن هذا كله ليس إلا أياما قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، قال تعالى: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" [العنكبوت: 64].

أما المحور الثاني فهو مكمل لهذا الأول، إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه الرؤية، فلا تهون الحياة في نظر الإنسان، ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم والعمل إلى التقشف وانتظار الموت. قال تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، "ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك" [القصص: 77]، "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" [النحل: 97]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم"، كما أعلن أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم.

وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر المسلم كنزاً ثمينا يتوجب عليه استثماره، فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسرا للسعادة الأبدية، كما أنه في الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها لقدسيتها وقيمتها العظيمة عند الله تعالى "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" [المائدة: 32]. أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها فليست إلا زخارف تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكره أيضا لِـذاتها إذا ما أحسن استخدامها "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" [الأعراف: 32]. وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" ، وهكذا فهم السلف الصالح الزهد بأنه قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء[6].

وبهذا ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود، وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101]، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه للتفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضا من إدراك حقيقتين متكاملتين: الأولى هي حقيقة أن الله تعالى قد سخّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ أن تفضيله عليها ليس مقتصرا فقط على تمتعه ببعض الميزات، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته. قال تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]، "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" [النحل: 12]، "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" [الملك: 15]. وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به، فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضا ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة. أما الحقيقة الثانية فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا إن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته، فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضا على مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها. ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.

وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك تماما لمكانته المتميزة بين كافة المخلوقات، حيث جعله الله تعالى مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب، ولكنه مع ذلك مدعوّ للبحث والفضول، فقد حث القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل عليه السلام عندما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى، لعلمه بأن التطلع إلى معرفه هذه الأسرار لا يتناقض مع الإيمان بها على الرغم من استغلاقها.

النتيجـة

بهذا الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولا لحقيقة عبوديته لله تعالى وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانيا لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، ومكلف أيضا بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.

فإذا انتهينا إلى هذا الفهم المتكامل للخالق سبحانه وللنفس والكون، فقد حقّ لنا الآن أن نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، ولعل خير إجابة عن هذا السؤال تتخلص في استقراء الواقع الذي عايشه أشخاص سبق لهم وأن طبّقوه، ولن نجد مثالا أفضل من الصحابة رضي الله عنهم.

لقد نشأ الرعيل الأول من أمة الإسلام على تربية قرآنية فريدة، فهي لا تقتصر في عرض المفهوم الشامل للوجود -السالف بيانه- على الجانب الفكري فحسب، بل تخاطب كلا من العقل والوجدان في تناسق بديع معجز. وقد لخص أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المنهج في وصيته لخليفته عمر بقوله: "ألم تر يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه" [7]، فكان الصحابة يقرءون القرآن على حال من الرغبة والرهبة، وقلوبهم تتفطر شوقا إلى لقاء الله وخوفا منه في آن معا[8]. وكان القرآن الكريم يتنزل تبعا لتدرجهم في هذه التربية، فبعد أن انتصروا في أول غزوة لهم في بدر ووجدوا بين أيديهم الكثير من الغنائم، وكانوا قد تركوا لقريش أموالهم وهاجروا إلى يثرب محتسبين أجرهم على الله، عندها تنازع الشيوخ الذين بقوا تحت الرايات مع الشباب المحاربين في اقتسام الغنائم، فما أن لجأوا إلى رسول الله ليقسم بينهم حتى تنزل الوحي ينهرهم: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم" [الأنفال: 1-4]، عندئذ ارتدعوا جميعا -رضي الله عنهم- وتركوا الغنائم للرسول فرحين بنصر الله تائبين إليه، وما أن عادت الطمأنينة إلى قلوبهم الطاهرة وطردوا عنها علائق الدنيا حتى تنزل الوحي بقسمة الغنائم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..." الآية [الأنفال: 41]. وما أن نضج المفهوم المتكامل للإيمان في قلوب تلك الأمة حتى خرجوا ليفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، غير آبهين بزخارف الدنيا التي انبسطت تحت أقدامهم، إلى أن دخل ربعي بن عامر بثوبه المرقع على قائد الفرس رستم وهو يمزق البُسط الفاخرة برأس رمحه، ويقف رافع الرأس وهو يتحسر على الرعية التي طأطأت الرؤوس للقائد قائلا: "أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"، فيتهامس الجلوس من كبار القوم: "والله لقد تحدث بكلام طالما تطلع إليه عبيدنا".

أما اليوم، فلن نفاجأ كثيرا بنتائج الاستقصاء الذي أجرته مجلة النيوزويك الأمريكية حول أكثر شعوب العالم سعادة، حيث تربّع الشعب النيجيري الفقير ذو الأغلبية المسلمة على رأس القائمة التي تضم خمسا وستين دولة، وتلته شعوب كل من المكسيك، فنزويلا، سلفادور وبورتوريكو، بينما احتلّت الدول المتقدمة - أمام دهشة معدّي التقرير- مراكز متأخرة على سلم السعادة. ولكننا قد نقف طويلا أمام اعتراف معظم الأمريكيين المستجوبين في التقرير بأن السعادة لا تتعلق بالغنى والمال[9]، وهو ما يبدو مستغربا في مجتمع براغماتي قام في تأسيسه على أكثر أشكال الرأسمالية تطرفا. الأمر الذي دفع المجلة ذاتها فيما بعد لتقصي ظاهرة عودة الدين للانتشار في الولايات المتحدة[10]، لتدور التساؤلات من جديد حول السعي اللاهث للأمريكيين في البحث عن السعادة، عبر وصفات التأمل العابرة، والتي تؤخذ كجرعات لعلاج النفوس المتعبة.

أما التساؤل الذي لم يتجرأ أحدهم على طرحه فهو: ماذا عن العلاج المتكامل الذي يفي بحاجات كل من الروح والجسد والمجتمع عامة في تناسق تام ويهدي الإنسان إلى طريق السعادة الحقيقية في هذه الحياة، ثم يضمن له السعادة الأبدية في ما بعدها؟

هذا هو السؤال الذي ما زال الإنسان مصرّاً على التفلسف حوله، وبعيدا عن مصدره الأصيل. قال تعالى: "يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" [يس: 30].

000000000

[1] ابن الجوزي، تلبيس إبليس، السطور الأخيرة من الكتاب.

[2]  الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار غار حراء، دمشق، ص 9- 13، بتصرف.

[3]  هذا التصنيف مأخوذ بتصرف عن كتاب منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فيرجى الرجوع إليه للاستزادة.

[4]  يرى جمهور العلماء أن الإنسان مكرم حتى على الملائكة، انظر شرح العقائد النسفية ص 501

[5]  قد يظن القارئ لفكر الوجودية للوهلة الأولى أنها كرّمت الإنسان بجعله محور الوجود، وبقصرها للحقيقة على الإنسان وحده، بل على الفرد بحد ذاته، ولكني أرى أن تطرف هذا الفكر عند سارتر وأتباعه قد أدى إلى النقيض، وذلك بانطلاق سارتر في فلسفته من منح الفرد حريته المطلقة، مما أدى به إلى الاعتراف بأن الوجود الإنساني ليس إلا مأساة، وأن حياته مجرد عبث تتصارع فيه الظروف القاسية مع الحرية التي لا تعترف بالقيود مما يؤدي إلى الصراع النفسي الذي عايشه كل الفلاسفة الوجوديين الأحرار وفاضت به آدابهم من أمثال سيمون دوبوفوار وأندريه جيد وفرانسواز ساغان، ولعل كتاب (الغثيان) لسارتر يغني عن الشرح.

[6] هذه المقولة للتابعي الجليل سفيان الثوري.

[7]  الجاحظ، البيان والتبيين، 2/45

[8]  لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع، انظر كتاب: منهج تربوي فريد في القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، ط1، ص 61 وما بعدها.

[9]  نيوزويك، الطبعة العربية، 3/8/2004 ، ص 58

[10]  نيوزويك، الطبعة العربية، 6/9/2005

أحمد دعدوش

-----------------

السعادة الحقيقية

ليست السعادة قصر عبد الملك بن مروان ، ولا جيوش هارون الرشيد ، ولادور إبن الجصاص ، ولاكنوز قارون ، ولا في كتاب الشفاء لأبن سيناء ، ولا في ديوان المتنبي ، ولا في حدائق قرطبه ، أو بساتين الزهراء .

ليست السعادة شيكاً يصرف ، ولا دابة تشترى ، ولا وردة تشم ، ولابراً يكال ، ولابزاً ينشر.

السعادة سلوةٌ خاطرِ بحق يحملة ، وانشراح صدر لمبدأ يعيشه وراحة قلبِ لخير يكتنفه.

كلنا نظن أننا إذا أكثرنا من التوسع في الدور ، وكثرة الأشياء ، وجمع المشتهيات ،أننا نسعد ونفرح ونمرح ونُسر ، فإذا هي سبيل للهم والكد والتنغيص.

دعونا مما سبق ولنذهب إلى أكبر مصلح بالعالم رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ، عاش فقيراً يتلوى الجوع ، لايجد تمره يسد بها جوعه ، ومع ذالك عاش في نعيم لايعلمه إلا الله ، وفي انشراح وإرتياح وانبساط .

فعليكم الأن طوي صفحات الماضي ، ولنقدم معاَ كل مانملكه من إحسان وبر وطاعه وحب وإخلاص فهاذه هي السعادة الحقيقية.

وإن سلامة المسلم بدينه أعظم من مُلك كسرى وقيصر لأن الدين هو الذي يبقى معك حتى تستقر في جنات النعيم

-------------

القواعد الأساسية فى السعادة الحقيقية

والله إن السعادة أساسها حب الله وطاعته، حتى تنالي الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده الصالحين وإماؤه الصالحات.

وعليكِ أختاه أن تكوني راضية عن كل شيء؛ عن نفسك، وعن زوجك، وعن حياتك حتى البلاء ترضين به... ما دام البلاء من عند ربك حبيبك إذن يجب أن ترضي. ويجب أن تتحلي بالصبر؛ فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس. وإنه لا يفشل أبداً إنسان يحاول ويحاول.. فلمَ لا تحاولين أن تكوني سعيدة؟؟

فاتركي الحزن والكآبة؛ فإن الشيطان يريدك أن تكوني حزينة حتى يشغلك حزنك عن العمل والعبادة فتخسرين آخرتك ودنياكِ. فأفيقي ولا تطيعيه.

يا أمة الله إن لكِ رباً كريماً لن يخذلك أبداً. يا أختاه إن ربك لا يغفل عنكِ أبداً، فالجئي إليه فليس لكِ أحداً سواه، ونعم بالله معيناً.

وإليكِ يا أختاه هذه القواعد:

1. الإيمان بالله, والعمل الصالح, هو الحياة الطيبة السعيدة

2. انسي الماضى بما فيه, فالاهتمام بما مضى وانتهى حمق وجنون (إلا إن كان التذكر لأخذ العبرة والاتعاظ مستقبلاً).

3. لا تشتغليي بالمستقبل, فهو في عالم الغيب, ودعي التفكر فيه حتى يأتي.

4. لا تهتزي من النقد, بل اثبتي واعلمي أن النقد يساوي قيمتك.

5. اعلمي أنكِ إذا لم تعيشي في حدود يومك تشتت ذهنك, واضطربت عليكِ أمورك, وكثرت همومك وغمومك. وهذا معناه: إذا أصبحتِ فلا تنتظري المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظري الصباح.

6. من أراد الاطمئنان والهدوء والراحة فعليه بذكر الله سبحانه وتعالى. فال الله تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

7. على العبد أن يعلم أن كل شيء بقضاء وقدر.

8. لا تنتظر شكراً من أحد. قال الله تعالى في وصف الأبرار: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً).

9. وطني نفسك على تلقي الشدائد.

10. تعلمي دينك؛ فإنك بذلك تعرفين ربك فتحبيه، وتعرفي الحلال فتفعليه، والحرام فتجتنبيه.

11. كل قضاء للمسلم خير له.

12. فكري في النعم واشكري المنعم جل جلاله.

13. أنت بما عندك فوق كثير من الناس.

14. من ساعة إلى ساعة فرج.

15. بالبلاء يستخرج الدعاء.

16 . المصائب مراهم للبصائر وقوة للقلب.

17. إن مع العسر يسراً.

18 . لا تقضِ عليكِ التوافه.

19. إن ربك واسع المغفرة؛ فعليك بالاستغفار وخاصة في السحر فلقد أقسم الله وقال سبحانه: (والمستغفرين بالأسحار). والاستغفار سبب في سعة الرزق وتوالي النعم؛ فلا تتركيه.

20. لا تغضبي, لا تغضبي, لا تغضبي.

21. الحياة خبز و ماء وظل, فلا تكترثي بغير ذلك.

22. (وفي السماء رزقكم وما توعدون) واعلمي أن رزقك لن يأخذه غيرك؛ فاطمئني.

23. أكثر ما يخاف منه لا يكون.

24. لكِ في المصابين أسوة. فإذا فقدتي عين فاحمدي الله فغيرك بلا عينين. وإذا فقدتِ ابنك فاحمدي الله على بقية أبنائك فغيرك محروم من ابن واحد.

25. اعلمي أن السعادة ليست في المال، فإن في المال فتنة كخوفك على ضياعه، وحرصك على جمع المزيد منه،وتعرضك للمخاطر كالسرقة والقتل بسببه. واعلمي أنك إذا رضيت بما عندك كنت أغنى الأغنياء، ولو لم تكوني تملكين الكثير.

26. إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم.

27. كرري أدعية الكرب.

28. عليكِ بالعمل الجاد المثمر, واهجري الفراغ.

29. اتركي الأراجيف, ولا تصدقي الشائعات.

30. حقدك وحرصك على الإنتقام يضر بك أكثر مما يضر المنتقَم منه.

31. كل ما يصيبك فهو كفارة للذنوب؛ فقد تكوني دعوت بالفردوس الأعلى من الجنة ولكنك لديك ذنوب كثيرة وحسنات قليلة، فيبتليك ربك ليكفر عن ذنوبك وحتى تزيد حسناتك فتدخلين الفردوس.

32. تمسكي بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولن تهلكي ولن تضلي.

33. لا تحزني فإن الدنيا أحقر من أن تحزني من أجلها. فإذا أردت أن تحزني وكنت مصرة على ذلك فاحزني على موت رسول الله عليه الصلاة والسلام، واحزني لأنك لم تريه -عليه الصلاة والسلام- في الدنيا ولم تتمتعي بالنظر إليه -عليه الصلاة والسلام- فلا تحزني على أى شيء تافه.

34. فليكن قلبك شاكراًَ، ولسانك ذاكراً، وجسمك صابراً. شكر وذكر وصبر فيها نعيم وأجر.

35. تذكري قول الرسول عليه الصلاة و السلام: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" [السلسلة الصحيحة 2318]

36. إذا أردتِ الراحة فهلمي للصلاة... "أرحنا بها يا بلال".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً.

لا تنسوني في دعائكن؛ فإن دعائك لأختك المسلمة بظهر الغيب مستجاب بإذن الله وستقول لك الملائكة "ولك مثلها"

============

برنامج تعليمي ذاتي

 

التفسير

علوم القرآن

دواوين السنة

شروح كتب السنن

علوم الحديث

العقيدة

السيرة

أصول الفقه

الفقه المقارن

فقه المذاهب

فقه الأحكام

الفرائض

الأدب والسلوك

العلم: فضله، طلبه، أدب العالم والمتعلم

لمعرفة البدع والمحدثات

الدفاع عن السنة

الأذكار

الفِرَق

الفتاوى

الاجتماع

التاريخ

لمعرفة الصحابة

اللغة العربية

السياسة الشرعية

التراجم

هذه كتب مقترحة لطالب العلم يتدرج في تلقيها وتعلمها ، يبدأ بصغارها وينتهي بكبارها ، مع الاجتهاد أن يتلقى بعضها على المشايخ ، والحذر كل الحذر من النظر إلى كتب أهل الأهواء .

تنبيه   المؤلف   اسم الكتاب

التفسير

تفسير حديث، مُجَلّد واحد،خالي من تأويل الصفات، فهو مفيد      لعبد الرحمن بن ناصر السعدي     تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان

للجلال السيوطي والجلال المُحَلَّى   تفسير الجلالين

يغلب عليه كثرة رواية الأحاديث  لابن كثير

تفسير القرآن العظيم

يركز على الأحكام الفقهية    للقرطبي     الجامع لأحكام القرآن

علوم القرآن

لمعرفة رقم الآية والسورة تحت أي كلمة من الآية  لمحمد فؤاد عبد الباقي      المعجم المفهرس لألفاظ القرآن

عن عـلوم القـرآن المختلـفة، الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد ونحوها د. صبحي الصالح مباحث في علوم القـرآن

3 مجلـدات يتكلـم عن كل أنواع التفسير وخصائصهـا مع التمثيل لها  د. محمد حسـين الذهبي  التفسـير والمفسـرون

للنووي  التبيان في آداب حملـة القـرآن

التجويد والقراءات

في رواية حفص عن عاصم ومعها شريطا "كاسيت"، أوأيّ مذكرة أخرى يبدأ بها مع المصاحف المعلمة لكبار القراء   للشيــخ محمـد نبهـان ابن حسين المصري

مذكرة في التجويد

للقاسم بن فيُّره الأندلسي الضرير  حرز الأماني ووجه التهاني

لمحمد بن الجزري    طيبة النشر

دواوين السنة

النسخ المحققة المفهرسة لمحمد فؤاد عبد الباقي وللألباني   صحيح البخاري

يجمـع كل طرق الحـديث في مكان واحـد، فهو أحسن ترتيباً وتنظيماً من صحيح البخاري         صحيح مسلم

ما سكـت عنه أبو داود فهـو صحيح أومقبول عنده

سنن أبي داود

تخريج الشيخ عبد الفتاح أبوغدة    سنن الَّنسـائي

هو كتاب حديث وفقه مع الحكم على الأحاديث      سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح

سنن ابن ماجـة

من أجمع كتب السنة وأفضلها ترتيباً        سنن البيهقي

شروح كتب السنن

وهو أشملها وأفضلها للحافظ ابن حجر      فتح الباري شرح صحيح البخاري

صحيح مسلـم بشـرح النووي

يحوي على فوائد فقهية كثيرة للخطابي     معلـم السنن ، وهو شرح مختصـر المنذري لسنن أبي داود مع تعليق لابن القيم

لابن العربي المالكي

تحفة الأحوذي ، وهو شرح سنن الترمذي

4 مجلدات  للزرقاني شرح الموطـأ

علوم الحديث

بتحقيـق وتعليق الشيخ أحمد شاكر للحافظ ابن كثير

الباعـث الحثيث شرح علوم الحديث

من أوائل المؤلفات في علوم الحديث        مقدمة ابن الصلاح

للخطيب أبي بكر البغدادي   الكفـاية في علـم الدرايـة

جزءان في مجلد    للسيوطي

تدريب الراوي في شـرح تقريب النـواوي

د.محمود الطحان تيسير مصطلح الحديث

د.صبحي الصالح    علـوم الحديث

والصحيح للألبـاني  الجامع الصغير للسيوطي        صحيح الجامع الصغير

والضعيف للألبـاني  الجامع الصغير للسيوطي        ضعيف الجامع الصغير

بلغت ست مجلدات للألباني  سلسلة الأحاديث الصحيحـة

بلغت عشر مجلدات تقريباً     للألباني  سلسلة الأحاديث الضعيفـة

6 مجلدات للعلامـة عبد الرؤوف المناوي     فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير

مجلدان   لإسماعيل العجلوني

كشف الخفـا و مزيل الإلبـاس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس

مجلد  للحافظ السخاوي

المقاصد الحسنـة في بيان كثيـر من الأحاديث المشتهرة على الألسنة

مجلدان   لابن الجـوزي العلل المتناهية في الأحاديث الواهيـة

بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر     للحافـظ نور الدين الهيتمي   مجمع الزوائـد ومنبع الفوائـد

العقيدة

وهو رسالـة صغيرة لشيخ الإسـلام ابن تيمية     شرح العقيـدة الواسطيـة

مجلد بتحقيق الشيخ الألبـاني لابن أبي العـز الحنفي   شرح العقيدة الطحـاوية

مجلد  لشيخ الإسـلام ابن تيمية  الإيمان

وكتاب التوحيد للشيخ محمد ابن عبد الوهـاب     للشيـخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيـخ   فتح المجيـد شرح كتاب التوحيـد

السيرة

مجلد  لعبد السـلام هارون تهذيب سـيرة ابن هشـام

من علمـاء الهند   لصفي الرحمن المباركافـوري الرحيق المختـوم

ضمن البداية والنهاية   لابن كثير   السيرة النبويـة

4 مجلدات  للسهيلي الروض الأنٌف  شرح سيرة ابن هشام

النسخـة المحققـة لابن القيم  زاد المعاد في هدى خير العباد

مجلد صغير لابن حـزم  جامع السـيرة

الفقه وأصوله

أصول الفقه

لمحمد الخضري بيك    أصول الفقه

بتحقيق أحمـد محمد شـاكر     للإمام الشـافعي     الرسـالة

مجلدان   لابن حـزم  الإحكام في أصول الأحكام

وهو من أفيد ما أُلف في ذلك للإمام الشاطبي     الموافقات

الفقه المقارن

مجلـد صغير     لابن جُـزَي المالكي  القوانين الفقهيـة

مجلـد لأبي عبد الله العثماني رحمة الأمة في اختلاف الأئمة

4 مجلـدات للجيزري   الفقه على المذاهب الأربعـة

بتحقيق د.التركي ود.الحلـو  لابن قدامـة المقدسي المغني

لابن عبد البر  الاستذكار الجامع لمذاهب الأمصـار وفقهاء الأقطـار

النسخة المخرّجـة الأحاديث لابن رشـد     بداية المجتهد ونهاية المقتصد

د. وهبـة الزحيلي الفقه الإسلامي وأدلته

لسيد سابـق    فقه السنة

فقه المذاهب

الحنفي

مجلدان، سهـل العبارة  لابن مودود الحنفي     الاختيار لتعليل المختار

9 مجلدات، موسّـع  لابن نُجَيْم الحنفي     البحر الرائق شرح كنز الدقائق

المالكي

وهي أسئلة و أجوبة         المدونة الكبرى ـ رواية سحنون عن ابن القاسـم عن مالك

المدونة لهـا مختصـرات عدة، وهذا أفضلها      للبراذعي    مختصر المدونة

احـذر الطبعـة الدقيقـة الخط المختزلة     للحطاب

لابن المواق مواهب الجليل شرح مختصر خليل وبهامشه التاج والإكليـل

هما كتابان بهذا الاسم، أحدهما موسع والثاني مختصر    لمحمد صديق الغمـاري    مسالك الدلالة شرح متن الرسالة

3 مجلدات  لابن شاس عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة

الشافعي

للإمام الشـافعي  الأم

وهو شـرح المهذب للشيرازي و يتعـرض فيه لأقـوال أهـل المذاهب الأخرى مع الترجيحات    للإمام النووي المجمـوع شـرح المهذب، وهـو عشرون مجلداً، 9مجلدات منها للنـووي، وله تكملتان: الأولى للسبكي وهي مجلـدان والثانية للمطيعي وهي 9 مجلدات

النسخة المطبوعة مخرّجة الأحاديث، وهناك نسخة حققها عدد من طلاب الجامعات لم تكتمل طباعتهـا للقـاضي المـاوردي   الحاوي الكبير شرح مختصر المزني تلميذ الشـافعي

10 مجلدات    للنـووي روضـة الطـالبين

الحنبلي

مجلد  للشيخ منصـور البهوتي     الروض المُرْبِع شرح زاد المُستقنِـع في اختصـار المقنع

مع ترجيحـاته، 4 أجـزاء في مجلدين    للشيخ البَسَّـأم   نيل المآرب في تهذيب عمدة الطـالب

3 مجلدات  للشيخ منصور البهوتي شرح منتهى الإرادات

الظاهري

لابن حـزم  المحلى

فقه الأحكام

الطبعة المحققة     للإمام الصنعاني  سبل السلام شرح بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلاني

مجلدان   ابن دقيق العيد    إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن قدامة المقدسي

النسخة المحققة   لابن رجب الحنبلي   جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامـع الكلـم ـ الأربعين النووية وزيادة

لابن العربي المـالكي آيات الأحكام

لمحمد علي الصـابوني   تفسير آيات الأحكام

الفرائض

هناك العديد من الرسـائل الميسـرة في الفرائض، يبدأ بواحدة منها ثم يثني بشرح الرحبية، والرحبية هي منظومة في الفرائض

الأدب والسلوك

للنووي  ريـاض الصـالحين من كلام سيـد المـرسلين

والمنهاج لابن الجـوزي لابن قدامـة المقدسي     مختصر منهاج القاصدين

3 مجلدات  لابن مُـفْـلِـح   الآداب الشرعية والمنح المرعيـة

ومدارج السـالكين لابن القيـم، وقد جارى فيه كتـاب منـازل السائرين لأبي إسماعيل الأنصاري  تهذيب عبد المنعم العَـليّ    تهذيب مدارج السـالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

هذا الكتـاب مليء بالأحـاديث والآثـار الضعيفة والموضوعة، فليحذر قارئه منها     لأبي حامد الغزالي    إحيـاء علـوم الدين وبهامشه المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحيـاء من الأخبـار للحـافظ العراقي

حققـه الألباني للمنذري    صحيح الترغـيب والترهـيب

لابن القيـم عدة الصابرين وذخيرة الشـاكرين

لابن القيـم الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

للأمين الحـاج  الطريق إلى ولاية الله

لابن القيـم طريق السعادتين وباب الهجرتين

العلم: فضله، طلبه، أدب العالم والمتعلم

بتحقيق أبي الأشبـال الزهيري    لابن عبد البر    جامع بيان العلم وفضله

4 مجلدات  لابن القيـم إعلام المُوَقعين عن رب العالمين

رسـالة صغيرة لابن رجب الحنبلي   فضل علـم السلـف على الخلـف

للأمين الحـاج  العلم: فضله، وجانب من أدب العالم والمتعلم

للخطيب البغدادي  كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السّامع

وهو في غاية النفع    للشيخ د. بكر أبو زيد     حلية طالب العلـم

لمعرفة البدع والمحدثات

مجلـدان، وهو أفضل ما كتب عن البدع     للشاطبي    الاعتصام

لابن الجـوزي تلبيس إبليس

لابن القيـم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان

لابن الحاج المدخل

لابن تيمية  اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم

الدفاع عن السنة

النسخة المحققة   لابن الوزيـر اليماني     الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسـم

ومنهـاج السنة لابن تيمية للذهبي  مختصر منهاج السنة، أومنهاج الاعتدال

د.مصطفى السبـاعي    السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي

للشيخ محمد عبد الرزاق عفيفي ظلمات أبي ريا أمام أضواء السنة المحمدية

الأذكار

للنووي  الأذكار

الكلـم الطيب لابن تيمية  تحقيق الألبـاني     صحيح الكلم الطيب

لابن رجب الحنبلي   لطائف المعارف لما لمواسم العام من اللطـائف

الفِرَق

قديماً

مجلد  لأبي الحسن الأشعري   مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين

مجلد  للشهرستاني    المِلَل والنِّحَل

5 مجلدات  لابن حـزم  الفِصَل في المِلل والأهواء والنِّحَل

للبغدادي   الفَرْق بين الفِرَق

مجلد  د.أحمد محمد أحمد جلي دراسات عن الفرق وتاريخ المسلمين "الخـوارج والشيعة"

د.مصطفى الشَّـكْعة إسلام بلا مذاهب

حديثاً

لمحمد قطـب  مذاهـب معاصـرة

للشيخ إحسان إلهي ظهيري  القاديانية

للشيخ إحسان إلهي ظهيري  البهائية

للشيخ إحسـان إلهي ظهيري الشيعة الإثنا عشرية

الفتاوى

ترتيب الشيخ العطـار   فتاوى الإمام النووي

للسيوطي   الحاوي في الفتاوى

فتاوى هيئة كبار العلماء في السعودية

فتاوى الشيخ ابن باز

فتاوى الشيخ العثيمين

فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية

الاجتماع

وهي مقدمة تاريخ ابن خلدون، وهي مقدمة جامعة نافعة في كل العلوم    لابن خلـدون     مقدمة ابن خلدون

التاريخ

مجلد لطيف للسخـاوي الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ

للحافظ ابن كثير     البداية والنهاية

لابن الأثير الكامل

لمعرفة الصحابة

وهو أفضلها وأشملها  لابن الأثيـر     أسد الغابة في معرفة الصحابة

لابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة

لابن عبد البر  الاستيعاب في معرفة الأصحاب

وهو كتاب كبير والمتداول فقرة منه     لابن العربي المالكي العواصم من القواصم

اللغة العربية

النحو

وهي سهلة وميسرة، يُبدأ بها لمحمد محيي الدين عبد الحميد    التحفة السَّـنِيَّة شرح المقدمة الأجرومية

مجلد لطيف لابن هشام شرح قطر الندى وبل الصدى

وهو مستويان: عام، ومتخصص   د.عباس حسن     النحو الوافي

الصرف

للحمـلاوي    شذى العرف في فن الصرف

أو أي رسائل أخرى     فهمي قطب الدين النجار   قواعد الإملاء في عشرة دروس سهلة

حسني شيخ عثمان   كيلا نخطئ في الإملاء وعلامـات الترقيم

الأدب

تكلـم فيه و مثّـل لكل صنوف الأدب أحمد الهاشمي جواهر الأدب

قصائد مختارة من عيون الشعر   للمُفضّل الضبِّي   المفضليـات

اختيـارات تدل على علو قدمه في الشعـر     لمحمود سامي البـارودي  مختارات البارودي

للتدرب على الأساليب الرفيعة  لابن قتيبة      أدب الكاتب

لأبي علي القالي     الأمالي

المعاجم العربية

مجمع اللغة المصري  المعجم الوسيط

مختار الصحيح

لابن منظور    لسان العرب

شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

للإمام الترمذي   الشمائل الترمذية

وهي مخرجة من البداية والنهاية جمع د.مصطفى عبدالواحد شمائل الرسول لابن كثير

وهو أفضلها، النسخة المحققة   للقاضي عياض   الشفا بتعريف حقوق المصطفى

السياسة الشرعية

لابن القيم  الطرق الحُكـْمِيَّة في السياسة الشرعية

للقاضي الماوردي الأحكام السلطانية

الحسْبَة لشيخ الإسلام ابن تيمية

مجلد كبير   لإمام الحرمين ابن الجويني     غِياث الأُمم في التَّيَـاث الظُلَـم

التراجم

من أنفـع الكتب وأقيمها لأنها تحوي سير الصالحين وأدب العارفيـن

مجلدان، قاصر على علماء المالكية     للقاضي عياض   ترتيب المـدارك وتقريب المسـالك لمعرفة أعـلام مذهب مالك

مجلد كبير، قاصر على علماء المالكية كذلك     للشيخ محمد بن محمد مخلوف     شجرة النور الزكية في طبقات المالكية

مجلدان، قاصر على من روى عن أحمد وعلى علماء الحنابلة  للقاضي أبي يَعْلَى  طبقات الحنابلة

وهو متمم لكتاب أبي يعلى    لابن رجب الحنبلي    ذيل طبقات الحنابلة

لابن خَلَّكان   وفيات الأعيان

وقد ترجم لكل من دخل بغداد من الصحابة فمن دونهم، وهو من أشملها وأنفعها للخطيب البغدادي  تاريخ بغداد

وهو حديث وله تكملـة، فهو شامل للأقدمين والمحدثين

لخير الدين الزركلي  الأعلام

 

كن في الدنيا كأنك غريب

 

www.almosleh.com

الحمد لله رب العالمين أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان والسيف والسنان حتى أتاه اليقين وهو على ذلك فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد. . .

فنحمد الله سبحانه وتعالى حمداً طيباً مباركاً فيه نحمده سبحانه أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً على ما أولانا من النعم فنعم الله علينا تترى أيها الإخوان ألا وإن من أعظم النعم وأجل المنن وأكبر المنح أن يوفق الإنسان إلى العلم النافع إلى حضور حلق الذكر التي تحيا بها القلوب وينشط بها إلى العمل الصالح فنعمة الله عز وجل على العبد بالتوفيق للطاعة وإلى طلب العلم وإلى حضور حلق العلم من أعظم ما يمن به على العبد ويوفق إليه قال النبي  صلى الله هليه وسلم : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))(1) والفقه في الدين الذي جعل النبي  صلى الله هليه وسلم حصوله للمرء دلالة على إرادة الخير به من الله سبحانه وتعالى هو معرفة قول الله وقول رسوله  صلى الله هليه وسلم

فالعلم قال الله قال رسوله  قال الصحابة هم أولي العرفان

رضي الله عنهم فكل من اشتغل بهذا الأمر سواء اشتغالاً كلياً أو اشتغالاً جزئياً فإنه على خير عظيم وهذا من دلائل إرادة الله عز وجل بعبده الخير فاحمدوا الله أيها الإخوة على هذا الأمر واشكروه عليه واحرصوا عليه فإن حلق الذكر يعلو بها الذكر ويرتفع بها الإيمان ويصلح بها حال الإنسان ينشط بها على العبادة ويعرف بها حق الله عليه يعرف بها ما يكون سبباً من أسباب الخروج من الظلمات إلى النور فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم العاملين به الداعين إليه المقبلين عليه الفرحين به.

أيها الإخوة الكرام إن هذا هو الدرس الأول من سلسلة دروس هدي النبي  صلى الله هليه وسلم أو من سلسلة دروس في هدي رسول الله  صلى الله هليه وسلم , هدي رسول الله  صلى الله هليه وسلم الذي هو أكمل الهدي وهو عنوان السعادة للعبد إذا وفق إليه فإن الله جل وعلا قال: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾(2) ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لهدي النبي  صلى الله هليه وسلم فواجب على كل من حرص على قبول عمله على كل من رغب في تحقيق السعادة لنفسه أن يسلك وأن يعتني بهدي النبي  صلى الله هليه وسلم يعتني به علماً يعتني به عملاً يعتني به تحصيلاً يعتني به طلباً فإن ذلك سبب للسعادة والجواب أو التعليل لهذا الأمر واضح جدّاً فإن رسول الله  صلى الله هليه وسلم أكمل الخلق سعادة رسول الله لا أسعد منه في الدنيا ولا في الآخرة وقد من الله عليه جل وعلا بهذه السعادة الوافرة في الدنيا والآخرة فمن رغب في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وفوز الدنيا وفوز الآخرة فليحرص على سلوك النبي  صلى الله هليه وسلم إن ما سنتناوله في مثل هذه الدروس إن شاء لله تعالى هو ما يتعلق بجوانب من هدي النبي  صلى الله هليه وسلم نذكر بها أنفسنا حاله  صلى الله هليه وسلم لأن الله جل وعلا جعل فيه لنا الأسوة الحسنة جعله سبحانه وتعالى لنا إماماً وقائداً فبقدر حرصنا على اتباع سنته والأخذ بهديه والإقبال على ما أرثه وتركه بقدر نصيبنا من صحبته والحشر تحت لوائه والكون معه يوم العرض والنشور.

أيها الإخوة الكرام درسنا إن شاء الله تعالى سيكون في أول أحد من أول كل شهر بإذن الله تعالى في أول ليلة الأحد من كل شهر إن شاء لله تعالى وكما علمتم أننا سنتناول هدي النبي  صلى الله هليه وسلم وموضوعنا لهذا الدرس هو نظرة رسول الله  صلى الله هليه وسلم للدنيا وقد انتخبت لبيان ذلك حديثاً في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال فيه: أخذ رسول الله  صلى الله هليه وسلم بمنكبي والمنكب هو مجمع الكتف مع العضد. أخذ رسول الله  صلى الله هليه وسلم بمنكب ابن عمر لكن قبل أن نتم الحديث نحب أن نقف عند هذه اللفتة النبوية منه  صلى الله هليه وسلم التي تنم وتدل على تواضع جم منه  صلى الله هليه وسلم وتدل أيضاً على شفقة ورحمة وتدل أيضاً على نصح تام ورغبة في إيصال الخير فإن رسول الله  صلى الله هليه وسلم خص ابن عمر الشاب الحدث الذي توفي رسول الله  صلى الله هليه وسلم وهو في أوائل العشرين أو قد يكون لم يبلغ العشرين فإنه في غزوة الخندق كان عمره خمسة عشر ة سنة أو أربع عشرة سنة رسول الله  صلى الله هليه وسلم لفت نظر هذا الشاب الذي في مقتبل عمره وفي أوائل طريق حياته إلى أمر عظيم ينشطه به على ما يستقبل من بقية العمر ويذكره أهمية الجد والاجتهاد في استباق الأوقات قبل فواتها فإن رسول الله  صلى الله هليه وسلم قال لابن عمر في هذه الوصية الجامعة التي هي في الحقيقة ترجمه لهذه الدنيا: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))(3) كلمتان أمر رسول الله  صلى الله هليه وسلم بهما هذا الشاب كن في الدنيا أي ليكن شأنك في هذه الدنيا في هذا المعاش في هذه الحياة بين أحد أمرين في الدنيا كأنك غريب هذا الأمر الأول، الثاني: أو عابر سبيل وكلاهما يجمعه معنى واحد ألا وهو السفر فإن الغريب مسافر والعابر للسبيل مسافر ومجمل الحديث يدل على أنه ينبغي لكل مؤمن لكل إنسان أن يحقق هذا المعنى في حياته وهو الاستشعار أنه في سفر , كم هم الذين غفلو ا عن هذا الأمر أكثرنا يظن أنه في دار إقامة في دار قرار في دار بقاء لا زوال لها إلا بعد آجال وأعمار ثم يحدث الله ما يشاء من ما يجري ويكون لكن الأمر أقرب من ذلك ورسول الله  صلى الله هليه وسلم لن يوجه هذه الوصية لشيخ كهل قارب القبر بل وجهها لشاب صغير في أول عمره قد يكون في أوائل السنين التي بعد البلوغ أو قد يكون بلغ العشرين قال له رسول الله  صلى الله هليه وسلم : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). والجامع لهما كما ذكرنا هو معنى السفر فما هي حال المسافر؟ حال المسافر جد في طريقه اجتهاد في قطع المسافة لبلوغ مراده وتحصيل مقصوده هذه هي حال المسافر ولذلك قال رسول الله  صلى الله هليه وسلم : ((كن في الدنيا كأنك غريب)) هذه هي المرحلة الأولى وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه كل إنسان، المرحلة الثانية التي هي مرحلة الجد وانتهاء الاجتهاد في تحصيل المقصود أن يكون الإنسان عابر سبيل فإن الغريب قد يشتغل في غربته في بعض ما يشتغل به المقيمون من أخذ مسكن أو مشرب أو مأكل أو غير ذلك لكنه لا يشتغل اشتغال الذي وطن نفسه على البقاء فمازالت أحكام السفر عليه قائمة ولازال يمني نفسه ويعدها بالارتحال وبلوغ المنزل والمقصد الذي يسعى إلى بلوغه وقصده وهو غايته وهي الدار الآخرة.

إن سفرنا أيها الإخوة بدأ من ظهور آبائنا وانتقل إلى بطون أرحام أمهاتنا ثم بعد ذلك بدأت الرحلة التي يدركها ونعيشها وعليها مدار التكليف وبها الفوز والفلاح أو الخسار والهلاك من الخروج من بطون الأمهات ويكمل ذلك بجريان قلم التكليف بالبلوغ فإذا بلغ الإنسان فقد جرى عليه قلم التكليف وأصبح في سفر يحاسب على دقيقه وجليله ثم يمضي هذا العمر سنوات تقل أو تكثر إلا أن الجميع فيها مسافر وكل سيؤول إلى مقر لكنه ليس لإقامة بل هو زيارة وهي دار البرزخ قال الله جل وعلا ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾(4) فلما ذكر المقابر مع أنها الغاية والمنتهى عند كثير من الناس لم يجعلها دار إقامة بل جعلها دار زيارة ثم هذه الزيارة هل هي طويلة أم قصيرة هي على المؤمن من أقصر ما يكون وكذلك الكافر فإنها لا تطول عليه لأنه يرجو أن تطول وهي خلاف ذلك فهو يقول: ((ربِّ لا تقم الساعة ربِّ لا تقم الساعة))(5) ثم يبعث الناس من قبورهم يقومون لرب العالمين على هيئتهم يوم خرجوا إلى دار التكليف حفاة عراة غرلاً ثم بعد ذلك يحشرون في محشر عظيم وموقف مهول فيه من الأهوال والفظائع ما تشيب منه رؤوس الولدان كما قال الله جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾(6). هذا هو الواقع الذي سبب ما قبله من الأوصاف من الذهول والاضطراب وكون الناس على هيئة السكارى في هذه الدنيا ومن رأى السكران يعرف حاله واضطرابه هي حال الناس في ذلك الموقف ثم بعد ذلك ما الذي جعل هذه الحال هي على هذه الصفة وهي حال عامة للجميع هي أن عذاب الله جل وعلا في ذلك اليوم وما أعده لمن خالف أمره عظيم تذهل له العقول وتضطرب له القلوب وتهتز له النفوس يستوجب أن يثبت الإنسان نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح الذي يدفع عنه أهوال ذلك اليوم ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾(7) فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم أيها الإخوة من الآمنين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين يثبتون على الحق والهدى في هذه الدار وفي الآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه أيها الإخوة إن النبي  صلى الله هليه وسلم ذكر في هذا الحديث مرحلتين ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يكون في إحدى هاتين المرحلتين أو في إحدى هاتين الحالتين ويخطئ ويظلم نفسه من يخرج عن دائرة هاتين المرحلتين المرحلة الأولى أن يكون في الدنيا كأنه غريب مستعد للرحيل ينتظر وقت انقضاء سفره وانقضاء نهمته ليعجل السير إلى بلده فإن الناس ليست هذه بلادهم ولا هذا قرارهم بل قرارهم ما ذكر الله جل وعلا بقوله: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(8) هذا منتهى حال الناس فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير نسأل الله أن نكون من أهل الجنة فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه الغربة وأن تكون منه على بال وأن تكون منه على خاطر وألا يغفل ببنيات الطريق وما في هذه الدنيا من ملاهٍ وملذات فإن هذه الملاهي والعوائق تغرك وتمنعك عن مواصلة سيرك. الأمر الثاني أو المرحلة الثانية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى تحقيقها هي أن يكون عابر سبيل أي أن يكون في حاله وشأنه واستعداده للآخرة واستعداده لبلوغ قصده كذلك الذي سار في طريق فاستظل تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها أيها الإخوة أن عابر السبيل أقل أثقالاً من الغريب فالغريب قد يسكن وقد يستقر لبرهة من الزمن وقد يشتغل بما يشتغل به المقيمون لكن عابر السبيل مظاهر السفر والتعب عليه بادية وقلبه بسفره مشغول لا يأنس إلى أحد ولا يأوي إلى أحد بل همه وشغله في بلوغ غايته وقصده كلنا يسعى ويشتغل للوصول إلى رحمة الله عز وجل إلى جنة عرضها السماوات والأرض فالواجب على كل أحد أن يشتغل بهذه الغاية وأن يسعى إلى تحقيقها قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(9) هذه هي غاية الوجود هذا هو المقصود من خلق السماوات والأرض والإنس والجن والذكر والأنثى تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى فهل نحن مشتغلون بالغاية لندرك المطلوب أم نحن غافلون عنها فيفوتنا خير مطلوب وهو الجنة التي وعدها الله عز وجل عباده المتقين إن المرحلة الثانية مرحلة كمال ولمنها مرحلة تحتاج إلى رجال تحتاج إلى حضور قلب ودوام مراقبة ودوام ملاحظة بأن لا يغفل الإنسان لأن المسافر في سفره قد يشتغل بعض الأحيان فيما يلهيه عن بلوغ مقصوده بما يعوقه عن الوصول إلى مكان إقامته وقراره فينبغي له أن يكون دائم الملاحظة دائم المراقبة دائم العناية بقلبه ونفسه و سيره وقصده هل هو على الجادة أم أنه متخلف هل هو ساع في تحقيق المقصود أم أنه متأخر أيها الإخوة إن صحابة رسول الله  صلى الله هليه وسلم تميزوا بميزة جعلتهم خير القرون ألا وهي سرعة المبادرة والاستجابة لله ولرسوله فكانوا رضي الله عنهم سباقين إلى امتثال أمر الله ورسوله , شواهد هذا في سيرتهم كثيرة ولا أظن أن نأتي على شيء منها إلا ما ذكر في هذا الحديث فإن ابن عمر الذي أوصاه الرسول  صلى الله هليه وسلم بهذه الوصية ذكر لنا الغاية في تحقيق الغربة وتحصيل ما أمره به رسول الله  صلى الله هليه وسلم فكان رضي الله عنه يقول كما في صحيح البخاري في ذكر هذا الحديث قال موصياً من يبلغه هذا الحديث: ((فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))(10) هذه الكلمات من ابن عمر رضي الله عنه ترجمة حرفية فعلية يبين فيها كيف تحقق وصية رسول الله  صلى الله هليه وسلم وهي الغاية والمنتهى في قصر الأمل لأن المسافر الذي هو عابر سبيل في الغالب قد يحتاج إلى الإقامة في مكان من الأماكن ليستريح وينشط على سفره لكن إقامته لا تدوم بل إذا أصبح لا ينتظر المساء في المكان الذي أقام فيه يمشي ويواصل السير كذلك إذا أمسى لا ينتظر الصباح بل هو مسافر ثم هو في سيره يغتنم أوقات عمره ونشاطه وقوته في تحقيق غرضه ومقصوده وهذا ما وجّه إليه ابن عمر رضي الله عنه في قوله: ((خذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))(11) فإن كل أحد ميت وكثير من الناس تنزل بهم الأمراض فاجتهادهم في وقت النشاط في طاعة الله عز وجل من ما يكتب لهم الأجر في حالة المرض فإن الله من كرمه وواسع فضله وجوده وإحسانه وبره ورأفته ورحمته بعباده أنه يكتب للعامل الصادق عمله صحيحاً مقيماً إذا نزل به مرض أو سافر كما في حديث أبي موسى في الصحيح فينبغي للعبد أن يأخذ بهذه الوصية فإنها من أسهل الوسائل وأقرب الطرق التي يتحقق بها امتثال وصية رسول الله  صلى الله هليه وسلم لابن عمر وهو أمر لكل الأمة وليس خاصّاً بابن عمر ومن ما يعيننا أيها الإخوة على تحقيق ذلك أن نتلمس ترجمة هذا الحديث في هدي رسول الله  صلى الله هليه وسلم فإن النبي  صلى الله هليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن ليبينه للناس فكان فعله  صلى الله هليه وسلم وهديه ترجمة لما في القرآن وكان هديه وفعله  صلى الله هليه وسلم ترجمة لما أمره الله به فهو السباق إلى الخيرات ما أمره الله بأمر إلاّ وبادر إليه ولا نهاه عن نهي إلا كان أول المنتهين عنه  صلى الله هليه وسلم فما موقف الرسول  صلى الله هليه وسلم من الدنيا روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دخل على رسول الله  صلى الله هليه وسلم يوماً من الأيام فكان رسول الله  صلى الله هليه وسلم متكئاً على حصير فلما قام رسول الله  صلى الله هليه وسلم بدا أثر الحصير في جنبه فقال ابن مسعود لرسول الله  صلى الله هليه وسلم : هلا أمرتنا فنصنع لك مكاناً أو نعمل لك؟ فقال رسول الله  صلى الله هليه وسلم : ((مالي وللدنيا)). يعني أي شيء لي ولهذه الدنيا يعني أي شيء يحملني على التعلق بها؟ ثم بين رسول الله  صلى الله هليه وسلم هديه وسمته وطريقته فقال: ((إنما أنا كراكب استظل يعني شأني شأن الراكب السائر في طريقه القاصد إلى جهة من الجهات قال في ظل شجرة وفي رواية استظل ثم راح وتركها))(12) هذه حال رسول الله  صلى الله هليه وسلم في هذه الدنيا وهذا الحديث يبين لنا بياناً واضحاً أن الحياة مهما كانت في غاية من السعادة فرسول الله كما قدمنا قبل قليل أسعد الخلق أسعد الناس أسعد بني آدم مع ذلك رسول الله  صلى الله هليه وسلم يعد هذه الدنيا كالظل الذي يستظل به السائر في طريقه يحتمي به من الشمس ثم يخرج بعد أن قال واستراح لمواصلة سيره وهذا يبين لنا أيها الإخوة أن الدنيا مهما طابت فهي سريعة الرحيل سريعة الزوال هي دار قليلة المكث فالواجب على من نصح نفسه أن يجتهد في مرضاة ربه وأن يبالغ في تحقيق العبودية لله عز وجل جهده وطاقته على وفق سنة رسول الله  صلى الله هليه وسلم وهديه قال رسول الله  صلى الله هليه وسلم في بيان وصفه للدنيا وما فيها مهما بلغت من النعيم ومهما كان فيها من البهرج يقول رسول الله  صلى الله هليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد يقول: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بمَ يرجع))(13) هذه هي الدنيا بما فيها من الملذات وما فيها من أنواع التنعمات شأنها شأن ذلك الذي وقف على يم ثم غمس يده في اليم وأخرجها فما الذي يعلق مقارنة بما بقي في اليم إنه لا يذكر وهذا وصف لما يمكن أن يحصله الإنسان في هذه الدنيا من النعيم الذي يفوته في الآخرة إذا كان من المنعمين ومن من حصل لهم الغاية في التنعم في هذه الدنيا أيها الإخوة الكرام إن رسول الله  صلى الله هليه وسلم هديه ترجمة لما في القرآن بيان لما حواه كتاب الله عز وجل بل الله جل وعلا قال في كتابه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(14) فنزل الله عز وجل هذا القرآن على رسوله ليبينه للناس لعلهم يتفكرون لعله يحصل منهم التفكر والتذكر وإذا نظرنا إلى هذه السيرة لا نستغربها إذا علمنا أن هذا القرآن مملوء بالتزهيد في الدنيا وبيان حقارتها وخستها وانقطاعها وأنها دار زائلة طيف زائل وخيال عما قليل عابر وأن الآخرة هي دار القرار وأنها هي المستقر لكل أحد وقف عند قوله تعالى ليتبين لك ذلك وإن كان القرآن كما ذكرنا مملوءاً بذلك قف عند قوله تعالى في سورة الحديد: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(15) أي متاع خادع يبين لك ما ليس له حقيقة متاع باطل كاذب فهو يظهر صاحبه بالسعادة والمكانة والطمأنينة وقلبه خال من ذلك ثم بعد أن بين هذا الأمر وجه إلى ما يحصل به السلامة من هذا الغرور فقال: ﴿سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾(16). إذاً سبيل السلامة من غرور هذه الدنيا هو أن يجد الإنسان في تحقيق العبودية أن يصل الإنسان عمره بالطاعة أن يحتسب الدقيق والجليل عند الله سبحانه وتعالى أن لا يشتغل بما يشتغل به الناس من الانهماك في هذه الدنيا والإقبال عليها وجعلها في المرتبة الأولى من الاهتمامات ليس المراد أن ينقطع الإنسان عن الدنيا فإنه لا قوام له إلا بذلك لكن المراد أن لا تكون الدنيا قد تخللت القلب وتربعت على سويداء القلب بل المراد أن يكون الإنسان مشتغلاً بالطاعة عاملاً فيما يرضي الله عز وجل باذلاً طاقته في تحقيق مرضاة الله عز وجل ولا مانع أن يشتغل بعد ذلك فيما يقيم به معاشه ويصلح به دنياه لا ندعو إلى زهد الصوفية الذين يقولون: دع الدنيا واهجرها فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك كان عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح يدخر قوت أهله لسنة وكان  صلى الله هليه وسلم يواعد الناس ويجلس لهم ويخطط لأمر مستقبلهم فيما يتعلق بطاعة الله عز وجل وفيما يعين على ذلك من أمر الدنيا لكن الذي نذمه والذي يخالف مقتضى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغربة هو أن يشتغل الإنسان بهذه الدنيا عن الآخرة وأن تكون هي همه هي محل اهتمامه ومحل عنايته وهي التي عليها يوالي وعليها يعادي وهي التي بها يحب وبها يكره ولها يعطي ولها يمنع هذا الذي ينبغي أن نسلم منه وأن نصون أنفسنا وقلوبنا ومجتمعنا منه وإذا كنا كذلك فقد حققنا خيراً كثيراً إن من ما يعين على تحقيق ما أمر به رسول الله أن ننظر إلى سرعة انقضاء الدنيا فالدنيا أيها الإخوان سريعة الانقضاء هي مراحل تنقضي مرحلة تلو مرحلة إذا لم يدرك الإنسان هذا الأمر غفل وإذا غفل فاتت عليه الخيرات فاتت الفرص عمرك فرصة للسبق إلى مغفرة من الله عز وجل ورضوانه إلى المسارعة إلى جنة عرضها السماوات والأرض فاحرص على مراحل عمرك واعلم أن الليل والنهار مراحل تطوى وتنقضي فيوم أمس شاهد عليك ويومك الحاضر محل عملك وغداً قد لا تدركه فلا تدري أتكون فيه من الأحياء أو لا تكون فيه من الأحياء فاعمل جادّاً في قطع المراحل في طاعة الله عز وجل واعلم أن المراحل تطوى وأنت لا تشعر كلنا لو أراد أن يسترجع ذاكرته وذهنه إلى ما قبل سنوات قريبة لفاته الشيء الكثير وقال: ما أسرع تقارب الزمان وتعاقب الليالي والأيام لكن هذا لا ينفعه إذا كان لا يحدث به إقبالاً على الطاعة تصحيحاً للأخطاء استدراكاً لما فات تنمية وزيادة للخيرات مراحل العمر تنقضي وتسير سيراً حثيثاً والعجيب أنك لو تأملتها لرأيت منازل تطوى والمسافر قاعد هذه حال الدنيا الليل والنهار منازل تطوى وتنقضي والمسافر أنا وأنت والثاني والثالث قاعد لا نشعر بهذا السفر ومن الغريب العجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً والواقع أن تعاقب الليل والنهار أصبح غشاء عند كثير من الناس ينسيه النهار ما كان في الليل ويلهيه ليله عن ما يكون في نهاره وهلم جرّاً أصبح تعاقب الليل والنهار فتنة له لا ذكرى وعبرة نسأل الله عز وجل أيها الإخوة الكرام أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا من عباده المتقين المحققين لأمر رسول الله  صلى الله هليه وسلم عامة وفي هذا الحديث خاصة ونكتفي بهذا القدر من الكلام ونتلقى ما يكون من الأسئلة أسأل الله سبحانه وتعالى التسديد للصواب

----------------

الإمامة في الدين تنال بالعلم والتقوى

 

الإمامة في الدين تنال بالعلم، وباتقاء رب العالمين، ولا تنال بالنسب وسعة المال والجاه، ولا بالأماني والدعاوى الفارغة.

لهذا عندما طلب الملأ من بني إسرائيل من نبي لهم أن يبعث لهم ملكا، فقال لهم نبيهم: "إن الله قد بعث لكم طالوتَ ملكاً"، استنكروا ذلك وقالوا: "أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وعللوا ذلك بعلل مادية: "ولم يؤت سعة من المال"، فرد عليهم نبيهم: "قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".

جاء في تفسيرها: (وكان طالوت سقَّاء، وقيل دباغاً، وقيل مكاريا، لكنه كان عالماً، فلذلك رفعه الله على ما يأتي، وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوي، والملك في سبط يهوذا، فلذلك أنكروا).

قال القرطبي: (جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى، فقالوا: "أنى"، أي من أي جهة.. ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك، وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قَدَر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: "إن الله اصطفاه"، أي اختاره، وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب، وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة، لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس، وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسباً.

إلى أن قال:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو.. وقيل زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم، ألم تر إلى قول الشاعر:

ترى الرجلَ النحيف فتزدريه           وفي أثـوابه  أسـدٌ هصـور

ويعجبـك الطـريـر فتبتليه            فيخلف ظنك الرجل  الطريـر

وقد عظم البعيـر بغيـر لب            فلم يستغن بالعظم البعيـر).

وما قاله بنو إسرائيل قاله مشركو قريش عندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: "لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"، يريدون بالقريتين مكة والطائف، وبالعظيم أي من السراة، الأغنياء، الوجهاء!

قلت: من العجيب الغريب عدم توفر هاتين الصفتين الأساسيتين في كل حكام المسلمين اليوم، وغيرهما من الشروط الأساسية التي اشترطها أهل العلم فيمن يتولى إمامة المسلمين، بل في بعض الأحيان أخلوا بما هو أخطر من ذلك، بشرطي الإسلام والذكورية، حيث تولت إمامة المسلمين امرأة في كبرى الدول الإسلامية، في إندونيسيا، وباكستان، وبنجلاديش، واتخذ الكفار نواباً واستوزروا في عدد من الدول الإسلامية، وأجازت دساتير بعض الدول للكافر أن يكون رئيساً لدولة المسلمين، دعك عن المستشارين الذين فاقوا هامان في السوء وفي الكيد للإسلام والمسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وذلك لتخلي المسلمين عن الطريقة المثلى لاختيار أئمتهم، وهي أن يتولى ذلك أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين، أو بالوصية لمن توفرت فيه شروطها، كما فعل أبو بكر وسليمان بن عبد الملك، واستبدلوها بالتي هي أدنى، بالتوارث، والانقلابات العسكرية، والديمقراطية الغربية، والعمالة للكفار، على الرغم من تنكر الكفار لصنم العصر الديمقراطية إذا جاءت بما لا يهوون، كما حدث في الجزائر وتركيا، وترحيبهم بالانقلابيين إذا كانوا من صنائعهم، أمثال برويز مشرف، وهم صادقون مع أنفسهم إذ النظام الديمقراطي نظام لا ديني، بل قام على أنقاض الدين، ولإقصائه عن جميع مناحي الحياة، لتوفير الحرية الشخصية الشهوانية للبيض وعملائهم، كما بينت الأيام ذلك، وكشفت عن زيفهم وافترائهم، وصدق القائل:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً        ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فالمصيبة العظمى والداهية الكبرى عدم تحكيم شرع الله، واستبداله بالقوانين الوضعية والرضا بذلك، حيث يعتبر ذلك من نواقض الإسلام المجمع عليها.

لا غضاضة أن يستولي المرء على السلطة إذا أمن الفتنة، وكان غرضه الأول وهدفه الأساس تحكيم شرع الله، وإقامة العدل، فقد استولى مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، والعباسيون، وصلاح الدين الأيوبي، والعثمانيون، وغيرهم كثير على السلطة بالقوة، أوبالتوارث، ولكنهم حكموا بالشرع، وإن صدرت من بعضهم بعض التجاوزات والمخالفات فهي لا ترتقي إلى إقصاء شرع الله بالكلية والتحاكم إلى زبالة أذهان البشر، وموالاة الكفار، واتخاذهم وزراء، ونواب، ومستشارين، وأصدقاء مقربين.

والله أسأل أن يرد المسلمين حكاماً ومحكومين إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يوفقهم أن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، وأن ينصروا دينه لينصرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وصلى الله وسلم على من خافه واتقاه واتبع رضاه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

00000000000000000

الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل

     عبد العزيز الجليل

بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها في السابق، وما ينتج عنها من الضلال والانحــراف الذي يورث العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، بعد ذلك: يـحق لنا ـ بل يجب علـيـنـا ـ أن نـســأل: كـيـف النجاة من ذلك الخطر؟ وما هي الأسباب الواقية منه؟ وللإجابة على ذلك: نستعرض أسباب التباس الحق بالباطل؛ فمنها ينطلق العلاج، وبضدها تتميز الأشياء.

فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور:

1- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق، وأصل هذا: الجهل.

2- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف بالخطأ.

3- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال.

وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس.

يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي:

1- علم وبصيرة بدين الله (عز وجل) وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين الله (سبحانه) وشرعه؛ فإذا تحقق هذا الأمر: فإن الاستبانة لسبيل الـمـؤمـنـيـن وسـبـيـــل المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة هنا أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه تـنـتـج الـشـبـهات الـمـؤديــــــة إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): فتنة الشبهات تُدفــع بالـيقـيـــن، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل (سبحانه) إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمريـــن، فقال: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [ الـسـجــدة: 24]، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قولـه: ((إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 3]، فـتـواصـــوا بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات(1).

2- الصبر وتقوى الله (عز وجل):

فبالصبر وتقوى الله (سبحانه) تدفـــع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله (عــز وجـل)، ويتبين له الحق من الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والـتـقــوى التي تحجزه عن مخالفة الصواب: فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أمـــا إذا اجـتـمــــع العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح: لم يكن أمام من هذه صـفـتــه إلا الإذعــــــان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله: إن فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضـعــــف الصـبر والتقوى، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله (عز وجل)، وصاحـب ذلك شيطان يزين، ودنيا تتعرض بفتنها: فالغالب عدم السلامة. ولكن المخالف للحق هـنــا: إمـــا أن يـكـون لديه بقية تقوى وخوف من الله (عز وجل) فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب، أو يكـــون (عياذاً بالله) قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله، ويبحث هنا وهـنـــــاك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة لدين الله، وهذا هو الـخـــداع والتلبيس، ولا علاج له إلا بتقوى الله (سبحانه)، واليقين بالرجوع إليه.

نعم.. إنه لا يمنع من الوقوع في الـبـاطـــل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك الـعـلم والبصيرة؛ فكم من عالم بالحق تنكب عنه وخالفه، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة: الـصـبــر والـتقـوى والخوف من الحساب يوم القيامة، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب، وعندها: يخـتـفــي الـلـبـس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله (عز وجل)؛ يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) ـ في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة ـ: فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال. (2).

ويقــول سيد قطب (رحمه الله) ـ في ظلال قوله (تعالى): ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف: 169] ـ:

نـعــم.. إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه الدنيا.. نعم، إنها هي التي لا يصـلـح قـلــب ولا تصـلـح حـيـاة إلا بـهـــــــا؛ ولا تستقـيـم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها(3).

أسباب أخرى مساعدة:

وبعـد ذكـر السببين الـرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس، وهما: البصيرة في الدين الذي تدفــــــع به الـشـبـهـة، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة: نذكر فيما يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين:

3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح:

حيث لابد للمسلم من محــاسـبــة دائمة للنفس، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع الله (عز وجل) والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل، فإن لم يتفقد كل منا نفسه، ويسد على الشيطان مداخـلــه المتعددة؛ فإن النفس تكون على خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها، فيحصل من جراء ذلك:اللبس والتلبيس والتضليل والمغالطة، إما بعلم أو بجهل، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات والـمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس، ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب، مع أنه يوجد من الدعاة والمصلحين نماذج فـريـــــدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة والتلبيس، نسأل الله لهم الثبات، ونـسـألـه (سبحانه) للجميع الصدق في المقاصد والأقوال والأعمال.

ومــن الأسـبـاب القـويــة التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه: ذكر الله (عز وجل) في أحوال اليوم والليلة؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله (تعالى) والقلب يواطؤه في ذلك: كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن؛ لأن ذكر الله (سبحانه) يحرقه ويمنعه من الدخول، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله (تعالى) حتى يكر مرة أخرى للوسوسة، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب، فكلما ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس.

ومن الأسباب الواقية مــــن التـبــاس الحــق بالباطل: مجاهدة النفس في عمل الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط، كما جاء في الحديث القدسي الذي منه: وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الــذي يـبـصــر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها.. الحديث(4) فمن كان يسمع ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال (تعالى): ((وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَـنـَـهْـدِيـَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الـمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت: 69] وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسـبـاب الـضـــلال والـزيغ؛ قال (تعالى): ((...فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...)) [الصف: 5]

4- مصاحبة أهل العلم والورع:

إن الجـلــيس يتأثر بجليسه وصاحبه، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر، وذلك عن طريق المؤانسة والـمـشـابهة والقدوة، وعليه: فإن من الأسباب المانعة من الانحراف ولبس الحق بالباطل: الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقــــوى والورع لديهم تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخـــــــل منهما ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس، والعكس بالعكس: ما إن يصاحب المرء أهــل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع بأخلاقهم وتـشـتـبــه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة، أو يتعمد ترك الحق وتعميته على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات، وقد روي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوله: لولا ثلاث لـمـــا أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقـــــوام ينتقــون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر .

ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة والقدوة والخير كله.

5- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها:

إن مــــن أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات: هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها المختلفة التي أجملها الله (عز وجل) في قوله (سبحانه) ((قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْـتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)) [التوبة: 24].

والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها.. وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب، والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عـصــرنــا الذي نعيش فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمــــر الله إلا مــن رحــــم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها: أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي ـ وخاصة في زماننا هـــــذا ـ بـيــن كـثــرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات المؤديات إلى التدليس والتلبيس.

6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها:

إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم ـ وبخاصة الداعية إلى الله (عز وجل) ـ أن يـبـيـن الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً عليها فتضل؛ لأن الــذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من أمرها، ثم يتركها ـ وهو يعلم الحق من الباطل ـ إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله ورسوله وللمؤمنين، وإن الله (عز وجل) سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس، فكيف بمن باشر التلبيس والتضليل بنفسـه (عيـاذاً بالله)؟ إن هـذا ـ بلا شــك ـ أكثر خيانة من سابقه، وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القـيـامة من غير أن ينقص من أوزار من ضللهم شيء. والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة التلبيس أو السكوت عليه: من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه ـ إن كان في القلب حياة وخوف من الله (سبحانه) والدار الآخرة ـ، لأن من كان في قلبه المحبة الحقيقية لهذا الديــن وأهله: لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين المنافقين ثم يرضى لنفسه الـسـكـــوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس، وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفــوف ويتميز المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في سـبـيــل الله (عز وجل) لأن نصر الله (جل وعلا) الموعود لا يتم بدونها.

وبعد:

فهذا ما يسره الله (عز وجل) في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها، ولكن حسبي إثارة هذا الـمـوضــــوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة الدعاة يكملون ما نقص منه، ويقوّمون ما اعوج منه. وأحب أن أنبه: أن ما ذكرته من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا عـلـى سبيل الحصر، فالصور كثيرة وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق.

وفي خاتمة هذه المقالات: أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين: بأن يتفقد كل منا نفسه، ويبحــث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من ذلك ـ وسنجد ـ فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن يستفحل، ولا نُسوّف في ذلك أبداً؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان وتلبيسه.

والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الهوامش:

1- إغاثة اللهفان: جـ2، ص167.

2- إعلام الموقعين: جـ3، ص214.

3- في ظلال القرآن: جـ3، ص387.

4- البخاري: كتاب الرقائق، ح 6502.

0000000000

مجلة البيان، العدد ( 89)، محرم 1416،يونيو 1995 .

==========

اليقين والتوكل

في هذه الظروف التي مرت بها البلاد ، وأمام هذه التحديات التي واجهتها الدولة ، يجب على المسـلم أن يشكر الله تعالى على نعمة الفرج وأن يزداد إيمانه بالله قوة ، ويقينه في وعد الله رسوخاً لأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة ، وفي كلماته التي علمها لابن عمه العباس رضي الله عنهما في قوله : احفظ الله يحفظك " قال ابن القيم : اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون وقال عليه رحمة الله :" إذا تزوج الصبر باليقين ولد بهما حصول الإمامة في الدين"

فاليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المستقر في القلب المطابق للواقع وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " اليقين هو الإيمان كله"ولما عدد الله صفات المتقين في أول سورة البقرة قصر سبحانه الهداية والفلاح على المؤمنين الموقنين فقال " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هــدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"[البقرة:1-5 ]

ولعمق اليقين في القلوب ، وقوة تأثيره على صاحبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله"

واليقين يصل بك إلى درجة الإحسان ، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( متفق عليه )

اليقين والتوكل

إن الحمـد لله ، نحمده ونسـتعين به ونسـتغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .

أما بعد :

فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ،وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " [ آل عمران : 102]

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " [ النساء : 1]

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ] [ الأحزاب : 70،71 ]

( 2 )

أيها الإخوة المسلمون :

في هذه الظروف التي مرت بها البلاد ، وأمام هذه التحديات التي واجهتها الدولة ، يجب على المسـلم أن يشكر الله تعالى على نعمة الفرج وأن يزداد إيمانه بالله قوة ، ويقينه في وعد الله رسوخاً لأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة ، وفي كلماته التي علمها لابن عمه العباس رضي الله عنهما في قوله : احفظ الله يحفظك " قال ابن القيم : اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون وقال عليه رحمة الله :" إذا تزوج الصبر باليقين ولد بهما حصول الإمامة في الدين"

فاليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المستقر في القلب المطابق للواقع وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " اليقين هو الإيمان كله"ولما عدد الله صفات المتقين في أول سورة البقرة قصر سبحانه الهداية والفلاح على المؤمنين الموقنين فقال " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هــدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"[البقرة:1-5 ]

ولعمق اليقين في القلوب ، وقوة تأثيره على صاحبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله"

واليقين يصل بك إلى درجة الإحسان ، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( متفق عليه )

وباليقين والصبر تنال الإمامة في الدين قال شيخ الإسلام " إنما تنال الامامة في الدين بالصبر واليقين " ثم تلا قوله تعالى " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون"[السجدة :24 ]

ولماذا لا يوقن العبد بوعد الله وهو القائل سبحانه :"والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيدخلهم جنت تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلا"[النساء :122]

وهو القائل جل شأنه : " ومن أصدق من الله حديثاً " [ النساء : 87 ]

قال سبحانه " ألا أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " [ يونس : 55 ] وقال عز وجل : " وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " [ الروم : 6 ]

قال أحد السلف لإخوانه لقد رأيت الجنة والنار عياناً فعجبوا له فقال لا تعجبوا لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورؤيتي لهما بعينه صلى الله عليه وسلم أكثر عندي من رؤيتي لها بعيني ، فإن عيني قد تزيغ أو تطغى ، وعيناه صلى الله عليه وسلم قال فيهما رب العزة " ما زاغ البصر وما طغى "

وكان أحد السلف يقول أنا أعلم متى يذكرني ربي، فقالوا له أخاص ذلك بك ؟ قال بل هو للناس جميعاً ، أو ما قرأتم قوله تعالى " فاذكروني أذكركم " [ البقرة : 152 ] فهو على يقين من أنه إذا ذكر الله ذكره الله سبحانه .

( 3 )

وتأمل موقف أم موسى عليه السلام لما أوحى الله إليها أن تلقى ولدها في الماء ما ترددت ولا تقاعست بل نفذت أمر الله سبحانه لما سكن في قلبها من يقين بوعد الله سبحانه حين قال لها " وأوحينا إلى أم موسى ان أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافى ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " [ القصص:7]

وهذا شأن المؤمن متوكل على الله موقن بوعده سبحانه .

وما الذي يجعل عمير بن الحمام يلقى تمرات كن في يده ويندفع نحو المعركة يوم بدر وهو يقول إنها لحياة طويلة إذا انتظرت حتى آكل هذه التمرات " إنه ما فعل ذلك إلا بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ما من عبد يقاتل هؤلاء القوم اليوم صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر فيقتل إلا كان من أهـل الجنة فقال عمير بخ بخ يا رسول الله قال ما حملك على قول بخ بخ يا عمير ؟ فقال يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت من أهلها فطار إلى المعركة فرحاً موقناً بوعد رسول الله ، يضحي بنفسه إرضاء لله ورسوله وطمعاً في جنة عرضها السموات والأرض .

الجود بالمال جود في تكرمه ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وهذا اليقين القوي هو الذي يجعل أنس بن النضر يوم أحد يقول لسعد بن معاذ : واهاً لريح الجنة والله أني لأجد ريحها من دون أحد " وأخذ يقاتل حتى قتل وقد وجد في أرض المعركة وبه بضع وثمانون ضربة ، وما عرفته إلا أخته ببنانه من كثرة ما به من جراح " ( متفق عليه )

وقوة اليقين والتوكل على الله لها أثر عظيم في سلوك العبد المؤمن ، فإنه يحيا مطمئن القلب هادئ النفس ، قرير العين ، فهو متوكل على ربه ، موقن بوعده راض بحكمه

ولذلك لما سئل الحسن البصري عليه رحمة الله ما زهدك في الدنيا يا أمام ؟ قال أربعة أشياء ، علمت إن رزقي لا يأخذه غيري فأطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشغلت به وحدي ، وعلمت أن الله مطلع على فاستمييت أن يراني على معصية ، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي ، فهكذا يفعل اليقين بأهله .

( 4 )

قدم سليمان بن عبدالملك مكة حاجاً ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وجد سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ناحية من المسجد يقرأ القرآن ، فلما انتهى الخليفة ، من طوافه اقترب منه وألقى عليه السلام فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، أمير المؤمنين . فمال عليه الخليفة وقال له : يا أبا عمر سلني حاجة أقضها لك ، فسكت سالم حتى كررها الخليفة ، فقال سالم يا أمير المؤمنين أستحيي أن أكون في بيت الله وأسأل غيره ، فتركه الخليفة وانتظره حتى خرج من المسجد ، فلما خرج من المسجد قال له ها نحن قد خرجنا من بيت الله يا أبا عمر فسلني حاجة أقضيها لك - فقال يا أمير المؤمنين من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة ؟ قال بل من أمر الدنيا ، فإن الآخرة لا يملكها إلا الله . فقال يا أمير المؤمنين أنا لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل الدنيا من لا يملكها - فقال الخليفة - زادنا الله بكم يقينا آل الخطاب .

أيها الإخوة المسلمون :

ونحن وقد حقق الله لنا الفرج، وقد حقق الله لنا وعده، يجب أن يتعمق اليقين في قلوبنا وأن نجتهد في العبادة والطاعة .

قال تعالى : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين " [ العنكبوت : 69] وقال : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره " [ الطلاق : 3 ]

وقال ابن القيم عليه رحمة الله ( دم على طاعة الله حتى يجعل الله لك في قلبك عيناً ترى بها الغيب شـهادة )

وقال ابن عطاء " على قدر ما بهم من التقوى أدركوا من اليقين " جاء في الحديث القدسي : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه " ( رواه البخاري )

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .

( 5 )

الخطبة الثانية:

الحمـد لله كثيراً كما أمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير .

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة والسراج المنير ، إلى يوم القيامة . أما بعد :

فإن العبد إن أحسن التوكل على ربه ، وأيقن بوعده وسلم الأمر إليه كفاه الله أمر الدنيا والآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :" من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه "( حديث حسن ، تخريج الترغيب والترهيب ) ( الألباني )

قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدراً " [ الطلاق : 3 ]

وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا إمامة في الدين ، وقوة في اليقين ، وحسن التوكل عليه ، إنه حسبنا ونعم الوكيل .

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً - سخاء رخاء ، وسائر بلاد المسلمين اللهم اجعل هذا البلد واحة أمن وأمان ، اللهم انصرنا على أعدائنا ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ، اللهم يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب اهزمهم وانصرنا عليهم ، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم وانصر المجاهدين في كل مكان واحفظ صاحب السمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ورد إلينا أسرانا وارحم شهداءنا واغفر للمسلمين والمسلمات .

إنك على كل شئ قدير .

============

مراتب الصبر

وهي ثلاثة كما ذكر ابن القيم رحمه الله:

الأولى: الصبر بالله، ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المُصيّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إلا بِاللّهِ [النحل:127] يعني: إن لم يُصبرك الله لم تصبر.

الثانية: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله تعالى، وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلك من الأغراض.

الثالثة: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها أينما نزلت، جعل نفسه وقفاً على أوامر الله ومحابه، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين.

قال الجنيد: ( المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد ).

الصبر في القرآن

ذكر ابن القيم رحمه الله كثيراً من المواضع التي ورد بها الصبر في القرآن الكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: ( ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعاً ) ونحن نذكر بعض الأنواع التي سيق فيها الصبر في القرآن الكريم ومنها:

1 - الأمر به كقوله تعالى: وَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ [النحل:127]، وقوله: وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ [الطور:48].

2 - النهي عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى: فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَتَستَعجِل لَهُم [الأحقاف:35]. وقوله: وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ [القلم:48].

3 - الثناء على أهله، كقوله تعالى: وَالصّابِرِينَ فِي البأسآء وَالضّرآء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ [البقرة:177].

4 - تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالى: بَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ ءَالَفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِمِينَ [آل عمران:125]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه، وسلم: { واعلم أن النصر مع الصبر }.

5 - الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قال: وَالملائكةُ يَدخُلُونَ عَلَيِهِم مِن كُلِ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ [الرعد:24،23].

6 - الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى: وَلَقَد أرسَلنَا مُوسَى بِئآياتِنآ أن أخرِج قَومَكَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النورِ وَذَكِرهُم بِأيامِ اللّهِ إنَ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِ صَبّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5].

7 - الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى: وَيلَكُم ثوآبُ اللّهِ خَيرٌ لِمَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً وَلاَ يُلَقاهآ إلا الصَابِرُونَ [القصص:80]، وقوله: وَمَا يُلَقاهآ إلا الذّينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَهآ إلا ذُو حّظٍ عَظِيمٍ [فصلت:35].

8 - تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالى: وَجَعَلنا مِنهُم أئِمّةً يَهدُون بِأمرِنا لَمَا صَبَرُوا وَكَانُوا بِئَاياتِنا يُوقِنُون [السجدة:24]. فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

9 - أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: إنّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَهُ أوابٌ [ص:44] فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.

10 - أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قوله: وَاستَعِينُوا بِالصّبرِ وَالصّلاةِ [البقرة:45]، وبالتقوى في قوله: إنّهُ مَن يَتَقِ وَيَصبِر [يوسف:90]، وبالشكر في قوله: إن فِي ذَلِكَ لأياتٍ لِكُلِ صَبَارٍ شَكُور [لقمان:31]، وبالرحمة في قوله: وَتَوَاصَوا بِالصّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمرحَمَةِ [البلد:17]، وبالصدق في قوله: وَالصّادِقينَ وَالصَادِقَات وَالصَابِرين وَالصّابِراتِ [الأحزاب:35].

وجعل الله الصبر في آيات أخرى سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً

=============

بسم الله الرحمن الرحيم

لتبلون في أموالكم وأنفسكم

د.ناصر بن يحيى الحنيني

 

عباد الله يقول ربنا الحكيم الخبير العليم الحليم في محكم التنزيل : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) ويقول سبحانه : (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون ) ، ويقول جل وعلا : (ولنبلونكم بشيءٍ من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) ، ويقول المولى جل وعلا : (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ) ، ويقول سبحانه ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ويقول سبحانه : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) .

وجاء في البخاري : عن عروةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ فَقَالَتْ يَا عُرَيَّةُ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ قُلْتُ فَلَعَلَّهَا أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ وَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ "أ.هـ

وجاء أيضاً في البخاري : "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ وَتَلَا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَعَاذَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثَقَّلَةً"أ.هـ

وجاء في مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ)

وجاء في الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى ).

وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ ).

وجاء في الحديث الصحيح : (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ).

أيها المؤمنون : إننا من خلال هذه النصوص الشرعية والتوجيهات الربانية أمام حقيقة شرعية وسنة كونية وهي أن البلاء حاصل لهذه الأمة وخاصة من يقوم بأمر الله ، ومن خلال هذه النصوص الشرعية يمكن أن نقف بعض الوقفات على وجه الاختصار :

الوقفة الأولى : أن الابتلاء سنة ماضية لكل الناس حتى صفوة الخلق وأحبهم إلى الله عزوجل وهم أنبياؤه ورسله (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)، فيا من تمسكت بشرع الله لا تجزع لا تترد لا تنكص على عقبيك وأسأل الله الثبات على دينك واصدق مع ربك .

الوقفة الثانية : أن الابتلاء رحمة بالأمة على وجه العموم ، وبكل فرد مؤمن على وجه الخصوص كما قال جل وعلا : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم )، فالأمة ينقى صفها وتعرف صديقها من عدوها ومؤمنها من منافقها فتأخذ حذرها ولا يبقى معها إلا الصفوة وهنا يأتي النصر بعد التصفية وبعد التمحيص فهو خير للأمة ، وأما الأفراد كما قال جل وعلا: ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)

فالله ثبتنا وارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والنيات.

الوقفة الثالثة : أن الابتلاء يكون بالخير والشر ، بما تكره النفوس وبما تحبه كما قال جل وعلا : (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون )، يقول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه مبيناً خطورة الابتلاء بالسراء وأنها لا تقل خطراً وصرراً على المؤمن من الضراء يقول:" ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر "أ.هـ فالمال فتنة والمناصب فتنة فاللهم ثبتنا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا .

الوقفة الرابعة : أن الثبات والنجاة وقت الفتن من عند الله فلا تعلق قلبك بغيره سبحانه ولا تظنن أن المخلوق يملك لك شيئاً ولتعلم أن المقادير وأن الكون كله بيده سبحانه فهو الذين يثبت المؤمنين كما قال جل وعلا وليس المخلوقين : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) فعليك بالدعاء فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتعوذ من الفتن ما ظهر منها ومابطن ،والله سبحانه يحب من عباده أن يدعوه ويتضرعوا إليه عند حلول البلاء فقال سبحانه : (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا إذجاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) وقال سبحانه : (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ).

الوقفة الخامسة : أن من أقوى العوامل على الثبات على الحق عند حلول الابتلاء بعد رحمة الله وتثبيته للمؤمن هو الصبر ومن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله وتدبر معي الآيات التي ذكرت الابتلاء كيف نوهت وأشادت بالصبر فالله سبحانه لما قال ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) قال في آخر الآية ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) ، وقال سبحانه ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين ) ، وقال سبحانه مبينا العاقبة الحميدة للصبر حينما يبتلى المؤمنون بكيد الأعداء قال ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )، وأنبياء الله هذا منهجهم عند حلول البلاء والفتنة الصبر : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذِّبوا ).

الوقفة السادسة : إن الابتلاء يدل على صحة المسار وصدق السائر إلى الله الداعي إلى رضوانه سبحانه وتعالى ، فالأنبياء أشد الناس بلاء وبقدر إيمان العبد يزاد له في البلاء ، وهو طريق الإمامة في الدين والتمكين في الأرض قال سبحانه ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ، وقال بعض السلف بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، وقال الإمام مالك : إن محمد بن المنكدر لما ضرب فزع لضربه أهل المدينة فاجتمعوا إليه فقال : لا عليكم إنه لاخير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر .

الوقفة السابعة : إن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله من أعظم الأسباب للثبات على الدين وقت نزول المحن والبلايا ، كما قال جل وعلا : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) فبسبب صدقهم وبذلهم وجهادهم ودعوتهم وفقوا وهدوا لمايحبه الله وهو الثبات على الدين ، وفازوا بمعية الله وتأييده لهم ونصرتهم سبحانه لهم ، فكيف يهزم ويخذل من كان الله معه نسأل الله أن يثبتنا على الحق وأن لا يكلنا إلى أنفسنا أو إلى أحد من خلقه طرفة عين.

=============

بالعلم واليقين تنال الإمامة في الدين

علي الحمادي

تنتشر الشبهات انتشار النار في الهشيم في الأوساط الجاهلة، فكلما كثر الجهل والجهلاء كلما كانوا أكثر استعداداً للتأثر بالشبهات، في حين أن العلم نور يستضيء به العلماء، فلا تستقر به تهمة، ولا تصدق به شبهة.

إن مشكلة كثير من الدعاة، فضلاً عن عامة المسلمين، أنهم قليلوا العلم، لا سيما العلم الشرعي، لذلك عندما يطلق بعض الناس شبهة أو يرمي بتهمة تجد البلبلة تدب في صفوف هذا الصنف من الدعاة، ويصبحون في حيص بيص، لا يعرف أحدهم كيف يرد على هذه التهم، بل لا يدري كيف يقنع نفسه بزيف هذه الشبهات وأنها لا تؤثر على سلامة الطريق الذي يسلكه والمنهج الذي يتبعه، فيصاب بالحيرة والشك والارتياب.

إن هذا الدين قد عظم من مكانة العلم والعلماء حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ". (رواه الترمذي وقال حديث حسن).

وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: " من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح ".

وقال الحسن البصري - رحمه الله -: " موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اطرد الليل والنهار".(1)

ويقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:

ما الفخر إلا لأهل العلم إنــهم

على الهدى لمن استهـدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنـه

والجاهلون لأهل العلم أعــداء

ففز بعلم تعش به حياً أبـــداً

الناس موتى وأهل العلم أحياء(2)

ويقول آخر:

تعلم فليس المرء يولد عالــماً

وليس أخو علم كمن هو جاهل

فإن كبير القوم لا علم عنــده

صغير إذا التفت عليه الجحافل

وأن صغير القوم إن كان عالماً

كبير إذا ردت إليه المحــافل(3)

إن الذي يستطيع أن يقف سداً منيعاً أمام الشبهات هو ذلك الذي أنار الله قلبه وعقله بالعلم والمعرفة، لا كما يظن بعض الدعاة أن الإنسان كلما كانت له سابقة دعوية وأمضى سنوات طويلة في الدعوة فإنه يكون أبعد عن التأثر بالشبهات.

إن هذا النوع من الدعاة إن صمد أمام الشبهات فإنه يصمد ( غالباً) على جهل، وهذا يخشى أن يدخل إليه الشيطان من طريق ثان أو ثالث أو رابع.

نعم، إن كثيراً من الدعوات بحاجة إلى علماء وإلى طلبة علم جادين في تحصيلهم العلمي مدركين خطورة الجهل والجهلاء على الأفراد والجماعات.

وإذا قدر لك أن تتصدى للاتهامات، وأن تحاور مثيري الشبهات فعليك:

1.    أن تتبحر في دراسة موضوع الشبهة.

2.    أن تكون مستعداً لأي سؤال.

3.    أن لا تناقش في موضوع لا تعرفه جيداً.

4.   أن لا تدافع عن فكرة إذا لم تكن على اقتناع تام بها، فإنك إن فعلت عرّضت نفسك للإحراج، وأسأت إلى الفكرة التي تحملها وتدافع عنها، إذ إن أغلب الناس يميلون إلى تجسيد الفكرة المجردة في شخص حاملها، ويعتبرون انتصاره انتصاراً لها دليلاً على أنها حق، كما يعتبرون انهزامه في الدفاع عنها انهزاماً لها دليلاً على أنها خطأ أو باطل، واذكر دائماً قوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ".( الإسراء: الآية 36).

5.   أن تعد مادتك العلمية إعداداً جيداً، فالإتقان من شأن المؤمنين، والله - عز وجل - يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، ففي هذا مرضاة لله - تعالى - بادئ ذي بدئ وهذا هو هدف الداعية الأول، ثم إن الإتقان يساعده على أداء مهمته في الحوار وذلك حين يعرض معلوماته عرضاً جيداً، مما يجعل سامعيه يجدون ما هو جدير بالاستماع إليه، وباختصار: الإتقان فيه مرضاة لله - عز وجل - ثم هو مظهر لاحترام الإنسان لنفسه واحترامه للآخرين.(4 )

00000000000000000

1   يوسف القرضاوي، الرسول والعلم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1974، ص 35-36.

2   جاسم مهلهل، العلم بين يدي العالم والمتعلم، ص 11.

3   علي محفوظ، هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ص 407.

4   وحدة الدراسات والبحوث بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، ص 23.

http://209.15.171.39/articledetails.   المصدر :

=============

مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 348)

وَ " الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ " هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ فُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ " الْوَرَعَ الْمَشْرُوعَ " هُوَ تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهَا تَرْكَ مَا فِعْلُهُ أَرْجَحُ مِنْهَا كَالْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُعِينُ عَلَى مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَالزُّهْدُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ بَلْ صَاحِبُهُ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } كَمَا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ هُوَ ضِدُّ الزُّهْدِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ [ تَرْكِ ] مُحَرَّمٍ كَانَ عَاصِيًا وَإِلَّا كَانَ مَنْقُوصًا عَنْ دَرَجَةِ الْمُقَرَّبِينَ إلَى دَرَجَةِ الْمُقْتَصِدِينَ . وَ ( أَيْضًا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ مُرْضٍ لَهُ مَأْمُورٌ بِهِ دَائِمًا وَمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مُرْضِيًا لَهُ مَأْمُورًا بِهِ دَائِمًا لَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْمُقْتَصِدِينَ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ عَنْ قَوْلِهِمْ : الْمُتَوَكِّلُ يَطْلُبُ حُظُوظَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْأُمُورَ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا فَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ شَرْعًا وَعَقْلًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : التَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لَا يُجْلَبُ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا يُدْفَعُ بِهِ مَضَرَّةٌ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ . وَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ التَّفْوِيضِ الْمَحْضِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ كَوْنَ الْأُمُورِ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً يَمْنَعُ أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَى أَسْبَابٍ مُقَدَّرَةٍ - أَيْضًا - تَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ وَيَقْضِيهَا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا مُعَلَّقَةً بِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ طَرْدُ قَوْلِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْأَعْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَرَّاتٍ فَأَجَابَ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْمِخْصَرَةِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى الشَّقَاوَةِ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ . أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فييسرون لِلسَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فييسرون لِلشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } } أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ سَعَادَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَشَقَاوَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبُهَا ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ السَّعِيدَ يَسْعَدُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّقِيَّ يَشْقَى بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَمَنْ كَانَ سَعِيدًا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَقْتَضِي السَّعَادَةَ ؛ وَمَنْ كَانَ شَقِيًّا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الشَّقَاوَةَ ؛ وَكِلَاهُمَا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَهُوَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْعَامَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } . وَأَمَّا مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ إرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي أُمِرُوا بِمُوجِبِهَا فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ : مِنْ " الْكَلِمَاتِ " وَ " الْأَمْرُ " وَ " الْإِرَادَةُ " وَ " الْإِذْنُ " وَ " الْكِتَابُ " وَ " الْحُكْمُ " وَ " الْقَضَاءُ " وَ " التَّحْرِيمُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا هُوَ دِينِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا هُوَ كَوْنِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْأَمْرِ الدِّينِيِّ " : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَالَ فِي " الْكَوْنِيِّ " : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } عَلَى إحْدَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ " : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ " : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْإِذْنِ الدِّينِيِّ " : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ " : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } أَيْ أَمَرَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْحُكْمِ الدِّينِيِّ " : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " عَنْ ابْنِ يَعْقُوبَ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ " : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الْكَوْنِيِّ " : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ " { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيَّةِ " : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ إنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِعَاذَتِهِ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَوْنِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ . وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ فَقَدْ خَالَفَهَا الْفُجَّارُ بِمَعْصِيَتِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَوَاقِبَ الَّتِي خَلَقَ لَهَا النَّاسَ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ ييسرون لَهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَصِيرُونَ بِهَا إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَذَلِكَ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الْوَلَدَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ فِي الْأَرْحَامِ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِ الْمَاءَيْنِ فِي الرَّحِمِ فَلَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ أَنَا أَتَوَكَّلُ وَلَا أَطَأُ زَوْجَتِي فَإِنْ كَانَ قَدْ قُضِيَ لِي بِوَلَدِ وُجِدَ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ وَلَا حَاجَةَ إلَى وَطْءٍ كَانَ أَحْمَقَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ وَعَزَلَ الْمَاءَ فَإِنَّ عَزْلَ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْوَلَدِ إذَا شَاءَ اللَّهُ إذْ قَدْ يَسْبِقُ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَمِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري . قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَا هُوَ خَالِقٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَانِيَتُنَا فِي النَّخْلِ وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ فَقَالَ اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } . وَهَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى مَا قَدْ فَعَلَهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أَبٍ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْقَصِيرِ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أُمٍّ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنْ خَلَقَ ذَلِكَ بِأَسْبَابِ أُخْرَى غَيْرِ مُعْتَادَةٍ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَجْحَدُهُ الزَّنَادِقَةُ الْمُعَطِّلُونَ لِلشَّرَائِعِ فَقَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُعَظَّمِينَ يَسْتَرْسِلُ أَحَدُهُمْ مَعَ الْقَدَرِ غَيْرَ مُحَقِّقٍ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْجَرْيِ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَيَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَحَتَّى يَضْعُفَ عِنْدَهُ النُّورُ وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَسَخِطَهُ فَيُسَوِّي بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . حَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِغُلَاتِهِمْ إلَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ النَّبَوِيِّ الْإِلَهِيِّ الْفُرْقَانِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَيَشْهَدُونَ وَجْهَ الْجَمْعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْجَمِيعِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُلْكِهِ وَلَا يَشْهَدُونَ وَجْهَ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَهُ الدِّينِيَّ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِينَ عَصَوْا هَذَا الْأَمْرَ وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي ذَلِكَ بِكَلِمَاتِ مُجْمَلَةٍ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ أَوْ بِبَعْضِ غَلَطَاتِ بَعْضِهِمْ . وَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ عَلَى أَهْلِ طَرِيقِ اللَّهِ السَّالِكِينَ سَبِيلَ الْإِرَادَةِ : إرَادَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ بِسَبَبِ إهْمَالِ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَصِيرُوا مُعَاوِنِينَ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ لِلْمُسَلَّطِينَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ كَاَلَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ فِي مُعَاوَنَةِ مَنْ يَهْوُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَحْوَالٌ أُثِرُوا بِهَا فِي ذَلِكَ كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ - فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَارَةً وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ - وَيَسْتَشْهِدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ وَيُعِدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ بِكَشْفِ يُكْشَفُ لَهُ أَوْ بِتَأْثِيرِ يُوَافِقُ إرَادَتَهُ هُوَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ لَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إهَانَةٌ وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكْرِمْ عَبْدَهُ بِكَرَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ لَهُ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ وَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَأَحَبَّهُ فَهُمْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ مَحْبُوبٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَحْبُوبٍ وَاجِبًا وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ مِنْ السَّرَّاءِ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِالضَّرَّاءِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا هَوَانِهِ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَسْعَدُ بِهَا قَوْمٌ إذَا أَطَاعُوهُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَشْقَى بِهَا قَوْمٌ إذَا عَصَوْهُ فِي ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا } وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " : ( قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَقَوْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كبلعام وَغَيْرِهِ . وَقَوْمٌ تَكُونُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ . وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الْمُتَّبِعُونَ لِنَبِيِّهِمْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي إنَّمَا كَانَتْ خَوَارِقُهُ لِحُجَّةِ يُقِيمُ بِهَا دِينَ اللَّهِ أَوْ لِحَاجَةِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَلِكَثْرَةِ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْأَصْلِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْقَدَرِ بِدُونِ الْحِرْصِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَنْفَعُ الْعَبْدَ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ . احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي داود : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَإِنَّ الْحِرْصَ عَلَى مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ إذْ النَّافِعُ لَهُ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ طَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِسَعْدِ : { إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ . وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْفِعْلَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لَهُ وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِمَقْدُورِهَا كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَتِلْكَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . فَهَذَا الْمَوْضِعُ قد انقسم النَّاسُ فِيهِ إلَى " أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ شَاهِدِينَ لِإِلَهِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ ؛ فَهُمْ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَلِشَعَائِرِهِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ وَالْخِذْلَانُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ واللجأ إلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ هِيَ الَّتِي تُقَوِّي الْعَبْدَ وَتُيَسِّرُ عَلَيْهِ الْأُمُورَ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَيَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ بِقَوْلِهِمْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ } قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَ ( قِسْمٌ ثَانٍ : يَشْهَدُونَ رُبُوبِيَّةَ الْحَقِّ وَافْتِقَارَهُمْ إلَيْهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ لَكِنْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ غَيْرَ نَاظِرِينَ إلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُونَ بِهَا فِي الْوُجُودِ وَلَا يَقْصِدُونَ مَا يُرْضِي الرَّبَّ وَيُحِبُّهُ وَكَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ هِيَ مَرْضَاتُهُ فَيَعُودُونَ إلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْقَدَرِيَّةَ يَجِبُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَهَا دُونَ مُرَاعَاةِ الْحَقِيقَةِ الْأَمْرِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَحْوِي مَرْضَاةَ الرَّبِّ وَمَحَبَّتَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَهَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَسْلُبُونَ أَحْوَالَهُمْ وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى وَمَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فَلَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَهُمْ يَقَعُونَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ تَارَةً فِي بِدْعَةٍ يَظُنُّونَهَا شِرْعَةً وَتَارَةً فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى الْأَمْرِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَمَّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ ذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَجَعَلُوهُ شِرْعَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } وَقَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى أَنْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَنْ شَرَّعُوا مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَذَكَرَ احْتِجَاجَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } وَنَظِيرُهَا فِي النَّحْلِ وَيس وَالزُّخْرُفِ وَهَؤُلَاءِ يَكُونُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَأَمَّا ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ بِهِ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْأَقْسَامِ . وَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ : هُوَ الْقِسْمُ الْمَحْمُودُ وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ حَقَّقُوا { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَاسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ إلَهُهُمْ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ الَّذِي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَأَنَّهُ { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مُقْتَضَى التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ مَقَامَاتِ عَامَّةِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا شَدِيدًا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَشَايِخِ - كَصَاحِبِ " عِلَلِ الْمَقَامَاتِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَشَايِخِ وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ صَاحِبُ " مَحَاسِنِ الْمَجَالِسِ " - وَظَهَرَ ضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ حَظُّ الْعَامَّةِ فَقَطْ وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ جَعَلَ الدُّعَاءَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كَذَلِكَ كَمَنْ اشْتَغَلَ بِالتَّوَكُّلِ عَنْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا ؛ فَإِنْ غَلِطَ هَذَا فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كَغَلَطِ الْأَوَّلِ فِي تَرْكِ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } لَكِنْ يُقَالُ : مَنْ كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ هُوَ فِي حُصُولِ مُبَاحَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُصُولِ مُسْتَحَبَّاتٍ وَوَاجِبَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ دَعَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مُحَرَّمَاتٍ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّوَكُّلِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمَقَامُ لِلْخَاصَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ( حَسْبِي اللَّهُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ تَارَةً وَفِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ أُخْرَى . ( فَالْأُولَى فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } الْآيَةَ . وَ ( الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالرِّضَا وَالتَّوَكُّلِ . وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلُ يَكْتَنِفَانِ الْمَقْدُورَ فَالتَّوَكُّلُ قَبْلَ وُقُوعِهِ . وَالرِّضَا بَعْدَ وُقُوعِهِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَبِقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُك قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُك بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك ؛ وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ } رَوَاهُ أَحْمَد والنسائي مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ . وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَهُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا لَا حَقِيقَةُ الرِّضَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ يَعْزِمُونَ عَلَى الرِّضَا قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ ؛ فَإِذَا وَقَعَ انْفَسَخَتْ عَزَائِمُهُمْ كَمَا يَقَعُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آيَةَ الْجِهَادِ فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ . وَلِهَذَا كُرِهَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ بِأَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَا يُوجِبُهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ بِالْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يَطْلُبُ وِلَايَةً أَوْ يُقْدِمُ عَلَى بَلَدٍ فِيهِ طَاعُونٌ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ ؛ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا ؛ وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ فِي الطَّاعُونِ : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَلَكِنْ إذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فَيَبْخَلُ بِالْوَفَاءِ ؛ وَكَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَاهِدُ اللَّهَ عُهُودًا عَلَى أُمُورٍ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُبْتَلَوْنَ بِنَقْضِ الْعُهُودِ . وَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اُبْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَتَّكِلَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْمُوقِنِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ . وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ عَنْ أَنْ يَجْزَعَ فِيهَا وَالصَّبْرُ عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي كِتَابِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا وَقَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } الْآيَةَ وَجَعَلَ " الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " مَوْرُوثَةً عَنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ بِقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَعَمَلٌ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ بَلْ وَطَلَبُ عِلْمِهِ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ لِلَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْرِفَتَهُ خَشْيَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ؛ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ . بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ اللَّهُ وَيُوَحَّدُ يَرْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ أَقْوَامًا يَجْعَلُهُمْ لِلنَّاسِ قَادَةً وَأَئِمَّةً يَهْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِمْ . فَجَعَلَ الْبَحْثَ عَنْ الْعِلْمِ مِنْ الْجِهَادِ وَلَا بُدَّ فِي الْجِهَادِ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } فَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ أَصْلُ الْهُدَى وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ هُوَ الرَّشَادُ وَضِدُّ الْأَوَّلِ الضَّلَالُ وَضِدُّ الثَّانِي الْغَيُّ فَالضَّلَالُ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الْهَوَى . قَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } فَلَا يُنَالُ الْهُدَى إلَّا بِالْعِلْمِ وَلَا يُنَالُ الرَّشَادُ إلَّا بِالصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ : أَلَا إنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ - فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّأْسُ بَانَ الْجَسَدُ - ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ أَلَا لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ

مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 341)

وَالنَّاسُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . قَوْمٌ لَا يَقُومُونَ إلَّا فِي أَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ ؛ فَلَا يَرْضَوْنَ إلَّا بِمَا يُعْطُونَهُ وَلَا يَغْضَبُونَ إلَّا لِمَا يحرمونه ؛ فَإِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ زَالَ غَضَبُهُ وَحَصَلَ رِضَاهُ وَصَارَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُنْكَرًا - يُنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؛ وَيَذُمُّ صَاحِبَهُ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِ - مَرْضِيًّا عِنْدَهُ وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ وَشَرِيكًا فِيهِ ؛ وَمُعَاوِنًا عَلَيْهِ ؛ وَمُعَادِيًا لِمَنْ نَهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا غَالِبٌ فِي بَنِي آدَمَ يَرَى الْإِنْسَانُ وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ ؛ فَلِذَلِكَ لَا يَعْدِلُ بَلْ رُبَّمَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْحَالَيْنِ يَرَى قَوْمًا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُتَوَلِّي ظُلْمَهُ لِرَعِيَّتِهِ وَاعْتِدَاءَهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَيَرْضَى أُولَئِكَ الْمُنْكِرُونَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَيَنْقَلِبُونَ أَعْوَانًا لَهُ . وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ تَرَاهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَزْنِي وَيَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ حَتَّى يُدْخِلُوا أَحَدَهُمْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ؛ أَوْ يَرْضَوْهُ بِبَعْضِ ذَلِكَ ؛ فَتَرَاهُ قَدْ صَارَ عَوْنًا لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَعُودُونَ بِإِنْكَارِهِمْ إلَى أَقْبَحِ مِنْ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ نَظِيرِهِ . وَقَوْمٌ يَقُومُونَ دِيَانَةً صَحِيحَةً يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُصْلِحِينَ فِيمَا عَمِلُوهُ وَيَسْتَقِيمُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُوذُوا . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُمْ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ . وَقَوْمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا ؛ وَهُمْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ فِيهِ دِينٌ وَلَهُ شَهْوَةٌ تَجْتَمِعُ فِي قُلُوبِهِمْ إرَادَةُ الطَّاعَةِ وَإِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ وَرُبَّمَا غَلَبَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ الثُّلَاثِيَّةُ كَمَا قِيلَ : الْأَنْفُسُ ثَلَاثٌ : أَمَّارَةٌ ؛ وَمُطَمْئِنَةٌ ؛ وَلَوَّامَةٌ . فَالْأَوَّلُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ . وَالْأَوْسَطُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } { ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } { وَادْخُلِي جَنَّتِي } . وَالْآخَرُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ ؛ وَتَتَلَوَّنُ : تَارَةً كَذَا . وَتَارَةً كَذَا . وَتَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } أَقْرَبُ عَهْدًا بِالرِّسَالَةِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا وَصَلَاحًا ؛ وَأَئِمَّتُهُمْ أَقْوَمُ بِالْوَاجِبِ وَأَثْبَتُ فِي الطُّمَأْنِينَةِ : لَمْ تَقَعْ فِتْنَةٌ ؛ إذْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْوَسَطِ . وَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَثُرَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ؛ فَصَارَ فِيهِمْ شَهْوَةٌ وَشُبْهَةٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ ؛ وَصَارَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْوُلَاةِ وَبَعْضِ الرَّعَايَا ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ بَعْدُ ؛ فَنَشَأَتْ الْفِتْنَةُ الَّتِي سَبَبُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْحِيصِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ ؛ وَاخْتِلَاطِهِمَا بِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَأَوِّلٌ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُ مَعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيلِ نَوْعٌ مِنْ الْهَوَى ؛ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الْأُخْرَى . فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ ؛ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُقِيمَ قَلْبَهُ وَلَا يُزِيغَهُ : وَيُثَبِّتَهُ عَلَى الْهُدَى وَالتَّقْوَى ؛ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } . وَهَذَا أَيْضًا حَالُ الْأُمَّةِ فِيمَا تَفَرَّقَتْ فِيهِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْعِبَادَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا تَعْظُمُ بِهَا الْمِحْنَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَنْ نُفُوسِهِمْ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا : فَإِنَّ مَعَهُمْ نُفُوسًا وَشَيَاطِينَ كَمَا مَعَ غَيْرِهِمْ فَمَعَ وُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ يَقْوَى الْمُقْتَضِي عِنْدَهُمْ ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ؛ فَيَقْوَى الدَّاعِي الَّذِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَشَيْطَانُهُ ؛ وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الدَّاعِي بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَالنَّظِيرِ . فَكَمْ مِمَّنْ لَمْ يَرِدْ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَّى رَأَى غَيْرَهُ - لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ نَظِيرُهُ - يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ فَإِنَّ النَّاسَ كَأَسْرَابِ الْقَطَا ؛ مَجْبُولُونَ عَلَى تَشَبُّهِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ : لَهُ مِثْلُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ؛ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ . وَأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ . وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَانِ دَاعِيَيْنِ قَوِيَّيْنِ : فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِمَا دَاعِيَانِ آخَرَانِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمُنْكَرِ يُحِبُّونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ؛ وَيُبْغِضُونَ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الدِّيَانَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ مُوَالَاةِ كُلِّ قَوْمٍ لِمُوَافَقِيهِمْ ؛ وَمُعَادَاتِهِمْ لِمُخَالِفِيهِمْ . وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ كَثِيرًا مَا يَخْتَارُونَ وَيُؤْثِرُونَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ : إمَّا لِلْمُعَاوَنَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كَمَا فِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاسَاتِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ . وَإِمَّا بِالْمُوَافَقَةِ ؛ كَمَا فِي الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَنْ يَشْرَبَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ وَإِمَّا لِكَرَاهَتِهِمْ امْتِيَازَهُ عَنْهُمْ بِالْخَيْرِ : إمَّا حَسَدًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيُحْمَدُ دُونَهُمْ . وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ . وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنْ مُعَاقَبَتِهِ لَهُمْ بِنَفْسِهِ ؛ أَوْ بِمَنْ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ ؛ وَلِئَلَّا يَكُونُوا تَحْت مِنَّتِهِ وَخَطَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } . وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَّتْ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ . وَالْمُشَارِكَةُ قَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي نَفْسِ الْفُجُورِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي الشُّرْبِ وَالْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَقَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي النَّوْعِ ؛ كَالزَّانِي الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَزْنِي ؛ وَالسَّارِقُ الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَسْرِقُ أَيْضًا ؛ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوْ سَرَقَهَا . وَأَمَّا الدَّاعِي الثَّانِي فَقَدْ يَأْمُرُونَ الشَّخْصَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ . فَإِنْ شَارَكَهُمْ وَإِلَّا عَادُوهُ وَآذَوْهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ؛ أَوَّلًا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ مُشَارَكَةَ الْغَيْرِ لَهُمْ فِي قَبِيحِ فِعْلِهِمْ أَوْ يَأْمُرُونَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ : مَتَى شَارَكَهُمْ وَعَاوَنَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ انْتَقَصُوهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي أُمُورٍ أُخْرَى . وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ عَادَوْهُ وَآذَوْهُ . وَهَذِهِ حَالُ غَالِبِ الظَّالِمِينَ الْقَادِرِينَ . وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِي الْمُنْكَرِ نَظِيرُهُ فِي الْمَعْرُوفِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَإِنَّ دَاعِيَ الْخَيْرِ أَقْوَى ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ ؛ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا وُجِدَ مَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ ذَلِكَ صَارَ لَهُ دَاعٍ آخَرُ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَظِيرُهُ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُنَافَسَةِ وَهَذَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ . فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُشَارَكَتَهُ لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَيُبْغِضُهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ : صَارَ لَهُ دَاعٍ ثَالِثٌ ؛ فَإِذَا أَمَرُوهُ بِذَلِكَ وَوَالَوْهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَادَوْهُ وَعَاقَبُوهُ عَلَى تَرْكِهِ صَارَ لَهُ دَاعٍ رَابِعٌ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُقَابِلُوا السَّيِّئَاتِ بِضِدِّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ ؛ كَمَا يُقَابِلُ الطَّبِيبُ الْمَرَضَ بِضِدِّهِ . فَيُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِأَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ : بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ . وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْفِي الْحَسَنَاتِ وَيَقْتَضِي السَّيِّئَاتِ . وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ . وَيُؤْمَرُ أَيْضًا بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبِعَةِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَإِمْكَانِهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي سُورَةِ ( وَالْعَصْرِ لَكَفَتْهُمْ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ خَاسِرُونَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُؤْمِنًا صَالِحًا ؛ وَمَعَ غَيْرِهِ مُوصِيًا بِالْحَقِّ مُوصِيًا بِالصَّبْرِ . وَإِذَا عَظُمَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ سَبَبًا لِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَعَظِيمِ الْأَجْرِ ؛ كَمَا { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ ؛ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ . فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ . وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ مِنْ الصَّبْرِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهُ : وَذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ السَّيِّئِ الْمَحْظُورِ ؛ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى فِعْلِ الْأَذَى وَعَلَى مَا يُقَالُ ؛ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَكَارِهِ ؛ وَالصَّبْرُ عَنْ الْبَطَرِ عِنْدَ النِّعَمِ : وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ . وَلَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ وَيُغْتَذَى بِهِ وَهُوَ الْيَقِينُ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ ؛ وَالْعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهُ } . وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ يُحْسِنُ أَوْ أَحَبَّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ أَوْ نَهَى غَيْرَهُ عَنْ شَيْءٍ ؛ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُحْسِنَ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ إحْسَانًا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ ؛ مِنْ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ وَانْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَصْبِرُ عَلَى الْمُرِّ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْحُلْوِ ؛ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ؛ حَتَّى جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ نَصِيبًا فِي الصَّدَقَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْبِرَ وَأَنْ يَرْحَمَ وَهَذَا هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ . وَلِهَذَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ تَارَةً ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّبْرِ تَارَةً . وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ : الصَّلَاةِ ؛ وَالزَّكَاةِ ؛ وَالصَّبْرِ . لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا بِذَلِكَ ؛ فِي صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِصْلَاحِ غَيْرِهِمْ ؛ لَا سِيَّمَا كُلَّمَا قَوِيَتْ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَكُونُ أَشَدَّ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ عَامَّةً لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ إلَّا بِهِ . وَلِهَذَا جَمِيعُهُمْ يَتَمَادَحُونَ بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عَامَّةُ مَا يَمْدَحُ بِهِ الشُّعَرَاءُ فِي شِعْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ يَتَذَامُّونَ بِالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ . وَالْقَضَايَا الَّتِي يَتَّفِقُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ لَا تَكُونُ إلَّا حَقًّا ؛ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَدْحِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَذَمِّ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَقَدْ قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ الْأَعْرَابُ ؛ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إلَى سَمُرَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِرِدَائِهِ ؛ فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ وَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ؛ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا } . لَكِنْ يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْمَقَاصِدِ وَالصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . وَلِهَذَا جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِذَمِّ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ؛ وَمَدْحِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي سَبِيلِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي سَبِيلِهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } . وَقَالَ : { مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ ؟ فَقَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نَزِنُهُ بِالْبُخْلِ فَقَالَ : وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ السَّيِّدَ لَا يَكُونُ بَخِيلًا بَلْ سَيِّدُكُمْ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي فَقَالَ تَقُولُ : وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ فَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : { قَالَ عُمَرُ : قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ فَقَالَ : إنَّهُمْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ وَبَيْنَ أَنْ يبخلوني وَلَسْت بِبَاخِلِ يَقُولُ : إنَّهُمْ يَسْأَلُونِي مَسْأَلَةً لَا تَصْلُحُ فَإِنْ أَعْطَيْتهمْ وَإِلَّا قَالُوا : هُوَ بَخِيلٌ فَقَدْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُكْرِهِينَ لَا يَتْرُكُونِي مِنْ أَحَدِهِمَا : الْفَاحِشَةُ وَالتَّبْخِيلُ . وَالتَّبْخِيلُ أَشَدُّ ؛ فَأَدْفَعُ الْأَشَدَّ بِإِعْطَائِهِمْ . } وَالْبُخْلُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعُ : كَبَائِرَ ؛ وَغَيْرُ كَبَائِرَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَالَ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَقَالَ : { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } . وَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } الْآيَةَ . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ وَالْإِعْطَاءِ وَذَمِّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْبُخْلِ وَكَذَلِكَ ذَمُّهُ لِلْجُبْنِ كَثِيرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَقَوْلُهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } . وَقَوْلُهُ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } . وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَمِّ النَّاكِلِينَ عَنْهُ وَالتَّارِكِينَ لَهُ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْجُبْنِ . وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ بَنِي آدَمَ لَا يَتِمُّ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إلَّا بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ : بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ أَبْدَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ ؛ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } . وَبِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلَ [ اللَّهُ ] السَّابِقِينَ فَقَالَ : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وَقَدْ ذَكَرَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِهِ ؛ وَمَدَحَهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالسَّمَاحَةُ فِي طَاعَتِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . وَالشَّجَاعَةُ لَيْسَتْ هِيَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْبَدَنِ ضَعِيفَ الْقَلْبِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ . فَإِنَّ الْقِتَالَ مَدَارُهُ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَصَنْعَتِهِ لِلْقِتَالِ ؛ وَعَلَى قُوَّةِ الْقَلْبِ وَخِبْرَتِهِ بِهِ . وَالْمَحْمُودُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعِلْمِ وَمَعْرِفَةٍ ؛ دُونَ التَّهَوُّرِ الَّذِي لَا يُفَكِّرُ صَاحِبُهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَصْلُحُ . فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ حِينَ غَضَبِهِ فَلَيْسَ بِشُجَاعِ وَلَا شَدِيدٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِمَاعَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ : صَبْرٌ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَصَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَعْظَمَ مِنْ جُرْعَةِ حِلْمٍ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَجُرْعَةِ صَبْرٍ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَهَذَا هُوَ الشُّجَاعُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَالْمُؤْلِمُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْغَضَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْحُزْنَ ؛ وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الْوَجْهُ عِنْدَ الْغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقُدْرَةِ وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الْحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْعَجْزِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : الرَّقُوبُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ بِالرَّقُوبِ ؛ وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ؟ قُلْنَا : الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ فَقَالَ : لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } فَذَكَرَ مَا يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الْغَضَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُصِيبَةِ : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَبِ : { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } . وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ صَبْرِ الْمُصِيبَةِ وَصَبْرِ الْغَضَبِ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ صَبْرِ النِّعْمَةِ [ وَصَبْرِ الْمُصِيبَةِ ] كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . وَقَالَ : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَبِهَذَا وَصَفَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ مَنْ وَصَفَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَفْرَحُونَ إذَا نَالَتْ سُيُوفُهُمْ قَوْمًا وَلَيْسُوا مجازيعا إذَا نِيلُوا وَكَذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي صِفَةِ الْأَنْصَارِ : لَا فَخْرَ إنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرَ وَلَا هَلَعَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ ؛ وَيَغْلِبُ فَلَا يَضْجَرُ . وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُو النَّاسَ عِنْدَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ إلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ بِقُلُوبِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَقَدْ بَكَى لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ فِي النَّزْعِ أَتَبْكِي ؟ أَوَلَمْ تَنْهَ عَنْ الْبُكَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتٌ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شَيْطَانٍ . وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةِ لَطْمِ خُدُودٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَدُعَاءٍ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَصَائِبِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } . وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْحَالِقَةِ وَالصَّالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } . وَقَالَ : { مَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا حُزْنِ الْقَلْبِ ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ - وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ وَقَالَ : مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } . وَاشْتَرَطَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا يَنُحْنَ وَقَالَ : { إنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مَنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } . وَقَالَ فِي الْغَلَبَةِ وَالْمَصَائِبِ وَالْفَرَحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ؛ وَلْيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } . وَقَالَ : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ : { لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْعَدْلِ وَتَرْكِ الْعُدْوَانِ ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَنَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَتَخَتُّمِ الذَّهَبِ ؛ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ وَإِطَالَةِ الثِّيَابِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ فِي النِّعَمِ وَذَمِّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَجَعَلَ فِيهِمْ الْخَسْفَ وَالْمَسْخَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } . وَقَالَ عَنْ قَارُونَ : { إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ مَعَ الصَّبْرِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الشَّهْوَةِ هِيَ جَوَامِعُ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَشْتَهِيهِ : وَبَيْنَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فَهُوَ يَطْلُبُ الْأَوَّلَ بِمَحَبَّتِهِ وَشَهْوَتِهِ وَيَدْفَعُ الثَّانِيَ بِبُغْضِهِ وَنُفْرَتِهِ . وَإِذَا حَصَلَ الْأَوَّلُ أَوْ انْدَفَعَ الثَّانِي أَوْجَبَ لَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا وَإِنْ حَصَلَ الثَّانِي أَوْ انْدَفَعَ الْأَوَّلُ حَصَلَ لَهُ حُزْنٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ عِنْدَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْغَضَبِ وَالنُّفْرَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْفَرَحِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِ ؛ وَعِنْدَ الْمُصِيبَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْجَزَعِ مِنْهَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ الْفَاجِرَيْنِ : الصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الِاعْتِدَاءَ فِي الْفَرَحِ حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ فَرِحًا فَخُورًا ؛ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَعَ . وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يُثِيرُ الْغَضَبَ لِلَّهِ : كَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُقَالُ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْأَشْعَارِ الْمُنْشَدَةِ : فَتِلْكَ لَمْ تَكُنْ بِآلَاتِ وَكَذَلِكَ أَصْوَاتُ الشَّهْوَةِ فِي الْفَرَحِ ؛ فَرَخَّصَ مِنْهَا فِيمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَعَامَّةِ الْأَشْعَارِ الَّتِي تُنْشَدُ بِالْأَصْوَاتِ لِتَحْرِيكِ النُّفُوسِ هِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبِعَةِ وَهِيَ التَّشْبِيبُ ؛ وَأَشْعَارُ الْغَضَبِ وَالْحَمِيَّةِ ؛ وَهِيَ الْحَمَاسَةُ وَالْهِجَاءُ . وَأَشْعَارُ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَاثِي وَأَشْعَارِ النِّعَمِ وَالْفَرَحِ وَهِيَ الْمَدَائِحُ . وَالشُّعَرَاءُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَمْشُوا مَعَ الطَّبْعِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَالْغَاوِي : هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ ؛ وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ . كَمَا أَنَّ الضَّالَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَصْلَحَتَهُ هُوَ خِلَافُ الْمُهْتَدِي قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } . فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَمْدَحُونَ جِنْسَ الشُّجَاعَةِ وَجِنْسَ السَّمَاحَةِ ؛ إذْ كَانَ عَدَمُ هَذَيْنِ مَذْمُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا وُجُودُهُمَا فَبِهِ تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النُّفُوسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لَكِنَّ الْعَاقِبَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمُتَّقِينَ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ فَلَهُمْ عَاجِلَةٌ لَا عَاقِبَةٌ وَالْعَاقِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ وَنَجَاتَهُ بِالسَّفِينَةِ : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . وَالْفُرْقَانُ : أَنْ يَحْمَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَمْدُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ ؛ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَالْخُطَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْقَائِلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْنٌ قَالَ لَهُ : " ذَاكَ اللَّهُ " . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَمِدَ الشَّجَاعَةَ وَالسَّمَاحَةَ فِي سَبِيلِهِ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { أَبِي مُوسَى قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلَ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ؛ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ؛ وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لَهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } فَكُلُّ مَا كَانَ لِأَجْلِ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لِصَاحِبِهِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : مَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْجَنَّةِ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ لَكِنْ لَا بِشَجَاعَةِ وَلَا سَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَا يَعْمَلْ لِلَّهِ وَلَيْسَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَلَا سَمَاحَةٌ ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ . فَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَفْعَالُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُؤْمِنُ عُمُومًا وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ الشَّدِيدَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَدَفْعِ الذُّنُوبِ عَنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْمُقْتَضِي لِلْفِتْنَةِ عِنْدَهُمْ وَيَحْتَاجُونَ أَيْضًا إلَى أَمْرِ غَيْرِهِمْ وَنَهْيِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ مِنْ الصُّعُوبَةِ مَا فِيهِ ؛ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَهُمْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ وَجِهَادِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . وَكَمَا قَالَ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَكَمَا قَالَ : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَكَمَا قَالَ : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .

0000000000000000000

المبتدع لا تقبل له توبة حتى يظهر توبته ويعلن الرجوع عن مقالته

 

نماذج لمن أعلن توبته، وأظهر رجعته عن بدعته أمام الناس، وأشهد على ذلك

أبو الحسن الأشعري

أبو الفداء علي بن عقيل البغدادي

عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

عبد الله بن الحسن العنبري

الابتداع في الدين شره جسيم، وخطره عظيم، وضرره بليغ، وآثاره متعدية، ولهذا فإن البدعة أشأم من المعصية، حيث تصعب التوبة منها والإقلاع عنها في الدنيا، ويكثر وزرها ويثقل حملها في الآخرة، ولهذا جاء في الأثر: "ويل لمن مات وبقيت بدعته بعده، وطوبى لمن مات وماتت بدعته بعده".

من أجل ذلك فقد زيد في شروط توبة المبتدع شرط رابع، وهو أن يظهر توبته، ويعلن رجعته، ويشهد على فعلته، أومقالته، أوعقيدته التي تاب منها، بينما يحرم فعل ذلك على من تاب من معصية، قال تعالى: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا".

ذكِر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من أهل العلم كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: "لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلن أنه قال: كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله تعالى من مقالته ورجع عنها، وإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبل؛ ثم تلا أبو عبد الله: "إلا الذين تابوا.." الآية.

وكان العلماء في الماضي يهجرون من صدرت منه مقالة بدعية ويحملونه حملاً على التراجع منها، ولا يقبلون له توبة إلا إذا أعلنها وأشهد عليها، وهذا الصنيع من أوجب الواجبات على ولاة الأمر من العلماء والحكام، وفي تركهم لذلك خذلان وامتهان وانتقاص للدين وأهله.

نماذج لمن أعلن توبته، وأظهر رجعته عن بدعته أمام الناس، وأشهد على ذلك

1.  أبو الحسن الأشعري

من أوضح النماذج وأجلاها ما فعله الإمامُ أبو الحسن الأشعري رحمه الله عندما عزم على التوبة من بدعة الاعتزال، وقد كان معتقداً له لمدة أربعين سنة.

دخل المسجد وصعد المنبر وقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبوالحسن الأشعري، لقد تخليتُ عن عقيدة الاعتزال كما تخليت عن هذا الثوب؛ وخلع ثوباً كان عليه.

وكذلك فعل ذلك عندما تخلى عن مذهب الأشاعرة الذي ينسب إليه، وقد تخلى عنه، وكتب كتباً منها كتاب "الإبانة في أصول الديانة"، وبيَّن فيه أنه على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأنه تخلى عن العقيدة الأشعرية التي هي خليط بين السنة والكلام.

2.  أبو الفداء علي بن عقيل البغدادي

قال ابن رجب الحنبلي: (.. أن أصحابنا ـ الحنابلة ـ كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده على ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.

ففي سنة إحدى وستين ـ بعد الأربعمائة ـ اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحم على الحلاج وغير ذلك، ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه فاختفى، ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا، ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتباً على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر؛ فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه، وكتب بخطه:

يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحُّم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم، وما كنتُ علقته ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.

وإني علقت مسألة الليل في جملة ذلك، وإن قوماً قالوا: هو أجساد سود؛ وقلت: الصحيح ما سمعته من الشيخ أبو علي، وأنه قال: هو عدم ولا يسمى جسماً ولا شيئاً أصلاً، واعتقدت أنا ذلك، وأنا تائب إلى الله تعالى منهم؛ واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله تعالى منه، و بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحُّم عليهم، فإن ذلك كله حرام، ولا يحل لمسلم فعله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".

وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع سادتي وإخواني ـ حرسهم الله تعالى ـ مصيبين في الإنكار عليّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منهم، وأتحقق أني كنت مخطئاً غير مصيب.

ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم على ذلك غير مجبر، ولا مكره، وباطني وظاهري ـ يعلم الله تعالى ـ في ذلك سواء، "ومن عاد فينتقم الله منه واللهُ عزيز ذو انتقام

وكُتِب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.

وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضر شهد عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء).

3.  عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه، وقال: أول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون).

4.  عبد الله بن الحسن العنبري

قال عنه الشاطبي: (كان من ثقات أهل الحديث، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكي عنه.. حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره.

ثم قال: قال ابن أبي خيثمة: أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال: كان عبد الله بن الحسن بن الحسين العنبري البصري اتهم بأمر عظيم، وروي عنه كلام ردي.

قال بعض المتأخرين: هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب، وقال: إذاً أرجع وأنا من الأصاغر، ولأن أكون ذنباً في الحق، أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل.

فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق، لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه، ولم يتبع عقله، ولا صادم الشرع بنظره، فهو أقرب من مخالفة الهوى ـ ومن ذلك الطريق والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق).

أرجو أن تقارن أخي الكريم بين حالنا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وانقلبت فيه الموازين، واختلت فيه المفاهيم، حيث أصبحت السنة فيه بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وفسِح فيه للرويبضاء، وضيِّق فيه على العلماء، وبين حال سلفنا الصالح، حيث كان الدين معظماً في قلوبهم، والغيرة متقدة في ضمائرهم، ومن ثم بين الزلات التي حوسب عليها هؤلاء العلماء الفضـلاء ورجعـوا عنها رجـوع الأكـابر النبلاء، وبين الكفريات التي نطق بها زنادقة الأدباء،  أمثال سلمان رشدي، ونسرين، ونصر أبي زيد، والبغدادي، ومن لف لفهم لا بارك الله فيهم، وما سوَّد به الورَّاقون ـ الصحفيون ـ الصحف والمجلات والكتب من البدع والضلالات، ولا يزالون ينشرون ذلك عبر وسائل الاتصال المختلفة، المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، حيث لا رقيب، ولا هاجر، ولا محاسب، ولا معاتب، وصدق من قال: "من أمن العقوبة أساء الأدب"، ما كان لهؤلاء السفهاء الجراء أن يقدموا على ما أقدموا عليه لولا أمنهم العقوبة، إنها والله ردة باردة وكفر صريح لا يصلح معه إلا القتل والتنكيل، ولله در العلامة ابن العربي المالكي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه "كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه".

كم من زنديق سبَّ ربنا وشتمه؟ وكم من مرتد انتقص نبياً من الأنبياء؟ وكم من سفيه تطاول على الصحابة الفضلاء؟ وكم من ورَّاق انتقص العلماء؟ ولا يزالون سادرين في غيهم لعدم وجود من يردعهم: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، فقتل المرتدين والزنادقة من أوجب واجبات ولاة الأمر، لأن في ذلك حماية للدين، وزجراً للمستهترين، ونكاية للكافرين، وعظة للمتربصين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنه لو لم يقتل المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص، ويمنعهم من الخروج منه).

وواجب العلماء أن يذكّروا الأمراء بذلك، وأن يحضوهم عليه، وعلى غيره، وإلا فلا تحل لهم مداخلتهم، وقبل ذلك عليهم أن يبينوا ضلال المضلين، وبدع المبتدعين، وأن يحذروا العامة والخاصة منهم، وأن يردوا على هؤلاء السفهاء رداً قوياً لا مداهنة فيه ولا تقية، فمن العيب أن يتجرأ السفهاء ويتوارى ويخجل العلماء، ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل القائل: "إذا سكت الجاهل لجهله، وأمسك العالم تقية، فمتى تقوم لله حجة؟".

فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والعالم الجريء في الحق أحب إلى الله من العالم الضعيف ومتكلف التأويل، والحاكم الذي يغار لدينه أكثر من ملكه وسلطانه أحب إلى الله من الذي يكون همه الأول والأخير المحافظة على كرسيه ولو كان ذلك على حساب دينه.

وإليك مثالاً واحداً يوضح الفرق بين العلماء الجراء وبين متكلفي التأويل والباحثين عن الأعذار المداهنين للمجتمع، حيث لم ينصروا الدين، ولم يكسروا السفهاء المعاندين، بل خذلوا إخوانهم وشمتوا عليهم أعداءهم.

قال القاضي عياض رحمه الله في الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (قد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عَجَب، وكان خرج يوماً فأخذه المطر، فقال: "بدأ الخرَّاز يرش جلوده"، وكان بعض الفقهاء بقرطبة، أبو زيد، وعبد الأعلى بن وهب، وأبان بن عيسى، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد، فقال ابن حبيب: دمه في عنقي، أيشتم رباً عبدناه ثم لا ننتصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء وما نحن له بعابدين! وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكانت عَجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه، وأعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه، وأمر بقتله، فقتل وصلب بحضرة الفقيهَيْن ابن حبيب وأصبغ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القضية، ووبخ بقية الفقهاء وسبهم).

جزى الله هذا الأمير وهذين العالمين عن الإسلام خير الجزاء، وكثر الله من أمثالهم، ورحمهم الله وأمثالهم، (وكل من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين).

والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين

0000000000000000000

أيها المسؤولون عن الجامعات انتبهوا لما يدور في أركان النقاش من الكفريات

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد..

المجادلة والمناظرة لإقناع الآخر، سواء كان مسلماً أوكافراً، جائزة ومشروعة في الإسلام، فقد جادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد إقامة الحجة عليهم: "فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم..".

وجادل الصحابة، والتابعون، والسلف الصالح، ولا يزال أهل العلم يجادلون ويناظرون العلماء، وأهل الأهواء، والكفار على حد سواء.

ويشترط في المناظرة شروط، هي:

1. أن يُبْتغي بها وجه الله، لا الغلبة وحظوظ النفس، ورحم الله الشافعي حين قال: "ما ناظرتُ أحداً إلا وتمنيت أن يجريَ اللهُ الحقَّ على لسانه".

2. أن يقبل منها ما يتبين أنه حق.

3. أن لا يُحاد فيها عن الحق، ولله در القائل:

شكونا إليهم خراب العراق             فعابـوا علينا لحوم البقر

فكانوا كما قيل فيما مضى             أريها السُّها وتريني القمر

4. أن تكون هناك ثوابت وأرضية مشتركة متفق عليها بين المتناظرين.

5. أن لا يتعدى فيها الحدود الشرعية بالنيل والطعن في الله، ورسوله، ودينه.

هذه الشروط إذا انتفى منها شرط تصبح المناظرة عديمة الجدوى، وإذا انتفى الشرط الخامس والأخير حرمت المناظرة على المتناظرين والسامعين، بل قد تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، ولا يحل للمسؤولين السماح بها، وإلا يكونوا في الوزر سواء، قال تعالى: "وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين".

ما نسمعه من بعض ما يدور في تلك الأركان من الكفريات، والضلالات، والتطاول على الدين، وعلى رسل الله وحدوده، ليس له مثيل ولا شبيه إلا ما يقال في حديقة "هايد بارك" بلندن، إذ يجوز للإنسان أن يفرغ ما في جعبته من غير حسيب ولا رقيب، إلا الرقيب العتيد.

حيث ينال في بعضها من الأنبياء وينتقصوا، وما أصاب نوح عليه السلام من أحد أعضاء الجبهة الديمقراطية في أحدها ليس عنا ببعيد، ويُنْكر ما هو معلوم من الدين ضرورة، وتُرَدُّ الأخبار الصحاح، ويتكلم بالكفر الصراح البواح، ثم لا يجد المتكلم بذلك من يقيم عليه الحد إن كفر بمقالته، أويُؤدب ويُعزر من أتى بما دون ذلك، أوحتى أن يُحذر، ويُنذر، ويُلام.

وهذا والله من الظلم العظيم، والخطأ الجسيم، أن يصبح الطعن في الدين، والتشكيك في الثوابت حقاً شائعاً لكل من لم يستح من طلاب كفار، ومشركين، ومنسلخين من الدين.

لابد أن يكون لإدارات الجامعات هذه مشرفون ومراقبون لما يقال، ولابد أن تكون هناك ضوابط لما يقال فيها، وأن تعرض المواضيع التي ستقدم فيها على هذه اللجنة مكتوبة، وأن يُراقب المتحدثون، وكذلك الصحف والملصقات، فهذا من أوجب الواجبات على إدارة هذه الجامعات، وإلا فليعلموا أنهم مسؤولون عن كل ما يدور فيها، وسيحاسبون على ذلك حساباً عسيراً: "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

وطلاب الجامعات مكلفون، وليسوا ممن رفع عنهم القلم، ولا فائدة في علم إن لم يكن مصحوباً بالأدب والسلوك المستقيم، والخلق القويم.

بل فتح المجال للعمل السياسي غير المنضبط من العوائق الرئيسة للتحصيل العلمي، ولم تبذر هذه البذرة الخبيثة في الجامعات إلا عن طريق الشيوعيين لاستغلال الطلاب، وجاراهم في ذلك الإسلاميون، فالكل الآن مسؤول عن هذه الفوضى الفكرية التي سادت كثيراً من الجامعات، وحولتها إلى مستنقعات، وجعلت الحياة فيها جحيماً لا يطاق، وحالت دون استقرار الدراسة والتحصيل فيها.

ينبغي أن يستعاض عن هذه "الاتحادات" بجمعيات خدمية للطلاب، تعترف بها إدارات الجامعات، وتعطيها الصبغة الشرعية، لأن للطلاب مشاكل تحتاج إلى حل، وإلى تعاون الإدارة وهذه الجمعيات الطلابية، وقد آن الأوان للمسؤولين في الجامعات أن يكفوا عن منافقة الطلاب، وعن الاستجابة لمثل هذه الطلبات، وعن الدخول في الموازنات السياسية.

اعلموا أيها الأبناء والبنات أن النطق بالشهادتين، وأداء الصلاة، والصيام، ونحوها لا يعصم من الخروج من الدين.

فالكفر المخرج عن الملة قد يكون بالقول، أوالعمل، أوالاعتقاد، والكفر بالقول والعمل لا يحتاج إلى اعتقاد، فقد يكفر المرء بقوله أوعمله من غير اعتقاد لذلك.

هذا كله مع توفر الشروط، وهي البلوغ والعقل، إذ الصبي والمجنون مرفوع القلم عنهما، وانتفاء الموانع، وهي: الخطأ، والجهل، والإكراه، والتأويل المستساغ، أوالشبهة.

ومن أمثلة الكفر بالقول: سبُّ الدين، أوسبُّ الله، أوأحد الرسل عليهم السلام، أوإنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة، كإنكار الردة وحدِّها، وإنكار رجم المحصن الزاني، ونزول عيسى عليه السلام.

ومن أمثلة الكفر بالعمل: السجود للصنم، والذبح لغير الله، والتحاكم لغير شرع الله.

ومن أمثلة الكفر بالاعتقاد: اعتقاد أن أحداً من الخلق ينفع أويضر، أواعتقاد أن اليهود والنصارى الحاليين مؤمنون، ونحو ذلك.

وإليك بعض أقوال أهل العلم المقتدى بهم في ذلك:

o قال محمد بن سحنون المالكي المتوفى 265ﻫ: (أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر).

o وقال ابن عبد البر المالكي المتوفى 463هـ: (قال إسحاق بن رَاهَوَيْه: أجمع العلماء على أن من سبَّ الله عز وجل، أورسوله صلى الله عليه وسلم، أودفع شيئاً أنزله الله، أوقتل نبياً، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله، أنه كافر).

o وقال ابن شاس المالكي المتوفى 616هـ: (وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، أوبلفظ يقتضيه، أوبفعل يتضمنه).

o وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي المتوفى 620هـ عن المرتد: (يفسد صومُه، وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم في أثناء اليوم أوبعد انقضائه، وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به، أوبشكه فيما يكفر بالشك فيه، أوبالنطق بكلمة الكفر مستهزئاً أوغير مستهزئ، قال الله تعالى: "ولئن سألتهم ليقولنَّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".

إلى أن قال: ومن سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحاً أوجاداً).

o وقال الإمام النووي الشافعي المتوفى 676هـ في روضة الطالبينعن الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم، أوللشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، ونحوها، والسحر الذي فيه عبادة الشمس.

وقال منكراً لمن زعم أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً: وهذا زلل عظيم من المعلق، ذكرته للتنبيه على خطئه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد، أوعناد، أواستهزاء).

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

00000000000000000000000

الإسلام والعلم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فإن الفكر الغربي يعيش معركة قوية عارمة بين الدين والعلم فلا يمكن لمفكر غربي أن يتقبل أن يكون هناك لقاء بين الدين والعلم ذلك لأن التوراة المقدسة عند النصارى تقول: إن الشجرة التي منع آدم من أكلها هي شجرة المعرفة. فإنه بعد أن أكل منها ازداد بصيرة، لذلك أخذت أوروبا تتحاور مدة قرنين من الزمان، هل تقبل هذه العلوم الكونية القادمة من بلاد المسلمين أم تردها على المسلمين لأن القسس حكموا على هذه العلوم والمعارف بأنها المعصية الأولى واستدلوا بأن التوراة تقول بأن آدم عندما أكل من هذه الشجرة ازداد بصيرة وغضب الله عليه وطرده من رحمته، لذلك رفضوا هذه العلوم جملة وتفصيلاً وصادروا هذا العلم من أساسه فلما انتصر قادة العلم على رجال الكنيسة انتقموا بحركة في اتجاه معاكس فأرادوا أن يصادروا الدين من أساسه وفعلوا ذلك واعتسفوا أي شيء من أجل أن ينجحوا في معركتهم حتى نجحوا في حصر الكنيسة في أضيق دائرة لها. ولذلك عندما تتكلم مع غربي عن الدين والعلم يعجب يقول: ماذا تقول؟ إنهم لا يعرفون الإسلام، لا يعرفون أن الإسلام كرم العلم والعلماء وجعل العلماء هم الشهود على أن لا إله إلا الله بعد الملائكة كما جاء في قوله تعالى:﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم﴾ (سورة آل عمران، الآية:18).وكما قال تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ (سورة محمد، الآية:19).ولايعلمون أن الصفة التي كرم الله آدم بها على الملائكة هي صفة العلم وأن القصة عندنا في القرآن تعاكس الذي جاء عندهم في التوراة بعد أن حرفوا قول الله جل وعلا. إن العلم هو سبب تكريم آدم لا سبب طرده هذا ما يقرره القرآن ولذلك إذا حدثتهم عن الإسلام والعلم ظنوا أنك تحدثهم عن أمر مشابه لما في دينهم وعن موقف مشابه لدينهم وللعلم ولكنهم يفاجؤون بعد ذلك إذا وجدوا الحقائق جلية واضحة.

من هؤلاء الذين فوجئوا بهذا: البروفيسور جولي سمسون وهو أستاذ أمراض النساء والولادة في جامعة نورث وستون في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية. التقينا به وكان في شك أول الأمر يريد أن يتأكد هل هذه نصوص القرآن؟ هل هذه نصوص السنة؟ فلما اطمأنت نفسه ورأى النصوص المتعلقة بالوراثة والتي تحدث في المراحل الأولى في الجنين عندما يكون نطفة، وعرف دقة الأوصاف وكيف أن القرآن يقرر أن الإنسان يخلق بعد أن تجمع النطفتان فيتقرر خلق الإنسان، وبعد ذلك يقرر البرنامج الوراثي في هذه الكروموزومات التي نشاهدها الآن. هذه الكروموزومات فيها تفاصيل الإنسان الذي يولد لون العينين، لون الجلد، لون الشعر، كثير من تفاصيل الإنسان مقررة هنا، فالإنسان في هذه الكروموزمات مقدر، وهذه الكروموزمات في مرحلة النطفة، إذاً فهذا الإنسان يقدر وهو في مرحلة النطفة.قال تعالى: ﴿قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره﴾ (سورة عبس، الآية:17-19).والجنين قبل أربعين يوماً خلال الأربعين يوماً الأولى- تجمع جميع أجهزته، فتكون جميع الأجهزة قد ظهرت، وإن كانت تظهر تباعاً.بدأت الأجهزة تتخلق وتجمع، والجنين يكون منحنياً على نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً" تعرض البروفيسور جولي سممسون لهذا الحديث والحديث الآخر: "إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها" وأخذ يقارن بين الحديثين والحد الفاصل بينهما وبعد أن رأى هذه الدقائق والتفاصيل وقف في أحد المؤتمرات يعلن رأيه حول هذا الموضوع فقال:البروفيسور جولي سمسون: من هذين الحديثين يمكننا استخلاص جدول محدود حول التطور الرئيسي للجنين قبل أربعين يوماً. ومرة أخرى تكررت هذه النقطة من قبل.

الشيخ الزنداني: إنه يقول: إن بإمكان الدين أن يقود العلم قيادة ناجحة انظروا هناك الدين ضد العلم، وهنا هذا البروفيسور الأمريكي يقول: يمكن للدين أي الإسلام- أن يقود العلم قيادة ناجحة. نعم، أنت إذا دخلت مصنعاً من المصانع ولديك إرشادات في الكتالوج فإنك ستتعرف على المصنع بسهولة لأن معك إرشادات من الصانع أما الذي يدخل وهو لا يعلم لا يتعرف بسهولة. إلى علماء المسلمين نسوق هذه الكلمات للبروفيسور جولي سمسون.

البروفيسور جولي سمسون: وعليه أعتقد أنه لا يوجد خلاف بين المعرفة العلمية وبين الوحي بل إن الوحي ليدعم أساليب الكشف العلمية التقليدية المعروفة حينئذٍ. وجاء القرآن قبل عدة قرون مؤيداً لما تطرقنا إليه مما يدل على أن القرآن هو كلام الله.الشيخ الزنداني: نعم، وأقول: يمكن للمسلمين أن يقودوا الحركة العلمية، وأن ينزلوا العلم منزلته الصحيحة، وأن يضعوه في موضعه دليلاً على الإيمان بالله سبحانه وتعالى ومصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وصدق الله القائل: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق* أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد﴾ (سورة فصلت، الآية:53).

﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد﴾ (سورة سبأ الآية:6

000000000000

فاعلم أنه لا إله إلا الله

 

الحمد وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

العلم قائد ودليل، والعمل تبع له: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"، وأساس العلم الإخلاص والمتابعة: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين"، "إنما الأعمال بالنيات"، "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ".

واعلم أخي الحبيب أن العلم دين، فانظر ممن تأخذ دينك وتتلقاه، لأن حاجة المرء للأدب والسلوك لا تقل عن حاجته إلى العلم والمعرفة، ولا يتأتى ذلك إلا بمجالسة العلماء الحكماء، فالعلماء كثير، والحكماء قليل، ومزاحمتهم بالركب، وصدق من قال:

أيهــا الطالب  علماً             ائتِ حمـاد بن زيد

فاقتبس علمـاً وحكماً             ثم قيــده بقيــد

وقال ابن وهب تلميذ مالك رحمه الله: ما تعلمته من أدب مالك أكثر مما تعلمته من علمه.

واحذر التعامل مع الكتب مباشرة دون حصولك على مفاتح العلم بقراءة بعض الكتب على بعض المشايخ، وقد حذرنا سلفنا الصالح من ذلك، ورحم الله القائل:

يظن الغمر أن الكتب تهدي          أخا فهم لإدراك العلـــوم

وما يدري الجهول بأن فيها          غوامض حيرت عقل الفهيـم

إذا رمتَ العلوم بغير شيخ           ضللتَ عن الصراط المستقيم

وعليك أن تتدرج في تلقي العلم، بأن تبدأ بصغاره قبل كباره، واعلم أن العلم نور، ونور الله لا يؤتى لعاصٍ، قال الشافعي رحمه الله:

شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي         فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بـأن العلــم نور          ونور الله لا يؤتى لعــاص

وثمرة العلم العمل والدعوة إلى الله: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، صدق الله العظيم.

000000000000000000

فاعلم انه لا إله إلا الله

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه  وعظيم سلطانه ، وأشكره على آلائه وأستغفره وهو الغفور الرحيم من خطئي وزللي  وأعوذ بوجهه الكريم من شرور نفسي وسيئات عملي

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد .

فإن أصل هذه الرسالة محاضرة ألقيت بنفس العنوان  " فاعلم أنه لا إله إلا الله "  ضمن الدروس القرآنية العامة التي كنت ألقيها في جامع الراجحي بالربوة في مدينة الرياض ، وقد رأى بعض الإخوة طباعتها ليعم النفع بها ، وقام مشكوراً بتفريغها من الشريط فأجبته إلى ذلك وأعدت مراجعتها وعدلت فيها ما يحتاج التعديل ، لتصبح صالحة للنشر ، فلغة المحاضرة تختلف عن لغة الكتاب ، ومع ذلك سيبقى فيها ما يحتاج لإعادة النظر ، لأن النقص من صفات البشر ن وقد كنت أود أن أكتب لها مقدمة ضافية تليق بأهمية الموضوع إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك ، وعسى أن يسر الله عز وجل وهو الكريم المنان كتابة المقدمة المأمولة في طبعة قادمة إن شاء الله تعالى ، وكم لله تعالى على عباده من أفضال عظيمة وآلاء جسيمة ، ييسر لهم الأمور ويحقق لهم المنى وذلك على الله يسير .

وقد قام أخونا الفاضل / نايف بن حبيب آل عر يعر بتخريج أحاديثها ، ومتابعة مراحل طباعتها فله جزيل الشكر وفقنا الله  وإياه لطاعته وغفر لنا الذنوب وستر العيوب وجمعنا ومن نحب في دار كرامته إنه قريب مجيب ، والله تعالى الموفق والمعين .

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .

كتبه  د / بشر بن فهد البشر / عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام

ص . ب . 744  الرياض 11643

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

أما بعد:

فإن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا لعبادته قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56)

فعبادة الله تعالى هي الأساس والحكمة والغاية التي خلقت من أجلها الخليقة.

ولذلك كانت كلمة التوحيد ، كلمة (لا إله إلا الله "  التي تدل على عبادة الله وحده هي أساس دعوة الرسل وهي أصل الأديان التي أنزلها الله عز وجل على عباده .

فهي أصل الإسلام ، وأساسه ، وهي التي دعت إليها الرسل جميعهم عليهم الصلاة والسلام ومن أجلها خلق الله عز وجل الجنة والنار .

ولذا كان مما يجب  على المسلم أن يعلم معنى هذه الكلمة العظيمة ويعمل بمقتضاها ليكون من الناجين عند الله تبارك وتعالى ولذا قال الله لنبيه  صلى الله عليه وسلم  : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)) (محمد:19) .

فالعلم بـ "  لا إله إلا الله "  وبما دلت عليه ، وبحقيقة معناها ضرورة من ضرورات الحياة لا يمكن أن يعيش الإنسان سعيداً هنيئاً بدونها ،  ولا يمكن أن يكون فائزاً في أخراه بدونها .

ومعرفة  لا إله إلا الله تكون للاعتقاد ، وتكون للعمل ، لا لأحدهما دون الآخر ، وقد كان العرب في جاليتهم  يعرفون معنى كلمة التوحيد ، فبعضهم علم بها وقبلها ، وعمل بمقتضاها فكان من السابقين السعداء .

وبعضهم علم معناها ولكنه أبى الانقياد لها وقبولها فكان من الأشقياء .

فإنهم لما جاءهم النبي  صلى الله عليه وسلم   وطلب منهم أن يقولوا كلمة واحدة تدين لهم العرب يعني تطيع  -  ويملكون بها العجم قالوا له :  نعطيك عشر كلمات فقال عليه  الصلاة والسلام : (( قولوا لا إله إلا الله )) فقالوا (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5) .

فعلموا المعنى ، وعرفوا أنهم إذا قالوا " لا إله إلا الله " تغيرت حياتهم ، وانتقلوا من حياة إلى حياة وانقطعت صلتهم انقطاعاً تاماً في الاعتقادات والتعبدات بطريقتهم الأولى ،  ولما فسد السليقة ، وتغيرت المعرفة بلغة العرب جهل المسلمون معنى كلمة التوحيد ، جهلوا معنى " لا إله إلا الله " فأصبح كثيرون ينطقونها ولكنهم في واقع الأمر ينقضونها .

إذاً لا بد من شرح معنى هذه الكلمة ،  ولا بد من بيان ما دلت عليه ، ولا بد  من بيان نواقضها حتى يكون  المسلم على بصيرة من دينه خاصة في هذا  الوقت الذي تكالبت فيه الأمم على أمة الإسلام فكان لزاماً على أمة محمد  صلى الله عليه وسلم  أن تعيد النظر في نفسها ، وفي الخلل الذي أضر بها ، وهذا الخلل معظمه من الداخل وأقله من الخارج.

إن أصل الإسلام يقوم على الشهادتين :

شهادة " أن لا إله إلا الله "  وشهادة " أن محمداً رسول الله " .

فشهادة أن لا إله إلا الله معناها : توحيد المعبود ، وشهادة أن محمداً رسول معناها : توحيد المتبوع عليه  الصلاة والسلام -  وسنتكلم عن الأولى شهادة "  أن لا إله  إلا الله " ، فمن شهد أن لا إله إلا الله وعلم معناها وعمل بمقتضاها فإنه تلقائياً يشهد أن محمداً رسول الله .

إن معنى كلمة  " شهادة " في لغة العرب : الخبر القاطع الصادر عن علم ويقين . فتضمنت كلمة الشهادة أمرين :

الأول : علم ويقين ، وهذا يكون في القلب .

الثاني : إخبار وإعلام ، وهذا نطق باللسان ، وهو القول .

وإذا تبين معنى كلمة شهادة  فإن كلمة لا إله إلا الله تعنى أنه لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى.  فالإله : مأخوذ من أله يأله ومعنى أله في اللغة :عَبَدَ.

فالإله : هو المعبود المطاع الذي تألهه القلوب ، أي تتجه له وتقصده وتخضع له وتذل له وتتعلق به خشية وإنابة ومحبة وخوفاً وتوكلاً عليه وإخلاصاً له تبارك وتعالى .

فـ " لا إله إلا الله " معناها : لا معبود بحق إلا الله .

وقولنا : " بحق " لنخرج من عُبِدَ بالباطل، وهم كل من صرف له نوع من أنواع العبادة من دون الله تعالى ، وهم كثير من الأصنام ومن الصالحين ومن غيرهم .

فالله تعالى هو المستحق للعبادة وحده ، وكل من عبد سواه فالباطل  فلا حق في الألوهية لمخلوق ، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل .

(( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) (الحج:62) .

وهذه الكلمة تشتمل على ركنين :

نفي وإثبات .

فالنفي هو قولنا " لا إله " والإثبات هو قولنا " إلا الله "  .

فـ  " لا إله " نفي جميع ما يعبد من دون الله تعالى ،  " وإلا الله "  : إثبات جميع أنواع العبادة لله رب العالمين وحده لا شريك له في عبادته ، كما لا شريك له في ملكه ، وربوبيته ، ففيها إذن براءة من كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى ، وفيها تحقيق العبودية لله وحده .

وقد جاء معنى الكلمة العظيمة في آيات كثيرة من كتاب الله قال تعالى : (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (النحل:36) .

فقوله تعالى : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله " إلا الله "  وقوله : (( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) هو معنى قوله " لا إله " .

وقال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء:25) .

وقال تعالى (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة: من الآية256)

فقوله جل وعلا " (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) هو معنى قوله : " لا إله "  ومعنى قوله : (( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) هو معنى : " إلا الله " فهي إذا تفيد نفس معنى لا إله إلا الله

وكذلك قال تعالى : (( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر:17، 18) .

وقال تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (البينة:5) .

ومعنى قوله : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله : " لا إله إلا الله " لأن معنى قوله (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا)) هو حصر للعبودية لتكون حقاً خالصاً لله رب العالمين ، وأكد ذلك قوله : (( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)) .

ومعنى حنفاء : مائلين عن الشرك إلى التوحيد .

وإن كل رسول أرسله الله عز وجل منذ أن أرسل نوحاً إلى أن أرسل خاتمهم محمداً  صلى الله عليه وسلم  يقول لقومه : (( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) (هود: من الآية50) .

فهي أول ما تدعو إليه الرسل أقوامهم ، وإن كانت دعوات الرسل تشتمل أيضاً على بقية الاعتقادات والعبادات وغيرها ، ولذلك نجد أن شعيباً- عليه السلام- يدعو إلى عبادة الله وحده ، ثم بعد ذلك ينهاهم عن التطفيف في المكيان والميزان

وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام دعوتهم لإخلاص العبودية لله وحده ولأخذ الأوامر والنواهي من الله رب العالمين .

وقد اشتملت كلمة التوحيد على أنواع التوحيد كلها .

* على توحيد الألوهية .

* وتوحيد الربوبية .

* وتوحيد الأسماء والصفات .

فتوحيد الألوهية مطابقة ، أي اشتملت عليه مطابقة . ودلالة المطابقة معناها : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له في لغة العرب .

واشتملت على توحيد الربوبية والأسماء والصفات تضمناً ، ودلالة التضمين معناها : دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة الإنسان على بعض أعضائه .

فتوحيد الألوهية ويقال له : توحيد العبادة هو توحيد الله تبارك وتعالى بأفعال عباده أي أن العباد يفرون ربهم تبارك وتعالى بكل أنواع العبادة ويخلصون له فيها جل وعلا ، فلا يشركون معه غيره .

فالعبادة حق خالص لله تعالى لا حظ فيها لأحد لا من الملائكة المقربين ولا من الأنبياء المرسلين ولا من الأولياء الصالحين ولا من غيرهم .

والعبادة باعتبار ما أمر الله به : اسم جامع لكل ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، فشملت إذاً كل أمور الحياة ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه  صلى الله عليه وسلم  : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (الأنعام:162) .

فالحياة كلها ثم ما بعدها كلها لله تبارك وتعالى يجب أن يكون المسلم سائراً فيها مخلصاً لربه سبحانه

أما توحيد الربوبية فهو توحيد الله بأفعاله سبحانه من الملك والخلق والتدبير ،  وهذا النوع كان يقر به المشركون الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام ، بخلاف توحيد الألوهية فإن توحيد الألوهية لم يكونوا يقرون به كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .

ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) (الزخرف: من الآية87) .

(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )) (الزخرف:9) .

فأخبرنا الله عز وجل أن المشركين في زمان النبي  صلى الله عليه وسلم  كانوا يعترفون بربوبيته سبحانه  ، ولكنهم كانوا مختلفين في الألوهية يعني في إفراد الله سبحانه بأنواع العبادات كلها .

أما توحيد الأسماء والصفات فهو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله  صلى الله عليه وسلم  من الأسماء الحسنى والصفات العلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تبارك وتعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (الشورى:11) .

فضائل كلمة التوحيد :

إن هذه الكلمة ، كلمة التوحيد لها فضائل عظمى ، جمع زُبَد هذه الفضائل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تعليقه على كتاب التوحيد ، وأنقل لكم بعض ما قاله ملخصاً قال رحمه الله عن التوحيد : " وما قاله عن التوحيد ينطبق على كلمة التوحيد " إن التوحيد هو الفرض الأعظم على جميع العبيد ، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والفضائل المتنوعة كالتوحيد ، فإن خيري الدنيا والآخرة من ثمرا ت التوحيد وفضائله ، ثم قال رحمه الله - : إن مغفرة الذنوب وتكفيرها من بعض فضائله وآثاره ، قال : ومن فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما .

ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل ، وإذا كمل التوحيد في القلب فإنه يمنع دخول النار نهائياً .

ومنها أن صاحبه يحصل على الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومن فضائله : أن أسعد الناس بشفاعة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  (( من قال  لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) .

ومنها : أن جميع الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة  والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد ، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله  جل وعلا كملت هذه الأمور وتمت .

ومنها : أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات ويسليه عن المصائب ، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثوابها ، ويهون عليه ترك المعاصي لما يخشى من سخط الله وعقابه .

ومنها : أن  التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام ،  فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يكون تلقيه للمكارة والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضي بأقدار الله المؤلمة .

ومن أعظم فضائله : أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم ، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي ، ويكون مع ذلك متألهاً لله ، متعبداً له سبحانه لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه ، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه .

ومنها: أنه إذا كمل في القلب بالإخلاص التام  فإن يُصير القليل من العمل كثيراً وتضاعف الأعمال والأقوال بغير حصر ولا حساب .

ومنها : أن الله جل وعلا تكفل لأهل التوحيد بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال .

ومنها: أن الله جل وعلا يدافع عن الموحدين ، أهل الإيمان يدافع عنهم شرور الدنيا والآخرة ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره  ، ثم قال في ختام كلامه : وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة .

بعض ما اشتملت عليه كلمة التوحيد :

وكما اشتملت كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " على كل أنواع التوحيد فليعلم أيضاً أنها قد نفت كل شرك قليلاً كان أو كثيراً ، جلياً كان أو خفياً ، وأوجبت الكفر بما يعبد من دون الله تعالى ، فلا يتم الإيمان ولا يكون أصلاً إلا بذلك ، قال تعالى : (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (البقرة: من الآية256) .  ثم إن كلمة " لا إله إلا الله "  قد اشتملت على أمر عظيم وهام يجب أن يتفطن له المسلمون خاصة في هذا العصر، فقد اشتملت على أن التشريع والحاكمية حق لله تبارك وتعالى ، وهذا داخل  في أنواع التوحيد الثلاثة ، فدخوله في توحيد الألوهية من حيث أن الله تعالى هو المعبود المطاع، والمعبود هو الذي يأمر وينهى ، ولذا قال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56) .

قالوا : أي  إلا لآمرهم  وأنهاهم ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى .

ودخوله في الربوبية أن التشريع والحكم من أفعال الله جل وعلا ومن تدبيره لخلقه سبحانه فهو المتفرد بذلك ولذا جعل الله عز وجل من اتخذ مشروعاً غيره مشركاً .

قال سبحانه : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )) (الشورى: من الآية21) وقال سبحانه : (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام:121) وقال تعالى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (التوبة: من الآية31) .

وهذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين أطاعوا رهبانهم وأحبارهم ، يعني علماءهم في تحليل ما حرم الله وفي تحريم ما أحل الله ، فجعلهم الله عز وجل متخذين أرباباً من دون الله (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة: من الآية31) .

ومن فعل مثل فعلهم كان حكمه حكمهم .

وأما دخوله في توحيد الأسماء والصفات فإن من أسماء الله سبحانه الملك ومن أسمائه الحكم ، فله سبحانه الملك وإليه الحكم ولذلك غير النبي  صلى الله عليه وسلم  كنية رجل تكنى بأبي الحكم وسماه بأبي شريح معللا ً ذلك بأن الله هو الحكم وإليه الحكم 1 وقد قال الله تبارك وتعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )) (الشورى: من الآية10) .

وقال سبحانه (( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (القصص: من الآية88) .

وقال تعالى (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )) (يوسف: من الآية40) وقال تعالى : (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية26) .

وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة عند ما نتحدث عن بعض نواقض كلمة التوحيد إن شاء الله .

من لوازم كلمة التوحيد :

ثم إن كلمة التوحيد قد استلزمت موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله تبارك وتعالى ، استلزمت محبة المؤمنين وبغض الكافرين ، وهذا أصل من أصول الإيمان ، بل قال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه وتعالى ما ذكر بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده وهو الشرك في القرآن الكريم أكثر من النهي عن موالاة الكفار ، لذا فإن من والى الكافرين قد وقع في خطر عظيم يوشك أن يصل إلى حد التولّي ، أي تولي الكفار فينقض توحيده نسأل الله السلامة أما الموالاة التي لا تصل إلى حد التولّي فإنها معصية عظمى تنقص التوحيد لكنها لا تصل إلى حد نقضه ،  وقد حثنا الله على موالاة المؤمنين ، قال تعالى : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ )) (التوبة: من الآية71)

وحذرنا ربنا جل وعلا من موالاة الكافرين فقال سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة: من الآية1) .

فبين  الله عز وجل سبب عداوتهم ، وهو أنهم  كفروا بما جاءنا من الحق ، ومن ذلك كفرهم بـ " لا إله إلا الله " فلما كفروا بها وجبت عداوتهم ووجب بغضهم ووجبت مفاصلتهم وحرم على المسلمين أن يوالوهم أو يلقوا إليهم بنوع من المودة والمحبة .

وعلى ضوء ما سبق يتبين لنا أن كل الطاعات بل كل دين الإسلام هو من مقتضى كلمة التوحيد ، كلمة لا إله الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله  فهي كلمة شملت جميع الحياة ، فهي منهاج متكامل ، فإنها تبين لنا الطريق الحق في العمل وتبين لنا الطريق الحق في الاقتصاد ، وفي السياسة ، والإعلام ، وفي التعليم والتربية ، فكل أمر من أمور الحياة فهو داخل تحت كلمة " لا إله إلا الله " فهو من مدلولها ومن معناها ، ولذا فإن من قال : إن هناك أموراً من أمور الحياة خارجة عن مقتضى لا إله إلا الله خارجة عن الإسلام لا يحكمها شرع الله تبارك وتعالى يكون قوله هذا كفراً بالله جل وعلا ، لأنه مكذوب لله ورسوله .

فمن قال : إنه لا في السياسة ولا سياسة في الدين كان منقضاً لكلمة لا إله إلا الله ، وما أحسن ما قال الشيخ / عبد الرحمن الدوسري رحمه الله - : إن كلمة لا إله إلا الله كلها سياسة من لامها إلا هائها ، وقد سئل رحمه الله -  أو سأل نفسه في كتيب له : أسئلة وأجوبة في أمور العقيدة  في المهمات فقال : كيف لنا بمن يقول الدين علاقة بين العبد وربه فقط لا شأن له في السياسة والحكم ؟

قال الشيخ رحمه الله هذه خطة انتهجها الثائرون على الكنيسة في أوروبا التي ليس لها ثروة تشريعية وافية بأساليب الحكم السياسية حسب التطوير الصحيح ، فانتهج هذه الخطة تلاميذ الإفرنج من أبنائنا وعملوا على تطبيقها في بلاد المسلمين وفرضها عليهم بتلقين قوي من أساتذتهم وتأييد استعماري  يحظى به العملاء والمغرضون الذين يريدون الحكم على أشلاء الإسلام وعل حساب أهله ، وقد أراحوا المستعمرين والمبشرين بتطبيق هذه الخطة التي أبعدوا فيها حكم الله وأزاحوا المسلمين عن تعاليم شريعتهم وآدابها، وصبغوهم بصبغة إفرنجية في تقاليدهم وعقائدهم وأخلاقهم وملابسهم حتى حولوهم بهذه الخطة وتحت شعاراتها المختلفة إلى نوع من الخلق لا يصلح شرقياً ولا غربياً ، ومع أن هذه في حق الإسلام والمسلمين فرية عظيمة وخطة أثيمة فهي في الحقيقة حجة على أولئك دامغة لرؤوسهم ، مرغمة لأنوفهم ، لأن علاقة العبد بربه يجب أن تكون عامة في كل شيء ، بحيث لا يمشي إلا على وفق شريعته ، ولا يحكم إلا بكتابه وسنة نبيه ، ولا يتحرك إلا لمرضاته واجتناب سخطه ، ولا يحب ولا يبغض إلا من أجله ،  لا لنفع أو من أجل عشيرة أو وطن ، أو قرابة أو مال ، ولا يوالي أو يعادي إلا في الله ، ومن أجل إعلاء كلمة الله لا لغرض آخر ، فلا يوالي أعداءه أو يعادي أحبابه لحاجة في نفسه ، أو لأجل شيء مما تقدم ، ولا يخطط لنظام الحكم أو ينفذه ، مستنداً على تلك القواعد الانتهازية ضارباً بكتاب الله  وتوحيده وشريعته، عرض الحائط ، فإن هو فعل ذلك لم يحسن علاقته بربه بل قطعها ، وكان في قوله أفاكاً أثيماً ، لأن الله تعالى لا يرضى من عبده  أن يحكم بغير شريعته أو يتخلى عن دعوة الإسلام، والدفاع عن جميع قضايا المسلمين ولا أن يوالي النصارى بحجة وطنية أو قومية عصبية جلبها من أوروبا وطرح بها ملة إبراهيم عليه السلام كما لا يرضى من عبده أن يعيش بإيمان أعزل أمام كفر وإلحاد مسلح ، بل يوجب عليه تحقيق الصدق معه والإخلاص له ، وأن يستعد لأعداء الله بجميع المستطاع من حول وقوة مهما تنوعت وتطورت ، يقمعهم كي لا يغلبوا ويتحكموا في مصيره ، وكذلك يوجب عليه أن يكون غيوراً على حرماته حافظاً لحدوده ناصراً لدينه دافعاً له إلى الأمام ، لا يقتصر في عبادته على نوع دون نوع ، ولا يقصر بالغزو في نشر الحق فيغزوه أعداء الله بالباطل ، فإن لم يفعل هكذا لم يحسن علاقته بربه وكان خواناً أثيماً إذ إن علاقته بربه عامة في جميع الشؤون الحربية والسلمية والاقتصادية والاجتماعية ، وسائر السلوك في المسجد والدائرة والمصنع على السواء .

ثم سأل نفسه قائلاً : ما الدليل على ذلك شرعاً وعقلاً ؟

( وطريقة السؤال والجواب تسهل على الطلبة المبتدئين .)

أجاب رحمه الله قائلاً : الأدلة الشرعية كثيرة متواترة منها : أن الله تعالى أوجب عبادته على العموم ، ومعاني العبادة ولوازمها كثيرة عظيمة لا يجوز لأحد الترخص منها إلا بدليل شرعي ، وجميع النواحي الدينية الدنيوية التي أوجبها الله على خلقه في القرآن أو ندب إليها وحض عليها أناطها بالأمر بالتقوى والتزام حدوده حتى في المواريث والديون ، قال تعالى : (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )) (النساء: من الآية13) وقال :(( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)) (البقرة: من الآية282) وقال تعالى في تزويج النساء وعشرتهن وطلاقهن :        (( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ )) (البقرة: من الآية223) .

وقال: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )) (البقرة: من الآية235) .

وقال تعالى : (( مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)) (البقرة: من الآية241) وقال : (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)) (البقرة: من الآية229) .

وفي الصدقات قال : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) (الليل:5)

وفي الأمور السياسية قال:  (( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) (المائدة: من الآية87) (( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات: من الآية9) (( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)) (النساء: من الآية135) (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ )) (المائدة: من الآية8) .

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)) (النساء: من الآية71) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)) (آل عمران: من الآية118) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة: من الآية1) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) (الممتحنة: من الآية13) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )) (المائدة: من الآية51)

ثم قال : والآيات في الأمور السياسية كثيرة متنوعة ، وفي في الشؤون الحربية لنصرة العقيدة وإقامة سلطان الله وإعلاء كلمته في الأرض ، يقول الله تبارك وتعالى : (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:244)

(( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ )) (النساء: من الآية95) (( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) (النساء:76)

إلى أن قال الشيخ قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)) ( الصف: من الآية14) (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد: من الآية7) إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى .

ثم قال رحمه الله تعالى فأي دين يأمر بالقوة ويجمع بين الحرب والعبادة في آن واحد غير دين المسلمين حتى قال لهم الله محذرا: (( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً )) (النساء: من الآية102) إلى أن قال : (( وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً )) (النساء: من الآية102)

وفي الولاء والمحالفة نهي عباده عن أن يتخذوا من دونه ومن دون إخوانهم المؤمنين وليجة من القوم الآخرين ، وفي المعاملات قال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا)) (المائدة: من الآية1) (( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء:183) (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) (المطففين:1)

(( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)) (البقرة: من الآية282) .

إلى أن قال : وغير ذلك من الشؤون الاجتماعية كثير ، وفي سورة النور والحجرات آيات واضحة لا نطيل بها المقام .

وفي الأحاديث النبوية بحور زاجرة من ذلك ، وملاك ما تقدم قوله تعالى : (( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14)

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102)

وكأنه يشير إلى أن كل ما مر داخل في الدين الذي يجب أن نخلصه لله تبارك وتعالى ، هذا وللعلامة الشيخ / محمد الشنقيطي رحمه الله محاضرة عن كمال الشريعة طبعت في كتيب بين فيها الأدلة على أن الشريعة شاملة كل الأمور من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم وغيرذلك .

المعاصي تنقص التوحيد :

هذا وليعلم أن كل مخالفة وكل معصية تقع من العبد عامداً فإنها تنقص التوحيد وتضعفه ، ما لم يتب منها ، وهذا يفسر لنا كثيراً من المخالفات ومن قلة الانتفاع بالمواعظ والعلم وذلك أن التوحيد قد ضعف في القلب ، فإذا ضعف التوحيد في القلب أصبح الإنسان جريئاً على مخالفة أمر الله تعالى وعلى فعل ما نهى الله عز وجل عنه .

نواقض كلمة التوحيد :

ثم ليعلم المسلم أن كملة التوحيد لها نواقض تبطل إسلام من  فعلها ، فلا ينتفع بنطقه وقوله لكلمة التوحيد ولو أكثر من ذلك ما دام ينقضها بأفعاله، وهذا كالشخص الذي يريد أن يصلي ويتوضأ، ثم بعد ذلك يحدث ، فإن وضوءه لا يفيد ، بل عليه أن يتوضأ مرة أخرى، ومن أهم نواقض " كلمة لا إله إلا الله " الشرك الأكبر بالله جل وعلا بكل أنواعه، فالشرك بالله سبحانه بدعاء الأموت والغائبين والاستنجاد بهم وطلب ما لا يقدر عليه إلا رب العباد سبحانه وتعالى شرك بالله سبحانه وتعالى ، وكذلك الذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها تبركاً وتقرباً إليهم كل ذلك من باب الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام نسأل الله السلامة والعافية وكذلك اتخاذ الوسائط بين الله وبين عباده ومعنى الوسائط هنا أن يدعو الإنسان شخصاً ويطلب أن يشفع له عند الله من الأموات أو من الغائبين ، فإن ذلك شرك بالله عز وجل ، وهذا هو شرك أهل الجاهلية ، شرك أبي جهل ، وأبي لهب الذين قالوا : (( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) ما عبدوا هم لأنهم خلقوا ولا لأنهم رزقوا ولكن عبدوهم من أجل أنهم يزعمون أنهم يشفعون لهم ويقربونهم عند الله (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) (( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) (يونس: من الآية18) .

ولذلك فإن من دعا ميتاً أو غائباً أو طلب منه أن يشفع عند الله ففعله من الشرك الأكبر ، لأن معنى ذلك أنه يعلم بدعاء الشخص ويسمعه ، ويستجيب له ، ويقدر على نفعه أو دفع ضره فأعطاه ما هو خاص بالرب تبارك وتعالى .

ومن نواقضها أيضاً : النفاق الاعتقادي أعاذنا الله منه -  وقد بين بعض أهل العلم بعض أنواع النفاق ، فمن أنواع النفاق الاعتقادي كما بين ذلك شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بغض النبي  صلى الله عليه وسلم  أو بغض بعض ما جاء به ، ومن النفاق الاعتقادي أيضاً السرور بانخفاض الإسلام والفرح بذلك ، والحزن إذا انتصر الإسلام وارتفع ، وهذا يبين لنا كثرة النفاق الاعتقادي في عصرنا ، فنرى حينما يهزم أو يتخلف الإسلام في مكان ما كثيراً من المجلات والصحف التي تصدر في أوربا فرحة ، وإذا انتصر الإسلام وارتفع يظهر منها ويبين أنها قد حزنت وانكسرت لما حصل فهذا هو النفاق الاعتقادي أعاذنا الله منه قال الله تعالى لنبيه  صلى الله عليه وسلم  (( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)) (التوبة:50)

فهذه هي طريقة المنافقين في قديم الدهر وحديثه .

ومن نواقض كلمة التوحيد : السخرية والاستهزاء بالله ورسوله وآياته ولو كان هذا الساخر والمستهزئ  هازلاً مازحاً ، فإن أمور الاعتقاد لا مزاح فيها وإنما هي جد ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ * قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )) (التوبة:65، 66) سواء كان هذا الاستهزاء باللسان أو على صفحات الجرائد والمجلات أو في غيرها ، فمن استهزأ حتى ولو بالإشارة  بالله ورسوله وآياته كان مرتداً نسأل الله العافية والسلامة

ومن نواقض كلمة لا إله إلا لله :

رفض حكم الله ورسوله والتحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعية الجاهلية التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر والتي فرضها الاستعمار الكافر لما استولى على معظم بلاد المسلمين ولم يغادرها إلا بعد أن فرض عليها الحكم بقوانين أوروبية بعد تنحية الشريعة الإسلامية وما غادر بلاد المسلمين إلا بعد أن وضع فيها أذناباً له مخلصين لمبادئه ، وكما قال أحد المفكرين الإسلاميين : ذهب الإنكليز الحمر وبقي الإنكليز السمر يعني أن الإنكليز بجنودهم انسحبوا من بلاد المسلمين التي كانوا يستعمرونها ، وكذلك الفرنسيون وغيرهم ولكن بقي الذين يتكلمون بلغتنا ولهم نفس جلدتنا ولكنهم أشد على الإسلام والمسلمين من أولئك الكفار النصارى ، فرفضوا حكم الله ورسوله ووضعوا دساتير من القوانين الوضعية ووضعوا لها مراجع ومواد يحكم بها  وزحزحت الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد المسلمين إلا من رحم ربك وأحل ما رحم الله ورسوله وحرم ما أباح الله ورسوله حتى بلغ الأمر أن بعضهم قد حرم ومنع الصيام في نهار رمضان بحجة العمل وفي بعض البلدان التي ينطق أهلها بلغة العرب يمنع أن يتزوج الرجل امرأتين ، وإذا وجد مع الرجل امرأتان أصبحت جريمة عظمى يحاكم عليها بالقانون ، أما إذا وجد معه عشرون بغيا من البغايا لم يتعرض له  أحد ويحميه القانون ، أليس هذا أعظم مما فعل علماء اليهود والنصارى حين أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله ؟ إن هؤلاء قد فرضوه بالقوة ألزموا به المسلمين وجعلوهم يتحاكمون إليه ، بل وحتى لو يأتهم أحد لتعرضوا له ، إن هذا من أعظم نواقض كلمة التوحيد فهو كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله تعالى كالإمام الحافظ ابن كثير لما تكلم عن التتار في تفسيره وفي تاريخه ، " البداية والنهاية " .

كذلك نص على هذا الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله والإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته ، تحكيم القوانين والعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ، والعلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى وغيرهم كثير .

والذين يفعلون ذلك هو من رؤوس الطوغيت كما بين ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حينما تكلم عن رؤوس الطواغيت ، قال الله تعالى (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)) (النساء:60، 61)

وإذا كان من أراد أن يتحاكم إلى الطاغوت عن علم ورضا كافراً فما بالك بالطاغوت نفسه الذي يفرض الأحكام المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ويلزم ويفرضها في محاكم المسلمين ليقضي بينهم بها ، إن هذا أشد كفراً وأخبث من ذلك بكثير.

فهم خاطئ لكلمة التوحيد :

إن بعض الناس قد يقول : لا إله إلا الله ثم يفعل ما يناقضها زاعماً أنه بمجرد قوله أصبح في مأمن من الشرك بالله تبارك وتعالى ومن الكفر ، وهناك آخرون يظنون أنهم إذا قالوا كلمة التوحيد واعتقدوها وعملوا بالمعاصي فإن ذلك لا يضرهم ، يعني أنهم إذا لم ينقضوا كلمة التوحيد ولكن عملوا بالمعاصي التي تخرج من الإسلام فإن ذلك لا يضرهم ، متمسكين ببعض الأحاديث التي تدل على  أن من قال :  لا إله إلا الله دخل الجنة  كقوله  صلى الله عليه وسلم  في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال له : (( من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة ))  2 ومنها أيضاً : قوله  صلى الله عليه وسلم  في حديث معاذ رضي الله عنه : (( حق العباد على أن لا يعذب من مات لا يشرك به شيئاً )) 3

وفي حديث عتبان  بن مالك رضي الله عنه : (( فإن الله حرم على النار من قال : " لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) 4 وهما حديثنا صحيحان في الصحيحين وغيرهما .  وقد أجاب أهل العلم على هذا الأمر وهو حكم ذلك الذي ينطقها ثم يفعل ما يناقضها بأمور منها : أن من المقطوع به في دين المسلمين أنه ليس كل قائل يقول :  لا إله إلا الله يعتبر من أهل النجاة والسلامة من الشرك فإن المنافقين في عهد النبي  صلى الله عليه وسلم  كانوا يقولون : لا إله إلا الله وهم في باطن الأمر مشركون بالله جل وعلا كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ، قال الله تعالى : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا)) (النساء:145)

(( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) .

شروط لا إله إلا الله :

إذا تبين أنه قد يقول كلمة التوحيد من هو في نفس الأمر مشرك يبطن الكفر ويظهر الإسلام فإن الله عز وجل ورسوله  صلى الله عليه وسلم  قد بين لنا أن لكلمة التوحيد شروطاً لا بد من توافرها في الناطق بها ليكون من أهل النجاة عند الله عز وجل وذكر أهل العلم أنها سبعة شروط :

أولها : العلم بمعناها نفيا وإثباتاً ، أي : العلم المنافي للجهل بالمعنى الذي دلت عليه ، ولذلك قال الله تعالى : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) (محمد: من الآية19) وقال سبحانه : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (الزخرف: من الآية86)  إذاً لا بد من علم ، أما أن يقول الشخص وهو لا يدري فإنه لا يكون بذلك ناجياً ، ولا يكون بذلك مسلماً ولو أن شخصاً أعجمياً كافراً نصرانياً أو يهودياً أو مجوسياً أو غير ذلك سمع رجلاً يقول : لا إله إلا الله بالعربية فقالها مثله لم يكن بذلك مسلماً حتى يعلم معناها ويعتقد ويعمل بمقتضاها وقول الله تعالى : : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))  فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بقوله : إلا من شهد بالحق يعني بـ " لا إله إلا الله " وهم يعلمون ، أي : يعلمون ما دلت عليه ، وقال  صلى الله عليه وسلم  : (( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله  دخل الجنة ))5

والجهل بمعناها هو الذي أوقع كثيراً من الناس في الشرك حيث جهلوا معنى لا إله إلا الله ، فجهلوا معنى الإله وأن الإله هو المعبود وجهلوا مدلول النفي ومدلول الإثبات بعكس المشركين السابقين ، أبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، حيث كانوا يعرفون معناها فرفضوا لما قالها لهم النبي  صلى الله عليه وسلم  قولوا له  " (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5)

وقال بعضهم لبعض : (( أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) (صّ: من الآية6) إذ أولئك القوم عرفوا معنى كلمة لا إله إلا الله فرفضوا وأبوها ، أما هؤلاء فإنهم جهلوا معناها فعبدوا القبور وعكفوا عليها ونذروا لأهلها وذبحوا لهم ودعوهم من دون الله تبارك الله وتعالى فكانوا خارجين بذلك عن معنى كلمة التوحيد.

الشرط الثاني : أن يقولها الشخص بيقين فيستيقن قلبه بها ويعتقد صحة ما يقوله : وضد اليقين الشك والريب والتوقف والظن قال الله تعالى : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)) (الحجرات: من الآية15) .

وقال  صلى الله عليه وسلم  في الحديث الصحيح : (( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة )) 6

وقال تعالى عن المنافقين : (( وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) (التوبة: من الآية45))

فمن قالها وهو شاك في صحتها كان بذلك كافراً نسأل الله العافية والسلامة لأن الإيمان جزم .

الشرط الثالث :

أن يقولها قابلاً لها ، والقبول ينافي الرد فلا يرد شيئاً من معانيها ، فقد يعلم معنى الشهادتين ، وقد يوقن بمدلولهما لكنه يردهما كبراً وحسداً ، وذلك كأحبار اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) (البقرة: من الآية109) .

وكذلك زعماء المشركين كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله ويعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك استكبروا عن قبول الحق والهدى ، قال الله تعالى عنهم : (( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)) (الصافات:35)

وقال تعالى : (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) (الأنعام: من الآية33) .

ومثل هؤلاء من يعلم بمعنى لا إله إلا الله في هذا الزمن ويعتقد صحتها ولكنه لا يقبلها بل يردها ويرفضها .

الشرط الرابع :  أن ينقاد لها ويستسلم ويذعن ، وقد فرق بعض أهل العلم بين القبول والانقياد ، بأن القبول يكون بالأقوال والانقياد يكون بالأفعال ، قال الله تعالى : (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )) (النساء: من الآية125) وقال تعالى : (( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (لقمان: من الآية22) .

فقد يوجد من يقول : لا إله إلا الله ولكنه يأبى الانقياد لما دلت عليه بأن يكون الحكم لله وحده، وأن يكون التشريع حقاً لله وحده فيجعل التشريع حقاً للأمة ، ويجعل الأمة مصدر السلطات ، فيجعل التشريع حقاً للبرلمان أو لغيره .

الشرط الخامس : أن يقولها الشخص بصدق ، والصدق مضاد للكذب ، فأما من قالها كاذباً فإنها لا تنفعه ، والذي يقولها كاذباً هو المنافق ، فعلى المسلم أن يقولها بصدق يريد به وجه الله تعالى ، قال : (( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (العنكبوت: من الآية3) وقال سبحانه وتعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (الزمر:33)

قال ابن عباس رضي الله عنهما  " من جاء بلا إله إلا الله "

أما المنافقون فإنهم كانوا يقولونها ولكنهم في باطن الأمر يكذبون بها ، قال تعالى : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) .

لقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة " المنافقون " أن عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس النفاق كان يقوم كل جمعة قبل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب في الناس ، يتكلم فيقول : ( أيها الناس إن الله قد أكرمكم ببعثة هذا النبي فاسمعوا له وأطيعوا ) 7 .

هذا هو رأس النفاق ، فلما جاء يوم أحد وانخذل بثلث الجيش ، قال بعدها وأراد أن يقول هذا الكلام فجبذه المسلمون وردوه وقالوا اجلس يا خبيث ، يعني ظهر ما يبطنه هذا الرجل المنافق ، ولذلك فإن كثيرين يقولون لا إله إلا الله بألسنتهم ولكن تأبى قولوبهم أن تنقاد ، وهم يكذبون بها حقيقة وباطناً ، إما هم علمانيون ، أو منافقون ، أو غير ذلك من ملل الكفر وتيارات الإلحاد ، وإنما يولونها خوفاً من المسلمين ، وخوفاً من الفضيحة أو للترويج لأفكارهم الوضعية من زبالة أذهان الغربيين عند كثير من عوام المسلمين وجهالهم .

الشرط السادس : أن يقولها بإخلاص ، وضد الإخلاص الشرك قال تعالى :                    (( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14) (( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ))  (الزمر: من الآية2 ، 3)  وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : " من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( أسعد الناس بشفاعتي من قال : " لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) 8 .

وفي الحديث القدسي قال الله تعالى : (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) 9 .

والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده دون أن يصرف منها شيئاً لغيره تعالى ، فهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك كبيره وصغيره ، ظاهره وخفيه ، وهذا يخرج المشركين الذين يقولون : لا إله إلا الله ولكنهم يطوفون بالقبور ويعبدونها ويقدسون أهلها ويرفعون ويعظمون مرتبة الألوهية .

الشرط السابع : المحبة المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء فيقولها المسلم محباً لها محباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما إن قالها وهو كاره لها مبغض لما دلت عليه ، مبغض لله أو لرسوله كان ذلك ناقضاً لكمة التوحيد قال الله تعالى : (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) (المائدة: من الآية54) وعن أنس رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم :  (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث 10

وقد جمع بعض أهل العلم هذه الشروط في بيت شعر فقال :

علم يقين وإخلاص وصدقك مع    محبة وانقياد والقبول لها

وزاد بعض أهل العلم شروطاً وهو الكفر بما يعبد من دون الله مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( من قال : لا إله إلا الله  وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ))11  .

وعلى كل سواء أضفنا هذا الشرط أو حذفناه فإن الشروط السبعة تدل عليه بلا شك فمن قالها بعلم فمعنى أنه يعلم أنه لا يعبد أحد غير الله تبارك وتعالى : ويعلم أنه لا بد من الكفر بالطاغوت .، قال بعضهم :

وزيد ثامنها الكفران منك بما     سوى الإله من الأنداد قال ألها

وإذا تبين ذلك وعرفت هذه الشروط وما ذكر عليها من الأدلة تبين جواب ذلك السؤال وتبين أن من قال : لا إله إلا الله ثم عبد غير الله بدعاء أو ذبح أو نذر أن لم ينقد لحكم الله ورسوله وطبق القوانين الوضعية المستوردة من النصارى واليهود فهو مشرك بالله تبارك وتعالى الشرك الأكبر ، حيث قد نقض ما قال ، فلا يكون قوله نافعاً له ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .

الرد على المرجئة القائلين لا يضر من الإيمان ذنب :

أما من زعم أنه بمجرد أن يقولها يكون محققاً بمعنى أن يقولها ولا ينقضها ثم بعد ذلك يفعل المعاصي والموبقات وينجو من العذاب ولو ترك الواجبات وفعل المعاصي محتجاً بالأحاديث السابقة فقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة متعددة منها :  أن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار ، لكن لها شروط أي النجاة وهي الإتيان بالفرائض ولها موانع وهي الإتيان بالكبائر ، ولذلك قال الحسن البصري للفرزدق الشاعر لما لقيه في مقبرة فقال له يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال الفرزدق : لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة ، فقال الحسن : إن لـ  " لا إله إلا الله " شروطاً فإياك وقذف المحصنات .

وروي عنه أنه قال : هذا العمود فأين الطنب ؟ وقيل له : إن ناساً يقولون : من قال لا  إله إلا الله دخل الجنة ، فقال رحمه الله من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل  الجنة وقيل  لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قالل :  بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك 12 .

وقال آخرون : كان هذا أي الأحاديث السابقة في أن من  قال : لا إله إلا الله دخل الجنة كان قبل فرض الفرائض وقبل تشريع الحدود فلما فرضت الفرائض ونزلت الحدود أصبح ذلك إما منسوخاً أو أنه أنضم إلى لا إله إلا الله شروط وزيد عليها ، فأصبح ذلك فرضا على كل مسلم لا يكون ناجياً إلا به  ، ومن نسب له هذا القول الإمام الزهري محمد بن شهاب الزهري والإمام سفيان الثوري رحمها الله تبارك وتعالى وقال آخرون من أهل العلم : إن هذه الأحاديث التي فيها أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة نصوص مطلقة وأنها جاءت مقيدة  بأن يقولها المسلم بصدق وإخلاص ، وإذا قالها بصدق وإخلاص فإن صدقه وإخلاصه يمنع الإقدام على المعصية ، فقولها بصدق تام وإخلاص تام يطهر القلب من كل  الأدران والنجاسات التي هي الذنوب ويطهر القلب من الجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله ، فيكون العبد بذلك مطيعاً لله تبارك وتعالى .

أما من قالها وركب المعاصي فصدقه ناقص وإخلاصه ناقص وهو متبع لهواه ، وهذا هو أصح الأقوال ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .

ثم هاهنا أمر لا بد من الانتباه له وهو أن النصوص الشرعية أي : قول الله وقول رسوله  لا يمكن أن تكون متناقضة  أبداً ولا بد أن يجمع المسلم بينها ، ولا بد أيضاً من الإيمان بها جميعاً ، ولا بد أن يحمل متشابهها على محكمها ، ومجملها على مفصلها ، ومنشأ خطأ الخوارج والمعتزلة أنهم أخذوا نصوص الوعيد دون نصوص الوعد .

ومنشأ خطأ المرجئة أنهم بالعكس وهدى الله عز وجل أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله عز وجل يهدي ما يشاء إلى صراط مستقيم .

فقد تواترت النصوص على أن بعض أهل التوحيد يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها .

ويجب الإيمان بهذه النصوص والاعتقاد بمدلولها وأن أهل الكبائر من المسلمين تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنهم وغفر لهم بواسع فضله ورحمته ، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم في النار ، ولكن لا بد أن يدخلوا الجنة في يوم من الأيام .

المخالفون لكمة التوحيد :

وإذا تبين لنا معنى كلمة التوحيد كلمة لا إله إلا الله ، فإن لـ " لا إله إلا الله " أعداء ولها مخالفون ، يعني لمدلولها مخالفون وله من الأصل أعداء ، فأما المخالفون فهم كثر ومنهم المرجئة الذين يقولون إن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ولو فعل ما فعل ، فسهلوا فعل الكبائر على المسلمين وزعموا أن الإيمان في القلب وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، وكان ذلك أمراً خطيراً على الأمة سبب فيها انحرافاً عظيماً وسبب بعد ذلك ضعفاً في الإيمان ، وهؤلاء المرجئة منتشرون في كثير من بلاد المسلمين ، يهونون المعصية ويسهلون أمرها ، نجد أحدهم يقول إذا نُصِح أو حُذِّر من مخالفة الإيمان في القلب والمهم الضمير .

نعم القلب هم الأهم بلا شك ، (( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) 13 .

كما قال صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا صح القلب صلحت الجوارح وصلح السلوك وصلح الخلق وصلحت العبادة ، أما أن يوجد الإيمان في القلب ولا توجد عبادة ولا سلوك فهذه أمنية وليست بصحيحة ، إنما هي حيلة شيطانية وإن تأثير أصحاب الفكر الإرجائي على المسلمين تأثير عظيم حتى سهلوا على بعض الناس أن يرتكب بعض المكفرات زاعمين أن ذلك لا يتعارض مع الإيمان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

ومن المخالفين لها أيضاً الذي كان لهم أثر بالغ السوء في الأمة أهل الكلام من الأشعرية و الماتردية وغيرهم  الذين زعموا أن معنى لا إله إلا الله أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع ولا قادر على الاختراع إلا الله ففسروها بالربوبية فعندهم أن من قال : لا إله إلا الله معتقداً أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع إلا الله فقد كمل توحيده ، فإذا فعل ما يناقض الألوهية فلا يضره ذلك عند كثر منهم ، وهذا سبب الخطأ عند كثير من الناس حتى أن بعضهم ينسب إلى العلم فيعبدون القبور أو يقرون من عبدها أو يسكتون عليها زاعمين أن هؤلاء مؤمنين وموحدين ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، وإذا سألتهم من الخالق ؟ قالوا : الله  فهم إذا مؤمنون ، وقد سبق معنا أن بينا أن هذا لم يكن يخالف فيه لا أبو جهل  ولا أبو لهب  ولا غيرهم ، وأن الرسل إنما أرسلوا ليعبد الله وحده لا شريك له (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) (النحل: من الآية36).

ومن المخالفين أيضاً لكلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا : المتصوفة الغلاة الذين كانوا سبباً من أسباب الضلال قطاع كبير من المنتسبين للقبلة فهؤلاء الغلاة هم الذين زينوا للناس التوسل بالصالحين والتشفع بهم والعكوف عند قبورهم والتقرب لهم والتمسح بهم وبالقبور ودعائهم وزعموا أن ذلك إنما هو تعظيم للصالحين ، وتعظيم للأنبياء وأنهم يشفعون عند الله وهذا هو نفس شرك أهل الجاهلية الأولى التي عاصرت النبي صلى الله عليه وسلم .

وهؤلاء في واقع الأمر مناقضون لكلمة التوحيد وليسوا مخالفين فقط ومثلهم الروافض الذين أشد الناس تعلقاً بالقبور وبالمقبورين وخاصة من أئمتهم الذين يقدسونهم ، ولهذا تجد الرافضة يعتقدون أن زيارة قبور أئمتهم أعظم من زيارة الكعبة والبيت وتجد أنهم يؤلفون الكتب في طريقة الزيارة لهم حتى أن بعضهم ألف كتاباً في شعائر الحج إلى المشاهد فسماها حجاً ، محادة لله وللرسول .

ومن المناقضين لكلمة التوحيد العلمانيون والمنافقون الذين يتربصون بالإسلام وهم يريدون هدمه من الداخل يؤلفون المؤلفات ويكتبون المقالات التي تدعو إلى تحكيم القوانين وإلى الرجوع إليها وإلى تحسين اللادينية والعلمانية وإلى الطعن في دين الله تبارك وتعالى أو في رسوله صلى الله عليه وسلم أو في آياته سبحانه والتشنيع على أهل الإيمان ونبزهم بشتى الأوصاف وهم لا يقصدون الذوات إنما يقصدون المبادئ التي يعتنقها أهل الإيمان ، وإلا فإن الذوات تأتي وتذهب ، والذوات كثيرة ومن المعلوم أن سخصاً لا يحارب شخصاً بمجرد ذاته ولكن يحاربه لأمور أخرى خارجة عن تلك الذات إما المعتقدات أو غيرها .

واقع الأمة مع كلمة التوحيد :

إن واقع الأمة مع " لا إله إلا الله " واقع مؤسف فقليل من الناس هم الذين يعلمون معناها ويعملون بمقتضاها ، والقطاع الأكبر من أمة الإسلام مفرطون في معنى كلمة التوحيد وفي معرفتها وجاهلون بمقتضاها وذلك إما يفعلون ما يناقضها أو يفعلون ما ينقصها ويضعفها في القلب ، ولذا فإن واجب  المسلمين في كل مكان أن يعملوا على نشر كلمة التوحيد وعلى بيانها وعلى تصحيح المفهوم الخاطئ  لها وبيان أنها كلمة عامة شاملة في الاعتقادات وفي المعاملات وفي العبادات وفي الأخلاق وفي الهدى وفي السلوك وفي السياسات وفي الحكم والاقتصاد والتعليم والتربية والاجتماع والإعلام وفي كل شيء فإنها عامة شاملة لكل قطاع ، فمن كان مسلماً فعليه أن يخضع لله وحده : (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة: من الآية85) .

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام عظيم متين أختم به هذا الكلام المبارك في بيان معنى كلمة لا إله إلا الله وشموليتها ، وذلك لأن الحاجة ماسة لتصحيح مفاهيم المسلمين وأولها مفهوم التوحيد ، مفهوم كلمة " لا إله إلا الله " وذلك لإعادة إحياء الهوية الإسلامية النقية الصافية التي تتأثر بالكافرين ، لا من النصارى ولا من اليهود ولا من غيرهم .

يقول شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية " فرأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله ، بها بعثت الله جميع الرسل " 14 وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى : جميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وهذا هو دين الله أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره .

(( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)) (آل عمران: من الآية19) .

(( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85)

ويقول أيضاً في اقتضاء الصراط المستقيم يقول الله تعالى : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية110) .

وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول في دعائه : (اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ) إلى أن قال رحمه الله : هذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين واللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله ، فإن شهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له ، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره  بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ، ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله ، فإن كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من لشرك بحسبه . إلى أن يقول : والشهادة بأن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته  في كل ما أمر، فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه ، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفون عنه ما نفاه من مماثلة المخلوقات ..إلى أن يقول : وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه ، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله .

ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف ، وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله ولكونهم شرعوا ديناً لم يأذن به الله ... إلى أن قال فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إلى الله بغير إذنه يعني بشرع مبتدع فقد ابتدع ، والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك إلى أن قال : ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31)

قال : وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم قال تعالى : (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) .

فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .

والمؤمنون صدقوا الرسول فما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق ، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث .

وقال : أيضاً : ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص من قوله تعالى : (( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ)) (الزمر: من الآية29) .

فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه ، وهذا حقيقة قولنا : لا إله إلا الله فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم لله فهو مستكبر عن عبادته ، وقد قال الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) (غافر: من الآية60) أ. هـ

كلامه رحمه الله وأحب أن أقول : إن الله تعالى قال في كتابه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) (البقرة: من الآية208) .

ومعنى الاستسلام هنا يعني الإسلام ، يعني ادخلوا في الإسلام كله جملة وتفصيلاً لا تفرقوا فيه بين شيء وشيء وأختم هذا الحديث فأقول : إن الشيخ العلامة محمد قطب قد ألف كتاباً عن كلمة " لا إله إلا الله " بين  فيه مفهومها وهو آخر كتبه ، يجدر بالمسلم أن يرجع إليه وأن يقرأه ، فإنه كتاب قيم .

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا العلم الصحيح بكلمة " لا إله إلا الله " وأن يوفقنا للعمل بمقتضاها وأن يجعلنا من الداعين إليها المجاهدين من أجلها ، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمة وأن يردها رداً جميلاً وأن يهيأ لها من أمرها رشداً وأن ييسر تصحيح جميع المفاهيم عند الأمة وخاصة مفهوم كلمة التوحيد كلمة " لا إله إلا الله " وأسأله سبحانه وهو القوي العزيز والواحد القهار أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته وأن يعز أولياءه المؤمنين ويمكن لهم في الأرض ، وأن يذل أعداءه أعداء الدين وأن يخذلهم ويرينا فيهم عجائب قدرته . اللهم اشدد عليهم وطأتك وارفع عنهم عافيتك ، اللهم حل بينهم وبين ما يشتهون وأرهم في المؤمنين ما يحذرون إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ...

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعل آله وصحبه وسلم أجمعين .

والحمد لله رب العالمين

============

( فاعلم أنه لا إله إلا الله )

خباب بن مروان الحمد

نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد، واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.

ويحقٌّ للمتأمل في كتاب الله، أن يرجع الفكر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه الآية، إذ إنها تأمره - عليه الصلاة والسلام - بتعلُّم التوحيد، ومعرفة الله - عز وجل - حق المعرفة، مع أنَّه - عليه الصلاة والسلام -أفضل الأنبياء والمرسلين، وأعرفهم بربِّ العالمين، بل دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين، كما روى ربيعة بن عباد الديلي - رضي الله عنه - وكان جاهلياً فأسلم، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (834))

ولعل الفوائد المستنبطة من إنزال هذه الآية على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، ونزولها على عموم البشر من بعده، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية، يجدر التنبه لها، ويحسن تسليط الضوء عليها، فمنها:

1- أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين؛ لأنَّ النفس لا يقوى إيمانها بالله، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله، إلَّا إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك، قوَّة العمل لهذا الدين، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة، وصلابة الإرادة في ذلك، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل، إثر قيامها بالتعليم، وتبليغ دين رب العالمين(أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره).

ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله، لم يشرع عبثاً، بل شرع لأجل حماية ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس، حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها، وتخلصهم من أدران الوثنية، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً) والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده(7/123-125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء، وحسَّنه ابن حجر وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر، والألباني - رحمهم الله - فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين، والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين.

2- أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً؛ إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم، بحيله الماكرة، فقال: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: من الآية119) فلا رادَّ لذلك، ولا عاصم إلَّا الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله، وتصفية النفس من درن الباطل، والرَّان المنطبع على القلب، وذلك لا يتمُّ إلَّا، بقوَّة التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب، ولا يحتمل التموُّج والمساومة في مبادئه، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ بلوازمه ومقتضياته، وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - بقوله: (التوحيد أشفُّ شيء وأنزهه، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون، يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدَّاً، أدنى شيء يؤثِّر فيها، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة) (الفوائد لابن القيم/42)

ويقصد - رحمه الله - باللحظة: النظر إلى ما حرَّم الله. واللفظة: الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله، أو الكلام الذي لا يلقي له بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً. والشهوة الخفية: إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله.

ولهذا فإنَّه - تعالى - يوصي الصحابة، ومن بعدهم من أهل الإيمان، بالإيمان بالله ورسوله، وإن كانوا مؤمنين، ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين، حتى يقوى إيمانهم بالله، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه - سبحانه - فيقول - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) (النساء: من الآية136) فهنا يدعو - جلَّ جلاله - أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله، وقوَّة الإصرار على ذلك، لأنَّه ليس كلَّ من قال لا إله إلَّا الله، وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً؛ويدلُّ لذلك - قوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 8، 9).

3- لاشكَّ أن الأمر بهذه الآية ليس خاصاً بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فحسب؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد، وكما أنَّه يتمُّ بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه، إلَّا أنه يحتاج إلى تمكين عرى الإيمان، وعُقَدِ التوحيد في القلب، وتحليته به، ليخالط بشاشة الإيمان القلوب، فيتم بذلك تخلية وتحلية، وكما يقول الأصوليون: التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي، ويحليه ببلسم الإيمان، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد.

والحقيقة أنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله، لا يكون ذلك إلَّا بعدة أشياء، ومن ألزمها ذكراً:

أ - ضعف مراقبة الله، وقلَّة الوازع الديني الذي ينبغي أن يتنامى في القلب، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.

ب - ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة والاستغاثة، وقلة الانطراح بين يديه، والانكباب على عتبة بابه، مع أنَّ هذا الأمر من أشدِّ الأمور، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون، ومنهم إبراهيم - عليه السلام - حيث كان داعية للتوحيد، ومحطماً لأوثان المشركين، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب بلوثات شركية، فقال لربه داعياً: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: من الآية35) ومكمن المسألة في ذلك؛ دعاء إبراهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. ثمَّ يبين إبراهيم - عليه السلام - سبب دعائه، فيقول: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (إبراهيم: من الآية36) ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قائلاً: ومن يأمن البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -؟ (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ/ ص- 74)

ومما يستنتج من دعائه - عليه السلام - أن الأشياء التي تعبد من دون الله، قد يكون لها حجم واسع من التأثير على الناس، بإضلالهم عن الصراط المستقيم، ويمثِّل أهل العلم عليه بأمثلة، أقتصر على أحدها: وهو أن يأتي شخص يدعو أحد الطواغيت التي يقصدها بالدعاء من دون الله، ويرجوها بأن يمنَّ الله على زوجته العقيم، بأن تنجب طفلاً، بعد عشر سنوات، ثمَّ يفاجأ بمن يبشِّره بعد أشهر قليلة بطفل يتكوَّر في بطن زوجته، فيطير فرحاً، ويذهب لذلك الطاغوت، ويشكره، ويزداد تعلقه به، وهكذا مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي دعا غير الله، أراد الله أن يرزقه الولد وقت دعائه، فيرزق الولد بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، وليس بإرادة الذي لا يسمع ولا يبصر، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت، ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته، وفي شدَّته ورخائه - عياذاً بالله (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) (المائدة: من الآية41).

4 - في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة، ولا تحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي، أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين، والجواب عن ذلك:

أ - أنَّه - تعالى - ما خلقنا إلا لعبوديته وتوحيده، وإرساء تلك المعالم العقدية في قلوبنا، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، ولو كانت دعوة التوحيد يسيرة لما جلس - عليه الصلاة والسلام - ثلاثة عشر سنة يدعو لذلك الناس مسلمهم وكافرهم.

مسلمهم: لكي يتأكد ذلك في قلوبهم وليكوِّن - عليه الصلاة والسلام - من قلوبهم قاعدة صلبة للبناء الإيماني، لتتحمل الواجبات والفرائض المفروضة من قِبَلِهِ - تعالى -.

وأمَّا كافرهم: فلتقوم الحجَّة عليهم، بالبلاغ المبين، والبيان الواضح، ولهذا بقي - عليه الصلاة والسلام - يدعو لذلك جميع الناس حتى قبضت روحه الشريفه - صلى الله عليه وسلم - ليبقى التوحيد في قلوب المسلمين صلباً، لا تزعزعه أعاصير الشرك العاتية، ولا رياح التغيير المنحرفة عن المنهج الإسلامي.

ب - أنَّ التوحيد ليس قضية سهلة، بل إنَّ هذه القضية على شفافيتها، فإنَّ تطبيقها والعمل بها من أصعب ما يكون، ولهذا قال - سبحانه -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل: 5) قال الإمام مالك: ليس في دين الإسلام شيء سهل، واستدلَّ بهذه الآية.

والمقصود أنَّ التوحيد والإيمان يحتاج سنوات عديدة في العمل لأجله، ومجاهدة النفس على تنقيتها مما يخل بذلك، لتتأصل النفس على الإبقاء عليه، والاستمساك بحبله، وقد قال جندب بن عبد الله: تعلمنا الإيمان ثمَّ تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً.

ج - إنَّ مآسي الأمة ونكباتها لا ريب أنَّها تبعث الأسى في القلب، ولكنها راجعة لعدة أسباب أولها ذكراً: ضعف إيماننا بالله وتعلقنا به وعبوديته الخالصة، فكم يوجد في عصرنا من المنتسبين إلى الإسلام، يشركون بالله، ويقصدون القبور للطواف حولها، والتعلق بأصحابها، والاستغاثة بهم.

وكم هو منتشر في بلاد المسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية المغايرة للمنهج الإسلامي.

وكم من منافق يدسُّ سمَّه في الظلام، ويطعن المسلمين خلف ظهورهم، وكم من خائن يدلُّ أهل الكفر على المسلمين المستضعفين، ويبيع دينه بثمن بخس.

وكم يُعْرَض في وسائل الإعلام من الأمور المنحرفة عن التوحيد الخالص بتعظيم الكفار، والتشبه بهم، والتمنطق بأقوالهم، والتهنئة بأعيادهم، وربط صلات التآخي معهم.

وكم هو منتشر في بلاد المسلمين السحر والسحرة والشعوذة والتعلق بالرقى والتمائم والتعاويذ الشركية. وكم انتشرت البدع والانحرافات الفكرية ما بين مقلٍّ ومكثرٍ في عقول الكثير من المسلمين.

وبعد..ألا تحتاج هذه كلها إلى وقفة محاسبة، ترجعنا إلى أهمية الإعادة والتكرار لمبادئ التوحيد، وقضاياه الكلية، من قِبَلِ دعاة الإسلام، ومن ثمَّ تنبيه الناس لذلك، وعقد الندوات المتتابعة لأجله، في جميع أنحاء الأرض، ليكون المسلمون في حصن حصين، وحرز مكين، من كلِّ داعية سوء، أو صاحب ضلالة مردية، تجنح بهم إلى الكفر والفسوق والعصيان، وقد أحسن محمد إقبال حين قال:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دينٍ *** فقد جعل الفناء لها قريناً

وفي التوحيد للهمم اتحاد *** ولن تبنوا العلا متفرقينا

فهل نعاود قراءة القرآن، وكتب أهل العلم ونستفيد منها دروساً في التوحيد والإيمان، ونطبقها في أرض الواقع، ودنيا الناس، مقتفين أثر سلفنا الصالح، حين اهتموا بهذه القضية وأولوها عناية تامَّة، وقدَّموها على جميع العلوم والمعارف، ورحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال مؤكداً على أهمية التفقه في التوحيد: الفقه في الدين أفضل من التفقه في العلم، وصدق من قال:

أيُّها المغتذي ليطلب علماً *** كل علم عبد لعلم الرسول

تطلب الفرع كي تصحح أصلاً *** كيف أغفلت علمَ أصلِ الأصولِ

(انظر البيتين/شرح ابن أبي العز للطحاوية / ص-76)

أسأله - تعالى - أن يميتنا على الإسلام، والتوحيد الخالص غير مبدلين ولا مغيرين، ومن الله العون والسداد، وهو  الموفق.

8/6/1426

===============

بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

نريد من فضيلتكم جزاكم الله خيراً توضيحاً بسيطاً اركان وشروط لا إله إلا الله وجزاكم الله خيراً ؟

أجاب فضيلة الشيخ زيد بن محمد المدخلي _حفظه الله _ بقوله :

وهو سؤال يستحق التقدير ويستحق العناية به لأنه حديث عن كلمة الإخلاص التي هي مفتاح الجنة والتي لا يدخل أحد في الإسلام إلا بها علماً وعملاً ، وهي العاصمة للدم والمال والعرض وهي التي ترضي الله تبارك وتعالى وترضي رسوله عليه الصلاة والسلام والصالحين من عباد الله ، فلا إله إلا الله لها أركان ولها شروط ولها حقوق ولها مكملات ، وهذا أمر لا يخفى على الكثير منكم .

فأما أركانها فاثنان : النفي والإثبات .

النفي مأخوذ من قولك [ لا إله] والإثبات من قول[ إلا الله ]والمراد بالنفي: نفي ما يعبد من دون الله عزوجل ، والإثبات : إثبات كل عبادة مالية أو بدنية أو هما معاً لله وحده دون سواه .

وأما شروطها : فقد ذكرها علماؤنا علماء أتباع السلف الربانيون أهل الفهم الصحيح أهل الفهم الدقيق لمعاني الأحكام ذكروا لها سبعة شروط وأوصلها بعضهم إلى ثمانية :ـ

الشرط الأول : العلم ومعنى العلم هو العلم بما دلت عليه من معنى النفي والإثبات .

والشرط الثاني : اليقين ومعناه أن يكون المتلفظ بلا إله إلا الله موقناً بما دلت عليه من معنى لا تردد في ذلك ولا شك .

والشرط الثالث : القبول ومعناه أن يكون القائل لـ[ لا إله إلا الله ] قد قبلها وطبق ما دلت عليه من معنى النفي والإثبات .

والشرط الرابع : الإخلاص ومعناه أن يكون القائل لهذه الكلمة الجليلة مخلصاً فيما دلت عليه من معنى.

والشرط الخامس : الانقياد ومعناها الاستسلام والخضوع والطاعة لما دلت عليه هذه الكلمة من معنى .

والشرط السادس : الصدق وذلك بأن يكون قائلها مصدقاً بما دلت عليه من المعنى باطناً وظاهراً .

الشرط السابع : المحبة ومعناها المحبة لها ولأهلها ولمن أمر بها بقوله الحق: فاعلم أنه لا إله إلا الله [  [ البقرةمحمد / 19] ، وبقوله سبحانه : الله لا إله إلا هو الحي القيوم  /255]، وبقوله عز وجل : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [ آل عمران / 18]، ومحبة منْ بلَّغها وبيَّن معناها وجاهد في سبيل إعلائها ألا وهو رسول الله  ومعه أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم على النهج القويم قولاً وفعلاً وعملاً ظاهراً وباطناً .

والشرط الثامن : الكفر بما يعبد من دون الله عز وجل لأن من عبد غير الله فقد ناقض لا إله إلا الله ولذا قال علماؤنا الأوائل رحمهم الله [ لا ولاء إلا ببراء ]فمن والى لا إله إلا الله وما دلت عليه من معنى وجب عليه أن يتبرأ من كل شئ يناقض لا إله إلا الله .

والله أعلم .

=============

شروط كلمة التوحيد

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

الخطبة الأولى

أما بعد :

أيها المؤمنون : فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ،  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً  .

واعلموا أيها المؤمنون:

أن الله سبحانه وتعالى قد ربط الأمور بنتائجها والأسباب بمسبباتها ، وجعل لكل غاية سبيلا وطريقا وإذا كان المسلم يرجوا دائما رحمة الله ويطمع في جنته الغالية ، فإن ذلك لن يتحقق بمجرد الأماني والدعوات فإن الله سبحانه وتعالى قال:  ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به  وقد جعل الله تعالى كلمة التوحيد والإيمان سبيلا موصلا إلى جنة الخلد والرضوان ، فعن عبادة بن الصامت  قال سمعت رسول الله  يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار )) وعن أبي ذر  أن رسول الله  قال: (( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )).

ولكن قد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة ، ويغتر بكلمة يديرها على لسانه ، يظنها مفتاحا للجنة ، بمجرد نطقها بلسانه ، غافلا عن أن لها شروطا ينبغي أن تتحقق ومستلزمات ينبغي أن نعمل بمقتضاها ، لتكون عندئذ مفتاحا صالحا لفتح أبواب الجنة ، وقد سئل يوما التابعي الجليل وهب بن منبه رحمه الله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ فقال: بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت مفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.

أليست هذه قاعدة عامة يا معشر المسلمين إنه إذا تحقق الشرط تحقق المشروط ، ودخول الجنة بكلمة التوحيد مشروط بجملة من الشروط ، إذا تحققت كلها كانت هذه الكلمة سبيلا إلى الجنة ، وإلا فإنها لن تكون كذلك ، إذ عدم تحقيق هذه الشروط فيه ترك لكثير من الأوامر التي جاء بها الرسول  .

ولعل هذه الشروط تكون واضحة بما نشير إليه عنها ، فاحرص يا أخي المسلم عليها وتحقق بها لئلا تقف أمام باب الجنة فترد ولا يفتح لك .

1-إن لكل شيء حقيقة ولكل كلمة معنى ، فينبغي عليك أولا أن تعلم معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله . . تعلم ذلك يقينا منافيا للجهل ، إذ يراد بها نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها لله وحده ، ولذلك قال سبحانه:  فاعلم أنه لا إله إلا الله  ، وقال  : (( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).

2-ويكتمل هذا الشرط بشرط آخر هو اليقين الذي ينافي الشك ، ومعنى ذلك أن تستيقن يقينا جازما لا يداخله أي شك أو تردد بمدلول كلمة التوحيد ، لأنها لا تقبل شكا ولا ارتيابا ولا ظنا، فقد جعل الله تعالى هذا اليقين علامة على الإيمان فقال:  إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون  .

3-وإذا علمت وتيقنت فينبغي أن يكون لهذا العلم أثره ، فيدفعك إلى القبول لما تقتضيه هذه الكلمة وتطلبه منك بالقلب واللسان، فمن رد هذه الكلمة ولم يقبلها كبرا أو حسدا فإنه يكون كافرا ، فقد قال الله تعالى عن الكفار:  إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون  . أما المؤمنون الذين قبلوها فلهم النجاة عند الله وعداً منه ولا يخلف الله وعده:  ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين  .

4-والشرط الرابع : الانقياد لما تطلبه منا من الطاعة والالتزام انقيادا تاما ، وذلك هو المحل الحقيقي والمظهر العمل للإيمان ، ويحصل هذا يا أخي المسلم بأن يعمل بما فرضه الله عليك وأن تترك ما حرمه الله تعالى عليك ، وعندئذ يتحقق الإيمان ، فقد أقسم الله تعالى بذلك فقال   فلا وربك . . .  وقال  : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )).

5-والشرط الخامس : أن يقولها الإنسان صادقا من قلبه ، ليبتعد بذلك عن الكذب والنفاق ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ولا يطابق هذا ما في قلوبهم:  يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم  . وفي الصحيحين من حديث معاذ : ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار )).

6-وأما الشرط السادس فهو المحبة ، بأن يحب المرء هذه الكلمة والعمل بمقتضاها ، ويحب أهلها المطيعين بها والعاملين بها ، ومن أحب شيئا من دون الله فقد جعله ندا لله وشريكا:  ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله  . ومتى استقرت هذه الكلمة عقيدة في القلب فإنه لا يعدلها شيء فقد قال  : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )). ولو رجعنا إلى تاريخ الصحابة وحياتهم لوجدنا أروع الأمثلة على ذلك ، أبو بكر في دفاعه عن رسول الله ، وعلي في فدائه للرسول ، وخبيب بن عدي ، حتى قال أبو سفيان : ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدا محمدا  .

7-وتلك الشروط كلها لا تنفع وحدها ما لم يتحقق سبب القبول عند الله تعالى وهو الإخلاص لله تعالى أي صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية القلب والعمل بصالح النية عن كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه ، وقد تواردت الآيات في ذلك،  فمن كان يرجو لقاء ربه  .

وفي الحديث عن عتبان بن مالك عن النبي  قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل )).

فاحرص يا أخي المسلم : على كلمة التوحيد بشروطها تلك ، واحذر من كل ما ينافيها ، فإن ما ينافيها يوقع في الشرك قد يكون أخف من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وقولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه.

============

شهادة "لا إله إلا الله" (معناها وفضلها)

معنى شهادة "لا إله إلا الله" إجمالاً: لا معبود بحق إلا الله تعالى(1).

أي أنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يدعى إلا الله تعالى، ولا يجوز أن يصلى، أو ينذر، أو يذبخ، إلا لله تعالى وهكذا بقية أنواع العبادة.

قال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني: "ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والبراءة من كل معبود دونه"(2).

ف "لا" نافية للجنس. و "إله" اسمها، وخبرها محذوف تقديره "حق".

و"إله" من "أَله" بالفتح، "يأله"، "إلاهه"، والمعنى "عبد"، "يعبد"، "عبادة"(3).

و"الإله" هو المعبود المطاع، الذي تألهه القلوب بالمحبة، والتعظيم، والخضوع، والخوف، وتوابع ذلك من بقية أنواع العبادة.

واسم "الله" علم على ذات الرب تعالى المقدسة، لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وأصله "إله" حذفت الهمزة، وعوض مكانها "أل" التعريف(4).

فهذه الكلمة العظيمة تشتمل على ركنين أساسين:

الأول: "النفي"، وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، ويدل عليه كلمة "لا إله" فهي تنفي أن يكون غير الله تعالى مستحقاً للعبادة.

الثاني: "الإثبات"، وهو إثبات الإلهية لله تعالى، ويدل عليه كلمة "إلا الله" فهي تثبت أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له(5). فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده؛ لأنه الخالق، الرازق، المالك، المدبر لجميع الأمور، فيجب على جميع العباد أن يفردوه بالعبادة شكراً له على نعمه العظيمة عليهم، كما سبق بيان ذلك مفصلاً عند الكلام على توحيد الربوبية.

فهذه الكلمة هي حقاً: كلمة التوحيد، والعروة الوثقى، وكلمة التقوى، وفي شأنها تكون السعادة والشقاوة، في الدنيا، وفي القبر، ويوم القيامة، فبالتزامها والقيام بحقوقها تثقل الموازين، وبه تكون النجاة من النار بعد الورود، والفوز بجنات النعيم، وبعدم التزامها أو التفريط في حقوقها تخف الموازين، ويكون العذاب في القبر، وفي يوم القيامة، وفي نار الجحيم.

وهي حق الله على جميع العباد، وهي أول واجب، وآخر واجب، فهي أول ما يدخل به العبد في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا(6).

شروطها ونواقضها:

دلت النصوص الشرعية الكثيرة على أن الفوائد والفضائل العظيمة لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، التي سبقت الإشارة إلى بعضها، والتي من أهمها: الحكم بإسلام صاحبها، وعصمة دمه، وماله، وعرضه، ودخول الجنة، وعدم الخلود في النار، أنها لا تحصل لكل من نطق بهذه الكلمة، بل لابد من توافر جميع شروطها، وانتفاء جميع نواقضها، فكما أن الصلاة لا تقبل ولا تنفع صاحبها إلا إذا توافرت جميع شروطها، من الوضوء واستقبال القبلة وغيرهما، وانتفت مبطلاتها، كالكلام، والضحك، والأكل، والشرب وغيرها، فكذلك هذه الكلمة، لا تنفع صاحبها إلا باستكمال شروطها، وانتفاء نواقضها.

ولذلك لما قيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة: لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك(7). ولما قيل للحسن البصري: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.

ومن أجل عدم تحقق بعض هذه الشروط لم تنفع هذه الكلمة جميع المنافقين الذين نطقوا بها، وفعل كثير منهم بعض شعائر الإسلام الظاهرة.

ويدل على وجوب توفر شروط هذه الكلمة وعلى وجوب انتفاء موانعها على وجه الإجمال قوله : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"(8)، فيدخل في حقها: الإتيان بشروطها، واجتناب نواقضها(9).

وقد دلت النصوص الشرعية على أن لهذه الكلمة العظيمة سبعة شروط، هي:

الشرط الأول: العلم بمعناها الذي تدل عليه، فيعلم أنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى، قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله( 19 ) {محمد: 19} .

الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد أن يؤمن إيماناً جازماً بما تدل عليه هذه الكلمة من أنه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى فإن الإيمان لا يكفي فيه إلا اليقين، لا الظن ولا التردد، قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون 15 {الحجرات: 15} .

فمن كان غير جازم في إيمانه بمدلول هذه الكلمة أو كان شاكاً مرتاباً أو متوقفاً في ذلك لم تنفعه هذه الكلمة شيئاً.

الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، فيقبل بقلبه ولسانه جميع مادلت عليه هذه الكلمة، ويؤمن بأنه حق وعدل، قال الله تعالى عن المشركين: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون 35 ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون 36 {الصافات: 35، 36} .

فمن نطق بهذه الكلمة ولم يقبل بعض مادلت عليه إما كبراً، أو حسداً، أو لغير ذلك، فإنه لا يستفيد من هذه الكلمة شيئاً.

فمن لم يقبل أن تكون العبادة لله وحده، ومن ذلك عدم قبول التحاكم إلى شرعه، أو لم يقبل بطلان دين المشركين من عباد الأصنام، أو عباد القبور، أو اليهود، أو النصارى، أو غيرهم، فليس بمسلم.

الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد بجوارحه، بفعل مادلت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده، قال الله تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد \ستمسك بالعروة الوثقى" وإلى الله عاقبة الأمور 22 {لقمان: 22}، ومعنى "يسلم وجهه": ينقاد، ومعنى "وهو محسن": أي موحد.

فمن قالها وعرف معناها ولم ينقد للإتيان بحقوقها ولوازمها من عبادة الله والعمل بشرائع الإسلام، ولم يعمل إلا ما يوافق هواه أو ما فيه تحصيل دنياه لم يستفد من هذه الكلمة شيئاً.

الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقول هذه الكلمة صدقاً من قلبه، يوافق قلبه لسانه، قال الله تعالى: الجم" 1 أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 2 ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 3 {العنكبوت: 1 - 3} .

ولذلك لم ينتفع المنافقون من نطقهم بهذه الكلمة؛ لأن قلوبهم مكذبة بمدلولها، فهم يقولونها كذباً ونفاقاً.

الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك، فلابد من تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تعالى: فاعبد الله مخلصا له الدين 2 {الزمر: 2} .فمن أشرك بالله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة لم تنفعه هذه الكلمة.

الشرط السابع: المحبة، فلابد أن يحب المسلم هذه الكلمة ويحب ما دلت عليه، ويحب أهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، ويبغض ما ناقض ذلك. قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب 165 {البقرة: 165}.

أما نواقض "لا إله إلا الله"، وتسمى "نواقض الإسلام"، "نواقض التوحيد"، وهي الخصال التي تحصل بها الردة عن دين الإسلام، فهي كثيرة، وقد ذكر بعضهم أنها تصل إلى أربعمئة ناقض(11).

وهذه النواقض تجتمع في ثلاثة نواقض رئيسة، هي:

1 الشرك الأكبر.2 الكفر الأكبر. 3 النفاق الاعتقادي.

@ الهوامش:

1 ينظر تفسير الآية (163) من سورة البقرة في تفسيري الطبري، والقرطبي، فتح المجيد(1-126121)، مجموعة التوحيد (1-178).

2 تطهير الاعتقاد ص:(18).

3 ينظر تفسير البسملة في تفسيري الطبري وابن كثير، وشرح الطيبي للمشكاة (1-98)، ورسالة "معنى لا إله إلا الله" للزركشي الشافعي ص:(73 111)، والقاموس المحيط، والصحاح، مادة "أله".

4 تنظر المراجع السابقة، وتجريد التوحيد للمقريزي، ص:(2418)، وتحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب، ص:(23 25 30)، وفتح المجيد، ص:(7673)، و (126124)، وتفسير الشوكاني (1-18)، والدرر السنية (2-298296257 305، 331326)، ومجموعة الرسائل (4-16).

5 الكواشف الجلية، ص:(35)، وينظر الأصول الثلاثة: الأصل الثاني، ص: (15)، قرة عيون الموحدين، ص:(13)، الدرر السنية (2-271) مجموعة الرسائل (4-34، 38).

6 وهي سبب لعصمة دم المسلم وماله وعرضه، إلا بحقها، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار، وفيها يكون الولاء والبراء، وأهلها هم أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أهل غضبه ونقمته.

وهي الشهادة العظمى، وأول وأعظم أركان الإسلام، فهي أصل الدين وأساسه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها، متشعبة منها، مكملات لها، مقيدة بالتزامها والعمل بمقتضاها.

وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده، وأفضل ما ذكر الله به، وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.

وهي رأس الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأصدق الكلام، وأحسن الحسنات، وشهادة الحق، والقول الثابت، والمثل الأعلى، وعنها يكون السؤال للأولين والآخرين يوم الحساب، وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، وبها قامت السموات والأرض، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة.

ينظر رسالة "مسألة في التوحيد وفضل لا إله إلا الله" ليوسف بن عبدالهادي ص:(11789)، وقد ذكر 199 فضيلة من فضائلها، وينظر الإيمان لابن منده (1-315116)، مجموع الفتاوى (3-94)، مدارج السالكين (3-462، 465)، زاد المعاد(1-34)، تحقيق كلمة التوحيد لابن رجب، ص:(6652)، التمهيد للمقدسي، مجموعة التوحيد (1-175)، الدرر السنية (2-326، 350)، فتح المجيد (1-74، 75، 125)، مجموعة الرسائل (4-295)، مجموعة التوحيد (1-137، 141) قرة عيون الموحدين، ص: (2019)، القول السديد، ص:(2019)، معارج القبول (2-415410).

7 رواه البخاري تعليقاً في فاتحة الجنائز من صحيحه.

ورواه موصولاً البخاري في تأريخه (1-95)، وأبو نعيم في الحلية (4-66)، والحافظ في تغليق التعليق (2-453، 454).

8 رواه البخاري (1399) من حديث عمر، ورواه مسلم (20، 21، 22) من حديث عمر، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبدالله بن عمر، ومن حديث جابر، واللفظ له.

9 التوضيح عن توحيد الخلاف ص:(97)، تيسير العزيز الحميد، ص:(69)، مجموعة الرسائل، ص:(852، 853).

10 ينظر شرح صحيح مسلم للنووي (1-219)، توضيح كلمة الإخلاص لابن رجب، ص: (4815)، الدرر السنية (2- 259253)، مجموعة الرسائل (4-295، 296)، معارج القبول (2- 110100)، رسالة "الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما"، ص: (113103).

11 الدرر السنية (1-100).

@ الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض

===============

فاعلم أنه لا إله إلا الله

الدكتور / بشر بن فهد البشر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه  وعظيم سلطانه ، وأشكره على آلائه وأستغفره وهو الغفور الرحيم من خطئي وزللي  وأعوذ بوجهه الكريم من شرور نفسي وسيئات عملي .

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد .

فإن أصل هذه الرسالة محاضرة ألقيت بنفس العنوان  " فاعلم أنه لا إله إلا الله "  ضمن الدروس القرآنية العامة التي كنت ألقيها في جامع الراجحي بالربوة في مدينة الرياض ، وقد رأى بعض الإخوة طباعتها ليعم النفع بها ، وقام مشكوراً بتفريغها من الشريط فأجبته إلى ذلك وأعدت مراجعتها وعدلت فيها ما يحتاج التعديل ، لتصبح صالحة للنشر ، فلغة المحاضرة تختلف عن لغة الكتاب ، ومع ذلك سيبقى فيها ما يحتاج لإعادة النظر ، لأن النقص من صفات البشر ن وقد كنت أود أن أكتب لها مقدمة ضافية تليق بأهمية الموضوع إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك ، وعسى أن يسر الله عز وجل وهو الكريم المنان كتابة المقدمة المأمولة في طبعة قادمة إن شاء الله تعالى ، وكم لله تعالى على عباده من أفضال عظيمة وآلاء جسيمة ، ييسر لهم الأمور ويحقق لهم المنى وذلك على الله يسير .

وقد قام أخونا الفاضل / نايف بن حبيب آل عر يعر بتخريج أحاديثها ، ومتابعة مراحل طباعتها فله جزيل الشكر وفقنا الله  وإياه لطاعته وغفر لنا الذنوب وستر العيوب وجمعنا ومن نحب في دار كرامته إنه قريب مجيب ، والله تعالى الموفق والمعين .

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .

كتبه  د / بشر بن فهد البشر / عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام

ص . ب . 744  الرياض 11643

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

أما بعد:

فإن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا لعبادته قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))  (الذريات:56)  فعبادة الله تعالى هي الأساس والحكمة والغاية التي خلقت من أجلها الخليقة.

ولذلك كانت كلمة التوحيد ، كلمة (لا إله إلا الله "  التي تدل على عبادة الله وحده هي أساس دعوة الرسل وهي أصل الأديان التي أنزلها الله عز وجل على عباده .

فهي أصل الإسلام ، وأساسه ، وهي التي دعت إليها الرسل جميعهم عليهم الصلاة والسلام ومن أجلها خلق الله عز وجل الجنة والنار .

ولذا كان مما يجب  على المسلم أن يعلم معنى هذه الكلمة العظيمة ويعمل بمقتضاها ليكون من الناجين عند الله تبارك وتعالى ولذا قال الله لنبيه  صلى الله عليه وسلم  : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)) (محمد:19) .     فالعلم بـ "  لا إله إلا الله "  وبما دلت عليه ، وبحقيقة معناها ضرورة من ضرورات الحياة لا يمكن أن يعيش الإنسان سعيداً هنيئاً بدونها ،  ولا يمكن أن يكون فائزاً في أخراه بدونها .

ومعرفة  لا إله إلا الله تكون للاعتقاد ، وتكون للعمل ، لا لأحدهما دون الآخر ، وقد كان العرب في جاليتهم  يعرفون معنى كلمة التوحيد ، فبعضهم علم بها وقبلها ، وعمل بمقتضاها فكان من السابقين السعداء .

وبعضهم علم معناها ولكنه أبى الانقياد لها وقبولها فكان من الأشقياء .

فإنهم لما جاءهم النبي  صلى الله عليه وسلم   وطلب منهم أن يقولوا كلمة واحدة تدين لهم العرب يعني تطيع  -  ويملكون بها العجم قالوا له :  نعطيك عشر كلمات فقال عليه  الصلاة والسلام : (( قولوا لا إله إلا الله )) فقالوا (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5) .   فعلموا المعنى ، وعرفوا أنهم إذا قالوا " لا إله إلا الله " تغيرت حياتهم ، وانتقلوا من حياة إلى حياة وانقطعت صلتهم انقطاعاً تاماً في الاعتقادات والتعبدات بطريقتهم الأولى ،  ولما فسد السليقة ، وتغيرت المعرفة بلغة العرب جهل المسلمون معنى كلمة التوحيد ، جهلوا معنى " لا إله إلا الله " فأصبح كثيرون ينطقونها ولكنهم في واقع الأمر ينقضونها .

إذاً لا بد من شرح معنى هذه الكلمة ،  ولا بد من بيان ما دلت عليه ، ولا بد  من بيان نواقضها حتى يكون  المسلم على بصيرة من دينه خاصة في هذا  الوقت الذي تكالبت فيه الأمم على أمة الإسلام فكان لزاماً على أمة محمد  صلى الله عليه وسلم  أن تعيد النظر في نفسها ، وفي الخلل الذي أضر بها ، وهذا الخلل معظمه من الداخل وأقله من الخارج.

إن أصل الإسلام يقوم على الشهادتين :

شهادة " أن لا إله إلا الله "  وشهادة " أن محمداً رسول الله " .

فشهادة أن لا إله إلا الله معناها : توحيد المعبود ، وشهادة أن محمداً رسول معناها : توحيد المتبوع عليه  الصلاة والسلام -  وسنتكلم عن الأولى شهادة "  أن لا إله  إلا الله " ، فمن شهد أن لا إله إلا الله وعلم معناها وعمل بمقتضاها فإنه تلقائياً يشهد أن محمداً رسول الله .

إن معنى كلمة  " شهادة " في لغة العرب : الخبر القاطع الصادر عن علم ويقين . فتضمنت كلمة الشهادة أمرين :

الأول : علم ويقين ، وهذا يكون في القلب .

الثاني : إخبار وإعلام ، وهذا نطق باللسان ، وهو القول .

وإذا تبين معنى كلمة شهادة  فإن كلمة لا إله إلا الله تعنى أنه لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى.  فالإله : مأخوذ من أله يأله ومعنى أله في اللغة :عَبَدَ.

فالإله : هو المعبود المطاع الذي تألهه القلوب ، أي تتجه له وتقصده وتخضع له وتذل له وتتعلق به خشية وإنابة ومحبة وخوفاً وتوكلاً عليه وإخلاصاً له تبارك وتعالى .

فـ " لا إله إلا الله " معناها : لا معبود بحق إلا الله .

وقولنا : " بحق " لنخرج من عُبِدَ بالباطل، وهم كل من صرف له نوع من أنواع العبادة من دون الله تعالى ، وهم كثير من الأصنام ومن الصالحين ومن غيرهم .

فالله تعالى هو المستحق للعبادة وحده ، وكل من عبد سواه فالباطل  فلا حق في الألوهية لمخلوق ، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل .

(( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) (الحج:62) .  وهذه الكلمة تشتمل على ركنين :

نفي وإثبات .

فالنفي هو قولنا " لا إله " والإثبات هو قولنا " إلا الله "  .

فـ  " لا إله " نفي جميع ما يعبد من دون الله تعالى ،  " وإلا الله "  : إثبات جميع أنواع العبادة لله رب العالمين وحده لا شريك له في عبادته ، كما لا شريك له في ملكه ، وربوبيته ، ففيها إذن براءة من كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى ، وفيها تحقيق العبودية لله وحده .

وقد جاء معنى الكلمة العظيمة في آيات كثيرة من كتاب الله قال تعالى : ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (النحل:36) .  فقوله تعالى : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله " إلا الله "  وقوله : (( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) هو معنى قوله " لا إله " .

وقال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء:25) .   وقال تعالى (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة: من الآية256)

فقوله جل وعلا " (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) هو معنى قوله : " لا إله "  ومعنى قوله : (( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) هو معنى : " إلا الله " فهي إذا تفيد نفس معنى لا إله إلا الله .  وكذلك قال تعالى : (( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر:17، 18) .  وقال تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (البينة:5) .   ومعنى قوله : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله : " لا إله إلا الله " لأن معنى قوله (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا)) هو حصر للعبودية لتكون حقاً خالصاً لله رب العالمين ، وأكد ذلك قوله : (( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)) .

ومعنى حنفاء : مائلين عن الشرك إلى التوحيد .

وإن كل رسول أرسله الله عز وجل منذ أن أرسل نوحاً إلى أن أرسل خاتمهم محمداً  صلى الله عليه وسلم  يقول لقومه : (( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) (هود: من الآية50) .

فهي أول ما تدعو إليه الرسل أقوامهم ، وإن كانت دعوات الرسل تشتمل أيضاً على بقية الاعتقادات والعبادات وغيرها ، ولذلك نجد أن شعيباً- عليه السلام- يدعو إلى عبادة الله وحده ، ثم بعد ذلك ينهاهم عن التطفيف في المكيان والميزان

وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام دعوتهم لإخلاص العبودية لله وحده ولأخذ الأوامر والنواهي من الله رب العالمين .

وقد اشتملت كلمة التوحيد على أنواع التوحيد كلها .

* على توحيد الألوهية .

* وتوحيد الربوبية .

* وتوحيد الأسماء والصفات .

فتوحيد الألوهية مطابقة ، أي اشتملت عليه مطابقة . ودلالة المطابقة معناها : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له في لغة العرب .

واشتملت على توحيد الربوبية والأسماء والصفات تضمناً ، ودلالة التضمين معناها : دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة الإنسان على بعض أعضائه .

فتوحيد الألوهية ويقال له : توحيد العبادة هو توحيد الله تبارك وتعالى بأفعال عباده أي أن العباد يفرون ربهم تبارك وتعالى بكل أنواع العبادة ويخلصون له فيها جل وعلا ، فلا يشركون معه غيره .

فالعبادة حق خالص لله تعالى لا حظ فيها لأحد لا من الملائكة المقربين ولا من الأنبياء المرسلين ولا من الأولياء الصالحين ولا من غيرهم .

والعبادة باعتبار ما أمر الله به : اسم جامع لكل ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، فشملت إذاً كل أمور الحياة ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه  صلى الله عليه وسلم  : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (الأنعام:162) .  فالحياة كلها ثم ما بعدها كلها لله تبارك وتعالى يجب أن يكون المسلم سائراً فيها مخلصاً لربه سبحانه .

أما توحيد الربوبية فهو توحيد الله بأفعاله سبحانه من الملك والخلق والتدبير ،  وهذا النوع كان يقر به المشركون الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام ، بخلاف توحيد الألوهية فإن توحيد الألوهية لم يكونوا يقرون به كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .

ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) (الزخرف: من الآية87) .

(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )) (الزخرف:9) .  فأخبرنا الله عز وجل أن المشركين في زمان النبي  صلى الله عليه وسلم  كانوا يعترفون بربوبيته سبحانه  ، ولكنهم كانوا مختلفين في الألوهية يعني في إفراد الله سبحانه بأنواع العبادات كلها .

أما توحيد الأسماء والصفات فهو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله  صلى الله عليه وسلم  من الأسماء الحسنى والصفات العلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تبارك وتعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (الشورى:11) .

فضائل كلمة التوحيد :

إن هذه الكلمة ، كلمة التوحيد لها فضائل عظمى ، جمع زُبَد هذه الفضائل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تعليقه على كتاب التوحيد ، وأنقل لكم بعض ما قاله ملخصاً قال رحمه الله عن التوحيد : " وما قاله عن التوحيد ينطبق على كلمة التوحيد " إن التوحيد هو الفرض الأعظم على جميع العبيد ، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والفضائل المتنوعة كالتوحيد ، فإن خيري الدنيا والآخرة من ثمرا ت التوحيد وفضائله ، ثم قال رحمه الله - : إن مغفرة الذنوب وتكفيرها من بعض فضائله وآثاره ، قال : ومن فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما .

ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل ، وإذا كمل التوحيد في القلب فإنه يمنع دخول النار نهائياً .

ومنها أن صاحبه يحصل على الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومن فضائله : أن أسعد الناس بشفاعة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  (( من قال  لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) .

ومنها : أن جميع الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة  والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد ، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله  جل وعلا كملت هذه الأمور وتمت .

ومنها : أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات ويسليه عن المصائب ، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثوابها ، ويهون عليه ترك المعاصي لما يخشى من سخط الله وعقابه .

ومنها : أن  التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام ،  فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يكون تلقيه للمكارة والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضي بأقدار الله المؤلمة .

ومن أعظم فضائله : أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم ، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي ، ويكون مع ذلك متألهاً لله ، متعبداً له سبحانه لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه ، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه .

ومنها: أنه إذا كمل في القلب بالإخلاص التام  فإن يُصير القليل من العمل كثيراً وتضاعف الأعمال والأقوال بغير حصر ولا حساب .

ومنها : أن الله جل وعلا تكفل لأهل التوحيد بالفتح والنصر في الدنيا  والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال .

ومنها: أن الله جل وعلا يدافع عن الموحدين ، أهل الإيمان يدافع عنهم شرور الدنيا والآخرة ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره  ، ثم قال في ختام كلامه : وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة .

بعض ما اشتملت عليه كلمة التوحيد :

وكما اشتملت كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " على كل أنواع التوحيد فليعلم أيضاً أنها قد نفت كل شرك قليلاً كان أو كثيراً ، جلياً كان أو خفياً ، وأوجبت الكفر بما يعبد من دون الله تعالى ، فلا يتم الإيمان ولا يكون أصلاً إلا بذلك ، قال تعالى : (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (البقرة: من الآية256) .  ثم إن كلمة " لا إله إلا الله "  قد اشتملت على أمر عظيم وهام يجب أن يتفطن له المسلمون خاصة في هذا العصر، فقد اشتملت على أن التشريع والحاكمية حق لله تبارك وتعالى ، وهذا داخل  في أنواع التوحيد الثلاثة ، فدخوله في توحيد الألوهية من حيث أن الله تعالى هو المعبود المطاع، والمعبود هو الذي يأمر وينهى ، ولذا قال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56) . قالوا : أي  إلا لآمرهم  وأنهاهم ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى .

ودخوله في الربوبية أن التشريع والحكم من أفعال الله جل وعلا ومن تدبيره لخلقه سبحانه فهو المتفرد بذلك ولذا جعل الله عز وجل من اتخذ مشروعاً غيره مشركاً .

قال سبحانه : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )) (الشورى: من الآية21) وقال سبحانه : (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام:121) وقال تعالى : ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (التوبة: من الآية31) .

وهذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين أطاعوا رهبانهم وأحبارهم ، يعني علماءهم في تحليل ما حرم الله وفي تحريم ما أحل الله ، فجعلهم الله عز وجل متخذين أرباباً من دون الله ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة: من الآية31) .

ومن فعل مثل فعلهم كان حكمه حكمهم .

وأما دخوله في توحيد الأسماء والصفات فإن من أسماء الله سبحانه الملك ومن أسمائه الحكم ، فله سبحانه الملك وإليه الحكم ولذلك غير النبي  صلى الله عليه وسلم  كنية رجل تكنى بأبي الحكم وسماه بأبي شريح معللا ً ذلك بأن الله هو الحكم وإليه الحكم   وقد قال الله تبارك وتعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )) (الشورى: من الآية10) .

وقال سبحانه ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (القصص: من الآية88) .

وقال تعالى (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )) (يوسف: من الآية40) وقال تعالى : (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية26) .

وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة عند ما نتحدث عن بعض نواقض كلمة التوحيد إن شاء الله .

من لوازم كلمة التوحيد :

ثم إن كلمة التوحيد قد استلزمت موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله تبارك وتعالى ، استلزمت محبة المؤمنين وبغض الكافرين ، وهذا أصل من أصول الإيمان ، بل قال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه وتعالى ما ذكر بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده وهو الشرك في القرآن الكريم أكثر من النهي عن موالاة الكفار ، لذا فإن من والى الكافرين قد وقع في خطر عظيم يوشك أن يصل إلى حد التولّي ، أي تولي الكفار فينقض توحيده نسأل الله السلامة أما الموالاة التي لا تصل إلى حد التولّي فإنها معصية عظمى تنقص التوحيد لكنها لا تصل إلى حد نقضه ،  وقد حثنا الله على موالاة المؤمنين ، قال تعالى : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ )) (التوبة: من الآية71)

وحذرنا ربنا جل وعلا من موالاة الكافرين فقال سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة: من الآية1) .

فبين  الله عز وجل سبب عداوتهم ، وهو أنهم  كفروا بما جاءنا من الحق ، ومن ذلك كفرهم بـ " لا إله إلا الله " فلما كفروا بها وجبت عداوتهم ووجب بغضهم ووجبت مفاصلتهم وحرم على المسلمين أن يوالوهم أو يلقوا إليهم بنوع من المودة والمحبة .

وعلى ضوء ما سبق يتبين لنا أن كل الطاعات بل كل دين الإسلام هو من مقتضى كلمة التوحيد ، كلمة لا إله الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله  فهي كلمة شملت جميع الحياة ، فهي منهاج متكامل ، فإنها تبين لنا الطريق الحق في العمل وتبين لنا الطريق الحق في الاقتصاد ، وفي السياسة ، والإعلام ، وفي التعليم والتربية ، فكل أمر من أمور الحياة فهو داخل تحت كلمة " لا إله إلا الله " فهو من مدلولها ومن معناها ، ولذا فإن من قال : إن هناك أموراً من أمور الحياة خارجة عن مقتضى لا إله إلا الله خارجة عن الإسلام لا يحكمها شرع الله تبارك وتعالى يكون قوله هذا كفراً بالله جل وعلا ، لأنه مكذوب لله ورسوله .

فمن قال : إنه لا في السياسة ولا سياسة في الدين كان منقضاً لكلمة لا إله إلا الله ، وما أحسن ما قال الشيخ / عبد الرحمن الدوسري رحمه الله - : إن كلمة لا إله إلا الله كلها سياسة من لامها إلا هائها ، وقد سئل رحمه الله -  أو سأل نفسه في كتيب له : أسئلة وأجوبة في أمور العقيدة  في المهمات فقال : كيف لنا بمن يقول الدين علاقة بين العبد وربه فقط لا شأن له في السياسة والحكم ؟

قال الشيخ رحمه الله هذه خطة انتهجها الثائرون على الكنيسة في أوروبا التي ليس لها ثروة تشريعية وافية بأساليب الحكم السياسية حسب التطوير الصحيح ، فانتهج هذه الخطة تلاميذ الإفرنج من أبنائنا وعملوا على تطبيقها في بلاد المسلمين وفرضها عليهم بتلقين قوي من أساتذتهم وتأييد استعماري  يحظى به العملاء والمغرضون الذين يريدون الحكم على أشلاء الإسلام وعل حساب أهله ، وقد أراحوا المستعمرين والمبشرين بتطبيق هذه الخطة التي أبعدوا فيها حكم الله وأزاحوا المسلمين عن تعاليم شريعتهم وآدابها، وصبغوهم بصبغة إفرنجية في تقاليدهم وعقائدهم وأخلاقهم وملابسهم حتى حولوهم بهذه الخطة وتحت شعاراتها المختلفة إلى نوع من الخلق لا يصلح شرقياً ولا غربياً ، ومع أن هذه في حق الإسلام والمسلمين فرية عظيمة وخطة أثيمة فهي في الحقيقة حجة على أولئك دامغة لرؤوسهم ، مرغمة لأنوفهم ، لأن علاقة العبد بربه يجب أن تكون عامة في كل شيء ، بحيث لا يمشي إلا على وفق شريعته ، ولا يحكم إلا بكتابه وسنة نبيه ، ولا يتحرك إلا لمرضاته واجتناب سخطه ، ولا يحب ولا يبغض إلا من أجله ،  لا لنفع أو من أجل عشيرة أو وطن ، أو قرابة أو مال ، ولا يوالي أو يعادي إلا في الله ، ومن أجل إعلاء كلمة الله لا لغرض آخر ، فلا يوالي أعداءه أو يعادي أحبابه لحاجة في نفسه ، أو لأجل شيء مما تقدم ، ولا يخطط لنظام الحكم أو ينفذه ، مستنداً على تلك القواعد الانتهازية ضارباً بكتاب الله  وتوحيده وشريعته، عرض الحائط ، فإن هو فعل ذلك لم يحسن علاقته بربه بل قطعها ، وكان في قوله أفاكاً أثيماً ، لأن الله تعالى لا يرضى من عبده  أن يحكم بغير شريعته أو يتخلى عن دعوة الإسلام، والدفاع عن جميع قضايا المسلمين ولا أن يوالي النصارى بحجة وطنية أو قومية عصبية جلبها من أوروبا وطرح بها ملة إبراهيم عليه السلام كما لا يرضى من عبده أن يعيش بإيمان أعزل أمام كفر وإلحاد مسلح ، بل يوجب عليه تحقيق الصدق معه والإخلاص له ، وأن يستعد لأعداء الله بجميع المستطاع من حول وقوة مهما تنوعت وتطورت ، يقمعهم كي لا يغلبوا ويتحكموا في مصيره ، وكذلك يوجب عليه أن يكون غيوراً على حرماته حافظاً لحدوده ناصراً لدينه دافعاً له إلى الأمام ، لا يقتصر في عبادته على نوع دون نوع ، ولا يقصر بالغزو في نشر الحق فيغزوه أعداء الله بالباطل ، فإن لم يفعل هكذا لم يحسن علاقته بربه وكان خواناً أثيماً إذ إن علاقته بربه عامة في جميع الشؤون الحربية والسلمية والاقتصادية والاجتماعية ، وسائر السلوك في المسجد والدائرة والمصنع على السواء .

ثم سأل نفسه قائلاً : ما الدليل على ذلك شرعاً وعقلاً ؟

( وطريقة السؤال والجواب تسهل على الطلبة المبتدئين .)

أجاب رحمه الله قائلاً : الأدلة الشرعية كثيرة متواترة منها : أن الله تعالى أوجب عبادته على العموم ، ومعاني العبادة ولوازمها كثيرة عظيمة لا يجوز لأحد الترخص منها إلا بدليل شرعي ، وجميع النواحي الدينية الدنيوية التي أوجبها الله على خلقه في القرآن أو ندب إليها وحض عليها أناطها بالأمر بالتقوى والتزام حدوده حتى في المواريث والديون ، قال تعالى : (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )) (النساء: من الآية13) وقال :((وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)) (البقرة: من الآية282) وقال تعالى في تزويج النساء وعشرتهن وطلاقهن : (( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ )) (البقرة: من الآية223) .

وقال: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )) (البقرة: من الآية235) .

وقال تعالى : (( مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)) (البقرة: من الآية241) وقال : ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)) (البقرة: من الآية229) .

وفي الصدقات قال : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى))  (الليل:5)  وفي الأمور السياسية قال:  ((وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) (المائدة: من الآية87) (( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات: من الآية9) (( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)) (النساء: من الآية135) ((  وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ )) (المائدة: من الآية8) .

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)) (النساء: من الآية71) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)) (آل عمران: من الآية118) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة: من الآية1) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) (الممتحنة: من الآية13)  (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )) (المائدة: من الآية51)

ثم قال : والآيات في الأمور السياسية كثيرة متنوعة ، وفي في الشؤون الحربية لنصرة العقيدة وإقامة سلطان الله وإعلاء كلمته في الأرض ، يقول الله تبارك وتعالى : (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))  (البقرة:244)   ((لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ )) (النساء: من الآية95) (( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً))  (النساء:76)  إلى أن قال الشيخ قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)) ( الصف: من الآية14) (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد: من الآية7) إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى .

ثم قال رحمه الله تعالى فأي دين يأمر بالقوة ويجمع بين الحرب والعبادة في آن واحد غير دين المسلمين حتى قال لهم الله محذرا: (( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً )) (النساء: من الآية102) إلى أن قال : (( وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً )) (النساء: من الآية102)

وفي الولاء والمحالفة نهي عباده عن أن يتخذوا من دونه ومن دون إخوانهم المؤمنين وليجة من القوم الآخرين ، وفي المعاملات قال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا)) (المائدة: من الآية1) (( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء:183) (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) (المطففين:1)   (( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)) (البقرة: من الآية282) .

إلى أن قال : وغير ذلك من الشؤون الاجتماعية كثير ، وفي سورة النور والحجرات آيات واضحة لا نطيل بها المقام .

وفي الأحاديث النبوية بحور زاجرة من ذلك ، وملاك ما تقدم قوله تعالى : ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14)   (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102)   وكأنه يشير إلى أن كل ما مر داخل في الدين الذي يجب أن نخلصه لله تبارك وتعالى ، هذا وللعلامة الشيخ / محمد الشنقيطي رحمه الله محاضرة عن كمال الشريعة طبعت في كتيب بين فيها الأدلة على أن الشريعة شاملة كل الأمور من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم وغيرذلك .

المعاصي تنقص التوحيد :

هذا وليعلم أن كل مخالفة وكل معصية تقع من العبد عامداً فإنها تنقص التوحيد وتضعفه ، ما لم يتب منها ، وهذا يفسر لنا كثيراً من المخالفات ومن قلة الانتفاع بالمواعظ والعلم وذلك أن التوحيد قد ضعف في القلب ، فإذا ضعف التوحيد في القلب أصبح الإنسان جريئاً على مخالفة أمر الله تعالى وعلى فعل ما نهى الله عز وجل عنه .

نواقض كلمة التوحيد :

ثم ليعلم المسلم أن كملة التوحيد لها نواقض تبطل إسلام من  فعلها ، فلا ينتفع بنطقه وقوله لكلمة التوحيد ولو أكثر من ذلك ما دام ينقضها بأفعاله، وهذا كالشخص الذي يريد أن يصلي ويتوضأ، ثم بعد ذلك يحدث ، فإن وضوءه لا يفيد ، بل عليه أن يتوضأ مرة أخرى، ومن أهم نواقض " كلمة لا إله إلا الله " الشرك الأكبر بالله جل وعلا بكل أنواعه، فالشرك بالله سبحانه بدعاء الأموت والغائبين والاستنجاد بهم وطلب ما لا يقدر عليه إلا رب العباد سبحانه وتعالى شرك بالله سبحانه وتعالى ، وكذلك الذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها تبركاً وتقرباً إليهم كل ذلك من باب الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام نسأل الله السلامة والعافية وكذلك اتخاذ الوسائط بين الله وبين عباده ومعنى الوسائط هنا أن يدعو الإنسان شخصاً ويطلب أن يشفع له عند الله من الأموات أو من الغائبين ، فإن ذلك شرك بالله عز وجل ، وهذا هو شرك أهل الجاهلية ، شرك أبي جهل ، وأبي لهب الذين قالوا : ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) ما عبدوا هم لأنهم خلقوا ولا لأنهم رزقوا ولكن عبدوهم من أجل أنهم يزعمون أنهم يشفعون لهم ويقربونهم عند الله (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) (( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) (يونس: من الآية18) .

ولذلك فإن من دعا ميتاً أو غائباً أو طلب منه أن يشفع عند الله ففعله من الشرك الأكبر ، لأن معنى ذلك أنه يعلم بدعاء الشخص ويسمعه ، ويستجيب له ، ويقدر على نفعه أو دفع ضره فأعطاه ما هو خاص بالرب تبارك وتعالى .

ومن نواقضها أيضاً : النفاق الاعتقادي أعاذنا الله منه -  وقد بين بعض أهل العلم بعض أنواع النفاق ، فمن أنواع النفاق الاعتقادي كما بين ذلك شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بغض النبي  صلى الله عليه وسلم  أو بغض بعض ما جاء به ، ومن النفاق الاعتقادي أيضاً السرور بانخفاض الإسلام والفرح بذلك ، والحزن إذا انتصر الإسلام وارتفع ، وهذا يبين لنا كثرة النفاق الاعتقادي في عصرنا ، فنرى حينما يهزم أو يتخلف الإسلام في مكان ما كثيراً من المجلات والصحف التي تصدر في أوربا فرحة ، وإذا انتصر الإسلام وارتفع يظهر منها ويبين أنها قد حزنت وانكسرت لما حصل فهذا هو النفاق الاعتقادي أعاذنا الله منه قال الله تعالى لنبيه  صلى الله عليه وسلم  (( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)) (التوبة:50)      فهذه هي طريقة المنافقين في قديم الدهر وحديثه .

ومن نواقض كلمة التوحيد : السخرية والاستهزاء بالله ورسوله وآياته ولو كان هذا الساخر والمستهزئ  هازلاً مازحاً ، فإن أمور الاعتقاد لا مزاح فيها وإنما هي جد ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )) (التوبة:65، 66) سواء كان هذا الاستهزاء باللسان أو على صفحات الجرائد والمجلات أو في غيرها ، فمن استهزأ حتى ولو بالإشارة  بالله ورسوله وآياته كان مرتداً نسأل الله العافية والسلامة

ومن نواقض كلمة لا إله إلا لله :

رفض حكم الله ورسوله والتحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعية الجاهلية التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر والتي فرضها الاستعمار الكافر لما استولى على معظم بلاد المسلمين ولم يغادرها إلا بعد أن فرض عليها الحكم بقوانين أوروبية بعد تنحية الشريعة الإسلامية وما غادر بلاد المسلمين إلا بعد أن وضع فيها أذناباً له مخلصين لمبادئه ، وكما قال أحد المفكرين الإسلاميين : ذهب الإنكليز الحمر وبقي الإنكليز السمر يعني أن الإنكليز بجنودهم انسحبوا من بلاد المسلمين التي كانوا يستعمرونها ، وكذلك الفرنسيون وغيرهم ولكن بقي الذين يتكلمون بلغتنا ولهم نفس جلدتنا ولكنهم أشد على الإسلام والمسلمين من أولئك الكفار النصارى ، فرفضوا حكم الله ورسوله ووضعوا دساتير من القوانين الوضعية ووضعوا لها مراجع ومواد يحكم بها  وزحزحت الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد المسلمين إلا من رحم ربك وأحل ما رحم الله ورسوله وحرم ما أباح الله ورسوله حتى بلغ الأمر أن بعضهم قد حرم ومنع الصيام في نهار رمضان بحجة العمل وفي بعض البلدان التي ينطق أهلها بلغة العرب يمنع أن يتزوج الرجل امرأتين ، وإذا وجد مع الرجل امرأتان أصبحت جريمة عظمى يحاكم عليها بالقانون ، أما إذا وجد معه عشرون بغيا من البغايا لم يتعرض له  أحد ويحميه القانون ، أليس هذا أعظم مما فعل علماء اليهود والنصارى حين أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله ؟ إن هؤلاء قد فرضوه بالقوة ألزموا به المسلمين وجعلوهم يتحاكمون إليه ، بل وحتى لو يأتهم أحد لتعرضوا له ، إن هذا من أعظم نواقض كلمة التوحيد فهو كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله تعالى كالإمام الحافظ ابن كثير لما تكلم عن التتار في تفسيره وفي تاريخه ، " البداية والنهاية " .

كذلك نص على هذا الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله والإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته ، تحكيم القوانين والعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ، والعلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى وغيرهم كثير .

والذين يفعلون ذلك هو من رؤوس الطوغيت كما بين ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حينما تكلم عن رؤوس الطواغيت ، قال الله تعالى (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ،  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً))  (النساء:60، 61)            وإذا كان من أراد أن يتحاكم إلى الطاغوت عن علم ورضا كافراً فما بالك بالطاغوت نفسه الذي يفرض الأحكام المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ويلزم ويفرضها في محاكم المسلمين ليقضي بينهم بها ، إن هذا أشد كفراً وأخبث من ذلك بكثير.

فهم خاطئ لكلمة التوحيد :

إن بعض الناس قد يقول : لا إله إلا الله ثم يفعل ما يناقضها زاعماً أنه بمجرد قوله أصبح في مأمن من الشرك بالله تبارك وتعالى ومن الكفر ، وهناك آخرون يظنون أنهم إذا قالوا كلمة التوحيد واعتقدوها وعملوا بالمعاصي فإن ذلك لا يضرهم ، يعني أنهم إذا لم ينقضوا كلمة التوحيد ولكن عملوا بالمعاصي التي تخرج من الإسلام فإن ذلك لا يضرهم ، متمسكين ببعض الأحاديث التي تدل على  أن من قال :  لا إله إلا الله دخل الجنة  كقوله  صلى الله عليه وسلم  في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال له : (( من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة ))    ومنها أيضاً : قوله  صلى الله عليه وسلم  في حديث معاذ رضي الله عنه : (( حق العباد على أن لا يعذب من مات لا يشرك به شيئاً ))

وفي حديث عتبان  بن مالك رضي الله عنه : (( فإن الله حرم على النار من قال : " لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ))   وهما حديثنا صحيحان في الصحيحين وغيرهما .  وقد أجاب أهل العلم على هذا الأمر وهو حكم ذلك الذي ينطقها ثم يفعل ما يناقضها بأمور منها : أن من المقطوع به في دين المسلمين أنه ليس كل قائل يقول :  لا إله إلا الله يعتبر من أهل النجاة والسلامة من الشرك فإن المنافقين في عهد النبي  صلى الله عليه وسلم  كانوا يقولون : لا إله إلا الله وهم في باطن الأمر مشركون بالله جل وعلا كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ، قال الله تعالى : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا)) (النساء:145)  (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) .

شروط لا إله إلا الله :

إذا تبين أنه قد يقول كلمة التوحيد من هو في نفس الأمر مشرك يبطن الكفر ويظهر الإسلام فإن الله عز وجل ورسوله  صلى الله عليه وسلم  قد بين لنا أن لكلمة التوحيد شروطاً لا بد من توافرها في الناطق بها ليكون من أهل النجاة عند الله عز وجل وذكر أهل العلم أنها سبعة شروط :

أولها :  العلم بمعناها نفيا وإثباتاً ، أي : العلم المنافي للجهل بالمعنى الذي دلت عليه ، ولذلك قال الله تعالى : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) (محمد: من الآية19) وقال سبحانه : ((  إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (الزخرف: من الآية86)  إذاً لا بد من علم ، أما أن يقول الشخص وهو لا يدري فإنه لا يكون بذلك ناجياً ، ولا يكون بذلك مسلماً ولو أن شخصاً أعجمياً كافراً نصرانياً أو يهودياً أو مجوسياً أو غير ذلك سمع رجلاً يقول : لا إله إلا الله بالعربية فقالها مثله لم يكن بذلك مسلماً حتى يعلم معناها ويعتقد ويعمل بمقتضاها وقول الله تعالى : : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))  فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بقوله : إلا من شهد بالحق يعني بـ " لا إله إلا الله " وهم يعلمون ، أي : يعلمون ما دلت عليه ، وقال  صلى الله عليه وسلم  : (( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله  دخل الجنة ))

والجهل بمعناها هو الذي أوقع كثيراً من الناس في الشرك حيث جهلوا معنى لا إله إلا الله ، فجهلوا معنى الإله وأن الإله هو المعبود وجهلوا مدلول النفي ومدلول الإثبات بعكس المشركين السابقين ، أبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، حيث كانوا يعرفون معناها فرفضوا لما قالها لهم النبي  صلى الله عليه وسلم  قولوا له  " (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5)  وقال بعضهم لبعض :  (( أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) (صّ: من الآية6) إذ أولئك القوم عرفوا معنى كلمة لا إله إلا الله فرفضوا وأبوها ، أما هؤلاء فإنهم جهلوا معناها فعبدوا القبور وعكفوا عليها ونذروا لأهلها وذبحوا لهم ودعوهم من دون الله تبارك الله وتعالى فكانوا خارجين بذلك عن معنى كلمة التوحيد.

الشرط الثاني : أن يقولها الشخص بيقين فيستيقن قلبه بها ويعتقد صحة ما يقوله : وضد اليقين الشك والريب والتوقف والظن قال الله تعالى : ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)) (الحجرات: من الآية15) .

وقال  صلى الله عليه وسلم  في الحديث الصحيح : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ))

وقال تعالى عن المنافقين : (( وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) (التوبة: من الآية45))

فمن قالها وهو شاك في صحتها كان بذلك كافراً نسأل الله العافية والسلامة لأن الإيمان جزم .

الشرط الثالث :

أن يقولها قابلاً لها ، والقبول ينافي الرد فلا يرد شيئاً من معانيها ، فقد يعلم معنى الشهادتين ، وقد يوقن بمدلولهما لكنه يردهما كبراً وحسداً ، وذلك كأحبار اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) (البقرة: من الآية109) .

وكذلك زعماء المشركين كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله ويعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك استكبروا عن قبول الحق والهدى ، قال الله تعالى عنهم : (( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)) (الصافات:35)  وقال تعالى : (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) (الأنعام: من الآية33) .

ومثل هؤلاء من يعلم بمعنى لا إله إلا الله في هذا الزمن ويعتقد صحتها ولكنه لا يقبلها بل يردها ويرفضها .

الشرط الرابع :  أن ينقاد لها ويستسلم ويذعن ، وقد فرق بعض أهل العلم بين القبول والانقياد ، بأن القبول يكون بالأقوال والانقياد يكون بالأفعال ، قال الله تعالى : (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )) (النساء: من الآية125) وقال تعالى : (( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (لقمان: من الآية22) .

فقد يوجد من يقول : لا إله إلا الله ولكنه يأبى الانقياد لما دلت عليه بأن يكون الحكم لله وحده، وأن يكون التشريع حقاً لله وحده فيجعل التشريع حقاً للأمة ، ويجعل الأمة مصدر السلطات ، فيجعل التشريع حقاً للبرلمان أو لغيره .

الشرط الخامس : أن يقولها الشخص بصدق ، والصدق مضاد للكذب ، فأما من قالها كاذباً فإنها لا تنفعه ، والذي يقولها كاذباً هو المنافق ، فعلى المسلم أن يقولها بصدق يريد به وجه الله تعالى ، قال : (( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (العنكبوت: من الآية3) وقال سبحانه وتعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (الزمر:33)  قال ابن عباس رضي الله عنهما  " من جاء بلا إله إلا الله "

أما المنافقون فإنهم كانوا يقولونها ولكنهم في باطن الأمر يكذبون بها ، قال تعالى : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) . لقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة " المنافقون " أن عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس النفاق كان يقوم كل جمعة قبل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب في الناس ، يتكلم فيقول : ( أيها الناس إن الله قد أكرمكم ببعثة هذا النبي فاسمعوا له وأطيعوا )   .

هذا هو رأس النفاق ، فلما جاء يوم أحد وانخذل بثلث الجيش ، قال بعدها وأراد أن يقول هذا الكلام فجبذه المسلمون وردوه وقالوا اجلس يا خبيث ، يعني ظهر ما يبطنه هذا الرجل المنافق ، ولذلك فإن كثيرين يقولون لا إله إلا الله بألسنتهم ولكن تأبى قولوبهم أن تنقاد ، وهم يكذبون بها حقيقة وباطناً ، إما هم علمانيون ، أو منافقون ، أو غير ذلك من ملل الكفر وتيارات الإلحاد ، وإنما يولونها خوفاً من المسلمين ، وخوفاً من الفضيحة أو للترويج لأفكارهم الوضعية من زبالة أذهان الغربيين عند كثير من عوام المسلمين وجهالهم .

الشرط السادس : أن يقولها بإخلاص ، وضد الإخلاص الشرك قال تعالى : (( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))  (غافر:14) (( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ))  (الزمر: من الآية2 ، 3)  وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : " من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( أسعد الناس بشفاعتي من قال : " لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ))   .

وفي الحديث القدسي قال الله تعالى : (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ))   .

والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده دون أن يصرف منها شيئاً لغيره تعالى ، فهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك كبيره وصغيره ، ظاهره وخفيه ، وهذا يخرج المشركين الذين يقولون : لا إله إلا الله ولكنهم يطوفون بالقبور ويعبدونها ويقدسون أهلها ويرفعون ويعظمون مرتبة الألوهية .

الشرط السابع : المحبة المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء فيقولها المسلم محباً لها محباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما إن قالها وهو كاره لها مبغض لما دلت عليه ، مبغض لله أو لرسوله كان ذلك ناقضاً لكمة التوحيد قال الله تعالى : (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) (المائدة: من الآية54) وعن أنس رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم :  (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث

وقد جمع بعض أهل العلم هذه الشروط في بيت شعر فقال :

علم يقين وإخلاص وصدقك مع    محبة وانقياد والقبول لها

وزاد بعض أهل العلم شروطاً وهو الكفر بما يعبد من دون الله مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( من قال : لا إله إلا الله  وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ))   .

وعلى كل سواء أضفنا هذا الشرط أو حذفناه فإن الشروط السبعة تدل عليه بلا شك فمن قالها بعلم فمعنى أنه يعلم أنه لا يعبد أحد غير الله تبارك وتعالى : ويعلم أنه لا بد من الكفر بالطاغوت .، قال بعضهم :

وزيد ثامنها الكفران منك بما     سوى الإله من الأنداد قال ألها

وإذا تبين ذلك وعرفت هذه الشروط وما ذكر عليها من الأدلة تبين جواب ذلك السؤال وتبين أن من قال : لا إله إلا الله ثم عبد غير الله بدعاء أو ذبح أو نذر أن لم ينقد لحكم الله ورسوله وطبق القوانين الوضعية المستوردة من النصارى واليهود فهو مشرك بالله تبارك وتعالى الشرك الأكبر ، حيث قد نقض ما قال ، فلا يكون قوله نافعاً له ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .

الرد على المرجئة القائلين لا يضر من الإيمان ذنب :

أما من زعم أنه بمجرد أن يقولها يكون محققاً بمعنى أن يقولها ولا ينقضها ثم بعد ذلك يفعل المعاصي والموبقات وينجو من العذاب ولو ترك الواجبات وفعل المعاصي محتجاً بالأحاديث السابقة فقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة متعددة منها :  أن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار ، لكن لها شروط أي النجاة وهي الإتيان بالفرائض ولها موانع وهي الإتيان بالكبائر ، ولذلك قال الحسن البصري للفرزدق الشاعر لما لقيه في مقبرة فقال له يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال الفرزدق : لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة ، فقال الحسن : إن لـ  " لا إله إلا الله " شروطاً فإياك وقذف المحصنات .

وروي عنه أنه قال : هذا العمود فأين الطنب ؟ وقيل له : إن ناساً يقولون : من قال لا  إله إلا الله دخل الجنة ، فقال رحمه الله من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل  الجنة وقيل  لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قالل :  بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك   .

وقال آخرون : كان هذا أي الأحاديث السابقة في أن من  قال : لا إله إلا الله دخل الجنة كان قبل فرض الفرائض وقبل تشريع الحدود فلما فرضت الفرائض ونزلت الحدود أصبح ذلك إما منسوخاً أو أنه أنضم إلى لا إله إلا الله شروط وزيد عليها ، فأصبح ذلك فرضا على كل مسلم لا يكون ناجياً إلا به  ، ومن نسب له هذا القول الإمام الزهري محمد بن شهاب الزهري والإمام سفيان الثوري رحمها الله تبارك وتعالى وقال آخرون من أهل العلم : إن هذه الأحاديث التي فيها أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة نصوص مطلقة وأنها جاءت مقيدة  بأن يقولها المسلم بصدق وإخلاص ، وإذا قالها بصدق وإخلاص فإن صدقه وإخلاصه يمنع الإقدام على المعصية ، فقولها بصدق تام وإخلاص تام يطهر القلب من كل  الأدران والنجاسات التي هي الذنوب ويطهر القلب من الجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله ، فيكون العبد بذلك مطيعاً لله تبارك وتعالى .

أما من قالها وركب المعاصي فصدقه ناقص وإخلاصه ناقص وهو متبع لهواه ، وهذا هو أصح الأقوال ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .

ثم هاهنا أمر لا بد من الانتباه له وهو أن النصوص الشرعية أي : قول الله وقول رسوله  لا يمكن أن تكون متناقضة  أبداً ولا بد أن يجمع المسلم بينها ، ولا بد أيضاً من الإيمان بها جميعاً ، ولا بد أن يحمل متشابهها على محكمها ، ومجملها على مفصلها ، ومنشأ خطأ الخوارج والمعتزلة أنهم أخذوا نصوص الوعيد دون نصوص الوعد .

ومنشأ خطأ المرجئة أنهم بالعكس وهدى الله عز وجل أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله عز وجل يهدي ما يشاء إلى صراط مستقيم .

فقد تواترت النصوص على أن بعض أهل التوحيد يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها .

ويجب الإيمان بهذه النصوص والاعتقاد بمدلولها وأن أهل الكبائر من المسلمين تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنهم وغفر لهم بواسع فضله ورحمته ، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم في النار ، ولكن لا بد أن يدخلوا الجنة في يوم من الأيام .

المخالفون لكمة التوحيد :

وإذا تبين لنا معنى كلمة التوحيد كلمة لا إله إلا الله ، فإن لـ " لا إله إلا الله " أعداء ولها مخالفون ، يعني لمدلولها مخالفون وله من الأصل أعداء ، فأما المخالفون فهم كثر ومنهم المرجئة الذين يقولون إن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ولو فعل ما فعل ، فسهلوا فعل الكبائر على المسلمين وزعموا أن الإيمان في القلب وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، وكان ذلك أمراً خطيراً على الأمة سبب فيها انحرافاً عظيماً وسبب بعد ذلك ضعفاً في الإيمان ، وهؤلاء المرجئة منتشرون في كثير من بلاد المسلمين ، يهونون المعصية ويسهلون أمرها ، نجد أحدهم يقول إذا نُصِح أو حُذِّر من مخالفة الإيمان في القلب والمهم الضمير .

نعم القلب هم الأهم بلا شك ، (( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ))   .

كما قال صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا صح القلب صلحت الجوارح وصلح السلوك وصلح الخلق وصلحت العبادة ، أما أن يوجد الإيمان في القلب ولا توجد عبادة ولا سلوك فهذه أمنية وليست بصحيحة ، إنما هي حيلة شيطانية وإن تأثير أصحاب الفكر الإرجائي على المسلمين تأثير عظيم حتى سهلوا على بعض الناس أن يرتكب بعض المكفرات زاعمين أن ذلك لا يتعارض مع الإيمان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

ومن المخالفين لها أيضاً الذي كان لهم أثر بالغ السوء في الأمة أهل الكلام من الأشعرية و الماتردية وغيرهم  الذين زعموا أن معنى لا إله إلا الله أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع ولا قادر على الاختراع إلا الله ففسروها بالربوبية فعندهم أن من قال : لا إله إلا الله معتقداً أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع إلا الله فقد كمل توحيده ، فإذا فعل ما يناقض الألوهية فلا يضره ذلك عند كثر منهم ، وهذا سبب الخطأ عند كثير من الناس حتى أن بعضهم ينسب إلى العلم فيعبدون القبور أو يقرون من عبدها أو يسكتون عليها زاعمين أن هؤلاء مؤمنين وموحدين ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، وإذا سألتهم من الخالق ؟ قالوا : الله  فهم إذا مؤمنون ، وقد سبق معنا أن بينا أن هذا لم يكن يخالف فيه لا أبو جهل  ولا أبو لهب  ولا غيرهم ، وأن الرسل إنما أرسلوا ليعبد الله وحده لا شريك له (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) (النحل: من الآية36).

ومن المخالفين أيضاً لكلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا : المتصوفة الغلاة الذين كانوا سبباً من أسباب الضلال قطاع كبير من المنتسبين للقبلة فهؤلاء الغلاة هم الذين زينوا للناس التوسل بالصالحين والتشفع بهم والعكوف عند قبورهم والتقرب لهم والتمسح بهم وبالقبور ودعائهم وزعموا أن ذلك إنما هو تعظيم للصالحين ، وتعظيم للأنبياء وأنهم يشفعون عند الله وهذا هو نفس شرك أهل الجاهلية الأولى التي عاصرت النبي صلى الله عليه وسلم .

وهؤلاء في واقع الأمر مناقضون لكلمة التوحيد وليسوا مخالفين فقط ومثلهم الروافض الذين أشد الناس تعلقاً بالقبور وبالمقبورين وخاصة من أئمتهم الذين يقدسونهم ، ولهذا تجد الرافضة يعتقدون أن زيارة قبور أئمتهم أعظم من زيارة الكعبة والبيت وتجد أنهم يؤلفون الكتب في طريقة الزيارة لهم حتى أن بعضهم ألف كتاباً في شعائر الحج إلى المشاهد فسماها حجاً ، محادة لله وللرسول .

ومن المناقضين لكلمة التوحيد العلمانيون والمنافقون الذين يتربصون بالإسلام وهم يريدون هدمه من الداخل يؤلفون المؤلفات ويكتبون المقالات التي تدعو إلى تحكيم القوانين وإلى الرجوع إليها وإلى تحسين اللادينية والعلمانية وإلى الطعن في دين الله تبارك وتعالى أو في رسوله صلى الله عليه وسلم أو في آياته سبحانه والتشنيع على أهل الإيمان ونبزهم بشتى الأوصاف وهم لا يقصدون الذوات إنما يقصدون المبادئ التي يعتنقها أهل الإيمان ، وإلا فإن الذوات تأتي وتذهب ، والذوات كثيرة ومن المعلوم أن سخصاً لا يحارب شخصاً بمجرد ذاته ولكن يحاربه لأمور أخرى خارجة عن تلك الذات إما المعتقدات أو غيرها .

واقع الأمة مع كلمة التوحيد :

إن واقع الأمة مع " لا إله إلا الله " واقع مؤسف فقليل من الناس هم الذين يعلمون معناها ويعملون بمقتضاها ، والقطاع الأكبر من أمة الإسلام مفرطون في معنى كلمة التوحيد وفي معرفتها وجاهلون بمقتضاها وذلك إما يفعلون ما يناقضها أو يفعلون ما ينقصها ويضعفها في القلب ، ولذا فإن واجب  المسلمين في كل مكان أن يعملوا على نشر كلمة التوحيد وعلى بيانها وعلى تصحيح المفهوم الخاطئ  لها وبيان أنها كلمة عامة شاملة في الاعتقادات وفي المعاملات وفي العبادات وفي الأخلاق وفي الهدى وفي السلوك وفي السياسات وفي الحكم والاقتصاد والتعليم والتربية والاجتماع والإعلام وفي كل شيء فإنها عامة شاملة لكل قطاع ، فمن كان مسلماً فعليه أن يخضع لله وحده : (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة: من الآية85) .

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام عظيم متين أختم به هذا الكلام المبارك في بيان معنى كلمة لا إله إلا الله وشموليتها ، وذلك لأن الحاجة ماسة لتصحيح مفاهيم المسلمين وأولها مفهوم التوحيد ، مفهوم كلمة " لا إله إلا الله " وذلك لإعادة إحياء الهوية الإسلامية النقية الصافية التي تتأثر بالكافرين ، لا من النصارى ولا من اليهود ولا من غيرهم .

يقول شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية " فرأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله ، بها بعثت الله جميع الرسل "   وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى : جميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وهذا هو دين الله أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره .

(( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)) (آل عمران: من الآية19) .

(( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85)    ويقول أيضاً في اقتضاء الصراط المستقيم يقول الله تعالى : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية110) .

وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول في دعائه : (اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ) إلى أن قال رحمه الله : هذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين واللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله ، فإن شهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له ، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره  بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ، ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله ، فإن كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من لشرك بحسبه . إلى أن يقول : والشهادة بأن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته  في كل ما أمر، فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه ، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفون عنه ما نفاه من مماثلة المخلوقات ..إلى أن يقول : وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه ، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله .

ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف ، وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله ولكونهم شرعوا ديناً لم يأذن به الله ... إلى أن قال فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إلى الله بغير إذنه يعني بشرع مبتدع فقد ابتدع ، والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك إلى أن قال : ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى : ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31)  قال : وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم قال تعالى : ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) . فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .

والمؤمنون صدقوا الرسول فما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق ، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث .

وقال : أيضاً : ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص من قوله تعالى : ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ)) (الزمر: من الآية29) .

فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه ، وهذا حقيقة قولنا : لا إله إلا الله فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم لله فهو مستكبر عن عبادته ، وقد قال الله تعالى : ((إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ))(غافر: من الآية60) أ. هـ

كلامه رحمه الله وأحب أن أقول : إن الله تعالى قال في كتابه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) (البقرة: من الآية208) .

ومعنى الاستسلام هنا يعني الإسلام ، يعني ادخلوا في الإسلام كله جملة وتفصيلاً لا تفرقوا فيه بين شيء وشيء وأختم هذا الحديث فأقول : إن الشيخ العلامة محمد قطب قد ألف كتاباً عن كلمة " لا إله إلا الله " بين  فيه مفهومها وهو آخر كتبه ، يجدر بالمسلم أن يرجع إليه وأن يقرأه ، فإنه كتاب قيم .

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا العلم الصحيح بكلمة " لا إله إلا الله " وأن يوفقنا للعمل بمقتضاها وأن يجعلنا من الداعين إليها المجاهدين من أجلها ، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمة وأن يردها رداً جميلاً وأن يهيأ لها من أمرها رشداً وأن ييسر تصحيح جميع المفاهيم عند الأمة وخاصة مفهوم كلمة التوحيد كلمة " لا إله إلا الله " وأسأله سبحانه وهو القوي العزيز والواحد القهار أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته وأن يعز أولياءه المؤمنين ويمكن لهم في الأرض ، وأن يذل أعداءه أعداء الدين وأن يخذلهم ويرينا فيهم عجائب قدرته . اللهم اشدد عليهم وطأتك وارفع عنهم عافيتك ، اللهم حل بينهم وبين ما يشتهون وأرهم في المؤمنين ما يحذرون إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ...

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعل آله وصحبه وسلم أجمعين .

والحمد لله رب العالمين .

===========

وبضدها تتميز الأشياء

 

من سمات علماء الآخرة وعلماء السوء، ووصف أهل العلم لهم

تتجلى قدرة الله عز وجل في كل شيء من مخلوقاته، من ذلك قدرته سبحانه على خلق المتضادات المتقابلات، فقد خلق الله محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأطهرهم، وخلق إبليسَ أخبث الذوات وشرها، وخلق الليلَ والنهارَ، والداءَ والدواءَ، والموتَ والحياةَ، والشرَّ والخيرَ، والقبيحَ والحسنَ، وخلق علماءَ السوء في مقابل علماء الآخرة.

فلولا وجود أمثال بلعام بن باعوراء، وبشر المريسي، وابن أبي دؤاد، ومن شاكلهم، عليهم من الله ما يستحقون، ما عرفنا فضل الإمام أحمد، وبشر الحافي، وابن أبي العز، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثالهم من علماء الآخرة الأطهار الأبرار، فبضدها تتميز الأشياء، فلولا موقف ابن أبي دؤاد الخبيث، وبشر المريسي الخسيس، لما استبان صدق وثبات أحمد بن حنبل، وأحمد بن نصر، وأبي نعيم من المخلصين الأخيار، فسبحان من لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى.

أهم سمات وخصائص علماء الآخرة      أهم سمات وخصائص علماء السوء

1.  الخشية والخوف من الله عز وجل: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فهذه أولى صفات علماء الآخرة، وهي الفارق بينهم وبين علماء السوء.   1.  عدم الخشية والخوف من الله، بل التجرؤ على حدوده، فمن لم يخش الله فليس بعالم، مهما حوى من العلم.

2.  يؤمنون بالمحكم من القرآن وهو جله، وبالمتشابه من غير اتباع له، قال الله في مدحهم:" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكـر إلا أولو الألبـاب". 2.  يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله".

3.  بيان العلم وتوضيحه، وبذله للخاص والعام، كيف يروون ما صحَّ عن رسولهم صلى الله عليه وسلم: "من سُئِل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة"، ثم لا يبينون.   3.  كتمان العلم، ولهذا ذمَّ الله أحبار السوء من اليهود: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون".

وقال: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون".

4.    يؤثرون الآخرة على الفانية.    4.  يؤثرون الدنيا على الآخرة، يصدق عليهم قوله تعالى: "بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى".

5.  الزهد، والتقلل من الدنيا، اقتداء بنبيهم واتباعاً لسير أسلافهم. 5.    التلبس والاشتغال بنعيم الدنيا الفاني.

6.  عدم الدخول على الحكام وأخذ عطاياهم، ومن دخل منهم كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر شافعاً لإخوانه المسلمين.   6.  كثرة الدخول والتزلف إلى الحكام من غير قيام بواجب.

7.    الاشتغال بالعلم النافع.     7.  الاشتغال بالجدل والخصومات والتوسع في العلوم الفارغات.

8.    اتقاء الشبه، والمعاصي، والبدع المحدثات. 8.  الانغماس في الشبه والمعاصي وعدم التورع من البدع.

9.  موافقة أعمالهم لأقوالهم، فهم يدعون الناس بأعمالهم قبل أن يدعوهم بأقوالهم.     9.  يخالف عملهم قولهم، فأقوالهم تدعو إلى الدين، وأفعالهم تنفِّر منه.

10.يحذرون الشذوذ من الأقوال، ورخص وزلات العلماء.   10.ليس لهم شغل إلا البحث والتفتيش عن الزلات، والأخذ بالرخص والهفوات.

11.التواضع ولين الجانب.  11.الاستكبار والتعالي.

12.الاشتغال بالأمر والنهي والمناصحة.     12.المداهنة والمنافقة.

13.يعلمون الأدب والسلوك بجانب العلم.     13.لا يُعنون بذلك.

ما ورد في علماء الآخرة وعلماء الدنيا ـ السوء ـ من الآثار

لقد وردت آيات كثيرة، وأحاديث وفيرة، وآثار غزيرة في وصف هذين النوعين، وبيان ما يمتاز به كل فريق منهم، سنذكر طرفاً منها:

من القرآن

بجانب ما سبق:

1.   "وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم".

2.   "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين".

3.   "فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثلما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون".

4.   "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمين".

من السنة

1.   "خيرُكم من تعلم القرآنَ وعلمه".

2.   "لا حسد إلا في اثنتين"، وذكر منهما: "ورجل آتاه الله الحكمة وهو يقضي بها".

3.   "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، وتماروا به السفهاء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار".

4.   "العلم علمان، علم اللسان فذلك حجة لله تعالى على خلقه، وعلم في القلب فذلك العلم النافع".

من الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم

1.   قال عليّ رضي الله عنه في حديث الطويل: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال ينقصه الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، منفعة المال تزول بزواله، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر؛ ثم تنفس الصعداء وقال: هاه، إن هاهنا علماً جماً، لو وجدتُ له حملة، بل أجدُ طالباً غير مأمون، يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا، ويستطيل بنعم الله على أوليائه، ويستظهر بحجته على خلقه، أومنقاداً لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا بصيرة له، لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذات سلس القياد في طلب الشهوات، أومغرى بجمع الأموال والادخار، منقاداً لهواه، أقرب شبهاً بهم البهائم السائمة، اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه، ثم لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مكشوف، وإما خائف مقهور، لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته، وكم وأين أولئك؟ هم الأقلون عدداً، الأعظمون قدراً، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، يحفظ الله تعالى بهم حجة، حتى يودعها من وراءهم، ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنِسوا بما استوحش منه الغافلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه، وأمناؤه وعماله في أرضه، والدعاة إلى دينه؛ وقـال: واشوقاه إلى رؤيتهم".

هذا الذي ذكره أخيراً هو وصف علماء الآخرة.

2.   وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب، فلا ينفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه، فتلون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح، ينزل عليها قطر السماء، فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم، فيخبرك عالمهم حتى تلقاه أنه يخشى الله بلسانه، والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ، وما أجدب القلوب! فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى، والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى".

3.   وقال حذيفة رضي الله عنه: "إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشرما يعلم نجا، وذلك لكثرة البطالين".

4.   وقال ابن عباس رضي الله عنهما في وصف علماء الآخرة والدنيا يرفعه، والصحيح وقفه عليه: "علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه علماً فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعاً، ولم يشتر به ثمناً، فذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيداً شريفاً، حتى يوافق المرسلين، ورجل آتاه الله علماً في الدنيا فضنَّ به على عباد الله، وأخذ عليه طمعاً، واشترى به ثمناً، فذلك يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، ينادي منادٍ على رؤوس الخلائق: هذا فلان ابن فلان، آتاه الله علماً في الدنيا، فضنَّ به على عباده، وأخذ به طمعاً، واشترى به ثمناً، فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس".

5.   وقال الحسن البصري رحمه الله: "عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا".

6.   وقال الحافظ الذهبي رحمه الله معدداً أصناف العلماء ودرجاتهم، معلقاً على ما قاله هشام الدَّستُوائي: "واله ما أستطيع أن أقول إني ذهبتُ يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل": (قلت ـ أي الذهبي ـ: ولا أنا، فقد كان السلف:

أ. يطلبون العلم لله فنبُلوا، وصاروا أئمة يُقتدى بهم.

ب. وطلبه قوم منهم أولاً، لا لله، وحصَّلوه، ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرَّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعدُ؛ وبعضُهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله؛ فهذا أيضاً حسن، ثم نشروه بنية صالحة.

ج. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا، وليُثنى عليهم، فلهم ما نووا، قال عليه السـلام: "من غـزا ينوي عِقـالاً فله ما نوى"، وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.

د. وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتباً لهم، فما هؤلاء بعلماء.

ﻫ . وبعضُهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار.

و . وبعضهم وضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه، وصار زاده إلى النار.

وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة.

ز. فخلف من بعدهم خَلْف بان نقصهم في العلم والعمل.

ح. وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله، لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرِّس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يورده، ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً).

7.   وقال يحيى بن معاذ رحمه الله في وصف علماء الدنيا: (يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية؟).

8.   وقال ابن المبارك في علماء السوء:

رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ             ويـورثُ الذلَّ إدمانُهـا

وتركُ الذنوبِ حياةُ  القلوبِ             وخيرٌ لنفسِك عصيانُهـا

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ             وأحبارُ سوءٍ ورهبانُهـا

9.    ولله در القائل في وصف علماء الدنيا:

عجبتُ  لمبتـاع الضلالة بالهدى             ومن يشتري دنياه بالدين أعجبُ

وأعجبُ من هذين من بـاعَ دينَه             بدنيا سواه فهو من هذين أعجبُ

10.   وقيل في علماء السوء كذلك:

يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ  متهماً             إذ عبتَ منهم أموراً أنتَ تأتيها

أصبحتَ تنصحُهم بالوعظ مجتهداً              فالموبقات  لعمري أنت جانيها

تعيبُ دنيا وناسـاً راغبين   لهـا             وأنتَ أكثـرُ منهم رغبـة فيها

*************************

الفهرس العام

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الموضوع

الصفحة

الباب الثاني - ركن الذكرى

1

تحذير المصلين من خطر القصَّاص والمذكِّرين

1

لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت

5

المساجد هي بيوت الله في الأرض فاعرفوا لها قدرها

8

أيها المسلمون "اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة"

12

الدِّينُ رأسُ المالِ فاستمسِكْ به ** فضياعُه من أعظمِ الخُسْران

15

أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات

16

احذر أخي المسلم اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت

21

ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة

25

اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية

37

الجليس الصالح

45

حسن الخاتمة وسائلها وعلاماتها والتحذير من سوء الخاتمة

59

لا تأمن أخي المسلم مكر الله

69

رسالة إلى مسؤول وتاجر

73

وسائل الثبات وأسبابه

 

75

 

88


 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج13. الصحاح في اللغة الجوهري

      ج13. الصحاح في اللغة الجوهري يقول الراعي لصاحبه من بعيدٍ: ياهِ ياهِ، أي أقبل. قال ذو الرمّة : يُنادي بيَهْياهٍ وياهٍ كأنَّه ...