الجمعة، 2 سبتمبر 2022

تابع {الدين النصيحة (5)موسوعة الدين النصيحة المؤلف علي بن نايف الشحود}

 

الدين النصيحة (5)

 

الباب التاسع -ركن  السلوك

الاستقامة "قل آمنتُ بالله ثم استقم"

تعريف الاستقامة

مفاد هذه التعريفات، وحقيقتها، ومدلولها

فحقيقة هذه التعريفات تُتَرجم في الآتي

أدلة الاستقامة

ما الذي يعين على تحقيق الاستقامة؟

ثمار الاستقامة ونتائجها

الاستقامة، وما أدراك ما الاستقامة، ثم ما أدراك ما الاستقامة، إنها أس الديانة، وسبيل السلامة، إذ هي أكبر كرامة في الدنيا، المفضية إلى الكرامة الأبدية وهي الجنة: "فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"، فلو مشى المرء على الماء، أوطار أوتربع في الهواء، ما دل ذلك على قبول الله له حتى يستقيم على أمر الله ونهيه، إذ هو الضابط الوحيد للكرامة.

حُكِي للإمام الشافعي رحمه الله ما قاله الليث بن سعد، فقيه مصر ومفتيها في زمانه: "لو رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "لقد قصَّر الليث، لو رأيتم الرجل يمشي على الماء، أويطير في الهواء، فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب".

أمر بهذه الخطورة والأهمية فيه فلاح الدنيا والآخرة، ينبغي لكل مسلم عاقل أن يسعى لتحقيقه في نفسه، ويحرص على أن ينال منه حظه، فما لا يدرك كله لا يترك جله، فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، كما أخبر الصادق المعصوم، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن تُحاسب، ووزن أعماله بميزان الشرع قبل أن توزن عليه، وتزيَّن ليوم العرض الأكبر، كما قال عمر بن الخطاب، الناصح البصير.

وبعد..

فما حقيقة الاستقامة؟ وما دليلها؟ وبِمَ تنال؟ وما ثمرتها؟

ã

تعريف الاستقامة

لأئمة الدين في تعريف الاستقامة وحدها ألفاظ وأقوال مختلفة، ذات دلالة واحدة، والأقوال هي:

1.  سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: "أن لا تشرك بالله شيئاً".

2.  وقال عمر رضي الله عنه: "أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب".

3.  وقال عثمان رضي الله عنه: "إخلاص العمل لله".

4.  وعرفها علي رضي الله عنه: "بأنها أداء الفرائض".

5.  وقال الحسن البصري رحمه الله: "استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته".

6.  وقال مجاهد رحمه الله: "استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله".

7.  وقال ابن زيد وقتادة رحمهما الله: "الاستقامة على طاعة الله".

8.  وقال سفيان الثوري رحمه الله: "العمل على وفاق القول".

9.  وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: "الإعراض عما سوى الله".

10.  وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية".

11.  وقال ابن تيمية رحمه الله: "الاستقامة على محبة الله وعبوديته، وعدم الالتفات عنه يمنة أويسرى".

12.  وقال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: "الاجتهاد في اقتصاد".

ã

مفاد هذه التعريفات، وحقيقتها، ومدلولها

الاستقامة من الكلمات الجامعة المانعة، كالبر، والخير، والعبادة، فلها تعلق بالقول، والفعل، والاعتقاد.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: (هذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله، عقداً، وقولاً، وفعلاً، وداوموا على ذلك.

وقال ابن القيم رحمه الله: فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء.

والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها، وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله).

ã

فحقيقة هذه التعريفات تُتَرجم في الآتي

أولاً: الإيمان الصادق بالله عز وجل.

ثانياً: الاتباع الكامل والاقتداء التام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"، قال: أخلصه وأصوبه؛ قيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أوكما قال.

ثالثاً: أداء الواجبات: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه" الحديث، وفعل الواجبات أفضل من ترك المحرمات.

رابعاً: الانتهاء عن المحرمات والمكروهات.

خامساً: الإكثار من النوافل والتطوعات: "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" الحديث.

سادساً: المداومة على أعمال الخير: "أحب العمل إلى الله أدومه" الحديث، وقالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان عمله ديمة".

سابعاً: التوسط والاعتدال، فخير الأمور الوسط، وعمل قليل في سبيل وسنة خير من كثير في بدعة، والاعتدال لا يعني التسيب والانفلات، فبين التشدد، والالتزام، والتفلت فروق دقيقات.

ثامناً: حفظ الجوارح وسجن اللسان.

تاسعاً: السعي لتزكية النفس: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".

عاشراً: الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، وفي نيل مرضاته قدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

ã

أدلة الاستقامة

لقد حث الله على الاستقامة، وأمر بها عباده، وكذلك حض عليها نبيه صلى الله عليه وسلم، من ذلك:

   قوله تعالى: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ".

وقوله: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ".

وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

وقال مخاطباً الرسول وأمته: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".

وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: "قل آمنتُ بالله ثم استقم".

زاد الترمذي: قلت: يا رسل الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، وقال: "هذا".

ã

ما الذي يعين على تحقيق الاستقامة؟

الاستقامة على أمر الله نعمة عظيمة، ودرجة رفيعة، ومنة عالية، فتحقيقها يحتاج إلى جد، واجتهاد، وصبر، واحتساب، ودعاء، وتضرع، وإخبات، وتوفيق، واحتراز.

أهم المعينات على تحقيق ذلك بعد توفيق الله عز وجل ما يأتي:

أولاً: الدعاء والتضرع، وسؤالها بجد وإخلاص، ولأهمية ذلك أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم.

فالدعاء هو العبادة، وهو سلاح المستضعفين، وعدة الصالحين، ولا يعجز عنه إلا المخذولين، فالله سبحانه وتعالى مالك الهداية والاستقامة، فلا تُطلب إلا من مالكها.

ثانياً: الاشتغال بالعلم الشرعي، فالعلم قائد والعمل تبع له: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ"، فأمر بالعلم قبل العمل.

وينبغي أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويشرع في الأهم ثم المهم، وأن يتلقى من مشايخ أهل السنة الموثوق بدينهم وعقيدتهم وعلمهم، "إن هذا العلم دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم"، كما قال مالك وغيره.

ثالثاً: الحرص على التمسك بالسنة، فهي سفينة النجاة، والحذر كل الحذر من البدع والاقتراب من المبتدعين، فإن ذلك هو الداء العظيم، والضلال المبين، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، كما جاء في الصحيح، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

رابعاً: مراقبة الله في السر والعلن.

خامساً: مجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، وعدم الغفلة عن ذلك، ومحاسبتها في كل وقت وحين، وعلى الجليل والحقير.

سادساً: الإكثار من تلاوة القرآن، ومحاولة حفظه أوما تيسر منه، والمداومة على ورد ثابت.

سابعاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار وأدعية المناسبات المختلفات، فمن لم يوفق للغزو والجهاد، ولا لصيام الهواجر وقيام الليالي، فلا يفوتنه أن يعوض عن ذلك بلسانه.

فقد روي مرفوعاً وموقوفاً كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "من فاته الليل أن يكابده، وبخل بماله أن ينفقه، وجبن عن عدوه أن يقاتله، فليكثر من "سبحان الله وبحمده"، فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب أوفضة ينفقه في سبيل الله عز جل".

ويغني عنه ما في الصحيح: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله".

ثامناً: الحرص على سلامة القلب، والحذر من أمراض القلب المعنوية، كالحسد، والرياء، والنفاق، والشك، والحرص، والطمع، والعُجْب، والكِبْر، وطول الأمل، وحب الدنيا، فإنها أخطر من أمراضه الحسية، وهي سبب لكل رزية.

تاسعاً: التقلب بين الخوف والرجاء، في حال الصحة والشباب يغلب جانب الخوف، وعند المرض ونزول البلاء وعند الاحتضار يغلب جانب الرجاء.

عاشراً: مزاحمة العلماء بالركب، والقرب منهم، والحرص على الاستفادة منهم، واقتباس الأدب والسلوك قبل العلم والمعرفة.

أحد عشر: دراسة السيرة النبوية، وتراجم الأصحاب والعلماء، يعين على تزكية النفوس والترقي بها، "فإن التشبه بالرجال فلاح".

الثاني عشر: الحرص على معاشرة الأخيار، فالمرء على دين خليله، والطيورعلى أشكالها تقع، "الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ".

الثالث عشر: الإكثار من ذكر الموت وتوقعه في كل وقت وحين، فهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.

الرابع عشر: القناعة بما قسم الله، والرضا بذلك، والنظر إلى من هو دونك وليس إلى من هو أرفع منك في شأن الدنيا، أما في شأن الدين: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ".

الخامس عشر: الخوف والحذر من سوء الخاتمة.

السادس عشر: سؤال الله والاستعاذة به من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

السابع عشر: الاستفادة من الوقت، والحرص عليه، فما العمر إلا أيام، وساعات، وثوان.

الثامن عشر: تجديد التوبة والإنابة، مع تحقيق شروطها والحرص على أن تكون توبة نصوحاً.

ã

ثمار الاستقامة ونتائجها

ما أكثر ثمار الاستقامة، وما أجل نتائجها، وما أفضل عقباها، نسوق منها ما يلي، إذ العبرة بالخواتيم:

1.  السعادة في الدنيا.

فلستُ أرى السعادة جمع مال                        ولكن التقي هو السعيــد

2. نزول ملائكة الرحمة على المستقيمين عند الموت مطمئنة ومثبتة لهم، ومبشرة إياهم: "أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا"، أي لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم.

3.  وكذلك تبشرهم في القبر بالقول الثابت.

4.  وعند القيام للبعث والنشور.

5.  دخل الجنة دار الكرامة والمقامة: "لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ".

اللهم ارزقنا الاستقامة، وأحلنا دار الكرامة، وأجرنا من الذل، والخزي، والمهانة.

اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، واحشرنا في زمرة الرسل، والأنبياء، والشهداء، والصالحين، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، والنصر على الأعداء، والعصمة من الفتن العمياء، وصلى الله وسلم على إمام المتقين، وسيد الغر المحجلين، الداعي إلى خيري الدنيا والدين، وعلى آله، وصحبه، والتابعين.

-----------------------

السامع شريك المغتاب، والساكتُ أحد المغتابين

الأدلة على أن السامع الساكت أحد المغتابين

أقوال العلماء في ذلك

الذي يُخرج المستمع من الإثم

ما ورد في ثواب وأجر من ذب عن عِرْض أخيه المسلم سيما المشايخ

الغيبة، وما أدراك ما الغيبة، ذلك الداء العضال، والمرض البطال، والكبيرة المغفول عنها، والعظيمة التي يتجاسر عليها الصالحون والفجار، ويستوي فيها العلماء والجهال، والنساء والرجال، والصغار والكبار، فهي من أخطر آفات اللسان والجنان، وفيها انتهاك لأعظم حرمات الإنسان، الخلاص منها عسير، والاستسلام لها جد خطير.

فكما تكون الغيبة بالتصريح تكون بالتلميح، وكما تكون بالقول تكون بالفعل، الساكت عنها أحد المغتابين، والسامع والمتلذذ شريك المصرحين والمعرضين.

ã

الأدلة على أن السامع الساكت أحد المغتابين

1.    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين قال أحدهما: أقعص الرجل كما يقص الكلب: "انهشا من هذه الجيفة".

2.  روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: "إن فلاناً لنئوم"، ثم إنهما طلباً أدماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكلا به الخبز، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد ائتدمتما!"، فقالا: ما نعلمه؛ قال: "بلى، إنكما أكلتما من لحم أخيكما".

ã

أقوال العلماء في ذلك

قال الغزالي: (ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب، فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها، وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق، فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك! ما عرفته إلى الآن إلا بالخير، وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله من بلائه؛ فإن كل ذلك تصديق للمغتاب، والتصديق غيبة، بل الساكت شريك المغتاب، قال صلى الله عليه وسلم: "المستمع أحد المغتابين").

وقال الإمام النووي: (اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها).

ã

الذي يُخرج المستمع من الإثم

المستمع للغيبة والمقر لها آثم وشريك القائل، ما لم:

1. ينكر بلسانه.

2. أوبقلبه، وهذا أضعف الإيمان، إن كان خائفاً من المغتاب وإلا وجب عليه:

3. الخروج من المجلس إن لم يستطع أن ينكر بلسانه.

4. أويتشاغل عنها ويشتغل بذكر الله بلسانه وقلبه، وإن لم يستطع فبقلبه.

قال تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

قال الإمام الغزالي: (فالمستمع لا يخرج من إثم إلا أن ينكر بلسانه، أوبقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أوقطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه، وإن قال بلسانه: أسكت؛ وهو مشتهٍ لذلك بقلبه فذلك نفاق، ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه، ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد أي اسكت، أويشتر بحاجبه وجبينه، فإن ذلك استحقار للمذكور، بل ينبغي أن يعظم ذلك ويذب عنه).

وقال النووي: (يجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه، أوعلى قطع الغيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى.

إلى أن قال:

روينا عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه دعي إلى وليمة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل؛ فقال إبراهيم: أنا فعلت هذا بنفسي حيث حضرت موضعاً يغتاب فيه الناس؛ فخرج فلم يأكل ثلاثة أيام.

ومما أنشدوه في هذا:

وسمعك صُن عن سماع القبيح                     كصون اللسان عن النطق به

فإنك عند سمــاع القبيــح                    شـــريك لقائله  فانتبه).

ã

ما ورد في ثواب وأجر من ذب عن عِرْض أخيه المسلم سيما المشايخ

من حق المسلم على أخيه المسلم أن يذب عن عرضه، ويدفع عنه، ويظن به الظن الحسن، وعليه أن يحمل ما صدر منه على أحسن محمل هو واجده، فمن ذبَّ عن عرض أخيه المسلم ذبَّ الله النار عن وجهه يوم القيامة.

ويتعين هذا الذب والدفع في حق المشايخ والعلماء، وأهل الفضل الصلحاء.

إليك طرفاً فيما ورد في فضل ذلك وثوابه:

1.  عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ردَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة".

2.  وفي حديث عِتبان الطويل المشهور قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقالوا: أين مالك بن الدُّخْشم؟ فقال رجل: ذلك منافق لا يحب اللهَ ورسولَه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟".

3.  روى الحسن البصري أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شرَّ الرعاءِ الحطمة"، فإياك أن تكون منهم؛ فقال له: اجلس، فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم.

4.  وفي قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سَلِمة: يا رسول الله، حبسه برداه، والنظر في عطفيه؛ فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً؛ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم".

5.  روى أبو داود في سننه عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نُصْرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته".

6.  وعن معاذ بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حمى مؤمناً من منافق أراه قال بعث الله تعالى ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال".

عليك أخي المسلم أن تنزه سمعك عن سماع الغيبة، والتلذذ بها بقلبك، كما تنزه لسانك عن قولها، فالمستمع والمصغي والمتلذذ في الإثم سواء مع ذاكر الغيبة بلسانه.

وعليك أن تدفع وتذب عن عرض أخيك المسلم مستور الحال، سيما العلماء، والصلحاء الفضلاء منهم، ولا تَهَب ذلك وتخشاه، فالله أحق أن تخشاه، فإن لم تستطع ذلك فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان، وإلا فسارع بالخروج من ذلك المجلس، وإن جبنت عن ذلك فالهُ عنها بسمعك، واشغل لسانك وقلبك بذكر الله، يتحتم ذلك في كل وقت وحين، سيما في شهر الصيام والقيام، في رمضان، حيث تزداد حرمة الغيبة ويعظم خطرها وضررها.

وتذكر أخي الصائم قول نبيك: "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش"، وقوله: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".

عليك بحفظ جوارحك عن المحرمات في رمضان وغيره، ولا تكتفِ بالإمساك عن المباحات في غير رمضان، وتنغمس في المحرمات فيه وفي غيره.

اللهم أعنا على حفظ الجوارح، ويسرنا للعمل الصالح، واهدنا لأحسن الأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، والتابعين

----------------

لا يمكَّن حتى يُبتلى

سأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله، أيُّما أفضل للرجل: أن يمكن أوأن يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة.

الابتلاء والاختبار والافتتان من سنن المرسلين، وأتباعهم إلى يوم الدين، ولو عُفي أحد من ذلك لعُفي وكُفي أخلاء الله وأصفياؤه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.

"أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".

" أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ".

"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ".

فأشد الناس بلاءً في الدين الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.

خرج البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمُه وعظمُه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

وخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعَك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك؛ قال: إنا كذلك يضعَّف لنا البلاء، ويضَّعف لنا الأجر؛ قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء؛ قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحُوبها، وإن كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء".

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة".

ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر أذى".

وقال مالك رحمه الله عندما ضرب وامتحن: "لا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر".

قال العلامة ابن القيم رحمه الله معلقاً على مقالة الشافعي السابقة: (وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدني بالطبع، لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم وتارة من غيرهم، ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئاً كثيراً.

إلى أن قال: فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية، ويروى موقوفاً ومرفوعاً: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس"، وفي لفظ: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً"، وفي لفظ: "عاد حامده من الناس ذاماً".

وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم، فمن هداه وأرشده امتنع عن فعل المحرم، وصبر على أذاهم وعداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذوهم وعادوهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة، ومن ابتلي من علمائها، وعبادها، وتجارها، وولاتها).

فمن رام التمكين فعليه أن يوطِّن نفسه على الابتلاءات، والفتن، والامتحانات، فإن طريق التمكين ليس مفروشاً بالورود والرياحين، وإنما هو محفوف بالبلاءات، والامتحانات، والصعاب، ومفروش بالشوك، ومحاط بالعراقيل.

فمن صبر ظفر، ومن كد وجد، ومن رام السلامة والراحة فلا يطمع في التمكين، ولا في الإمامة في الدين، وعليه أن يقعد مع الخالفين.

فيا بشرى الممكنين في الأرض: "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ".

فيالها من عاقبة حميدة وخاتمة سعيدة.

والحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله، وصحابته، وتابعيهم الأوفياء

-------------------

البول قائمـاً

الأحاديث التي وردت في النهي عن البول قائماً، وتُكُلِّم فيها

تأويل وتعليل أهل العلم لبوله صلى الله عليه وسلم قائماً

حكم البول قائماً

من صحَّ عنه أنه بال قائماً

من كره البول قائماً كرهاً شديداً

علة من شدد وحذر من البول قائماً

الخلاصة

كان هديه صلى الله عليه وسلم في البول كهديه في الشرب، إذ كان غالباً ما يشرب ويبول قاعداً، وقد بال كما شرب قائماً لبيان الجواز، ولبعض الأعذار.

هذا على الرغم من أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم حديث ينهى عن البول قائماً، وإنما مستند المانعين من البول قائماً فعله، كما قالت عائشة رضي الله عنها، وعادته، وكراهية بعض الصحابة لذلك.

فقد روى أهل السنن؛ أحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها بإسناد جيد أنها قالت: "من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً".

وكذلك روى البيهقي في سننه الكبرى عن عبد الرحمن بن حَسَنة قال: "كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده درقة، فبال وهو جالس، فتكلمنا فيما بيننا، فقلنا: يبول كما تبول المرأة؟ فأتانا فقال: ما تدرون ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كان إذا أصابهم بول قرضوه، فنهاهم فتركوه، فعذب في قبره"، زاد ابن عيينة: "فاستتر بها أي الدرقة فبال وهو جالس".

أما بوله قائماً في بعض الأحيان فقد رواه عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

فقد خرج الشيخان وغيرهما عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه؛ فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه".

وفي رواية للبخاري: "كان أبوموسى الأشعري يشدد في البول، ويقول: إن بني إسرائيل كان إن أصاب ثوب أحدهم قرضه؛ فقال حذيفة: ليته أمسك، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً"؛ وفي رواية أن حذيفة سمع أبا موسى ورأى رجلاً يبول قائماً، فقال: ويحك أفلا قاعداً؟ ثم ذكر قصة بني إسرائيل.

وخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن أبي هريرة قال: "قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أوذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".

ومن مراسيل مالك: "دخل أعرابي المسجد فكشف عن فرجه ليبول، فصاح الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتركوه؛ فتركوه فبال، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء، فصب على ذلك المكان".

وروى مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يبول قائماً".

ã

الأحاديث التي وردت في النهي عن البول قائماً، وتُكُلِّم فيها

1. روى الترمذي مُعَلقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً، فقال: "يا عمر لا تبل قائماً"، قال: فما بلت قائماً بعد.

قال الترمذي: وإنما رفعه عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث.

2. وروى البزار وغيره كما قال ابن القيم في الزاد من حديث عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أوأن يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أوينفخ في سجوده"؛ قال: ورواه الترمذي، وقال: هو غير محفوظ، وقال البزار: لا تعلم من رواه عن عبد الله بن بُرَيدة إلا سعيد بن عبيد الله، ولم يجرحه بشيء، وقال ابن أبي حاتم: هو بصري ثقة مشهور.

3.  وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً".

ã

تأويل وتعليل أهل العلم لبوله صلى الله عليه وسلم قائماً

علل أهل العلم بول الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً بتأويلات وتعليلات كثيرة ، منها:

1. كانت العرب تستشفي من وجع الصلب بالبول قائماً، فلعله فعله من أجل ذلك، وقد ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي.

2. فعل ذلك لعلة بمأبضه باطن الركبة، وهو مروي عن البيهقي.

3. لم يجد مكاناً للقعود فاضطر للقيام.

4. البول قائماً يؤمن معه خروج الريح بصوت.

5. البول قائماً أحصن للدبر من الحدث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

6. لبيان الجواز

7. منسوخ.

أرجح هذه التعليلات تعليلان، هما:

1. أنه فعله لعلة مرض أوغيره.

2. أوفعله لبيان الجواز.

ã

أقوال أهل العلم في ذلك

قال النووي رحمه الله معلقاً على حديث حذيفة السابق: (فعله للجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة يبول قاعداً، ويدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها.

إلى أن قال: وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة هذا ثابت).

وقال ابن القيم رحمه الله: (وأكثر ما كان يبول وهو قاعد، حتى قالت عائشة: "من حدثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه.."، وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث حذيفة أنه بال قائماً، فقيل: هذا بيان للجواز، وقيل: إنما فعله لوجع كان بمأبضيه، وقيل: فعله استشفاء.. والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهاً وبعداً من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم، وهي ملقى الكناسة، وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعداً لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط، فلم يكن بد من بوله قائماً، والله أعلم).

وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر تعليلات أهل العلم لبوله قائماً: (والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود، والله أعلم.

وسلك أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين فيه مسلكاً آخر، فزعما أن البول عن قيام منسوخ، واستدلا عليه بحديث عائشة الذي قدمناه.. والصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن.

إلى أن قال: ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء كما بينته في أوائل شرح الترمذي، والله أعلم).

ã

حكم البول قائماً

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:

1.  مكروه كراهة تنزيه، إلا من عذر، وهذا هو الراجح للأدلة السابقة.

2.  إن كان في مكان يتطاير منه البول فهو مكروه، وإلا فلا بأس به، وبهذا قال مالك رحمه الله.

3.  البول قاعداً أحب، وقائماً مباح، وهو مذهب ابن المنذر رحمه الله.

ã

أقوال أهل العلم في ذلك

قال النووي: (قال العلماء: يكره البول قائماً، إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم.

قال ابن المنذر في "الإشراف": اختلفوا في البول قائمـاً، فثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل بن سعد، أنهم بالوا قياماً، قال: وروي ذلك عن أنس، وعلي، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وفعل ذلك ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وكرهه ابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم بن سعد، وكان إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائماً، وفيه قول ثالث: إنه إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه، فإن كان لا يتطاير فلا بأس به، وهذا قول مالك، قال ابن المنذر: البول جالساً أحب إليَّ وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقال ابن حجر: (وقد ثبت عن عمر، وعليّ، وزيد بن ثابت، وغيرهم، أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، والله أعلم).

ã

من صحَّ عنه أنه بال قائماً

1.  رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2.  عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

3.  زيد بن ثابت رضي الله عنه.

4.  عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

5.  سهل بن سعد رضي الله عنه.

6.  أنس بن مالك رضي الله عنه.

7.  أبو هريرة رضي الله عنه.

8.  عروة بن الزبير رحمه الله.

9.  ابن سيرين رحمه الله.

ã

من كره البول قائماً كرهاً شديداً

1.   عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

2.   أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.

3.   الشعبي رحمه الله.

4.   إبراهيم بن سعد رحمه الله.

ã

علة من شدد وحذر من البول قائماً

العلة الأساس التي حذر من أجلها وشدد في البول قائماً بعض السلف تطاير البول ورشاشه لأرجل البائل وثيابه، وذلك للحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة - أومكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة"؛ وفي رواية: "لا يستنزه"، أي لا يتحفظ.

وبما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: "أكثر عذاب القبر من البول".

على الرغم من أننا نهينا عن التشدد لكن لابد من التحوط والحذر.

قال الحافظ ابن حجر: (وإنما احتج حذيفة بهذا الحديث لأن البائل عن قيام قد يتعرض للرشاش، ولم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاحتمال، فدل على أن التشديد مخالف للسنة، واستدل به مالك في الرخصة في مثل رؤوس الإبر من البول، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال لم يصل إلى بدنه منه شيء).

ã

الخلاصة

أولاً: أن الأصل أن يبول الإنسان قاعداً، ورُخِّصَ لمن به علة تمنعه من القعود، أوعنده عذر وأمن من تطاير البول على بدنه وثيابه أن يبول قائماً.

ثانياً: أن البول قائماً إذا أمن الإنسان تطايره ورشه لبدنه وثيابه ليس من الكبائر، ولا من مسقطات المروءة، ولا ينبغي لأحد أن ينتقص أحداً من أجل ذلك، والله أعلم.

اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن شر فتنة المحيا والممات، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.

--------------------

حكم الشرب قائماً

الأحاديث التي تنهى عن الشرب قائماً

الأحاديث التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه شربوا في بعض الأحيان قياماً

مذاهب أهل العلم في التوفيق بين أحاديث النهي والزجر عن الشرب قائمـاً، وبين شرب الرسـول صلى الله

عليه وسلم ونفر من صحبه الكرام قياماً

أقوال العلماء

الخلاصة

وردت أحاديث تنهى المسلم وتزجره عن الشرب قائماً، وأخرى تبين شربه صلى الله عليه وسلم، وثلاثة من خلفائه الراشدين، وبعض الأصحاب وهم قيام.

الأحاديث التي تنهى عن الشرب قائماً

خَرَّج مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، باب في الشرب قائماً، عدداً من الأحاديث تنهى وتزجر عن الشرب قائماً، وهي:

1. عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً".

2. وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً"؛ قال قتادة: فقلنا: فالأكل؛ فقال: ذاك أشر وأخبث.

3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "زجر عن الشرب قائماً".

4. وفي رواية عنه: "نهى عن الشرب قائماً".

5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ".

الأحاديث التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه شربوا في بعض الأحيان قياماً

خَرَّج مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، باب الشرب قائماً وغيره، كذلك عدداً من الأحاديث تبين شربه صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه قياماً، وهي:

1.  عن ابن عباس قال: "سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم".

2.  وفي رواية عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم".

3. وعن ابن عباس كذلك قال: "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب قائماً، واستسقى وهو عند البيت"، وفي رواية: فحلف عكرمة: "ما كان يومئذ إلا على بعير".

4. وأخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليَّ بن أبي طالب كانوا يشربون قياماً.

5.  وقال مالك عن ابن شهاب: أن عائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأساً.

6. وقال مالك عن أبي جعفر القاري أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يشرب قائماً".

7. وعن ابن عمر قال: "كنا على عهد رسول الله نأكل ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام".

8. وروى مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: "أنه كان يشرب قائماً".

9. وفي البخاري أن علياً شرب قائماً وقال: "رأيتُ رسول الله فعل كما رأيتموني أفعل".

10. روى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي عمر عن جدته كبشة قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة، فشرب قائماً، فقمت إلى فيها فقطعته".

11. وروى أحمد في مسنده عن أم سُليم قالت: "دخل عليَّ رسول الله، وفي البيت قربة معلقة، فشرب منها وهو قائم، فقطعت فاها، فإنه لعندي".

مذاهب أهل العلم في التوفيق بين أحاديث النهي والزجر عن الشرب قائماً، وبين شرب الرسول صلى الله عليه وسلم ونفر من صحبه الكرام قياماً

والمذاهب هي:

1. أن شربه قائماً وشرب أصحابه لبيان الجواز، وأن النهي عن الشرب قائماً للكراهة.

2. أن شربه قائماً كان لعذر.

3.  أن شربه قائماً ناسخ لنهيه وزجره عن ذلك.

4.  ادعاء البعض ضعف الأحاديث التي تأمر بالاستقاء.

أقوال العلماء

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم معلقاً على الأحاديث السابقة وجامعاً بينها: (أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعِّف بعضها، وادعى فيها دعاوى باطلة لا غرض لنا في ذكرها.

إلى أن قال: وليس في هذه الأحاديث بحمد الله تعالى إشكال، ولا فيها ضعف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فبيان للجواز، فلا إشكال ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه، وأما من زعم نسخاً أوغيره فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث لو ثبت التاريخ، وأنى له بذلك؟ والله أعلم؛ فإن قيل: كيف يكون الشرب قائماً مكروهاً وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً للجواز لا يكون مكروهاً، بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم.

إلى أن قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن نسي فليستقئ"، فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائماً أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب؛ وأما قول القاضي عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسياً ليس عليه أن يتقيأه، فأشار بذلك إلى ضعف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة.

إلى أن قال: ثم اعلم أنه يستحب الاستقاءة لمن شرب قائماً ناسياً أومتعمداً، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن القاصد يخالفه، بل للتنبيه به على غيره بطريق الأولى، لأنه إذا أمر به الناسي وهو غير مخاطب فالعامد المكلف المخاطب أولى).

وقال ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود موفقاً بين هذه الأحاديث: (فاختلف في هذه الأحاديث، فقوم سلكوا فيها مسلك النسخ، وقالوا: آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرب قائماً، كما شرب في حجة الوداع؛ وقالت طائفة: في ثبوت النسخ بذلك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعله شرب قائماً لعذر، وقد حلف عكرمة أنه كان حينئذ راكباً، وحديث عليّ قصة عين لا عموم لها.

إلى أن قال معلقاً على ما روته كبشة وأم سُليم: فدلت هذه الوقائع على أن الشرب منها قائماً كان لحاجة لكون القربة معلقة، وكذلك شربه من زمزم أيضاً لعله لم يتمكن من القعود لضيق الموضع، أوالزحام، أوغيرها، والجملة فالنسخ لا يثبت بمثل ذلك.

أما حديث ابن عمر فلا يدل على نسخ إلا بعد ثلاثة أمور، مقاومة لأحاديث النهي في الصحة، وبلوغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأخره عن أحاديث النهي، وبعد ذلك فهو حكاية فعل لا عموم لها، فإثبات النسخ في هذا عَسِرٌ).

وقال ابن القيم عن هديه في الشرب: (وكان أكثر شربه قاعداً، بل زجر عن الشرب قائماً، وشرب مرة قائماً، فقيل: هذا نسخ لهديه، وقيل: بل فعله لبيان جواز الأمرين، والذي يظهر فيه والله أعلم أنها واقعة عين شرب فيها قائماً لعذر، وسياق القصة يدل عليه، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدلو وشرب قائماً.

والصحيح في هذه المسألة النهي عن الشرب قائماً، وجوازه لعذر يمنع من القعود، وبهذا تجمع أحاديث الباب، والله أعلم).

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وسلك العلماء في ذلك مسالك:

أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي.

الثاني: دعوى نسخ أحاديث النهي.

الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل.

ثم قال: وسلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث البيان على جوازه، وهي طريقة الخطابي وابن بَطَّال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيراً، فقال: إذا ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري، وأيده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه، أوكان حراماً ثم جوزه، لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً واضحاً، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا).

الخلاصة

أولاً: الأصل الشرب قاعداً، وهذا هديه الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: للحاجة والعذر يجوز الشرب قائماً.

ثالثاً: أن النهي الوارد عن الشرب قائماً نهي تنزيه، وليس نهي تحريم، جمعاً بينه وبين فعله صلى الله عليه وسلم وفعل بعض أصحابه.

رابعاً: الحالات التي شرب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وبعض أصحابه حالات عين، وتحمل على وجود أعذار لديهم.

خامسا: يستحب لمن شرب عامداً أوناسياً من غير عذر أن يستقيء ما شرب عملاً بالحديث السابق.

سادساً: ينبغي للوالدين، والمربين، والمعلمين أن يعودوا ناشئة المسلمين على السنن الحميدة، ويحملوهم على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى يشبوا على ذلك ويتطبعوا به، فمن شبَّ على شيء شاب عليه.

سابعاً: ينبغي على كل مسلم عالم بهذه السنة وقادر، أن يذكر وينبه من وجده مخالفاً لها، حتى تشيع هذه السنة في مجتمعات المسلمين، فإن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.

ثامناً: الأخذ بالرخص يكون عند الحاجة، ولا ينبغي أن يكون هو الأصل.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من خُتِم به الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

-----------------------

متى يجوز تمني الموت؟ ومتى لا يجوز؟

يحرم تمني الموت في الحالات الآتية

يجوز تمني الموت في الحالات الآتية

أولاً:إذا خاف الفتنة في الدين

ثانيا: عند حضور أسباب الشهادة

ثالثاً: لمن وثق بعمله واشتاق لقاء ربه

 

لاشك أن الدنيا دار بلاء واختبار، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وخير مرداً، وأفضل كسباً.

وأن الله يبتلي عباده الصالحين والطالحين، الصالحين ليرفع درجتهم ويعلي منزلتهم، والطالحين ليطهرهم ويكفر سيئاتهم، بل إن ابتلاءه لعباده المخلصين ورسله المقربين أشد: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، بله لقد جعل الله تجلت حكمته بلاءه في بعض الأحيان علامة من علامات حبه وإصطفائه، فعن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحب قوماً، ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".

فالمؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس هذا إلا للمؤمن كما أخبر الصادق المصدوق، ومن أركان الإيمان التي لا يتم إيمان العبد ولا يكتمل إلاَ بها الإيمان بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره.

فمن علامات الإيمان، ومؤشرات الصدق واليقين، التسليم للقضاء، والرضا بالنازلة، وعدم التضجر والتسخط إذا أصاب الإنسان ما يخالف الهوى، ولهذا قال الله عز وجل: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم".

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تمني الموت: "لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي".

وخرج أحمد بسنده عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة".

وصح كذلك أن بعض الأخيار من الأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والسلف الصالحين من هذه الأمة ومن السابقين تمنوا الموت وسألوه، منهم يوسف عليه السلام حين قال: "توفني مسلماً وألحقني بالصالحين"، ومنهم عمر، وعلي، ومعاذ، وأبو الدرداء رضي الله عنهم.

فدل ذلك على أنه هناك حالات يحرم فيها تمني الموت وحالات يجوز فيها تمنيه، توفيقاً بين الأحاديث والآثار، سيما وقد تمنى الموت من أمرنا بالاقتداء بهم كعمر رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر؟!

فمتى يحرم تمني الموت؟ ومتىيجوز تمنيه؟

يحرم تمني الموت في الحالات الآتية

يحرم على المسلم تمني الموت لضر دنيوي نزل به، في نفسه، أوولده، أوماله، وهذا هو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به".

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (فتمني الموت يقع على وجوه، منها تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد، فينهى حينئذٍ عن تمني الموت، ووجه كراهيته في هذه الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلاً للاستراحة من ضره، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت، فلعله يصير إلى ضرٍ أعظم من ضره، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يستريح من غفر له".

يجوز تمني الموت في الحالات الآتية

1. إذا اشترط أن يكون الموت خيراً له كما جاء في الحديث السابق.

2. إذا خاف الفتنة في الدين.

3. عند حضور أسباب الشهادة.

4. لمن وثق عمله وأشتاق لقاء ربه.

الأدلة على جواز تمني الموت في الحالات السابقة

أولاً:إذا خاف الفتنة في الدين

1. ما حكاه الله على لسان سحرة فرعون: "قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين".

2. وما حكاه الله على لسان مريم عندما اتهمت بالفاحشة: "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً"، وذلك عندما قالوا لها: "يا مريم لقد جئت شيئاً فريا* يا أخت هرون ما كان أبوك إمرء سوءٍ وما كانت أمك بغياً"، لأنها لم تكن ذات زوج.

3. وقال عمر: "اللهم انتشرت رعيتي، وكبرت سني، وضعف جسمي، فأقبضني إليك غير مفتون".

4. وقال علي رضي الله عنه في آخر خلافته عندما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلاّ شدة: "اللهم خذني إليك، فقد سئمتهم وسئموني".

5. وكذلك قال البخاري رحمه الله لما وقعت الفتنة بينه وبين أمير خرسان وجرى فيها ما جرى، قال: "اللهم توفني إليك".

6. وفي الحديث الصحيح: "أن الرجل ليمر بالقبر ـ في زمان فتنة الدجال ـ فيقول: "يا ليتني كنت مكانك".

7. وفي حديث معاذ: "فإذا أردت فتنة فاقبضني إليك غير مفتون".

8. وفي حديث عمار يرفعه: "أسألك لذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة".

ثانيا: عند حضور أسباب الشهادة

إذا التقى الصفان وحضرت أسباب الشهادة جاز تمني الموت حينئذٍ، كما فعل عبد الله بن جحش، وعبد الله بن رواحة، والبراء بن مالك، وغيرهم.

روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كم من ضعيف متضعف ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبرَّه"، وأن البراء بن مالك لقى زحفاً من المشركين، فقال له المسلمون: أقسِم على ربك؛ فقال: أقسمتُ عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم؛ فمنحهم أكتافهم، ثم التقوا مرة أخرى فقالوا: أقسم على ربك؛ فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقني بنبيك؛ فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء.

وروي إن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال يوم أحد: يارب إذا لقيت العدو غداً، فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله فيك ويقتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً، قلت: ياعبد الله، من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك؛ فتقول: صدقتَ؛ قال سعد بن أبي الوقاص: فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط".

ثالثاً: لمن وثق بعمله واشتاق لقاء ربه

1. في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتضاره جعل يرفع اصبعه عند الموت ويقول: "اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً".

2. وسأل معاذ بن جبل الشهادة له ولآل بيته عندما نزل الطاعون بعِمْواس.

3. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أحب الموت اشتياقاً إلى لقاء ربي عزوجل.

4. وقال أبو عنبسة الخولاني: كان من قبلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد دل على جواز ذلك قول الله عز وجل: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، وقوله: "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، فدل ذلك على أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم "لا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم"، فدل إنما يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها، كما قال بعض السلف: ما يكره الموت إلا مريب).

والله أسأل أن يطيبنا للموت ويطيبه لنا، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، وأن يجعل خير  أعمالنا خواتمها، وخيرأعمارنا أواخرها، وخيرأيامنا يوم لقائه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

--------------------------

الرِّياء خطره وأنواعه

من الأدواء المهلكة، والأمراض الفاتكة، والخسائر الفادحة الرياء، حيث فيه خسارة الدين والآخرة، ولهذا حذر منه المتقون، وخافه الصالحون، ونبه على خطورته الأنبياء والمرسلون، ولم يأمن من مغبته إلا العجزة، والجهلة، والغافلون، فهو الشرك الخفي، والسعي الرديء، ولا يصدر إلا من عبد السوء الكَلَِّ المنكود.

الرياء كله دركات، بعضها أسوأ من بعض، وظلمات بعضها أظلم من بعض، وأنواع بعضها أخس  وأنكد من بعض، فمنه الرياء المحض، وهو أردأها، ومنه ما هو دون ذلك، ومنه خطرات قد أفلح من دفعها وخلاها، وقد خاب من استرسل معها وناداها.

فالعمل لغير الله أنواع وأقسام، كلها مذمومة مردودة، ومن الله متروكة، فالله سبحانه وتعالى أغنى الشركاء، وأفضل الخلطاء، فمن أشرك معه غيره تركه وشركه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".

وفي رواية لابن ماجة: "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".

والأنواع هي:

1. الرياء المحض

وهو العمل الذي لا يُراد به وجه الله بحال من الأحوال، وإنما يراد به أغراض دنيوية وأحوال شخصية، وهي حال المنافقين الخلص كما حكى الله عنهم:

"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً".

"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله".

"فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون".

وهذا النوع كما قال ابن رجب الحنبلي يكون في الأعمال المتعدية، كالحج، والصدقة، والجهاد، ونحوها، ويندر أن يصدر من مؤمن: (فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة).

2.  أن يراد بالعمل وجه الله ومراءاة الناس

وهو نوعان:

أ. إما أن يخالط العملَ الرياءُ من أصله

فقد بطل العمل وفسد والأدلة على ذلك بجانب حديث أبي هريرة السابق:

عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئاً، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني".

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".

وخرج الحاكم من حديث ابن عباس: "قال رجل: يا رسول الله: إني أقف الموقف وأريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً".

قال ابن رجب: (وممن روي عنه هذا المعنى، وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلاً: طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.

ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عملاً فيه مثقال حبة من خردل من رياء".

ولا نعرف عن السلف في هذا خلافاً، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين).

ب. وإما أن يطرأ عليه الرياء بعد الشروع في العمل

فإن كان خاطراً ماراً فدفعه فلا يضرُّه ذلك، وإن استرسل معه يُخشى عليه من بطلان عمله، ومن أهل العلم من قال يُثاب ويُجازى على أصل نيته.

قال ابن رجب: (وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.

ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في "مراسيله" عن عطاء الخرساني أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن بني سَلَمَة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم، إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا".

وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.

وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال: ربما أحدث بحديث ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات.

ولا يرد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخرساني، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج).

3.  أن يريد بالعمل وجه الله والأجر والغنيمة

كمن يريد الحج وبعض المنافع، والجهاد والغنيمة، ونحو ذلك، فهذا عمله لا يحبط، ولكن أجره وثوابه ينقص عمن نوى الحج والجهاد ولم يشرك معهما غيرهما.

خرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئاً تمَّ لهم أجرُهم".

وروي عن عبد الله بن عمرو كذلك قال: "إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً، فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أعطي درهماً غزا، وإن مُنع درهماً مكث، فلا خير في ذلك".

وقال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأساً.

وقال الإمام أحمد: التاجر، والمستأجر، والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزاتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.

وقال أيضاً فيمن أخذ جعلاً على الجهاد إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ، كأنه خرج لِدِينه، فإن أعطي شيئاً أخذه.

وقال ابن رجب: (فإن خالط نية الجهاد نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أوأخذ شيء من الغنيمة، أوالتجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية..

وهكذا يقال فيمن أخذ شيئاً في الحج ليحج به، إما عن نفسه، أوعن غيره، وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمَّال، وحج الأجير، وحج التاجر، هو تمام لا ينقص من أجورهم شيء، وهو محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.

4.    أن يبتغي بعمله وجه الله فإذا أثني عليه سُرَّ وفرح بفضل الله ورحمته فلا يضره ذلك إن شاء الله

فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، ويحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".

وفي رواية لابن ماجة: "الرجلُ يعمل العمل لله فيحبُّه الناس عليه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيُسِِرُّه، فإذا اطلع عليه، أعجب، فقال: "له أجران: أجر السر وأجر العلانية".

قال ابن رجب: (وبالجملة، فما أحسن قول سهل بن عبد الله التُستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.

وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.

وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبتُ إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أفِ لك به، وأستغفرك مما زعمتُ أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمتَ).

ورحم الله القائل:

أستغفرُ الله من أستغفر الله         من كلمة قلتها خالفتُ معناها

اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، وصلى الله وسلم على إمام المتقين وسيد المتوكلين المخلصين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.

--------------------

"لا يُلدغ مؤمنٌ من جحر مرتين" متفق عليه

هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فينبغي للمؤمن أن يكون كيِّساً فطناً متيقظاً، إذا أخطأ في المرة الأولى أن يستفيد من خطئه الأول بأن لا يقع فيه ثانية، وإذا لدغ من جحر مرة أن يحذر ويحتاط منه بعد.

من المؤسف حقاً أن تضحي جامعة الخرطوم وكراً للشيوعيين وجحراً للعلمانيين وأذنابهم، يلدغ منه المؤمنون مرة بعد مرة.

ما كان للتحالف الشيطاني هذا أن يفوز بالانتخابات في هذا العام ولا في الذي قبله لولا اختلاف أهل السنة فيما بينهم، دعك من اختلاف أهل القبلة.

ومما يحز في النفس كثيراً أن بعض قيادات الطلاب السنيين وقواعدهم لم يعوا درس العام الماضي، ولم يقدِّروا المرارة والألم الذي أصاب أكباد المؤمنين، ولا الغصة التي اعترضت حلوقهم في العام الماضي حتى أردفوها بأخرى، إذ ما كان لهذا التحالف أن يفوز هذه المرة لو اجتمع كل أهل السنة في الجامعة في قائمة واحدة.

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً            وإذا افترقن تكسرت آحاداً

لا يوجد أدنى مبرر لهذا الاختلاف، بينما نجد دواعي الاجتماع والاتفاق تفوق الحصر.

الأسباب التي أدت إلى هذا الاختلاف بين الإسلاميين في هذه الانتخابات وأضاعت فرصة فوزهم، ومكنت أعداءهم من الفوز هي:

1.  النظرة الحزبية الضيقة.

2.  التقديرات الخاطئة.

3.  عدم إدراك خطورة تآمر الأعداء في الخارج والداخل.

4.  عدم قراءة المتغيرات والمستجدات في الساحة الجامعية.

5.  إهمالهم للقاعدة المهمة: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع.

6.  إهمالهم لقاعدة قبول خير الشرين لدفع شر الشرين.

7.  نقل الخلافات الخارجية بين هذه الجماعات إلى داخل الجامعة.

8.  ضعف عقيدة الولاء والبراء.

هذا فيما يتعلق بالجماعات السنية.

أما ما يتعلق بغيرهم من المسلمين المنتسبين لبعض الأحزاب كحزب الأمة والاتحاد الديمقراطي وغيرهما، وتحالفهم مع الشيوعيين والكافرين، فهذه والله من الطوام العظام، والمخاطر الجسام على دين هؤلاء الطلاب، ودين قادتهم الذين دفعوا بهم في هذه التهلكة، إذ لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوالي الكافرين من شيوعيين، ونصارى، ومنافقين، وغيرهم، وقد أتي الجميع من قِبَل جهلهم بعقيدة الولاء والبراء، وبنواقض الإسلام الأخرى، وبأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ينبغي لهذه الجماعات قيادة وقاعدة في الجامعة وخارجها أن يتقوا الله في أنفسهم وإسلامهم، وأن يعيدوا النظر في تحالفاتهم هذه، وأن يكون ولاؤهم لله عز وجل قبل ولائهم لهذه التنظيمات، وأن يدركوا المخاطر العظام والأضرار الجسام من تولي الشيوعيين وأذنابهم قيادة اتحاد الجامعة.

ومن ثم فإنه يجب عليهم وجوباً عينياً في الدورات القادمة أن يجتمعوا على قائمة واحدة، وأنه لا يحل لطالب يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصوت للشيوعيين أويتحالف معهم.

ومما تجدر الإشارة إليه أن كل هذه الفتنة تتولى كبرها إدارة الجامعة، وعلى رأسها مديرها الحالي، حيث كانت الجامعة تسير سيراً حسناً لمدة خمس سنوات لعدم وجود اتحاد، فأصرت الإدارة على قيام الاتحاد، ودعم مديرها اتحاد التحالف الماضي دعماً مادياً ومعنوياً في أهم عمل قام به الاتحاد، وهو إقامة حفل غنائي أحياه الفنان وردي بلغت تكاليفه كما أخبرني أحد الطلاب ثمان وأربعين مليون جنيهاً سودانياً، ولو بلغت تكلفته ثمانٍ وأربعين جنيهاً سودانياً لحوسب عليها المدير يوم القيامة حساباً عسيراً، ولن تزول قدماه عن الصراط حتى يسأل عن ذلك، وعن منحه الدكتوراة الفخرية لوردي.

هذا بجانب تبجح واستبداد الشيوعيين، وجرأتهم في عدم مجرد كتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" في مسودة دستور إحدى كليات الجامعة، وعندما رفض عميد الكلية المعنية استلامه جاء المدير شافعاً في قبوله.

هذا مع العلم أن الاتحادات الطلابية أكثر المعوقات للتحصيل العلمي، ولهذا فإنه لا يسمح بقيام اتحاد في جميع جامعات مصر، ويكتفى فقط ببعض الجمعيات الخدمية.

هذه البدعة السيئة أدخلها الشيوعيون في الجامعات مع غيرها، وجاراهم فيها بعض الإسلاميين الوصوليين، ثم افتتن بها الباقون.

اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه واخلف علينا خيراً منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صادق الوعد المبين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

------------------

الخلاف شر

أيها المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا ولا تفرقوا، واتحدوا ولا تنازعوا، واعلموا أن المسلمين لم يبتلوا بشيء في هذا العصر أخطر ولا أشد عليهم من الاختلاف والتفرق والتشرذم، ولم يتسلط عليهم الأعداء إلا لتفرقهم واختلافهم.

لا شك أن الخلاف كائن في هذه الأمة كما كان كائناً في غيرها من الأمم: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك".

ولا شك كذلك أن الخلاف منه ما هو سائغ ومنه ما هو ممنوع، والتمييز بين ما هو سائغ وما هو ممنوع مطلب شرعي وواجب ديني.

لا تستطيع قوة في الأرض أن تمنع من وقوع الاختلاف بين الناس، ولكن علمنا ربنا ماذا نفعل عند الاختلاف، فقال: "فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول"، وقال: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"، وأدَّبنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الخلاف السائغ لا يوجب عداء ولا هجراً، وأرشدنا سلفنا الصالح إلى كيفية التعامل مع المخالف، وحذرنا الشارع الحكيم من مغبة البغي والظلم والكبر، وقالت الحكماء: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

جل الخلافات بين المنتسبين إلى السنة والسلفية اليوم تنحصر في الآتي:

1.  في بعض الفروع.

2.  في وسائل العمل وليس في الغايات.

3.  بعض النوازل.

4.  بعض التأويلات الخاطئة.

وكلها لا تخرج عن دائرة الخلاف السائغ الجائز في الجملة، الذي لا يوجب عداء ولا تبديعاً وتضليلاً وتكفيراً، وغاية ما ينتج عنه التخطئة، ولا يكون سبباً بحال من الأحوال لما نراه من التفرق والتشرذم والتحزب، وما نتج عن ذلك من التباغض، والتحاسد، والتبديع، والتكفير في بعض الأحيان.

ومرد كل ذلك لأمور هي:

1.  قلة الفقه.

2.  قلة الورع أوانعدامه.

3.  انعدام الثقة وسوء الظن بالآخر.

4.  الغرور والاستكبار.

5.  عدم إدراك المخاطر المحيطة بالمسلمين عموماً.

6.  قلة الحكمة عند القيادات.

7.  سوء أدب كثير من الأتباع.

يتضح ذلك إذا أجرينا مقارنة بين نوع وحجم الخلاف الذي حدث لسلفنا الصالح وكيفية تعاملهم مع الخلاف والتزامهم بالآداب الشرعية والسنن المرعية، وضبط النفس، والتحلي بالحكمة، والصبر في أحلك المواقف، وبين مانراه ونشاهده من تباغض، وتناحر، وسباب، وشتم، ومعاداة بين إخوة العقيدة ورفقاء الدرب، من أتباع السنة والسلفية مع بعضهم البعض، حيث لم يسعهم ما وسع سلفهم الصالح.

نماذج لسلوك بعض السلف مع المخالفين لهم فيما يسوغ فيه الاختلاف وما لا يسوغ

1. خالف ابن مسعود عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أكثر من مائة مسألة في الفرائض وغيرها، ومع ذلك كان عمر من أحب الخلق لابن مسعود رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان كل منهما يثني على صاحبه بما هو أهله، ولم نجد لهذه الخلافات أثراً في سلوكهما ومعاملتهما.

كان عمر يقول عن ابن مسعود: "كنيِّف ملئ علماً"، وعندما استشهد عمر قال ابن مسعود: "لم يُصب الإسلام بمصيبة أفدح من هذه"، أوكما قالا.

2. عندما أتم عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلاة الرباعية في موسم الحج بمنى متأولاً، أتم معه ابن مسعود، فقيل له: كيف تصلي أربعاً وقد صليتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ركعتين؟! قال: "الخلاف شر".

الذي حمل ابن مسعود على إتمام الصلاة الرباعية بمنى مع عثمان خوف الاختلاف الذي لا يأتي بخير، وإن كان المخالف محقاً، طالما أن عثمان فعل ذلك متأولاً، وهو إمام راشد يُقتدى بفعله.

3. معاملة علي رضي الله عنه للمقاتلين له من أهل الجمل وصفين، وإكرامه لعائشة رضي الله عنها، ورده لها إلى المدينة معززة مكرمة مع فريق من النساء، وقد أخرج ابنيه الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة.

وقوله لمن أخبره بمقتل الزبير رضي الله عنه: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار.

4. ثنـاء علي رضي الله عنه على الذين امتنعـوا عن القتـال معه ومع غيـره: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

5. عندما سُئل عن الخوارج الذين شقوا عصا الطاعةعليه، وأضعفوا عسكره، وكفروه، وقاتلوه، وفي نهاية المطاف قتلوه ظلماً وعدواناً: هل هم كفار؟ قال: لا، بل من الكفر فروا.

فقالوا له: هل هم منافقون؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء كما شهد لهم الرسول: "ينكر أحدكم صلاته إلا صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم" الحديث.

فقالوا: ما هم؟ قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.

قال كل ذلك على الرغم من أنه يملك دليل كفرهم من السنة المطهرة، وعلى الرغم من انشراحه لقتالهم، وعدم انشراحه لقتال أهل الجمل وصفين، لأنهم كانوا صادقين في تأويلهم على الرغم من خطئهم في هذا التأويل.

6.  اختلف الشافعي وأحمد رحمهما الله وتناظرا في كفر تارك الصلاة كسلاً، وثبت كل منهما على ما أدَّاه إليه اجتهاده، ولم يؤثر هذا الخلاف ولا تلك المناظرة في علاقتهما وودهما لبعض.

قال الشافعي: خرجتُ من بغداد ولم أخلف فيها أفضل ولا أورع ولا أعلم من أحمد؛ وقال: أحمد إمام في عشرة أمور؛ ذكر منها الحديث، والفقه، والزهد، والفقر.

وكان أحمد يقول: الشافعي حبيب قلبي؛ وكان يدعو له في السحر مع والديه وبعض أهل وده.

7.    صفح الإمام أحمد رحمه الله وعفوه عن كل من أذاه بالضرب والسجن والتعذيب، إلا عن أئمة الفتنة الحقيقيين.

8.  جانب من حلم وصفح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن خصومه عندما قدر عليهم ومُكِّن منهم، ونهدي ذلك إلى أولئك الذين يستدلون بأقوال هذا الإمام ويهملون ما كان يعامل به خصومه من أهل البدع وغيرهم.

قال الشيخ علم الدين البرزالي: (لما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية معززاً مكرماً مبجلاً، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أويومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حافل في قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه، ويتنصل مما وقع منه، فقال الشيخ: أنا أحللتُ كل من أذاني.

إلى أن قال: وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا يتكلمون فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله أي الملك-... وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم أي الملك على العلماء بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحد منهم بسوء، وقال: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له أي الملك -: إنهم قدآذوك وأرادوا قتلك مراراً؛ فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي؛ وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.

قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حَرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجَّ عنا).

9.  وقال ابن القيم مادحاً ابن تيمية: (كان يدعو لأعدائه، ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت له يوماً أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إذائه فزجرني، وأعرض عني، وقرأ: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وذهب لساعته إلى منزله فعزى أهله، وقال: اعتبروني خليفة له، ونائباً عنه، وسأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه؛ وتحدث معهم بلطف وإكرام، بعث فيهم السرور، فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه).

هذه النماذج الرائعة والصور الجميلة توضح ما كان عليه سلفنا الصالح من الفقه والأدب والورع وحسن الخلق، وتبين كذلك البون الشاسع والفرق الواسع بيننا وبينهم، حيث أن بعضنا يفتعل أسباب الخلاف افتعالاً، بإفشاء الزلات وتضخيمها، وستر الحسنات وإخفائها، ويعادي من غير سبب شرعي، على الرغم من أن الأسباب التي تدعو إلى الائتلاف والتوافق أكثر من أن تحصى في هذا العصر، من تكالب الأعداء من كفار ومنافقين وجهلة ومبتدعين.

والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "سدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا"، وعلى آله وصحبه ومن والاهم.

----------------------

أفضل الصدقة سقي الماء، وأكبر جرم حرمان سقيها

الحمد لله الذي جعل سر حياة المخلوقـات جميعاً في المـاء، فقال: "وجعلنا من المـاء كل شيء حي"، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، الرؤوف الرحيم، ذي الخلق العظيم، القائل: "في كل كبد رطبة أجر"، والقائل: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".

أفضل الصدقة على الإطلاق سقي الماء، سيما لمن احتاج إلى ذلك من إنسان أوحيوان، وأفظع الجرائم حرمان سقي الماء لمن قدر عليه، لمن احتاج إلى ذلك، وإليك الأدلة:

أولاً: قوله تعالى: "ونادى أصحابُ النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أومما رزقكم الله قالوا إن الله حرَّمهما على الكافرين".

قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد سئل أي الصدقة أفضل؟: "الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة: "أن أفيضوا علينا من الماء أومما رزقكم الله"؟

ثانياً: روى أبو داود في سننه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيُّ الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء؛ فحفر بئراً فقال: هذه لأم سعد".

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال سعد: "يا رسول الله، إن أم سعد كانت تحب الصدقة، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم، وعليك بالماء، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن عبادة أن يسقي عنها الماء".

قال القرطبي في تفسير الآية السابقة: (في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال.

ثم قال معلقاً على أمره صلى الله عليه وسلم لسعد أن يتصدق عن أمه بالماء: فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى، وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء).

ثالثاً: ومن الأدلة كذلك على فضل سقي الماء ما خرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل بطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي؛ فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: "في كل ذات كلب رطبة أجر".

وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: "بينما كلب يُطيف برَكية، كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها يعني خفها فسقته، فغفر لها به".

فهذه بغي من البغايا، وممن؟ من بني إسرائيل الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين والصالحين إلى يوم الدين، والمسقي كلب من الكلاب، فكيف بمن سقى إنساناً؟ بل وكيف بمن سقى مؤمناً موحداً فأحياه: "فكأنما أحيا الناس جميعاً".

رابعاً: وبضدها تتميز الأشياء، فعلى العكس والنقيض ما خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذب الله امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".

إذا كانت هذه المرأة أدخلت النار في حبسها لهرة حتى ماتت، فكيف بمن يحرم أولياء الله الصالحين القانتين العابدين من الماء ويحبسهم حتى يموتوا صبراً، كما فعل أولئك الأعراب براعي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، وكما فعل الرافضة العبيديين أخزاهم الله بأحد العلماء العاملين وإمام من أئمة الدين في وقته؟ ألا وهو الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة في وقته محمد بن الحُبُلي.

قال الذهبي في ترجمته: (أتاه أمير برقة فقال: غداً العيد؛ قال: حتى نرى الهلال، ولا أفطر الناسَ وأتقلدُ إثمهم؛ فقال: بهذا جاء كتاب المنصور؛ وكان هذا من رأي العبيدية يفطِّرون بالحساب، ولا يعبترون رؤية فلم يُرَ هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فأمر الأمير رجلاً فخطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه، فأحضِر، فقال له: تنصل وأعفو عنك؛ فامتنع، فأمر فعلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث العطش فلم يُسْقَ، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين).

فاحذر أخي المسلم أن تبخل بالماء أوتمنعه ممن يحتاجه، أوتحبس فضل مائك عن زرع غيرك، فإن فعلت فأنت من الآثمين الموعودين بغضب رب العالمين، والمطرودين من رحمته التي وسعت كل شيء.

------------------

أبخل الناس من بخل بالسلام

ليس هناك داء أدْوى ولا أقبح وأبشع من البخل، والبخل أنواع، والبخلاء كثر، وكل أنواعه مذمومة، وكل أصنافه مكروهة، إلا البخل بالدين فإنه محمود، فلا يحل لأحد أن يتنازل عن دينه ولا يرضى بالدنية فيه.

ومن الناس من يبخل بماله، وهذا هو الغالب، ومنهم من يبخل بعلمه ولا يحب أن يبذله لأحد أبداً، سواء كان علماً شرعياً، أوعلماً دنيوياً كالصناع والحرفيين، فمنهم الأسخياء الناشرين لعلمهم، المعلمين لتلاميذهم المشجعين لهم، ومنهم البخلاء، الحاسدين لتلاميذهم، الكاتمين لمعارفهم.

ومن أنواع البخل الذميمة والعادات الرذيلة عدم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر، كما أخبر بذلك رسولنا: "البخيل من ذكرتُ عنده ولم يصلِّ علي" الحديث.

وأبخل وأرذل الجميع الذي يبخل بالسلام، ويضن بتحية الإسلام على إخوانه المسلمين، حيث لا يكلفه ذلك إلا فتح شفتيه وتحريك لسانه، ومن الناس من لا يسلِّم إلا على من يعرفهم، وهذه من علامات الساعة المؤذنة بقربها: "السلام بالمعرفة"، ومنهم من لا يسلِّم على كل من يعرفهم، وإذا سُلم عليه لا يرد، علماً بأن السلام سنة ورده فرض.

وهذا الصنف من البشر أبغض الخلق إلى الله وإلى عباده.

قال المناوي معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: "وأبخل الناس من بخل بالسلام": (أي أمنعهم للفضل، وأشحهم بالبذل "من بخل بالسلام" على من لقيه من المؤمنين، ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم، فإنه خفيف المؤنة، فلا يهمله إلا من بخل بالقربات، وشح بالمثوبات، وتهاون بمراسم الشريعة، أطلق عليه اسم البخل لكونه منع ما أمر به الشارع من بذل السلام، وجعله أبخل لكونه من بخل بالمال معذور في الجملة لأنه محبوب للنفوس، عديل للروح بحسب الطبع والغريزة، ففي بذله قهر للنفس، وأما السلام فليس فيه بذل مال، فمخالف الأمر في بذله لمن لقيه قد بخل بمجرد النطق، فهو أبخل من كل بخيل).

أرجو أخي المسلم أن تقارن بين حال البخيل بالسلام، وبين حال الصحابي الكبير والشيخ الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، الذي كان يغدو إلى السوق فقط من أجل السلام، لتعرف الفرق بين الكرام واللئام، وبين المرحومين والمحرومين، فعن الطُّفيل بن أبيِّ بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على ساقط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه؛ قال الطُّفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ وأقول: اجلس بنا ههنا نتحدث؛ فقال: "يا أبا بطن وكان الطفيل ذا بطن إنما نغدو من أجل السلام، فنسلم على من لقيناه".

وإفشاء السلام من حق المسلم لأخيه المسلم، وهو سبب من أسباب دخول الجنة: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"، ومن جاء بصيغة السلام الكاملة، وهي: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فله ثلاثون حسنة، وكذلك رادُّ السلام.

فلم وكيف يظلم المسلم نفسه ويحرمها من هذا الفضل العظيم، والخير العميم، بلفظ قليل لا يكلفه درهماً ولا ديناراً؟

---------------------

"أعجزُ الناس من عجز عن الدعاء" الحديث

الدعاء هو سلاح المستضعفين، والطريق إلى تحقيق مآرب الدنيا والدين، وواسطة إلى رضا رب العالمين، وفيه غنى وكفاية عن سؤال الآدميين، وعن اجتناب سخطهم وبغضهم للسائلين.

لا تسألن بني آدم حـاجـة             وسل الذي أبوابُه لا تُحجبُ

اللهُ يغضب أن تركتَ سؤاله            وبنيَّ آدم حين يُسالُ يغضب

فأعجز الناس قاطبة من عجز عن دعاء ربه، وغفل عن سؤال خالقه ومولاه، ذي الرحمة الواسعة، والخزائن الفاتحة، وقد أمر الخلق بدعائه، ووعدهم بإجابته: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم"، وتوعَّد المستكبرين عن عبادته المستنكفين عن سؤاله والاستفاثة والاستعانة به: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين"، والدعاء هو العبادة، بل أفضل، وأحسن، وأيسر أنواع العبادة، حيث يمكن للعبد أن يدعوه على كل حال، قاعداً وقائماً، طاهراً أوغير طاهر، سراً وعلناً، باللسان أوبالجنان، في الجو، والبر، والبحر، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، في جميعع الأوقات وسائر الساعات، خاصة عند الشدائد ونزول المصائب، فما أسرع إجابة الرحمن الرحيم، وما أسمعه لدعوة المضطرين، والمظلومين، والملهوفين، خاصة لأولئك المعرفين لديه، المطيعين لأوامره، المجتنبين لنواهيه، الداعين الخلق لمعرفته وعبادته، المستمسكين بعروته الوثقى، المتبعين لشريعته السمحة.

هؤلاء عليهم أن لا يعجزوا إذا عجز الناس، ولا ييأسوا ويقنطوا إذا يئس وقنط غيرهم، ولا يتشاغلوا عن ذلك بالأسباب الأرضية، ولا يركنوا ويغتروا بقوتهم المادية والعددية.

لقد جعل الله لكل شيء سبباً، ولكل غاية وسيلة، ولكل نازلة طريقة، لهذا أرشدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم لأنجع وسائل إجابة الدعاء، وقضاء الحاجات، وهي:

1. تجنب الحرام، والحرص على الحلال الطيب، في المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب، ونحوها.

2. أن ندعو ربنا ونحن موقنون بالإجابة، كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء.

3. أن لا نستعجل الإجابة بأن نقول: دعونا فلم يُستجب لنا؛ فنمسك عن الدعاء.

4. أن لا ندعو بإثم ولا قطيعة رحم.

5. أن نعزم في الدعاء، فإن الله لا يعجزه شيء.

6. أن ندعو بمجامع الدعاء.

اللهم أجب دعاءنا، وأعطنا سؤلنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ولا تجعلنا من الغافلين العاجزين، وصلى الله وسلم على رسولنا صادق الوعد المبين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

---------------------

الدعاء

الدعاء نداء وتضرع، وتوجه من الصغير إلى الكبير، ومن الأسفل إلى الأعلى، ولهفة من الأرض ومن سكان الأرض نحو ما وراء ‏السماوات، وطلب ورغبة وطرح لما في الصدور من آلام. والداعي يشعر بضآلته أولا، وبعظمة صاحب الباب الذي يتوجه إليه ‏ثانيا. لذا يكون متواضعا جدا، وعندما يرفع يديه بالدعاء مؤمنا بالاستجابة، يتحول ومن حوله إلى عالم روحاني وسماوي، وكأنه ‏يسمع تسبيحات وأذكار الروحانيين وأدعيتهم. والمؤمن بهذا التوجه وبهذا الدعاء لا يطلب ما يوده وما يطمح إليه فقط، بل ‏يستغيث أيضا مما يخافه ويخشاه، وهو يعلم بأن الدعاء حصنه الحصين الذي يلجأ إليه.‏

آمالنا ورغباتنا هي دوافع نجاحنا وتوفيقنا. أما قلقنا وخشيتنا فوسيلة من وسائل يقظتنا وانتباهنا تجاه تصرفاتنا السلبية. ومع أننا ‏لا نعرف ما قدره الله تعالى لنا ولمستقبلنا من أمور، نعدّ آمالنا وخشيتنا في كل حين وعزمنا وقرارنا أمارة من أمارات ذلك القدر، ‏ونعد دعواتنا القولية والفعلية والحالية وسيلة من وسائل هذا القدر في مستوى الشرط العادي. لأننا نعلم من بيان النبي الصادق ‏المصدوق صلى الله عليه و سلم أن النتيجة التي يحصل عليها كل واحد ستتحقق بمقياس كبير حسب سلوكه وأعماله. غير أنه ليس ‏من الصحيح عند التوجه إلى الله تعالى بالدعاء أن نقدم رغباتنا ومطالبنا، ونربط أدعيتنا بها. ولكن الصحيح هو أن نتوجه إلى الحق ‏تعالى، ونعرض عليه حالنا بشعور العبودية، وبشعور من التواضع والفناء، وبلسان الفقر والعجز.‏

والحقيقة أننا بأدعيتنا نظهر ثقتنا واعتمادنا وتوقيرنا لربنا، وبأنه قادر على كل شيء. ويجب أن تتوجه أدعيتنا إلى هذا أكثر من ‏توجهها لطلب تحقيق رغباتنا الدنيوية. ونصل أحياناً في الدعاء إلى نقطة نسكت فيها ونصمت، ونكل كل شيء إليه مع الاحتفاظ ‏بالتوسل بالأسباب، ونقول كما قال الشاعر:‏

‏أحوالنا معلومة يا رب من قِبلك،‏

‏ما الدعاء إلا تضرع من عبيدك... ‏

وأحياناً نقتبس أدعيتنا من القرآن الكريم أو من أدعية سيد البلغاء والأنبياء، ونفتح يد الضراعة أمام باب الرحمن الذي هو محرابنا ‏الأبدي لنشرح ونشكو أحوالنا وما يجول في أعماق أرواحنا. ورعايةً منا لأدب المثول أمامه نغلق أفواهنا تماما وننتقل إلى مراقبة ‏صامتة. وهذه الحال حسب بعضهم وبدرجة الصدق المصاحب لها أبلغ من كل كلام، وأفضل من كل بيان، وأحسن من كل ‏تضرع. ولما كان الله تعالى على علم بكل أحوالنا، الظاهرة منها والخفية، فإن المهم هنا في الدعاء اللب والجوهر أكثر من الكلمات ‏نفسها. والله تعالى يقول لرسوله الكريم صلى الله عليه و سلم: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا ‏دَعَانِي﴾ (البقرة: 186). إذن فهو من ناحية معرفة طلباتنا ورغباتنا أقرب إلينا منا. لذا فحسب هذه المعرفة بالحضور الإلهي وبالقرب ‏الإلهي فإن الأدعية الصامتة هي عين الأدب مع ذلك المستوى المتميز من العباد. وسواء أكان هذا نابعا من مفهوم الغيب أو من ‏مفهوم الحضور الإلهي فإن الله تعالى الذي يقول ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60) يشوقنا إلى الدعاء. لذا يعد عدم ‏الدعاء استغناء لا معنى له وانقطاعا وبعدا عن الله تعالى.‏

إن من يستطيع فتح يديه لله داعيا وضارعا من كل قلبه، ويتوجه لـه، يستطيع تجاوز البعد الموجود بينه وبين ربه -الذي هو ‏أقرب إليه من حبل الوريد- والنابع من وضعه المادي والجسماني. وباحترامه لهذا القرب يستطيع الخلاص من وحشة بُعده عنه. ‏ويشاء الله تعالى إسماعه ما يجب أن يسمع، ويريه ما يجب عليه أن يرى، وينطقه بما يجب عليه أن ينطق، ويوفقه لعمل ما يجب عليه ‏أن يعمله. وهذه المرتبة من القرب مرتبة خاصة يمكن الوصول إليها عن طريق النوافل، حيث يرى ما وراء المُشاهَد، ويسمع ما وراء ‏الأصوات، وتكون قابلياته الأخرى أيضا غير اعتيادية، وتتجاوز قدراته السابقة ليصبح في هبة واحدة إنسانا في بُعد آخر، وليرتفع ‏إلى مستوى آخر، ويكون عبدا دائم التضرع لله، يتضرع إليه ويدعوه ويجد منه الاستجابة... يتمسك بالدعاء والتضرع كتعبير عن ‏إيمانه بالقدرة غير المحدودة لربه، ويسند ظهره إلى قوته غير المحدودة، فلا تفتر شفتاه عن الدعاء في كل أمر من الأمور وإن بدا أبعد ‏شيء عن التحقق.‏

ولهذا فإن الأرواح التي وصلت لمستوى تذوق لذة الإيمان وسمت بالعبادات، لا تقصّر أبدا في الدعاء. على العكس من هذا، فهي ‏تدرك أن العبادات هي غاية الموجودات وسبب خلقها. لذا تعطي للدعاء أهمية قصوى. وبجانب قيام أصحاب هذه الأرواح برعاية ‏الأسباب المادية والمعنوية، يسارعون إلى فتح يد الدعاء والتضرع لربهم من أعماق قلوبهم، ويرون أن الأدعية وسيلة تقربهم إلى ‏خالقهم، وهي منبع آمالهم ورجائهم. وفي مثل هذا الجو من القرب يُحَسّ بجو من المهابة والقلق إلى جانب الشعور بالبهجة وتَوقُّع ‏تحقيق الآمال. وعندما ينظر الإنسان إلى كل شيء من خلال تأمله في أزليته وأبديته سبحانه، يحس وكأنه يستمع إلى دقات قلبه ‏المرتعش، وينتقل إلى حالة من اليقظة والتمكين. وهاتان الحالان اللتان تترافقان عادة عند الدعاء وتتداخلان ببعضهما تتسعان ‏وتتطوران بنسبة طردية مع سعة أفق المعرفة الإلهية عند الإنسان. والقرآن يشير إلى حال المؤمن عند الدعاء وإلى حالته الروحية عندما ‏يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (الأعراف: 55). وهذه الآية تشير إلى أن المؤمن لا يمكن أبدا أن يستغني عن الدعاء وعن ‏الالتجاء إلى الله، وإلى أن الله تعالى بجانب عظمته وكبريائه وجبروته فلا يسد أبواب رحمته وعنايته، بل يذكّر الإنسان بأن أبواب ‏رحمته مفتوحة للجميع على الدوام على مصاريعها، ويؤكد على أهمية الدعاء.‏

ونظرا لكونه هو وحده خالقنا وموجدنا ومطعمنا ومطورنا من حال لحال، والعارف بحاجاتنا ورغباتنا والمستجيب لها، ‏وصاحب الرحمة الواسعة الذي لا يدع أمورنا لغيره، وذلك مقابل عجزنا وفقرنا وضعفنا وحاجتنا، لذا كان من الأهمية بمكان قيامنا ‏بتعيير سلوكنا وتصرفاتنا تجاهه بكل دقة وعناية. نحن عاجزون وضعفاء ومحتاجون، بينما هو الحاكم المطلق على كل شيء. لذا ‏نحس على الدوام بمدى صغرنا، وبمدى عظمته، ولا نتوجه عند طلباتنا الفعلية والحالية إلا إليه وحده دون غيره، ونعلم أن الظهور ‏بمظهر المستغني عنه ليس إلا سوء أدب. كما نَعُدّ أي تصرف يتسم باللامبالاة عند عبادتنا لـه أو عند توجهنا لـه بالدعاء، أو أيّ ‏تصرف يفتقر إلى الجدية، عدمَ احترام وعدم توقير. لذا نعتني غاية الاعتناء أن نتوجه إليه على الدوام بمشاعر الخوف والإشفاق ‏والمهابة. وعندما نشعر بمدى قربه منا وبأنه سيستجيب لدعائنا نشعر بعظمته وكبريائه جنبا إلى جنب مع سعة رحمته وشفقته ‏ولطفه... فنترجف من خشيته ونرتعش، ونعيد النظر في تصرفاتنا وسلوكنا وأعمالنا، وحتى في درجة ارتفاع أصواتنا، ونعيرها من ‏جديد، لأننا سنكون في جو من الشعور بأننا تحت مراقبة من لا يغيب عنه شيء، وتحت نظره. فبجانب أذواقنا لا ندع الاحتياط ‏والتدبير. وبهذا المعنى فالدعاء أصفى مظهر من مظاهر العبودية وأصدقها في كل حين لكونه لبّ التوجه إلى الحق تعالى بالطلب ‏وأفضلَ إعلان للعبودية. والحقيقة أن كل الموجودات تدعوه وحده على الدوام بلسان حالها، ونوع قابلياتها، وبلسان حاجاتها ‏الفطرية، فيقوم بالرد والاستجابة لها ضمن إطار من الحكمة، ويسمع كل صوت ويستجيب له.‏

ولكن ليس من الصحيح توقع الاستجابة لكل أدعيتنا كما هي، لأننا لا نأخذ بنظر الاعتبار إلا رغباتنا وطلباتنا المتعلقة بأيامنا ‏الحالية. فنضيّق بهذا إطار طلباتنا، وننسى أو نهمل المستقبل أو الأمور الأخرى المتعلقة بنا عن قرب، ولا نأخذها بنظر الاعتبار. ولكنه ‏تعالى يرى حالنا الحاضر، وكذلك مستقبلنا القريب والبعيد في اللحظة نفسها، فيوسع ما ضيقناه حتى يجعل أدعيتنا بوسعة الدارين في ‏الدنيا وفي العقبى، ويستجيب لها ضمن أبعاد متعددة حسب موجبات رحمته وحكمته. أجل!.. فهو عندما ينير أوضاعنا الحالية لا ‏يفسد مستقبلنا، ولا يحوّل أضواء أيامنا الحالية إلى ظلمات في المستقبل. وعندما يقوم بالإنعام علينا لا يَسحب من الآخرين نعمه ولا ‏يحرمهم من فضله، بل يستجيب للجميع ولكل شيء استجابات عميقة، ليظهر لنا أنه سمع أدعيتنا، وأخذ طلباتنا بنظر الاعتبار، فيهب ‏قلوبنا بقربه وحضوره انشراحا وبهجة وراء كل خيال وتصور.‏

والقلب المتفتح على هذه المعاني عندما يفتح كف التضرع والدعاء يعلم بوجود من يراه ويحس حتى بأنفاسه، ويعلم سره ‏ونجواه، ويشهد أنينه وبكاءه، وهو على كل شيء قدير، وحاكم ومسيطر على كل شيء، يعمل ما يشاء وكيفما يشاء، وأن هناك ‏حِكَما مختلفة في كل ما يفعله، واستنادا إلى رحمته وإرادته ومشيئته يرى بأنه يستطيع التغلب على كل صعب من الصعاب، ويحس ‏بالطمأنينة في أكثر أوقاته توترا، وفي أصعب وأحلك الحوادث التي يجابهها، ولا يتخلى عن أمله أبدا ولا يلفه اليأس مطلقا. وكم من ‏معان عميقة تكمن في توجهه نحوه تعالى عدة مرات يوميا ضمن هذا الإطار محاولا أن يرى ويسمع بقلبه ما وراء هذا العالم المادي. ‏والذي يذوق فضل ونعمة مثل هذا التوجه لا يستطيع ترك ملازمة عتبة بابه تعالى. وحتى وإن لم نستطع الوصول تماما إلى مثل هذا ‏الفضل، نتوجه للمرة الأخيرة نحو باب حظيرته، ونلمس مطرقة الباب لنتضرع وندعو بقلب يئن:‏

أيها الموجود الأزلي الذي هو سبب وعلة وجودنا، وروح أرواحنا! يا من نوره ضياء أعيننا وأبصارنا! لو لم تنفخ الروح في ‏أبداننا لبقينا حمأ مسنونا، ولو لم تهب النور لأعيننا كيف كنا نستطيع فهم وتقييم الكون من حولنا، وكيف كنا نستطيع معرفتك؟ ‏لقد أوجدتنا مرتين... مرة عندما خلقتنا... ومرة عندما وهبت لنا الإيمان والعرفان. ولو قمنا بحمدك والثناء عليك بعدد ذرات ‏الكون لما وفّينا حقك من الشكر.‏

يا أجمل من كل جميل! ويا أبهى من كل بهي! يا من تظهر صور الجمال في كل آن وحين، وتستر ما يبدو قبيحا حتى تضفي ‏عليه مسحة نسبية من الجمال! نتضرع إليك أن تملأ قلوبنا بمشاعر الجمال وأحاسيسه، وأن تبصرنا بطرق الجمال ومسالكه على ‏الدوام.‏

يا أرحم من كل رحيم! يا من لا تعاقب المسيء فورا، بل تمهل وتتغاضى عمن يتجاوز حدّه، وتترك لـه فرصة لتنقية قلبه من ‏الذنوب والآثام المعنوية! احفظنا يا رب من التلوث بالآثام وبالذنوب، واغفر لنا عندما نتلوث ببعضها، ولا تحرمنا من مغفرتك ومن ‏رحمتك ولا تبعدنا عنها. كنا عدما فأوجدتنا، ونحن مستمرون في الحياة بفضلك وبلطفك وبجودك وإحسانك، محاطون على الدوام ‏بجودك وبإحسانك وكرمك. أنت يا رب من يمنح النور لعقولنا، ولذةَ الإيمان لقلوبنا. كان العقل في تشوش وتخبط حتى وصل ‏إليك، وكانت النفس تعدو وراء البغي. وعندما جعلتَ العقل مرشدا وهاديا لجمت به أهواء النفس وفتحت أمامها أفق الاطمئنان. ‏لقد وَجدنا أنفسنا بفضلك، وتخلصنا من الضياع هنا وهناك في الدروب بلطفك.‏

ما وصلت قلوبنا إلى الاطمئنان إلا بمعرفتك. وما تخلصت أفكارنا من الهذيان القاتل وانسلّت منه إلا بالاستسلام لك. أتينا إلى ‏بابك وطرقناه بذلة وخضوع، ندعوك أن تديم هذه الذلة لك إلى أبد الآبدين. اسمك على الدوام على شفاهنا عند دعائك، وننتظر ‏بِرَهْبة وخشية جوابك. لم يسمعنا حتى اليوم سواك، ولم يربّت بشفقة على رؤوسنا أو ينظر أحد سواك إلى وجوهنا. كل ما ‏وجدناه كان من عندك وحدك. وبفضل الإيمان بك تخلصنا من مشاعر الغربة والحيرة والذهول، ومن آلام الوحدة والوحشة، لذا ‏نتوجه إليك مرة أخرى بكل كياننا نطلب منك العفو والعافية.‏

نعوذ بك من قساوة القلب، ومن الاستناد إلى غيرك، ومن الغفلة ومن الإهانة والهوان، ومن المسكنة والجهل، ومن علم لا ينفع، ‏وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، ومن دعاء لا يستجاب له، ومن زوال النعم، وتغير الألطاف، ومن عذاب عاجل ‏وغضب ماحق.‏

ندعوك أن تهب لنا لسانا ضارعا، وقلبا خاشعا. اقبل منا يا رب توبتنا، ونقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ‏واستجب لدعائنا، وافتح آفاق قلوبنا، وألزم ألسنتنا كلمة الصدق، وطهر قلوبنا من الدنس يا رب! وهب لنا يا رب ثباتا في ‏أعمالنا، وعزما وقرارا في طريق القرآن، وحساسية تجاه نعمك. لا تُرجِعْ يا رب من يدق بابك خائبا، وتفضل بنعمك وألطافك ‏على عبادك الطائعين، واهد من عصاك وضل عن سبيلك. وزين دعاء المضطرين بالاستجابة لهم، وساعد أصحاب الكرب، وعالج ‏أصحاب القلوب المريضة وهب لهم الشفاء، وأظهر نورك للذين يتخبطون في ظلمة الكفر والإلحاد كي لا تبقى فيهم أي نقطة أو ‏ركن مظلم.

------------

إنَّ من الناس من لا يُعاب

قال ابن عبد البر رحمه الله: روى ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن الأشج عن القاسم بن محمد أن رجلاً قال له: عجبتُ من عائشة حين كانت تصلي أربعاً في السفر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين! فقال القاسم بن محمد: "عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من الناس من لا يُعاب".

إي وربي إن من الناس من لا يعاب، ليس لأنه معصوم ومبرء من الخطأ والزلل، ولكن لعلو مكانته ورفيع درجته، ولعظم حقه على الأمة.

قائل ذلك هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، كان من أفضل أهل زمانه كما قال مالك الإمام رحمه الله.

يستفاد من هذه الكلمة الطيبة، والنصيحة الغالية، والمقولة النافعة، ما يأتي:

1.  لا يحل لأحد تقليد أحد في كل ما يقول، واتباعه في كل ما يفعل، مهما كانت مكانته وعلمه، سوى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي كلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

2.  لا يجوز تقليد العلماء في زلاتهم وهفواتهم مهما كانت منزلتهم.

3.  إذا صدرت من عالم زلة أوقول شاذ لا ينقص ذلك من مكانته ولا يحط من قدره، إن كان منهجه موافقاً لمنهج أهل السنة والجماعة.

4.  من الناس من لا يعاب بسبب صدور هفوة منه أوخطأ، سيما أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والعلماء المقتدى بهم.

5.  بل علينا أن نبحث لهم عن عذر لهذه الزلات.

6.  علينا أن لا نشيع عنهم هذه الزلات، بل يجب أن نستر ذلك.

7.  السنة في السفر قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، واختلف أهل العلم في حكم القصر في السفر على قولين: منهم من قال واجب وهو الراجح، ومنهم من قال سنة، وبذلك اعْتُذِر عن إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما.

نهدي هذه النصيحة الغالية إلى أولئك الذين أصبح شغلهم الشاغل وعملهم الدائب النيل والانتقاص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تأثر بهم، سيما أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وحفصة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وغيرهم من الأخيار، ونقول لهم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، واشتغاله بما هو فيه، وترك الخلق لخالقهم.

وليكن لهم أسوة في الأخيار أمثال ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وغيرهم كثير، فالسعيد من تأسى بالأخيار، والشقي التعيس من اقتدى بالسفهاء الأشرار

------------------

أهمية الدعاء

الخطبة الأولى

أما بعد :

فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعلموا أن الدعاء أعظم أنواع العبادة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي  قال: ((الدعاء هو العبادة ))، ثم قرأ:  وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ  [سورة غافر:60]. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم[1]، وقد أمر الله بدعائه في آيات كثيرة، ووعد بالإجابة وأثنى على أنبياءه ورسله، فقال:  إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ  [سورة الأنبياء:90].

وأخبر سبحانه، أنه قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فقال سبحانه لنبيه  :  وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ  [سورة البقرة :186].

وأمر سبحانه بدعائه، والتضرع إليه، لا سيما عند الشدائد ،والكربات، وأخبر أنه لا يجيب المضطر، ولا يكشف الضر إلا هو، فقال:  أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء  [سورة النمل: 62].

وذم الذين يعرضون عن دعائه عند نزول المصائب، وحدوث البأساء، والضراء، فقال:  وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ  [سورة الأعراف:94]. وقال تعالى :  وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ %   فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ  [سورة الأنعام:42،43].

وهذا من رحمته وكرمه سبحانه، فهو مع غناه عن خلقه، يأمرهم بدعائه ،لأنهم هم المحتاجون إليه، قال تعالى:  يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ  [سورة فاطر :15]. وقال تعالى : وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء  [سورة محمد: 38]. وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاتسغفروني أغفر لكم)) رواه مسلم[2].

فادعوا الله عباد الله، واعلموا أن لاستجابة الدعاء شروطا لابد من توفرها، فقد وعد الله سبحانه أن يستجيب لمن دعاه، والله لا يخلف وعده، ولكن تكون موانع القبول من قبل العبد.

فمن موانع إجابة الدعوة:

أن يكون العبد مضيعا لفرائض الله، مرتكبا لمحارمه ومعاصيه،تعالى:  ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ  [سورة يونس:91].

إخوة الإيمان، ومن أعظم موانع الدعاء أكل الحرام وشرب الحرام ولبس الحرام، فقد ذكر النبي  : ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم[3]، فقد أشار النبي  إلى أن التمتع بالحرام أكلا، وشربا، ولبسا، وتغذية أعظم مانع من قبول الدعاء وفي الحديث: ((أطب مطمعك تكن مجاب الدعوة))[4]، فقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله في كتاب الزهد قال: " أصاب بني إسرائيل برء، فخرجوا مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام الآن إذا اشتد غضبي عليكم لن تزدادوا مني إلا بعدا ".

فتنبهوا لأنفسكم أيها الناس وانظروا في مكاسبكم، ومآكلكم، ومشاربكم، وما تغذون به أجسامكم، ليستجيب الله دعاءكم وتضرعكم.

ومن موانع قبول الدعاء عدم الإخلاص فيه لله، لأن الله تعالى يقول:  فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ  [سورة غافر:14]، وقال تعالى:  فلا تدعوا مع الله أحدا  [سورة الجن:18]. فالذين يدعون معه غيره من الأصنام وأصحاب القبور والأضرحة والأولياء والصالحين، كما يفعل عباد القبور اليوم من الاستغاثة بالأموات، هؤلاء لا يستجيب الله دعاءهم إذا دعوا فهذا قد ابتعد عن الله وقطع الصلة بينه وبينه، فهو حريٌّ إذا وقع في شدة، ودعا أن لا يستجاب له، وفي الحديث أن النبي  قال: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))[5] يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، ورعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرف بذلك إلى الله، وصار بينه ويبن ربه معرفة خاصة، فيعرفه ربه في الشدة ويراعي له تعرفه إليه بالرخاء فينجيه من الشدائد وفي الحديث: ((وما تقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري[6].

فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته، كما قال تعالى عن نبيه يونس عليه الصلاة والسلام لما التقمه الحوت :  فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون  [سورة الصافات: 144]. أي لولا ما تقدم له من العمل الصالح في الرخاء وقيل: لولا أنه كان من المصلين قبل ذلك  للبث في بطنه إلى يوم يبعثون  [سورة الصافات:144]. أي لصار له بطن الحوت قبرا إلى يوم القيامة، قال بعض السلف: " اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله فلما وقع في بطن الحوت، قال الله تعالى:  فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون  [سورة الصافات :144]. وإن فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله  حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت  [يونس :90]. فقال لأنهم لم يخلصوا، وكذلك الذين يتوسلون في دعائهم بالأموات، فيقولون نسألك بفلان، أو بجاهه، هؤلاء لا يستجاب لهم دعاء عند الله، لأن دعاءهم مبتدع غير مشروع، فالله لم يشرع لنا الدعوات بواسطة أحد ولا بجاهه، وإنما أمرنا أن ندعو مباشرة من غير واسطة أحد، قال تعالى:  وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [سورة البقرة:186]، وقال تعالى :وقال ربكم ادعوني أستجب لكم  [سورة غافر:60]. فاحذروا من الأدعية الشركية والأدعية المبتدعة التي تروج اليوم .

4. ومن موانع قبول الدعاء أن يدعو الإنسان وقلبه غافل، فقد روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة  ، عن النبي  قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ))[7].

5. ومن موانع قبول الدعاء ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان    عن النبي  قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) رواه الترمذي[8]، وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث علي بن أبي طالب  قال: قال رسول الله  : ((الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض)) [9] وقال  : ((الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء )). رواه الحاكم أيضا وهو حسن[10].

فاتقوا الله عباد الله وألحوا على ربكم في الدعاء فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله  : ((إن الله يحب الملحين في الدعاء)) [11].

فالدعاء هو أعظم أنواع العبادة ،لأنه يدل على التواضع لله، والافتقار إلى الله، ولين القلب والرغبة فيما عنده، والخوف منه تعالى، وترك الدعاء يدل على الكبر وقسوة القلب والإعراض عن الله، وهو سبب دخول النار، يقول الله تعالى:  وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين  ،[غافر 60] كما أن دعاء الله سبب لدخول الجنة قال تعالى:  وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم  ، فادعوا الله أيها المسلمون وأكثروا من دعائه مخلصين له الدين، وإن  الدعاء أكبر ما يكون في أيام الفتن والمحن، التي يفتن فيها عباد الله في دينهم، وعقيدتهم، وعلمائهم، ودعاتهم .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:  ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين  .[الأعراف55/56]

بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا

 

 

________________________________________

[1] صحيح، سنن أبي داود (1479)، سنن الترمذي (3247) وقال: صحيح، مستدرك الحاكم (1/491) وصححه ووافقه الذهبي.

[2] صحيح مسلم (2577).

[3] المصدر السابق (1015).

[4] قال الهيثمي في المجمع (10/291): رواه الطبراني في الصغير، وفيه من لم أعرفهم. قلت: لم أجده في الصغير وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1071).

[5] أخرجه أحمد (1/307)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2804): إسناده صحيح.

[6] صحيح البخاري (6502).

[7]مستدرك الحاكم (1/493) وقال: حديث مستقيم. وتعقبه الذهبي فقال: صالح متروك. وذكر الألباني أن للحديث شاهدًا يتقوى به، وبهذا فهو حسن. السلسلة الصحيحة (594). وأخرجه الترمذي أيضًا في سننه (3479) وقال: غريب

[8] إسناده حسن، سنن الترمذي (2169).

[9] المستدرك (1/ 492) وصححه ولم يتعقبه الذهبي ! وفي إسناده محمد بن الحسن التل. ضعفه الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال (3/512) وذكر أن الحديث من مناكيره، وفيه انقطاع. على أن محمد بن الحسن هذا ليس محمد بن الحسن التل، وإنما هو محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، وقد ذكره الذهبي في الميزان (3/514)، وذكر في ترجمته هذا الحديث، ونقل عن يحيى بن معين تضعيف محمد هذا. وانظر السلسلة الضعيفة (179).

[10] المستدرك (1/492)، وحسنه الألباني لغيره. صحيح الترغيب (1634).

[11] أخرجه الطبراني في "الدعاء" رقم (20)، قال المحقق: إسناده ضعيف من أجل تدليس بقية بن الوليد. وكذا قال الحافظ في الفتح (11/95): رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية. ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (637).

--------------------

أمور هامة في ذكر الله والصلاة على النبي

فصل ذكر الله من القرآن الكريم:

قال تعالى:  فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ  [البقرة:152]. وقال تعالى:  الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ  [آل عمران:191]. وقال تعالى:  وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ  [آل عمران:41]. وقال تعالى:  وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً  [الأعراف:205]. وقال تعالى:  وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً  [المزمل:8].

فوائد ذكر الله تعالى:

1 - أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.

2 - أنه يرضي الرحمن عز وجل.

3 - أنه يزيل الهم والغم عن القلب.

4 - أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.

5 - أنه يقوي القلب والبدن.

6 - أنه ينور الوجه والقلب.

7 - أنه يجلب الرزق.

8 - أنه غراس الجنة فعن جابر عن النبي  قال: { من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة }.

9 - إن الذكر يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر.

فضل الصلاة على النبي  من القرآن الكريم:

قال تعالى:  إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً  [الأحزاب:56]. وقال تعالى:  هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً  [الأحزاب:43].

فوائد الصلاة على النبي  :

1 - امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.

2 - موافقته سبحانه وتعالى في الصلاة عليه  .

3 - موافقة ملائكته فيها.

4 - حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة.

5 - أنه يرفع له عشر درجات.

6 - أنه يكتب له عشر حسنات ويمحو عنه عشر سيئات.

7 - أنه يرجى إجابة دعائه إذا فتح بها الثناء على الله تعالى.

8 - إنها سبب لشفاعته  .

9 - إنها سبب لقرب العبد منه  يوم القيامة.

10 - إنها سبب لتبشير العبد بالجنة قبل مماته.

11 - أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

12 - أنها سبب لنيل رحمة الله.

مواطن الصلاة على النبي  :

1 - في التشهد الأول وآخر القنوت والصلاة في آخر التشهد.

2 - في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية.

3 - في خطبة الجمعة والعيدين والإستسقاء وغيرها.

4 - بعد إجابة المؤذن وعند الإقامة وعند الدعاء.

5 - عند الدخول للمسجد وعند الخروج منه.

6 - عند ذكره  وعند كتابة اسمه  .

7 - عند إلمام الفقد والحاجة وأول النهار وآخره.

8 - بعد الفراغ من الوضوء ودخول المنزل.

فضل دعاء الله من القرآن الكريم:

قال تعالى:  رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء  [آل عمران:38]. وقال تعالى:  رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء  [إبراهيم:40]. وقال تعالى:  وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  [غافر:60].

فوائد الدعاء لله تعالى:

1 - أنه دليل على الإيمان بالله والتوكل عليه.

2 - أنه سبب لنزول الرحمة ودفع البلاء.

3 - إن الدعاء محبوب لله عز وجل.

4 - أنه طاعة لله عز وجل وسبب لدفع غضبه سبحانه وتعالى.

5 - أنه سبب لانشراح الصدر وتفريغ الهم وزوال الغم وتيسير الأمور.

أوقات وأماكن إستجابة الدعاء لله تعالى:

1 - ليلة القدر.

2 - يوم عرفة.

3 - شهر رمضان.

4 - ليلة الجمعة ويوم الجمعة وساعة الجمعة.

5 - جوف الليل الآخر.

6 - وقت السحور.

7 - إلتقاء الصفوف في القتال.

8 - بين الآذان والإقامة.

9 - عند السجود.

10 - دُبر الصلوات المكتوبة.

11 - في السحور.

12 - عند قول الإمام ( ولا الضالُّين ).

13 - عند شرب ماء زمزم.

14 - عند صياح الديكة.

15 - عند اجتماع المسلمين في مجلس الذكر.

16 - عند نزول الغيث.

المواقع التي تجاب فيها الدعوات لله تعالى:

1 - حين الوقوف على الصفا والمروة، أن رسول الله  : { أتى الصفا حتى نظر إلى البيت ورفع يديه وجعل يحمد الله ويدعوه ما شاء أن يدعوه }.

2 - عند رمي الجمرات وعند المشعر الحرام، أن رسول الله  : { أنه كان يرفع يديه عند رمي الجمرات ويدعوه }.

3 - داخل البيت الحرام أن الرسول  لما دخل البيت دعا في نواحيه.

شروط الدعاء لله تعالى:

1 - تعتقد بأن الله تعالى وحده هو القادر على إجابةالدعاء.

2 - الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي  .

3 - التوسل إلى الله تعالى بالمشروع من لوازم الدعاء.

4 - حسن الظن بالله تعالى.

5 - عدم الاستعجال.

6 - أن يكون المطعم والمشرب والملبس من الحلال.

آداب الدعاء:

1 - واعلم رحمك الله أن الافتقار إلى الله والانكسار بين يده وإظهار الفقر له ظاهراً وباطناً من أهم شروط استجابة الدعاء.

2 - و لا بأس برفع اليدين عند الدعاء لقوله  : { إن الله يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صفراً } [حديث صحيح].

3 - ولا تمسح وجهك بعد الدعاء فذلك لم يثبت عن رسول الله  ، بل قال العز بن عبدالسلام: ( لا يفعلها إلا جاهل ) [صحيح الأذكار من كلام خير الأبرار].

وأسأل الله أن يهدينا إلى سواء السبيل وأن يبصرنا بأرشد أمرنا إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه واتباعه.

---------------------

الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ

قال الشافعي: "رأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً"

الصبر هو نصف الإيمان، وذلك لأن الإيمان نصفه صبر والنصف الآخر شكر، وقد ذُكِر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً في موطن المدح والثناء والأمر به، وهو واجب بإجماع الأمة، وهو أنواع:

1. الصبر على طاعة الله، وهو أفضلها.

2. الصبر عن معصية الله عز وجل، وهو يلي النوع الأول في الفضل.

3. الصبر على امتحان الله عز وجل.

قال ابن القيم رحمه الله: (فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!

وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية).

وما قاله شيخ الإسلام هو الحق، فقد قرن الله بين الصبر والإيمان والعمل، حيث قال في سورة العصر: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية وحجة على الأمة.

والدليل على ذلك أن كثيراً من الخلق يسهل عليهم الصبر على المصائب والبلايا وعن المعاصي، ولكن قليل منهم من يصبر على طاعة الله عز وجل، بل من الناس من يصبر على المعاصي ويتحمل من أجلها ما لا يتحمل معشار معشاره على طاعة الله عز وجل.

قال المزني رحمه الله: (سمعتُ الشافعي رحمه الله يقول: رأيتُ بالمدينة ـ المنورة ـ أربع عجائب، رأيتُ جَدَّة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيتُ رجلاً فلسه القاضي في مدين نَوَى، ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً، ونسيتُ الرابعة).

وشاهدنا في قوله: "ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون.." إلخ.

وما تعجب منه الشافعي، وحق له أن يعد ذلك من العجائب، مُشاهَد، فإنك تجد البائع واقفاً في سوقه من الصباح إلى المساء لا يفتر ولا يقعد، وكذلك مشجع الكرة يقف على رجل واحدة ويصيح بملء فيه ويدخل الملعب قبل ثلاث ساعات من موعد المباراة، وتجد الفنان يقيم الحفلة إلى مشارف الصبح، والمصلي يخرج من المسجد يقف يتكلم في أمور الدنيا الساعة والساعتين، وغيرُهم كثير، فإذا استغرقت الصلاة ربع ساعة، أواطمأن الإمامُ في ركوعه وسجوده قليلاً، قامت الدنيا ولم تقعد، وتضجَّر الناسُ، واشتكوا، ومنهم من يشكو الإمام إلى المسؤولين وإلى لجنة المسجد، ورفع في وجه الإمام كلمة الحق التي يريدون بها باطلاً: "من أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف.." الحديث.

وكأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كان يؤمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المغرب أحياناً بالأعراف والصافات، والذين أمهم أبوبكر الصديق مرة بالبقرة كلها في صلاة الصبح، والذين كثيراً ما كان يؤمهم عمر في الصبح بيوسف، وهود، والنحل، ليس فيهم مريض ولا ضعيف؟

وتثريب الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه لأنه كان يصلي معه العشاء ثم يذهب ليؤم قومه بعد ذلك، وقد أمهم يوماً بالبقرة في الركعة الأولى من العشاء، وبالقمر في الثانية، وعندما خرج أعرابي من صلاته نال منه معاذ بأنه منافق! ومن أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.

أين هذا كله مما عليه الأئمة الآن؟! فتبيَّن أن احتجاج البعض بهذا الحديث ليس في موضع النزاع، فمن فعل كما فعل معاذ يكون فتاناً حقاً، ولكن مَنْ مِن الأئمة الآن يستطيع أن يفعل ذلك ولو كان فذاً؟!

أعجب من هؤلاء جميعاً من يحيي ليله بالرقص، والتواجد، والضرب بالأقدام على الأرض، فإذا حان وقت صلاة الصبح تفرَّق جلهم، ومن بقي صُلِّيَ بهم بقصار المفصل من غير اطمئنان ولا خشوع.

لقد صاغ العلامة ابن القيم رحمه الله حال هذه الطائفة ـ الصوفية ـ التي أسِّست على الكسل كما قال الشافعي، شعراً، حيث ذكر جدهم واجتهادهم عند السماع، والرقص، والتواجد، الذي هو دين عباد العجل، عندما اتخذ لهم السامري عجلاً جسداً له خوار، فقاموا حواليه يرقصون ويتواجدون حتى يقع أحدُهم مغشياً عليه، فالرقص، والتواجد، والسماع الصوفي ليس من الذكر الذي شرعه الله لعباده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو وأصحابه يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة، مقارناً له بصدودهم عن سماع آي القرآن والعلم، وعن الخشوع والاطمئنان في الصلاة التي هي من أجلِّ العبادات وأفضل القربات، قائلاً:

تُلي الكتابُ فأطرقوا، لا خيفـةً         لكنه إطـراق ســـاهٍ لاهي

وأتى الغناءُ فكالحمير تناهقـوا         و الله ما رقصـوا لأجـل الله

دفٌّ، ومزمـارٌ، و نغمة شادنٍ          فمتى رأيتَ عبادةً بمــلاهي ؟

ثَقُل الكتـابُ عليهمُ لمـا رأوا         تقييـده بـأوامـر و نـواهي

سمعوا له رعداً وبرقاً إذ حوَى         زجـراً و تخويفاً بفعل  مناهي

ورأوه أعظمَ قاطعٍ  للنفس عن         شهواتهـا ، يا ذبحها  المتناهي

وأتى السماعُ  موافقاً أغراضها         فلأجل  ذاك  غدا عظيمَ الجـاه

أين المساعدُ للهوى  من قاطع         أسبابَه عند الجَهـول السـاهي؟

إن لم يكن خمرَ الجسـوم فإنه         خمـرُ العقول مماثلٌ ومضاهي

فانظر إلى النشوان عند شرابه         وانظر إلى النسوان عند ملاهي

و انظر إلى تمزيق ذا أثـوابه        من بعد تمزيق الفـؤاد   اللاهي

واحكـم فأيُّ الخمرتين أحـقُّ        بالتحريـم والتأثيــم عند الله ؟

وقال كذلك:

ذهب الرجالُ و حـال دون مجـالهم         زُمَـرٌ من الأوبـاش والأنـذال

زعمــوا بأنـهم على آثـــارهم         سـاروا و لكن سيـرة البطَّـال

لبسوا الدَّلـوق مرقَّعــاً و تقشفـوا         كتقشف الأقطـاب و الأبــدال

قطعـوا طريق السالكين و غـوَّروا          سبـل الهدى بجهـالة وضـلال

عَمَـروا ظـواهرهم بأثـواب التقى         وحَشَـوا بواطنهم من الأدغـال

إن قلت : قـال الله  قـال  رسـوله         هَمـَزوك همزَ المنكِـر المتغالي

أو قلتَ : قد قال الصحابـة والأولى          تبعوهـم في القـول والأعمـال

أو قلتَ : قـال الآلُ آل المصـطفى         صلى عليـه الله أفضـــلُ آل

أو قلتَ : قـال الشـافعي و أحمـدُ          و أبو حنيفـة والإمـام العـالي

أو قلتَ : قال صحـابهم من  بعدهم          فالكـلُّ عندهـم  كشِبـه خَيـال

ويقول : قلبي قال لي  عن  ســرِّه         عن سـرِّ سرِّي عن صفا أحوالي

عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي         عن شاهدي عن واردي عن حالي

عن صَفْو وَقْتي عن حقيقـة مشهدي         عن سـرِّ ذاتي، عن صفات فعالي

دَعْــوَى إذا حققتهــا ألفيتهــا          ألقــابَ زُور لفِّقـت بمحــال

تركوا الحقائق والشـرائع واقتـدوا          بظواهــر الجهَّـال والضـلال

جعلوا المِرا فتحـاً وألفـاظ الخنـا          شطحـاً وصـالوا صولة الإدلال

نبذوا كتاب الله  خلف ظهـورهـم          نبْذَ المسـافـر فضلة الأكَّــال

جعلـوا السمـاع مطيـة لهواهُـمُ           وغَلَـوا فقالـوا  فيه كل محـال

هو طاعـة، هو قربـة، هو سنـة          صدقوا، لذاك الشيخ ذي الإضلال

شيـخ قديـم، صادهم بتحيُّـــل          حتى  أجابـوا دعـوة المحتـال

هجروا له القرآن والأخبار و الآثار          إذ شهـدت  لهـم  بضـــلال

و رأوا سمـاع الشعـر أنفع للفتى          من  أوجـهٍ سبـعٍ لهـم بتـوال

تالله مـا ظفـر العـدو بمثلهــا          من مثلهـم، واخيبـةَ الآمــال

نصب الحبال لهم فلم يقعوا بهــا         فأتى بذا الشَّـرَك المحيط  الغالي

فإذا بهم وسط العرين ممزقي الأثـ         ـواب والأديـان والأحـــوال

لا يسمعـون سـوى الذي يَهْوونه         شغلاً به عن سـائر الأشغــال

و دعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا         عنها ، وسـار القوم ذاتَ شمـال

خـرُّوا على القرآن عند سمـاعه         صمـاً و عُمْيانـاً  ذوي  إهمـال

و إذا  تلا القاري عليهم  سـورة          فأطالهـا عدَّوه  في  الأثقـــال

ويقول قائلهم : أطلتَ ، و ليس ذا         عَشْـر ، فخفِّف ، أنت ذو إمـلال

هذا، وكم لغوٍ ، وكم صَخَبٍ، وكم         ضَحِـكٍ بلا أدب ، ولا إجمــال

حتى إذا قـأم  السمـاع  لديهـمُ         خشعت له الأصـوات بالإجـلال

وامتدت الأعناقُ، تسمع وَحْي ذاك        الشيـخ من  مترنَّـمٍ قــــوَّال

وتحركت تلك الرؤوس، وهزَّهـا         طربٌ و أشـواق لنيـل وصـال

فهنالك الأشواق والأشجان والأحـ        ـوال ، لا أهـلاً بذي الأحــوال

اعلم أخي الكريم أن الخشوع في الصلاة هو سرها ومقصودها، وأن الاطمئنان في الركوع والسجود هو فرض في الصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن لم يطمئن في صلاته حيث كان ينقرها كما ينقر الديك الحب، وكما يفعل ذلك كثير من المصلين اليوم: "صلِّ، فإنك لم تصلِّ" ثلاث مرات، وقد جاء في الأثر: "كم من مصلٍّ سبعين ـ وفي رواية ثمانين ـ سنة، ليس له من صلاته شيء، ربما أكمل ركوعها ولم يكمل سجودها، أوأكمل سجودها ولم يكمل ركوعها".

واللهَ أسألُ أن يرزقنا الصبر على الطاعة، وأن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا وجميع إخواننا المسلمين من الراشدين، ونسألك اللهم حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ عمل يقرِّبنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

-------------------

كتمان السر وعدم إفشائه

ما ورد في فضل كتم السر وعدم إفشائه

ما يتعين كتمانه من الأسرار ويحرم إفشاؤه

 

 

من الأخلاق الحميدة والصفات الفاضلة كتم السر وعدم إفشائه، ولا يقدر على ذلك إلا ذوو الشهامة والمروءة، ولهذا قيل: أدنى صفات الشريف كتم السر، وأعلاها نسيان ما أسرَّ به إليه، وقيل صدور الأحرار قبور الأسرار.

أما أولئك المفشون للأسرار الناشرون لما استودعوا من الأخبار فليس لهم مثل إلا المنخل أوالغربال، فالحذر كل الحذر أن تفشي سرك وتبوح بما يهمك، خاصة لمن لو عهد إليه بأمر يخفيه أوسر يكتمه لضاق به صدره وبالغ في إفشائه ونشره، ولهذا جاء في الأثر: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود".

ما ورد في فضل كتم السر وعدم إفشائه

روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسرَّ إلى أخيه سراً فلا يحل له أن يفشيه عليه"، كما قال ابن عبد البر.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كتم سره كان الخيار بيده، ومن عرَّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء الظن به".

وقال: "ما أفشيتُ سري إلى أحد قط فأفشاه فلمته، إذ كان صدري به أضيق".

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "القلوب أوعية، والشفاه أقفالها، والألسنة مفاتيحها، فليحفظ كل إنسان مفتاح سره".

وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله رضي الله عنهما: "يا بُنيّ إن أمير المؤمنين يدنيك ـ يعني عمر ـ فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشينّ له سراً، ولا تغتابنّ عنده أحداً، ولا يطلعنّ منك على كذبة".

وقال أكثم بن صيفي: "إن سرك من دمك، فانظر أين تريقه".

وقيل: احفظوا أسراركم كما تحفظون أبصاركم.

وقيل: أكثر ما يتم به التدبير الكتمان.

وقيل: لا تطلعوا النساء على سرِّكم، يصلح لكم أمركم.

وأسرَّ رجلٌ إلى رجلٍ سراً، فلما فرغ قال له: حفظتَ؟ قال: بل نسيتُ.

ما يتعين كتمانه من الأسرار ويحرم إفشاؤه

كتمان السر واجب وإفشاؤه حرام، ويزداد الأمر حرمة والإفشاء خطورة إذا ترتبت عليه أضرار ونتجت منه أشرار، سواء كانت على صاحب السر أو غيره، ولهذا يتعين ويتحتم كتم السر وعدم إفشائه، خاصة في الآتي:

1.  المجاهرة بالمعاصي لمن ستره ربُّه

أعظم الأسرار التي يجب كتمانها ويحرم إفشاؤها الإخبار بما يقترفه المرء من معاصي وآثام وقد ستره الكريم المنان، والتحدث والتبجح بذلك، ومن ألف المعصية وتعوَّدها هان عليه أمرها، فالمجاهرة بالمعاصي تشمل فعلها أمام الآخرين أو إخبارهم بها.

صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه وأصبح يكشف ستر ربه"، فهؤلاء من أخبث الناس نفساً، وأجرئهم على محاربة الله ومبارزته بالمعاصي.

وأخبث من هؤلاء نفساً، وأعظم جرماً، وأكثر جهلاً، من يطلبون ممن يتوبون على أيديهم عند الدخول في طرائقهم أن يعترفوا أمامهم بكل ما اجترحوا من آثام، وارتكبوا من طوام، فهؤلاء أشدُّ وعيداً من أولئك المعترفين المغرَّر بهم.

2.  المجاهرة بما يدور بين الزوجين من الرفث والقول والفعل

من أعظم الأسرار التي يجب كتمانُها ويحرم نشرها والإباحة بها ما يدور بين الزوج وزوجه عند المضاجعة، وقد عدَّ رسول الله صلى هذا الصنف من الأزواج من شر الناس منزلة، وأحقرهم مكانة، وأرذلهم نفساً، فقال: "إن من شرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجلُ يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر أحدُهما سرَّ صاحبه"، وفي رواية: "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجلُ يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرَّها".

واجتمع يوماً عنده الرجالُ والنساءُ، فقال صلى الله عليه وسلم: "لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها"، فسكتَ القومُ، فقالت امرأة: إي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن؛ قال: "فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثلُ شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون".

3.  وصف المرأة محاسن امرأة أخرى لزوجها أو لغيره من الرجال

من الأسرار التي يحرم إفشاؤها أن تصف المرأة وتخبر زوجها أوغيره من الرجال بمحاسن امرأة حتى تغريه بها وتشوقه إليها، أوتذكر له قبح أخرى ودمامتها حتى يمقتها ويعيب على زوجها معاشرتها، وقد قال صاحب الخلق العظيم، والهادي إلى الصراط المستقيم، محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين، ناهياً عن ذلك ومحذراً منه: "لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها".

ولا بأس أن تذكر المرأة حال الأخرى، وما هي عليه من خلق فاضل، أوصفة تستحق معها المساعدة والعون، وإنما يحرم ذكر أوصافها الجسمانية، من قوام، وقد، وخد، وفم، وأنف، وطرف، وكف، كأنها مصوِّر تنقش بريشة لسانها على قلب الرجل صورة يكاد يراها كلما قام، وقعد، ودخل، وخرج.

4.  لا يحل للأجراء والوكلاء كشف سر المهنة وشؤون التجارة

من الأسرار التي يجب حفظها ولا يحل كشفها لغير أصحاب العمل المعنيين بذلك أيضاً، فلا يحل مثلاً لموظف، ولا مهندس، ولا فني، ولا مدير مبيعات، ونحوهم أن يبيحوا بأسرار المهن المتعلقة بمن يعملون معهم، خاصة عند التخلي عن أصحاب هذه الأعمال، وإن فعلوا ذلك فقد خانوا الأمانة.

5.  كشف الامتحانات ونتائجها

من أعظم الأسرار التي يجب المحافظة عليها من ائتمنتهم الأمة على وضع الامتحانات، وعلى طبعها، وحراستها، وترحيلها، ومراقبتها، وتصحيحها، فلا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبوح بشيء من ذلك، أوأن يفرط، كي لا يتمكن أحد من ضعاف النفوس أن يسرِّب شيئاً منها.

6.  لا يحل للطبيب أوالمعالج أن يكشف العاهات والأمراض التي يسرُّ لهم بها بعضُ المرضى

من الأسرار التي يحرم كشفُها والتحدث بها لأي إنسان ما يطلع عليه الطبيب والمعالج من بعض المرضى من عاهات، أوما يعلمه الأطباء والفحيصون وفنيو الأشعة من نتائج، إلا لمصلحة عامة.

فلا يحل لهؤلاء هتك ستر المرضى ولا إفشاء سرهم.

7.  على المفتي أن لا يبوح ويكشف ما يخبره به المستفتون

لا يحل لمن استفتاه إنسان وبين له بعض ما لا يحبُّ أن يطلع عليه الناس أن يكشف ذلك أويتحدث به إلى أي إنسان مهما كانت مكانته ومنزلته.

8.  المستشار مؤتمن

كذلك إذا استشار مسلم مسلماً في أمر من الأمور فلا يحل له كشف ذلك الأمر وإفشائه، فإن فعل ذلك فقد خان الأمانة ولم يكن أهلاً للمشورة.

9.  أمناء السر "السكرتيرون"

من اتخذه مسؤول أميناً لسره فلا يحل له أن يبوح بشيء من ذلك، ولا يُطلِع أحداً على ما ائتمِن عليه، وعليهم الاقتداء بالصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميناً لسره في المنافقين، فما كان يخبر أحداً بواحد منهم، وعندما أقسم عليه عمر وقال: ناشدتك بالله، هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال: لا؛ وعندما قال له: هل في عمالي أحد منهم؟ قال: نعم؛ ولم يخبره به، فعزله عمر كأنما دُلَّ عليه.

10. المقالات والبحوث التي ترسل للنشر

فلا ينبغي للمسؤولين أن يكشفوا سرها حتى تنشر.

11. لجان الترقيات ومجالس التأديب

عليهم أن لا يفشوا سراً متعلقاً بذلك.

12. على صاحب النعمة أن لا يبوح بها إلا لصديق حميم

عليك أخي المسلم إن كنت ممن أنعم الله عليهم أن تعمل بوصية يعقوب عليه السلام ليوسف: "قال يا بُنَيَّ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين".

13. من أصابته مصيبة في أهل أومال عليه أن يجتهد في كتمها، فلا يغم بها صديقاً ولا يسرُّ بها عدواً.

14. ستر ذوي المروءات ومستوري الحال

كذلك من الأمور التي يجب سترها ويحرم إفشاؤها لمن اطلع عليها ما يصدر من ذوي المروءات ومستوري الحال من زلات، وهفوات، وهنات، لمن اطلع على ذلك، مهما كانت، وذلك لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك: "أقيلوا ذوي العثرات عثراتهم"، أوكما قال.

وأخيراً اعلم أخي الكريم أن من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة، ومن فضح مسلماً فضحه الله بين الخلائق، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته وستر زلته.

--------------------

الكريم لا يعدمُ ما يتصدقُ به ألا تحبون أن تكونوا كأبي ضَمْضَمْ ؟

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.

وكان صلى الله عليه وسلم يحب الجود والجوادين، ويبغض البخل والبخيلين، وكان ناصحاً لأمته، ولهذا قال لأصحابه رضوان الله عليهم: "ألا تحبون أن تكونوا كأبي ضَمْضَم؟" قالوا: يا رسول الله، ومن أبو ضمضم؟ قال: "إن أبا ضمضم كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على من ظلمني"، وفي رواية: "اللهم تصدقت بعرضي على عبادك".

وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه كما قال ابن عبد البر: ("إن رجلاً من المسلمين قال: اللهم إني ليس لي مال أتصدق به، وإني قد جعلت عرضي صدقة لله عز وجل لمن أصاب منه شيئاً من المسلمين؛ قال: فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له"، أظنه أبا ضمضم المذكور، والله أعلم).

قال ابن عبد البر: أبو ضمضم غير مسمى ولا منسوب.

في هاتين الروايتين فإن أبا ضمضم هذا كان من الصحابة، ولهذا ترجم له ابن عبد البر في الصحابة، وتبعه الحافظ ابن حجر في الإصابة، ولكن خرَّج أبو داود وأبو الخطيب في الموضح كما قال الحافظ ابن حجر، عن ثابت بن عبد الرحمن بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجزُ أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟ قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: رجلٌ ممن كان قبلكم.." الحديث.

فالتشبه بالرجال فلاح، لأن الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة منها ما هو فطري، ومنها ما هو مكتسب، بحيث يستطيع المرء أن يكتسبها عن طريق الحرص والمجاهدة.

وهذا كله يدل على أن الكرم ليس بكثرة العَرَض والمال، وإنما بسخاء النفس ويقينها بأن الله يخلف ما ينفق، ولهذا كان الغنى الحقيقي هو غنى النفس، فالكريم الجواد يتصدق ولو بتبسمه في وجه أخيه، ولو بعرضه، والبخيل الشحيح يطمع في ما عند غيره.

------------------

وأي داء أدوى من البخل؟

السيادة، والقيادة، والإمارة في الإسلام وظيفة دينية لها مقومات وشروط، ومن أهم مقوماتها ما يأتي:

1.  تقوى الله.

2.  العلم.

3.  العدل والإنصاف.

4.  الشجاعة.

5.  الرأي السديد.

6.  الكرم والجود.

7.  المقدرة على القيام بالشفاعة الحسنة.

8.  العقل والحكمة.

ومن مقومات القيادة والسيادة والرئاسة الجبلية الجودُ والكرم، فالبخيل الشحيح لا يصلح أن يكون رئيساً ولا زعيماً أبداً.

دليل ذلك ما رواه الزهري بسنده عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني ساعدة: "من سيِّدُكم؟" قالوا: الجَدُّ بن قيس؛ قال: "بِمَ سَوَّدتموه؟" قالوا: إنه أكثرنا مالاً، وإنا على ذلك لنَزُنُّه بالبخل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيُّ داءٍ أدوى من البخل؟"، قالوا: فمن سيدنا يا رسول الله؟ قال: بشْر بن البَرَاء بن مَعْرور".

وفي رواية: "من سيِّدُكم؟" فقالوا: الجد بن قيس، على بخل فيه؛ فقال: "وأيُّ داءٍ أدوى من البخل! سيِّدُكم الجَعْدُ الأبيض عمرو بن الجموح".

ورجح ابن عبد البر أنه سوَّد عليهم بشر بن البراء.

قال ابن عبد البر: ورد في هذا الخبر لبني ساعدة، وإنما هو لبني ساردة.

لقد عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد بن قيس من سيادة هذا الحي من الأنصار عندما علم ببخله، وسوَّد عليهم في الحال أحد الجوّاد، إما عمرو بن الجموح، أوبشر بن البراء، وكلاهما أهل للسيادة والقيادة، وذلك لجودهما وكرمهما.

قال ابن عبد البر عن عمرو بن الجموح رضي الله عنه: "وكان يولم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج".

ولهذا مدحه شاعر الأنصار:

وقال رسولُ الله و الحـقُّ قـولُه           لمن قال منا من تسمون  سيدا ؟

فقالوا له جـد بن قيس على التي            نبخله فيهــا وإن كان أسـودا

فسوَّد عمرو بن الجموح  لجـوده           وحـق لعمر بالندى أن يسـوَّدا

إذا جـاءه السـؤَّالُ أذهب مـاله           وقـال خـذوه إنه عائـد غـدا

فلو كنتَ يا جَدُّ بن قيس على التي          على مثلها عمرو لكنتَ مسوَّدا

قتل عمرو بن الجموح، وكان أعرج معذوراً عن الغزو، شهيداً في أحُد، وعندما قيل له: ما عليك من حرج لأنك أعرج؛ أخذ سلاحه وولى، وقال: والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة؛ فكان له ما أراد، فقد أخبر الصادق المصدوق أنه وطئ بها الجنة.

وأما بشر بن البراء فقد قتل هو الآخر شهيداً مسموماً بسم اليهودية بخيبر، التي أرادت أن تسمَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الحال، وقيل عندما وصل المدينة.

أما الجد بن قيس لعنه الله فقد ختم له بالكفر والنفاق، وذلك لسوء طويته، وبخله، ودناءة نفسه: "ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين"، حيث اعتذر عن الخروج إلى تبوك خوفاً من نساء بني الأصفر!!

على العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يتأسَّوا بالأنبياء والصحابة والصالحين، وأن يتخلقوا بأخلاقهم، وأن يتشبهوا بسلوكهم، وعليهم أن يدعوا الناس بأعمالهم قبل أقوالهم، وليحذروا أن يدعوا الناس بأقوالهم ويصدوهم بأعمالهم، وأفعالهم، وسلوكهم.

من الأخلاق التي ينبغي أن يتصف بها جميع الدعاة إلى الله الجودُ، والكرم، والشفاعة الحسنة، فإبراهيم أبو الأنبياء والضيفان بادر ضيوفه الكرام من الملائكة حيث جاءوا في صور أناس بعجل سمين حنيذ، حيث قال الله على لسانه: "فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقرَّبه إليهم فقال ألا تأكلون".

ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم "ما سئل شيئاً قط فقال: لا".

واعلم أن ما تنفقه مخلوف عليك بوعد الله: "وما تنفقوا من شيء فهو يخلفه"، وبوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العبـاد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقـول أحدهما: اللهم أعـطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخـر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً".

اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

------------------

الحسد

حكم الحسد

ذم الحسد وما يتولد منه

إذا حسدت فلا تبغ

أسباب الحسد

الاستعاذة من الحسد وما يدفع ضرره

التخلص من الحسد

 

الحمد لله الذي أعطى ومنع، وبسط وقبض، ووسَّع وقتَّر، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، كل شيء عنده بمقدار، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المختار وعلى آله وصحبه الأطهار، وبعد...

فإن الأمراض منها ما هو متعلق بالأبدان والأجسام، ومنها ما هو متعلق بالقلوب، وأمراض القلوب أشد خطراً وأعظم ضرراً من أمراض الأبدان، وعلاجها عسير والشفاء منها عزيز، وأمراض القلوب إما نتيجة شهوة أوشبهة؛ من هذه الأدواء الخبيثة، والأمراض الفتاكة المقيتة: الحسد، الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

فما حقيقة الحسد؟ وما أنواعه وأسبابه؟ وما كيفية علاجه والتخلص منه؟

الحسد: هو كراهة النعمة عند الغير وتمني زوالها.

أنواع الحسد

الحسد أنواع، منها ما هو ممدوح مرغوب فيه، وأغلب أنواعه مذموم، وبعضها أشد ذماً من بعض، والأنواع هي:

1.  تمني أن يكون مثل صاحب النعمة، وهذا يسمى حسداً تجاوزاً، وإلا فهي غبطة وتنافس وتمني أن يكون له مثل ما لصاحب النعمة دون تمني زوالها عنه وذهابها منه.

2.     تمني زوال النعمة من الغير لتعود إليه هو.

3.     تمني زوال النعمة من الغير ولو لم تعد إليه هو.

4.  يتمنى إن كان مريضاُ أن يكون الجميع مرضى، وإن كان فقيراً أن يكون الجميع فقراء، وإن كان جاهلاً أن يكون الجميع أجهل منه، وهكذا؛ وهذا النوع الأخير هو أسوأ الأنواع جميعاً.

 

حكم الحسد

يختلف حكم الحسد باختلاف أنواعه، فالحسد المحمود وهو الغبطة مرغوب فيه، قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"، وقال: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض".

وحكم هذه الغبطة يختلف باختلاف الشيء المغبوط فيه :

1.     فإن كان واجباً كانت الغبطة واجبة ، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة.

قال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها".

وكذلك عندما جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال: يحجون، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون؛ فقال: ألا أعلِّمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال : تسبِّحون، وتحمدون، وتكبِّرون، خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين".

وفي رواية لمسلم: "فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما نفعله ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد الحج المبرور".

ومما يدل على فضل التنافس على أعمال البر ما رواه أبو كبشة الأنباري يرفعه: "مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقول: رب لو أن لي مالاً مثل ما لفلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله؛ فهما في الأجر سـواء" الحديث.

2.     و إن كان المغبوط فيه مستحباً فحكم الغبطة الاستحباب.

3.     وإن كان المغبوط فيه مباحاً فحكمها الإباحة.

ولكن المحذور في ذلك إن لم يتحقق للمتمني ما تمناه يخشى أن يولد فيه ذلك نوعاً من الحسد لصاحب النعمة، ولذلك الأفضل للمرء أن يرضى بما قسم الله له، وألا يتشوف إلى من هو أعلى منه، قال تعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض".

ولهذا وصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ننظر إلى من هو دوننا ولا ننظر إلى من هو فوقنا، فقال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو دونكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"، وفي رواية البخاري: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه".

ولهذا علينا أن نكثر من هذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وتخشاك حق خشيتك" الحديث، فالقناعة كنز لا يفنى، والرضا بما قسمه الله نعمة كبرى، وسعادة عظيمة، ودرجة عليا لا ينالها إلا الزهاد العباد.

أما الأنواع المذمومة فحكمها الحرمة، فحرام على المرء أن يتمنى زوال النعمة من أحد، ويكره استمرارها وبقاءها عليه، اللهم إلا أن يكون كافراً أو فاجراً سخَّر نعمته هذه لمحاربة الإسلام والمسلمين، ولمحادَّة الله ورسوله والمؤمنين، فتمني زوال النعمة ممن هذه حاله  مرغوب فيه، ومطلوب، كما قال موسى عليه السلام: "ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم"، فالكافر المتجبر الذي يؤذي المسلمين، ويحارب الدي ، ويعادي أولياء الله المتقين، تمني زوال النعم عنه واجب، ولهذا نقول في الدعاء عن اليهود والنصارى وأمثالهم: "اللهم اجعلهم هم وأموالهم غنيمة للمسلمين".

كيف لا يجب على كل مسلم أن يتمنى زوال النعم من الكفار وهم يتمنون زوال أكبر نعمة عندنا، وهي نعمة الإيمان والإسلام، بل لم يكتفوا بتمني زوالها فحسب ولكنهم ساعون للقضاء على كل ما من شأنه أن يعلي شأن الدين ويمكِّن له في الأرض، كما تفعل أمريكا الآن في القضاء على المدارس والجامعات الدينية، ومتابعة المناهج في المدارس والمعاهد، ومحاولة حذف كل ما يدعو إلى الجهاد، وإلى البراءة من الكفار، وما يغرس النخوة في الشباب؛ قال تعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"، وقال تعالى: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءاً".

 

ذم الحسد وما يتولد منه

الحسد مذموم مقبوح، وما يتولد منه من بغي، وعداوة، وبغضاء، وفساد لذات البين، أشد ذماً وأعظم جرماً وأسوأ مصيراً؛ والحسد المقرون بالبغي لا يصدر من فطرة سوية، ولا نفس أبية، ولكن مصدره ومرده إلى النفوس المريضة، والفطر المعوجة، والقلوب الحقودة الخاوية من نور الإيمان واليقين.

لقد ورد في ذم الحسد والحاسدين، والنهي عنه، والتحذير من مغبة التمادي فيه والاسترسال معه العديد من الآيات الأحاديث والآثا ، نذكر بعضاُ منها:

قوله تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".

وقوله: "حسداً من عند أنفسهم".

وقال صلى الله عليه وسلم، كما قال أنس رضي الله عنه الله عنه يرفعه: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أوقال: العشب".

وخرَّج الشيخان في صحيحهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً " .

وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهـل الجنـة"، قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم؛ فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، وقال في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل؛ فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، قال: نعم؛ فبات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ولم يقم إلا لصلاة الفجر؛ قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً؛ فلما مضت الثلاث وكدت أن احتقر عمله قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكـذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملاً كثيراً ، فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت؛ فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه؛ قال عبد الله: فقلت له: هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذين نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم".

وقال ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل  الجنة، فكيف أحسده على الدنيا وهي حفرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟".

وقال معاوية رضي الله عنه: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة لا يرضيه إلا زوالها.

ولهذا قيل:

كل العداوات قد ترجى أمانتها          إلا عداوة من عاداك من حسد

وقال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟

وقال بعض الحكماء: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وغضباً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً رغماً، ولا ينال عند النزاع إلا شدةً وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تعادوا نعم الله عز وجل؛ قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله.

قال ابن عبد البر: كان يقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج، وبالحكماء الضجر، و بالفقهاء سخافة الدين، وبالعلماء إفراط الحرص، وبالمقاتِلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالبخلاء الكِبْر، وبالشباب الكسل، و بالشيوخ المزاح، وبجماعة الناس التباغض والحسد.

وقال بعض السلف: أول خطيئة هي الحسد، حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية.

ودخل عون بن عبد الله يوماً على الفضل بن المهلب وكان أمير واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء؛ فقال: وما هو؟ قال: إياك والكبـر، فإنه أول ذنب عصي الله به، ثم قرأ: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس"؛ وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه الله عنها، فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها، ثم قرأ: "اهبطوا منها" إلى آخر الآية؛ وإياك والحسـد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده، ثم قرأ: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " الآيات، وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، وإذا ذكر القدر فاسكت، وإذا ذكرت النجوم فاسكت.

وقال بكر بن عبد الله المزني التابعي: كان رجل يغشى بعض الملوك، فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه ، فإن المسيء سيكفيه إساءته. فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر. فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: ندعوه إليك، فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر. فقال له: انصرف حتى أنظر. فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيه إساءته. فقال الملك: ادن مني. فدنا، فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم. فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا صدق. قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أوصلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي. فأخذ الكتاب وخرج . فلقيه الرجل الذي سعى به ، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك له بصلة. قال: هبه لي! فقال: هو لك. فأخذه ومضى به إلى العامل. فقال له العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك. قال: إن الكتاب ليس هو لي، فالله الله في أمري حتى ترجع إلى الملك. فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة. فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به. ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك، وقال: ما فعل الكتاب ؟ فقال : لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له . قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر. قال: ما قلت ذلك. قال: فلم وضعت يدك على فيـك؟ قال: لأنه أطعمني طعامـاً فيه ثوم فكرهت أن تشمه. قال: صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيء إساءته.

 

إذا حسدت فلا تبغ

كما قلت من قبل: المصيبة ليست في مجرد الحسد، ولكن المصيبة كل المصيبة فيما يجره الحسد من البغي والعدوان الكراهية، إذ ما من أحد يسلم من ثلاث خصال، هي: الطيرة، والحسد، والظن، وقد أرشدنا إلى كيفية التخلص من ذلك، حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ"، وفي رواية: "ثلاث لا ينجو منهن أحد، وقلَّ من ينجو منهن"، وفي رواية: "إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققـوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا".

وقال الحسن رحمه الله: "ليس أحد من خلق الله إلا وقد جعل معه الحسد، ومن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه شيء".

وقيل للحسن: يا أبا سعيد، أيحسد المؤمن؟ قال: لا أم لك! أنسيت إخوة  يوسف؟ وفي رواية: قال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ نعم، ولكن غمَّه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً"، أوكما قال.

إذاً العبرة ليست في مجرد الحسد، وإنما العبرة فيما يتبع ذلك.

 

أسباب الحسد

أسباب الحسد كثيرة جداً ومتنوعة، ولكن أخطرها ما يأتي:

1.  العداوة والبغضاء، فهو أول عامل من عوامل الحسد، فليحذر الإنسان من مخاصمة الآخرين ومعاداتهم، فإنها تجلب عليه أنواعاً من الأذى والضرر.

2.  الجدل والمراء، فإنهما لا يأتيان بخير قط، فإن جادلت عالماً حبس عنك علمه وحرمك منه، وإن جادلت جاهلاً أبغضك وكرهك وحسدك.

3. الكِبْر، كما حكى الله عن بعض الكفار قولهم: "لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".

4. التعزز والأنفة، فصاحب الأنفة لا يحب أن يعلو عليه أحد، فإن أدركه وإلا حسده.

5. حب الرئاسة والجاه، فليس هناك ضرر على دين المرء أكثر من حبه الجاه والرئاسة مع حب الدنيا.

6. خبث النفس وفساد الطوية: وهو من العوامل الرئيسية للحسد والبغي.

 

الاستعاذة من الحسد وما يدفع ضرره

الحسد له تأثير مادي وحسي على الإنسان، وإلا لما أمر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتعوذ منه في قوله تعالى: "ومن شر حاسد إذا حسد"، ولكن الحاسد والعائن والساحر وغيرهم لا يستطيع أحد منهم أن يتصرف في إنسان إلا إذا أراد الله ذلك: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"، أوكما قال.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده، ولا لسانه، فإن الله تعالى قال: "ومن شر حاسد إذا حسد"، فحقَّق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، ومعلوم أن الحاسد لا يسمي حاسداً إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك. ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود، لاه عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، ووجِّهت سهام الحسد من قِبَله، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك إن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد).

وقد قيل: كادت الفاقة ـ الفقر ـ تكون كفراً، وكاد الحسد يغلب القدر، والهم نصف الهرم، والفقر الموت الأكبـر.

ويدفع حسد الحاسد بأمور أهمها ما يأتي:

1.  التعوذ والتحصن في الصباح والمساء بقراءة الإخلاص والمعوذتين ثلاثاً في الصباح والمسـاء، وإذا أصيب المحسود يُرقى برقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أوعين حاسـد الله يشفيك".

2.     قوة اليقين والتوكل على الله.

3.     الصبر ، والمصابرة، والمجاهدة بالدعاء، والتضرع إليه بصدق وإخلاص.

4.  مقاومة الوهن والاستكانة والخوف من الحاسد والعائن والشيطان، قال تعالى: "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً"، فالخوف والاستكانة من أقوى أسباب الإصابة بذلك، ومن الناس من يرد كل ما أصابه إلى العين والحسد والشياطين، وفي ذلك مبالغة.

5.     التحرز من الذنوب والمعاصي والبدع فهي سبب كل بلاء للعبد، وتقوى الله والأعمال الصالحة سبب كل سعادة.

6.  الإحسان إلى الباغي الحاسد، وهذا أقوى أسباب رد كيده في نحره، فالسيئة تمحوها الحسنة: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".

وقد قال رسولنا لقومه عندما آذوه: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".

 

التخلص من الحسد

التخلص والمعافاة من الحسد تحتاج هي الأخرى إلى مجاهدة ومصابرة وجد ومثابرة، فكل إنسان أعلم بنفسه وأدرى بها من غيره، وأبصر بأدوائها وأمراضها، فعليه أن يسعى في خلاصها وتزكيتها، ومن الأسباب التي تعين على التخلص من ذلك ما يأتي:

أولاً: سؤال الله والتضرع إليه بجد وإخلاص وإخبات أن يعافيه من هذا الداء العضال والمرض القتال.

ثانياً: يجتهد إذا حسد ألا يبغي ولا يتعدى ولا يظلم.

ثالثاً: الإكثار من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومباعد القرابات، ومرمل الزوجات، وميتم البنين والبنات، الموت، فإن ذلك يقلل طمعه ويقصر أمله في الدنيا.

رابعاً: الاهتمام بعيوب نفسه ومحاولة التخلص منها.

خامساً: محاولة الرضا والقناعة بما قسمه الله له.

سادساً: عدم التشوُّف والتطلع إلى ما عند الآخرين.

سابعاً: الإقلال من الاختلاط بالناس.

ثامناً: الاشتغال بالذكر والطاعات وتعمير الأوقات بذلك.

تاسعاً: أن يسأل الله من فضله الواسع وخيره العميم.

عاشراً: إذا رأى نعمة على إنسان أن يدعو له بالزيادة والبركة.

أحد عشر: أن يتذكر دائماً نعم الله عليه من العافية والولد.

الثاني عشر: أن ينظر إلى من هو دونه لا إلى من هو فوقه.

وأخيراً نسأل الله أن يؤتي نفوسنا تقواها، وأن يزكيها فإنه خير من زكَّاها، وأن يُقَنِّعنا بما رزقنا، ويمتعنا به، واعلم أخي الحبيب أن الدنيا أحقر من أن يحسد ويعادى على شيء من حطامها الفاني، وتذكر قول رسولك الكريم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء"، وأن الآخرة خير وأبقى، فاعمل للباقية ولا تلهث خلف الفانية، فتبيع آخرتك بدنياك، وصلى الله وسلم على رسولنا القائل: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وكن من أولئك القوم الفُطَّن:

إن لله عبــاداً فطنــاً           طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علمـوا            أنها ليست لحي وطنـاً

جعلوها لُجَّة واتخــذوا           صالح الأعمال فيها سفناً

واحذر أن تكون من العاجزين الغشم ، والحاسدين الباغين الظلم.

------------------------

حق المسلم على أخيه المسلم

من حقوق المسلم على أخيه المسلم

*أن يرد تحيته *وأن يستر عورته *ويغفر زلته *ويرحم عبْرته *ويقيل عثرته *ويصون حرمته *ويقبل معذرته *ويرد غيبته *ويديم نصحه *ويحفظ خلته *ويرعى ذمتـه *ويجيب دعـوته *ويقبل هديته *ويكافئ صلته *ويشكر نعمته *ويحسن نصرته *ويتبع جنازته *ويقضي حاجته *ويشفع مسألته *ويشمت عطسته *ويرد ضـالته *ويواليه ولا يعـاديه  *وينصره على ظـالمه *ويكفه عن ظلمه غيره *ولا يسلمه *ولا يخذله

*ويحب له ما يحب لنفسه *ويكره له ما يكره لنفسه.

هذه من الحقوق و الواجبات الكفائية، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وقد تكون من الواجبات العينية على بعض المسلمين على بعض.

والواجبات الكفائية أفضل من الواجبات العينية في بعض الأحيان، لأن الواجبات الكفائية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين وإذا تركها الجميع أثموا، وفي الإخلال ببعضها إخلال بالدين، نحو جهاد الطلب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوهما .

فالحذر كل الحذر من التهاون في هذه الواجبات الكفائية، والحرص على القيام بها، خاصة إذا تعينت وتُركت، وتهاون فيها المتهاون، وعجز عنها العاجزون، فعند ذلك فليتنافس المتنافسون، وليجدّ المجدّون، وليتنبه المقصرون.

والله أسأل أن يوفقنا وجميع إخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، وأن ييسرنا اليسرى، وينفعنا بالذكرى، ويجمع لنا بين خيري الدنيا والآخرة، والسلام على من اتبع الهدى.

-----------------

حق المسلم على أخيه المسلم

ان الله تعالى ختم الرسالات السماوية بمبعث خاتم المرسلين، الرحمة المهداة للعالمين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وانزل القرآن الكريم تبياناً لكل شيء ومهيمناً ودستوراً ومنهج حياة وديناً ينظم علاقة المسلمين مع ربهم ومع بعضهم ومع الآخرين فحث على تقوية الروابط الايمانية والاخوية فيما بينهم وقصر الايمان على الاخوة والاخوة على الايمان فلا ايمان كامل بدون اخوة صادقة مبنية على أسس قوية وصحيحة قائمة على فهم الكتاب والسنة مراعية الحقوق الايمانية وقد جمع عليه الصلاة والسلام هذه الحقوق الكثيرة والمتعددة في حديث واحد فانه أوتي جوامع الكلم فقد روى الامام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (حق المسلم على المسلم ست: اذا لقيته فسلم عليه، واذا دعاك فأجبه واذا استنصحك فانصح له، واذا عطس فحمد الله فشمته، واذا مرض فعده، واذا مات فاتبعه).. وهذا هو موضوعنا فنبدأ بشرح هذه الحقوق بإيجاز:

أولاً: (اذا لقيته فسلم عليه): حث الرسول عليه الصلاة والسلام على افشاء السلام ورغب فيه، ففي الصحيحين ان رجلاً سأل رسول الله أي الاسلام خير؟ قال تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وأخرج الامام مسلم انه عليه الصلاة والسلام قال (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا الا أدلكم على شيء اذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) وروى الترمذي وصححه الالباني قوله عليه الصلاة والسلام (يا أيها الناس! أفشوا السلام واطعموا الطعام وصلوا الارحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام). وقال عليه الصلاة والسلام (ابخل الناس من بخل بالسلام) رواه الطبراني وحسنه الالباني، والعجيب ان البعض يستبدل تحية الاسلام على كثرة ما جاء في فضلها من احاديث بتحيات اخر لا اجر فيها مثل صباح الخير وما شابه ذلك بل البعض ذهب اكثر من ذلك فاستبدلها بتحيات اجنبية فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فقال السلام عليكم فقال عليه الصلاة والسلام (عشر حسنات) فمر رجل آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فقال عليه الصلاة والسلام (عشرون حسنة) فمر رجل آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال عليه الصلاة والسلام (ثلاثون حسنة). ورغب عليه الصلاة والسلام في الابتداء فيه اذا التقى المسلمان فقال: (ان اولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) رواه ابو داود وصححه الالباني. وقال ايضاً (الماشيان ايهما يبدأ بالسلام فهو أفضل) رواه البزار وصححه الالباني، وبين كذلك آدابه فقال عليه الصلاة والسلام (يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير) متفق عليه وفي رواية البخاري (يسلم الصغير على الكبير). ورغب أيضاً في تكرار السلام وعدم الملل من ذلك فانه مضاعفة للاجور وتقوية لروابط الاخوة الايمانية فقال عليه الصلاة والسلام (اذا لقي احدكم اخاه فليسلم عليه فان حالت بينهما شجرة او جدار او حجر ثم لقيه فليسلم عليه ايضاً) رواه ابو داود وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة. وقال عليه الصلاة والسلام (اذا انتهى احدكم إلى المجلس فليسلم فاذا اراد أن يقوم فليسلم، فليست الاولى باحق من الاخرة) رواه الترمذي وصححه الالباني.

ثانياً: (اذا دعاك فأجبه): وهذه من أهم وسائل تقوية الروابط الاخوية بين المسلمين ولهذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم اجابة دعوة الداعي فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذا دُعي أحدكم إلى وليمة عُرس فليجب) وقال أيضاً (شرُ الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويُدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله). رواهما الامام مسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (فيه دليل وجوب الاجابة لان العصيان لا يطلق الا على من ترك الواجب). ولكن لا يجوز حضور الدعوة اذا اشتملت على معصية الا أن يقصد انكارها ومحاولة ازالتها والا وجب الرجوع عنها فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير، فرجع فقلت يا رسول الله! ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال (إن في البيت سترا فيه تصاوير وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير) رواه ابن ماجة وصححه الالباني.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر) رواه الامام أحمد وصححه الالباني.

ثالثاً: (اذا استنصحك فانصح له): فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه (قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على اقام الصلاة وايتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) رواه البخاري ومسلم وعن تميم الداري رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)رواه مسلم. وقد رهب النبي صلى الله عليه وسلم من الغش والخداع والمكر فقال (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان وحسنه الالباني. والنصح للمسلمين يكون في ارشادهم إلى مصالحهم في آخرتهم ودنياهم.

رابعاً: (إذا عطس فحمد الله فشمته): فقد روى البخاري قوله عليه الصلاة والسلام (اذا عطس احدكم فليقل: الحمد لله، فاذا قال، فليقل له اخوه أو صاحبه يرحمك الله فاذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم) وروى البخاري أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام (اذا عطس أحدكم فحمد الله، وكان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله.. قال الامام ابن القيم في زاد المعاد (وظاهر الحديث ان التشميت فرض عين على كل من سمع العاطس يحمد الله ولا يجزئ تشميت الواحد عنهم وهذا احد قولي العلماء واختاره ابن ابي زيد (القيرواني) وأبو بكر بن العربي).

فاما اذا لم يحمد الله لا يشمت فعن أبي موسى الاشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، واذا لم يحمد الله فلا تشمتوه) رواه مسلم.

ومن آداب العطاس قوله عليه الصلاة والسلام (يشمت العاطس ثلاثاً، فما زاد فهو مزكوم) رواه ابن ماجة وصححه الالباني. ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض بها صوته) رواه ابو داود وصححه الالباني.

خامساً: (اذا مرض فعده): فقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض وبين اجر زيارته فقال (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه مناد: ان طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) رواه الترمذي وصححه الالباني. وعن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة الا صلى عليه سبعون الف ملك حتى يمسي وان عاده عشية الا صلى عليه سبعون الف ملك حتى يصبح وكان له خريف (الثمر الجني) في الجنة). رواه الترمذي وصححه الالباني.

وقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في كلمات يدعى بهن عند عيادة المريض، منها ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول (اللهم رب الناس أذهب البأس اشف انت الشافي لاشفاء الا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) رواه البخاري ومسلم، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من عاد مريضاً لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات اسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يشفيك الا عافاه الله من ذلك المرض) رواه أبو داود وحسنه الالباني.

وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على من يعوده قال (لا بأس طهور ان شاء الله) رواه البخاري.

سادساً: (اذا مات فاتبعه): حض النبي صلى الله عليه وسلم على اتباع الجنائز وشهودها حتى تدفن لما فيها من حق المسلم على المسلم والاجر العظيم وتذكر الاخرة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الاخرة) رواه البخاري في الادب المفرد. وقال عليه الصلاة والسلام (من اتبع جنازة مسلم ايماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها فانه يرجع من الاجر بقيراطين كل قيراط مثل احد ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط). رواه البخاري.

هذا ما تيسر بفضل الله تعالى من الكلام بايجاز عن اهم حقوق المسلم والتي ينبغي على كل مسلم أن يعرفها ويعمل بها حتى يكون المجتمع إسلامياً تسوده الاخوة الايمانية فيؤدي كل واحد دوره في بناء دولة الاسلام وعودة الخلافة الراشدة لقيادة العالم، وان غداً لناظره لقريب.

--------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الِإخْوةُ في الإسلام ما عليهِم وما لهُم

 

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:

قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون" َ(10)الحجرات.

وفى الحديث:

**المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يُسلمه و من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة و من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" .

 

**"حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام و عيادة المريض و اتباع الجنائز و إجابة الدعوة و تشميت العاطس" .

 

**" حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه و إذا دعاك فأجبه و إذا استنصحك فانصح له و إذا عطس فحمد الله فشمته و إذا مرض فعده و إذا مات فاتبعه .

 

**" خمس من حق المسلم على المسلم : رد التحية و إجابة الدعوة و شهود الجنازة و عيادة المريض و تشميت العاطس إذا حمد الله ".

*** ثم هذه بعض مقتضيات الإخوة وما يلزم فيها ومعها:

** الخلق الحسن:

فى الحديث:

** " أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذئ"

** " إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم ".

** " ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإن الله تعالى يبغض الفاحش البذئ" .

** "إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه و كرم ضريبته"

** إدخال السرور على المسلم والسعى فى قضاء حاجته:

فى الحديث:

** " أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا".

** " من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة" .

** " أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا و من كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام و إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ".

 

** " المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه و من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة و من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ".

 

** ستر المسلم:

في الحديث

** " يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه ! لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته و من تتبع الله عورته يفضحه و لو في جوف بيته" .

 

** " المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه و من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة و من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" .

 

** " من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة و من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته" .

 

** " من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة ".

 

** عيادة المسلم:

فى الحديث:

** " إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة حتى يرجع" .

 

** " إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي و إن كان عشيا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح" .

** " من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي و إن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح" .

 

صون عرض المسلم:

فى الحديث:

** " ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة" .

 

** " ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان و لا الفاحش و لا البذي .

 

** " المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته و يحوطه من ورائه" .

 

** " المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المؤمن من أمنه الناس على دمائهم و أموالهم" .

 

** " إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ".

 

** " الربا ثلاثة و سبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه و إن أربى الربا عرض الرجل المسلم" .

 

** " كل المسلم على المسلم حرام ماله و عرضه و دمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" .

 

** " المسلم أخو المسلم لا يخونه و لا يكذبه و لا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه و ماله و دمه التقوى هاهنا - و أشار إلى القلب - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" .

 

*عظم الإهتمام بأمر الدين:

فى الحديث:

قال تعالى:

*" خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (63)البقرة.

*" خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ"(93)البقرة.

*" يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"(12)مريم.

فى الحديث:

** " أعظم الناس هما المؤمن يهتم بأمر دنياه و أمر آخرته" .

** " إن المؤمن يجاهد بسيفه و لسانه ".

 

** " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في الجنة أحد و لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من الجنة أحد" .

 

* الدعاء بظهر الغيب:

فى الحديث:

** " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب عند رأسه ملك موكل به كلما دعا لأخيه بخير قال الملك : آمين و لك بمثل ذلك" .

 

أداء الأمانة:

فى الحديث:

** " أد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك" .

**" أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا صدق الحديث و حفظ الأمانة و حسن الخلق و عفة مطعم ".... ** " أول ما تفتقدون من دينكم الأمانة" .

 

** " أول ما يرفع من الناس الأمانة و آخر ما يبقى من دينهم الصلاة و رب مصل لا خلاق له عند الله تعالى" .

 

** " المؤمن من أمنه الناس على أموالهم و أنفسهم و المهاجر من هجر الخطايا و الذنوب ".

 

** " الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" .

 

** " المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته و يحوطه من ورائه" .

 

* الألفة.. وما أدراك ما الألفة:

فى الحديث:

** " المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و خير الناس أنفعهم للناس" .

 

** " المؤمن يألف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف" .

 

** " المؤمن مُكفَر" .

 

** " إذا جاء أحدكم إلى مجلس فأوسع له فليجلس فإنها كرامة أكرمه الله بها و أخوه المسلم فإن لم يوسع له فلينظر أوسع موضع فليجلس فيه ".

 

** " إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه من طعامه فليأكل و لا يسأل عنه و إن سقاه من شرابه فليشرب و لا يسأل عنه ".

 

** " مستريح و مستراح منه العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا و أذاها إلى رحمة الله تعالى و العبد الفاجر تستريح منه العباد و البلاد و الشجر و الدواب" .

 

** " المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم" .

 

* صون مال المسلم:

قال تعالى:

*" وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"(188) البقرة.

*" وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا"(2)البقرة.

*" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا"(29) النساء.

فى الحديث:

** " كل المسلم على المسلم حرام ماله و عرضه و دمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ".

 

** " المسلم أخو المسلم و لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له" .

 

** " حرمة مال المسلم كحرمة دمه" .

 

** " من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا علام يأكل أحدكم مال أخيه المسلم "? ! .

 

** " من حلف على يمين مصبورة كاذبا متعمدا ليقتطع بها مال أخيه المسلم فليتبوأ مقعده من النار" .

 

** " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا أقرع و من اقتطع مال أخيه المسلم بيمين لقي الله و هو عليه غضبان ".

 

** " المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه و لا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" .

 

** " المسلم أخو المسلم و لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له" .

 

** " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" .

 

* ألا يُجنىَ من ورائه الا الخير:

فى الحديث:

** " مثل المؤمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيبا و إن وضعت وضعت طيبا و إن وقعت على عود نخر لم تكسره و مثل المؤمن مثل سبيكة الذهب إن نفخت عليها احمرت و إن وزنت لم تنقص" .

 

** " مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك" .

 

** " المؤمن غر كريم و الفاجر خب لئيم" .

 

** " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".

 

** " المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته و يحوطه من ورائه"

 

* حسن الجوار:

قال تعالى:

*" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ"(36) النساء.

 

فى الحديث:

** " أوصيكم بالجار" .

 

** " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" .

 

** " ليس المؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه" .

 

** " ليس المؤمن بالذي يشبع و جاره جائع إلى جنبه" .

 

** " ثلاثُ خصالٍ من سعادة المرء المسلم في الدنيا : الجار الصالح و المسكن الواسع و المركب الهنيء" .

* الثبات عند الشدائد:

فى الحديث:

** " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الريح مرة و تعدلها مرة و مثل المنافق كمثل الأرزة لا تزال حتى يكون انجفافها مرة واحدة" .

 

** " مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيؤه و لا يزال المؤمن يصيبه بلاء و مثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا يهتز حتى يستحصد" .

 

** " مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة و تخر مرة و مثل الكافر مثل الأرزة لا تزال مستقيمة حتى تخر و لا تشعر" .

 

** " مثل المؤمن مثل السنبلة تميل أحيانا و تقوم أحيانا ".

 

* المسارعة إلى التوبة والإنابة:

قال تعالى:

*" وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا"(27) النساء.

*" أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(74) المائدة.

*" وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ"(52) هود.

*" فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(39) المائدة.

*" أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ"(104) التوبة.

*" وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (135) آل عمران.

فى الحديث:

** "ما من عبد مؤمن إلا و له ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا إذا ذكر ذكر" .

 

** "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الريح مرة و تعدلها مرة و مثل المنافق كمثل الأرزة لا تزال حتى يكون انجفافها مرة واحدة" .

 

* المؤمن لا يكون مغفلا:

في الحديث

** " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" .

 

* ترك العداء والمقاتلة وشهر السلاح والتكفير:

في الحديث:

** " المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المؤمن من أمنه الناس على دمائهم و أموالهم" .

 

** " ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان و لا الفاحش و لا البذي ".

 

** " إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر فهو كقتله و لعن المؤمن كقتله" .

 

** " ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة" .

 

** " قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا" .

 

** " ليس على رجل نذر فيما لا يملك و لعن المؤمن كقتله و من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة و من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا فهو كما قال و من قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله" .

 

** " لا يكون المؤمن لعانا" .

 

** " إذا شهر المسلم على أخيه سلاحا فلا تزال ملائكة الله تلعنه حتى يشيمه عنه" .

 

** " سباب المسلم فسوق و قتاله كفر ".

 

** " قتال المسلم كفر و سبابه فسوق و لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"

 

* التواضع المفقود فى كثير الأحيان:

في الحديث:

** " إن الله أوحى إلي : أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد" .

 

** " إن الله تعالى أوحى إلى : أن تواضعوا و لا يبغي بعضكم على بعض" .

 

** " ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك : دع حكمته" .

 

** " ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفٍو إلا عزا و ما تواضع أحدُ لله إلا رفعه الله" .

 

** " من تواضع لله رفعه الله ".

 

** " من ترك اللباس تواضعا لله و هو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يَلبسُها" .

________________________________________

*الجمعة, 02 شعبان, 1422هـ,,,,[‏19‏‏/‏10‏‏/‏2001‏م 03:25:24 ص]

 

***هذا وما توفيقى الا بالله العلى الكبير ...سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك***

** وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين **

جمعه ورتبه وكتبه الفقير

د/ السيد العربى بن كمال

------------

قبس من نور النبوة الأخوة الإيمانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

مستمعىَّ الكرام ـ سلام الله عليكم ورحمته وبركاته

وأهلا بكم فى حلقة جديدة من برنامج (قبس من نور النبوة)

وحلقة اليوم إخوتى وأخواتى عن الأخوة الإيمانية

روى مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره. التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.

"كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله وعرضه"

أيها الأخوة ... العمل بهذا الحديث من أعظم الأسباب الموصلة للتآلف بين المسلمين وقلة الشحناء بينهم. فالمؤمنون إخوة فى النسب إلى أبيهم آدم عليه السلام. وإخوة فى الدِّين. قال تعالى (إنما المؤمنون إخوة) وقال صلى الله عليه وسلم : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبّك بين أصابعه " رواه البخارى ومسلم. وقال عليه السلام : "مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه البخارى ومسلم

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا : أى لا يحسد بعضكم بعضا.

والحسد: تمنّى زوال النعمة عن أخيك المسلم وهو حرام لأنه اعتراض على الله تعالى فى نعمته وقسمته.

ولا تناجشوا : والنجش أن يزيد فى السلعة مَنْ لا يريد شراءها لِيَغُرَّ غيره بها وهو حرام لأنه من أسباب العداوة والبغضاء.

ولا تباغضوا : أى لا يُبغض بعضُكم بعضًا بتعاطى أسباب البغضاء من السّب والشتم واللعن والغيبة والنميمة. والتباغض المذموم هو الذى منشؤه التنافسُ فى الدنيا واتباع الأهواء. أما الحب فى الله والبغُض فى الله فهو أوثقُ عُرى الإيمان.

ولا تدابروا : والتدابر التهاجر والتقاطع، فإن كُلاًّ من المتقاطعين يُولّى صاحبه دُبرَه ويُعرض عنه ولا يسلّم عليه ولا يرد عليه السلام.

وفى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان .. فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذى يبدأ بالسلام"

ثم قال صلى الله عليه وسلم: ولا يبع بعضكم على بيع بعض ... وصورته أن يقول لمن اشترى سلعة : افسخ هذا البيع وأنا أبيعُك مثلَه أو أجودَ منه بثمنه. والنهى للتحريم لما فيه من الإيذاء الموجب للتباغض.

ولذا أخى المستمع ـ قال النبى صلى الله عليه وسلم : "وكونوا عباد الله إخواناً ففيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بعض كانوا إخوانًا أى تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوان، ومعاشرتهم فى المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون فى الخير مع صفاء القلوب والمحبة.

ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولا يكذبه، فالمسلم ينصر أخاه ظالمًا أو مظلومًا. أنصره ظالمًا حين أمنعه عن الظلم، وأما احتقار المسلم فهو ناشئ عن الكِبْر وقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من احتقار الناس والتكبر عليهم. وأمر بالتواضع وعدم الفخر على الناس.

ثم قال صلى الله عليه وسلم : التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات.

لا شك أخى المستمع أن الإيمان أصلُه فى القلب وثمرتُه على الجوارح فهو قول واعتقاد وعمل، وحب وبغض ، وفعل وترك، وليس الإيمان بالتحلى ولا بالتمنى، ولكنه ما وقر فى القلب وصدَّقه العمل. ثم قال صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام ... دمه وماله وعرضه"

وهذا مما خطب به النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع تعليمًا للأمة كلها وإرشادا.

إخوتى الكرام ...

وشروط الأخوة الإيمانية أن تكون لله وفى الله، بحيث تخلو من شوائب الدنيا وعلائقها المادية بالكلية. ويكون الباعث عليها الإيمان بالله لا غير.

ـ وأما آدابها فأن يكون الأخ الذى تختارهُ لأخوتك عاقلاً ! لأنه لا خير فى أخوة الأحمق وصحبته، إذ قد يضر الأحمقُ الجاهلُ من حيث يريد أن ينفع.

ـ وأن يكون حسنَ الخُلق! لأن سيئ الخُلق ـ وإن كان عاقلاً ـ قد تغلبه شهوة أو يتحكم فيه غضب فيسيئ إلى صاحبه.

ـ وأن يكون تقيًا ! لأن الفاسق الخارج عن طاعة ربه لا يُؤْمَنُ جانبُه، إذ مَنْ لا يخاف الله تعالى لا يخاف غيره بحال من الأحوال.

ـ وأن يكون ملازمًا للكتاب والسنة بعيدًا عن البدع والخرافات، لأن المبتدع قد ينال أخاه الأذى من شؤم بدعته وضلالته.

أخى المستمع ... لقد أوجز هذه الآدابَ أحدُ الصالحين وهو يوصى ولده فقال: "يا بنى إذا عَرَضَتْ لك إلى صحبة الرجال حاجةٌ فاصحب مَنْ إذا خدمته صانك، وإن صحبتَه زانك، وإن قَعَدَتْ بك مُؤْنةٌ ماَنَكَ. اصحب من إذا مددتَ يدكَ بخير مَدَّها ، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى سيئة سدَّها، اصحب من إذا سألتَه أعطاك، وإن سكَتَّ ابتداك، وإن نزلت بك نازلةٌ واساك. اصحب من إذا قلتَ صدَّق قولَك، وإن حاولتما أمرًا أمَّرك، وإن تنازعتما شيئًا آثرك"

وقد أحسن من قال:

إنَّ أخاكَ الحقَّ من كان مَعَك *** ومَـنْ يضـرُّ نفسَـه لينفَعَكْ

ومَنْ إذا ريَبُ الزمانِ صَدَعكْ *** شتَّتَ فيـه شَمْلَـهُ لِيَجْمَعَـكْ

أخى المستمع الكريم

لقد بَيَّنَ النبى صلى الله عليه وسلم لنا حقوق المسلم على أخيه فقال صلى الله عليه وسلم : " حق المسلم على المسلم ست : قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال:

1ـ إذا لقيتَه فسلّم عليه

2 ـ وإذا دعاك فأجبه

3 ـ وإذا استنصحك فانصح له

4ـ وإذا عطس فحمد الله فشمِّته

5ـ وإذا مرض فَعُدْه

6ـ وإذا مات فاتْبعه " رواه مسلم

 

مستمعِىَّ الكرام... وللأخوة حقوق ذكرها العلماء منها:

1ـ المواساة بالمال (أى المعاونة والمساعدة) فيواسى كل منهما أخاه بماله إن احتاج إليه . بحيث يكون دينارهما ودرهمهما واحدًا لا فرق بينهما فيه.

رُوى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه أتاه رجل فقال : إنى أريد أن أؤاخيك فى الله. قال : أتدرى ما حق الإخاء ؟ قال : عرِّفنى. قال: لا تكون أحق بدينارك ودرهمك منّى. قال : لم أبلغ هذه المنزلة بعد. قال: فاذهب عنى

2ـ أن يكون كلٌ منهما عونًا لصاحبه، يقضى حاجته ويقدمها على نفسه، يتفقد أحواله ويؤثره على نفسه، إن كان مريضًا عاده، وإن كان مشغولا أعانه، وإن كان ناسيًا ذكّره، يرحّب به إذا دنا، ويوسّع له إذا جلس ويصغى إليه إذا حدث.

وما المـرء إلا بإخوانـه *** كما تقبض الكفُّ بالمِعْصَمِ

ولا خيرَ فى الكفِّ مقطوعةً *** ولا خيرَ فى الساعد الأَجْذَمِ

3ـ أن يكف عنه لسانه إلا بخير، فلا يذكر له عيبًا فى غيبته أو حضوره، ولا يستكشف أسراره، أو التطلع إلى خبايا نفسه، يتلطف فى أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر. قال الشافعى (من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه).

4ـ أن يعطيه من لسانه ما يحبه منه، فيدعوه بأحب أسمائه إليه، ويذكره بالخير فى الغيبة والحضور. يعفو عن زلاته ويتغاضى عن هفواته. قال أبو الدرداء "إذا تغير أخوك، وحال عما كان عليه فلا تَدَعْه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوجُّ مرة ويستقيم أخرى.

ولقد أحسن القائل ولله دره:

أتدرى أين سُكْناهُ ؟!

أتدرى أيـن سكنـاهُ *** أخوك وأين مسعاهُ ؟

وهل عينـاك تثبتـهُ *** إذا فاتتـك عينـاهُ ؟

أخوك يعيش كالتاريخ *** فى جنبيك مسـراهُ

بـلا لغـةٍ تصافحـه *** وتدمع حين تلقـاهُ

لئن ضاقت بـه الدنيا *** فصدرك أنت مأواه

وتسمو دونمـا مـنٍّ *** تخفف عنـه بلـواه

وترفع دونـه حمـلاً *** إذا كَلّـتْ ذراعـاهُ

لئن ضاقت بـه الدنيا *** فصدرك أنت مأواه

وتسدل حوله ستـرًا *** إذا الشيطـان أغـواه

ترى أُخْرَاك مثمـرةً *** فقد أَخْصَبْـتَ دنيـاه

لئن ضاقت به الدنيـا *** فصدرك أنت مـأواه

هذا وبالله التوفيق

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة

أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

--------------

حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة

(حقوق تتعلق بسائر الناس)

ضيلة الشيخ العلامة / محمد بن صالح بن عثيمين (رحمه الله )

يكمل فضيلة الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) ما كتبه حول الحقوق التي دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة ويتناول هنا حق ولاة الأمر والرعية وحق الجيران وحقوق المسلمين وغير المسلمين . يقول رحمه الله الحق السابع : حق الولاة والرعية الولاة هم الذين يتولون أمور المسلمين سواء كانت الولاية عامة: كالرئيس الأعلى في الدولة، أم خاصة: كالرئيس على إدارة معينة أو عمل معين، وكل هؤلاء لهم حق يجب القيام به على رعيتهم ولرعيتهم حق عليهم كذلك. فحقوق الرعية على الولاة: أن يقوموا بالأمانة التي حملهم الله إياها، وألزمهم القيام بها من النصح للرعية والسير بها على النهج القويم الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة، وذلك باتباع سبيل المؤمنين، وهي الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيها السعادة؛ لهم ولرعيتهم، ومن تحت أيديهم، وهي أبلغ شيء يكون به رضا الرعية عن رعاتهم، والارتباط بينهم، والخضوع لأوامرهم وحفظ الأمانة فيما يولونه إياهم، فإن من اتقى الله اتقاه الناس، ومن أرضى الله كفاه الله مؤونة الناس وأرضاهم عنه؛ لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. وأما حقوق الولاة على الرعية فهي: النصح لهم فيما يتولاه الإنسان من أمورهم، وتذكيرهم إذا غفلوا، والدعاء لهم إذا مالوا عن الحق، وامتثال أمرهم في غير معصية الله؛ لأن في ذلك قوام الأمر وانتظامه، وفي مخالفتهم وعصيانهم انتشار الفوضى وفساد الأمور، ولذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر، فقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (سورة النساء، الآية:59) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" متفق عليه. وقال عبد الله بن عمر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه ما من نبي بعثه الله إلا كان عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة يرقق بعضها بعضاً، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاءه آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (رواه مسلم) وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ثم سأله مرة ثانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" (رواه مسلم) ومن حقوق الولاة على الرعية: مساعدة الرعية لولاتهم في مهماتهم بحيث يكونون عوناً لهم على تنفيذ الأمر الموكول إليهم، وأن يعرف كل واحد دوره ومسئوليته في المجتمع، حتى تسير الأمور على الوجه المطلوب، فإن الولاة إذا لم تساعدهم الرعية على مسؤولياتهم لم تأت على الوجه المطلوب. الحق الثامن: حق الجيران الجار هو القريب منك في المنزل، وله حق كبير عليك، فإن كان قريباً منك في النسب وهو مسلم فله ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام. وإن كان مسلماً وليس بقريب في النسب فله حقان: حق الجوار، وحق القرابة. وإن كان بعيداً غير مسلم فله حق واحد: حق الجوار (الحديث رواه أبو بكر البزار بسنده عن الحسن عن جابر بن عبد الله ذكره عنه ابن كثير في تفسيره للآية 36 من سورة النساء) قال تعالى "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى" (سورة النساء، الآية:36) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" متفق عليه. فمن حقوق الجار على جاره: أن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الجيران عند الله خيرهم لجاره" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره" رواه مسلم وقال أيضاً: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" رواه مسلم ومن الإحسان إلى الجار تقديم الهدايا إليه في المناسبات، فإن الهدية تجلب المودة وتزيل العداوة. ومن حقوق الجار على جاره: أن يكف عنه الأذى القولي والفعلي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قالوا: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه" رواه البخاري وفي رواية: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه". والبوائق: الشرور، فمن لا يأمن جاره شره فليس بمؤمن ولا يدخل الجنة. وكثير من الناس الآن لا يهتمون بحق الجوار، ولا يأمن جيرانهم من شرورهم، فتراهم دائماً في نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق، وإيذاء بالقول أو بالفعل، وكل هذا مخالف لما أمر الله ورسوله، وموجب لتفكك المسلمين وتباعد قلوبهم، وإسقاط بعضهم حرمة بعض. الحق التاسع: حقوق المسلمين عموماً وهذه الحقوق كثيرة جداً فمنها: ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" رواه مسلم ففي هذا الحديث بيان عدة حقوق بين المسلمين: الحق الأول: السلام: فالسلام سنة مؤكدة، وهو من أسباب تآلف المسلمين وتوادهم، كما هو مشاهد، وكما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم" رواه مسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام ويسلم على الصبيان إذا مر بهم. والسنة: أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، ولكن إذا لم يقم بالسنة من هو أولى بها فليقم بها الآخر؛ لئلا يضيع السلام فإذا لم يسلم الصغير فليسلم الكبير، وإذا لم يسلم القليل فليسلم الكثير ليحوز الأجر. قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار رواه البخاري وإذا كان بدء السلام سنة فإن رده فرض كفاية إذا قام به من يكفي أجزأ عن الباقين. فإذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ عن الباقين. قال الله تعالى "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" (سورة النساء، الآية: 86) فلا يكفي في رد السلام أن يقول: أهلاً وسهلاً فقط؛ لأنها ليست أحسن منه ولا مثله، فإذا قال: السلام عليكم، فليقل: عليكم السلام. وإذا قال: أهلاً فليقل: أهلاً بمثل، وإن زاد تحية فهو أفضل. الحق الثاني: إذا دعاك إلى منزله لتناول طعام أو غيره فأجبه، والإجابة إلى الدعوة سنة مؤكدة؛ لما فيها من جبر قلب الداعي، وجلب المودة والألفة، ويستثنى من ذلك وليمة العرس، فإن الإجابة إلى الدعوة واجبة بشروط معروفة وهي: أن تكون في اليوم الأول، وأن يكون الداعي مسلماً، وان لا يحرم هجره، وان يخص بالدعوة، وان يكون كسبه حلالاً، وان لا يكون هناك منكر لا يقدر على إزالته. انظر (السلسبيل في معرفة الدليل، ص735) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله" رواه البخاري ومسلم ولعل قوله صلى الله عليه وسلم إذا دعاك فأجبه يشمل حتى الدعوة لمساعدته ومعاونته، فإنك مأمور بإجابته، فإذا دعاك لتعينه في حمل شيء أو إلقائه، أو نحو ذلك، فإنك مأمور بمساعدته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" رواه البخاري ومسلم الحق الثالث: إذا استنصحك فانصحه، يعني إذا جاء إليك يطلب نصيحتك له في شيء فانصحه؛ لأن هذا من الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" رواه مسلم أما إذا لم يأت إليك يطلب النصيحة فإن كان عليه ضرر أو إثم فيما سيقدم عليه وجب عليك أن تنصحه وإن لم يأت إليك؛ لأن هذا من إزالة الضرر والمنكر عن المسلمين، وإن كان لا ضرر عليه فيما سيفعل ولا إثم، ولكنك ترى أن غيره أنفع فإنه لا يجب عليك أن تقول له شيئاً إلا أن يستنصحك فتلزم النصيحة. الحق الرابع: إذا عطس فحمد الله فشمته، أي قل له: يرحمك الله، شكراً له على حمده لربه عند العطاس، أما إذا عطس ولم يحمد الله فإنه لا حق له فلا يشمت؛ لأنه لم يحمد الله فكان جزاؤه أن لا يشمت. وتشميت العاطس إذا حمد فرض، ويجب عليه الرد، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، وإذا استمر معه العطاس، وشمَّته ثلاثاً. فقل له في الرابعة: عافاك الله بدلاً من قولك يرحمك الله. الحق الخامس: إذا مرض فعده، وعيادة المريض زيارته، وهي حق له على إخوانه المسلمين، فيجب عليهم القيام بها وكلما كان للمريض حق عليك من قرابة أو صحبة أو جوار كانت عيادته آكد. والعيادة بحسب حال المريض وبحسب حال المرض، فقد تتطلب الحال كثرة التردد إليه، وقد تتطلب الحال قلة التردد إليه، فالأولى مراعاة الأحوال، والسنة لمن عاد مريضاً أن يسأل عن حاله، ويدعو له، ويفتح له باب الفرج والرجاء، فإن ذلك من أكبر أسباب الصحة والشفاء، وينبغي أن يذكره التوبة بأسلوب لا يروعه، فيقول له مثلاً: إن في مرضك هذا تكتسب خيراً فإن المرض يكفر الله به الخطايا، ويمحو به السيئات، ولعلك تكسب بانحباسك أجراً كثيراً، بكثرة الذكر والاستغفار والدعاء. الحق السادس: إذا مات فاتبعه، فاتباع الجنازة من حقوق المسلم على أخيه، وفيه أجر كبير، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تبع الجنازة حتى يصلى عليها، فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان"، قيل وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين" رواه البخاري ومسلم سابعاً: ومن حقوق المسلم على المسلم: كف الأذى عنه، فإن في إيذاء المسلمين إثماً عظيماً، قال الله تعالى "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" (سورة الأحزاب الآية:58) والغالب أن من تسلط على أخيه بأذى فإن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" رواه مسلم وحقوق المسلم على المسلم كثيرة، ولكن يمكن أن يكون المعنى الجامع لها هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم"ن فإنه متى قام بمقتضى هذه الأخوة اجتهد أن يتحرى له الخير كله، وأن يجتنب كل ما يضره. الحق العاشر: حق غير المسلمين غير المسلمين يشمل جميع الكافرين وهم أصناف أربعة: حربيون، ومستأمنون- بكسر الميم- ومعاهدون، وذميون. فأما الحربيون: فليس لهم علينا حق من حماية أو رعاية. وأما المستأمنون: فلهم علينا حق الحماية في الوقت والمكان المحددين لتأمينهم، لقول الله تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" (سورة التوبة الآية6) وأما المعاهدون: فلهم علينا الوفاء بعهدهم إلى المدة التي جرى الاتفاق عليها بيننا وبينهم ما داموا مستقيمين لنا على العهد لم ينقصوا شيئاً، ولم يعينوا أحداً علينا، ولم يطعنوا في ديننا، لقول الله تعالى "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين" (سورة التوبة، الآية: 4) وقوله "وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم" (سورة التوبة، الآية:12) وأما الذميون فهم أكثر هؤلاء الأصناف حقوقاً فيما لهم وعليهم، لأنهم يعيشون في بلاد المسلمين، وتحت حمايتهم ورعايتهم بالجزية التي يبذلونها. فيجب على ولي أمر المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض، وأن يقيم الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه. ويجب عليه حمايتهم وكف الأذى عنهم. ويجب أن يتميزوا عن المسلمين في اللباس، وان لا يظهروا شيئاً منكراً في الإسلام أو شيئاً من شعائر دينهم، كالناقوس والصليب، وأحكام أهل الذمة موجودة في كتب أهل العلم لا نطيل بها هنا (انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم) والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

--------------------

احذر الثالوث الخطر: الغيبة والنميمة والبهت

الأدلة على تحريم ذلك من الكتاب والسنة والآثار

فضل من رد عن عرض شيخه أو أخيه

المستمع شريك القائل

كفارة الغيبة

لا تمكِّن أحداً أن يغتاب عندك أحداً

هذا الثالوث من أكبر الكبائر، ومن أقبح القبائح، وأرذل الرذائل، لأنه مرعى اللئام، وسمة السفلة من الأنام، وهو ماحق للحسنات، ومولد البغضاء بين الناس.

فالغيبة هي ذكرك أخاك بما فيه مما يكره، سواء كان ذلك في دينه، أوبدنه، أودنياه، أوما يمت إليه بصلة كالزوجة، والولد، ونحوهما، سواء كان ذلك بلفظ، أوكتابة، أورمز، أوإشارة.

والبهت: ذكرك أخاك بما ليس فيه مما يكره.

والنميمة: نقل الكلام من شخص إلى آخر بغرض الإفساد.

وكل ذلك من أحرم الحرام، ومن الكبائر العظام.

الأدلة على تحريم ذلك من الكتاب والسنة والآثار

   قال تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه".

   وقال: "ويل لكل همزة لمزة".

   وقال: "هماز مشاء بنميم".

   وفي الصحيح عن أبي هريرة يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: ذكرك أخاك بما يكره؛ قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".4

   وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"

   وعن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عِرْض المسلم بغير حق"6

   وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: "حسبك من صفية كذا وكذا"، قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".

   وفي الصحيح: كان رجل يرفع إلى عثمان حديث حذيفة، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة فتان"، يعني نمام.

   وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه وهو في بيته".

   وقال صلى الله عليه وسلم: "شراركم أيها الناس المشاءون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الباغون لأهل البر العثرات".

   وكان بين سعد وخالد كلام، فذهب رجل يقع في خالد عند سعد، فقال سعد: مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا.

   وقال رجل للحسن البصري: إنك تغتابني؟ فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.

   وقال ابن المبارك: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي لأنهما أحق بحسناتي.

والغيبة كما تكون باللسان، واليد، والإشارة، تكون بالقلب بسوء الظن، فإذا ظننت لا تتبع ظنك بعمل.

فضل من رد عن عرض شيخه أو أخيه

من حق المسلم على المسلم أن لا يغتابه ولا يبهته، فإذا سمع أحداً وقع فيه ردَّ عنه وأسكته، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "من ردَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة"، وكذلك: "ما من امرئ يخذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصره".

المستمع شريك القائل

القائل والمستمع للغيبة سواء، قال عتبة بن أبي سفيان لابنه عمرو: "يا بني نزِّه نفسك عن الخنا، كما تنزه لسانك عن البذا، فإن المستمع شريك القائل".

كفارة الغيبة

الغيبة من الكبائر، وليس لها كفارة إلا التوبة النصوح، وهي من حقوق الآدميين، فلا تصح التوبة منها إلا بأربعة شروط، هي:

1.  الإقلاع عنها في الحال.

2.  الندم على ما مضى منك.

3.  والعزم على أن لا تعود.

4. واستسماح من اغتبته إجمالاً أو تفصيلاً، وإن لم تستطع، أو كان قد مات أوغاب تكثر له من الدعاء والاستغفار.

لا تمكِّن أحداً أن يغتاب عندك أحداً

أخي الكريم نزِّه سمعك ومجلسك عن سماع الغيبة والنميمة، لتكون سليم القلب مع إخوانك المسلمين، فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلِّغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم القلب".

قال ابن عباس: قال لي أبي: "إني أرى أمير المؤمنين ـ يعني عمر ـ يدنيك ويقربك، فاحفظ عني ثلاثاً: إياك أن يجرِّب عليك كذبة، وإياك أن تفشي له سراً، وإياك أن تغتاب عنده أحداً".

روى الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي إليه، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج عن صحبتي والدخول عليّ".

فاشتغل أخي بالتجارة الرابحة، واحذر التجارة الخاسرة الكاسدة.

والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لحفظ الجوارح، سيما الفرج واللسان، ومن الوقوع في الحرام، وصلى الله وسلم وبارك على خير ولد عدنان.

---------------

خطر الغيبة والنميمة

قال رسول الله: ( إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار! ) صحيح مسلم (2581)

فكم بهذه الألسنة عُبد غير الله تعالى وأشرك

وكم بهذه الألسنة حُكم بغير حكمه سبحانه وتعالى

كم بهذه الألسنة أُحدثت بدع.. وأُدميت أفئدة.. وقُرحت أكباد

كم بهذه الألسنة أرحام تقطعت.. وأوصال تحطمت.. وقلوب تفرقت

كم بهذه الألسنة نزفت دماء.. وقُتل أبرياء.. وعُذب مظلومون

كم بها طُلّقت أمهات.. وقذفت محصنات

كم بها من أموال أُكلت.. وأعراض أُنتهكت.. ونفوس زهقت

يموت الفتى مـن عثـرة بلسانـه *** وليس يموت المرء من عثرة الرجل

في يوم من الأيام ألقيتُ محاضرة في أحد السجون.. جُمع لي السجناء في المسجد الكبير قرابة 500 أو الألف سجين ..

انتهيت من المحاضرة.. أول ما انتهيت قال لي أحد الأخوة الذين كانوا مرافقين معي وهو مشرف على بعض المحاضرات في السجن، قال: يا شيخ هنا الجناح الخاص بأصحاب القضايا الكبيرة والجناح الانفرادي لم يحضروا معك المحاضرة فليتك أن تمر بهم وتلقي عليهم كلمة وتجيب على أسئلتهم إن كان عندهم أسئلة.. قلت: حسناً..

أقبلنا فإذا مجموعة كل واحد في زنزانة خاصة به.. مررنا بهم.. ألقيت عليهم كلمة يسيرة ثم أجبت على أسئلتهم .. مررت في أثناء ذلك بزنزانة فيها شاب عمره تقريبا 23 سنة أو في الخامسة والعشرين سنة تقريبا كان جالساً هادئاً في زنزانته، مررت به وسلمت عليه كان هادئاً لطيفاً ثم تجاوزته، سألت صاحبي قلت: ما قضيته؟! يعني هو عليه سرقات أم مضاربة مع أحد أو أدت إلى قتل ذلك الشخص مثلاً ما قضيته؟!

قال: هذا الشاب يا شيخ عليه جريمة قتل لزوجته..

قلت: قتل لزوجته! ما هو السبب؟!

قال: هل تصدق أنهما ما مضى على زواجهما إلا قرابة ثلاثة أشهر وقتلها

قلت كيف قتلها أعوذ بالله يعني كمثل وجدها على فعل معين أو محرم أو فاحشة أو وجدها مع رجل مع أنه لا يجوز أنه يعاملها بالقتل بمثل هذه المواقف لكن أحيانا أن بعض الناس يثور ويتهور ويضربها بشيء فتموت بسببه

قال: لا، ذبحها بالسكين

إنا إليه راجعون.. كيف؟!

قال: هذا تزوج وسكن مع زوجته على أحسن حال.. حقد عليه مجموعة من الناس ربما بينه وبينهم مشاكل في القديم أو أنهم كانوا يريدون أن يتزوجوا هذه الفتاة، المقصود أنهم حقدوا عليه فأقبل إليه أحدهم فقال له: يا فلان

قال الشاب: ما تريد؟

قال: أنت اشتريت سيارة خضراء بدل سيارتك؟ وذكر له أحد أنواع السيارات

الشاب: لا ، أنا والله ما اشتريت، أنا سيارتي السوداء التي معي تعرفونها

قال: والله ما أدري لكن أنا أمس الضحى وأنت في العمل خرجت في حاجة ومررت أمام بيتك ورأيت سيارة خضراء واقفة عند الباب فخرجت امرأة من بيتك وركبت معه وبعد ساعتين رجعت إلى البيت، أنت عندك يمكن في البيت أحد يمكن...

قال الشاب: لا والله ما فيه إلا زوجتي حتى ما عندي خادمة ولا عندي أحد

قال: ما أدري إن شاء الله ما تكون زوجتك.. ومضى..

بعدها بيومين الرجل بدأ يشك يسأل زوجته: فيه أحد جاء ، فيه أحد ذهب..

بعدها بيومين، ثلاثة، أقبل إليه رجل آخر قد اتفق مع الأول فقال له: يا فلان

قال نعم

قال: أنت غيرت سيارتك، اشتريت سيارة بيضاء؟

قال: لا والله هذه سيارتي تحت واقفة

قال: والله ما أدري بس أنا أيضا أمس العصر يبدو إنك ما كنت في البيت، فيه سيارة بيضاء وقفت عند الباب وأقبلت امرأة وركبت معها وذهبت.

جعلوا الرجل ينتفض ..

ثم جاءوا إليه في اليوم الثالث وزادوا عليه الكلام..

جاءوا إليه في اليوم الرابع ..

- أنظر كيف الألسنة تحدث من عقوق وقطيعة

فلا زالوا به حتى تخاصم مع زوجته وأكثر عليها الكلام وهي صرفت عليه قالت: كيف تتهمني في عرضي، قال نعم أتهمك اعترفي، ما أعترف..... كثر الكلام فذهبت إلى بيت أهلها..

لبثت عند أهلها أياما فلم يرضهم ذلك!

أقبلوا إليه قالوا: يا أخي ترى السيارات نفسها الآن تقف عند بيت أهلها، بكرى البنت تحمل وبعدين تقول هذا ولدك. أنت لست رجلا أنت ما عندك مروءة أنت تلعب بعقلك الفتاة والله لو كنت رجل لو أنك.... الخ.............. فلم يزالوا يعينون الشيطان عليه بالوساوس حتى تغلب عليه الشيطان في ليلة من الليالي فخرج من بيته ومضى إلى بيت أهلها وقفز من فوق السور ودخل إلى البيت والكل النائم، مضى إلى المطبخ وأخذ سكيناً ثم مضى إلى غرفتها ودخلها بهدوء وإذا الفتاة نائمة في أمان الله قد نامت على بطنها في أمان الله على فراشها فأقبل من خلف رقبتها وأبعد شعرها قليلا وذبح حتى قطع أوداجها.. انتفضت قليلا وماتت.. مسح السكين بثيابه وتركها وذهب إلى الشرطة وقال أنا قتلت فلانة! أدري أني سأتعب لو هربت وسوف ألاحق في كل مكان من الآن أنا قتلتها لكن بردت ما في قلبي! ..

وحكم عليه بالقصاص.. النفس بالنفس..

شاب يا جماعة لو ترونه يعني من أحسن الشباب خلقة وأقواهم بدنا لكن بكثرة ما وقع من ألسنة أولئك الظلمة الفجرة

أنظر كيف تحولت الأمور، قد هُتكت بها أعراض وهدمت بيوت بسبب ما يخرج من هذا اللسان

( يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )

وهؤلاء الظلمة غير أنهم اكتسبوا اثما عظيما اثم الغيبة والنميمة فإنهم أيضا فرقوا بين زوجين وهناك حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر أن من فرق بين زوجين لا ينظر الله إليه يوم القيامة. وكذلك قذفوا المسلمة المحصنة بالزنا والعياذ بالله من ذلك

-- قذف المحصنات من كبائر الذنوب --

http://saaid.net/Doat/Najeeb/f89.htm

لما أقبل موسى الأشعري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنصحاً قال: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟

وفي رواية أي المسلمين خير؟

- ما قال صلى الله عليه وسلم خير المسلمين قوام الليل ولا قال خير المسلمين صوام النهار ولا قال خير المسلمين الحجاج والمعتمرون أو المجاهدون لا ، ترك كل هذه الفضائل مع حسنها وقال: ( خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده )

وفي البخاري قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) رواه الترمذي.

كان السلف يدققون على كلامهم المباح فضلاً عن الكلام المحرم

جلست عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها يوماً قبيل صلاة المغرب وهي صائمة وأذن لصلاة المغرب فأقبلت إليها الجارية قالت فيما معنى قولها: يا أم المؤمنين أقرب إليك المائدة وكانت عائشة ليست بجائعة ولا عطشانة وهذا يقع أحيانا لبعض الصائمين....

فقالت عائشة: والله ما لي بالطعام حاجة لكن قربي المائدة نلهو بها

ثم قالت عائشة أستغفر الله أستغفر الله ألهو بنعمة الله!

مع أنها تقصد " ألهو" يعني آخذ من هنا قليلا، من هذا قليلا فقط لأجل أن أفطر عليه

قالت: أستغفر الله ألهو بنعمة الله ثم بكت ثم جعلت تجمع ما عندها من مال واشترت به عبدين مملوكين وأعتقتهما لوجه الله توبة من هذه الكلمة!

وهذه يا جماعة وهي ما اغتابت أحد ولا سبّت ولا لعنت ولا كفرت بكلمة.. مجرد تقول تسلى بالطعام..

والإمام أحمد رحمه الله دخل مرة يزور مريضا فلما زاره سأل الإمام أحمد هذا الرجل قال: يا أيها المريض هل رآك الطبيب؟

قال: نعم ذهبت إلى فلان الطبيب

فقال أحمد: اذهب إلى فلان الآخر فإنه أطب منه " يعني أعلم بالطب منه"

ثم قال الإمام أحمد: أستغفر الله أراني قد اغتبت الأول أستغفر الله أستغفر الله

- المفروض أنه ما يقال إنه أفضل منه فيقال: جرّب فلانا -

بتصرف من شريط" قصة سجين " للشيخ العريفي حفظه الله

http://www.emanway.com/play_droos.php?cid=12&id=1017

تحرير: حورية الدعوة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

----------------

الغيبة والنميمة والنظر للنساء في رمضان

الدكتور: يوسف القرضاوي

الصيام عبادة تعمل على تزكية النفس، وإحياء الضمير، وتقوية الإيمان، وإعداد الصائم ليكون من المتقين، كما قال تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.

ولهذا يجب على الصائم أن يُنَزِّه صيامه عما يجرحه، وربما يهدمه، وأن يصون سمعه وبصره وجوارحه عما حرم الله تعالى، وأن يكون عفَّ اللسان؛ فلا يلغو ولا يرفث، ولا يصخب ولا يجهل، وألا يقابل السيئة بالسيئة، بل يدفعها بالتي هي أحسن، وأن يتخذ الصيام درعًا واقية له من الإثم والمعصية، ثم من عذاب الله في الآخرة؛ ولهذا قال السلف: إن الصيام المقبول ما صامت فيه الجوارح من المعاصي، مع البطن والفرج عن الشهوة.

وهذا ما نبهت عليه الأحاديث الشريفة، وأكده تلاميذ المدرسة النبوية.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب -وفي رواية: ولا يجهل- فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل: إني صائم، مرتين" (متفق عليه عن أبي هريرة).

وقال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (رواه البخاري في كتاب الصوم).

وقال: "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع" (رواه النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه عنه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش").

وكذلك كان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهرة للأنفس والجوارح، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام..

قال عمر بن الخطاب: ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو.

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: إذا صمت فليصُم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء..

وروى طليق بن قيس عن أبي ذر قال: إذا صمت فتحفظ ما استطعت. وكان طليق إذا كان يوم صيامه، دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة..

وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد، وقالوا: نُطهر صيامنا.

وعن حفصة بنت سيرين من التابعين قالت: الصيام جُنة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة!.

وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون: الكذب يفطِّر الصائم!

وعن ميمون بن مهران: إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب.

ومن أجل ذلك ذهب بعض السلف إلى أن المعاصي تفطِّر الصائم؛ فمن ارتكب بلسانه حرامًا كالغيبة والنميمة والكذب، أو استمع بأذنه إلى حرام كالفحش والزور، أو نظر بعينه إلى حرام كالعورات ومحاسن المرأة الأجنبية بشهوة، أو ارتكب بيده حرامًا كإيذاء إنسان أو حيوان بغير حق، أو أخذ شيئًا لا يحل له، أو ارتكب برجله حرامًا؛ بأن مشى إلى معصية، أو غير ذلك من أنواع المحرمات، كان مفطرًا.

فاللسان يُفطِّر، والأذن تُفطِّر، والعين تُفطِّر، واليد تُفطِّر، والرجل تُفطِّر، كما أن البطن تُفطِّر، والفرج يُفطِّر.

وإلى هذا ذهب بعض السلف أن المعاصي كلها تُفطِّر، ومن ارتكب معصية في صومه فعليه القضاء، وهو ظاهر ما روي عن بعض الصحابة والتابعين. وهو مذهب الإمام الأوزاعي، وهو ما أيده ابن حزم من الظاهرية.

وأما جمهور العلماء فرأوا أن المعاصي لا تُبطل الصوم، وإن كانت تخدشه وتصيب منه، بحسب صغرها أو كبرها.

وذلك أن المعاصي لا يسلم منها أحد إلا من عصم ربك، وخصوصًا معاصي اللسان؛ ولهذا قال الإمام أحمد: لو كانت الغيبة تفطّر ما كان لنا صوم!

هذا والإمام أحمد وهو من هو في ورعه وزهده وتقواه؛ فماذا يقول غيره؟!

ويؤكد هؤلاء العلماء أن المعاصي لا تبطل الصوم، كالأكل والشرب، ولكنها قد تذهب بأجره، وتضيع ثوابه.

والحق أن هذه خسارة ليست هينة لمن يعقلون، ولا يستهين بها إلا أحمق. فإنه يجوع ويعطش ويحرم نفسه من شهواتها، ثم يخرج في النهاية ورصيده "صفر" من الحسنات!

يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شرح حديث "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه": "مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذُكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه".

إن الصيام في رمضان خاصة فرصة للتطهر من آثام أحد عشر شهرًا مضت؛ فمن صام صيام المؤمنين المحتسبين كان جديرًا أن يخرج من الشهر مغفورًا له، مطهرًا من الذنوب، وخصوصًا الصغائر التي يقترفها الإنسان في مصبحه وممساه، ومراحه ومغداه، وقد يستخف بها مرتكبها، ولا يدري أنها إذا تكاثرت عليه أردته وأهلكته.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر" (رواه مسلم عن أبي هريرة).

وقد مر بنا الحديث المتفق عليه: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".

فمن لوث صيامه بالمعاصي في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه؛ فقد أضاع على نفسه فرصة التطهر، ولم يستحق المغفرة الموعودة، بل ربما أصابه ما دعا به جبريل عليه السلام، وأمّن عليه النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله..." (رواه ابن حبان في صحيحه).

-----------------

التحذير من الغيبة والنميمة

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس اتقوا الله تعالى واحترموا حقوق إخوانكم المسلمين وذبوا عن أعراضهم كما تذبون عن دمائهم وأموالهم.

أيها المسلمون: لقد شاع بين كثير من المسلمين داءان عظيمان لكن السلامة منهما يسيرة على من يسرها الله عليه، أيها المسلمون فشا فينا داء الغيبة وداء النميمة أما الغيبة فهي ذكر الإنسان الغائب بما يكره أن يذكر فيه من عمل أو صفة فإن كثيرا من الناس صار همه في المجالس أن يأكل لحم فلان وفلان، فلان فيه كذا وفيه كذا ومع ذلك لو فتشت لرأيته هو أكثر الناس عيبا وأسوأهم خلقا وأضعفهم أمانة وإن مثل هذا الرجل يكون مشؤوما على نفسه ومشؤوما على جلسائه لأن جلساءه إذا لم ينكروا عليه صاروا شركاء له في الإثم وإن لم يقولوا شيئا.

أيها المسلمون: لقد صور الله الإنسان الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة، مثله بمن يأكل لحم أخيه ميتا ويكفي قبحا أن يجلس الإنسان على جيفه أخيه يقطع من لحمه ويأكله.

أيها المسلمون: إن الواجب عليكم إذا سمعتم من يغتاب إخوانه المسلمين أن تمنعوه وتذبوا عن أعراض إخوانكم ألستم لو رأيتم أحدا قائما على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه، ألستم تقومون عليه جميعا وتنكرون عليه؟ إن الغيبة كذلك تماما كما قال الله تعالى:  ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه  ، ولا يبعد أن يعاقب من يغتاب إخوانه يوم القيامة فيقربون إليه بصورة أموات ويرغم على الأكل منهم كما روي في ذلك حديث عن النبي  ولقد مر النبي  ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: ((من هؤلاء يا جبريل))؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. وقال عليه الصلاة والسلام ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) يعني ولو كان في بيته.

أيها المسلمون: إن كثيرا من أهل الغيبة إذا نُصحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا. ولقد قيل للنبي  ((أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)) فبين لأمته  أن الغيبة أن تعيب أخاك بما فيه أما إذا غبته بما ليس فيه فإن ذلك جامع لمفسدتين البهتان والغيبة، ولقد نص الإمام أحمد بن حنبل وفقهاء مذهبه على أن الغيبة من كبائر الذنوب فاحذر أيها المسلم منها واشتغل بعيبك عن عيب غيرك وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فربما تعيب الناس وأنت أكثرهم عيبا وإن كنت صادقا في قولك مخلصا في نصحك فوجدت في أخيك عيبا فإن الواجب عليك أن تتصل به وتناصحه، هذا هو مقتضى الأخوة الإيمانية والطريقة الإسلامية.

أما الداء الثاني الذي انتشر بين بعض الناس فهو داء النميمة وهي أن ينقل الكلام بين الناس فيذهب إلى الشخص ويقول: قال فيك فلان: كذا وكذا لقصد الإفساد وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين وهذه هي النميمة التي هي من كبائر الذنوب ومن أسباب عذاب القبر وعذاب النار قال النبي  ((لا يدخل الجنة نمام))  ((ومر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير - أي في أمر شاق تركه عليهما - أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)). أيها المسلمون إن الواجب على من نقل إليه أحد أن فلانا يقول فيه كذا أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك وليحذر منه فإن من نقل إليك كلام الناس فيك نقل عنك ما لم تقله. قال الله تعالى  ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشّاء بنميم  .

وفقني  الله وإياكم لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال وجنبنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

-----------

أخي الحبيب قف قبل أن تغتاب

حمود بن عبدالله المطر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فهذه رسالة مختصرة في بيان دائين خطيرين عمّ انتشارهما بين كثير من أبناء المسلمين، وقد جمعتها من كلام أهل العلم كسماحة الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن جبرين حفظهم الله تعالى وأعلى منزلتهم إنه سميع مجيب.

الوصية بتجنب الغيبة والنميمة

يقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله:

( وصيتي لكل مسلم تقوى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وأن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه وذلك كثير بين الناس، قال الله سبحانه وتعالى:  ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد  [ق:18]، وقال تعالى:  ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا  [الإسراء:36]، وقال  في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت } ).

وهنا أشياء قد يجرها الكلام ينبغي التنبيه عليها والتحذير منها لكونها من الكبائر التي توجب غضب الله وأليم عقابه وقد فشت في بعض المجتمعات، ومن هذه الأشياء:

1- ( الغيبة ): وهي ذكرك أخاك بما يكره لو بلغه ذلك سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو في دينه أو دنياه بل وحتى في ثوبه وداره ودابته، فعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: { أتدرون ما الغيبة؟ } قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: { ذكرك أخاك بما يكره } قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: { إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته } [رواه مسلم].

والغيبة محرمة لأي سبب من الأسباب سواء كانت لشفاء غيظ أو مجاملة للجلساء ومساعدتهم على الكلام أو لإرادة التصنع أو الحسد أو اللعب أو الهزل وتمشية الوقت فيذكر عيوب غيره بما يضحك وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنها وحذر منها عباده في قوله عز وجل:  يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وأتقوا الله إن الله توّاب رحيم  [الحجرات:12].

وفي الحديث عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: { كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه } [رواه مسلم] وقال  في خطبته في حجة الوداع: { إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت } [رواه البخاري ومسلم]. وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : { من أربا الربا استطالة المرء في عرض أخيه } [رواه البزار وأبو داود].

والأحاديث الثابنة عن رسول الله  في تحريم الغيبة وذمها والتحذير منها كثيرة جداً.

2- مما ينبغي اجتنابه والابتعاد عنه والتحذير منه ( النميمة ):

التي هي نقل الكلام من شخص إلى آخر أو من جماعة إلى جماعة أو من قبيلة إلى قبيلة لقصد الإفساد والوقيعة بينهم وهي كشف ما يكره كشفه سواء أكره المنقول عنه أو المنقول إليه أو كره ثالث وسواء أكان ذلك الكلام بالقول أم بالكتابة أم بالرمز أم بالإيماء وسواء أكان المنقول من الأقوال أم الأعمال وسواء كان ذلك عيباً أو نقصاً في المنقول عنه أو لم يكن فيجب أن يسكت الإنسان عن كل مايراه من أحوال الناس إلا ما في حكايته منفعة لمسلم أو دفع لشر.

والباعث على النميمة: إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي عليه أو الاستمتاع بالحديث والخوض في الفضول والباطل وكل هذا حرام.

وكل من حملت إليه النميمة بأي نوع من أنواعها فيجب عليه عدم التصديق لأن النمام يعتبر فاسقاً مردود الشهادة، قال الله تعالى:  يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة  [الحجرات:6] وعليه أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله لقوله تعالى:  وأمر بالمعروف وانه عن المنكر  [لقمان:17] وأنه يبغضه في الله وألا يظن بأخيه المنقول عنه السوء بل يظن به خيراً لقوله تعالى:  يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظنّ إثم  [الحجرات:12] ولقول النبي  : { إياكم والظن فإن الظنّ أكذب الحديث } [متفق على صحته]. وعليه ألا يتجسس على من حكى له عنه وألا يرضى لنفسه ما نهى عنه النمام فيحكي النميمة التي وصلته.

وأدلة تحريم النميمة كثيرة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى:  ولا تطع كلّ حلاف مهين همّاز مشّاء بنميم  [القلم:11،10] وقوله تعالى:  ويل لكل همزة لمزة  [الهمزة:1]، وعن حذيفة  قال: قال رسول الله  : { لا يدخل الجنة نمام } [متفق عليه].

وعن ابن مسعود  أن النبي  قال: { ألا أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة بين الناس } [رواه مسلم]، والنميمة من الأسباب التي توجب عذاب القبر لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله  مر بقبرين فقال: { إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير } ثم قال: { بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة } [متفق عليه].

وإنما حرمت الغيبة لما فيهما من السعي بالإفساد بين الناس وإيجاد الشقاق والفوضى وإيقاد نار العداوة والغل والحسد والنفاق وإزالة كل مودة وإماتة كل محبة بالتفريق والخصام والتنافر بين الأخوة المتصافين ولما فيهما أيضاً من الكذب والغدر والخيانة والخديعة وكيل التهم جزافاً للأبرياء وإرخاء العنان للسب والشتائم وذكر القبائح ولأنهما من عناوين الجبن والدناءة والضعف هذا إضافة إلى أن أصحابهما يتحملون ذنوباً كثيرة تجر إلى غضب الله وسخطه وأليم عقابه.

ويقول فضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله تعالى:

( أيها المسلمون لقد شاع بين كثير من المسلمين داءان عظيمان لكن السلامة منهم يسيرة على من يسرها الله عليه. أيها المسلمون فشا فينا داء الغيبة وداء النميمة.

أما الغيبة فهي ذكر الإنسان الغائب بما يكره أن يذكر فيه من عمل أو صفة فإن كثيراً من الناس صار همه في المجالس أن يأكل لحم فلان وفلان، فلان فيه كذا وفيه كذا ومع ذلك لو فتشت لرأيته هو أكثر الناس عيباً وأسوأهم خلقاً وأضعفهم أمانة وإن مثل هذا الرجل يكون مشؤوماً على نفسه ومشؤوماً على جلسائه لأن جلساءه إذا لم ينكروا عليه صاروا شركاء له في الإثم وإن لم يقولوا شيئاً.

أيها المسلمون لقد صور الله الإنسان الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة مُثلت بمن يأكل لحم أخيه ميتاً ويكفي قبحاً أن يجلس الإنسان على جيفة أخيه يقطع من لحمه ويأكل.

أيها المسلمون إن الواجب عليكم إذا سمعتم من يغتاب إخوانه المسلمين أن تمنعوه وتذبوا عن أعراض إخوانكم ألستم لو رأيتم أحداً قائماً على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه، ألستم تقومون عليه جميعاً وتنكرون عليه. إن الغيبة كذلك تماماً كما قال الله تعالى:  ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه  [الحجرات:12]، ولا يبعد أن يعاقب من يغتاب إخوانه يوم القيامة فيقربون إليه بصورة أموات ويرغم على الأكل منهم كما روي في ذلك حديث عن النبي  ولقد مر النبي  ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: { من هؤلاء يا جبريل؟ } قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، وقال عليهم الصلاة والسلام: { يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته يفضحه في بيته } يعني ولو كان في بيته.

أيها المسلمون إن كثيراً من أهل الغيبة إذا نُصحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا ولقد قيل للنبي  : أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: { إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته } فبين لأمته  أن الغيبة أن تعيب أخاك بما فيه أما إذا عبته بما ليس فيه فإن ذلك جامع لمفسدتين: البهتان والغيبة. ولقد نص الإمام أحمد بن حنبل وفقهاء مذهبه على أن الغيبة من كبائر الذنوب فاحذر أيها المسلم منها واشتغل بعيبك عن عيب غيرك وفتش نفسك هل أنت سالم فربما تعيب الناس وأنت أكثرهم عيباً وإن كنت صادقاً في قولك مخلصاً في نصحك فوجدت في أخيك عيباً فإن الواجب عليك أن تتصل به وتناصحه. هذا هو مقتضى الأخوة الإيمانية والطريقة الاسلامية.

أما الداء الثاني الذي انتشر بين بعض الناس فهو داء النميمة وهي أن ينقل الكلام بين الناس فيذهب إلى الشخص ويقول قال فيك فلان كذا وكذا لقصد الإفساد وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين وهذه هي النميمة التي هي من كبائر الذنوب ومن أسباب عذاب القبر وعذاب النار قال النبي  : { لا يدخل الجنة نمام } ومر بقبرين فقال: { إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ـ أي في أمر شاق تركه عليهما ـ أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة }.

أيها المسلمون: إن الواجب على من نقل إليه أحد أن فلان يقول فيه كذا أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك وليحذر منه فإن من نقل إليك كلام الناس فيك نقل عنك ما لم تقله، قال الله تعالى:  ولا تطع كل حلاف مهين همّاز مشّاء بنميم  [القلم:11،10] ).

أخي قف قبل أن تغتاب

أخي الحبيب قف مع نفسك وقفات قبل أن نغتاب إخوانك.

الوقفة الأولى: هل الغيبة عمل صالح تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى فتزيد من حسناتك وتزيدك بالتالي قرباً من الجنة أم أنها على النقيض من ذلك؟

الوقفة الثانية: هل تحب أن يغتابك أحد فيذكر عيوبك ومساوئك ـ وما أكثر العيوب والمساوئ ـ فإن كنت لا تحب ذلك فإن إخوانك لا يحبون ذلك.

الوقفة الثالثة: تذكر قبل أن تغتاب إخوانك هذه الآية:  ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه  [الحجرات:12].

الوقفة الرابعة: تذكر قبل أن تغتاب أن الغيبة بضاعة الجبناء من الناس فالمغتاب لا يتكلم إلا في حال الغيبة ولو كان شجاعاً لتكلم وأظهر ما في نفسه في حال وجود من اغتاب في الخفاء ولكنه جبان وضعيف الشخصية؟! هل تحب أن تتصف بهذه الصفة القبيحة التي تخرم إنسانيتك؟

الوقفة الخامسة: تذكر قبل أن تغتاب أن الغيبة زيادة ونقصان، فهي زيادة في ذنوبك وسيئاتك ونقصان في أجرك وحسناتك، والسيئات والحسنات هي بضاعتك يوم القيامة، فلك أن تختار في هذه الدنيا أن تزيد من حسناتك أو أن تزيد في سيئاتك والرابح أو الخاسر في ذلك كله أنت فاختر لنفسك.

الوقفة السادسة: تذكر قبل أن تغتاب هذه الأحاديث الشريفة وضعها نصب عينيك وحري بك أن تحفظها.

قوله  : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت }. وقوله  : { إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق } وفي رواية مسلم { والمغرب }. وقوله  : { كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله }. وقوله  : { لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم } وقوله  لما مرّ على قبرين يعذب صاحباهما فقال: { إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير وبلى، أما أحدهما فكان يغتاب الناس وأما الآخر فكان لا يتأذى من البول } فدعا بجريدة رطبة أو بجريدتين فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر فقال رسول الله  : { إما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين أو لم تيبسا }.

الوقفة السابعة: تذكر قبل كل شيء من تعصي بالغيبة هل تعصي فلان وفلان؟ هل تخالف أمر فلان وفلان؟ لا إنك تعصي الله سبحانه وتعالى إنك تخالف أمر خالقك وموجدك ورازقك والمتفضل عليك سبحانه وتعالى، إنك بالغيبة تحارب الله عز وجل، فهل تحب أن تكون ممن يحاربون الله عز وجل؟

أخي الحبيب قف قبل النميمة

الوقفة الأولى: تذكر قبل النميمة ما ورد عن رسول الله  من الأحاديث في شأن النميمة ومنها:

قوله  : { لا يدخل الجنة قتات } وفي رواية: { لا يدخل الجنة نمام } وقوله  عندما مرّ على قبرين يعذب صاحباهما فقال  : { يعذبان وما يعذبان في كبير وإنه لكبير: كان أحدهما لا يستتر من البول وكان الآخر يمشي بالنميمة } ثم دعا بجريدة فكسرها بكسرتين ـ أو اثنتين ـ فجعل كسرة في قبر هذا وكسرة في قبر هذا، فقال: { لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا }.

الوقفة الثانية: تذكر قبل النميمة أن النميمة بضاعة شرار الخلق وأن النمامين هم شرار الأمة فعن أسماء بنت يزيد قالت: قال النبي صلى الله: { ألا أخبركم بخياركم } قالوا: بلى، قال: { الذين إذا رؤوا ذكر الله، أفلا أخبركم بشراركم } قالوا: بلى، قال: { المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون والبرآء العنت }.

الوقفة الثالثة: تذكر قبل النميمة أن من كمال الإيمان أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، عن أنس عن النبي  قال: { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه }. فهل تحب أن ينم عليك أحد فيفرق بينك وبين من تحب؟ فإن كنت لا تحب ذلك فلا تجعل النميمة بضاعةً لك تفرق بها بين الأحبة وأحب لإخوانك ما تحب لنفسك.

الوقفة الرابعة: تذكر قبل النميمة أن من تحاول الإفساد بينهم بالنميمة سوف يكونون خصومك يوم القيامة ذلك اليوم العظيم الذي لا حساب فيه إلا بالحسنات والسيئات.

الوقفة الخامسة: تذكر قبل النميمة أن أمرك سيكشف أمام الناس في يوم من الأيام فتصبح بعد ذلك وحيداً فريداً منبوذاً بين الناس لا صاحب لك ولا محب.

الوقفة السادسة: تذكر قبل النميمة الموت وسكراته وقصر الحياة الدنيا وقرب الأجل وسرعة الإنتقال إلى الدار الآخرة وضمة القبر وعذابه والقيامة وأهوالها والنار وأغلالها.

الوقفة السابعة: تذكر قبل كل شيء أنك بالنميمة تخالف أمر الله تعالى وتعلن الحرب على شرع الله سبحانه وتعالى فاحذر الوقوع في هذا الأمر ولا تلقي بنفسك إلى التهلكة.

أسباب ودوافع الغيبة والنميمة

1- ضعف الإيمان: وذلك بعدم الإكتراث بعقاب الله وعدم الإكتراث بمعصيته عز وجل.

2- التربية السيئة التي ينشأ عليها الطفل.

3- الرفقة السيئة: فالرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.

4- الكبر والتعالي واغترار الإنسان بنفسه ورؤيته لها أنها أفضل من الآخرين.

5- الحقد والحسد اللذان يدفعان بالإنسان أن يغتاب غيره.

6- التسلية وإضاعة وقت الفراغ.

7- إرضاء الآخرين من أصحابه.

8- الجهل، وذلك إما جهلاً بحكم الغيبة والنميمة أو جهلاً بعاقبتهما السيئة وأليم عقاب الله سبحانه عليهما.

طرق علاج الغيبة والنميمة

1- التربية الحسنة والقدوة الصالحة.

2- الرفقة الصالحة التي تعين على الخير وتحذر من الشر.

3- إعمار وقت الفراغ، لأن الفراغ سلاح ذو حدين، فمن استغله في الخير فهو الرابح في الدنيا والآخرة.

4- تقديم رضى الله على رضى الآخرين.

5- القناعة والرضى بما وهب الله سبحانه وتعالى وحمده على كل حال.

6- تقوية الإيمان وذلك بالعلم النافع وكثرة الأعمال الصالحة.

7- الإنشغال بعيوبك عن الآخرين وذلك بالبحث عنها ومعالجتها والتخلص منها.

فتاوى في الغيبة والنميمة

سؤال: لي صديق كثيراً ما يتحدث في أعراض الناس، وقد نصحته ولكن دون جدوى، ويبدو أنها أصبحت عنده عادة، وأحياناً يكون كلامه في الناس عن حسن نية. فهل يجوز هجره؟

الجواب: الكلام في أعراض المسلمين بما يكرهون منكر عظيم ومن الغيبة المحرمة بل من كبائر الذنوب، لقول الله سبحانه:  ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه  [الحجرات:12].

ولما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  عن النبي  أنه قال: { أتدرون ما الغيبة؟ } فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: { ذكرك أخاك بما يكره } قيل: يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول؟ قال: { إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته }، وصح عنه  ، { أنه لما عرج به مرّ على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم } أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه، وقال العلامة ابن مفلح إسناده صحيح، قال: وخرج أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعاً: { أن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق }.

والواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه؛ لقول النبي  : { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } [رواه مسلم في صحيحه]. فإن لم يمتثل فاترك مجالسته؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه.

أصلح الله حال المسلمين ووفقهم لما فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة [سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز].

سؤال: فضيلة الشيخ جماعة فاكهة مجالسهم الغيبة والنميمة ولعب الورقة وغيرها، السؤال: هل تجوز مجالستهم مع العلم أنهم جماعتي وتربطني بأكثرهم علاقة أخوية ونسب وصداقة وغيرها؟

الجواب: هؤلاء الجماعة الذين فاكهة مجالسهم أكل لحوم إخوانهم ميتين، هؤلاء في الحقيقة سفهاء لأن الله يقول في القرآن الكريم:  ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه  [الحجرات:12]. فهؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس والعياذ بالله في مجالسهم قد فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب والواجب عليك نصيحتهم فإن امتثلوا وتركوا ما هم فيه فذاك وإلا يجب عليك أن تقوم عنهم لقوله تعالى:  وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً  [النساء:140].

فلما جعل القاعدين مع هؤلاء الذين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، لما جعلهم في حكمهم مع أن هذا أمر عظيم يخرج من الملة، فإن من شارك العصاة فيما دون ذلك مثل هؤلاء الذين شاركوا هؤلاء العصاة الذين كفروا بآيات الله واستهتروا بها، فيكون الجالس في مكان الغيبة كالمغتاب في الإثم، فعليك أن تفارق مجالسهم وأن لا تجلس معهم، وكونك تربطك بهم رابطة قوية فهذا لا ينفعك يوم القيامة ولا ينفعك إذا انفردت في قبرك فعما قريب سوف تفارقهم أو يفارقونك ثم ينفرد كل منكم بما عمل وقد قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:  الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين  [الزخرف: 67] [فضيلة الشيخ ابن عثيمين].

سؤال: فضيلة الشيخ ما نصيحتكم حفظكم الله تعالى لأصحاب الغيبة والنميمة والمتفكهين بأعراض المسلمين؟

الجواب: لا شك أن الغيبة ذنب عظيم حيث أن فيه الإستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم والتنقص لهم بذكر المعايب وإفشاء الخفايا والتنقيب عن المساوئ مع ستر المحاسن ولذلك ورد النهي الشديد عن الغيبة فقال تعالى:  ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه  [الحجرات:12]. وهذا تشويه لهذا الفعل وتبشيع للفاعل بأنه كالذي يأكل لحم الميت وقد ثبت أن النبي  سمع بعض أصحابه يغتابون مسلماً ثم أنه مر يجيفة خائسة فدعاهما وقال: { انزلا فكلا من هذه } فاستغربا ذلك فأخبرهما بأن الذي أكلاه من لحم أخيهما أشد وأفحش من أكل هذه الجيفة، وثبت أن عائشة أو غيرها من أمهات المؤمنين قالت: يا رسول الله حسبك من صفية كذا وكذا، تعني أنها قصيرة فقال: { لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لغيرته } وقد فسر النبي  الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: { إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول بهته }.

وأما النميمة فهي نقل كلام الغير على وجه التحريش والإفساد وقد رود في الحديث: { لا يدخل الجنة قتات } أي نمام، [رواه مسلم] وورد في الحديث: { ألا أخبركم ما العضة هي النميمة القالة بين الناس } ولذلك قال بعض العلماء يفسد النمام في الساعة ما لا يفسد الساحر في السنة ولذلك ذم الله الذي يفعل ذلك بقوله:  همّاز مشّاء بنميم  وقوله تعالى:  ويل لكل همزة لمزة  وهو النمام وحيث ورد فيه الوعيد بانه لا يدخل الجنة فإنه يدل على أنه من الكبائر فننصح المسلم عن التعرض للغيبة والنميمة وجعل الأعراض فاكهة المجالس وأن يذب المسلم عن تعرض أخيه في غيبته حتى ينصره الله ويثيبه على نصر المسلمين والله أعلم [فضيلة الشيخ ابن جبرين].

0000000000000000

تحريم الغيبة والنميمة ـ تحريم التحايل على الأمور المحرمة والالتزام بأمر الله ورسوله

...أيها الناس اتقوا الله تعالى وعظموا حرمات الله واحترموا أعراض إخوانكم وذبوا عنها كما تذبون عن أعراضكم فإن من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن وجه النار يوم القيامة أيها المسلمون لقد شاع بين الناس داءان عظيمان كبيران وهما في نظر كثير من الناس أمران صغيران أما أحدهما فالغيبة يقوم الرجل فيذكر أخاه بما يكره أن يذكر به من عمل أوصفة فتجد أكبر همه في المجالس أن يعترض عباد الله كأن ما وكل بنشر معايبهم وتتبع عوراتهم ومن تسلط على نشر عيوب الناس وتتبع عوراتهم سلط الله عليه من ينشر عيوبه ويتتبع عورته تجده يقول فلان فيه كذا وفلان فيه كذا يصفهم بالعيب إما بالفسق أو بالكذب أو بالطول أو بالقصر أو بالسمن أو بالهزال أو بما أشبه ذلك مما يكره الإنسان أن يوصف به ولو فتش هذا القائل عن نفسه لوجد نفسه أكثر. . . . . . .

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الحمد لله الذي أوجب على المؤمنين أن يكونوا أخوة يتعاونون على البر والتقوى ويحمي بعضهم بعضاً في نفسه وماله وعرضه حتى يصلوا بذلك إلى الأخلاق العليا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماء وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والوفاء وعلى التابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى وسلم تسليما كثيرا .

أما بعد

أيها الناس اتقوا الله تعالى وعظموا حرمات الله واحترموا أعراض إخوانكم وذبوا عنها كما تذبون عن أعراضكم فإن من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن وجه النار يوم القيامة أيها المسلمون لقد شاع بين الناس داءان عظيمان كبيران وهما في نظر كثير من الناس أمران صغيران أما أحدهما فالغيبة يقوم الرجل فيذكر أخاه بما يكره أن يذكر به من عمل وصفة فتجد أكبر همه في المجالس أن يعترض عباد الله كأن ما وكل بنشر معايبهم وتتبع عوراتهم ومن تسلط على نشر عيوب الناس وتتبع عوراتهم سلط الله عليه من ينشر عيوبه ويتتبع عورته تجده يقول فلان فيه كذا وفلان فيه كذا يصفهم بالعيب إما بالفسق أو بالكذب أو بالطول أو بالقصر أو بالسمن أو بالهزال أو بما أشبه ذلك مما يكره الإنسان أن يوصف به ولو فتش هذا القائل عن نفسه لوجد نفسه أكثر الناس عيوباً وأسوأهم أخلاقاً وأضعفهم أمانة إن هذا الرجل المسلط على عباد الله لمشؤوم على نفسه ومشؤوم على جلسائه فهو مشؤوم على نفسه حيث قادها إلى الشر والبغي ومشؤوم على جلسائه لأن جليسه إذا لم ينكر عليه صار شريكاً له في الإثم وإن لم يقل شيئاً أيها المسلمون احذروا من الغيبة احذروا من سب الناس في غيبتهم احذروا من أكل لحوم الناس فلقد مثل الله ذلك بأقبح مثال مثل الله عز و جل من يأكل لحوم الناس بمن يأكل لحم أخيه ميتاً هل تجد أيها الإنسان هل تجد أقبح أو أبشع من شخص يجلس إلى أخيه الميت فيقطع جيفته قطعة، قطعة ويأكلها هل تجد أحد يمكن أن يطيق ذلك ألا أن الذي يغتاب الناس يطيق ذلك اسمع قول الله عز وجل(ولا يغتب بعضكم بعضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ)وإنه لا يبعد لا يبعد أن يعذب الإنسان الذي يسب أخاه في غيبته أن تقرب إليه جيفته يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا أيها المسلمون إن أمر الغيبة أمر عظيم وخطر جسيم إن كلمة تقولها في أخيك تعيبه بها لو مزجت بماء البحر لأثرت به فاتقي الله أيها المسلم ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال لجبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم أيها الناس أن بعض المغتابين الذين ابتلوا بالغيبة إذا نصحته قال لك أنا لم أقل إلا ما هو فيه ولكن هذا لا يخرجه من فعل الغيبة فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل له أرأيت إن كان في أخي ما تقول فقال (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) وإن من العجب أن أولئك الذين يغتابون الناس يقولون في إخوانهم ما لا يعلمون لو سألته فقلت له أتشهد عليه بما قلت عنه لقال لا أشهد أفلا يتقي الله أفلا يتقي الله هذا الذي قال ما لا يعلم أفلا يعلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أفلا يعلم إن الله قال( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) ألم يعلم هذا الذي قال في إخوانهم ما لا يعلم أنه فيهم ألا يعلم أنه سوف يحاسب عن كل كلمة قالها ألم يكن لا يرضى أن يقع أحد في عرضه فكيف يرضى أن يقع هو في أعراض الناس أما يخشى أن يفضحه الله في الدنيا قبل فضيحة الآخرة أيها المسلمون أن من العجائب أن يبتلى بهذا النوع من هذا الاعتداء على أعراض إخوانه المسلمين إن من العجب أن يبتلى به أقوام يحرصون على الصلاة ويتقدمون إليها وهم في أعماله الأخرى مستقيمون ولكنهم يهدون هذه الأعمال الصالحة يهدونها هنيئا مريئا إلى أولئك الذين يغتابونهم إن غيبة إخوانكم إهداء أعمالكم الصالحة إليهم فإنهم إذا لم ينتصروا في الدنيا أو يحللوكم أخذوا من أعمالكم الصالحة في الآخرة فإن فنيت أعمالكم الصالحة أخذ من أعمالهم السيئة فطرحت عليكم ثم طرحت في النار فاتقوا الله أيها المسلمون و اشتغلوا بعيوبكم لا بعيوب الآخرين وإذا كنتم صادقين في إخلاصكم ونصحكم فأصلحوا عيوب إخوانكم ولا تشيعوها وتشهروها أنا لا أقول أن الناس يسلمون من الخطأ لابد لكل إنسان أن يخطئ ولكن إذا رأيت من أخيك خطأ يقدح فيه فأذهب اليه وأنصحه بينك وبينه لتكون من الناصحين لا من الفاضحين أيها المسلمون هذا أحد الداءين الذين يتساهل فيهما كثير من الناس أما الداء الثاني فهو النميمة وهي الإفساد بين الناس بنقل كلام بعضهم في بعض يأتي الإنسان إلى الشخص فيقول قال فيك فلان كذا وكذا حتى يفسد بين الناس ويلقي العداوة بينهم والبغضاء وربما كان كاذباً في ذلك فيجمع بين البهتان والنميمة وإن الواجب على من نقل إليه أحد كلام أحد فيه أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك ويحذر منه وليحذر هو بنفسه من هذا الذي نقل كلام الناس إليه فإن من نقل كلام الناس إليك نقل إليهم كلامك وربما ينقل عنك ما لم تتكلم به يقول الله عز وجل ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة نمام ) ومر النبي صلى الله عليه وسلم بقبران يعذبان وقال (إن أحدهما لا يستنزه من البول وإن الأخر كان يمشي بالنميمة ) فاحذروا أيها المسلمون الغيبة والنميمة فإن بهما فساد الدين والدنيا وتفكك المجتمع وإلقاء العداوة والبغضاء وحلول النقم والجلاء وهم بضاعة كل بطال وإضاعة الوقت بالقيل والقال ولكن قد يقول قائل إذا كان المقصود بالغيبة نصيحة الخلق وتحذيرهم من أهل السوء فهل على في ذلك حرج والجواب على هذا أنه إذا كان المقصود بالغيبة نصيحة الخلق وتحذيرهم من أهل السوء فلا حرج على الإنسان أن يبين تلك العيوب في ذلك الرجل فإذا رأيت شخصاً ينشر أفكاراً هدامة أو يبث أخلاق سيئة أو يشيع تشكيك بين المسلمين في دينهم أو يفعل سواء ذلك من الأمور التي يخشى منها على عباد الله فذكرته بما فيه تحذيراً من شره ونصحاً للأمة وحماية للدين فلا حرج عليك في هذا بل ربما يكون واجباً عليك وهكذا إذا رأيت شخصاً يتملق لشخص مصانع له يأخذ ما عند فإذا أخذ ما عنده ذهب يفضح ما أسره وذكرت ذلك للشخص ليحذر منه فليس ذلك من نميمة وإنما هو نصيحة وهكذا إذا استشارك شخص في إنسان ليعامله أو يزوجه وأنت تعرف فيه نقص في دينه أو خلقه أو أمانته وجب عليك أن تبين ما فيه لمن استشارك ولا يعد ذلك من الغيبة بل هو من النصيحة والله يعلم المفسد من المصلح اللهم إنا نسألك أن تحمي ألسنتنا من القول الحرام وأن تحمي أعراضنا من دنس اللئام وأن تقينا شر أنفسنا وظلم أنفسنا وظلم غيرنا إنك جواد كريم والحمد الله رب العالمين وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . والحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد

أيها الناس فإننا في الجمعة الماضية تكلمنا على كثير من أحكام الربا وقد أشكل على بعض الناس بعض الأمور التي صاروا يتسألون عنها فمنها هل يجوز للإنسان أن يبيع سيارة بسيارتين أو أن يبيع سيارة قديمة بسيارة جديدة ويزيد ثمناً والجواب على هذا أن ذلك جائز لا بأس أن تبيع سيارة بسيارتين ولو إلى أجل ولا بأس أن تبيع سيارة بسيارة مع دفع الفرق في القيمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر بن العاص أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل فصار يأخذ البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة إلى أبل الصدقة وهكذا لو أبدلت شيئاً لا يجري فيه الربا بشيء أخر أكثر منه عدداً أو أحسن منه كيفية مع زيادة الفرق فإن ذلك لا بأس به فلو تبادل رجلان في بيتيهما وزاد أحدهما الأخر فلا حرج في ذلك ولو تبادلا في ساعتيهما فزاد أحدهما الأخر فلا حرج في ذلك لأن الذي يجري فيه الربا إنما هو الذهب والفضة وما كان مطعوماً مكيلاً مثل البر والتمر والشعير والرز وغير ذلك مما يؤكل ويدخر وأما ما ليس كذلك مثل التفاح والفواكه وكذلك المصنوعات على اختلاف أنواعها ماعدا الذهب والفضة فكل ذلك ليس فيه ربا يجوز فيه التفاضل ويجوز فيه التأجيل ولهذا لو بعت سيارة بنقد وبعتها بثمن مؤجل مقسط فلا حرج عليك في هذا إلا إذا كنت قد اتفقت مع الرجل أن يشتري لك سيارة ثم يدينك إياها فإن هذا لا يجوز لأنه حيلة على الربا والحيلة على الأمور المحرمة لا تقلبها حلالاً بل تزيدها شدة وقبحا ولعل بعضكم يعرف ما جرى لبني إسرائيل حين تحيلوا على ما حرم الله عليهم فماذا صنع الله بهم حرم الله على بني إسرائيل أن يصطادوا السمك في يوم السبت فابتلاهم الله عز وجل فصار السمك يأتي يوم السبت بكثرة حتى إنه يأتي شرعاً على وجه الماء ولكنه في بقية الأسبوع لا يأتي فتحير أولئك اليهود فقالوا ماذا نصنع إذا كان يوم السبت جاء السمك ونحن ممنوعون من صيده فجعلوا شبكة يضعونها يوم الجمعة فيأتي السمك يوم السبت فيدخل إلى الشبكة فإذا كان يوم الأحد جاءوا فأخذوا السمك تحيلاً على محارم الله عز وجل وخدعوا أنفسهم فقالوا إننا لم نصده يوم السبت وإنما صاده الشبك يوم الجمعة وجئنا يوم الأحد فأخذناه فماذا قال الله فيهم قال الله عز وجل ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى قصة أخرى فعلها اليهود تحيلاً على محارم الله حرم الله عليهم الشحوم فماذا صنعوا صاروا يذيبون الشحم ثم يبيعونه ودكاً ويأكلون ثمنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ( قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) فهؤلاء الذين يتحلون على الربا ببيع صوري لا حقيقة له هؤلاء لا ينفعهم هذا التحيل عند من لا تخفى عليه خافية لا ينفعهم ذلك التحيل عند من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور لا ينفعهم التحيل حينما يبعثون يوم القيامة فتبلى ما في سرائرهم لا ما يعملونه على ظواهرهم في الدنيا استمع قول الله عز وجل ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) واستمع إلى قول الله عز وجل ( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) فالحساب يوم القيامة على ما في قلبك المصدق لعمل فتحايلك على محارم الله لا يزيدك من المباح إلا بعدا ولا يزيدك في المحرم إلا إثما أسال الله أن يجعل رزقي ورزقكم حلالاً طيبا ينفعنا ويعيننا على طاعة الله ونسلم من قائله وشره إذا نحن فارقناه أو فارقنا اللهم ارزقنا حلالاً طيباً يعيننا على طاعتك وتكفينا به عن خلقك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون، لا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم إن مما عاهدكم الله عليه أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتلتزموا بطاعته وطاعة رسوله وأظنكم الآن فهمتم أن بيع السيارات ونحوها بالتأجيل ينقسم إلى قسمين أحدهما أن تكون السيارة موجودة عندك وفي ملكك فتبيعه على إنسان بأجل مقسطة فهذه لا بأس بها أما إذا كانت السيارة ليس عندك ولكنه جاء يطلب منك أن تدينه فذهبت واشتريت له ولولاه لم تشتري فإن هذا حيلة على الربا فلا يجوز أسال الله لي ولكم العصمة من ذنوبنا وأن يغفر عنا ما فعلنا إنه جواد كريم والحمد لله الرب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

----------------------

الظلم ظلمات في الآخرة ونزع للبركات في الدنيا

الحمد الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما كما جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا"؛ وصلى الله وسلم وبارك على نبي الرحمة القائل محذرا من دعوة المظلوم: "واتقوا دعوة المظلوم فإنها ليست بينها وبين الله حجاب".

وبعد..

فإن الظلم عاقبته وخيمة، ولا يصدر إلاَ من النفوس اللئيمة، وآثاره متعدية خطيرة في الدنيا والآخرة؛ وإذا تفشى الظلم في مجتمع من المجتمعات كان سببا لنزع البركات، وتقليل الخيرات، وانتشار الأمراض والأوجاع والآفات.

والظلم قبيح من كل الناس ولكن قبحه اشد وعاقبته أضر إذا صدر من ولاة الأمر نحو رعاياهم، حيث يصعب رفعه عنهم وإزالته منهم، لما للحكام من السطوة والأعوان، ولأن من أهم حقوق الرعية على الرعاة دفع الظلم عنهم، وحماية الضعفاء من جور الأقوياء، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه عندما ولي الخلافة: "الضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه"، أوكما قال.

وظلم ولاة الأمر يُجَرِّئ اتباعهم وأعوانهم على الظلم ويدفعهم إليه دفعا لما لهم من المكانة والحظوة واستقلال النفوذ.

إذا كان رب البيت للدف ضارباً         فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

لقد انتبه بعض الحكام الكفار لخطورة الظلم فخافوه وهابوه، لآثاره الظاهرة  ومضاره الواضحة في الدنيا قبل الآخرة، من نزع البركات وقلب النعم نقمات، بمجرد إضمار السوء وإبطان المكر، قبل إعلانه والإفصاح عنه.

روى المنذري في الترغيب والترهيب، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن ملكاً من الملوك خرج من بلده يسير في مملكته مستخفٍ من الناس، فنزل على رجل له بقرة، فراحت عليه تلك الليلة البقرة، فحلبت مقدار ثلاثين بقرة، فعجب الملك من ذلك، وحدث نفسه بأخذها؛ فلما كان من الغد غدت البقرة إلى مرعاها ثم راحت فحلبت نصف ذلك؛ فدعا الملك صاحبها وقال له: أخبرني عن بقرتك لِمَ نقص حلابها؟ ألم يكن مرعاها اليوم مرعاها بالأمس؟ قال: بلى، ولكن أرى الملك أضمر لبعض رعيته سوءاً فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم، أوهمَّ بظلم ذهبت البركة؛ قال: فعاهد الله الملك ربه أن لا يأخذها و لا يظلم أحدا؛ قال: فغدت ورعت ثم راحت فحلب حلابها في اليوم الأول؛ فاعتبر الملك بذلك وعدل؛ وقال: إن الملك إذا ظلم أوهمَّ بظلم ذهبت البركة، لا جرم لأعدلنّ ولأكونن على أفضل الحالات".

وذكره ابن الجوزي رحمه الله  في كتاب "مواعظ الملوك والسلاطين" على غير هذا الوجه، قال: "خرج كسرى في بعض الأيام للصيد، فانقطع عن أصحابه وأظلته سحابة، فأمطرت مطرا شديداً حال بينه وبين جنده، فمضى لا يدري إلى أين يذهب، فانتهى إلى كوخ فيه عجوز، فنزل عندها، وأدخلت العجوز فرسه، فأقبلت ابنتها ببقرة قد رعتها فاحتلبتها، ورأى كسرى لبنها كثيراً، فقال: ينبغي أن نجعل على كل بقرة خراجاً، فهذا حلاب كثير؛ ثم قامت البنت في آخر الليل لتحلبها فوجدتها لا لبن فيها  فنادت: يا أماه قد أضمر الملك لرعيته سوءاً؛ قالت أمها: وكيف ذلك؟ قالت: إن البقرة ما تبز بقطرة من لبن؛ فقالت لها أمها: اسكتي، فإن عليك ليلا؛ فأضمر كسرى في نفسه العدل والرجوع عن ذلك العزم، فلما كان آخر الليل قالت لها أمها: قومي احلبي؛ فقامت فوجدت البقرة حافلا، فقالت: يا أماه قد والله ذهب ما في نفس الملك من السوء؛ فلما ارتفع النهار جاء أصحاب كسرى فركب، وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما ، وقال : كيف علمتما ذلك ؟ فقالت العجوز: أنا بهذا المكان منذ كذا و كذا، ما عمل فينا بعدل إلا أخصبت أرضنا، واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجور إلا ضاق عيشنا وانقطعت موارد النفع عنا".

وذكر الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك": "أنه كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب تمراً، ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك، فغصبها السلطان، فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة".

وذكر ابن خلكان في ترجمة جلال الدولة ملك شاه السلجوقي، أن واعظاً دخل عليه، فكان من جملة ما وعظه به أن بعض الأكاسرة اجتاز منفردا عن عسكره، على باب بستان فتقدم إلى الباب، وطلب ماء ليشربه، فخرجت له صبية بإناء فيه ماء قصب السكر والثلج، فشربه فاستطابه، فقال لها: هذا كيف يعمل؟ فقالت إن القصب يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء؛ فقال: ارجعي واعصري شيئا آخر؛ وكانت الصبية غير عارفة به، فلما ولت قال في نفسه: الصواب أن أعوضهم غير هذا المكان وأصطفيه لنفسي؛ فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت إن نية السلطان قد تغيرت؛ قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا بغير تعب، والآن قد اجتهدت في عصره فلم استطع؛ فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فإنك تبلغين الغرض؛ وعقد في نفسه أن لا يفعل ما نواه، فذهبت ثم جاءت ومعها ما شاءت من ماء القصب، وهي مستبشرة.

قال وكان ملك شاه من أحسن الملوك سيرة، حتى لقب بالملك العادل، وكان قد أبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد فكثر الأمن في زمانه".

آثار العدل من ولاة الأمر الإيجابية من بسط الأمن، والبركة في الأرزاق والأقوات والأوقات من ناحية، وآثاره السلبية من نزع للبركات، ومحق في الأقوات والثمرات والأوقات من ناحية أخرى، ظاهرة مشاهدة جلية، كما دلت على ذلك الأخبار السابقة والآثار السالفة

إذا انتبه بعض الملوك الكفار لأهمية العدل وخطورة الظلم لبعض المشاهدات، فحري بالحكام المسلمين أن يعوا ذلك ويفهموه للأخبار الصحيحة الصريحة التي وردت عن صاحب الشريعة، والسيرة المضيئة التي سلكها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون من هذه الأمة في عصور الإسلام المختلفة، حيث كان العدل رائدهم والإنصاف مقصدهم.

ولم يكن عدلهم هذا قاصراً على المسلمين، بل شمل أهل الذمة والمعاهدين و نحوهم، بينما نجد اليوم بعض الحكام المسلمين ينالون من بعض إخوانهم المسلمين ما لم ينله منهم الكفار المعاندون، بل إن بعض المسلمين حرموا من أوطانهم وأولادهم ولم يجدوا مأوى لهم إلا في ديار الكفار.

فكل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله، ولا ينبغي للحكام ولا لغيرهم أن ينالوا من ذلك شيئا إلا بحق الإسلام.

عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم :"لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"؛ وعن عائشة كذلك ترفعه: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين"؛ وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد."

فاحذر أخي المسلم، حاكما كنت أو محكوماً، من الظلم، والغش، والتعدي على حقوق الآخرين؛ وأعلم أنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى يقتص منك، فإن دعتك قدرتك اليوم وسطوتك على ظلم الآخرين فتذكر قدرة الله عليك يوم القيامة، واعلم أن أخطر أنواع الظلم بعد الإشراك بالله ظلم العلماء والأولياء، فقد أعلن الله حربه على من عاداهم: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".

بالعدل قامت السموات والأرض، وبالعدل يصلح الراعي والرعية، وبالعدل تسعد البشرية وتأمن الرعية.

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوم من إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون الأرض إليه".

وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز: "إن مدينتنا قد احتاجت إلى مرمَة، فكتب إليه عمر: حصن مدينتك بالعدل ، ونق طرقها من المظالم".

وقال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء"، فقال عمر: "إلا من حاسب نفسه"؛ فقال كعب: "والذي نفسي بيده إنها لكذلك: إلاَ من حاسب نفسه ، ما بينهما حرف"، يعني في التوراة.

ومن الأمثال السائدة في السلطان: إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة؛ لا صلاح للخاصة مع فساد العامة؛ لا نظام للدهماء مع دولة الغوغاء؛ الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم.

وقال مجاهد: المعلم إذا لم يعدل بين الصبيان كتب من الظلمة.

والله أسأل أن يجنبنا وجميع إخواننا المسلمين الظلم، وأن يوفقنا للعدل والإنصاف، في الشدة والرخاء، والرضا والغضب، وأن يصلح الرعاة والرعية، وأن يؤمن المسلمين في أوطانهم، وأن لا يسلط عليهم عدواً من غير أنفسهم، وأن يقيهم شر أنفسهم، و صلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً؛ والسلام

----------------------

احذر أخي الكريم مبطلات الأعمال، فليس كل  عمل يتقبل "إنما يتقبل الله من المتقين"

أخطر مبطلات الأعمال

أولاً: الشرك

ثانياً: مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات

ثالثاً: الرياء والسمعة

رابعاً: التعدي على الآخرين وظلمهم

 

لقد خلقنا الله لعبادته، وحذرنا مغبة شركه ومعصيته، فقال: "وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون"، وقال: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً"، وقال: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، وبيَّن رسوله صلى الله عليه وسلم حق الله على العباد، وهو أن يعبدوه ولا يشركوه معه غيره، وحقهم عليه إن هم فعلوا ذلك بأن يدخلهم الجنة، فمن وحَّد الله فقد عبده، ومن أشرك معه غيره فقد كفره، فالمؤمنون الصادقون هم الذين يوحدون الله في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، والكافرون المعاندون هم الذين يوحدون الله في الشدة والبلاء، دون النعمة والرخاء: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين"، "وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون"، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصين الخزاعي والد عمران بن الحصين رضي الله عنهما: عند الشدة من تدعو؟ وكان له سبعة آلهة، ستة في الأرض وإله في السماء وهو الله عز وجل، فقال: أدعو الذي في السماء؛ أو كما قال، لكن بعض المنتسبين إلى الإسلام اليوم عند الشدة والرخاء يدعون غير الله، كما صوَّر ذلك أبوالسمح رحمه الله، وكان إماماً للحرمين الشريفين:

ولقد أتى في الذكر أن دعاءهم             في الكرب كان لربنا الرحمن

وإذا دنا فرجٌ وشامـوا برقـه              عادوا إلى الكفران و الطغيان

لكن قومي في الرخـاء وضده              يدعـون غيـر الله بالإحسان

يدعون أمواتاً غدو تحت الثرى              ما إن لهم في الورى من شان

واللهُ كاشفُ كلِّ كربٍ قــادرٌ              وسواه ذو عجز فقيـرٌ  فـان

ومن فضل الله على العباد أنه لم يحصر العبادة في الصلاة، والصوم، والحج، ونحوها، وإن كانت هي أجلها، بل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات عبادة، ومع ذلك فإن حظ ونصيب كثير من الخلق من هذه العبادة قليل جداً، بل أقل من القليل وأدنى من النذر اليسير، وليت هذا القليل اليسير سالم من المبطلات، ومعافى من المفسدات، ومستوفي لشروط العبادات، ومدخر لصاحبه بعد الممات، ولكن هيهات هيهات، فليس كل عمل يتقبل، ولا كل دعاء يُسمع: "إنما يتقبل الله من المتقين"، أما المشركون فأعمالهم حابطة، وحسناتهم ضائعة، وتجارتهم كاسدة خاسرة: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً"، "لئن أشركتَ ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين".

وبعد..

فهذه إشارات وتنبيهات عن أخطر مبطلات الأعمال، ومفسداتها، ومذهبات أجورها وثوابها، دونتها نصيحة لنفسي ولمن يطلع عليها من إخواني المسلمين، إذ لا أعلم أحداً أشد حاجة إليها من كاتبها ومسطرها، ولكن رجائي فيمن سبقت رحمتُه غضبَه، وعفوه أكبر من سخطه، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

أخطر مبطلات الأعمال

مبطلات الأعمال كثيرة جداً، ولكن سأشير في هذه العجالة إلى أعمها، وأجلها، وأخطرها، وأشأمها، فأقول:

أولاً: الشرك

تعريفه

هو الذنب الذي لا يغفره الله ولا يتجاوز عنه بعد الممات، وهو أن يتخذ المرء مع الله نداً أوشريكاً يصرف إليه شيئاً من العبادة، نحو الدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وما شاكلها، فمن دعا أواستغاث بغير الله، أواتخذ واسطة بينه وبين الله فقد أشرك، ومن ذبح أونذر لغير الله، أوخاف أورجا غير الله، أواعتقد النفع والضر من غير الله فقد كفر، ومن تحاكم لغير شرع الله فقد أشرك.

أخطر صور الشرك على الإطلاق الدعاء والاستغاثة، لأن الدعاء هو العبادة كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما يُطلق الشرك يراد به الشرك الأكبر.

مخاطره

للشرك ثلاثة مخاطر كبرى، وثلاث دواهٍ عظمى، هي:

1.  أنه محبط لجميع الأعمال، لقوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين"، وقال: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً".

2.  أنه يخلد صاحبه في النار بحكم الله عز وجل: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، لو أتيتني بقُرَاب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة ـ إلى أن قال: فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه وبلسانه وبجوارحه، أوبقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية).

وقد صح عنه قوله: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل لاجنة"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار"، أي بمفهوم المخالفة.

3.  يحرم صاحبه من شفاعة سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، قال تعالى: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين"، إذ الشفاعة يوم القيامة ملك لله عز وجل، فلا يشفع أحد في أحد: "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولاً".

فاحذر أخي الكريم الشرك في القول، والعمل، والاعتقاد، واعلم أنه لن ينفع مع الكفر والشرك طاعة؛ قال المفسر ابن عطية رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "إنما يتقبل الله من المتقين": (المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة، فمن اتقاه فهو موحد، فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من لقبول والختم بالرحمة، علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاً).

ثانياً: مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات

العبادات توقيفية، لا يصح الزيادة عليها ولا النقصان منها، ولها شرطا صحة هما:

1.  الصدق.

2.  وموافقة السنة.

ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى:" ليبلوكم أيكم أحسن عملاً": أصدقه وأصوبه؛ قيل له: ما أصدقه وأصوبه؟ قال: أن يكون العمل صادقاً لله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي أن المحدث المبتدع عمله مردود عليه، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، أي لا فرضاً ولا نفلاً؛ ولهذا قال مالك: ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، ومن ابتدع بدعة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ وعندما قال رجل لمالك: أريد أن أحرم بالحج من المسجد النبوي، قال له: لا تفعل، بل أحرم من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلا عليه قوله تعالى: "وليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"؛ وقد فسر الإمام أحمد الفتنة في الآية بالشرك، وذلك لمن رد ودفع سنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال في حجة الوداع: "لتأخذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا"، وعندما أساء الرجل في صلاته وصلى صلاة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم، أمره بالإعادة ثلاث مرات، ولم يسأله عن نيته، لأن صلاته باطلة بمخالفتها لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لا تنفعها بعد ذلك نية صادقة.

فالحذر الحذر من الابتداع في الدين، ومن مخالفة الصراط المستقيم، والسبيل القويم الذي تركنا عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم، واعلم أنه ليست هناك بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة بحكم الصادق المصدوق، وإن تفاوتت في ضلالها.

وخير أمور الدين ما كان سنة            وشر الأمور المحدثات البدائع

فمن نجا من الأعمال من الشرك حبط بمخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فالخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً.

اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.

ثالثاً: الرياء والسمعة

الرياء هو الشرك الأصغر كما بيبنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والرياء محبط للعمل المصاحب له لأن الله أغنى الشركاء، كما صح ذلك في الحديث القدسي: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".

ومما يدل على خطورة الرياء أن أول من تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة جماعة من المرائين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرَّفه نعمته، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت؛ قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء! فقد قيل؛ ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرَّفه نعمته فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ القرآن وعلمته، وقرأت فيك القرآن؛ قال: كذبتَ، ولكنك تعلمت ليقال عالم! وقرأتَ القرآن ليقال هو قارئ! فقد قيل؛ ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار؛ ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك؛ قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال هو جَوَاد! فقد قيل؛ ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار".

يا ترى هل هناك أفضل من تعلم القرآن، والعلم، والجهاد بالنفس، والتصدق بالغالي والنفيس؟ لا أعتقد، ولكن كل هذه الأعمال الجليلة والعبادات النبيلة بطلت وخسر أصحابها بسبب الرياء والسمعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به".

كان السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم يخافون الشرك والرياء والنفاق، فقد سأل عمر رضي الله عنه حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين: ناشدتك بالله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؟ قال: لا؛ أوكما قالا، وقال ابن أبي مليكة رحمه الله: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلاً يخشى على نفسه من النفاق.

فما الذي أخاف السلف وأزعجهم وطمأننا نحن سوى العطالة، والبطالة، والعجز، والغفلة، وطول الأمل، وحب الدنيا؟!

قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني؛ فقال: "إن الله لا يقبل من العمل ما شورك فيه".

رابعاً: التعدي على الآخرين وظلمهم

من المحبطات المفسدات للأعمال الصالحات يوم القيامة ظلم الآخرين والتعدي عليهم، فكل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه.

فإذا سلم عمل المرء من الشرك، ومخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن السمعة والرياء، فقد يبطله ويفسده ويذهب به تعديه على الآخرين وظلمه لهم، فمن كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منه اليوم قبل غدٍ، قبل أن يكون الحساب والقصاص بالحسنات والسيئات.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أومن شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فُنِيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".

وقد صح عنه كذلك كما روى ابن عمر رضي الله عنهما: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً".

فهذا هو الإفلاس الذي ليس بعده إفلاس، وهذا هو الخسران الذي ليس بعده رجحان، فقد يكون الإنسان غنياً في الدنيا مفلساً في الآخرة، وقد يكون ذليلاً ضعيفاً في الدنيا عزيزاً مكرماً في الآخرة، لاختلاف الموازين بين الدارين، فمن بَطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه كما أخبر الصادق المصدوق، وأصحاب المظالم هؤلاء يوم القيامة لا فرق فيهم بين قريب وبعيد، ولا صديق وعدو، فالكل يريد حقه، فالوالد يريد حقه من ولده وكذلك المولود، والزوج يريد أن ينال جميع حقه من زوجته وكذلك الزوجة: "يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور"، "يوم يفرُّ المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه"، "ولا يسألُ حميمٌ حميماً يُبصَّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه".

ولله در القحطاني حين قال في نونيته واصفاً بعض أهوال القيامة:

يوم القيامة  لو علمتَ بهوله            لفررتَ من أهلٍ و من أوطانِ

يوم تشققت السماء  لهـوله            وتشيبُ فيه مفـارقُ الولـدانِ

يوم عبوسٌ قمطريرٌ شـره             في الخلق منتشر عظيم  الشأن

والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا وأعمالنا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا ممن آثر الآخرة على الأولى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً"، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى ورسول الملحمة، وعلى آله، وصحبه, والتابعين لهم إلى يوم اللقاء.

---------------------

حظوظ النفس

عبدالملك القاسم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن تربية النفس وتزكيتها أمر مهم غفل عنه أمة من الناس، ومع انتشار الخير وكثرة من يسلك طريق الاستقامة ويعمل في حقل الدعوة إلا أن البعض يروم الصواب ولا يجده، وينشد الجادة ويتيه عنها، تقطعت به السبل وانبرى له الشيطان فاتخذه مطية له ومركباً سهلاً يسير به في لجج الرياء والسمعة والعجب و المباهاة، ظلمات بعضها فوق بعض.

ولقتل حظوظ النفس هذه، لابد من التمسك بالإخلاص الذي هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام، قال تعالى:  وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ  [البينة:6].

وقال الله عز وجل:  الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  [الملك:2].

قال الفضيل بن عياض:( هو أخلصه وأصوبه ).

قال  في الحديث العظيم الذي هو أصل من أصول الإسلام: { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..} [ رواه البخاري ومسلم ]. وقال  : { ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } [رواه الترمذي].

قال ابن تيمية رحمه الله: ( إن الإخلاص أهم أعمال القلوب المندرجة في تعريف الإيمان، وأعظمها قدراً وشأناً، بل إن أعمال القلوب عموماً أكبر وأهم من أعمال الجوارح، ولا يغتر المسلم فإن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة له ولا ثواب، بل صاحبها متعرض للوعيد الشديدالشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير وقتال الكفار وغيرها ).

وحتى هذا العلم الذي ينفع الله به البلاد والعباد إذا لم يكن صاحبه صادق الإخلاص لله عز وجل في طلبه، ثم في بذله فإنه متوعد يوم القيامة على لسان رسول الله  : { من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ( يعني ريحها ) يوم القيامة } [رواه أبو داود].

ومن صور تلك الحظوظ المهلكة:

أولاً: محبة المدح والثناء: فتراه يطل برأسه وترتفع هامته وتشرف نفسه إلى صوت مادح، أو ثناء في مجلس.

قال الحسن بن زياد: ( لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يُخبر عن عمله، لعله يكون كثير الطواف، فيقول: ما كان أحلى الطواف الليلة، أو يكون صائماً فيقول: ما أثقل السحور، وما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، إن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغاً قالوا ليس يُحسن يُحدث، وليس صوته بحسن، أحزنك وشق عليك، فتكون مرائياً، إذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم ).

ثانياً: كثرة الحديث عن أعماله وما لاقاه من كد وتعب ونصب، وهذه قد يكون ظاهرها محبة هذا الدين وبث الحماس لكنها في قرارة النفس إبراز أعمال الشخص وما يلاقيه في سبيل الدعوة، رغبة في رفع مقامه لدى الناس وتصيد قلوبهم وكسب ثنائهم.

قال القرطبي رحمه الله: ( حقيقة الرياء طلب ما فيالدنيا بالعبادة وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس ).

ثالثاً: نسبة عمل الجماعة إليه، فتراه يُحب أن يظهر أمام الروؤساء والمديرين على أنه الرجل الذي قام بالعمل، وهو صاحب الفكرة، وهو الذي أشار بالأمر ! وقد يستمر به مسلسل الادعاء حتى يقع في خطر أعظم وهو نسبه أعمال إليه لم يقم بها، وينطبق عليه قول الله تعالى:  لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  [آل عمران: 188].

رابعاً: ذم النفس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم، ويمدحونه به وتنطلق الألسنة تثني على تواضعه وما أزهده وما أنبله !! وهو والله ما أهلكه.

خامساً: التحدث بكثرة الداخلين عليه والخارجين منه، وأنهم لم يتركوا له وقتاً للقراءة وهذه من تلبيس إبليس على العاملين، فتراه يتحين الفرص للجواب عن سؤال عن القراءة أو الإنتاج العلمي ليخبرك أنه مشغول مع الناس و كثرة سوادهم لديه وأنه مقصد لهم، ولهذا ضاعت عليه الساعات الطوال!

قال سعد بن عبدالله: ( نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى، لا يما زجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا ).

سادساً: العجب بالنفس، وأعمالها وتفانيها في خدمة الناس وأنه قدّم وقدّم، وفكر وقدر، ومساء البارحة لم تكتحل عينه بالنوم هماً وغماً لحال المسلمين، فرحم الله حصين بن عبد الرحمن عندما قال: ( أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ).قال مسروق: ( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله ).

وقال عبد الله بن المبارك في تعريف العجب: ( أن ترى الناس عندك شيئاً ليس عند غيرك ).

وقال ابن القيم في الفوائد: ( لاشيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس، ولاشيء أصلح لها من شهود العبد منّة الله وتوفيقه والاستعانة به والافتقار إليه وإخلاص العمل له ).

وتأمل في حال من أعجبته نفسه في حلة لبسها، قال  : { بينما رجل يتبختر في حلة قد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة } [متفق عليه].

سابعاً: إستغلال الفرص لإبراز الأعمال، فإن ذكرت آسيا فهو الخبير بها، وإن ذكرت أفريقيا قال: لي عشر سنوات وأنا أذهب إليها سنوياً مرة أو مرتين، وإن كان الحديث عن أوروبا فإنه هو الذي دفع بالشباب ليذهبوا هناك حيث الدعوة والإغاثة، وأنهم وافقوا بعد جهد وعناء بذله!

وإن تحدثوا عن الفقراء، فهو العليم بأحوالهم المتابع لأخبارهم، ثم يسرد لك ما يعرف وما لا يعرف.

وإن كان من أهل مغاسل الأموات بدأ حديثه بخمسة عشرة جنازة غسلها في يوم واحد، ثم نقلك بحديثه إلى السدر والكافور لكنه ليس مذكراً ومخوفاً! بل مدعياً مباهياً.

والآخر ممن يعملون في نُصح الناس يسرد لك الأمر سرداً، ثم يضاعف الأرقام مضاعفة عجيبة وكيف اهتدوا على يديه! و‍ نسي المسكين أن الأمة هداها الله عز وجل على يد رجل واحد  ، وأن أبا بكر -  - أسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة. هذا قبل الهجرةفحسب، فأين الثرى من الثريا؟!

ثامناً: ذكر تقدير العلماء والمشايخ له، وأن فلاناً من طلبة العلم خصني بحديث لا يعرفه أحد، وأن فلاناً من العلماء سألني عن كذا وكذا وقام وودعني بنفسه! وسلسلة الخرز هذه طويلة إذا انقطعت!

قال محمد بن واسع: ( إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به ).

تاسعاً: ذم الآخرين لإبراز نفسه ووجهة نظهره، فلو كنت مكان فلان ما فعلت، ولماذا الاستعجال، الأمور تؤخذ بعقل.. ثم يسرد لك موقفاً يظهر فيه نفسه وكيف تصرف بحكمة واتزان وأنهى الأمر حسب ما يراه!

قال بعض العلماء: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور.

وفي وسط هذه المهلكات - والعياذ بالله - تبرز صور مشرقة لأهل الإيمان ممن قتلوا حظوظ النفس.. فما أجمل صورة ذلك المؤمن الذي يعمل ويكره أن ينسب إليه شيء، وما أعظم من يجد ويجتهد ولا يرى نفسه إلا أنها حقيرة في جنب الله، بل ما أعظم من كتم حسناته كما يكتم سيئاته!

ولأهل الدعوة يقول ابن الجوزي: ( ما أقل من يعمل لله تعالى خالصاً، لأن أكثر الناس يحبون ظهور عبادتهم، اعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه من قلوبهم بالعمل وإخلاص القصد وستر الحال هو الذي رفع من رفع ).

ولأهل الآخرة قال سهل بن عبد الله: ( ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص لأنه ليس لها في نصيب ).

أخي المسلم: كان الحسن يقول: ( روي أنه من قَبِلَ الله تعالى من عمله حسنة واحدة أدخله بها الجنة، قيل: يا أباسعيد: فأين تذهب حسنات العباد؟ فقال: إن الله عز وجل إنما يقبل الخالص الطيب المجانب للعجب والرياء، فمن سلمت له حسنة واحدة فهو من المفلحين ).

عاشراً: لإظهار النفس ترى البعض إذا عُرض عليه عمل وإن كان يسيراً اعتذر مباشرة وله الحق إن شاء ذلك، لكن أن يعتذر بادعاء كثرة الأعمال والانشغال وتعدد الارتباطات و..! بل أصبح الادعاء بكثرة الأعمال موضة ظاهرة على ألسن بعض الناس، ومن الطرائف أن رجلاً خطب امرأة وذكر لها أنه مشغول بأمر الدعوة وأسهب في ذلك وقد لا يجد الوقت لإعطائها حقها. فردته وقالت إما أنه كاذب أو مراء. كاذب يدعي، أو يراءي ليرتفع في عيني، وإلا أين هو من رسول الله  وأين هو من العلماء العاملين؟!

الحادي عشر: أحدهم يزور مكتباً للدعوة دقائق معدودة كل ثلاثة أشهر، وكلما جلس مجلسا ًتحدث عن المكتب و أعماله وإنجازاته وتسيد الحديث وكأنه المسؤول الأول عن المكتب فيظهر دقيق الأمور وجليلها، ثم يطرح ما قرأ من مشاريع وطموحات ليوهم أنه يحمل هم الدعوة وأنه يجد مشقة في التردد على المكتب.

الثاني عشر: هناك من تستشرف نفسه لدرع يقدم له أو شهادة شكر تصل باسمه! ويصغي بسمعه أن يُثنى عليه وعلى جهده! ويتحدث ويكتب عن سيرته ماذا قدم وفعل؟!

كل عملك الذي تقدمه فهو قليل في جنب الله وإن ظهر لك مثل الجبال. فاجمع على قلبك الخوف والرجاء وتذكر قول ابن عوف: ( لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل عنك أم لا؟! إن عملك مغيب عنك كله ).

واحفظ عملك بالإخلاص، واكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك، وأبشر بخير عظيم إذا قصدت وجه الله عز وجل، يقول ابن تيمية في هذا الشأن: ( والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة، فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم يقولون التوحيد، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة ). ثم ذكر - رحمه الله - حديث المرأة البغي التي سقت كلباً فغفر الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، ثم قال: ( فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها. فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال ).

أخي المسلم: أسباب الرياء وبواعثه ترجع إلى ثلاثة أصول:

الأول: حب لذة الحمد والثناء من الناس.

الثاني: الفرار من الذم.

الثالث: الطمع بما في أيدي الناس من مال أو جاه وغيره.

وهذه الأمراض خطيرة على الإنسان وربما تكون سبباً في سوء خاتمته لأن ظاهره مخالف لباطنه - والعياذ بالله.

وليتذكر أحدنا قول الحسن: ( رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من الناس. ابن آدم؛ إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك ).

جعل الله أعمال الجميع صواباً خالصة لوجهه الكريم، لا رياء ولا سمعة، ولا عجب ولا منة، بل المنة والفضل لمن هدى ووفق وأعان وسدد جل وعلا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

0----------------

احذروا أبنائي الطلاب والطالبات شهادة الزور

صور الغش لدى الطلاب

الأضرار المترتبة على الغش

أسباب انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات

عوامل يمكن أن تحد من عملية الغش

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

لقد أمر الله عباده المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، ونهاهم أشد النهي وحذرهم أعظم التحذير عن التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، فقال عز من قائل: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب".

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الغش بكل صوره وأنواعه، في كل الأمور، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، ونفَّر منه تنفيراً شديداً، فقال: "من غشنا فليس منا".

من صور الغش التي عمت بها البلوى في هذه الأيام الغش في الامتحانات، والتستر على مقترفيه، وسبب ذلك يرجع إلى قلة اليقين، وجهل ونقص في الدين، وانعدام الحياء الذي هو سمة عباد الله الصالحين.

والغش من الصغار طلاباً وتلاميذ حرام وقبيح، ولكن حرمته تكون أشد وقبحه يتأكد إذا كان على مسمع ومرأى من الكبار، من المعلمين المربين، أو نتيجة إهمال وتقصير في المراقبة، أوبسبب غض الطرف عن مقترفيه، أوالتسامح والتساهل في عقوبة من يمسك متلبساً بذلك، وكذلك يتأكد قبحه وتزداد حرمته من طلاب الجامعات، سيما طلاب الدراسات الشرعية والعربية.

واعلموا أبنائي الكرام، وليعلم أولياؤكم من قبل، أن الشهادة التي ينالها الطالب بسبب الغش والتزوير بأي صورة من الصور هي شهادة زور، وعلى حاملها إثم شاهد الزور، ومن ثم فإن أي وظيفة ينالها أوكسب ومال يحصل عليه نتيجة هذه الشهادة المزورة فهو حرام، وكسبه هذا كسب خبيث، وشهادة الزور من الموبقات الكبائر، بل من أعظمها، فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الكبائر فيكم؟ قلنا: الشرك بالله، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر؛ قال: "هن كبائر، وفيهن عقوبات، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى؛ قال: شهادة الزور"؛ وقد روي عنه كذلك أنه قال: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله"، ثلاث مرات، ثم تلا: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور".

الطالب الذي يغش فقد اقتطع حق غيره من المسلمين، وتزيى بثوبي زور، فإثمه إثم من نال مال غيره بيمين غموس، وهي التي تغمس صاحبها في النار، كما أخبر الصادق المصدوق وهو يعدد الكبائر: "ثم اليمين الغموس؛ قال: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب".

فالغاش خائن ظالم لنفسه، ظالم لإخوانه الطلاب ولأهليهم، ظالم لمجتمعه المسلم، ولذلك أخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنته السوية ومن طريقته الحنيفية، وإن بقي على إسلامه، إذ لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم نفي الإسلام عنه.

قال المناوي رحمه الله: (من غش أي خان، والغش استرحال الشيء، "فليس منا" أي من متابعينا؛ قال الطيبي: لم يرد به نفيه عن الإسلام، بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين، أي ليس هو على سنتنا أوطريقتنا في مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك؛ يريد الموافقة والمتابعة؛ قال تعالى عن إبراهيم: "فمن تبعني فإنه مني"، وهذا قاله ـ أي الرسول صلى الله عليه وسلم ـ لما مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فابتلت أصابعه، فقال: ما هذا؟ قال: أصابته السماء ـ أي المطرـ قال: أفلا صببته فوق الطعام ليراه الناس؟).

والغش حرام سواء كان في المواد الشرعية أوغيرها، وكذلك سواء كان الطالب ممتحناً مع طلاب كفار أومسلمين.

صور الغش لدى الطلاب

صور الغش لدى الطلاب كثيرة جداً، منها ما هو مباشر وما هو غير مباشر، نذكر منها الآتي:

1.  أن يحمل معه ورقة "بخرات، برشام"، يخفيه في أي مكان من ثيابه أوبدنه، أويكتب على جسده.

2.  أن ينظر إلى ورقة جاره.

3.  أن يخلي جاره بينه وبين ورقته.

4. ما  يفعله بعض عديمي الأخلاق من المعلمين من الإجابة لبعض الطلاب، أوالقيام بتبديل أوراقهم، أوبغضِّ الطرف عنهم.

5.  ومن أخس صور الغش أن يطلب الطالب أوالتلميذ من غيره عمل وسيلة أوكتابة بحث، سواء كان بأجرة أوبغير أجرة، ثم يقدمها باسمه، بل وتحت إشراف الأستاذ فلان، ومن المؤمسف أن تنتشر هذه الظاهرة وتكون على مسمع ومرأى المسؤولين، ثم لا يحذرون منها ويمنعونها.

6.  كتابة بعض المذكرات من الأساتذة وبيعها للطلاب، لعلم الجميع أن كل الامتحان يكون مضمناً في هذه المذكرات.

الأضرار المترتبة على الغش

1.   الظلم والتعدي على الآخرين.

2.   الشهادة التي يحصل عليها الطالب نتيجة هذا الغش شهادة زور.

3.   ما يكسبه ويناله عن طريق هذه الشهادة كسب خبيث محرم.

4.   تدني المستوى التعليمي.

5.   التعاون على الغش هو من باب التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الرسول.

6.   فقدان الثقة في الشهادات، ومن ثم التشكيك في مقدرات حامليها.

7.   يؤدي ذلك إلى انحطاط الأخلاق وتدنيها.

8.   بعث اليأس والقنوط في نفوس الطلاب المجدين.

9.   الأضرار المترتبة على الغش لا تدانيها المصلحة المحرمة الضيقة التي قد ينالها الغاش.

أسباب انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات

الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه الظاهرة كثيرة جداً، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر كذلك، نذكر منها ما يلي:

1.  كثرة عدد الممتحنين.

2.  ضعف الوازع الديني عند جل المسلمين.

3.  تدني مستوى المعلمين الخلقي والأكاديمي، نتيجة للتوسع في التعليم، ولمستوى المعلمين المعيشي، وهروب وعزوف كثير من المقتدرين عن هذه المهنة، سيما في المدارس الحكومية.

4.  أصبحت كل مدرسة ثانوية مركزاً، وكان في الماضي تجمع العديد من المدارس في مراكز معينة يضمن مراقبتها.

5.  مراقبة المعلمين لنفس طلابهم.

6.  التوسع في التعليم الخاص، والحرص على الحصول في نتائج عالية لكل مدرسة خاصة.

7.  الاعتماد على الدروس الخصوصية ودروس التقوية إلى حد كبير قد يدفع ببعض غير المقتدرين على ذلك إلى ممارسة الغش.

8.  عدم تطبيق العقوبات المنصوص عليها على من ثبت غشه تطبيقاً صارماً.

عوامل يمكن أن تحد من عملية الغش

من جملة الأسباب التي يمكن أن تقلل من عملية الغش ما يأتي:

1.  تحسين مستوى المعلمين العلمي والمعاشي.

2.  إقامة دورات تدريبية مكثفة للمعلمين الجدد.

3.  توفير الكتاب المدرسي.

4.  تجميع عدد من المدارس في مراكز قدر المستطاع.

5. في حال تعسر جمع عدد من المدارس في مركز تحويل مدرسي المدرسة المعينة ليراقبوا مدارس أخَر.

6. الحرص على سرية وضع الأسئلة وطبعها وتوصيلها إلى المدارس والمراكز.

7.  توعية الطلاب في المدارس عن خطورة الغش ومضاره.

8.  العمل على تيسير المواصلات للدارسين.

9.  الاهتمام بالطلاب الفقراء ودعمهم والاعتناء بهم.

وأخيراً أرجو أن تجد هذه النصيحة من المسؤولين ومن الإخوة الأساتذة والأبناء الطلاب أذناً صاغية، وقلوباً واعية، واستجابة صادقة، فالدين النصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

وهناك نوع آخر من شهادة الزور، وهي أقل خطراً وأخف ضرراً من النوع الأول، وهي بعض الشهادات الجامعية التي يحصل عليها الطلاب مكتفين فيها بالمذكرات المختصرة عن الرجوع إلى المصادر والمراجع، وعن حضور المحاضرات وتحصيل كل المقررات، بالاكتفاء بتخمين بعض الموضوعات، وعدم الاستذكار والتحصيل إلا قرب الامتحانات، وفي ذلك تضييع لفرص عظيمة، وعدم تمكن الطالب من الحصول حتى على مفاتح العلم، فيتخرج الطالب بمستوى مقارب للمستوى الذي دخل به، ولكنه يحمل شهادة يجادل بها وينافس بها الجادين، مما جعل كثيراً من هذه الشهادات عبارة عن ألقاب زور، ويصدق على هؤلاء ما قاله الشاعر الأندلسي راثياً حال ملوك الدويلات في الأندلس في آخر أيامها:

ألقاب مملكة في غير موضعها         كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

*****************************

الباب العاشر - ركن  العظات والعبر

أيها المسلم ماذا أعددت ليوم رحيلك؟

"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ"

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ** يوماً على آلة حدبـاء محمول

جلس الحسن البصري رحمه الله في جنازة النُّوار امرأة الفرزدق، وقد اعتم بعمامة سوداء، وأسدلها بين كتفيه، والناس بين يديه ينظرون إليه، فوقف عليه الفرزدق وقال: يا أبا الحسن، يزعم الناس انه اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرهم! قال: من ومن؟ قال: أنت وأنا؛ قال: ما أنا بخيرهم، ولا أنت بشرهم، لكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، منذ سبعين سنة؛ قال: نعم والله العدة.

فالموت آتٍ، وكل آتٍ قريب، بل الدنيا كلها قريب، هذا السؤال الذي وجهه الإمام الرضي الحسن البصري إلى الفرزدق ينبغي أن يوجهه كل إنسان إلى نفسه كلما شيع جنازة، ودفن ميتاً وواراه.

خير ما يعده المرء لهذا اليوم كلمة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، فهي نعم العدة، وخير الزاد إن كان محققاً لمعناها، مستوفياً لشروطها، محافظاً عليها من نواقضها ومبطلاتها.

ومما يدل على أن هذا هو المراد وليس مجرد التلفظ بها، ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة"، وفي رواية: "يصدق قولَه عملُه"، ولهذا عندما قال الحطيئة للحسن البصري رحمه الله: أليست "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة؟ قال له الحسن: من جاء بمفتاح له أسنان فتح له، وإلا لم يفتح له، لأنه ما من مفتاح إلا وله أسنان.

والأسنان المرادة هي أداء الواجبات، والانتهاء من المحرمات، والحذر من الموبقات، واجتناب النواقض والمبطلات: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء"، "إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا".

قال الطيبي رحمه الله: (قوله مخلصاً، وفي رواية بدله صدقاً، أقيم مقام الاستقامة لأن ذلك يعبر به قولاً عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلاً عن تحري الأخلاق المرضية، كقوله تعالى: "وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"، أي حقق ما أورده قولاً بما تحراه فعلاً، وبهذا التقرير يندفع ما أوهمه ظاهر الأخبار من منع دخول كل من نطق بالشهادتين النار وإن كان من الفجار).

ولهذا السبب قال الإمام الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.

ومن أجل ذلك عرف أهل السنة الإيمان بأنه قول وعمل واعتقاد، وحذروا من نواقضه التي أخطرها:

1.    الدعاء والاستغاثة بغير الله عز وجل.

2.    اتخاذ الوسائط.

3.    إنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة.

4.    التحاكم لغير شرع الله.

5.    الإيمان بالسحر المتعلق بالشياطين والكواكب وممارسته.

6.    تولي الكفار والمشركين.

7.    الاستهزاء والسخرية بدين الله عز وجل.

فمن حقق كلمة التوحيد، وعمل بمقتضاها، وعافاه الله من مسلك أهل الضلالة والإباحيين من الهالكين والحيين، وختم له بخير حتى كان آخر كلامه من هذه الدنيا "لا إله إلا الله"، دخل الجنة مع أول الداخلين.

وإن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فمصيره إلى الجنة بعد عفو الله أوتطهيره من ذنوبه بالنار.

جد أخي المسلم في إعداد العدة ليوم الرحيل، واحذر التسويف، فالرحيل أكيد، والسفر طويل، والعمر قصير، والأجل قريب، فقد يكون اليوم أوغدٍ، أوبعد سنين، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواه، وتمنى على الله الأماني.

فحاسب نفسك أخي المسلم قبل أن تحاسب، وزن أعمالك قبل أن توزن عليك، وتزين ليوم العرض الأكبر، وتذكر ليلة فجرها يوم القيامة، وقبراً لا مؤنس فيه إلا العمل الصالح، وأكثر من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومرمل الأزواج والزوجات.

اللهم اختم لنا بخير واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وطيبنا للموت وطيبه لنا، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله ومن تبعهم بإحسان.

-----------------------

الاستعداد ليوم الرحيل

الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي (رحمه الله)

اعلم أن الإنسان مادام يؤمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وآيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامةً يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحاً، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، يجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت. وقد حذر الله تعالى عباده من ذلك في كتابه؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله، بالتوبة والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: "وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين" (الزمر، 54 56) سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه، ويقول: "يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله" وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني. وقال الله تعالى: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها" (المؤمنون، 99) وقال الله تعالى: "وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفس إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون" (المنافقون، 10) وقال الله تعالى: "وحيل بينهم وبين ما يشتهون" (سبأ، 54) وفسره طائفة من السلف؛ منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها. قال الحسن: اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان ؛ سكرة الموت، وحسرة الفَوْت. وقال ابن السماك: احذر السكرة والحسرة أن يفجأك الموت وأنت على الغرة، فلا يصف واصف ما تلقى ولا قدر ما ترى. قال الفضيل: يقول الله عز وجل: ابن آدم ! إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي، فاحذرني لا أصرعك بمعاصيَّ. وفي بعض الإسرائيليات: ابن آدم ! احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه لا حجة لك. مات كثير من المصرين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم مباشرون للمعاصي، فكان ذلك خزياً لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة. وكثيراً ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها، كما قال القائل: أتأمن أيها السكران جهلاً **** بأن تفجأك في السكر المنية فتضحى عبرة للناس طراً **** وتلقى الله من شر البرية سكر بعض المتقدمين ليلة، فعاتبته زوجته على ترك الصلاة، فحلف بطلاقها ثلاثاً لا يصلي ثلاثة أيام، فاشتد عليه فراق زوجته، فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاثة ؛ فمات فيها على حاله وهو مصر على الخمر، تارك للصلاة. كان بعض المصرين على الخمر يكنى أبا عمرو، فنام ليلة وهو سكران، فرأى في منامه قائلاً يقول له: جد بك الأمر أبا عمرو **** وأنت معكوف على الخمر تشرب صهباء صُراحية **** سال بك السيل ولا تدري فاستيقظ منزعجاً وأخبر من عنده بما رأى، ثم غلبه سكره فنام، فلما جاء وقت الصبح مات فجأة. قال يحيي بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين. وفي حديث خرجه الترمذي مرفوعاً (وإسناده ضعيف): " ما من أحد يموت إلا ندم ". قالوا: وما ندامته ؟ قال: "إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب". إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء. غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعاً، ومنهم من يقطعها بالمعاصي. قال بعض السلف: أصبحتم في أمنية ناس كثيرٍ، يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعةٍ، ليتوبوا فيها ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك، وقد أنشد بعضهم: لو قيل للقوم ما مناكم طلبوا **** حياة يوم ليتوبوا فاعلم ويحك يا نفس ألا تيقظ **** ينفع قبل أن تزل قدمي مضى الزمان في توان وهوى **** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي أقسام الناس من التوبة الناس من التوبة على أقسام: فمنهم: من لا يوفق لتوبة نصوح، بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصراً عليها، وهذه حالة الأشقياء. وأقبح من ذلك من يُسِّر له في أول عمره عمل الطاعات، ثم خُتم له بعمل سيئ حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح:" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ". وفي الحديث الذي خرجه أهل السنن: " إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عاماً، ثم يحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار " ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى. كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها: "عاملة ناصبة. تصلى ناراً حامية" (الغاشية، 3، 4) كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرتقي لعب به موج الهوى فغرق. الخلق كلهم تحت هذا الخطر. قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. قال بعضهم: ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، وأنشد: يا قلب إلام تطالبني **** بلقا الأحباب وقد رحلوا أرسلتك في طلبي لهم **** لتعود فضعت وما حصلوا سلم واصبر واخضع لهم **** كم قبلك مثلك قد قتلوا ما أحسن ما علقت به **** آمالك منهم لو فعلوا وقسم: يفني عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفق لعملٍ صالحٍ فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. الأعمال بالخواتيم، وفي الحديث: " إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَه، قالوا: وما عسْلُه ؟ قال: يوفقه لعملٍ صالحٍ ثم يقبضه عليه "(صححه الألباني) وهؤلاء منهم من يوقظ عند حضور الموت فيوفق له ملكاً قبل موته بعام فيسدده وييسره حتى يموت وهو خير ما كان، فيقول الناس: مات فلان خير ما كان. وخرجه البزار مرفوعاً، ولفظه: " إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من عامه الذي يموت فيه فيسدده وييسره، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فذلك حين يحب لقاء الله، ويحب الله لقاءه. وإذا أراد الله بعبد شراً بعث إليه شيطاناً من عامه الذي يموت فيه فأغواه، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب فتتفرق في جسده، فذلك حين يُبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه ". وفي الدعاء المأثور: اللهم، اجعل خير عملي خاتمته، وخير عمري آخره. وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: " من تاب قبل موته عاماً تيب عليه، ومن تاب قبل موته شهراً تيب عليه، حتى قال يوما، حتى قال: ساعة، حتى قال: فواقاً. قال له إنسان: أرأيت إن كان مشركاً فأسلم ؟ قال: إنما أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وفيه أيضاً، عن عبد الرحمن البيلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم". قال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم". فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة ". قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر بنفسه". وفيه أيضاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الشيطان قال: وعزتك يا رب، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ".( وأخرجه أيضا الحاكم وصححه ووافقه الذهب

------------------

أخي الحبيب .. قف قبل أن تنزلق في المعصية

إبراهيم بن عبد الله الغامد

أخي الحبيب .. إنما مثلي ومثلك كمثل رجل عداء، حصد البطولات تلو البطولات، والجوائز تلو الجوائز، وما تحداه أحد إلا هزمه، ولم يدخل سباقاً إلا فاز فيه. وفي أحد المسابقات أخذ يجري ويجري .. وهو يحلم بالشهرة والأضواء. يجري ويجري .. وهو لا يفكر بالتعب، ولا يشعر بالنصب. يجري ويجري وهو لا يحس بالدنيا. يجري ويجري.. ثم آه !! يخرج من بين الناس رجل.. يقف في منتصف الطريق ويقول لهذا البطل .. قف!! يفاجأ هذا البطل بهذا الرجل. ويصرخ في وجهه.. كيف أقف؟! وأنا في نشوة الشباب ومقتبل العمر وزهرة الحياة. كيف أقف؟! كيف أقف؟! ورفع يده يريد أن يبطش بهذا الرجل الذي حرمه من سعيه خلف الملذات، وجريه وراء الشهوات رفع يده، ثم الله أكبر!! يشير هذا الرجل الطيب إلى البطل، ويقول له: "انظر ماذا كان ينتظرك، لو أنك واصلت الجري، ولم تقف". هل تعرف ماذا كان ينتظره أيها الأخ الحبيب؟. كان ينتظره في آخر الطريق حفرة عميقة، ذات هوة سحيقة، فأكب هذا البطل على يد هذا الرجل يقبلها، ويشكر له نصحه ويحمد له شفقته. أخي الحبيب .. أنت هذا البطل العداء، وأنا ذلك الرجل الناصح الذي يقول لك: قف.. قف مع نفسك لحظة، حاسبها كما يحاسب الشريك شريكه، واقرأ هذا الكتيب، الذي كتبه شاب أعرض عن ذكر الله عشرين سنة من عمره .. غاص فيها في بحار الشهوات، وأرسى قواربه في شواطئ الملذات، وعاشها هائماً في دياجي الظلمات. شاب ولج من المعاصي كل باب، وهتك منها كل حجاب، فصارت معيشته ضنكاً، ولياليه سوداً، وأحاطت به الهموم من كل مكان.. شاب عانى من الاكتئاب، والطفش، والحيرة، والتخبط، والفراغ كثيراً، وزمناً طويلاً. فلما هداه اله، وأشرق نور الإيمان في قلبه، واتبع هدى الله ما ضل في هذه الدنيا بعد ذلك أبداً، واتسع صدره بعد ضيق، وانشرح قلبه بعد اكتئاب، وارتاحت نفسه بعد تخبط وحيرة فصعد المنبر يتحدث إليك .. وأمسك بالقلم يكتب لك ومد يديه يريد إنقاذك. فهل تسمع منه؟ قبل أن تعصي الله أخي الحبيب .. اسمع الله عز وجل وهو يقولك "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" (الإسراء، 44) ويقول عز وجل: "ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب" (الحج: 18) سبحان الله! هذا الكون كله، بكل صغير وكبير فيه، متوجه إلى الله عز وجل يسبحه، ويمجده، ويسجد له. هذه الجبال الشامخات تسجد، وهذه النجوم النيرات تسبح، وهذه الدواب العجماوات تلهج بالذكر. هذه المخلوقات العظيمة كلها تقف منكسة رأسها متذللة إليه، معترفة بالفضل له. ولكن يبقى في هذا الكون مخلوق صغير حقير ذليل، خلق من نطفة، فإذا هو خصيم مبين، هو يسير في واد، والكون كله في واد آخر. يترك الصلاة بالرغم أن الجبال والأشجار تصلي وتسجد. يترك التسبيح، بالرغم أن كل ما حوله يلهج بالذكر والتسبيح، إن هذا المخلوق هو الإنسان العاصي لله عز وجل. فاله أكبر ما أشد غروره! الله أكبر ما أعظم حماقته الله أكبر ما أذله! وما أحقره! عندما أراد أن يكون شاذاً في هذا الكون المنتظم. كم عُرضت عليه التوبة فلم يتب، وكم عرضت عليه الإنابة ولم يُنب. كم عُرض عليه الرجوع وهو في شرود وهرب من الله. كم عرض عليه الصلح مع مولاه، فلم يصلح، ولوى رأسه مستكبراً. أخي الحبيب .. عليك قبل أن تعصي الله عز وجل فتصل إلى هذا الوضع المزري، وهذه الحال المشينة، وتتردى إلى أسفل سافلين، بعد أن خُلقت في أحسن تقويم. عليك أن تتفكر في هذه الدنيا، وحقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها، وسرعة انقضائها. وتتفكر في أهلها وعشاقها وهم صرعى حولها، قد عذبتهم بأنواع العذاب، وأذاقتهم أمر الشراب، وأضحكتهم قليلاً، وأبكتهم كثيراً وطويلاً، سقتهم كؤوس سُمها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها، وماتوا بهجرها عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في الآخرة ودوامها، وأنها هي الحياة الحقيقية، فأهلها لا يرتحلون منها، ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار، ومحط الرحال، ومنتهى السير. عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في النار وتوقدها، واضطرامها وبعد قعرها، وشدة حرها، وعظيم عذاب أهلها. تفكر في أهلها وقد سيقوا إليها سود الوجوه، زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم، فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، الذي يقلق القلوب، ويذهب العقول، فتتقطع قلوبهم حسرة وأسفاً. "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفاً" فيأتي النداء من رب العالمين: "وقفوهم إنهم مسؤولون" (الصافات: 24) ثم قيل لهم: "هذه النار التي كنتم بها تكذبون. أفسحر هذا أم أنت لا تبصرون. اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون" (الطور: 15) عليك أن تتفكر في أهلها وهم في الحميم، على وجوههم يُسحبون، وفي النار كالحطب يُسجرون. "لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش" (الأعراف: 41) فبئس اللحاف وبئس الفراش، وإن استغاثوا من شدة العطش "يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه" (الكهف: 29) فإذا شربوه قطع أمعائهم في أجوافهم، وصهر ما في بطونهم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها. كذلك نجزي كل كفور" (فاطر: 36) وهم يصطرخون فيها: "ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل. أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير" (فاطر: 37) عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في الجنة، وما أعد الله لأهلها فيها، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما وصفه الله لعباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة، من المطاعم، والمشارب، والملابس والصور، والبهجة، والسرور. تفكر في الجنة وتربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبن الذهب وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، وأبرد من الكافور، وألذ من الزنجبيل. ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وفيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتذكر من تعصيه تتذكر الله سيدك ومولاك. عليك أن تتذكر جلال الله عز وجل وجماله وكماله، وعزه وسلطانه وقيوميته، وعلوه فوق عرشه.. عليك أن تتذكر الله عز وجل.. قيوماً .. قاهراً فوق عباده، مستوياً على عرشه، منفرداً بتدبير مملكته، أمراً ناهياً، مرسلاً رسلهن ومنزلاً كتبه، يرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويحب ويبغض، ويرحم إذا استرحم، ويغفر إذا استغفر، ويجيب إذا دعي، ويقيل إذا استقيل عليك أن تتذكر أن الله عز وجل أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأعز من كل شيء، وأقدر من كل شيء، واعلم من كل شيء، وأحكم من كل شيء، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، فالسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها، وجاري القوت في أعضائها (ابن القيم في مدارج السالكين بتصرف) واعلم أخي الحبيب أنمما يعينك على ذلك ترك رفقاء السوء الذين قال الله فيهم : "ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون* تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون* ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون* قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين*ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فيها فإنا ظالمون. قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريقاً من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين" (المؤمنون: 103 109) فهل انضممتم إليهم؟ هل سرتم في طريقهم؟ "فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون" (الأعراف: 179) اشتغلتم بالاستهزاء بهم، والضحك عليهم، وكان الأولى أن تكونوا معهم، وتذكروا الله ربكم. ثم الجزاء يوم القيامة ماذا يكون؟ "إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون" (المؤمنون:110) حياتهم سخرية، وعيشهم استهزاء، ودنياهم لهو ولعب. ومنازلهم أرصفة الشوارع، ومجالسهم الفسق والفجور، وكلامهم الغيبة والنميمة، والفحش وتمزيق الأعراض، وشرابهم الدخان والمفترات والمخدرات، تعلو شفاههم الضحكات العالية، وتعلو أبصارهم الغشاوة، وفي آذانهم وقر عن سماع الهدى. بصائرهم مطموسة، وقلوبهم منكوسة، أعينهم متحجرة، وأفئدتهم معمية، تجد في مجالسهم كل شيء إلا القرآن، وتلقى على ألسنتهم كل شيء، إلا ذكر الله، يسمعون صوت الحق يصدح في بيوت الله، فيقدمون عليه اللهو واللعب. حياتهم كحياة البهائم، بل البهائم خير منهم. (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (سورة المؤمنون: 110) حياتهم طعام وشراب ولعب ونوم (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم" (سورة محمد: 12) لا يعرفون طعم الإيمان ولا لذة الصلاة. هربوا من الملك وهم عبيده، وبين يديه، وفي قبضته. الله أكبر!! والله إنه لعجب.. كيف يهربون منه، وهو الرحمن الرحيم؟! كيف يهربون منه، وهو الجواد البر الكريم؟! ما الذي فعله بهم حتى عصوه، ولم يطيعوا أمره ألم يخلقهم؟! ألم يرزقهم؟! ألم يعافهم في أموالهم وأجسامهم؟! كيف يهربون منه، وهو الجبار المهيمن؟! كيف يهربون منه، وهو القوي العزيز؟! كيف يهربون من بيته وهو يدعوهم إليه؟! كيف يفضلون الأرصفة والشوارع على بيته؟! كيف يلبون دعوة الشيطان، ويتركون دعوته؟! كيف يهربون من كلامه وكتابه إلى الصور العارية والأغاني الماجنة؟! أغرهم حلم الحليم؟! أغرهم كرم الكريم؟! أأمنوا مكر القوي العزيز؟! أأمنوا انتقام ذي الانتقام؟! ألم يخافوا أن يأتيهم ملك الموت وهم على المعاصي عاكفون؟! ألم يخشوا أن يأتيهم الموت وهم للصلاة مضيعون؟! أفأمنوا أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟! أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله! إلا القوم الخاسرون. أخي الحبيب .. عُد إلى ربك، واتق النار، اتق السعير إن أمامك أهوالاً وصعاباً، إن أمامك نعيماً وعذاباً، إن أمامك ثعابين وحيات، وأمور هائلات، والله الذي لا إله إلا هو، لن تنفعك الضحكات، لن تنفعك القصات، لن تنفعك الأغاني الماجنات، لن تنفعك الصور العاريات. لن تنفعك غلا الحسنات، والأعمال الصالحات. ألا وإني أدعوك إلى ترك رفقاء السوء، وشلل الفساد، وأبناء الأرصفة والشوارع والملاعب. ابتعد عنهم، ولا تقترب منهم، قبل أن تندم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم سر في طريق الهداية، مع تلك الوجوه الطيبة النيرة، مع تلك القلوب البيضاء النقية، مع تلك الألسن النظيفة الطرية. أصحب أهل الخير والقرآن، انضم إليهم تشعر بطعم الحياة وحلاوة الإيمان، ويوم القيامة تحشرون جميعاً إلى الجنات الطيبات بإذن الله. اسمع ما ثواب الإخلاء والأصدقاء المتقين يوم القيامة. يقول الله عز وجل: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون* الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين* ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون* يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون* وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون" (الزخرف: 67 73) وقال صلى الله عليها وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله …" وذكر منهم "رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه" (أخرجه البخاري ومسلم. وانظر صحيح الجامع 3597) وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي " (متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: " المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء " (صحيح الجامع) وقال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في" [صحيح الجامع]. نقلا من كتاب أخي الحبيب قف بقلم إبراهيم بن عبد الله الغامدي

-------------

العلماء هم الدعاة

د. ناصر العق

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل:( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) يوسف:108، وصلى الله على البشير النذير نبينا محمد وآله وصحبه ، وبعد: فإن الحديث عن الدُّعاة وعن العلماء، أصبح في ظروفنا المعاصرة أمراً ضرورياً، خاصة حينما انتشر مفهوم خاطئ عند الناس في هذا العصر، وهو: مفهوم التفريق بين العالم والداعي، وبين العلم والدعوة، وبين الفقه في الدين والفقه في الدعوة، وما نتج عن هذا المفهوم من ظواهر خطيرة في الدين، وفي السلوك، وفي الأفكار، وفي المفاهيم، وفي التعامل والمواقف، والولاء والبراء. ومنشأ الموضوع في ذهني: أني رأيت كثيراً من الدعاة، والحركات الإسلامية المعاصرة التي تتصدر الدعوة في العالم الإسلامي، قد نشأ عندها هذا الفصام، وهذا التفريق المبتدع بين الداعي إلى الله- سبحانه وتعالى- وبين العالم، أو بين المتصدي للدعوة إلى الله- أو المحترف للدعوة- وبين العالم والشيخ، أو بين العلماء وطلاب العلم، وبين الدعاة وأتباع الحركات الدعوية. ونظراً لما لهذا الانفصام والخلل من عواقب وخيمة قد تؤدي إلى الافتراق المذموم، فلا بد من الحديث عن الأمر على وجه النصح لا على وجه التشهير، وسأركز الحديث في هذا الموضوع على بعض المسائل؛ لأن الموضوع متشعب وطويل، وهو ذو شجون. المسألة الأولى: في التعريفات المتعلقة بعنوان هذا الموضوع: (أصل هذا الموضوع محاضرة ألقيت بمسجد القدس-بحي الروابي بالرياض في جمادي الثانية سنة 1412هـ). أ - مفهوم العلماء وسماتهم: المقصود بالعلماء: العالمون بشرع الله، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة، الداعون إلى الله بالحكمة التي وهبهم الله إياها: ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا) البقرة:269، والحكمة: العلم والفقه. وعلى هذا فالعلماء بهذا التعريف: هم الدعاة بداهة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، فأجدر من يتصدر للدعوة بعد الأنبياء- وقد انقضت النبوة وانتهت-هم العلماء؛ وذلك: أولاً: لأنهم ورثتهم: فالأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا هذا العلم، والدعوة إنما تكون بالعلم، فأهل العلم هم الدعاة. ثانياً: العلماء هم حجة الله في أرضه على الخلق، والحجة لا تقوم إلا على لسان داعية بفقهه وبعلمه وبقدوته، فعلى هذا، العلماء هم أجدر الناس بالدعوة. ثالثاً: العلماء هم أهل الحل والعقد في الأمة، وهم أولوا الأمر الذين تجب طاعتهم، كما قال غير واحد من السلف في تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59، قال مجاهد: هم أولو الفقه والعلم( أخرجه أبو خيثمة في العلم) وعزاه السيوطي في الدر المنشور إلى سعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، بلفظ: (هم الفقهاء والعلماء)، وله لفظ آخر:( أصحاب محمد، أهل العلم والفقه والدين) عزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، واشتهر هذا التفسير عن غير واحد من السلف، قال ابن عباس: (أهل العلم)، أخرجه ابن عدي في (كامله)، وقال جابر بن عبد الله: (أولي الفقه وأهل الخير)، أخرجه الحاكم وصححه، وقال أبو العالية: (هم أهل العلم)، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير، وزاد ابن كثير: عن عطاء والحسن البصري). وإذا كانوا هم أولي الأمر فولايتهم للدعوة من باب أولى. رابعاً: العلماء هم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى، على دينها وعلى دنياها وأمنها، ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنين على الدعوة وشؤونها. خامساً: العلماء هم أهل الشورى الذين ترجع إليهم الأمة في جميع شؤونها ومصالحها، وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة- في دينها ودنياها- فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة وقيادتها. سادساً: العلماء هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم، وشرف ومنزلة رفيعة، كما قال تعالى : (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة: 24، والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة، وما الدين إلا بالدعوة، وما الدعوة إلا بالدين. سابعاً: العلماء هم أهل الذكر، والذكر بالعلم والدعوة، كما قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل: 43، الأنبياء: 7، فعلى هذا هم أهل الدعوة إلى الله تعالى. ثامناً: العلماء أفضل الناس: كما قال تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة: 11، وأفضل الناس هو الداعي إلى الله. تاسعاً: العلماء هم أزكى الناس، وأخشاهم لله، كما قال تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 28، وإذا كانوا كذلك، فهم الأجدر أن يكونوا الدعاة على هذه الصفات، هم الأجدر أن يكونوا القادة والرواد في الدعوة. عاشراً: العلماء هم الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر بالعلم والحكمة، إذا فالعلماء هم الدعاة. حادي عشر: العلماء هم شهداء الله الذين أشهدهم الله على توحيده وقرن شهادتهم بشهادته-سبحانه- وبشهادة ملائكته، وفي هذا تزكيتهم وتعديلهم، فقال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) آل عمران:18، ومن كانوا كذلك فهم المؤتمنون على الدعوة، وهم الأولى بقيادتها وريادتها. هذا على وجه العموم، فالعلماء هم أهل هذه الخصال، ولا يلزم أن تتوافر كل هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله- سبحانه، ولكنهم في الجملة أي العلماء لا شك أنهم المتميزون بهذه الصفات الجديرون بها. بطلان دعوى عدم وجود العلماء القدوة: العلماء لا يمكن أن تخلو الأرض منهم، وهذا دفع لدعوى قد يدعيها بعض الجهلة ممن ينتسبون للدعوات والحركات المعاصرة وغيرهم، فقد زعم بعضهم: أنه لا يوجد علماء قدوة، أو أن العلماء الذين يمكن الاقتداء بهم مفقودون، أو أنهم يتهمون بمطاعن تسقط اعتبارهم، أو نحو هذا من الدعاوى التي لا تجوز شرعاً، بل هي مخالفة للواقع، ومخالفة لصريح النصوص، فإن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل بحفظ طائفة من الأمة تبقى ظاهرة منصورة، أمرها بين، وهذا لا يمكن أن يتأتي إلا بأهل الحجة والقدوة، وهم العلماء والصفات التي ذكرتها تتوافر في كل مكان، وكل وقت بحسبه قوة وضعفاً، لكن لا يمكن أن يخلو كل الزمان وكل المكان في الأرض من العلماء إلى قيام الساعة. وكل عاقل منصف سالم من الهوى يدرك أن في علمائنا ومشايخنا المعاصرين القدوة والكفاية بحمد الله. ب - مفهوم الدعاة: أما بالنسبة للدعاة: فقد عرفنا أن العلماء هم الدعاة، لكن تنزلا للمصطلحات والألفاظ، فإنا نقول: الدعاة: هم الداعون إلى الله على بصيرة. والبصيرة: هي اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفقه في الدين وأول من تتوافر فيه هذه الصفات لا شك أنهم العلماء، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول بأن سبيله: الدعوة إلى الله على بصيرة، ولا تأتي البصيرة إلا بالعلم والفقه في الدين، قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) يوسف:108، ولا شك أن أتباع الأنبياء بالأولى هم العلماء. ج - مفهوم الدعوة: هي السعي لنشر دين الله عقيدة وشريعة وأخلاقاً، وبذل الوسع في ذلك، ويتحقق هدف الدعوة إلى الله بالعلم والعمل والقدوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح، والاستقامة، والإخلاص، والتجرد، وهذه الأركان أكثر ما تتوافر في العلماء. إشكالات مفترضة وجوابها: وهنا لا بد من الاستدراك، قبل أن أفصل في بعض النقاط المهمة في المسائل الموالية، حيث قد يرد سؤال عند بعض الناس: أولاً: هل يعني هذا أنه لا يدعو إلى الله إلا عالم؟ والجواب: لا، بل على كل مسلم عرف شيئاً من الدين، وتبصر به، أن يدعو إليه بعد التبصر وفقه المسألة التي يدعو إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية) (أخرجه البخاري في صحيحه-كتاب: الأنبياء، باب: ماذكرت عن بني إسرائيل، الفتح6/496). إن قيادة الدعوة، وريادتها، وتوجيهها لا بد أن يكون من العلماء، وفي العلماء. اقصد: أن العلماء لا بد أن يتصدروا الدعوات في كل أمر ذي بال، ولا بد أن نجعلهم هم القادة، وهم المرجع، والموجهين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يكونوا مجرد مستشارين عند الحاجة كما يفعل كثير من (أصحاب الدعوات). فالعلماء لا بد أن يكونوا هم المتصدرين للدعوة، وإن لم يكن الأمر كذلك، فإن في الأمر خللاً لا بد من استدراكه، وخطأ لا بد من تصحيحه، بل إن لم يكن الأمر كذلك فإن الدعوة ستنحرف، لا قدر الله، وتعصف بها الأهواء، لا سيما أن كلمة (داعية) صيغة مبالغة، وفيها تزكية شرعية أرى أنه لا يستحقها إلا عالم أو طالب علم متمكن من الفقه في دين الله، أما من يعمل في مجال الدعوة من سائر الناس فهو إما مرشد، أو واعظ، أو محتسب، أونحو ذلك. ثانياً: ربما يقال: إن العلماء لم يرفعوا راية للدعوة؟ فأقول: هذا الإشكال لا يصح، لأنه ناتج عن قصور في النظر للعلماء. فالمنصف يجد أن العلماء، في الجملة، قاموا بما يسعهم من واجب التبليغ ونشر العلم والنصح للأمة والولاة والعامة، كل منهم بحسب ما يستطيع، وبحسب ما يرى من أساليب يتأدى بها الواجب، ويجب أن لا نتوقع منهم الإشادة بجهودهم أو الدعاية لأنفسهم، ذلك أن الأصل في أهل العلم: أنهم يُسعى إليهم لأخذ العلم عنهم، ولا يسعون إلى الناس، والأصل في أهل العلم: أن يكون لهم سمت أساسه التواضع، وأن يكون لهم حق على الأمة، كما أن الأصل في العلماء، أن لا يرفعوا فوق رؤوسهم رايات، ولا يرفعوا شعارات، ولا يطلبوا الانتماءات إليهم، ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات المعاصرة. فالعلماء: يقصدون، ويجب أن يلتف حولهم عامة الناس، وطلبة العلم بخاصة. ورفع الرايات والشعارات للدعوات من قبل من لهم شأن في الأمة، ليس من هدي السلف، فمن رفعه الله بالعلم والتقوى وجب على الأمة أن ترفع قدره. وأقصد: أن إخضاع العلم للدعاية أو للشعارات أو الانتماءات لم يكن من خصال السلف، بل هو من خصال أهل الهوى والفرق، أما أهل السنة: فهديهم السنة والجماعة، وهي ليست شعاراً يرفع، إنما هي سبيل المؤمنين، وصراط الله المستقيم، وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. المسألة الثانية: الأصل في الكتاب والسنة وما اتفق عليه جمهور سلف الأمة وهديهم: الأصل في ذلك أن العلماء هم الدعاة، وأن الدعاة أصلا هم العلماء، وأن غيرهم تبع لهم، فكما أسلفت: كل طالب علم وكل مسلم عليه أن يدعو إلى الله بقدر وسعه، وعلى بصيرة في الأمر الذي يدعو إليه، وكل ذلك مشروط بالتبعية لأهل العلم؛ لأنهم هم قادة الأمة، وهم من أهل الحل والعقد فيها، وهم جماعتها. المسألة الثالثة: فيما يزعم من الفصل بين العلماء والدعاة: هذا الفصل بين العلماء- أي علماء الشرع: أهل الفقه في الدين- وبين الدعاة، أوبين العلم والدعوة- أي طلب العلم الشرعي والدعوة-، تركز-مع الأسف- في أذهان كثير من المسلمين في هذا العصر، لأسباب كثيرة، سأذكر شيئاً منها فيما بعد. بل إن هذا المفهوم الخاطئ لم يتركز في الأذهان فقط، بل صار له أثر في الواقع، أي فيما تعيشه الدعوات، وما يعيشه كثير من الدعاة في كثير من بلاد العالم الإسلامي. التفريق بين العلماء والدعاة من سمات أهل الأهواء: كما أسلفت، كان التفريق بين العلماء والدعاة من سمات أهل البدع، حيث إنهم اتخذوا رؤوساً جهالاً، والداعية عندهم-أعني: أهل الأهواءوالبدع- هو من يخضع لأهوائهم، ويلتزم بها، ويقول بمقولاتهم وينشرها، وينتصر لها، ولو لم يفقه من الدين شيئاً. ونجد هذا جلياً في الفرق الأولى: كالخوارج؛ فإن دعاتهم ليسوا العلماء الأكابر، لا فيهم ولا من غيرهم، بل بضاعتهم في الفقه والعلم قليلة وعلى غير طريق سليمة، وكذلك الرافضة: دعاتهم جهالهم، بل أجهل الناس وأقلهم أحلاماً، وهكذا المعتزلة، والقدرية، وأهل الكلام، وسائر الفرق على هذه السمة-غالباً- على تفاوت بينهم. فهؤلاء-أي أهل الافتراق-هم الذين يفصلون بين الدعوة والفقه في الدين؛ لأنهم أصلاً يقل فيهم الفقه في الدين، وأكثر زعمائهم ودعاتهم إنما يمتازون بالولاء لفرقتهم، وبالولاء للمقولات التي هم عليها، ولا يفقهون من الدين إلا القليل، ومنهم من لا يفقه شيئاً. وأغلب دعاة هذه الفرق والذين نشرواها في الأقاليم الإسلامية قديماً من العوام ومن الجهلة، أو الذين لهم أهداف وأغراض شخصية أو شعوبية، أو عصبيات، ويسيطر عليهم الجهل المهلك. المسألة الرابعة: في أن الفصل بين العلماء والدعاة- مع الأسف- سمة ظاهرة: وقد بدأت تظهر في كثير من الدعوات المعاصرة، وكثير من الحركات الإسلامية، وهي في خارج هذه البلاد، لكن لا يسعنا إلا أن نتكلم عنها لأسباب: أولها: أننا لا بد أن نحمل هموم جميع المسلمين في كل بقاع الأرض، وهذا واجب شرعي على كل داعية، فعلى كل عالم أن يحمل همَّ المسلمين لا في إقليم واحد، بل في جميع بقاع الأرض، والأصل في المسلمين أنهم أمة واحدة، ومقتضي النصح والإشفاق عليهم، بيان ما فيهم من خير وتشجيعهم عليه، وبيان ما فيهم من أخطاء، والتنبه عليها، ونصحهم بالعدول عنها. ومن هذا المنطلق أذكر بعض ظواهر الخطأ في هذا الموضوع، في بعض الحركات الإسلامية خارج هذه البلاد. وثانيهما: أن بعض هذه الظواهر- أي الفصل بين العلماء والدعاة- بدأت تظهر عند طوائف من الشباب، عندنا، وبعض المفكرين، وبعض المثقفين؛ لسبب أو لآخر، فمن هنا كان لا بد من الكلام عن أوضاع الدعوات المعاصرة بمجملها، في جميع العالم الإسلامي، وليس في بلد واحد؛ لأن بعضها يستمد من بعض. أعود إلى هذه الخصلة-أو هذه السمة التي وقع فيها كثير من الدعاة والدعوات المعاصرة-وهي: (أن الدعاة عندهم غير العلماء والداعية غير العالم)، وهذا المفهوم بدأ ينمو في أذهان بعض الناس-مع الأسف-، وقد تاصلت هذه المفاهيم حتى في أعمال الدعاة، وفي حركاته، وفي مواقفهم، وفي مناهجهم، فصاروا يفصلون بين العالم( الشيخ) وبين الداعية، وأدى ذلك الفصل إلى عواقب وخيمة. فالداعية عندهم: هو من ينشط في الدعوة والحركة، لتحقيق مراد أصحابها، أو لتحقيق أهدافها، أو يواليها ويرفع شعارها، ويجمع الناس حوله على هذا الشعار، هذا هو الداعية عند كثير من الدعوات المعاصرة، بصرف النظر عن علمه وفقهه، بل الغالب أنه يكون من قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي، والمشائخ بمفهوم هؤلاء-القاصر- ليسوا دعاة، ولا يصلحون لأن يسهموا في الدعوة أو يدخلوا في إطارها، أو نطاقها؛ لأنهم فيهم... وفيهم..! وبسب هذا الفصل ظهرت أمور، سنشير إلى شيء منها. المسألة الخامسة: من نتائج الفصل بين العالم والداعية: بسبب هذا الفصل بين الشيخ (العالم) والداعية، ظهرت أمور سلبية نراها جلية في كثير من الدعوات الإسلامية، من هذه الأمور: أولاً اتخاذهم رؤساء جهالاً: أغلبهم لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم، وغاية ما يملك بعضهم من العلم، إنما هو مجرد أفكار وثقافات أشتات، زاد كثير منهم: مجرد العواطف والحركة، حتى كاد أن يكون مصطلح الداعية عندهم من ليس بعالم، وأن العالم ليس بداعية. وأحيانا يقولون: فلان داعية- أي ليس بعالم، وفلان شيخ من المشايخ-أي ليس بداعية! وهذا وقوع فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه سولم من اتخاذ الناس(رؤوسا جهالا)، يفتون بغير علم، فيضلوا ويضلوا، فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (أخرجه البخاري في صحيحه 1/234، كتاب: العلم، باب كيف يقبض العلم، وفي 13/295 كتاب: (الاعتصام، باب: ما يذكر من ذم الرأي، ومسلم في صحيحه 2058، كتاب: العلم، باب:رفع العلم وقبضه). ثانياً: قلة وجود العلماء والمشايخ فيهم، وقلة المتفقهين في الدين، المتضلعين في العلوم الشرعية بينهم، في أكثر الدعوات المعاصرة، مع أن وجود أهل العلم في الدين شرط من شروط الدعوة إلى الله، سبحانه وتعالى، بخاصة في الدعوات الكبرى، التي ينضوي تحت لوائها جماعات وفئام من الناس، فهذه لا ينبغي أن يفقد فيها العالم، أو أن يكون العالم فيها مغموراً، او لا يتصدر الدعوة. ثالثاً: قصور النظر في فهم قدر العلماء والمشايخ، ومنزلتهم عند كثير من أتباع هذه الدعوات، فمن هنا وُجد من بعضهم اتهام للعلماء بالقصور أو التقصير أو قلة الوعي، أوأي نوع من أنواع التنقيص لتبرير عدم صلة الدعاة بالعلماء، بل إن بعض الدعاة يرفع نفسه ودعوته على حساب الكلام في أعراض العلماء، وهذا الأمر- وإن كان كشفه مؤلماً- لكن لا بد من ذكره، ولا بد من السعي لعلاجه. رابعاً: توريط بعض شباب الأمة بالانتماء للشعارات والقيادات الدعوية، وليس لأهل العلم والعلماء، بل أصبح الانتماء للشعار والجماعة الدعوية أكثر منه للسنة والجماعة وأهل العلم (اقرأ كتاب: حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد: فهو مفيد جداً) خامساً:فصل الشباب عن مشايخهم وعلمائهم، ومن ثم حجبهم عن النظرة الشرعية الشمولية للدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى- وغاياتها ومناهجها، وحجبهم عن الاهتداء بهدي أئمة السنة قديماً وحديثاً، بل إن بعض الجماعات تربي شبابها على جوانب من مناهج السلف تخدم أهدافها، أو تخدم الجماعة وشعاراتها، وتغفل الجوانب الأخرى والسنة والعلم وسير أهل العلم، وهذه من أساليب أهل الأهواء وأهل البدع، يأخذون من الأئمة ما يحلو لهم من قول أو فعل، ويتركون الباقي، وهذا خلل في النظرة وخلل في النهج. سادساً: كثرة الشعارات والأهواء والانتماءات والافتراقات والعصبيات للجماعات أو للأشخاص، مع العلم أن الأمة لا يجمعها على السنة والخير إلا علماؤها، ومهما بالغت الفرق، أو مهما بالغت الجماعات والدعاة في أي مكان وفي أي زمان للسعي إلي جمع المسلمين، دون الاسترشاد بأهل العلم، ودون أن يجعلوا العلماء قادة وموجهين ومرشدين وأئمة للدعوات، فإن الشمل لن يجتمع، نعم لن يجتمع شمل الأمة إلا بالالتفاف حول علمائها، مهما بلغت الدعوات من السعي إلى وسائل الجمع وأساليبه، وهذا الخلل سبب رئيس في كون الجماعات تتنافر ولا تتفاهم، وتفترق وتفرق أكثر مما تجتمع وتجمع، وواقعها شاهد بذلك. سابعاً: عزل الشباب عن سنن الهدى والعلم الشرعي، فقد نتج عن العزل بين العلماء لدى بعض الدعوات المعاصرة، أقول بعض الدعوات حتى لا نظلم الذين هم على الاستقامة، أن نشأت لبعض الدعوات مناهج وأفكار وكتب ومؤلفات معزولة عن السنن، وعن العلوم الشرعية بشموليتها، بل بتفصيلاتها، وصار كل طائفة تأخذ من العلوم الشرعية ما يناسب أوضاعها، وهذا أسلوب من الأساليب الخاطئة التي تخالف منهج السلف، حتى نشأ للدعوة في العالم الإسلامي علم يشبه علم الكلام لدى الجماعات في ارتباطه بالأهواء والأشخاص، لا بارتباطه بالسنة وبالأئمة. وقد بزرت في الآونة الآخيرة- نتيجة لهذا الفصل بين الدعاة والعلماء- دعوات كبرى، قوامها وركائزها: رؤساء ليسوا بعلماء، وتعتمد على أفكار وحركات محدثة، تخالف هدي الإسلام، وعلى عواطف لا تضبطها القواعد الشرعية ولا المصالح المعتبرة. ثامناً: التقصير في طلب العلم الشرعي على أصوله وعلى مناهجه السليمة الصحيحة، بل نتج من ذلك عن أصحاب الدعوات التي تفصل بين العلماء والدعاة: الحيلولة بين أتباعها وبين تحصيل العلم من المشائخ، بل كثيراً ما ترد إشكالات من بعض الشباب في شتى بلاد العالم الإسلامي،ناتجة من صرف بعض الدعاة لأتباعهم عن العلماء بذرائع شتى، حتى إن بعضهم قد يعاقب الشاب الذي ينتمي إليه: لماذا جلس يطلب العلم الشرعي على الشيخ فلان!! ونتيجة لذلك حصل الخلل في المفهوم، فقد فهم بعض الدعاة- هداهم الله بسبب العزلة بينهم وبين المشايخ- أن المشايخ خصوم أو أعداء للدعوة، أو أن لديهم ما يضر بالمنتسب، أو ما يشوش أفكاره عليها. وسبب ذلك: أن في دعواتهم أمراضاً ومصائب لا يرضاها العلماء، وقد ينتقدونها، ومن هنا تعللوا بصرف شبابهم عن العلماء وأهل العلم والفقه في الدين. وفي الآونة الأخيرة لما رأى بعضهم عوار هذا النهج صاروا يوجهون شبابهم إلى المشايخ لأخذ العلم عنهم فقط، دوما ما يتعلق بالمناهج والقضايا الدعوية والتربوية ونحوها، وهذا من مسالك أهل الأهواء، وهو مسلك خطير، يجب ألا يستمر عليه من ينشد الحق والإصلاح، ولذلك وجب مناصحة أولئك الدعاة وبيان الحق لهم. تاسعاً: في بعض الدعوات التي تسلك هذا المسلك، ظهرت فئات من الجماعات والدعاة والشباب في البلاد العربية وغيرها-عددها ليس بالقليل-تجد قادتهم على قلة في الفقه وضعف في العلم، أو تتلمذوا على الأقل علماً واتخذوا شيوخهم من الأصاغر، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك حيث قال (إن من أشراط الساعة: أن يُلتمس العلم عند الأصاغر) (أخرجه ابن المبارك في الزهد 61 ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 102، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/135 إلى الطبراني في الأوسط والكبير وغيرهم، وحسنه الحافظ المقدسي، وصححه غيره- وهو الصواب، فالراوي عن ابن لهيعة ابن المبارك. وراية العبادلة عنه صحيحة، وهذا منها، والله أعلم، وقد فسر ابن المبارك الأصاغر بأهل البدع كما في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي و(الففيه والمتفقه) للخطيب)، وهذا - والله أعلم- يشمل الاصاغر في العلم والقدر والسن، وكل ذلك حاصل في هؤلاء، ومنهم طائفة يتخذون شيوخهم:كتبهم، وما يرشحونه من كتب فكرية أو ثقافية، وأغلب ما تعتمد هذه الجماعات على الكتب الفكرية والثقافية أكثر من الكتب الشرعية، بل فيهم من يتنكر لكتب السلف الصالح. ومنهم من جعلوا قادتهم- مع الأسف- جهالهم، وأحكامهم: أهواؤهم؛ مما أدى إلى الخلط وإلى الخبط والاضطراب عند بعض هؤلاء في العقائد وفي الأحكام، وفي المواقف وفي التعامل مع الآخرين، وفي النظرة إلى قضايا الأمة الكبرى، وفي التصرفات الطائشة التي تحدث مع بعضهم، وفي صدور الأحكام المتعجلة، ونحو ذلك من المظاهر التي نراها في فئة من الشباب، وإن كانت والحمد لله قليلة، لكن القليل في مثل هذه الأمور لا ينبغي الاستهانة به؛ بل ينبغي علاجه؛ لأنه إذا كثر قد يصعب، بل قد يستحيل علاجه. المسألة السادسة: كلمة إنصاف: وسأخص الحديث فيها عن نوعين من العاملين في مجال الدعوة إلى الله: النوع الأول: غالب طلاب العلم الشرعي عندنا في هذه البلاد(أعني: المملكة العربية السعودية)، أشهد أني أرى عليهم علامات الرشد، والالتفاف حول العلماء، والاسترشاد بأهل العلم والتلقي عنهم، وهذه ظاهرة سارة، وهي الأصل، وينبغي أن نشجع الشباب عليها، وسائر طلاب العلم. كما أني أرى من المظاهر السارة للشباب هنا: استقامة العقيدة، واستقامة السلوك، والحرص على تلقي العلم الشرعي بمناهجه وأساليبه الصحيحة من مصادره الأصلية: كتب السلف المستمدة من الكتاب والسنة، وتلقيه على أهله، وهم العلماء- أئمة الدين- والمشايخ الذين هم القدوة، وهذه ظاهرة تبشر بالخير، وهي نتيجة طبعية لأخذ العلم الشرعي عن أهله، لكن مع ذلك هناك بعض الظواهر التي أشرت إليها، والتي-أحياناً-قد تكون من النتائج التي تصحب مثل هذا الإقبال الكبير على الخير-والحمد لله-فإن غرس الله ظهر، وريح الإيمان هبت، وإقبال الشباب منقطع النظير حتى يكاد يكون أكبر من أن يتحكم فيه بالإرشاد والتوجيه. وهذا الإقبال على الخير والصحوة المباركة أمر يجب أن نفرح به، وأن نستبشر به في الجملة، وهي علامة خير، ولله في ذلك حكمة يعلمها، ولا يمكن أن يكون هذا الإقبال على الخير ظاهرة اجتماعية، أو مجرد رد فعل لأوضاع سيئة-كما يقال- الأمر أكبر من ذلك- الأمر هو من مراد الله، ومن سنته التي لا تتبدل ولا تتخلف، فقد بلغ السيل الزبى، وقد طغى الزبد، ولا بد أن يذهب الزبد جفاء، ولا يمكن ذهابه إلا بجهود بشر، والبشر الذين يصطفيهم الله لا بد أن يكونوا على علم وفقه في الدين، وأظن أن الله هيأ هذا الجيل الطيب، ليقوم بدور عظيم طالما تخلف عنه المسلمون في هذا العصر من نصرة الإسلام ونصرة الحق، وهذا قدر الله وأمره، وهو سنة الله- ولا راد لسنة الله-. لكن مع ذلك قد يأتي مع الخير بعض الشر وبعض الشذوذ، مثل: التشدد في الدين، أو الأهواء ونزعات الافتراق، مصداقاً لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بد من علاج هذه الظواهر، التي تنشأ بشكل طبعي بين ثنايا الاتجاه العارم إلى الخير. تنويه: وقبل أن أخرج إلى مسألة أخرى، أحب أن أنوه عن أمر آخر، هو: إنه-بحمد لله- يوجد في هذا البلد من المشايخ الذين هم على السنة والاستقامة، من فيهم الخير والكفاية، كما يوجد من طلاب العلم، الذين يجمعون بين العلم والقدوة العدد الوافر الذي به ستسترشد وتستنير الدعوات-إن شاء الله-. النوع الثاني: وهو الدعوات في العالم الإسلامي الآخر وخارجه، فلا بد من كلمة إنصاف في حقها، لأني حين ذكرت بعض الظواهر المخالفة للسنة فيها ولديها كان حديثي فيه شيء من العموم، وكان من الأولى أن أنصفها، بأن أذكر الجوانب الإيجابية والخيرة في الدعوات في سائر العالم الإسلامي، لكن عذري أن الموضوع متعلق بمسألة معينة: وهي الفصل بين العلماء والدعاة، فكان لا بد من التنبه والإشعار بهذه السمات أو الظواهر الخاطئة ابتداء. أما الدعوات المعاصرة في شتى العالم الإسلامي وغير الإسلامي، التي تحمل لواء الدعوة، فإنه يوجد فيها من هو على السنة أفراداً وجماعات: كأنصار السنة، وأهل الحديث، وأكثر الجماعات السلفية وغيرها، إن فيها خيراً كثيراً برغم ما يعتريها من نواقص ومن خلل. وإذا وازناها بأحوال المسلمين، فإنها أصلح من أحوال عامة المسلمين، ورجالها ودعاتها وشبابها لا شك أنه أحسنوا حين قاموا بواجب قصر فيه غيرهم، ويكفيهم أنهم احتسبوا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ورفعوا راياتها، وتحملوا المشاق والعداء من أجل الإسلام، وانتصروا للإسلام في قضاياه الخارجية والداخلية، كل منهم بقدر جهده وبأسلوبه. وهذا فضل لهم لا بد أن يذكر ويشكر، وحقهم علينا النصح والإرشاد والتسديد والعون على البر والتقوى، والدعاء لهم بالغيب. ثم إن الدعوات المعاصرة ليست كلها واقعة فيما ذكرت، وإنما بعض منها، وإلا ففيها من هو في الجملة على السنة والاستقامة في السلوك والعمل والنهج، وفيها من يتلقى من العلماء، وفيها الأسوة، وفيها القدوة، لكنها ليست هي الكثير، بل الأكثر من أصحاب الشعارات والدعوات الكبرى هم من ذكرت ممن تكثر فيهم الأخطاء، وما هم فيه من أخطاء يستوجب التحذير منها أولاً. وثانياً يستوجب النصح لهم بالإرشاد والبيان، وأحسبهم-إن شاء الله- ممن يريد الحق ويسعى إليه؛ لأنهم- كما أحسبهم إن شاء الله- ما رفعوا لواء الدعوة إلا حسبة لله، وإلا بحثاً عن الحق، ومن هنا أتعشم فيهم- جميعاً- أن يكونوا من رواد الحق وأن يقبلوا النصيحة. المسألة الأخيرة: الإشارة إلى الحل: الحل في نظري لا يمكن أن يبت به مثلي، فأنا- والله- أحوج إلى النقد والنصح، لكن لا بد من الإسهام- ولو بمجرد رأي قابل للنقاش. ثم إن الحل ينبغي أن تتبناه جماعة المسلمين المتمثلة في علمائها وطلاب العمل فيها، أو طائفة منهم تنوب عن سائرهم وتتصدى للحل. وأرى أن ترفع مثل هذه المشكلات المتعلقة بالدعاء والدعوات بعرض واف ومفصل لأهل العلم، ونعرضها على العلماء بأفرادهم ومؤسساتهم وبهيئاتهم في كل بلد بحسبه، ولا مانع أن تكون جميع أحوال العالم الإسلامي تعرض على علماء بلد معين أو أكثر إذا رؤي أنهم هم الأمثل، وأن منهجهم هو الأسلم. لكن مع ذلك لا بد- وقد طرح الموضوع- وإن نسهم جميعاً في بيان بعض وجوه الخلل، ونقترح الحلول-وإن كانت قابلة للنقاش، وعليه فإني أرى أن من الحل لمثل هذه الظاهرة، وهي الفصل والجفوة المفتعلة بين العلماء والدعاة، أوبين العلم والدعوة ما يلي: § الالتفاف حول العلماء والصدور عن قولهم وتوجيههم. § التفقه في دين الله تعالى. § ومناصحة ولاة الأمور. § وطرح الشعارات. § وعقد الولاء على السنة والجماعة. أما تفصيلاً فأشير إلى المقترحات التالية: أولاً: ضرورة اهتمام العلماء وطلبة العلم بهذا الأمر دراسة ومعالجة، وأن تتفرغ طائفة من المشايخ من أهل العلم الشرعي وأهل الفقه في الدين لهذا، وتعكف على الحلول للنصح بها لهؤلاء الذين وقعوا فيها. ومن ذلك: تأليف الكتب والرسائل التي تعالج هذه القضايا، والإسهام بالمقالات وغيرها في وسائل الإعلام المشروعة وغير ذلك. ثانياً: أرى أنه لا بد أن تنتقل طائفة من العلماء وطلاب العلم المؤهلين في البلاد الإسلامية؛ ليرشدوا الدعاة- وإن كان هذا خلاف الأصل، فالأصل أن العلماء يُسعى إليهم ويسافر إليهم من أجل أن يؤخذ العلم عنهم، ولا يسعوا هم إلى الناس- لكن أرى أنه لا مانع في هذه الظروف العصيبة، وفي هذا العصر والوضع الذي نعيشه، أن تسافر طائفة من العلماء وتنتقل إلى شتى أقاليم المسلمين، بل حتى إلى البلدان غير الإسلامية التي يوجد بها مسلمون، ويوجد بها دعوة إلى الله. لا بد أن تتحمل طائفة من العلماء أعباء السفر والذهاب إلى أولئك، وربما الإقامة بينهم، لتعليمهم أصول دينهم، ولإرشادهم فيما يجب أن يسترشد به في أمور دينهم ودنياهم، خاصة في أمور الدعوة؛ لأن ظروف المسلمين الآن لا تسمح بالتنقل والسفر من بلد إلى بلد إلا بصعوبة بالغة، وبأخطار ومشقات لا يتحملها أغلب الناس، حيث صار التنقل من بلد الإسلام إلى بلد الإسلام يحتاج إلى إجراءات أصعب من التنقل في بلاد الكفار وإليها، وهو أمر واقع، فحسبنا الله ونعم الوكيل. فمن هنا أقول تقديراً لهذه الظروف: لا بد أن تسافر مجموعة من العلماء وطلاب العلم الذين عندهم فقه في الدين لإرشاد الدعاة والدعوات وعامة الناس، وحبذا لو أن بعض طلاب العلم احتسب الانتقال والإقامة الدائمة في البلاد التي هي أحوج إلى الفقه في الدين. ثالثاُ: يجب على جميع منتسبي الدعوات، وبخاصة يتصدون للدعوة أن يتفقهوا في الدين، ويطلبوا العلم على أهله وبالطرق الشرعية الصحيحة، وأن يكون هذا من مناهج الدعوات نفسها، بأن تُكثر من الدروس الشرعية، ومن حلق الذكر، ومن حلق العلم، ولا تمنع منسوبيها من تلقي العلم على أهل الفقه في الدين، بل تسعى إلى دفعهم إلى ذلك تحقيقا للخير الذي وعد الله به، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين). (رواه البخاري في صحيحه 1/197 كتاب العلم،باب:من يرد الله به خيراً، وفي 13/316 كتاب: الاعتصام، باب: لا تزال طائفة من أمتي، ومسلم في صحيحه (719) كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة، وفي (1524) كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم(لا تزال طائفة...) من حديث معاوية بن أبي سفيان- وله عندهما تتمة، وأخرجه الترمذي في سننه (2647) كتاب: العلم باب:إذا أراد الله بعبد خيراً، من حديث ابن عباس وقال: هذا حديث حسن صحيح). رابعاً : إلغاء الولاء للجماعات والشعارات، وترك الانتماءات، والعودة إلى الأصل الشرعي ونهج السلف بعقد الولاء على الإسلام والسنة والجماعة فحسب. خامساً: أرى ضرورة المناصحة المباشرة من كل من يرى خطأ في هذه الدعوات، ومن ذلك ما أشرت إليه، والمناصحة المباشرة لكل من نراهم أو نستطيع أن نتصل بهم ولو بالمراسلة، نعم تجب مناصحة هؤلاء الدعاة من كل مسلم يرى هذه الأخطاء ولا ينبغي له السكوت عنها؛ لأن هؤلاء الدعاة- بل عامة المسلمين-لهم حق على كل من يرى انحرافاً أو خطأ فيهم- وبخاصة الأخطاء الخطيرة التي ربما تؤدي إلى الاختلاف والافتراق، ولا نأمن أن تكون فتنة على الجميع إذا ترُكت. والمناصحة تكون بالأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة، وأقصد بهذا أن بعض وجوه المناصحة القائمة الآن التي لا تخلو من التجريح والتشهير، أخشى ألا تجدي ولا تفيد، بل ربما تؤدي إلى تمادي بعض الناس في الأخطاء؛ لأن أكثر وسائل النصح من المؤلفات والكتب التي كتبت وتكتب في نقد بعض الدعوات والدعاة فيها شيء من التهجم والتجريح والسب واللمز، والحكم باللوازم والظنون، وهذا لا أظنه أسلوب إصلاح؛ فأسلوب الإصلاح هو: أن نُعرض عند المناصحة عما يثير في الخصم العناد، أو التمادي في باطله، ونسلك المسالك التي هي أقرب إلى الإشفاق والنصيحة وحب الخير وحب الاستقامة للآخرين، وهذا هو المنهج الذي يحسن أن يسلك في تقويم الدعوات جميعاُ، خاصة في هذا الوقت. فالمناصحة يجب أن تتركز على النقد الهادف المنصف المشفق الناصح، وأن يصحبها شيء من الرفق، وإقامة الدليل، وبيان الحجة دون الإشارة إلى الخطأ الجارح، أو للمز به، أو السب، أو التجريح، أو التخطئة، أو اتهام النيات والقلوب، أو الاستفزاز، أو غير ذلك، بل من الحكمة أن تؤدى النصيحة بما يفيد المنصوح، ولا يؤدي إلى استفزازه وإلى تماديه في أخطائه، ولا مانع عند البيان والتقويم العام من ذكر أخطاء الدعوات، لكن بشرط ألا نشخص ولا نشهر ولا نسمي لغير ضرورة، وإنما على القاعدة الشرعية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينصح بها وهي : (ما بال أقوام) (وردت في كثير من الأحاديث الصحيحة منها على سبيل المثال: § ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس-مرفوعاً: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام..) الحديث. § وما أخرجاه-أيضاً- من حديث عائشة- مرفوعاً-:( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه..). § وما أخرجه البخاري وغيره من حديث أنس مرفوعاً:( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء). § وأحيانا يرد بلفظ: (ما بال أحدكم) كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتخع أمامه؟..) الحديث، (ما بال رجال يواصلون ؟إنكم لستم مثلي..) أخرجه مسلم عن أنس، وأحيانا: (ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟..) أخرجه الإمام أحمد وأبوداود والنسائي من حديث جابر بن سمرة). فأسلوب المناصحة الشرعي يجب أن يكون بعيداً عن التهجم والقدح والتجريح أو الإلزام بما لا يلزم، أو حتى الإلزام بالخطأ- وإن كان واضحاً صريحاً- إذا صرح المخالف بعدم التزامه. سادساً: التعزيز من دور المؤسسات الخيرية: فإنه مما ينبغي على المشايخ وأهل العلم أن يعززوا من دور المؤسسات الخيرية، والمنظمات الإسلامية الموثوقة، والمراكز النزيهة، فإن فيها خيراً كثيراً، ولو أنها دعُمت وسخرت لها بعض طاقات أهل العلم، لتحقق من خلالها نفع كثير؛ لأن لها صلة بكثير من المسلمين، وعندها من الإمكانات والتجارب والوسائل ما لا يوجد عند أفراد العلماء وطلاب العلم. وأخيراً: فإنه لا بد من علاج الأخطاء وتصحيح المفاهيم بكل وسيلة مشروعة: بالكتاب، وبالكلمة، وبالمناصحة الشخصية، وبوسائل الإعلام، وبالأشرطة. وتصحيح الأخطاء يجب أن يبنى على الأسس الشرعية التي تهدف إلى الإصلاح، وأن نتفادى فيها كل ما يحول بيننا وبين إصلاح أحوال الأخرين من إخواننا المسلمين. والمناصحة كذلك لا بد أن تبنى على : 1 - العدل في القول. 2 - والإنصاف في الحكم. 3 - وحسن الظن: وهو أن الأصل في المسلمين الخير، والأصل فيهم حسن القصد إلا من ثبت إصراره وعناده، وهذا اساس التعاون بين المسلمين. 4 - ثم بعد ذلك لا مانع من بيان الخطأ والنصح فيه. هذا وأسأل الله لي ولجميع المسلمين التوفيق لما فيه الخير، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، كما أسأله- تعالى- أن يهيء لجميع المسلمين من أمرهم رشداً، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، وأن يصلح ولاتهم، ويهدي شبابهم، ويكبت أعداءهم .آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فهرس الموضوعات المسألة الأولى : في التعريفات المتعلقة بالموضوع . أ - مفهوم العلماء وسماتهم. - بطلان دعوى عدم وجود العلماء القدوة. ب- مفهوم الدعاة. ج - مفهوم الدعوة. - إشكالات مفترضة وجوابها. المسألة الثانية: الأصل في الكتاب والسنة وهدي السلف أن العلماء هم الدعاة المسألة الثالثة: فيما يزعم من الفصل بين العلماء والدعاة -التفريق بين العلماء والدعاة من سمات أهل الأهواء المسألة الرابعة: في أن الفصل بين العلماء والدعاة سمة ظاهرة. المسألة الخامسة: من نتائج الفصل بين العالم والداعية. المسألة السادسة: كلمة إنصاف. المسألة الأخيرة: الإشارة إلى الحل

--------------------

الرسل والرسالة

فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي (عضو هئية كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رحمه الله)

الحمد لله والصلاة على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فهذه مسائل متعلقة بالرسالة والرسل كتبها فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله وهي تشتمل على الفرق بين النبي والرسول ، وإمكان الوحي والرسالة ، حاجة البشر إلى الرسالة نسأل الله أن ينفع بها وإليك هذه المسائل: المسألة الأولى: الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما النبي: مشتق من النبأ، بمعنى: الخبر، فإذا كان المراد أنه يخبر أمته بما أوحى الله إليه، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، وإن كان المراد أن الله يخبره بما يوحي إليه، فهو فعيل، بمعنى: مفعول، ويصحّ أن يكون مأخوذاً من النَّبء (بالهمزة وسكون الباء )، أو النبوة، أو النباوة ( بالواو )، وكلها بمعنى: الارتفاع والظهور، وذلك لرفعة قدر النبي، وظهور شأنه، وعلو منزلته. والفرق بين النبي والرسول: أن الرسول من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتاباً، أو لم ينزل عليه كتاباً لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله؛ والنبي: من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتاباً، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك، فكل رسول نبي، ولا عكس، وقيل: هما مترادفان، والأول أصح. المسألة الثانية: إمكان الوحي والرسالة الوحي لغة: الإعلام في خفاء بإشارة، أو كتابة، أو إلهام، ثم مناجاة أو نحو ذلك. وشرعاً: هو إعلام الله نبيه بحكم شرعي، ونحوه، بواسطة، أو بغير واسطة. ولا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر، أن يختص واهب النعم، ومفيض الخير بعض عباده: بسعة في الفكر، ورحابة في الصدر، وكمال صبر، وحسن قيادة، وسلامة في الأخلاق، ليعدهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق، وصلاح الكون، رحمة للعالمين، وإعذاراً إلى الكافرين، وإقامة الحجة على الناس أجمعين، فإنه - سبحانه - بيده ملكوت كل شيء، وهو الفاعل المختار، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، وهو على كل شيء قدير. وآية ذلك أنا نشاهد أن الله - سبحانه - خلق عباده على طرائق شتى في أفكارهم، ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله، واتسعت مداركه، واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل به ثاقب فكره، وانتهت به تجاربه إلى أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب من أجله رؤوسهم إليه، إعجاباً به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول حتى عدّوه شعوذة، وكهانة، أو ضرباً من ضروب السحر، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد، ومر الأزمان ما كان قد خفي عليهم، فيذعنوا له، ويوقنوا بما كانوا به يكذبون، ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه، فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الواضح، فأنكر البدهيات، ورد الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه، واضطره تفكيره، إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السونسطائية (1). وكما ثبت ذلك التفاوت بين الناس في العقول بضرورة النظر، وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم (أيضاً (في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية، والاستيلاء على زمام الأمور، وقيادة الشعب، والحرمان من ذلك، إما للعجز أو القصور، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً وإما لحكمة أخرى يعلمها مدبر الكائنات ؛ وربما كشف عن كثير منها الغطاء لمن تدبر القرآن، وعرف سيرة الأنبياء، وتاريخ الأمم، وما جرى عليها من أحداث. فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم، وقواهم وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن بأن لله أن ينبئ من يشاء من خلقه، ويصطفي من أراد من عباده. "رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً". (سورة النساء، الآية: 165) "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون" (سورة القصص، الآية: 68) "وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعض سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون" (سورة الزخرف، الآيتان: 31، 32) إن الحوار الذي دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون حاجتهم إلى هداية من الله عن طريق روح طيبة يختارها الله لوحيه، أو نفس طاهرة يصطفيها لتبليغ شرعه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعماً منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان، وسمت نفسه، واتسعت مداركه، فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلاً لأن يوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره الله لتحمل أعباء رسالته. ومن نظر في الكتب المنزلة، وتصفح ما رواه علماء الأخبار، اتضح له ما ذكر من إمكان الوحي، وحاجة الناس إليه. قال تعالى: "ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم. قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك إلا اتبعك الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين" (سورة هود، الآيات: 25 27) وقال تعالى" كذبت ثمود بالنذر. فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر* ءألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر" (سورة القمر، الآيات: 23 - 25 ) وقال تعالى "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون. قالوا ما أنتم إلا بشرٌ مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون" (سورة يس، الآيات: 13-15) وقال تعالى "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً" (سورة الأنعام، الآية: 91) وقال تعالى: )قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين. قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون" (سورة إبراهيم، الآيتان: 10، 11) وقال تعالى "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون. قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم" (سورة الأنبياء، الآيات: 2 4) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة ولا لحاجتهم إليها، إنما كان لبعث رسول من جنسهم. ولو قال قائل: إن أئمة الكفر، وزعماء الضلالة كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولاً من البشر غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتمويهاً على الطغام من الناس، وخداعاً لضعفاء العقول وتلبيساً عليهم خشية أن يسارعوا إلى مقتضى الفطرة، ويستجيبوا لداعي الدين، ومتابعة المرسلين، لو قال قائل ذلك ما كان بعيداً عن الحقيقة، ولا مجافياً للصواب! بل بدت منهم البوادر التي تؤيد ذلك، وتصدقه وسبق إلى لسانهم ما يرشد البصير إلى ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتى الرسل ما أوتوا دونهم، وينالوا من الفضيلة، وقيادة الأمم إلى الإصلاح ما لم ينل هؤلاء. قال الله تعالى "وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته" (سورة الأنعام، الآية: 124) وقال تعالى "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" (سورة الزخرف، الآية: 31) وقال تعالى "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين" (سورة الزخرف، الآيات: 51 53) وليس بدعاً أن يختار الله نبياً من البشر، أو يبعث في الناس رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك هو مقتضى الحكمة، وموجب العقل، فإن الله - سبحانه - قد مضت سنته في خلقه بأن يكونوا أنواعاً مختلفة على طرائق شتى، وطبائع متباينة، لكل نوع غرائزه وميوله، أو خواصه ومميزاته التي تقضي بالأنس، والتآلف بين أفراده، وتساعد على التفاهم والتعاون بين الجماعات، ليقوم الوجود، وينتظم الكون، فكان اختيار الرسول من الأمة أقرب إلى أخذها عنه، وأدعى إلى فهمها منه، وتعاونها معه، لمزيد التناسب، ولمكان الإلف بين أفراد النوع الواحد. ولو كان عُمَّار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث إليهم ملكاً رسولاً، وقد أرشد الله إلى ذلك في رده على من استنكر أن يرسل إلى البشر رسولاً منهم، قال الله تعالى "وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً* قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً" (سورة الإسراء، الآيتان: 94، 95) ولكن شاء الله أن يكون الخليفة في الأرض من البشر، فاقتضت حكمته أن يكون رسوله إليهم من جنسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك، وأقرب إلى الوصول للغاية، وتحصيل المقصود من الرسالة، فكتب على نفسه أن يرسل كل رسول بلسان قومه. قال تعالى "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" (سورة إبراهيم، الآية: 4) ولو قدر أن الله أجاب الكفار على ما اقترحوا من إرسال ملك إليهم لأرسل سبحانه الملك في صورة رجل، ليتمكنوا من أخذ التشريع عنه، والاقتداء به فيما يأتي ويذر، ويخوض معهم في ميادين الحجاج والجهاد، وبذلك يعود الأمر سيرته الأولى، كما لو أرسل - سبحانه - رسولاً من البشر، ويقعون في لبس وحيرة، جزاءً وفاقاً. قال تعالى "وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون" (سورة الأنعام، الآيتان 8،9 ) ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم، تبين له أن سنة الله في عباده أن يرسل إليهم رسلاً من أنفسهم. قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون* بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" (سورة النحل، الآيتان: 43، 44) وقال تعالى "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" (سورة الفرقان، الآية:20)

المسألة الثالثة: في حاجة البشر إلى الرسالة الأفعال الاختيارية: منها ما تُحمد عقباه فيجمل بالعاقل فعله، والحرص عليه، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقة، وأصابه في عاجل أمره كثير من الآلام. ومنها ما تسوء مغبته، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه، وأن يتنكب طريقه، خشية شره، وطلباً للسلامة من ضره، وإن كان فيه ما فيه من الملذات العاجلة التي تغري الإنسان بفعله، أو تخدعه عما فيه سلامة نفسه. غير أن عقله قد يقصر في كثير من شئونه، عن التمييز بين حسن الأفعال وقبيحها، ونافعها وضارها، فلابد من معين يساعده على ما قصر عن إدراكه، وقد يعجز عن العلم بما يجب عليه علمه، لأنه ليس في محيط عقله، ولا دائرة فكره، مع ما في علمه به من صلاحه وسعادته، وذلك: كمعرفته بالله، واليوم الآخر، والملائكة تفصيلاً، فكان في ضرورة إلى من يهديه الطريق في أصول دينه، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى وشهوة أو لتزاحم الدواعي واختلافها، فيحتاج إلى من ينقذه من الحيرة، ويكشف له حجاب الضلالة بنور الهداية، فبان بذلك حاجة الناس إلى رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكملهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، ويدفع عنهم الألم والحيرة، ومضرة الشكوك. - أضف إلى ذلك أن تفاوت العقول والمدارك، وتباين الأفكار، واختلاف الأغراض، والمنازع، ينشأ عنه تضارب الآراء وتناقض المذاهب، وذلك يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، والاعتداء على الأعراض، وانتهاك الحرمات، وبالجملة ينتهي إلى تخريب، وتدمير لا إلى تنظيم، وحسن تدبير، ولا يرتفع ذلك إلا برسول يأتي بفصل الخطاب، ويقيم الحجة، ويوضح المحجة، فاقتضت حكمة الله ان يرسل رسله رحمة بعباده، وإقامة للعدل بينهم، وتبصيراً لما يجب عليهم من حقوق خالقهم، وإعانة لهم على أنفسهم، وإعذاراً إليهم، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله. من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب. فقد ثبت أن " سعد بن عبادة " قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح (أي بحده لا بصفحته)؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الله بالجنة ". رواه البخاري. ومما تقدم يعلم أن إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، فضلاً منه، ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط، والمذهب الحق. - وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله - تعالى - إبانة للحق، وإقامة للعدل، ورعاية للأصلح، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو أصل فاسد. وتطرف البراهمة (2) فأحالوا أن يصطفي الله نبياً، ويبعث من عباده رسولاً، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتماداً على العقل في التمييز بين المفاسد والمصالح، واكتفاء بإدراكه ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيراً كانت أم شراً، إذ هو - سبحانه - لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم، وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد. وحاجة العالم إلى الرسالة مع غنى الله عن أعمال الخلق، فليس إرسالهم عبثاً بل هو مقتضى الحكمة.

(1) السنوسطائية ثلاث فرق الأولى : العنادية وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية والعقلية وتكذب حواسها وعقلها فيما تشاهد . أو تدرك وتراه وهما وخيالا . الثانية : اللا أدرية : وهي التي تشك في حقائق الأشياء وتتردد فيها فتقول : لا أدري ألها وجود أم لا ؟ الثالثة : العندية : وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها ، بل تتبع إدراك من أدركها وعقيدة من خطرات بباله ، وهذه المذاهب باطلة بضرورة الحس والعقل والقائلون بها قد سقطوا عن رتبة البحث والمناظرة , (2) البراهمة: قيل : إنهم جماعة من حكماء الهند تبعوا فيلسوفا يسمى برهام فنسبوا إليه . وقيل : إنهم طائفة عبدت صنما يسمى (برهم) فنسبت إليه ، والقصد بيان مذهبهم في الرسالة . والرد عليه بما يدفع شبهتهم مع أن بعضهم قد اعترف برسالة آدم وآخرين منهم اعترفوا برسالة إبراهيم عليهما السلام

----------------

ميراث النبي صلى الله عليه وسلم

الرياض- الشيخ سيد مصطفى جو

عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورثُ، ما تركناه صدقة" إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى تُوفيت وعاشت بعد النبي صلى الله علي وسلم ستة أشهر. فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر،وصلى عليها. وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر عليٌ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا يأتنا أحد معك، كراهة لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟ والله لآتينهم. فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد عليٌ فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك. ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا، حتى فاضت عينا أبي بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آلُ فيه عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه ثم استغفر. وتشهد عليٌ فعظم حقٌّ أبي بكر، وحدَّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف.

المعاني والفوائد: 1-قال بعض الأئمة: إنما كانت هجرة فاطمة لأبي بكر انقباضاً عن لقائه والاجتماع به وليس ذلك من الهجران المحرم لأن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا وهذا، وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت باشتغالها بحزنها ثم بمرضها، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: "لا نورث" ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال وهو: "أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت" وهو إن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، وأخلق بالأمر أن يكون كذلك لما علم من وفور عقلها ودينها رضي الله عنها، وقد وقع في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة (عند الترمذي): "جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، قالت: فما لي لا أرث أبي؟ قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله. ويؤيد ما تقدم ما ورد في صحيح البخاري في كتاب "فرض الخمس" كانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة فهي لم تطلب جميع ما خلف، وإنما طلبت شيئاً مخصوصاً. وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر وفدك وما فضل من ذلك أنفقه في مصالح المسلمين وعمل عمر بعده بذلك فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه، فروى أبو داود أن عمر بن عبد العزيز جمع بني مروان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم ويزوج أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ثم أقطعها مروان يعني في أيام عثمان. قال الخطابي: "إنما أقطع عثمان فدك لمروان لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده. فاستغنى عثمان عنها بأمواله فوصل بها بعض قرابته". ولقد أخرج النسائي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم ألا يأخذوا على ذلك أجراً كما قال: "قل لا أسألكم عليه أجراً" وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في ألا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم. قال: وقوله تعالى: "وورث سليمان داود" حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة وكذا قول زكريا: "فهب لي من لدنك ولياً يرثني" وأما عموم قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئاً كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث. وعلى تقدير أنه خلف شيئاً مما كان يمكنه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس، وقيل الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال، وقيل لكون النبي صلى الله عليه وسلم كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع. قولها (فلما توفيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر) كان ذلك بوصية من فاطمة رضي الله عنها لإرادة الزيادة في التستر، ولعل علي رضي الله عنه لم يعلم أبا بكر بموتها لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عنه، وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها ولا صلى عليها. قولها (وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة) أي كان الناس يحترمونه إكراماً لفاطمة، فلما ماتت واستمر على عدم الحضور عند أبي بكر قصر الناس عن ذلك الاحترام لإرادة دخوله فيما دخل فيه الناس. ولذلك قالت عائشة في نهاية الحديث: (لما جاء وبايع كان الناس قريباً إليه حين راجع الأمر بالمعروف) وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر مدة حياة فاطمة لشغله بها وتمريضها وتسليتها عما فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث رأى علي أن يوافقها في الانقطاع عنه. قولها: (فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر) أي في حياة فاطمة. قال المازري: العذر لعلي في تخلفه ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد ولا يجب الاستيعاب، ولا يلزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته والانقياد له بأن لا يخالف ولا يشق العصا علي، وهذا كان حال علي لم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر. قولها: (كراهية لمحضر عمر) السبب في ذلك ما ألفوه من قوة عمر وصلابته في القوة والفعل، وكان أبو بكر رقيقاً ليناً. فكأنهم خشوا من حضور عمر كثرة المعاتبة التي قد تفضي إلى خلاف ما قصدوه من المصافاة. قولها: (لا تدخل عليهم) أي لئلا يتركوا من تعظيمك ما يجب لك. قوله: (وما عسيتهم أن يفعلوا بي) في هذا شاهد على صحة تضمين بعض الأفعال معنى آخر وإجرائه مجراه في التعدية. قوله: (ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك) أي لم نحسدك على الخلافة. قوله: (حتى فاضت) أي لم يزل علي يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاضت عينا أبي بكر من الرقة. قال المازري: ولعل علياً أشار إلى أن أبا بكر استبد عليه بأمور عظام كان مثله عليه أن يحضره فيها ويشاوره، أو أنه أشار إلى أنه لم يستشره في عقد الخلافة له أولاً، والعذر لأبي بكر. أنه خشي من التأخر عن البيعة الاختلاف لما كان وقع من الأنصار. قولها (وتشهد على فعظم حق أبا بكر) زاد مسلم: "وذكر فضيلته وسابقيته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه". قولها (وكان المسلمون إلى علي قريباً) أي كان ودهم له قريباً (حين راجع الأمر بالمعروف) أي من الدخول فيما دخل فيه الناس، قال القرطبي: "من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار وما تضمن ذلك من الإنصاف عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحياناً لكن الديانة ترد ذلك والله الموفق، وعلى هذا فيحمل قول الزهري لم يبايعه علي في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده وما أشبه ذلك، فإن في انقطاع مثله عن مثله ما يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته فأطلق من أطلق ذلك وبسبب ذلك أظهر علي المبايعة التي بعد موت فاطمة عليها السلام لإزالة الشبه

-----------------

خطر الاستهانة بالذنوب وكيفية التوبة الصادقة

فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فاعلم رحمني الله وإياك أن الله عز وجل أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً" (التحريم الآية 8) ومنحنا الله مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال صلى الله عليه وسلم: " إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات ( ) عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة " (رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني ( سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209 ). ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل. ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر، فيقول مثلاً: وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية (الأجانب ما سوى المحارم.) ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات، حتى إن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها؟ أهي كبيرة أم صغيرة؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري رحمه الله: 1- عن أنس رضي الله عنه قال: " إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ". ( والموبقات هي المهلكات ). 2- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي بيده فذبه عنه ". وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ). وفي رواية "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" ( رواه أحمد ( صحيح الجامع 2686 2687 ) وقد ذكر أهل العلم أن: الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها. ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. ونقول لمن هذا حاله: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت. وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم. إنها لمن يؤمن بقوله تعالى: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم" (الحجر الآية 49) كما يؤمن بقوله: "وأن عذابي هو العذاب الأليم".(الحجر الآية 50) شروط التوبة ومكملاتها: كلمة التوبة، كلمة عظيمة، لها مدلولات عميقة، لا كما يظنها كثيرون ألفاظا باللسان ثم استمرارا على الذنب، وتأمل قوله تعالى: "وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه" (هود الآية 3) تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار. ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث. وهذا ذكر بعضها: الأول: الإقلاع عن الذنب فوراً. الثاني: الندم على ما فات. الثالث: العزم على عدم العودة. الرابع: إرجاع حقوق من ظلمهم، أو طلب البراءة منهم. وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح، نسوقها مع بعض الأمثلة: الأول: أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر، كعدم القدرة عليه أو على معاودته، أو خوف كلام الناس مثلاً. فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس، أو ربما طرد من وظيفتـه. ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية، أو لأنها تضعف جسمه وذاكرته. ولا يسمى تائباً من ترك السرقة لأنه لا يجد منفذاً للبيت، أو لم يستطع فتح الخزينة، أو خشي الحارس والشرطي. ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً. ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه. وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه. بل لابد لمثل هذا من الندم، والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف، على فواتها ولمثل هذا يقول صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " ( ). والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الدنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء" ( رواه أحمد والترمذي وصححه. ( صحيح الترغيب والترهيب 1/9 ) الثاني: أن يستشعر قبح الذنب وضرره، وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل. وقد ساق ابن القيم (رحمه الله) في كتابيه الداء والدواء، والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها: حرمان العلم والوحشة في القلب وتعسير الأمور ووهن البدن وحرمان الطاعة ومحق البركة وقلة التوفيق وضيق الصدر وتولد السيئات واعتياد الذنوب وهوان المذنب على الله وهوانه على الناس ولعنة البهائم له ولباس الذل والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة ومنع إجابة الدعاء والفساد في البر والبحر وانعدام الغيرة وذهاب الحياء وزوال النعم ونزول النقم والرعب في قلب العاصي والوقوع في أسر الشيطان وسوء الخاتمة وعذاب الآخرة. وهذه المعرفة من العبد لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها:

1- أن يعتقد أن وزرها أخفُّ.

2- لأن النفس تميل إليها أكثر، والشهوة فيها أقوى.

3- لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز، أسبابها ليست حاضرة متوافرة.

4- لأن قرناءه وخُلطاءه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم.

5- لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي، فأنشد أبو نواس: أتراني يا عتاهي *** تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسداً بالنسك **** عند القوم جاهي الثالث: أن يبادر العبد إلى التوبة، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته يحتاج إلى توبة. الرابع: أن يخشى على توبته من النقص، ولا يجزم بأنها قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله. الخامس: استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً، كإخراج الزكاة التي منعها في الماضي ولما فيها من حق للفقير كذلك. السادس: أن يفارق موضع المعصية، إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى. السابع: أن يفارق من أعانه على المعصية ( وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه ). والله يقول: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" (الزخرف الآية 67) وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم. وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي. الثامن: إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها. ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات. التاسع: أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء، وأن يحرص على حِلَق الذكر ومجالس العلم، ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي. العاشر: أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسُحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب. الحادي عشر: أن تكون التوبة قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح. والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه" (رواه أحمد والترمذي ( صحيح الجامع 6132 )، وقوله: " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه " (رواه مسلم) توبة عظيمة ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن بريدة ( رضي الله عنه ): أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني فرده. فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: " أتعلمون بعقله بأساً ؟ تنكرون منه شيئاً ؟ " قالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل، من صالحينا فيما نرى. فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً، فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرُجم ". قال: فجاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى، قال: أما لا، فاذهبي حتى تلدي. قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته. قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ". فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين. ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها. فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: " مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكسٍ (وهو الذي يأخذ الضرائب) لغفر له " (رواه مسلم). ثم أمر بها فصلى عليها، ودفنت ". وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ! فقال: " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله (عز وجل) (رواه عبد الرازق في مصنفه 7/325.)

--------------

الأمة الإسلامية .. والهزائم الداخلية!!

فضيلة الدكتور/ عبد الوهاب الطريري

إننا لا يمكن أن نفهم أسباب الهزائم المتكررة، والانهيارات في بناء الأمة واستمراء الهوان والاستسلام إلا إذا عدنا إلى عمق الأمة، إلى الفكر الذي تحمله، إلى النهجِ الذي تسير عليه، لنرى حينئذ أسباباً لا تُنتجُ إلا هذه النتائج المريرة، ولنرى مساربَ ومسارات لا تنتهي إلا إلى هذه الهاوية المريعة.

تعدد المصادر من أسباب الهزيمة

لقد لقيت الأمةُ ما لقيت وصليت ما صليت يومَ تعددت مصادرُ التلقي بعد أن كان المصدرُ كتاب الله:

(كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين).

(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا).

فإذا بالأمةِ تمزجُ بين الوحي وأحكامِ البشر.

إنها أمة ذات أهدافٍ وذات رسالةٍ وذات تاريخ، وعلينا نحن أبناء هذه الأمة أن لا نسمح لأحدٍ أن يسلبنا شخصيتنا، وأن يملي علينا منهجه وقواعده في التفكير، فنحن لم نخلق لنجر من آذاننا.

ولا لنقول لأي مخلوق- كائنا من كان- سمعنا وأطعنا، ونترك خيرة الله لنا ونداءه إيانا يوم قال: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبلَ فتفرقَ بكم عن سبيله).

ولن نستطيع أن نحرر أرضا ما لم نحرر أنفسَنا وأفكارنا.

شعوبُك في شرقِ البلادِ وغربِها****كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سباتِ

بأيمانهم نوران، ذكرٌ وسنةٌ **** فما بالُهم في حالك الظلمات

محبة النبي صلى الله عليه وسلم أين هي؟

وصلت الأمةُ إلى ما وصلت إليه يوم انطفأت جذوةُ حب النبي صلى الله عليه وسلم والتفاني في إتباعه والذب عن سنته، وغاب ما كان حاضراً لدى أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، يوم قال عمرو بن العاصِ رضي الله عنه: (والله ما ملأت عيني من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمت إجلالاً له أن أنظر إليه).

يوم كان كل صحابي يصدّر حديثه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً "بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم".

فإذا جذوةُ الحماس لدينه صلى الله عليه وسلم تخبو، وإذا الالتزام بسنته يضعف، وإذا الغيرة على نهجه تتقاصر وتتطامن، وإذا في الساحة مع النهج المحمدي مناهج، ومع الهدي المحمدي طروحاتٌ وأفكارٌ أُخر.

العلماء وندرتهم

وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه يوم ندر فيها العلماء الربانيون، الأمناء على الجيل الأوفياء للأمة، الآخذون بحجزها أن تقع في النار، أو تتيه في متاهات الظلام. العلماء الذين استشهدهم الله على أعظم شهادة (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط.)

العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ورثوا علمهم وورثوا دورهم وورثوا مهمتهم على الأرض، فأصبح العلماء الربانيون العاملون أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدوا وجد في الأمة من يرميهم بالحجارة، يتتبعهم ويثير الفتنة من حولهم، فئام من الشاغبين وعلى من؟

على الدعاة الهداة، فئام ممن إذا قالوا تسمع لقولهم وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، فإذا نظرت إلى طروحاتِهم فإذا هي مزاحمة الدعاة والتشكيك في العلماء الهداة.

 

مكانة العلماء وقدرهم

 

هؤلاء العلماء أندر في الأمة من الكبريت الأحمر، فإذا وجدوا فينبغي أن يكون مقرهم سويداء القلوب وحدق المقل وأن يبوئوا المكانة التي بوئهم الله إياها، فتكون أعراضهم مصانة، وحرماتهم محفوظة، ومقامهم أسمى من مقام كل أمير، وأعلى من كل وزير، وأرفع من كل مسئول. لأن مقامهم في الأمة مقام محمد صلى الله عليه وسلم فيها، إذ هم ورثته وحملة رسالته والداعون بدعوته، فمن نوقِّر إذا لم نوقرهم؟ وعلى من نغار إذا لم نغر عليهم؟ وعن من ننافح إذا لم ننافح عنهم؟

ونتولى مسئولية الذب عن أعراضِهم وحماية ظهورهم من خلفهم، وأن لا يسلموا إلى من أعطوا بسطةً في المقال، أو بسطةً في اليد، أو تمكينا أو سلطانا ليكون لهم عليهم قول في مقال، أو استطالة بكلام، فضلاً عن أن يؤذوا أو يضايقوا، فضلاً عن أن يحجر على دعوتهم أو يضّيق على كلمتهم، أو تصادر المهمة التي يقومون بها في الأمة

------------------

الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي

المغرب - ملاك المصطفى

حظى موضوع «الطبيعة الإنسانية» بأهمية بالغة في الحقل التربوي الحديث والمعاصر.فقد سعى كثير من المربين والفلاسفة إلى تحديد الآليات التي تكوّن عناصر الكائن الإنساني الظاهرة منها والباطنة. وقد كان هاجس تفسير طبيعة السلوك الإنساني موضوعًا للدراسة من قبل العلوم النفسية والاجتماعية والأنثربولوجية. غير أن الاهتمام العلمي والفلسفي على اختلاف التوجهات النظرية والأيديولوجية لم يكن اهتمامًا متجانسًا. الشيء الذي يفسر حقيقتين مهمتين: صعوبة ضبط السلوك البشري، ثم استحالة وضع تفسير واحد وموحد للظاهرة الإنسانية التي تتداخل فيها مجموعة معطيات بيولوجية وفيزيولوجية وعقلية وغيرها من آليات التشكيل الإنساني. وتأسيسًا على هذه المعطيات نطرح الأسئلة التالية: ما هي الخصائص الحقيقية التي تميز الفعل الإنساني؟ هل هناك تفسير علمي وديني مقنعان لتصرفات الإنسان ووجوده التاريخي؟ ما هي مظاهر التي تميزه عن غيره من الكائنات؟

لقد حاولت بحوث علمية على اختلاف فروعها اكتشاف هذا اللغز البشري الذي أصبح موضوعًا للدراسة. كما نُظر إلى الإنسان باعتباره شتاتًا من العناصر التي تتحكم في بنيته العضوية والنفسية. ولذلك وجدنا طرائق قددًا في المجال العلمي: فالبيولوجيا نظرت إلى الإنسان كعناصر عضوية هي التي تتحكم في قواه العقلية والعاطفية. والسيكولوجيا نظرت إليه بمثابة خزان من ردود الأفعال نحو مثيرات خارجية أو غرائزية، كما أن علم الاجتماع فسر الإنسان انطلاقًا من بنى اجتماعية تحتية هي التي توجه سلوكه اللغوي والعلائقي مع الآخر، في حين اعتبر علم الأجناس الإنسان عبارة عن حمولة من الموروثات العضوية والعوائدية، إلى غير ذلك من فروع المعرفة العلمية الأخرى.

وقد اتفقت جل هذه العلوم حول مسألة واحدة هي غموض هذا الكائن وغرائبية سلوكاته سواء الغريزية أو المكتسبة. ولذلك اعترفت هذه العلوم بصعوبة امتلاك الخصائص التي تكوّن الفرد وصعوبة التحكم فيها أو توجيهها بشكل مبسط. ويمكن تفسير هذا اللغز والغموض في الظاهرة البشرية بكون الإنسان معجزة إلهية في طبيعة الصنع الخارجي، وفي الآليات الداخلية العصابية والعقلية والنفسية. ولذلك نجد في القرآن الكريم تذكيرًا غير ما مرة بأصل الإنسان وبمراحل الحمل والولادة ثم الموت والبعث. وهذا التحكم الرباني في الإنسان يظهر في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعام ماتوسوس به نفسه}[ق: 16] ثم إن السؤال التقريري في قوله عز وجل: {ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين* } [البلد: 8 ـ 9].

يؤكد أن هذه الأعضاء الخلقية هي مصدر التحرك السلوكي. فالعين ليست فقط وسيلة للمشاهدة ولكنها كذلك عقله الذي يرى به وعاطفته التي تحيي إليه اللذة وتشكل مجموعة مواقف عصبية.

في حين يبقى اللسان هو الأداة التي تنقل إلى الآخرين لغة العين من الناحية المرئية والتأملية.

وبذلك نجد أن العين في القرآن الكريم تصبح حجة على صاحبها يوم القيامة: {إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاْ} [الإسراء: 36].

فإذا كانت النظرية العلمية قد اعتبرت الإنسان لغزًا رغم معرفتها بالتشريح العضوي وبالخلايا والجينات، فإنها إنما تقر بعدم القدرة على التحكم في مجموعة عناصر منها:

ـ دواخله النفسية.

ـ ما تحدثه به إحساساته وخواطره الباطنية.

ـ نواياه الحسنة أو القبيحة.

ـ إخلاصه ـ شروده ـ تناقضاته الداخلية.

وهذا العجز عن إدراك مكونات الإنسان في شموليتها خلق شتاتًا في العلوم الإنسانية، وطرح مجموعة أسئلة: هل الفعل الإنساني خيّر أم شرير؟ وما العناصر التي تتحكم في سلوكاته؟ هل هي عصابية؟ غريزية؟ اجتماعية؟. وهذا الاختلاف في تقدير قوى الإنسان وفهم سلوكاته يكشف محدودية العلم وقصور المعرفة الإنسانية. وفي هذه الحالة نطرح هذا السؤال في وقت لا نملك فيه إلا التساؤل: هل يمكن للقرآن الكريم أن يمارس على الإنسان خطابا إقناعيًا ترغيبيًا وترهيبيًا دون معرفة دقيقة بآلياته النفسية؟

قبل البحث في هذه الإشكالية سأعرض لنموذجين علميين أثرا لفترة زمنية طويلة، على الساحة العلمية، وما زالت رواسبهما ظاهرة في بعض النظريات. إنهما علم الاجتماع الماركسي وعلم النفس الفرويدي.

1ـ نظرية فرويد(1):

رأى فرويد أن طبيعة الإنسان يتحكم فيها الجانب الذاتي الحيواني، وأن الأخلاق والدين يجهضان الغريزة الحيوانية في الإنسان. كما أنه يعتبر التطور البشري موازيًا لتطور الغرائز.

إلا أن المعاناة في نظره تعود إلى تلك القيود الأخلاقية التي تمثل عائقًا كبيرًا داخل اللاشعور.

وبذلك ينقسم الإنسان في نظره إلى شخصيتين: شخصية مقنعة حاضرة وشخصية مكبوتة غائبة.

والحضارة عند فرويد تقوم على مبدأ التنازل: تنازل الفرد عن ميولاته ولذائذه التي لا حد لها.

واعتبر كل تصحيح للسلوك البشري هو مجرد قمع وزجر. وفي معرض حديثه عن الإنسان وقلقه أمام عمليات التنشئة الموجهة يعتبر أن الأنا تتكون في داخلها نزعة مخالفة، تلاحظ، تمنع، تنتقد، تسمى الأنا الأعلى. وهكذا فالأنا قبل أن تستجيب للغرائز تجد نفسها مرغمة على الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط المخاطر الخارجية، ولكن أيضًا ما تفرضه الأنا الأعلى(2). ولذلك نجد فرويد يعتبر كل محاولة خارجية لعقلنة الفعل الإنساني سببًا للألم، لأنها تمنع الأنا من ممارسة حقائقها الداخلية الخاصة بها. وتجب الإشارة إلى أن نظرية فرويد قد ارتبطت بالفكر الوجودي، حيث إن فكرة الموت كانت تمثل له ذلك الشقاء الأبدي. ولذلك فقد ربط الطبيعة الإنسانية بالعدوانية وتيمة الموت. إن نظرية فرويد لا تميز بين السلوك الحيواني والإنساني في حين أن هناك فرقًا بينهما. صحيح أن الإنسان تحركه أحيانًا دوافع أقرب إلى البهيمة، ولكن الواضح هو أن الغريزة عند الحيوان جامدة لا تتغير بينما نجد الغريزة الإنسانية قابلة للتغير والتقويم، وهنا يأتي دور التربية والثقافة المدرسية والمجتمعية والأسرية والدينية. ففي القرآن الكريم آيات تحدد مسافتين زمنيتين عند الإنسان:

ـ زمن الغريزة التي تختلف فيها درجة الحيونة.

ـ زمن التصحيح بعد تدخل طرف خارجي.

ومن هذه الآيات:

ـ {إنَّ الإنسان لفي خسر* إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات} [العصر: 2 - 3 ـ]. {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف ين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103].

ـ {و أنا لمّا سمعنا الهدى آمنّا به} [الجن: 13].

لكن فرويد يريد أن تخرج الغريزة الحيوانية إلى الوجود دون عائق. لهذا فهو يرفض التربية والأخلاق. ففي كتابه (قلق الحضارة) يركز على مصطلحين هما الشقاء والصراع، شقاء الإنسان أمام عدم تحقيق نزواته، ثم صراع الدين والأخلاق مع الغرائز.

2ـ التصور الماركسي للطبيعة الإنسانية:

يؤكد هذا التصور الطابع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية، أي أن الذي يحدد قيمة الفرد هو موقعه داخل العلاقات الاجتماعية التي تربطه بالمجتمع الذي يحيا فيه ويمارس فيه كينونته. وهذا الاعتقاد دفع ألتوسير إلى ربط كل فعل تربوي بقوى وعلاقات الإنتاج وبالقوى المسيطرة عليه. ولذلك فهو يرفض المدرسة ويعوضها بالوسط الاجتماعي كمؤسسة بديلة ودون توجيه. على عكس المدرسة التي تؤدلج الفعل التربوي. إن الإنسان في ظل هذا التصور لا قيمة له في غياب النسق الاجتماعي الذي يكمل وحدة الإنسان الجوهرية. وهذه النظرة التشييئية تجعله مجرد مادة أو رقم اقتصادي وبالتالي يتجرد من الفكر والعاطفة والسلوك. إذ إن إكمال وحدة الفرد موكولة للمجتمع وبناه الاقتصادية. وفي هذه الحالة نلاحظ أن التواصل الإنساني يقوم على وحدة الأجسام والبطون وليس على وحدة القلوب وألفة النفوس(3).

3ـ التصور الإسلامي للطبيعة الإنسانية:

لقد عالج الإسلام الطبيعة الإنسانية بفلسفة تربوية نابعة من خطاب قرآني وسنة نبوية. والملاحظ أن الإسلام اهتم في توجهه التربوي بالفرد ثم حاول ضبط هذا الكائن داخل الفئة الاجتماعية. وهذه الأخيرة تعتبر جزءًا من الأمة عامة. ولعل المساجد التي ينظر إليها على أنها مؤسسة تقليدية قد أدت أدوارًا تاريخية في التنشئة على فهم الحقوق والحدود والواجبات. وإذا تأملنا القرآن فإننا نلاحظ تركيزه على مسألة المعرفة: معرفة الله/ معرفة النفس/ معرفة الكون/ معرفة الجنة والنار. ومصدر هذه المعرفة كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه (السنة). ففي سورة العلق يقول الحق سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم}[العلق:1 ـ4] والملاحظ أن هناك خمسة مركبات فعلية: اقرأ ـ اقرأ ـ علم ـ يعلم ـ علم + (خلق).

ثم إن هناك مسافة بين فعل القراءة كمرحلة أولى والعلم كمرحلة أرقى. وجاءت الآية رقم2: {خلق الإنسان من علق} بمثابة حد فاصل بين القراءة والعلم. وهذا دليل على أن المعرفة درجات تبدأ من عملية القراءة إلى غاية العلم بالظواهر. وهذا التقسيم في الآيات من سورة العلق (الآية 1 إلى الآية 5) يعطينا ثلاثة أمور أساسية:

1ـ أن الأمر بالقراءة جاء من قوة إلهية هي التي خلقت هذا الذي يجب أن يقرأ، وهذه الملاحظة تؤكد حكم الله في الصنع (نطفة ـ علقة ـ مضغة ـ عظام ـ لحم) ولذلك ففعل الأمر لم يأت عبثًا، وإنما من خالق، صانع، مصور يعرف مأموره منذ النشأة الأولى.

2ـ أن القراءة تصبح وسيلة لمعرفة شيئين: الذات الإنسانية نفسها، ثم الذات الإلهية التي وراء هذا الخلق.

3ـ حين تسمح القراءة للإنسان بمعرفة ذاته وربه، فإنها ترقى إلى قراءة أخرى أعمق هي العلم، وبالتالي سيعلم الإنسان مجموعة أشياء كان يجهلها سابقًا {ما لم يعلم} ومنها: كينونته/ وظيفته/ اختلافه عن باقي المخلوقات/ حقوقه/ واجباته/ ربه. ويحتل لفظ (القلم) دلالة بالغة في الآية رقم 4، فهو وسيلة للتدوين والحجة. إنه الذاكرة الثانية بعد العقل، كما أنه جاء كناية عن تنظيم المعرفة والانتقال بها من السماع إلى التدوين حتى يربط الإنسان بالممارسة الدائمة. ثم إن كلمة (علم) تعني (لقن/ كون/ ربى/ صحح/ أنشأ/ ونقل من حالة إلى أخرى)، وهذه المدلولات تؤكد أن الإنسان ليس سلعة مادية أو رقمًا اقتصاديًا في سوق الإنتاج كما يدعي ماركس وأتباعه، وليس نزوة حيوانية كما يعتقد فرويد، وإنما هو:

جسد: وجود أعضاء وظائفية لها ارتباط بالسلوك.

وعقل: تمييزه عن الحيوان.

وعاطفة: وجود دوافع بيولوجية وأخرى خارجية.

وسلوك: وجود مواقف وأفعال وحركات ذات معنى.

وهذه الآيات تتحول مع الدُّربة إلى واقع إنساني يمتلك القدرة العقلية والعاطفية على الاختيار والتمييز والحكم. وحين كرم الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له كما في سورة البقرة: {وأذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] والحجر: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين*} [الحجر: 28 ـ 29] إنما هو دليل على قيمة الصورة الخلقية {فتبارك الله أحسن الخالقين}[المؤمنون: 14] والقيمة العقلية. وتظهر الميزة العقلية التي كرم بها الله الإنسان في نقله من ظلمة الأمية إلى نور المعرفة ومن ظلام الجاهلية والبهيمية إلى نور العلم والإيمان. ففي سورة الجن نلاحظ هذا التحول {...إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدي إلى الرشد فآمنا به...} [الجن: 1 - 2] . الجن في السابق طرائق قدد فتحولوا إلى الهدى والتوحد حول الحق. فالإنسان حين يمتلك المعرفة من مصدرها القرآني بالعين والصورة والسمع، والترغيب والترهيب، فإنه سيكتشف حقيقة وجوده ووظائفه. صحيح أن فروع المعرفة العلمية التي تناولت بالتحليل الإنسان كموضوع للدراسة، صحيح أنها أقرت كذلك بالمعرفة، ولكن ما نوع هذه المعرفة؟ ماذا أعطت للإنسان؟ ما علاقتها بالضمير الإنساني الحي؟ فهناك المعرفة اللغوية عند بياجي وتشومسكي ووبسون لابار، وهناك المعرفة الاجتماعية عند دور كايم، والمعرفة النفسية عند واطسن وسكينر وبافلوف، وهناك المعرفة الفلسفية عند ألتوسير وشبنغلر، وهرمان هسه وهايدغر، وهناك المعرفة العلمية المخبرية. ولكن هذه المعارف لم تجب عن تساؤلات الإنسان بما يشبع حاجته النفسية ويحقق له سعادته الدينية والدنيوية، حيث كثرت ظاهرة الانتحار عند كثير من الفلاسفة والعلماء.

وإذا رجعنا إلى السنة النبوية نجد أحاديث كثيرة في هذا السياق. ومعلوم أن السنة جاءت لتبين أو تؤكد حكمًا في القرآن، يقول عليه الصلاة والسلام: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع»(4). هذا الحديث فيه ثلاثة أحكام تربوية وسيكولوجية عميقة:

الأولى معنى الفعل مروا + اضربوا + فرقوا. فهناك تداخل بين مجموعة عمليات تتعلق بالصلاة والتعود عليها ثم المحافظة على أدائها، وهذه العمليات ترتبط بالتدرج في السن. حيث إن المعرفة لها حدود ووظائف عقلية نمائية. وهنا تصبح المعرفة الدينية مشروعًا إنسانيًا كبيرًا هو تطهير البدن والعقل والسلوك. وهذا التطهر ينزع صفة الحيوانية عن الكائن البشري لذلك يقول تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير}[فاطر: 19].

الثانية تتعلق بالمعرفة في جانبيها الدنيوي والديني، فالحديث لا يفصل المعرفة عن السلوك فما قيمة المعرفة إن لم يتغير سلوك صاحبها؟ {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} [الصف:3].

الثالثة تتعلق بالتفريق في المضاجع، فالرسول يراعي الاختلاف الجنسي الذي قد يتحول عند الإنسان البهيمي أو الطفل اللامسئول إلى نزعة عدوانية. ولذلك وجب التفريق بين الأطفال في النوم لدرء كل ما يمكن أن يسيء إلى التكريم الذي خص به الله عباده في سورة الإسراء، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر} [الإسراء: 70].

إن المعرفة الإنسانية في الفهم الإسلامي تعتبر تربية، وعلمًا بالحقيقة وسلوكًا مسؤولاً في الحياة. وعليه فإن هناك أنواعًا معرفية في القرآن الكريم هي:

1ـ المعرفة الإخبارية:

وهي التي يسرد لنا فيها القرآن أخبارًا عن الجنة والنار والخلق والكون، بحيث تتجمع عند الإنسان معلومات أولية سيخضعها للعقل والتجربة والمعيشية، وينقسم هذا الإخبار إلى ما كان وما سيكون وما هو كائن.

{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7].

{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5].

{إذا وقعت الواقعة* ليس لوقعتها كاذبة*} [الواقعة: 1 ـ 2].

{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].

{ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب*} [إبراهيم: 52].

2ـ المعرفة المرئية:

وتتعلق بالمشاهدة العينية لبعض الظواهر والكائنات الدالة على الضعف البشري في مقابل القدرة الإلهية. ولكن هذه المشاهدة لا تقف عند حدود المعاينة والتفرج، وإنما تتحول إلى نوع من التأمل والتساؤل. لذلك نجد أغلب الآيات المتعلقة بحاسة النظر تبدأ بسؤال إنكاري أو بأمر:

{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17].

{فلينظر الإنسان مم خلق} [الطارق: 5].

{ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً} [النمل: 86].

3ـ المعرفة الفيزيائية:

وهي إدراك الإنسان داخل فيزيائية الزمان والمكان والأشياء وهي تتطابق مع الواقع، بحيث إن العقل البشري يوجد بواسطة الأفكار تصورات عن مجموعة حقائق انطلاقًا مما تسميه النظريات الفيزيائية فكرة الموضوع. وهذه المسألة موجودة في القرآن بحيث نجد عوالم وحيوات في الزمان تماثل الواقع والانطباعات الحسية. يقول تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد*} [الحج: 1 ـ 2] وقوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس: 24]. والملاحظ أن هناك مفارقة كبيرة بين زمانين معينين

4ـ المعرفة العلمية:

هي أرقى مراحل المعرفة الإنسانية، وفي القرآن هي توصل الإنسان إلى ثوابت تؤكد الربوبية والوحدانية والبعث والإعجاز الإلهي، قال تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها*}[النازعات: 30 ـ 31] أصل الأرض قبل توزيعها إلى بحار ومراعي.

{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5].

علم الفلك.

{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15].

قانون التوازن.

{وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه: 53].

5ـ المعرفة الاضطرارية:

ذلك أن الوجود الإنساني مرتبط بضرورات إنسانية تتعلق بالسلوك والمرض والصحة والأمل والرغبة، ولذلك وجدنا في القرآن سيلاً من الآيات جاءت لتجيب عن جملة من الأسئلة الظاهرة والمبطنة في داخل الكائن البشري الباحث عن سبل الاطمئنان النفسي والعضوي:

{يسألونك عن المحيض} [البقرة: 222].

{يسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220].

{يسألونك عن الخمر} [البقرة: 219].

وكلها آيات نابعة من الضرورة الحياتية والفضول المعرفي المرتبط بالحاجة التي فرضتها سنة التعايش والحرص على بقاء النوع البشري.

خلاصة:

إن الإسلام قد حدد بعمق مفهوم الطبيعة الإنسانية وشرح آلياتها وفسر عناصرها ومكوناتها. كما أنه نظر إلى الإنسان داخل الفئة الاجتماعية، ثم ضبط الجماعة في الأمة. يقول عليه الصلاة والسلام: «وخالق الناس بخلق حسن»(5) وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(6)، ثم إن الإسلام حين أكد المعرفة، فقد ربطها بالآخرة بحيث يصبح العلم بالشيء فضيلة مزدوجة: أنسنة التصرف البشري وفق التعايش السلمي بعيدًا عن مظاهر العنجهية والحيوانية، ثم إدراك الغاية من الوجود البشري {وللآخرة خير لك من الأولى} [الضحى: 4]. حيث يصبح الإنسان مطالبًا بتخليق سلوكاته وعلاقاته الخاصة والعامة، وتصبح الحاجة إلى التعلم والعلم ضرورة دنيوية وفضيلة أخلاقية، ويبقى الإنسان في التصور الإسلامي هو ذلك الكائن الاجتماعي المكون من جسد وظائفي وعقل تمييزي وحشد من العواطف والإحساسات والرغائب المشروطة بأخلاقيات فاضلة ومعرفة بالذات والله والكون عامة.

الهوامش

1ـ عالم نمساوي (1939ـ1865) قسم الذات الإنسانية إلى الأنا ـ الأنا الأعلى ـ الهو.

Moise et le monotheisme

3ـ فكرة محمد إقبال، الشاعر الباكستاني.

4ـ حديث رواه الحاكم وأبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص.

5ـ رواه الترمذي.

6ـ رواه البخاري ومسلم.

------------------

الدروس والعبر المستفادة من سقوط بغداد عاصمة الخلافة

التفرق والاختلاف

نبذ الهوى

احذروا الحالقة التي تحلق الدين

الحذر من الاختراق

الحذر من العمل أو القتال تحت راية عُمِّـيَّـة

من تولى عن حكم الله ورسوله تولى الله عنه

توحيد مصدر التلقي وكيفية التلقي لهذا الدين

تصحيح العقيدة ونبذ الممارسات الشركية

التحاكم إلى شرع الله ونبذ القوانين الوضعية

ترك الذنوب والآثام

احذروا الظلم

 

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "المؤمن أمرُه كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس هذا إلا للمؤمن".

ما أكثر الدروس وما أجل العبر في حياة المسلم، وما أقل المعتبرين والمدَّكرين، ويا أسفا على الغفلة والغافلين، وما أصدق قول القائل:

ما مرَّ يوم على حي ولا ابتكرا             إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا

الطوام العظام، والمآسي الجسام التي حلت بالمسلمين قديماً وحديثاً لا تنقضي، وما من طامة إلا والتي تليها أكبر منها، ومن أمثلة تلك الطوام التي لا تنسى، والمآسي التي تدع الحليم حيران، سقوط بغداد على أيدي التتار الأقدمين، وسقوط الأندلس، والخلافة الإسلامية، وضياع فلسطين على أيدي الصهاينة والصليبيين، وسقوط بغداد الثاني على أيدي التتار المُحْدَثين.

وعلى الرغم من اختلاف الأزمنة، والأهداف، والأدوار، والمنفذين، إلا أن الغرض واحد، وهو ضرب الإسلام ومحاولة القضاء عليه، وسبب تداعي هذه الأمم الكافرة على الإسلام وإلى يوم القيامة واحد كذلك، وهو ما أخبر به رسول الهدى وأرشد إليه بقوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها؛ قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن؛ قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم".

وبقوله كذلك: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم".

وقال فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: "خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر".

وقد صدق القائل:

بذا قضى الله بين الخلق مذ خلقوا        إن المخاوف والإجرام في قرن

وكذلك العظات والعبر والدروس المستفادة سواء.

ومن العجيب الغريب أن ينتبه ويتفطن بعض عقلاء الكفار لهذه الدروس ويستفيدوا منها، ويغفل عنها أهلها الذين خوطبوا بها.

استمع إلى ما حكاه الإمام ابن قتيبة الدينوري رحمه الله في كتابه "تأويل مختلف الحديث": (حدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور العباسي سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله عز وجل ومساخطه، جهلاً منهم باستدراج الله تعالى، وأمناً من مكره تعالى، فسلبهم الله تعالى الملك والعز، ونقل عنهم النعمـة، فقـال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبيد الله بن مروان دخل أرض النوبة هارباً فيمن اتبعه، سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبيد الله، فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة، ويسأله عن ذلك؛ فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة.

فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها، وأقمت ثلاثاً، فأتاني ملك النوبة، وقد خبر أمرنا، فدخل عليَّ رجل طوال، أقنى، حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟! فقال: إني مَلِك، وحق على كل مَلِك أن يتواضع لعظمة الله عز وجل إذ رفعه الله؛ ثم أقبل عليَّ فقال لي: لِمَ تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا؛ قال: فلِمَ تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك جهالنا؛ قال: فلم تلبسون الديباج والحرير، وتستعملون الذهب والفضة، وهو محرم عليكم؟ فقلت: زال عنا الملك، وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا؛ فاطرق ملياً، وجعل يقلب يده وينكت في الأرض، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم  قوم استحللتم ما حرم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله تعالى العز وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاث، فتزودوا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن بلدي؛ ففعلتُ ذلك).

هذه الحكاية غنية عن التعليق، وكافية لمن ألقى السمع وهو شهيد؛ العظات، والعبر، والدروس من هذه الطامة ومن غيرها كثير، وسنشير إلى أخطرها، فنقول:

أولاً: التفرق والاختلاف

من الدروس العظيمة والعبر الخطيرة التي يمكن أن يعقلها العاقلون، ويستفيد منها المستفيدون، خطورة التفرق والاختلاف الذي أصاب هذه الأمة، وكان سبباً لكل النكبات التي حلت بالمسلمين قديمأً وحديثاً، وعظمت به البلوى واشتد به الكرب في هذا العصر خاصة، حيث أضحى المسلمون شيعاً وأحزاباً، كل حزب بما لديهم فرحون، على الرغم من تحذير الله ورسوله لهم عن ذلك، فقال عز من قائل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، وقال: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء".

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة؛ قال: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".

لقد أفلح الكفار في انتهاج سياسة "فرِّق تسد" بين المسلمين، بعد أن قسموا الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة بحدود وهمية، ولم يخرج المستعمر من ديار الإسلام إلا بعد أن زرع قنابل موقوتة تفجرت بعد خروجهم بين الإخوة والجيران، ولا تزال تتفجر.

فعلى المسلمين أن يجمعوا بين صفوفهم، وأن ينبذوا أسباب الفرقة والخلاف ليكونوا عباد الله إخواناً، فالفرقة شر، والخلاف شر، ولولا اختلاف المسلمين وتفرقهم لما استطاع الكفار أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، ولله در القائل:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً           وإذا افترقن تكسرت آحاداً

وليس لهم مجال إلى الاجتماع والائتلاف إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ونبذ الهوى، وهو:

ثانياً: نبذ الهوى

من الأسباب الرئيسة لهذا التفرق، والتشتت، والتناحر اتباع الهوى وحب الدنيا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا هو المانع للناس عند التنازع من رد الأمر إلى الله ورسوله كما أمرنا ربنا: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً".

هذه الأدواء الثلاثة إذا حلت بالأمة لم يُجدِ فيها أمر ولا نهي، ولم تنفعها نصيحة، كما أخبر الصادق المصدوق: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام"، واتباع الهوى مانع لاتباع الحق: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً".

واتباع الهوى، وحب الدنيا، والإعجاب بالرأي، والاغترار بذلك، بجانب أنه مصدر الخلاف في هذه الأمة فهو سبب للتباغض، والتحاسد، والتدابر، والتقاطع، وهو الدرس الآتي:

ثالثاً: احذروا الحالقة التي تحلق الدين

التفرق، والتشتت، وانعدام الثقة، أفرز في الأمة أمراضاً خطيرة من أمراض الأمم السابقة التي لم تكن معروفة في سلفنا الصالح، وبهذا أخبر الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشَعَر، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".

إذا لم تتخلص الأمة من هذه الأدواء فلا سبيل إلى عزها ونصرها، وأنى يأتي النصر مع التفرق، والتشتت، والتحاسد، والتباغض، والتدابر؟

رابعاً: الحذر من الاختراق

هذه وسيلة من وسائل الكفار والمنافقين القديمة الحديثة، إذ لم يزل الكفار والمنافقون يمارسونها ويتفتنون فيها بعد أن ذاقوا ثمارها، فهي تمكنهم من الوصول إلى أغراضهم بأقل الخسائر، وأقصر الطرق، وليس ما حدث يوم الأربعاء المشؤوم في بغداد عنا ببعيد، حيث انقلبت الموازين، واختلت الأمور، ودخل الصلييون عاصمة الخلافة بغداد في سهولة ويسر لم يكن يتصوره إنسان، كل ذلك بسبب الغدر والخيانة، والاختراق المبكر لضعاف النفوس وأراذل القوم، الذين باعوا آخرتهم إن كانت لهم آخرة بدنيا غيرهم، وسلموا عاصمة الخلافة الإسلامية في عهدها الزاهر لقمة سائغة لأعداء الملة والدين، فازدادوا كفراً على كفرهم، بتوليهم للكفار، وعونهم لهم، كيف يمكن للأمة الإسلامية أن تأمن الاختراق في هذا العصر الذي ضعف فيه المسلمون واستأسد فيه الكفار والمنافقون، وقد حاولوا اختراق عمال عمر رضي الله عنه؟

سأل عمر رضي الله عنه حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين: "ناشدتك بالله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال حذيفة: لا؛ ثم قال له: ناشدتك بالله، هل في عمالي أحد منهم؟ قال: نعم؛ ولكنه أبى أن يسميه له؛ فعزله عمر كأنما دلّ عليه، وذلك لأنه كان ذا فِرَاسة صادقة، وبصيرة نافذة، ورأي سديد.

فالحذر الحذر من الاختراق، والحرص الحرص على الحيطة.

خامساً: الحذر من العمل أو القتال تحت راية عُمِّـيَّـة

من الدروس المهمة، والعظات الواجب أخذها من هذه المأساة، الحذر كل الحذر من العمل تحت راية عُمِّـيَّة، وأخطر من ذلك القتال تحت رايةعُمِّـيَّة، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

خرَّج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عُمِّـيَّة، يغضب للعصبية، ويقاتل للعصبية، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب برَّها وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يتقي بذي عهدها، فليس مني".

وما رأينا وسمعنا من خذلان وتنكر أصحاب الرايات العُمِّـيَّة لإخوانهم الصادقين، الذين جاءوا لنصرتهم في بغداد ولصد العدوان عنهم، من فعال يندي لها الجبين، وليت أصحاب هذه الرايات العُمِّـيَّة قاتلوا حمية وعصبية، لأنه يمكن نصر هذا الدين بالرجل الفاجر، ولكنهم آثروا الآجلة على الآخرة، وحجبوا السلاح عن المجاهدين الصادقين، وضللوهم، وتجسسوا عليهم لصالح إخوانهم من الكفار الغازين، مما جعلهم وسط نارين.

لهذا فإنه يجب على الصادقين المخلصين الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى أن يحذروا القتال مع أصحاب الرايات العُمِّـيَّة.

سادساً: من تولى عن حكم الله ورسوله تولى الله عنه

من أسباب الخذلان الرئيسة في جميع النكبات والمآسي التي حلت بالمسلمين قديماً وحديثاً تولي المسلمين عن حكم الله ورسوله، وعدم نصرهم لله، ومن تولى عن الله وخذل دينه هيهات أن يعينه الله، بل يتركه الله أذل وأحقر ما يكون، قال تعالى: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، وقال: "إن الذين يحادُّون الله ورسوله أولئك في الأذلين".

لذا يجب على المسلمين أن يتعظوا ويفيقوا من سباتهم، ويراجعوا حالهم، ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، عليهم أن يتهموا أنفسهم في اعتقادهم، وفي عبادتهم، وفي سلوكهم، وفي معاملتهم لإخوانهم المسلمين، وفي تقصيرهم نحو الكفار أمة الدعوة في ترك جهادهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

وإذا أرادوا العز ، والخروج من هذه النكبات والكوارث والمصائب والملمات، والنصر على الأعداء، فعليهم بالآتي:

(أ)  توحيد مصدر التلقي وكيفية التلقي لهذا الدين

من المسلمات في هذا الدين أن مصدر التلقي فيه هو الوحي المنزل من عند الله عز وجل، قرآناً وسنة، لا مصدر غيره ولا مرجع سواه، وكيفية تلقي هذا الوحي بيّنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها خلفاؤه وأصحابه ومن والاهم، وملخص ذلك التسليم المطلق، والإذعان الكامل، والرضا التام بحكم الله ورسوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً".

وهذا هو ما كان عليه السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، ولكن عندما تعددت المصادر بأن ابتدعت مصادر جديدة، نحو:

1.   الفلسفة والمنطق.

2.   العقل البشري.

3.   المصلحة الموهومة.

4.   الخلاف المجرد من الدليل.

وتغيرت كيفية تلقي الوحي، بحيث أصبحت النصوص الصحيحة الصريحة تعرض على هذه المصادر الجديدة المبتدعة، فما وافقها قبل، وما خالفها أوِّل أو ردّ، تغيرت أحوال المسلمين، وتفرقوا، وتشتتوا، وخذلوا، وهزموا، وهانوا على أعدائهم.

فإذا أردنا لهذه الأمة الوحدة والائتلاف، ونبذ الخلاف، فهذا هو طريق الوحدة والاجتماع، وبدونه فلن تجتمع الأمة، وإنما ستزداد تفرقاً وتحزباً وشتاتاً.

(ب)  تصحيح العقيدة ونبذ الممارسات الشركية

لقد بلغ الفساد العقدي لدى كثير من المسلمين مداه، بحيث فاق ما كان عليه المشركون الأوائل، وقد صور ذلك أبو السمح أحد أئمة الحرمين الشريفين السابقين شعراً، فقال:

ولقد أتى في الذكر أن دعاءهم           في الكرب كان لربنـا الرحـمن

فإذا  دنا فـرج و شامــوا برقه          عـادوا إلى الكفـران و الطغيان

لكن قومي في الرخـاء و ضـده          يدعــون غيـر الله بالإحـسان

يدعون أمواتاً غدوا تحت الثـرى          ما إن لهم في ذي الورى من شان

و الله كاشـف كل كرب قــادر          وسـواه ذو عجـز فقيـر فـانٍ

ومصداق ما قاله أبو السمح في واقع المسلمين واضح للعيان، من أمثلة ذلك ما يلي:

عندما هاجم التتار القدامى بلاد الشام، وخاف الناس أن يصيبهم ما أصاب إخوانهم في عاصمة الخلافة بغداد، طمأنهم أحد الناس بقوله:

يا خائفين من التتـار             لوذوا بقبر أبي عمر

لوذوا بقبر أبي  عمر             ينجيكم من الخطـر

كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه عنهم، وقال لهم: لو كان أبو عمر حياً لما استطاع أن يفعل شيئاً مع هذه الحال؛ فشمَّر شيخ الإسلام وتلاميذه عن ساعد الجد، وحثوا الحكام والعامة على الجهاد، وإصلاح العقائد والنيات، فكتب لهم النصر على التتار عندما التقوا بهم ثانية.

وعليك أخي القارئ أن تقارن بين ما قاله هذا الرجل، وبين ما قاله عبد المطلب وكان مشركاً، عندما جاء أبرهة عازماً على هدم الكعبة، ولم تكن له ولقومه استطاعة بردهم، لجأ إلى الله متضرعاً متذللاً، مما يدل على أن حال بعض إخوتنا المسلمين اليوم أسوأ من حال المشركين الأوائل، كما قال أبو السمح رحمه الله.

قال ابن هشام: (ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لاهـمَّ إن العبـد يمـ              نعُ رَحله فامنع رحالك

لا يغلبـن صليبُهــم              و محالُهم غدواً محالك

إن كنتَ تاركهم وقبـ               ـلتنا فـأمر ما بدا لك

أما كان لهذا الرجل وأمثاله الذي دعا إلى التوسل بالأموات، وهو يدَّعي الإسلام، أن يفعل ما فعله عبد المطلب وهو مشرك، عندما عجز عن دفع الأعداء؟!

فاستجاب الله دعاء هذا المشرك المضطر وحمى بيته، وأهلك أبرهة، وأرسل عليهم عذاباً من عنده، وأنزل في ذلك سورة تتلى إلى يوم القيامة.

فأنى يكتب النصر لأمة اتخذ بعضها القوميات والنعرات ديناً يعبد بدلاً عن الله عز وجل؟!

وإليك أخي الكريم نماذج لهذه الكفريات، إذ ناقل الكفر ليس بكافر، سيما لو كان هدفه العظة والاعتبار:

(يقول الشاعر التركي محمد أمين: "أنا تركي.. ديني سام، جنسي عظيم، قلبي مملوء بالنار"، وقد غلا كثير منهم حتى قالوا: نحن أتراك، فكعبتنا طوران؛ وتغنوا بمدائح جنكيز خان).

وفي مقابل ذلك يقول دعاة البعث العربي الجاهلي ما يفوق ما قاله دعاة القومية التركية الجاهلية:

آمنت بالبعث رباً لا شريك له            وبالعروبة ديناً ماله ثانِ

وقالوا هاتفين: "البعث ديني والعروبة مذهبي".

وقال كبيرهم الذي علمهم السحر: "يجب تجميد القرآن لأنه يولد الكبت".

وقال أحدهم:

يا مسلمون ويا نصارى دينكم          دين العروبة واحد لا اثنان

وقال آخر:

سلام على كفر يوحد بيننــا          وأهلاً وسهلاً بعده بجهنـم

أبعد كل ذلك تعجب أخي الكريم من سقوط الدولة العثمانية، وسقوط عاصمة الخلافة بغداد، إذا كانت هذه عقيدة حماتها؟

(ج)  التحاكم إلى شرع الله ونبذ القوانين الوضعية

من أسباب الخذلان الواضحة لهذه الأمة تنكرها لشرع نبيها، وتحاكمها للقوانين الوضعية، بعد أن نبذ جلهم حكم الله ورسوله وراءهم ظهرياً، فليس لها خلاص مما هي فيه من الذل والهوان إلا برجوعها إلى شرعها المصفى، وصدق توبتها عن تخليها عنه في الفترة الماضية بعد سقوط الدولة العثمانية، فمن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، فماذا بعد الكفر، والظلم، والفسق، إلا الضلال المبين؟

(د)  ترك الذنوب والآثام

المعاصي بريد الكفر، والمسلمون لا يجاهدون أعداءهم بقوة عتاد ولا عدة، وإن كان لابد من الإعداد وأخذ الحيطة: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، ولكن يجاهدون ويحاربون أعداءهم بصدق الإيمان، والتوكل على الله، وباجتناب الذنوب والآثام، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول لجنده: "والله أنا من ذنوبكم أخوف عليكم من عدوكم"، أوكما قال.

قدم وفد على عمر بن الخطاب بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار؛ قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار؛ فقال: إنا لله! أوقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره؟! والله إن كان هذا إلا عن ذنب استحدثتموه بعدي، أوأحدثته بعدكم، ولقد استعملت يعلى بن أمية على اليمن، أستنصر لكم بصلاحه.

فالحذر الحذر من اقتراف المعاصي والاستهانة بها، فحب الله يستلزم طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، فلا يؤمن المرء حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

فالحذر الحذر من الذنوب والمعاصي والتهاون في ذلك، فهي من المهلكات، وسبب للخذلان في الحياة وبعد الممات.

(ﻫ ) احذروا الظلم

الظلم ظلمات يوم القيامة، ولهذا فإن الله حرَّم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً، فقال صلى الله عليه وسلم: "فلا تظالموا"، وقد جاء في الأثر: إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة.

فالظلم، سيما ظلم المسلم لأخيه المسلم، وتعديه على ماله، ودمه، وعرضه، من أقوى أسباب الخذلان، فكم دولة زالت وكم حاكم ذل بسبب الظلم والتعدي على حقوق الآخرين، فإذا دعتك أخي الكريم قدرتك على ظلم غيرك فتذكر قدرة الله عليك، وأن الله يمهل ولا يهمل، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يملي الظالم، فإذا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى".

كتب عامل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن مدينتنا احتاجت إلى مرمة؛ فكتب إليه عمر: حصِّن مدينتك بالعدل، ونق طرقها من المظالم.

قال بعض الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبها سرعة ظلم من لا ناصر له، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.

ذكر الذهبي في الكبائر له: (لما حبس خالد بن برمك وولده، قال له ولده: بعد العز صرنا في القيد والحبس؟ فقال: أي بني، دعوة مظلوم سرت بليل، غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها).

وقال أبو الفداء بن عقيل الحنبلي: (حكي أن بعض الوزراء ظلم رجلاً، فقال له الرجل: اتق الله، وكفَّ عني، وإلا دعوتُ الله تعالى عليك؛ فقال الوزير: ادع بما شئتَ؛ فما مضت أيام حتى قبض الوزير وعذب، فكتب إليه الرجل بهذين البيتين:

سهام الليل لا تهدأ ولكن           لها أجـل وللأجل انتهاء

أتهزأ بالدعاء و تزدريه            تأمل فيك ما فعل الدعاءُ؟!

وأخيراً أحب أن أختم حديثي هذا بأبيات من الشعر رُثيت بها الأندلس، والخلافة العثمانية عند ضياعهما من المسلمين، أتمثل بها، ولم أتمن أن أكون شاعراً إلا عند سقوط بغداد واحتلال الصليبيين لها، لأرثيها كما رثى أبو البقاء الرندي الأندلسي وأحمد شوقي الخلافة العثمانية، وإن كان الرثاء لا يجدي ولكنه يسلي النفس، ويذكر القادمين بما حل بأسلافهم، ويحفز الجادين على العمل.

قال الرندي رحمه الله يرثي الأندلس في قصيدة تربو على الخمسين بيتاً، مطلعها:

لكـل شيء إذا مــا تـم  نقصان          فلا يغـر بطيب العيـش إنسان

نختار منها بعض الأبيات:

هي الأمور كما شاهدتَهـــا  دول         من سرَّه زمنٌ سـاءته أزمـانُ

و هذه الـدار لا تبقى على أحــد         ولا يدوم على حـال لهـا شان

فجـائع الدهـر أنـواع   منوعـة         وللزمان مسـرات وأحــزان

و للحـوادث سلـوان   يسهلهــا         وما لما حل بالإسـلام سلـوان

دهى الجزيـرة  أمر لا عـزاء  له         هوى له أحـد و انهـد ثهـلان

أصابها العين في الإسلام  فارتزأت         حتى خلت منه أقطـار وبلـدان

تبكي  الحنيفيـة البيضاء من  أسف         كما بكى لفـراق الإلف هيـمان

على  ديار من الإسـلام  خـاليـة         قد اقفرت و لها بالكفر عمـران

حيث المساجد قد صارت كنائس  ما         فيهن إلا نواقيـــس و صلبان

حتى المحاريب تبكي وهي جـامدة         حتى المنابر ترثي وهي عيـدان

يا غافلاً وله في الدهـر موعظـة          إن كنتَ في سنة فالدهـر يقظان

تلك المصيبة أنست مـا تقدمهــا          و ما لها من طول الدهر نسيـان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهـم          قتلى وأسـرى فمـا يهتز إنسان؟

ماذا  التقاطـع في الإسـلام  بينكم          و أنتم يـا عبـاد الله إخــوان؟

ألا نفـوس أبيّـات  لهـا همــم           أما على الخير أنصار و أعوان؟

يا من لذلـة قـوم بعـد  عزهـم           أحـال حولهم  جـور و طغيان

لمثل هذا يذوب  القلب عن  كمـد           إن كان في القلب إسلام و إيمان

أما أمير الشعراء شوقي فقد رثى الخلافة العثمانية عند سقوطها قائلاً:

عادت أغاني العرس رجع نواح            و نعيتِ  بين معالم الأفــراح

كُفنتِ في ليل الزفـاف  بثـوبه            و دفنتِ عند  تبلج الإصبــاح

شُيعتِ من هلع بعبرة  ضـاحك            في  كل ناحية و سكـرة صاح

ضجت عليك  مآذن و منــابر            و بكت عليك ممـالك و نواحي

الهند  والهة و مصر حـزينـة            تبكي عليك  بمدمـع سحَّــاح

والشام تسأل و العراق و فارس            أمحا من الأرض  الخلافة ماح؟

نسأل الله أن يغفر لأحمد شوقي بهذه الأبيات تطاوله على السلطان عبد الحميد رحمه الله في أبياته الظالمة المتعدية على هذا السلطان، التي مطلعها:

عبد الحميد حساب مثلك           في يـد الملك القديـر

لقد صمد السلطان عبد الحميد صموداً لو صمده الحكام بعده لما ضاعت فلسطين، ولما قضى على دولة الطالبان، ولما سقطت بغداد، لقد ضحى بملكه وبسلطانه العريض، ولو سمح لليهود بإقامة وطن في فلسطين لبقي حكمه وسلطانه، ولكنه آثر الآخرة على الدنيا، والباقية على الفانية، لقد أغرى اليهودُ السلطانَ عبد الحميد مقابل السماح لليهود بإقامة وطن في فلسطين بإغراءات كثيرة، منها:

1. إقراض الخزينة العثمانية أموال طائلة.

2. تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية.

3. تحالف سياسي يوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا.

لكن السلطان ركل كل ذلك، وطرد الوسطاء من مجلسه، وأصدر أمراً بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، وساعتئذ قرروا عزله، والقضاء على الخلافة، ليأتوا ببدائل تمكنهم من تنفيذ هذا المخطط الخبيث الذي أكرم السلطان أن يكون عليه وزر منه.

على حكام المسلمين اليوم التأسي والاقتداء بهذا السلطان، وأن لا ينساقوا وراء مخططات الكفار، وأن يتذكروا وقوفهم بين يدي ملك الأملاك، وأن لا يبيعوا آخرتهم بحظ فانٍ من الدنيا، وليتذكروا أن المُلكَ بيد الله ينزعه ويسلبه ممن يشاء، وأنه أمانة، وأنه يوم القيامة خزي وندامة.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم حكم فينا خيارنا ولا تحكم فينا شرارنا، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وحبب إلينا وإليهم الإيمان وزينه في قلوبنا وقلوبهم، وكرِّه إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصلى الله وسلم على خاتم الرسل الكرام، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، والسلام

-------------------

الاستعداد ليوم الرحيل

هشام برغش

1- سرعة زوال الدنيا والتحول عنها ، ووجوب الاستعداد للحساب. 2- سعة علم الله عز وجل واطلاعه على كل صغيرة وكبيرة ، وانكشاف أمر الإنسان وشهادة جوارحه عليه. 3- كيفية النجاة والفرار إلى الله: أ- تحقيقه التقوى وأسبابها. ب- محاسبة النفس. ت- إصلاح القلب وتطهيره من الأمراض وعلامات ذلك. ج- إصلاح اللسان وبيان خطورته ، وتطهيره بالذكر. د- حفظ الفرج. هـ- إصلاح البطن وصيانتها من الحرام. 4- بيان حقيقة الدنيا ، والحث على الزهد فيها.

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون اعلموا أن الدنيا ليست بدار بقاء ولا خلود وإنما أنتم عما قليل منها تظعنون وما هي إلا أيام وعنها ترحلون ثم أنتم بين يدي ربكم تحاسبون فماذا أنتم يومئذ قائلون إذا أبدت لكم الصحف العيوب وشهد عليكم السمع والأبصار والجلود.

ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا  [الكهف:49].

ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون  حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون  وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا اله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون  [فصلت:19-21].

فيا ويح ابن آدم يستخفي من الناس بالمعصية ويغفل عن جلده وسمعه وبصره لا يستتر منها ينسى أنها ستشهد عليه  وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون  وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين  فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن بستعتبوا فما هم من المعتبين  .

أهلكتهم غفلتهم عن جلودهم وسمعهم وأبصارهم التي لا تفارقهم والتي لا يفوتها شيء من معاصيهم والتي تشهد عليهم وتفضحهم ووالله إنها لفضيحة كفيلة بأن تنغص على الإنسان دنياه كلها تشهد عليه بين الخلائق وتفضحه بأعماله وأقواله القبيحة وينكشف كذب الإنسان وينكشف ظلمه وينكشف فجوره وتنكشف نواياه ويصبح عاريا من كل شيء العري المعنوي بعد العري الحسي ويخذله الشيطان الذي كان يقاومه في الدنيا ويشجعه على معصية الله ويحثه على المخالفة ويزين له أعماله الخبيثة وأقواله اللئيمة .. وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإني إنهم كانوا خاسرين.

فيا ويل الغافلين ويا ويح المفرطين فالعجب كل العجب ممن يخشى من رقابة البشر الذين ينعسون وينامون ويتغوطون ويبولون وينسون ويغفلون ولا يخشى من رقابة الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم  يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم وهو معهم .. وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا  [النساء:108].

فالحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها ووسع بصره الموجودات جميعها ووسع علمه الأشياء كلها دقها وجلها .. إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .. فأين تذهبون وإلى أين تفرون .. يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر .. فلا مفر منه إلا إليه فخير لكم أن تفروا إليه من اليوم منيبين إليه معترفين بذنوبكم بين يديه مطهرين نفوسكم وقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم من كل زلل وغي .. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين .. وتزودوا ليوم المعاد ولا تلهكم دار الغرور والهوان فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء .. كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .. فأعدوا ليوم الدين عدته ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بغيته فإن المولى جل وعلا أبى أن يكون الفوز إلا لأهل التقوى الذين حصلوا طرقها وأسبابها فوعدهم ووعده الحق بقوله:  ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا  [مريم:72]. وقال عز وجل:  إن للمتقين مفازا  [النبأ:31]. وقال سبحانه:  ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون  [النور:52]. من التقوى أن يستعد العبد ليوم البعث والنشور فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.

فلا يكن استعدادكم ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان فإن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه لقلة يقينهم بلقائه ووقوفهم بين يديه في انتظار ثوابه أو عقابه فقادتهم غفلتهم عن وقفة الحساب إلى الاستمرار في المخالفة والعصيان والتمادي في التفريط والإهمال لا يذكرون عن مقامم بين يدي الله الملك الديان  ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون  ليوم عظيم  يوم يقوم الناس لرب العالمين  [المطففين:4-6]. فيقومون في رشحهم وعرقهم وهولهم ورعبهم وغمهم وكربهم وبؤسهم ونكدهم خمسين ألف سنة في انتظار فصل القضاء والقصاص بينهم في محكمة الله العادلة لا يخاف فيها المؤمن ظلما ولا هضما  ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين  [الأنبياء:47]. فالعاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لذلك اليوم  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون  [الحشر:18]. خبير بأعمالكم خبير بأقوالكم خبير بمشاعركم وما تكنه قلوبكم  وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون  وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين  [النمل:74-75].

فهل أصلحت قلبك استعدادا للقاء الله  يوم لا ينفع مال ولا بنون  إلا من أتى الله بقلب سليم   [الشعراء:88-89]. هل طهرت قلبك من الشك والرياء هل طهرته من الظنون ومن التعلق بغير الله أو التوكل على غير الله هل طهرته من خوف ما سوى الله هل طهرته من كل محبة سوى محبة الله والحب في الله هل طهرته من أمراض الحقد والحسد والغل لإخوانك المسلمين  والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم  [الحشر:10]. فأصحاب الجنة هم أصحاب القلوب السليمة الهينون اللينون وقد أتاكم من مقال نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله: ((يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير))[1] وقال يزيد بن أسد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتحب الجنة؟)) قلت: نعم قال: ((فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك))[2] فكونوا من أهل الإيمان الصادقين الذين سلمت قلوبهم لله وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين فيحبون لهم ما يحبون لأنفسهم ويظنون بهم الخير ولا يظنون بهم السوء فكونوا أيها المسلمون من أهل القلوب السليمة قابلوا الإساءة بالإحسان والخطيئة بالغفران والغلظة بالرفق والجهل بالحلم والعبوس بالابتسامة  ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم  [فصلت:34]. وليس ذلك ضعفا كما يظن الجهال المتكبرون وليس ذلك نفاقا أو كذبا كما يزينه الشيطان للمغرورين المفتونين وإنما هي منزلة عظيمة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ والصابرون من الرجال وأصحاب النفوس العالية الصابرة  وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم  [فصلت:35]. ولا يخدعنكم الشيطان الذي يكره الخير للمسلمين فيصور لهم العفو ضعفا وحسن المعاملة ومقابلة الإساءة بالإحسان نفاقا وعجزا ليغري المسلمين ببعضهم بعضا فالمبادرة عباد الله فوتوا عليه غرضه  وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم  [الإسراء:53].  إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء  [المائدة:91]. إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم فانتبهوا عباد الله وأصلحوا قلوبكم فصلاح القلب هو أول عمل تستعدون به لمفارقة هذه الدار دار الغموم والأسقام وغدا ترحلون عنها إلى دار بقاء بلا زوال ودار نعيم بلا هوان ووالله لو صلحت القلوب لصلحت الأقوال والأعمال ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))[3].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

0000000000000000

[1] أخرجه مسلم ح (2840).

[2] أخرجه أحمد في المسند (4/70) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/186) ، ورجاله ثقات ، وانظر الفتح الرباني للبنا (19/68).

[3] أخرجه البخاري ح (52).

الخطبة الثانية

الحمد لله قاهر المتجبرين وناصر المستضعفين وقيوم السماوات والأرضين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ذل لكبريائه جبابرة السلاطين وبطل أمام قدرته كيد الكائدين قضى قضاءه كما شاءه على الخاطئين وسبق اختياره من اختاره من العالمين فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين ولولا ذلك ما امتلأت النار من المجرمين  ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين  [السجدة:13]. تلك حكمته سبحانه وهو حكم الحاكين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله العبد الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وسلم وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فمن الاستعداد ليوم الرحيل بعد إصلاح القلب إصلاح اللسان  ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد  إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد  ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد  [ق:16-18]. فإن الرجل ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالا يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ومن تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق وعاد بالهم والبؤس وأكثر الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم كلاما فيما لا يعنيهم قال الحسن رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل والعناية المرادة لا يحددها هوى النفس والقلب وإنما الذي يحددها هو حكم الشرع.

فلا تطلق لسـانك في كـلام              يجـر عليك أحقابا وحوبا

ولا يبرح لـسانك كـل وقت              بذكر الله ريـانا رطيبـا

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن شرائع الإيمان قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى))[1] ففي ذكر الله شغل لك يكفيك عن الكلام فيما لا ينفعك ويكفيك من الغيبة والنميمة ومن الفحش والسباب ومن اللغو والكذب  قد أفلح المؤمنون  الذين هم في صلاتهم خاشعون  والذين هم عن اللغو معرضون  والذين هم للزكاة فاعلون  والذين هم لفروجهم حافظون  [المؤمنون:1-5]. فمصدر الخطر العظيم على الإنسان فرجه ولسانه فهما أكثر ما يدخل الناس النار ووالله كم عاقل لبيب قل عقله بسبب الشهوة وكم من عابد افتتن وسقط وخاب سعيه بسبب الشهوة فكلنا يحتاج إلى وقاية من هذه المهالك العظيمة فلسنا ملائكة بل كلنا بشر فينا الشهوة وفينا الضعف وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. نسأل الله السلام والعافية.

فغض عن المحارم منك طرفا              طموحـا يفتن الرجل الأريبا

فخائنة العيون كأسـد غـاب         إذا مـا أهملت وثبت وثوبـا

ومن يغضض فضول الطرف           عنها يجد في قلبه روحا وطيبا

ثم لا بد من إصلاح البطن وصيانتها عن أي لقمة حرام أو أكلة حرام ولا يتم ذلك إلا بالأكل من الطيبات وتطهير المال من الحرام والشبهات ولا تقع في الحمق والغفلة كالذي يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومأكله حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك أنى يستجاب له وقد أعمته الدنيا فاكتسب في تحصيلها الذنوب والآثام ولم يرع حق من أنعم عليه ورعاه

نحن ندعو الإله في كل كرب               ثـم ننساه عند كشف الكروب

كيف نرجـو إجابـة لدعـاء         قد سـددنا طريقها بالذنـوب

فالدنيا لا تستحق من الاهتمام ذلك القدر الذي يوقع الإنسان في المعاصي والمحرمات.

وما هـي إلا جيفة مستحيلـة              عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها             وإن تجتذبها نازعتك كلابها

فازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك فإن لكم أيها المسلمون بيوتا تتوجهون إليها غير هذه الدار فاعبروها ولا تعمروها  يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار  [غافر:39]. فمن ذا الذي يبني على موج البحر نارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا فإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ولا تنسوا أن الدنيا حرامها عقاب وحلالها حساب وهي والله ليست بدار قراركم كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها منها الظعن فكم من عامر موثق عما قليل يخرب وكم من قليل مغتبط عما قليل يظعن فاحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فالعجب كل العجب ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة عليه يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة فوالذي نفسي بيده إن أحدكم لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ويصبح في أهل الآخرة فكم من مستقبل ليوم لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لا يدركه.

وما أدري وإن أملت عمرا           لعلي حين أصبح لست أمسي

ألم تر أن كل صباح يـوم           وعمرك فيه أقصر منه أمس

فلا يدعوك ما انت فيه من زهرة الدنيا وزينتها إلى الابتهاج بها والغفلة عم بعدها  وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع  [الرعد:26].

فيا من مد في كسب الخطايـا               خطاه أما آن لك أن تتوبا

ألا فـاقلع وتب واجهـد فإنـا         رأينا كل مجتهد مصيبـا

وأقبل صادقا في العزم واقصد          جنابا للمنيب لـه رحيبـا

وكـن للصـالحين أخـا وخلا             وكن في هـذه الدنيا غريبا

وكن عن كل فاحشـة جبـانـا               وكن في الخير مقداما نجيبا

ولاحـظ زينـة الدنيـا ببغض         تكن عبدا إلى المولى حبيبا

فمن يخبر زخـارفها يجـدها                مخالبـة لطالبهـا خلوبـا

وغض عن المحارم منك طرفا              طموحا يفتن الرجل الأريبا

فخائنة العيـون كأسـد غـاب         إذا ما أهملت وثبت وثوبـا

ومن يغضض فضول الطرف عنها         يجده في قلبه روحا وطيبـا

ولا تطلق لسانك فـي كـلام            يجر عليك أحقابـا وحوبـا

ولا يبرح لسـانك كـل وقت              بذكـر الله ريانـا رطيـبـا

وصل إذا الدجى أرخى سدولا         ولا تضجر به وتكـن هيوبا

تجد أنسـا إذا أودعت قبـرا         وفـارقت المعاشر والنسيبا

وصم ما تستطيع تجـده ريا             إذا قمـت ظمآنـا سـغيبـا

وكن متصدقا سـرا وجهرا          ولا تبخل به وكن سمحا رهوبا

تجد مـا قدمت يـداك ظـلا           إذا ما اشـتد بالناس الكروبـا

و كن حسن السجايا وذا حياء                طليق الوجـه لا شكسا غضوبا

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة امرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

000000000000000

[1] صحيح ، أخرجه أحمد (4/188 ، 190) ، والترمذي (3375) وقال : حسن غريب ، وابن ماجة

---------------------

عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك

كان عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق من أفضل أهل زمانه، وكان أبوه أفضل أهل زمانه كذلك، وقد خلف أباه في مجلسه كما شهد له بذلك مالك والبخاري رحمهما الله، قال له المنصور العباسي يوماً: عظني بما رأيت؛ قال:

مات عمر بن عبد العزيز وخلف أحد عشر ابناً، فبلغت تركته سبعة عشر ديناراً، كفن منها بخمسة دنانير، واشترى له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً، ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً، فورث كل واحد منهم ألف ألف درهم، ثم إني رأيت رجلاً من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله تعالى، ورأيت رجلاً من أولاد هشام يسأل أن يتصدق عليه.

قلت: هذا أمر معلوم ومجرّب، سيما وأن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكلهم إلى ربه ومولاه، فكفاهم وأغناهم، فقد روي عنه وقد عزله ابن عمه مسلمة بن عبد الملك في أنه لم يترك لورثته شيئاً: "أولادي إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أريد أن أبوء بوزره"، أوكما قال، وهشام وكلهم إلى دنياهم فأفقرهم مولاهم

----------------

من مناقب حكامنا السابقين

روى الحاكم في المستدرك قبيل كتاب الجمعة في ترجمة ضمام بن إسماعيل أنه روى عن أبي قنبل أن معاوية رضي الله عنه صعد المنبر يوم الجمعة فقال في خطبته: أيها الناس إن المال مالنا، والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا؛ فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثانية قال كذلك فلم يجبه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال كذلك: فقام إليه رجل فقال: كلا يا معاوية، ألا إن المال مالنا، والفىء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله تعالى بأسيافنا؛ فنزل معاوية وأرسل إلى الرجل فأدخل عليه، فقال القوم: هلك الرجل؛ ثم فتح معاوية الأبواب، فدخل عليه الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير! فقال معاوية: أيها الناس، إن هذا الرجل أحياني أحياه الله، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون أمة بعدي يقولون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة"، وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد شيئاً، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد علي أحد، فقلت في نفسي: أنت من القوم، فتكلمت في الجمعة الثالثة فقام إلي هذا الرجل، فرد عليّ فأحياني أحياه الله، فرجوت أن يخرجني الله منهم؛ ثم أعطاه وأجازه.

 

روى عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس الرشيد فجرت مسألة المصراة، فتنازع الخصوم فيها وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرد بعضهم الحديث، قال: أبو هريرة متهم فيما يرويه (!!) ونحا نحوه الرشيد ونصر قوله، فقلت: أما الحديث فصحيح، وأبو هريرة رضي الله عنه صحيح النقل فيما يوريه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي، فلم يستقر بي الجلوس حتى قيل صاحب الشرطة بالباب، فدخل إليّ فقال: أجب أمير المؤمنين، إجابة مقتول، وتحنط وتكفن؛ فقلت: اللهم إنك تعلم أني قد دافعت عن صاحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه؛ قال: فأدخلت على الرشيد، فإذا هو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، وبيده السيف، وبين يديه النطع، فلما رآني قال: يا ابن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي مثل ما تلقيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به؛ فقال: كيف ويحك؟ قلت: لأنه إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والحدود كلها مردودة غير مقبولة، لأنهم رواتها، ولا تعرف إلا بواسطتهم؛ فرجع الرشيد إلى نفسه، وقال: الآن أحييتني يا ابن حبيب أحياك الله؛ ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم.

 

روي عن علي بن زيد بن جدعان أن أنساً رضي الله عنه دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي الجائر المبير، فقال له الحجاج: إيه يا خبيث، شيخاً جوالاً في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير أخرى، ومع ابن الأشعث مرة، ومع ابن الجارود أخرى، أما والله لأجردنك جرد الضب، ولأقلعنك قلع الصمغة، ولأعصبنك عصب السلمة، العجب من هؤلاء الأشرار أهل البخل والنفاق، فقال أنس رضي الله عنه: من يعني الأمير؟ فقال: إياك أعني أصم الله صداك.

قال علي بن زيد: فلما خرج أنس من عنده قال: أما والله لولا ولدي لأجبته؛ ثم قال: كتب إلى عبد الملك بن مروان بما كان من الحجاج إليه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً، وأرسله مع إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم، فقدم على الحجاج وبدأ بأنس فقال له: إن أمير المؤمنين قد أكبر ما كان من الحجاج إليك، وأعظم ذلك، وأنا لك ناصح، إن الحجاج لا يعدله عند أمير المؤمنين أحد، وقد كتب إليه أن يأتيك، وأنا أرى أن تأتيه فيعتذر إليك، فتخرج من عنده وهو لك معظم، وبحقك عارف؛ ثم أتى الحجاج فأعطاه كتاب عبد الملك، فتمعَّر وجهه، وأقبل يمسح العرق من وجهه ويقول: غفر الله لأمير المؤمنين، ما كنتُ أراه يبلغ مني هذا!! قال إسماعيل: ثم رمى بالكتاب إليَّ وهو يظن أني قرأته، ثم قال: اذهب بنا إليه؛ فقلت: لا، بل يأتيك أصلحك الله! فأتيت أنساً رضي الله عنه، فقلت: اذهب بنا إلى الحجاج، فأتاه ورحب به، وقال: عجلت باللائمة يا أبا حمزة، إن الذي كان مني إليك كان من غير حقد، ولكن أهل العراق لا يحبون أن يكون لله عليهم سلطان يقيم حجته، ومع هذا فأنا أردت أن يعلم منافقو أهل العراق وفساقهم أني متى أقدمت عليك، فهم عليّ أهون، وأنا إليهم أسرع، ولك عندنا العتبى حتى ترضى.

فقال أنس: ما عجلتُ باللائمة حتى تناولت مني العامة دون الخاصة، وحتى شمتَّ بنا الأشرار، وقد سمانا الله الأنصار، وزعمتَ أنا أهل بخل، ونحن المؤثرون على أنفسهم، وزعمت أنا أهل نفاق، ونحن الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبل، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة لأهل العراق باستحلالك مني ما حرم الله عليك، وبيننا وبينك الله حكم هو أرضى للرضا، وأسخط للسخط، إليه جزاء العباد، وثواب أعمالهم، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فوالله إن النصارى على شركهم وكفرهم لو رأوا رجلاً قد خدم عيسى عليه السلام يوماً واحداً لأكرموه وعظموه! فكيف لم تحفظ لي خدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين؟! فإن يكن منك إحسان شكرنا ذلك منك، وإن يكن غير ذلك صبرنا إلى أن يأتي الله بالفرج.

قال: وكان كتاب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد: فإنك عبد طمت بك الأمور حتى عدوت طورك، وأيم الله يا ابن المستنثرة بعجم الزبيب لقد هممت أن أضغمك ضغمة كضغمات الليوث للثعالب، وأخبطك خبطة تود أنك زاحمت مخرجك من بطن أمك، قد بلغني ما كان منك إلى أنس، وأظنك أردتَ أن تختبر أمي المؤمنين، فإن كان عنده غيرة وإلا أمضيتَ قدماً، فلعنة الله عليك وعلى آبائك، أخفش العينين، ممسوح الحاجبين، أحمس الساقين، نسيت مكان آبائك بالطائف، وما كانوا عليه من الدناءة واللؤم، إذ يحفرون الآبار في المناهل بأيديهم، وينقلون الحجارة على ظهورهم، فإذا أتاك كتابي هذا وقرأته، فلا تلقه من يديك حتى تلقى أنساً بمنزله، واعتذر إليه، وإلا بعث إليك أمير المؤمنين نبأك، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، فلا تخالف أمير المؤمنين، وأكرم أنساً، وولده، وإلا بعثت إليك من يهتك سترك ويشمت بك عدوك، والسلام.

 

هذه المواقف الثلاثة تدل على الآتي:

1.  ما كان عليه حكام المسلمين الأوائل من العدل والإنصاف والغيرة لله ولدينه.

2.  ما كان عليه العلماء من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سر بقاء هذا الدين.

3.  أن الأمر والنهي من الصادقين المخلصين لا يباعد من رزق ولا يقرب من أجل.

4.  أن النصيحة الصادقة عاقبتها كلها خير.

------------------------

لحوم العلماء مسمومة

جاء في رحلة ابن الصلاح وتاريخ ابن النجار في ترجمة يوسف بن علي بن محمد الزنجاني الفقيه الشافعي قال: حدثنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، عن القاضي الإمام أبي الطيب أنه قال: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور ببغداد، فجاء شاب خرساني يسأل عن مسألة المصرَّاة، ويطلب الدليل، فاحتج المستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين وغيرهما، فقال الشاب، وكان حنفياً: أبو هريرة غير مقبول الحديث؛ قال القاضي: فما استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فهرب الناس، وتبعت الشاب دون غيره، فقيل له: تب؛ فقال: تبت؛ فغابت الحية ولم يبق لها أثر.

قال ابن الصلاح: هذا إسناد ثابت، فيه ثلاثة من صالحي أئمة المسلمين: القاضي أبو الطيب الطبري، وتلميذه أبو إسحاق، وتلميذه أبو القاسم الزنجاني.

قلت: صدق الحافظ ابن عساكر من أن لحوم العلماء من الصحابة مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة.

----------------

بسم الله الرحمن الرحيم

لحوم العلماء مَسمُومَة

د. ناصر بن سليمان العُمــر

إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون }. [ سورة آل عمران ، الآية : 103 ]

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً

ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً }.[ سورة النساء ، الآية : 1]

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ،يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطعِ

الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }. [سورة الأحزاب ،الآية : 70]

أما بعد:

فإن ثمّة موضوعاً مُهمّا ً جديراً بالطرح ، حقيقاً بأن نتفقه فيه ؛ لشدة حاجتنا إليه ؛ والخطورة النتائج المترتبة عليه .

إن والصحوة اليوم بحاجة إلى ترشيد وتوجيه ؛ لكي لا تؤتي من داخلها :

فالنار تأكل بعضها ******* إن لم تجد ما تأكله.

إن لم تجد هذه الصحوة المباركة من يُوجهّها ويُرشدها فإنني أخشى عليها من نفسها ، قبل أن أخشى عليها من أعدائها.

* وقبل الشروع في الموضوع لا بد من التنبيه إلى أن له قصة لابد أن تروى: فقد بلغني في العام الماضي أن هناك بعض الطيبين المنتسبين إلى الصحوة ؛ يلتقون في مناسبات مختلفة ويكون جلُّ حديثهم عن العلماء، يقوّمون العلماء ، ويذمُّون ويمدحُون ، وهم شباب أحسن ما تصفهم به أنهم من طلاب العلم ، لا من العلماء ؛ فتأثرت بذلك الأمر ، وطفقت أقرأ في كتب السلف ، وأفتش في صفحاتها متسائلاً : هل كان شبابهم وعلماؤهم يفعلون مثلما نفعل؟؟

وجمعت من الموضوع مادة ، وألقيته في إحدى الجامعات . ولكني اعتذرت عن إخراجه ، ونشره في ذلك الحين ؛ لأنه لم يكن قد استوى على سوقه بعد.

ومرّت فترة من الزمن ..... وتمخّضت الأيام عن إيذاءٍ لأحد الدعاة العلماء في عرضه، فكان ذلك طعنة نجلاءَ موجَّهة إلى كل عالم ِ، وكلِّ طالب علم ، آلمتنا ،وأحزنتنا ، وأقضّت مضاجعنا.فطلب إلي بعض الإخوة الذين استمعوا إلى هذا الموضوع أن أخرجه ، فاعتذرت عن ذلك ؛ لأن مادته لم تكتمل عندي بعد .

وجاءت الأحداث الأخيرة المريرة، جاءت الفتن التي كقطع الليل المظلم ، التي نعيش فيها هذه الأيام ونتجرع غُصصها ، فماذا حدث؟ !

حدث ما يريده الأعداء، واستبيحت لحوم العلماء، ولم يقتصروا على نهش أعراض طلاب العلم والدعاة ، بل فُتح الباب على مصراعيه لكل من هب ّودبّ ؛ حتى تطاول العامة وتطاول المنافقون والعلمانيون على علمائنا.

وقلّما تدخل مجلساً فتجده منزَّهاً عن الوقيعة في عالم من العلماء ؛ وقلما تدخل مجلساً فتجده منزهاً عن الوقيعة في عالم من العلماء ؛ فقلت : إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ؛ فكانت هذه السطور تذكيراً ، ونصحاً ، وتبياناً ، وتحذيراً من عاقبة الحديث في العلماء، والولوغ في أعراضهم وحرصت- قدر الإمكان على توضيح السبيل الصحيح لمعالجة هذه القضية ، وفق منهج أهل السنة والجماعة.

* ورحم الله ابن عساكر حين قال : (( أعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإيّاك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ، بلاه الله قبل موته بموت القلب )). { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.[ سورة النور ، الآية : 63 ].

وموضوع (( لحوم العلماء مسمومة )) طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار- بقدر الإمكان - ، مكتفياً من القلادة بما أحاط بالعنق.

أسباب طرق هذا الموضوع :

يمكن تلخيص أسباب الحديث عن هذا الموضوع فيما يأتي :

1 - أن مكانة العلماء في الإسلام مكانة عظيمة، مما يوجب توقيرهم وإجلالهم .

2 - تساهل كثير من الناس في هذا الأمر .

3 - وقوع بعض طلاب العلم في علمائهم من حيث لا يشعرون.

4 - عدم فهم كثير من الدعاة للمنهج الصحيح في معالجة هذه القضية.

5 - الهجمة الشرسة المنظمة من المنافقين والعلمانيين على علمائنا تبعاً لأسيادهم من اليهود والنصارى.

مكانة العلماء وفضلهم :

قال الله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.[ سورة الزمر ، الآية : 9 ]

ويقول سبحانه -: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}. [سورة فاطر ، الآية : 28 ]

ويقول - جل وعلا -: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.[ سورة النساء ، الآية : 59 ]

وأولو الأمر- كما يقول أهل العلم - :هم العلماء، وقال بعض المفسَّرين : أولو الأمر: الأمراء والعلماء.

ويقول الله - جل وعلا - : {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}. [ سورة المجادلة، الآية : 11 ]

وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين. )) .

قال ابن المنير - كما يذكر ابن حجر - : ( من لم يفقهه الله في الدين فلم يرد به خيراً ).

وروى أبو الدرداء رضي الله عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (( فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر. العلماء هم ورثة الأنبياء . إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به ؛ فقد أخذ بحظ وافر )).

* ومن عقيدة أهل السنة والجماعة - كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - : ( أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة ) ، أي أن أهل السنة والجماعة ، يتقربون إلى الله تعالى بتوقير العلماء ، وتعظيم حُرمتهم .

قال الحسن: ( كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار ).

وقال الأوزاعي: ( الناس عندنا أهل العلم . ومن سواهم فلا شيء ).

وقال سفيان الثوري: ( لو أن فقيها على رأس جبل ؛ لكان هو الجماعة ).

وحول هذه المعاني يقول الشاعر :

الناس من جهة التـمــثال أكفـاء ****** أبوهمُ آدم والأم حواء

فإن يكن لهم في أصلهـم نسـب ****** يفاخرون به فالطين والــماء

ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـمُ ****** على الهدى لم استهدى أذلاء

وقــدر كل امرأ ما كـان يحسنـه ****** والجاهلون لأهل العلم أعـداء

من هذه النصوص الكريمة ، ثم من هذه الأقوال المحفوظة ؛ تتبين لنا المكانة العظيمة ، والدرجة العالية ، التي يتمتع بها علماء الأمة ؛ ومن هنا وجب أن يوفيهم الناس حقهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات ، قال الله تعالى: { ومن يُعَظِّم حُرٌماتِ الله فهو خيرٌ له عند ربه }. [سورة الحج ، الآية : 30 ].

ويقول- جل وعلا- : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تَقْوَى القلوب }.[ سورة الحج ، الآية : 32 ]

والشعيرة- كما قال العلماء - : كلُّ ما أذِنَ اللهُ وأشعَرَ بفضله وتعظيمه. العلماء بلا ريب يدخلون دخولاً أولياً فيما أذِن اللهُ وأشعر الله بفضله وتعظيمه ، بدلالة النصوص الكريمة السالفة الإِيراد .

إذن ، فالنيل من العلماء وإيذاؤهم يُعدُّ إعراضاً أو تقصيراً في تعظيم شعير من شعائر الله ، وما أبلغ قول بعض العلماء : ( أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم ).

وإن مما يدل على خطورة إيذاء مصابيح الأمة ( العلماء ) ، ما رواه البخاري عن أي هريرة - رضي الله عنه- ، قال : قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (قال الله- عز وجل- في الحديث القدسي : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )). رواه البخاري .

 

* أخي القارئ الكريم : كلنا ندرك أن منْ أكل الربا فقد آذنه الله بالحرب، إن لم ينته ويتبْ عن ذلك الجرم العظيم ، كلنا يدرك هذا ؛ ولكن هل نحن ندرك أيضاً أن من آذى أولياء الله فقد حارب الله جل وعلا - كما تبين من الحديث السابق !؟ هل نحن نستحضر هذا الوعيد الشديد ، عندما نهم بالحديث في عالم من العلماء ؟!

روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - أنهما قالا: ( إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي ). قال الشافعي: ( الفقهاء العاملون ). أي أن المراد : هم العلماء العاملون .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد آذى الله -عز وجل- ) .

لعل في هذه النصوص تبييناً لفضل العلماء ، وتذكيراً ببعض ما يجب لهم علينا من الحقوق .

مكانة اللسان وخطورته

ولْنقِفْ وقفة ً لا بد منها في هذا المقام ، للتنبيه إلى خطورة اللسان ؛ لأننا قد تمادينا في التساهل بأمره ، والغفلةِ عن صونه من الزّلل . وَلْنُوطَّئ لذلك بإشارة إلى فضل نعمة اللسان ، تلك الجارحة التي امتنَّ الله بها علينا ، وإنّ مما يدل على عِظم شأنها ما حكاه الله - تعالى- عن موسى - عليه السلام-: من قوله : { واحْـلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي } . [ سورة طه ، الآية : 27]

ويقول { ولا ينطلق لساني }، [سورة الشعراء ، الآية : 13]

وقوله عن أخيه هارون: { هو أفصح مني لسانا } .[ سورة القصص ، الآية: 34 ]

ويقول- سبحانه - ممتنا على عبده: { ألم نجعل له عينين ، ولسانا وشفتين } . [سورة البلد ، الآية : 8 ]

وعندما نتأمل مثلاً حال المحروم من هذه النعمة ألا وهو ( الأبكم ) ؛ فإننا ندرك عقلياً عِظَمَ هذه المنة الإلهية : هل يستطيع الأبكم أن يُعبر عما في نفسه ؟!

إنه عندما يُريد التعبير عن شيء فإنه يستخدم كثيراً من أعضائه ، ومع ذلك لا يشفي نفسه، ولا يبلغ مراده ، وإنْ بلغه فبشق الأنفس .

إذن ، فنعمة اللسان من أجلَّ النعم،ومن أكبر المنن الإلهية علينا. فهل حافظنا عليها ؟هل استخدمناها في الخير وجنبناها الزور والواقعية في أعراض العلماء وغير العلماء ؟

إن النصوص تدل على خطورة أمر هذه الجارحة ، وفداحة الخسارة الناجمة عن التهاون في حفظها ، قال الله تعالى في شأن الإفك : { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } .[ سورة النور ، الآية :15 ]

وقال تعالى في المنافقين : {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } .[سورة الأحزاب ، الآية : 19 ]

وقال تعالى - :{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وتصِفُ ألْسِنَتُهم الكذب أنَّ لهم الحسنى } . [ سورة الفتح ،الآية :11]

ولذلك جاء الأمر بحفظ اللسان ، والتحذير من إطلاق العنان له :

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } .[سورة الأحزاب ، الآية : 70 ]

{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .[سورة ق ، الآية 18]

{ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } . [ سورة الإسراء ، الآية : 36 ]

وفي الحديث الذي رواه الترمذي:(( وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )).

ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث المتفق على صحته : (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذية ؛ أضمن له الجنة )). رواه البخاري

إن كثير من الناس - وبخاصة الطيبون المستقيمون - يضمنون ما بين الفخذين، وهذه نعمة عظيمة، وفّقهم الله- تعالى إليها .

ولكن ... هل نحن نضمن ما بين اللحيين؟هل يمر علينا يوم بدون أن نقع في عرض مسلم ،عالماً كان أو غير عالم ؟! ليحاسب ْ كلُّ امرئ نفسه، وليناقشها في ذلك الأمر الخطير ؛ لكي نصحح أوضاعنا في هذا الجانب ؛ امتثالاً لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). متفق عليه ؛

وحذراً من الوعيد في مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب )). متفق عليه

وما أحكم قول الشاعر :

يُصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه ******* وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه ******* وعثرته بالرجل تبــــرأ على مهـــــل

 

وقول الآخر :

احـفظ لسانـك أيهـا الإنـــسان ******** لا يـــلـدغــنـك إنه ثـعـبانُ

كم في المقابر من قتيل لسانه ******** كانت تهاب لقاءه الشجعانُ

وقول الآخر :

الصمت زين والسكوت شجاعة ****** فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً

فـإذا نـدمـت على سكوتك مـــرة ****** فلتندمن على الكلام مراراً

قال حاتم الأصم:( لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك ؛ لاحترزت منه،وكلامك يعرض على الله- جل وعلا- فلا تحترز).

 

* وههنا أمر لابد من إبرازه :

لئن كانت غيبة العلماء من أشد وأقبح أنواع الغيبة ، فإن هذا لا يعني أن لحوم غيرهم من الناس مباحة ، بل هي محرمة كذلك ؛ قال تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيُحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه }. [سورة الحجرات ، الآية : 12 ]

وقال سبحانه -{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً }. [ سورة الأحزاب ، الآية : 58]

ويقول(صلى الله عليه وسلم) مبيناً ذلك:(( كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله )) رواه مسلم.

وقال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: (( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..ألا هل بلغت)). متفق عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام : (( أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : ذكرك أخاك بما يكره !! قيل : أ رأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)). رواه مسلم.

وفي سنن أبي داوود عن أنس - رضي الله عنه قال : قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم . فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم )) . فكيف بالذي يقع في أعراض العلماء؟ ! أنه انتهاك بشع

ولابن القيم - رحمه الله- كلام نفيس في هذا المعنى ، خليقٌ أن يكتب بماء العيون ؛ لأنه ينطبق بدقة على حال كثير من طلاب العلم ، يقول : ( وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول ).

________________________________________

بعد هذه المقدمات المهمة ندلف إلى صلب الموضوع، وأول قضية سنبحثها هي :

 

أسباب أكل لحوم العلماء

1- الغَيرَة والغِيرة :

أما الغَيرَة بالفتح - فهي محمودة ، وهي أن يغار المرء وينفعل من أجل دين الله، وحرمات الله - جل وعلا- لكنها قد تجر صاحبها إن لم يتحرز- شيئا فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء من حيث لا يشعر .

وأما الغِيرَة بالكسر- فهي مذمومة وهي قرينة الحسد،والمقصود بها هو : كلام العلماء بعضهم في بعض من ( الأقران ) . قال سعيد بن جبير: ( استمعوا لعلم العلماء ، ولا تصدقوا بعضهم على بعض،فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في ضرابها ) . أي : استفيدوا من علم العلماء ،ولكن لا تصدقوا كلام العلماء بعضهم على بعض ، من الأقران.

ولذلك قال الذهبي:(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به،لاسيما إذا كان لحسدٍ أو مذهب أو هوى)

 

2- الحسد :

والحسد يُعْمي ويُصمّ ، ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعض الأقران على بعض ، ويطعن بعضهم في بعض ؛ من أجل القرب من سلطان ، أو الحصول على جاه أو مال.

 

3- الهوى:

إن بعض الذين يأكلون لحوم العلماء لم يتجردوا لله تعالى وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في

أعراض علماء الأمة . و اتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال - تعالى- : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } . [سورة ص ، الآية : 26 ]

وقال سبحانه - :{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم }. [ سورة القصص ، الآية : 50 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( صاحب الهوى يُعْميه الهوى ويُصمه ).

وكان السلف يقولون: ( احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ).

 

4 - التقليد:

لقد نعى الله تعالى على المشركين تقليدهم آباءهم على الضلال : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }. [ سورة الزخرف ، الآية : 22 ]

والتقليد ليس كلُّه مذموماً ، بل فيه تفصيل ذكره العلماء . ولكنني في هذا المقام أُحذر من التقليد الذي يؤدي إلى نهش لحوم العلماء ، فإنك - أحياناً - تسمع بعض الناس يقع في عرض عالم، فتسأله: هل استمعت إلى هذا العالم؟فيقول : لا والله . فتقول : إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا؟! فيقول: قاله لي فلان. هكذا يطعن في العالم تقليداً لفلان ، بهذه السهولة ، غير مراعٍ حرمة العالم .

قال ابن مسعود:( ألا لا يقلدنا أحدكم دينه رجلاً إن آمنَ آمن ، وإن كفرَ كفر ، فإنه لا أسوة في الشر).

وقال أبو حنيفة: ( لا يحلُّ لمن يُفتي من كُتُبي أن يُفتي حتى يعلم من أين قلتُ ).

وقال الإمام أحمد: ( من قِلة علم الرجل أن يقلِّد دينه الرجال ).

 

5 - التعصب:

من خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في العلماء و بخاصة طلاب العلم و الدعاة تبين لي أن التعصب من أبرز أسباب ذلك . والباعث على التعصب هو الحزبية ، الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد ، الحزبية الضيقة التي فرقت المسلمين شيعاً، حتى صدق على بعضهم قول الشاعر :

وهل أنا إلا من غُزية إن غوت ****** غويت إن ترشد غزيةُ أرشد

سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء ، وفجأة تغير موقفهم، وصاروا يثنون عليه ؛ لأنهم سمعوا أن فلاناً يثني عليه ؛ فأثنوا عليه ، وسبحان الله مغير الأحوال .

إذا ضل من يتعصبون له ؛ ضلوا معه، وإذا اهتدى للصواب ؛ اهتدوا معه . لقد سلَّم بعض الطلاب والدعاة عقولهم لغيرهم ، وقلدوا في دينهم الرجال .

* ولقد رأينا قريباً من ينتصر لعلماء بلده ، ويقدح في علماء البلاد الأخرى، سبحان الله ! أليست بلاد المسلمين واحدة ! أليس هذا من التعصب المذموم ! أليس من الشطط أن يتعصب أهل الشرق لعلماء الشرق ، وأهل الغرب لعلماء الغرب ، وأهل الوسط لعلماء الوسط ! .

إن هذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ، ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب:( وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال،لا الرجال بالحق ).

 

6 التعالم :

لقد كثر المتعالمون في عصرنا ، وأصبحت تجد شاباً حدثاً يتصدر لنقد العلماء، و لتفنيد آرائهم وتقوية قوله ، وهذا أمر خطير ؛ فإن منْ أجهل الناس منْ يجهل قدر نفسه ، ويتعدى حدوده .

 

7- النفاق وكره الحق :

قال الله تعالى - عن المنافقين :{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }. [سورة البقرة ، الآية : 10 ]

{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنُؤمِن كما آمن السفهاءُ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} [سورة البقرة ، الآية 13 ] .

{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون }[سورة البقرة ،الآية : 14 ] . * إن المنافقين الكارهين للحق؛من العلمانيين ، والحداثيين، والقوميين، وأمثالهم من أقوى أسباب أكل لحوم العلماء؛ لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله .

ومن المؤسف الممضّ أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء ، المنافقين يستطيل في أعراض العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يشعر، ووافقه على ما يقول ، حتى رُد عليه في ذلك المجلس .

إن العلمانيين الآن يتحدثون في علمائنا بكلام بذيء ، يعفُّ القلم عن تسطيره ، مما يدُلّ على ما في قلوبهم من الدغل ، ومعاداة ورثة الأنبياء ؛ وما يحملونه من الحق .

 

8- تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها:

أدرك العلمانيون - أخزاهم الله أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة، والعلماء لهم وشأن هيئة وهيبة في

البلد فأخذوا في النيل من العلماء، وشرعوا في تشويه صورة العلماء، وتحطيم قيمتهم، بالدس واللمز، والافتراء والاختلاف . لا أقول هذا جزافاً ولا رجماً بالغيب ، ولكن هو ما نقله إلينا الثقات من العلمانيين ،من كلام في العلماء لا يقبله عقل العاميّ ، فضلاً عن طالب العلم .

 

وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذه القضية قريباً .

________________________________________

الآثار المترتبة على الوقيعة في العلماء :

إنّ هناك عواقب وخيمة ، ونتائج خطيرة ، وآثاراً سلبية ، تترتب على أكل لحوم العلماء؛ والوقوع في أعراضهم . يدرك تلك الآثار من تأمل في الواقع ، ووسع أفقه ، وأبعد نظره ، وإليك أهمها :

 

 

1- إن جرح العالم سبب في رد ما يقوله من الحق :

إن جرح العالم ليس جرحا شخصياً، كأي جرح في رجل عامّي ، ولكنه جرح بليغ الأثر ، يتعدى الحدود الشخصية ، إلى رد ما يحمله العالم من الحق .

ولذلك استغل المشركون من قريش هذه الأمر ، فلم يطعنوا في الإسلام أولاً ، بل طعنوا في شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنهم يعلمون يقيناً - أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أذهان الناس ؛ فلن يقبلوا ما يقوله من الحق، قالوا : إنه ساحر، كاهن ، مجنون ........... ولكنهم فشلوا - ولله الحمد في ذلك .

وقد كانوا قبل بعثته يصفونه بالأمين، الصادق ، الحكم ، الثقة. فما الذي تغير بعد بعثته ؟ ما الذي حوله إلى كاهن، مجنون ، ساحر؟ إنهم لا يقصدون شخص محمد بن عبد الله ، فهم يعلمون أنه هُو هُوَ، ولكنهم يقصدونه بصفته رسولاً يحمل منهجاً هم يحاربونه ، فيعلموا أنهم إن استطاعوا تشويه صورته في نفوس الناس ؛ فقد نجحوا في صدهم عنه، وعما معه من الحق . هذا هو أسلوب المنافقين اليوم .

 

2- أن جرح العالم جرح للعلم الذي معه وهو ميراث النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ العلماء ورثةُ الأنبياء، فجرح العالم جرحٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو معنى قول ابن عباس : ( أن من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله - جل وعلا - )

إذن ، فالذي يجرح العالم ؛ يجرح العلم الذي معه.

ومن جرح هذا العلم ؛ فقد جرح أرث النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ وعلى ذلك فهو يطعن في الإسلام من حيث لا يشعر.

 

3- أن جرح العلماء سيؤدي إلى بعد طلاب العلم عن علماء الأمة، وحينئذ يسير الطلاب في طريقهم بدون مرشدين ؛ فيتعرضون للأخطار والأخطاء ، ويقعون في الشطط والزلل ، وهذا ما نخشاه على شبابنا اليوم .

 

4 - أن تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة، وذهاب لهيبتهم ، وقيمتهم في صدورهم ، وهذا يسُرُّ أعداء الله ، ويفرحهم . يقول أحد الزعماء الهالكين في دولة عربية بعد أن سلط إعلامه على العلماء مستهتراً مستهزئا بهم - : ( عالم .. شيخ .. أعطه فرختين ؛ فيفتي لك بالفتوى التي تريد ).

لقد سقطت قيمة العلماء عند العامة، في كثير من الدول الإسلامية . ذهبت إلى بعض تلك الدول وسألت عن العلماء ، فما وجدت الناس يعرفون العلماء ، ولا يأبهون للعلماء ؛ لأن العلمنة سلطت سهامها عليهم ، فشوهت صورتهم ، ولطخت سمعتهم ؛ فأصبحوا من سقط المتاع ، في نظر كثير من الناس .

 

5 - تمرير مخططات الأعداء :

ومن الأمثلة الواقعية لذلك : الطعن في رجال الحُسْبة ، والطعن في القضاة ، والطعن في الدعاة .

* أما رجال الحسبة فكثير منهم طلاب علم ، وقد أصبحت أعراضهم ودماؤهم مستباحة، فتجد العامة والمنافقين والعلمانيين،يستطيلون في أعراضهم بل ربما وقع ذلك من بعض طلاب العلم، تجلس في بعض المجالس فتسمع الكلام السيئ في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أخطأ رجال الهيئة..... فعل رجال الهيئة.... ترك رجال الهيئة ......، سبحان الله ! أما يخطئ إلا رجال الهيئات!لماذا لا تذكر أخطاء غيرهم ؟!

اطلعت قريباً على فتوى لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ينبه فيها إلى خطورة

التعرض لطلاب العلم . وقصتها أن مجموعة من طلاب العلم اشتكوا أحد المسئولين- ويبدو أنهم زادوا في الشكوى- فأهينوا وسُجنوا . لكن هل سمعتم أن أحداً سجن لأنه تكلم في أعراض رجال الحسبة !!

لقد جاءني بعض شباب الهيئات ، يشتكون من تطاول الناس عليهم ، وعدم وجود من يحميهم ، حتى أصبحوا هم المتهمين .

ومع ذلك نجد بعض المحسوبين على الدعاة وطلبة العلم ، يستمرئون ركوب الموجة الخبيثة ، التي تهدف إلى محاربة الهيئات والقضاء عليها ، من حيث لا يشعرون .

إننا لو ذهبنا نحصي أخطاء الآخرين من غير رجال الهيئات لوجدنا أخطاءهم أضعاف أخطاء رجال الهيئات ، ولكنها قالّةُ سوءٍ روج لها الحاقدون ، وساعدهم عليها المغفلون .

* أما القضاة فهم كذلك ، يتعرضون للطعن فيهم ، وأكل لحومهم ، فإنك تجد كثيراً من الناس ، يرددون أن القاضي الفلاني فيه كذا، القاضي الفلاني فعل كذا، القاضي الفلاني اشترى أرض كذا، والقاضي الفلاني اشترى السيارة الفاخرة ، القاضي الفلاني يؤخر المعاملة ، حتى قال قائلهم : نحن لسنا بحاجة إلى القضاة وتعقيداتهم ، القانون الفرنسي أرحم لنا منهم .

سبحان الله !! هل الخطاء خاص بالقضاة وغيرهم ملائكة !! إنها حملة مقصودة ، ينفخ فيها الضالون؛ من أجل تحطيم القضاء الشرعي.

وأنا حين أذكر ذلك لا ألقي بالقول على عواهنه ، وإنما أتكلم عن واقع ، فهناك من يُطالب بالقانون الفرنسي ، وما نظام المرافعات الذي ألغي - ولله الحمد- إلا مثال لذلك ، وقد كان على وشك التطبيق، ولا يسعنا إلا أن نشكر من كان سبباً في إلغائه .

إن نظام المرافعات مأخوذ من النظام المصري بحروفه ، والنظام المصري مأخوذ من القانون الفرنسي .

والحمد لله الذي وفق العلماء ، وطلاب العلم ، لتدارك هذا الأمر، ووفق ا المسئولين للاستجابة .

* وأما الحديث عن الدعاة فحدث ولا حرج ، لقد وصم الدعاة بألقاب لم نكن نعرفها، وصفوا بالمتطرفين ، ووصفوا بالمتزمتين، و... و... إلى آخر القاموس الظالم، الذي سلطه الحاقدون على الدعاة؛ تشويهاً لسمعتهم ؛ وتبشيعاً لواقعهم في عقول الناس .

كل تلك الحملات الشعواء على العلماء وطلاب العلم والقضاء والمحتسبين والدعاة ؛ تؤدي إلى تمرير مخططات الأعداء ، وتحقيق أهدافهم . فاليقظة اليقظة .

________________________________________

المنهج الصحيح والعلاج الناجح لهذه القضية

وبعد أن عرفنا الآثار المترتبة على أكل لحوم العلماء ، ننتقل إلى بيان المنهج الصحيح ،ووصف العلاج الناجح تجاه تلك القضية ، وذلك في نطاق آفاق ثلاثة :

1- ما يجب على العلماء في هذا المجال .

2- ما يجب علينا تجاه العلماء .

3- السبيل السليم لبيان الحق ، بدون الوقوع في العلماء .

أولاً : ما يجب على العلماء :

إن على العلماء أن يحُموا أنفسهم ، ويسدوا الذرائع المفضية إلى أكل لحومهم . وقدوتهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال :(( على رسلكما . إنها صفية ))هكذا دافع المصطفى عليه الصلاة والسلام عن نفسه وحمى عرضه ، مع أن الموقف مع صحابته الأطهار الأخيار، حتى لقد استغربوا من قوله، فبين لهم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

ويمكن بيان كيفية حماية العلماء لأنفسهم في الأمور التالية :

1- أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله: ومن هنا جاء في القرآن التحذير من تخالف العلم والعمل، قال تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}[سورة البقرة ، الآية : 44 ]

وقال جل شأنه - : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبُر مقتاً عند الله أن تقولون مالا تفعلون } ،[سورة الصف ، الآية :2 ]

وحديث الذي يدور في النار كالحمار ، مشهور معروف وصدق الشاعر حيث يقول :

يـا أيها الرجل المعلم غيره ****** هلا لنفـسـك كـان ذا التعلـيم

لا تنه عن خلق وتأتي غيره ****** عار عليك إذا فعلت عـظـيم

 

2 - أن يتثبت العالم في الفتوى ويكمل شروطها :

فإذا طُلب من العالم أن يفتي في أمر ما ، فعليه أن يتأمل ويتأني ، ويتتبع أسباب الاستفتاء ، والآثار المترتبة على فتواه ، والمراد الحقيقي من هذه الفتوى، ثم يُفتي بعد أن يستكمل شروط الفتوى : من فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع.

ولا يصح أن يكتفي العالم بأن يُقال له : الأمر كيت وكيت . ثم يبني فتواه على ما قيل له ، بدون تثبيت وتأكُّدٍ وتتبع ؛ فيعرض نفسه للألسنة لتقع فيه ، وتنال منه ، بسبب تعجله وعدم تحريه .

 

3- أن يحذر العالم من الاستدراج، والاستغفال والتدليس :

هناك من يستدرج العلماء، وهناك من يستغفلهم ، هناك من يُلبّس عليهم، ولذلك يجب على العالم أن يكون فطناً متنبهاً ، كما قال عمر - رضي الله عنه- :( لست بالخب ولا الخب يخدعني ) . وهذا لا ينافي سلامة القلب ، والأخذ بالظاهر ، ولكنه يعني الحيطة والحذر .

 

4- أن يكون جريئا في الحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم :

جرأة في الحق من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها العالم، بحيث ينكر المنكر ، ويأمر بالمعروف ، ويقول للمسيء : أسات . كائناً من كان ذلك المسيء . وللعلماء اليوم أسوةٌ فيمن سلف من علماء الأمة .

ولْنَسُقْ هنا ثلاثة أمثلة للجرأة في الحق ، من عصور مختلفة :

المثال الأول: موقف أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه مع مروان بن الحكم ، عندما دخل مروان المصلي في يوم العيد ، واتجه إلى المنبر ليخطب قبل الصلاة ، فجذبه أبو سعيد ، وقال منكراً عليه : غيرتم والله . فقال مروان : قد تُرك ما هنالك .

هكذا أنكر عليه علانية ولم يقل : أكتُبُ له الإنكار في ورقة ، ليكون نصيحة سرية بيني وبينه

المثال الثاني : موقف العز بن عبد السلام ( سلطان العلماء ) مع الملك الصالح أيوب .

كان الملك الصالح أيوب يتولى الشام ، وبسبب خلاف بينه وبين أبناء عمه تنازل للنصارى عن بعض الحصون.

فلما خطب العز بن عبد السلام في جامع بني أمية بدمشق يوم الجمعة كان مما قال : ( اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، يُعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهي فيه عن المنكر ). وأفتي الناس بعدم جواز بيع الأسلحة للنصارى الذين أخذوا يشترونها من دمشق .

فغضب الملك ، سجن العز بن عبد السلام ، ومنْ قبله سُجن الإمام أحمد ، وكثير من العلماء: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } . [سورة العنكبوت ، الآية : 2]

ثم أرسل الملك إلى العز في السجن أحد أعوانه وحاشيته ، فقال له: أنا سأتوسط لك عند الملك ليخرجك ، ولكني أريد منك شيئا واحداً فقط ، وهو أن تعتذر إلي الملك وتقّبل رأسه. فقال العز : دعك عني ،والله لا أرضي أن يقبل السلطان يدي ،عافاني الله مما ابتلاكم به ، يا قوم أنا في واد و أنتم في واد.

ذهب الملك لمقابلة قادة النصارى ، فأخذ معه العز بن عبد السلام ، وسجنه في خيمة ، وبينما كان الملك جالساً مع النصارى، إذا بالعز بن عبد السلام يقرأ القرآن ، ويصل صوته إليهم ،

فقال الملك : أتدرون من هذا الذي تسمعون ؟

قالوا : لا .

قال : هذا من أكبر قساوستنا ولم يقل : علمائنا

أتعلمون لماذا سجنته ؟ قالوا : لا .

قال : لأنه أفتى بعدم جواز بيع السلاح لكم .

فقال النصارى : والله لو كان هذا قسيسا عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.

فخجل الملك وأطرق ، وأمر بالإفراج عن العز بن عبد السلام.

المثال الثالث : موقف الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر مع محمد نجيب - إذ عندما قامت الثورة في مصر، قال محمد نجيب : سنساوي الرجل بالمرأة.

فاتصل به الشيخ الخضر حسين ، وقال له: إما أن تتراجع عن قولك ،أو لأخرجن غداً لابساً كفني - ومعي جميع الأزهريين في الشوارع ، فإما الحياة ، وإما الموت.

فجاءه محمد نجيب وجاءته الوزارة مرددين: يا شيخنا،يا إمامنا ، نحن نعتذر منك،والكلام كان خطأ.

فقال الشيخ : لا تعتذروا لي ، وإنما أعلنوا الاعتذار للعامة.

فقالوا : صعب جداً أن نعتذر أمام العامة .

فقال: إما أن تعتذر يا محمد نجيب أمام الناس عن كلامك وتنفيه،أو سأخرج للشارع غداً لابساً كفني.

فأعلن محمد نجيب من الغد أن الصحافة كذبت عليه، وأنه لم أقل شيئا مما نشرت عنه .

هكذا يُملي العلم ُ والإيمان على العالم الجرأة في الحق ، فلا تأخذه في الله لومة لائم، فيبرئ ذمته، ويحمي عرضه من أن يجعله الناس هدفاً ، يصوبون إليه سهامهم .

وإقحام ( خوف الفتنة ) تبريراً لكل موقف تنقصه الشجاعة في الحق أمر فيه نظر .

________________________________________

ثانياً : ما الواجب علينا اتجاه علمائنا :

1- أن نحفظ للعلماء مكانتهم و فاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدب معهم :

إن في معاملة السلف لعلمائهم لقدوةً لنا ، يجب الإقتداء بها ن وإن فيما سطّروه من بيان ٍ لآداب طالب لنوراً ، ينبغي لشُداةِ العلم أن يستنيروا به في طريق الطلب .

قال العراقي: (لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء ).

وقال ابن الشافعي: ( ما سمعت أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته ).

وقال يحيى بن معين: ( الذي يحدث في بالبلد وفيها من هو أولى منه بالتحديث فهو أحمق ).

وقال الصُّعلوكيّ: ( من قال لشيخه: لم - على سبيل الاستهزاء - لم يفلح أبدا ).

وتأدب ابن عباس رضي الله عنه - مع عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه - حيث مكث سنة يريد أن يسأله عن مسألة من مسائل العلم ، فلم يفعل .

وقال طاووس بن كيسان : ( من السُّنة أن يُوقر العالمُ ).

وقال الزهري : ( كان سلمةَ يماري ابن عباس ؛ فحُرم بذلك علماً كثيراً ).

وقال البخاري : ( ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين ).

وقال المغيرة: ( كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير ).

وقال عطاء بن أبي رباح : ( إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنُصت له كأني لم أسمعه أبداً . وقد سمعته قبل أن يولد ).

وقال الشافعي: ( ما ناظرت أحداً قط إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه).

ذُكر أحد العلماء عند الإمام أحمد بن حنبل - وكان متكئاً من علة - فاستوى جالساً وقال لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ .

وقال الجزري: ( ما خاصم ورع قط ) .

وبمثل هؤلاء يحسن الإقتداء { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } . [ سورة الأنعام ، الآية : 90 ]

2- أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصم الله ، وهم الأنبياء والملائكة.

وعلى ذلك فيجب أن ندرك أن العالم معرضٌ للخطأ ، فنعذره حين يجتهد فيخطئ ، ولا نذهب نتلمس أخطاء العلماء ونحصيها عليهم .

ولقد كان سلف الأمة رحمهم الله يستحضرون هذا الأمر ، ويفقهونه حقَّ الفقه .

قال الإمام سفيان الثوري: ( ليس يكاد يثْبُتُ من الغلط أحد ).

وقال الإمام أحمد: ( ومن يعرى من الخطأ والتصحيف !! ).

وقال الترمذي: ( لم يسلم من الخطأ والغلط كبيرُ أحدٍ من الأئمة مع حفظهم ).

وقال ابن حبان : ( وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك تُرك حديث الزهري، وابن جُريج، والثوري ، وشعبة ، لأنهم أهل حفظ وإتقان، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في رواياتهم ).

 

3 - أن ندرك أن الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة :

لذلك يجب أن تتسع صدورنا للخلاف بين العلماء ، فلكل واحد منهم فهمه ، ولكل واحد إطلاعه على الأدلة ، ولكل واحد نظرته في ملابسات الأمور ؛ فمن الطبيعي أن يوجد الخلاف بينهم ، وانظر ما ذكره كثير من العلماء في هذا الموضوع ، ككتاب (( رفع الملام عن الأئمة الأعلام )) ، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - .

 

4- أن نفوت الفرصة على الأعداء، و ننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم، وأن ندافع عن علمائنا،لا أن نكون من وسائل تمرير مخططات الأعداء من حيث لا يشعرون

 

5 - أن نحمل أقوال علمائنا وآراءهم على المحمل الحسن، و ألا نسيء الظن فيهم ، وإن لم نأخذ بأقوالهم.

حقاً أننا لسنا ملزمين بالأخذ بكل أقوال العلماء،لكن ثمة فرقاً كبيراً بين عدم الأخذ بقول العالم- إذا كان هناك دليل يخالفه - الجرح فيه ، فلا يعني عدم اقتناعنا برأي العالم أن نستبيح عرضه ، ونأكل لحمه .

ولقد كان الإمام الشافعي رحمه الله - يقول: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) ونُقل ذلك عن غير واحد من الأئمة ؛ فقد كانوا يُدركون أنه ليس أحد متعبداً بقول عالم ، فقد يكون قوله مخالفاً للدليل ، لأنه لم يبلغه مثلاً لكن تبقى حرمةً العالم مصونة ً من الطعن والوقيعة .

قال عمر - رضي الله عنه- : ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ).

 

6 - أن ننتبه إلى أخطائنا وعيوبنا نحن، وننشغل بها عن عيوب الناس عامة، وعن أخطاء العلماء خاصة.

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ****** إن عـبت منهـم أمورا أنت تأتـيها

وأعظـم الإثـم بعـد الـشرك نـعـلمه ****** في كل نفس ؛عماها عن مساويها

عـرفـتها بعـيوب الناس تــبـصرهـا ****** منـهم ولا تبصر العيب الذي فيها

وما مثل من يقع في أعراض العلماء وينسى نفسه إلا كما قال الشاعر :

كناطح صخرة يوما ليوهنها ******** فلم يضرها ، وأوهى قرنه الوعــــــل

أو كما قال الآخر :

يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ******** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

 

قد يقتصر العالم، ولكن هل يعني تقصيره أن نترك علمه وعمله ؟!

أعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ******* ينفعك علمي ، ولا يضررك تقصيري

________________________________________

ثالثاً : السبيل السليم لبيان الحق ، بدون الوقوع في العلماء .

بعض الناس اليوم وقعوا بين إفراط وتفريط، ففريق يطعنون في العلماء ويتهمونهم كلما قالوا شيئاً.

وفريق آخر ، إذا سمعوا عالماً أو طالب علم يُبين الحق بدليله قالوا : إنه يقع في أعراض العلماء ، ويُحدث فتنة .

وكلا الفريقين مجانب للمنهج الصحيح في هذا الباب .

فما المنهج الصحيح الذي نجمع فيه بين بيان الحق وحماية أعراض علمائنا , غير ملتزمين بقولٍ إلا إذا كان مقروناً بالدليل ؟

يمكن توضيح ذلك المنهج كما يلي :

 

1 - التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء .

فقد ُتشاع عن العلماء أقوال ؛ لأغراض لا تخفي . فيجب التأكيد مما يُنقل عن العلماء ،فقد يكون غير صحيح ، ولا أساس له ، وكم سمعنا من أقوالٍ نُسبت إلى كبار علمائنا، ولما سألناهم عنها تبين أنمهم بُراءُ منها . هناك غير قليل من الناس يجلس أحدهم في المجلس ويقول: الشيخ فلان - هداه الله- وفيه كَيْتَ وكيت . فتسأله : لماذا ؛ فيقول : إنه يقول : كذا وكذا . حتى إذا ذهبت إلى ذلك الشيخ وسألته عن صحة ما نُقل عنه ؛ قال : والله ما قلت شيء من هذا !

إذن، فالتحقيق من صحة ما يُعْزي إلى العالم يُعد خطوة أولى في المنهج الصحيح، الذي نحن بصدده.

 

2 أن نعرف أن عدم الأخذ بقول العالم ، وأن مناقشته والصدع ببيان الحق، يختلف تماماً عن الطعن في العلماء، فالفرق بين الأمرين عظيم جداً . يجوز لنا ألا نأخذ بالفتوى ، إن لم توافق الدليل، ولكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.

 

3 - أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله - جل وعلا -

فيستحضر الإخلاص،ويحذر من الأغراض الشخصية العارضة كالهوى، والتشفي،وحب الظهور،{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }.[ سورة الكهف ، الآية : 110 ]

ولينتبه فإنه قد يكون ردُّه في الأصل بإخلاص وتجرد لله ، ثم تدخل عليه أعراض يوسوس إليه بها الشيطان ، من حب البروز وغيرها من الآفات المفسدة للنية .

 

 

4 - الإنصاف والعدل :

ا المتأمل في واقع بعض طلاب العلم يجدهم إما أن يأخذوا كل ما يقوله العالم، أو يردُّوا كل ما يقوله، وهذا خلاف ما أمر الله تعالى به من العدل والإنصاف ، قال تعالى : { ولا يَجْرمَنَّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [ سورة المائدة ، الآية : 8 ]

والعدل الإنصاف هو منهج أهل السنة والجماعة ،

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض ).

والعدل والإنصاف مع العلماء يتضمن أموراً :

أ- الثناء على العالم بما هو أهل له .

ب- عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه , فإذا وقع أحد العلماء في خطأ، وأردت أن تبين خطأه، فلا تذهب تُحصي جميع أخطائه ، وتستطيل في عرضه ،وإنما احصر حديثك في القضية التي تريد بيان الحق فيها ، ولا تتجاوزها ، وإياك أن يستجرك أحد إلى تجاوزها .

 

5 - أن نسلك منهج رجال الحديث في تقويم الرجال :

إن على منْ يتصدى لبيان الحق في مسألة أخطاء فيها أحد العلماء ، أن يسلك المنهج الدقيق المنصف الذي رسمهُ رجال الحديث - رحمهم الله - وثمة رسالة جملية مختصرة ،صغيرة في حجمها، كبيرة في قيمتها ، تبين هذا المنهج ، وعنوانها :منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم/ للشيخ : أحمد الصويان . فأحيل القارئ الكريم إليها , ففي النهر ما يعني عن الوشل .

 

6- أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين : خطأ في الفروع ، وخطأ في الأصول .

* أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية ، يجوز فيها الخلاف ، فإذا أخطاء فيها العالم ؛ بيّناّ خطأه فيها ، بدون تعرض لشخصه .

* وأما مسائل الأصول ( العقيدة )، فيبيَّن القولُ الصحيح فيها ، ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته ، بدون إفراط ولا تفريط.

يقول شيخ الإسلام : ( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض ) ، فالمبتدعة يأكل بعضهم لحوم البعض، وكل فئة تغمط الأخرى حقَّها،وأما أهل السنة فينصفون ،حتى مع الكفار،فضلاً عمَّن كان مخطئاً خطأ ً دون الكفر .

إن بعض الناس اليوم يميلون ميلا ً عظيماً عن طريق أهل السنة والجماعة في هذا الباب،فقد

استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة محزنة، أوهي أن نفراً اتهموا احد الدعاة بأخطاء في العقيدة، ولم يقتصروا على بيان أخطائه العقدية ، بل مضوا يذكرون عنه قصصاً شخصية في بيته : عن زوجته ، وعن بنته ، وعن أولاده . سبحان الله ! لماذا الحديث عن وزوجته ابنته وأولاده؟! ما الداعي للطعن في شخصه ؟! حقاً أننا لا نحث على السكوت عن الخطأ ، ولكننا ندعو إلى الأسلوب الصحيح ، لبيان الحق ، وتوضيح الخطأ .

 

7- أخيرا ، إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ- سواء في الأصول أو الفروع، لعله يرجع إلى الصواب ، فهذا أولى .

لأن الحق هو المقصود، وفي رجوع المخطئ بنفسه عن قوله وإعلانه ذلك للناس خير كثير؛ لأنك إن رددت عليه ، وبينت الحق ؛ فقد يقتنع نصف الناس، وإما إذا رجع هو بنفسه بعد مناصحتك له ، وتخويفك إياه بالله ؛ فسيقتنع كل الناس الذين أخذوا بقوله .

ومما يذكر في هذا المقام أن اثنين من العلماء اختلفا في مسألة ، فلم يذهب كل واحد منهما يخطئ صاحبه عند الناس ، بل اجتمعا وتناظرا ، فكانت نهاية المناظرة أن أخذ كل واحد منهما بقول الآخر ؛ لأن مرادهما هو الحق .

________________________________________

وفي الختام ...

هناك أمور لابد من بيانها :

أولاً - أننا لا ندعو إلى تقديس الأشخاص ، أو التغاضي عن الأخطاء ، أو السكوت عن الحق. بل ندعو إلى المنهج الصحيح في بيان الحق، بدون انتهاك لأعراض العلماء. فلا إفراط ولا تفريط ،ولا غلو ولا جفاء.

 

ثانياً - انطلقت في الأيام الماضية دعوى الإجماع ، ولقد وردتني أسئلة كثيرة تقول : فلان يخالف إجماع العلماء، فلان يخالف ما أجمع عليه العلماء ، يُريد أن يحدث فتنة.

وأقول لهؤلاء : إن الإجماع ليس بالأمر اليسير ، هناك فرق كبير جداً بين الإجماع والاجتماع.

ا لإجماع - كما بينه العلماء- : هو أن يُجمع علماء الأمة المعتدُّ بهم في عصر من العصور على مسألة من المسائل . ولو خالف واحد منهم ؛ لم ينعقد الإجماع.

ا ليس لإجماع إجماع علماء بلد فقط ، بل هو إجماع علماء الأمة المعتد بهم في مشارق الأرض أو مغاربها .

إذن ، فالإجماع له ضوابط و شروط، وليس أمراً هيناً . ولذلك قال بعض العلماء : أن الإجماع لم ينعقد بعد الصحابة .

فليتريث الذين يدعون الإجماع ، وليعلموا أن العبرة ليست بكثرة القائلين بقول ما وإنما العبرة بصحة القول المقرون بالدليل .

 

ثالثاً - قد يفتي بعض العلماء بفتوى لها أسبابُها، فيخالفهم فيها آخرون من العلماء أو طلبة العلم، فيُطْعن ُفي المخالف ، ويُتّهم بإثارة الفتنة ، وحب الظهور ، وسرقة الأضواء ، وقلة العلم ....إلخ .

وهذا تصرف غير سليم ، فعلينا أن ننتبه ، في هذا الأمر ، لما يأتي :

( أ ) أن كلا ًّيؤخذ من قوله ويُرد ، إلا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما جاء به.

(ب) أن المخالفيِن علماءُ، كما أن المخالَفين علماءُ، فيجب تقدير المخالفين، وحفظ أعراضهم، وعدم

أكل لحومهم .

( ج ) أن نعلم أن الرجال يعرفون بالحق ، وليس الحق يعرفُ بالرجال.

( د ) أن نتثبت من صحة الفتوى واكتمال شروطها عند كل فريق من الفريقين ، فالمهم هو صحة

الفتوى، واكتمال شروطها ، بغض النظر عن الفريق الذي صدرت منه من الفريقين .

( هـ ) أن مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الخلاف،ولقد وقع الخلاف بين الصحابة في فهم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قُريضة )) . رواه البخاري .

ووقع الخلاف بينهم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لكن ذلك لم يؤد بهم إلى الفتنة وطعن في الأعراض .

فيجب إذن ، ألا نضيق على أنفسنا ، وأن تتسع صدورنا للخلاف في المسائل الاجتهادية .

( و ) أن المخالفة ليس خطأ ، ولا عبرة هنا بصغر سنّ المخالف أو كبره ، بل العبرة بتوافر شروط

الفتوى ، ولم يزل العلماء قديماً وحديثاً يُخالف صغيرهم كبيرهم، وقد يكون الحق مع الصغير .

ومن أمثلة ذلك أن ابن تيمية- رحمه الله - خالف علماء بلده ممن هو أكبر منه سناً، وثبت أن الحق معه .

ومن الأمثلة كذلك أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله - خالف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله في حياته في فتوى أفتى بها ، ولم يقل الشيخ محمد : من أنت حتى تخالفني ، وهذا دليل على رسوخ علم الشيخ محمد رحمه الله - وما قال الناس ذلك . وكان الراجح هو قول الشيخ عبد العزيز .

 

رابعاً - لماذا تبرز أخطاء العلماء أكثر من غيرهم ؟

السبب في ذلك هو أن العلماء هم صفوة الأمة ، وخيارها وقدوتها ، وأحمدُها سيرةً ، فإذا وقع منهم خطأ كان واضحاً جلياً ؛ لأنه بمثابة النقطة السوداء في صفحتهم الناصعة البيضاء . ولذلك قيل: زلّةُ العالم مضرب بها الطبل.

وما مثلُ العالم إلا كمثل الثوب الأبيض، إذا أصابته نقطة - مهما كان صغرها- برزت فيه وظهرت.

ومن هنا وجب على العلماء أن ينتبهوا لذلك الأمر؛ بأن يتفقدوا أنفسهم ، ويتفطنوا لأعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم . كما وجب - كذلك - على الناس ألا يضخموا هفوات علمائهم ولا ينفخوا فيها .

 

خامساً - احذر من الذم الذي يشبه المدح :

بعض الناس يُسهب في الثناء على شيخ من المشايخ ، ويخلع عليه من نعوت الفضل وألقاب التوقير شيئاً كثيراً ، ثم يقول مثلا ً- : ( لكن الشيخ حبيب ) أو طيب القلب ، وهو يقصد أنه قد يُستغفل ، أو غير ذلك من الأساليب المغلفة بغلاف المدح ، وهي للتَّنقُّص . وإن على هؤلاء الذين يستخدمون هذه الأساليب، أن يخافوا الله ويتقوه ، وأن يدركوا خطورة ما يقولون ، وأن يتوبوا إلى الله، ويستغفروه ، وإن يعتذروا ممن انتقصوه .

 

سادساً : أن من أساء الأدب مع العلماء فسيلقى جزاءه عاجلاً أو آجلاً .

قال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم : ( وصنف كتباً كثيرة ، وناظر عليه ، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب . بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاءه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ، ونفروا منها ، أحرقت في وقته ).

والواقع يشهد أن الذي يسب العلماء، ويتجرأ عليهم ، يسقط من أعين العامة والخاصة.

ويقول الحافظ ابن رجب: ( والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس ، وتواريخ العالم ؛ وقف على أخبار من مكر بأخيه ، فعاد مكره عليه، وكان ذلك سببا لنجاته وسلامته ) أي : سبباً لنجاة الممكور به وسلامته .

 

سابعاً : على العلماء وطلاب العلم الذين يبتلون بالتعريض للطعن ، وكلام الناس فيهم ؛ عليهم أن يصبروا ويتقوا الله ، وأن ليعلموا أنهم ليسوا أفضل من الأنبياء والمرسلين، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسلم من الكلام فيه ، وطعن حتى في أهله ؛ في حادثة الإفك .

فللعلماء أسوة في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فليقتدوا به ، وليعلموا أن العاقبة للمتقين ، قال تعالى : { قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [سورة يوسف ، الآية :90 ] .

وقال جل وعلا - عن موسى : { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }. [سورة الأعراف ، الآية : 128 ]

وقال سبحانه - : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }. [سورة فاطر ، الآية : 43]

وصدق من قال:

ولـست بنـاج ٍ من مقــالــة طاعـن ****** ولو كنت في غار على جبل وعر

ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما ****** ولو غاب عنهـم بين خافـيتي نـسر

 

ثامناً - احذر من التعميم : إن قضية التعميم في الأحكام قضية خطيرة جداً ، وقد وقع كثير من الناس في هذه الظاهرة التي تدل على قلة الوعي وعدم الإنصاف ، ترى أحدهم يقول : العلماء فعلوا ، والعلماء قالوا ، والعلماء قصروا ، والعلماء غلطوا بهذا التعميم - . والتصرف السليم أن يُعمَّم في الخير ، ولا يُعمَّم في الشر ، ومن فضل الله تعالى أن الرحمة تعم كالمطر ، والعقاب يخص { وكلا أخذنا بذنبه } ومن كرمه سبحانه أن الرحمة تشمل خليط الأخيار وإن لم يكن منهم - : (( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )) . ولقد اطلع الله على أهل بدر فقال : (( اذهبوا مغفوراً لكم )) متفق عليه . وأما العقاب: {ولا تزر وازرة وزر أخرى }. [ سورة الأنعام ، الآية : 164 ].

 

تاسعاً - أخيراً أقول للمتحدثين في العلماء: اتقوا الله، توبوا إلى الله، أنيبوا إلى الله ، واثنوا على العلماء بمقدار غيبتكم لهم، و إلا فأنتم الخاسرون ، العاقبة للمتقين . وما مثلكم إلا كما قال الأول :

كناطح صخرة يوما ليوهنها ****** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.

وقول الآخر :

يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ****** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

فنتبهوا، وصححوا المنهج ، وانظروا في العواقب،واحفظوا حرمات الله ، يحفظكم الله، ويغفر لكم.

هذا ، أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعيذنا من فتنة القول والعمل . والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

------------------

لحوم العلماء مسمومة

د. حسام الدين عفانه

الأستاذ المشارك في الفقه والأصول

كلية الدعوة وأصول الدين- جامعة القدس

لا ريب أن احترام العلماء وتقديرهم من الأمور الواجبة شرعاً وإن خالفناهم الرأي، فالعلماء ورثة الأنبياء ، والأنبياء قد ورثوا العلم، وأهل العلم لهم حرمة، وقد وردت نصوص كثيرة في تقدير العلماء واحترامهم، قال الإمام النووي :

[ باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم ]. ثم ذكر قول الله تعالى :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9 ، ثم ساق الإمام النووي طائفة من الأحاديث في إكرام العلماء والكبار وأحيل القارئ إلى كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ص 187- 192  .

ومع كل هذه النصوص التي تحث على ما سبق وغيرها من النصوص الشرعية التي تحرم السب والشتم واللعن والوقوع في أعراض المسلمين إلا أن بعض الناس من أشباه طلبة العلم ليس لهم شغل إلا شتم العلماء وسبهم على رؤوس الأشهاد في المساجد وفي الصحف والمجلات ويحاول هؤلاء الصبية تشويه صورة العلماء وتنفير عامة الناس منهم لأن هؤلاء العلماء علماء السلاطين - كما يزعم هؤلاء النكرات - ومن العلماء الفضلاء الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون لهذه الهجمة الشرسة العلامة الفقيه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ورعاه ـ ، فالشيخ القرضاوي لا ينكر علمه وفضله إلا حاقد أو جاهل . والشيخ القرضاوي لا يحبه ويقدره إلا من تأدب بأدب الإسلام ولا يبغضه ولا يشتمه إلا سفيه أو جاهل أو حاقد ليس له نصيب من أدب الإسلام .

إن أدعياء الوعي وأدعياء الفكر والثقافة يشتمون الشيخ القرضاوي بغير وعي، ولا يعرفون ماذا يصدر منهم من فظائع؛ لا يجوز أن تقال في حق واحد من عامة الناس، فضلاً أن تقال في حق عالم من علماء الأمة كالشيخ القرضاوي.

إن هجمتهم الشرسة على العلامة القرضاوي تثير التساؤل ، فهذه الهجمة تخدم أعداء الأمة الذين طالبوا بإغلاق السبل أمام الشيخ القرضاوي كيلا يخاطب الأمة الإسلامية .

و أتسائل لمصلحة من يهاجم علماء الأمة ؟ولمصلحة من يشتم العلماء ؟

هل هذه هي الطريق لإقامة الخلافة ؟ هل علماء الأمة حالوا دون إقامة دولة الخلافة ؟ أم أن بعض الناس يعلق فشله وعجزه على الآخرين ؟  لماذا يوصف العلماء بالخيانة أو السذاجة والبلاهة ؟ هل يصح أن يقال في علماء الأمة :

" ومن الملمَّعين المنافقين " ؟ كيف عرفتم أنهم منافقون ؟ هل شققتم على قلوبهم ؟

ألم تسمعوا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لأسامة بن زيد ت رضي الله عنه ـ لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله  :( أفلا شققت على قلبه ؟ ) رواه مسلم .

ألم تسمعوا قول النبيـ صلى الله عليه وسلم ـ:( إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ) رواه البخاري ومسلم .

هل علمتم دخيلة الشيخ القرضاوي ونيته وأنه لا يريد من برامجه إلا المحافظة على مكاسب الشهرة ؟! هل كلام الشيخ القرضاوي ينضح بالجهل أو التجاهل ؟ أم أن كل إناء بما فيه ينضح ؟

إن الشيخ القرضاوي محل ثقة أهل العلم وجماهير الناس شرقاً وغرباً والشيخ القرضاوي ليس بحاجة لينال ثقة أشباه طلبة العلم وصغارهم ، فالناس يأخذون علمهم عن الشيخ القرضاوي وأمثاله من العلماء الكبار ولا يأخذون عن الأصاغر فإن الأخذ عن الأصاغر هَلَكَةٌ في الدين .

قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :(  لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن أكابرهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا ) رواه أبو عبيد والطبراني في الكبير والأوسط ، وقال الهيثمي رجاله موثقون .

ورواه أبو نعيم في الحلية ولفظه قال عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ( لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا ) .

وورد في رواية أخرى عند الخطيب في تاريخه بلفظ ( فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفلتهم فقد هلكوا ) . إتحاف الجماعة 2/ 105 .

إن الأمة بحاجة ماسة لعلم الشيخ القرضاوي وفهمه النير لأحكام الإسلام ، وليست بحاجة إلى العلم بطلب النصرة من الكفرة وأعداء الدين حتى يقدموا الخلافة على طبق من ذهب لبعض الناس ! وهم فقط ينتظرون حدوث ذلك الأمر البعيد إن لم يكن المستحيل .

إن مبدأ طلب النصرة من غير المقتنعين بالفكرة مبدأ خاطئ ليس عليه دليل صحيح من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنهجه وإن حاولوا إثباته .

إن الأمة لن تنظر ـ إن شاء الله ـ بارتياب إلى فتاوى وآراء العلامة القرضاوي ، بل تتقبلها قبولاً حسناً ، ولكن الأمة لتنظر بارتياب لمن يهاجم القرضاوي ويسبه ويشتمه لأن هؤلاء السابين الشاتمين هم الذين خرجوا عن أدب الحوار والخلاف ووصل بهم الأمر إلى اتهام نيات العلماء وطعنهم في إيمانهم !!

أهكذا يكون النقد العلمي ؟ قال الإمام الذهبي ـ يرحمه الله ـ :[ ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً ويرد هذا على هذا ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل ] سير أعلام النبلاء 19/342 .

أيها الناس تأدبوا مع العلماء ، واعرفوا لهم مكانتهم ، فما فاز من فاز إلا بالأدب  وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب .

واعلموا أن الأمة لا تحترم ولا تقدر إلا من يحترم العلماء والأئمة، قال الحافظ ابن عساكر ـ يرحمه الله ـ مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء :[ إنما نحترمك ما احترمت الأئمة ] .

وأخيراً أختم بكلمة نيرة مضيئة قالها الحافظ ابن عساكر ـ يرحمه الله ـ :[ اعلم يا أخي ـ وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته ـ أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ).

والله يدافع عن الذين آمنوا وهو الهادي إلى سواء السبيل.

----------------------

لحوم العلماء مسمومة ((علماء السلطان))

كثر الحديث في هذه الأيام عن ما يسمى علماء وأن لحومهم مسمومة وقد كثر هذا الحديث بعد سلسلة الفضائح وكشف حقيقتهم وتعرّيتهم أمام المجتمع .

إلى كل أذناب أدعياء العلم ومروجي أفكارهم أقول لهم : أين العلماء الربانيين الذين باعوا الدنيا واشتروا الدين ؟ ، إن ما نسمع بهم اليوم ما هم إلا دعاة ضلال تركوا أمر الله ورسوله واتبعوا الشيطان وانسلخوا من علمهم .

نعم إنهم هم الفتنة وهم الساكتين عن كل فتنة لأن الفتنة في بعض تعريفاتها أن يكون الدين كله أو بعضه لغير الله تعالى وها نحن نعيش اليوم ضياع الدين كله ، وأين علماؤكم ؟ إنهم على أبواب السلاطين .

أين العلماء الربانيين ؟ أين ورثة الأنبياء ؟ ... أين أحمد بن حنبل الذي قال وهو مأسور معذب : يا عم وعمه إسحاق بن حنبل إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل متى يتبين الحق .

 

وهذا النووي القائل : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيث كنا وأن لا نخاف في الله لومة لائم .

وقد أصبح اليوم الخوف من قول الحق من أدعياء العلم أنفسهم ومن هؤلاء المشائخ .

أين العلماء الذين قال عنهم الحسن : لولا العلماء لصار الناس بهائم . وهاهم اليوم أدعياء العلم يسعون جاهدين لكي يجعلونا ورائهم مثل البهائم .

أين العلماء الذين قال عنهم يحي بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم قيل كيف ذلك ؟ قال لأن آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة . وهاهم دعاة اليوم على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها .

أين العلماء الذين قال عنهم عمر بن الخطاب : موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه . وهاهم اليوم يبدلون ويغيرون ويجعلون الحلال حرام والحرام حلال .

أي لحوم لهم هؤلاء مسمومة بل إن فضحهم وكشفهم وإيقاف الناس عن حقيقتهم لهو الدواء لهذه الأمة والمخرج لها من ويلاتهم.

-----------------

قال إمام المجاهدين حفظه الله في رده على المشايخ الذين يصدّون الشباب عن الجهاد في سبيل الله تعالى :

أما السد الثاني فهم العلماء و الدعاة المحبُّون للحق الكارهون للباطل القاعدون عن الجهاد ، تأولوا تأولاً فصدّوا الشباب عن الجهاد و لا حول و لا قوة إلا بالله ، هؤلاء رأوا الباطل ينتشر و يزداد فتداعوا للقيام بواجب نصرة الحق والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واهتدى و تفقًه على أيديهم خلق كثير وحسناً فعلوا وجزاهم الله خيراً على ذلك ، إلا أن الباطل يضيق صدره بالحق وأهله فشرع في مضايقتهم و إخافتهم و منعهم من الخُطب و الدروس و فصلِهم من وظائفهم ثمّ سجَن من أصرَّ على مواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن هذه الضغوط الشديدة أدت تدريجياً إلى انحراف المسار- إلا من رحم الله - وهذا أمر بديهي لأن الإنسان لا يستطيع أن يتخذ القرار الصحيح في ظل أوضاع غير صحيحة وخاصة من الناحية الأمنية ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" هذا إذا كان غضباناً فكيف إذا كان خائفاً. فالتخويف الذي تمارسه الدول العربية على الشعب قد دمّر جميع مناحي الحياة بما فيها أمور الدين . إذ الدين النصيحة و لا نصيحة بغير أمن . و قد قسّم الخوفُ الناسَ إلى أقسام ، وسنتحدث عن بعضهم : فقِسْمٌ انتكس والتحق بالدولة ووالاها ولا حول ولا قوة إلا بالله . وقِسْمٌ بدا له أنه لن يستطيع أن يستمر في الدعوة و التدريس ويأمن معهده أو جمعيته أو جماعته أو يأمن نفسه و جاهه و ماله مالم يمدح الطاغوت و يداهنه . فتأول تأولاً فاسداً باطلاً فضلّ ضلالاً مبيناً وأضلّ خلقاً كثيراً . وقسم آخر حفظهم الله من مجاراة الحكام الخائنين و مداهنتهم وحرصوا على البقاء تحت راية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قد كانت لهم جهود مشكورة في الدعوة إلى الله إلا أن الضغوط التي سبق ذكرها كانت كبيرةً جداً و لم يهيئوا أنفسهم لتحمُّلها، ومن أهمها: تكاليف الهجرة والجهاد ، وقد كانت الفرصة متاحة منذ أكثر من عقدين و لم يستفيدوا منها مما أفقدهم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح - إلا من رحم الله - في مثل هذه الأيام العصيبة . ولذا نرى فريقاً منهم مازالوا إلى الآن لم يتخذوا قرار الجهاد والمقاومة . إن نصرة الدين و إقامته لها تكاليف عِظام و صفات واضحة في كتاب الله و في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم . فمن لم يتصف بهذه الصفات لا يستطيع أن يقوم بنصرة الدين . هذه الصفات ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم و من ذلك قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم" .و في الخبر الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم و ورقة بن نوفل " قال ورقة : يا ليتني فيها جذعاً أكون حيَّاً حين يُخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مُخْرِجِيّ هم ؟! فقال ورقة : نعم ؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، و إن يدركني يومك أنصُرك نصراً مؤزراً " .فحالُ من يريد أن يتحمل الدين بحقّ هو العداء من أهل الباطل لا التعايش كما نرى - ولا حول ولا قوة إلا بالله - مع أهل الباطل . وحالُ من أراد إقامة الدين هو السعي في نصرته بالنفس و النفيس كما قال ورقة : " إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً " .وكذلك كان الحال يوم بيعة العقبة . فنُصرة الدين ليست دروساً تُعطى فقط ؛ والدين لا يقوم على فتات أوقاتنا وأموالنا . وإنما سلعة الله غالية ، فشتان شتان بين الجلوس و تقديم الدروس و بين تقديم النفوس و الرؤوس لنصرة الدين . لذا فإن العباس بن عبد المطلب - وقد كان على دين قومه - أراد أن يطمئن على ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم عند الأنصار ، فقال : - وكان مما قال - " فإن كنتم أهل قوة و جلَد و بصيرة بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة فإنها سترميكم عن قوس واحدة " . فأقول هذه الصفات كانت مطلوبة لأهل الإيمان لحِفْظِ رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي مطلوبة اليوم أيضاً لحِفظ دين رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم بعد أن أنهى العباس كلامه قال البراء بن معرور من الأنصار : " قد سمعنا ما قلت و إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه و لكنا نريد الوفاء و الصدق و بذل مُهج أنفسنا دون رسول الله " . فأقول هكذا الدين إنما يقوم بالوفاء و الصدق و ببذل المهج من أجل المنهج . ثم لمّا قاموا للمبايعة قال أسعد بن زرارة :" رويداً يا أهل يثرب إنا لم نضْرِب إليه أكباد المطي إلا و نحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة و قَتْلُ خياركم و أن تعضّكم السيوف فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه و أجركم على الله و إما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله.فقالوا يا أسعد أَمِطْ عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة و لا نستقيلها " .هكذا كانت صفات الذين يريدون أن يحموا و يقيموا دين الإسلام رضي الله عنهم . و كذلك اليوم يقول المجاهدون للعلماء و الدعاة الذين يحبون الحق و لا يداهنون الباطل فأنتم قد رفعتم راية دين الإسلام و تعلمون أنه دين رسول الله حقا و إن حملكم له بحق يعني مفارقة حكومات العرب و حكومات العجم في الأرض كافة و قَتْلُ خياركم و أن تعضّكم السيوف فإما أنتم تصبرون على ذلك فحافظوا على الراية و أجركم على الله و إما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروا راية المدافعة و المقاتلة و لا تحولوا بين شباب الأمة و الجهاد في سبيل الله فهو أعذر لكم عند الله .

 

******************************

الباب الحادي عشر - ركن السير والتراجم

 

سجن شيخ الإسلام ابن تيمية عدد مراته، مدته، أسبابه، نتائجه وآثاره

المحروم حقيقة من حُرم عبادة ربه ومولاه، والمأسور المحجوب أبداً من أسره هواه وحجبته خطاياه.

ابتلاء أتباع الرسل والأنبياء من السنن الكونية، والأوامر القدرية، ومع ذلك ينبغي للعبد أن لا يتمناه وأن يسأله أن يعافيه إياه: "لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاثبتوا".

الحبس، والضرب، والتضييق، بل والقتل، أحب إلى أولياء الله المتقين وجنده المخلصين من الكفر برب العالمين، ومن اقتراف الفواحش، والانغماس في الموبقات، والاستعباد للشهوات، فقد قالت السحرة بعد إيمانها برب هارون وموسى متعالية على تهديدات الطاغية فرعون: "فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا"، ولذات السبب آثر يوسف عليه السلام السجن على ارتكاب الفاحشة: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ".

لم يكن شيخ الإسلام، مفتي الأنام، راهب الليل، فارس النهار، قائد الجيوش، حارس الثغور، محارب التتار والمغول، محيي السنن، قامع البدع، ببدع من أولئك، بل كان لطريقهم سالك، وعلى منهاجهم ثابت، ولهذا كان له من الابتلاء النصيب الأكبر، والحظ الأوفر، تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبيء، ثم الأمثل فالأمثل".

ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر أذى"، وقال مالك: "لا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر".

ولو شاء الله أن يعافي أحداً من ذلك لعافى رسله وأنبياءه، بل خليله وصفيه محمداً صلى الله عليه وسلم.

نقول هذا حتى لا يظن جاهل مغرور، أوحاقد حاسد موتور، أن ما أصاب هذا العالم الرباني، والحبر المتفاني، قامع الباطنية، والفلاسفة، والمشعوذة، والمقلدة، والمبدلة للأديان السماوية، عقوبة، بل كان إن شاء الله لرفع الدرجات، وتبوء المراتب العالية، ولتطمئن قلوب المبتلين، وليوطن أنفسهم المنتظرون.

بيان إجمالي لسجنه

سجن شيخ الإسلام رحمه الله سبع مرات لمدد متفاوتة.

بلغت جملتها خمس سنوات، وفي ميزان حسناته إن شاء تزيد عن الخمس مئات.

أسبابها كلها واهيات، فهي نتيجة حسد، ووشاية، وسعايات.

أما نتائجها وثمراتها فجد عجيبات، إذ العبرة بالخواتيم، حيث خلفت العديد من المآثر والمؤلفات التي أضحت حياة لصاحبها بعد الموت.

بيان تفصيلي له

السجنة الأولى

في دمشق عام 693 هـ، كانت مدتها قليلة، وفائدتها كبيرة، وثمرتها جليلة؛ سببها واقعة عساف النصراني، الذي شهـد عليه جمـاعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، فعندمـا بلغ الخبـرُ شيخَ الإسلام التقى بالشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث في وقته، فرفعا أمره إلى نائب السلطان بدمشق، عز الدين أيبك الحموي، فأحضر عساف ومعه مجيره أمير آل علي، فضربهما الناس بالحجارة، فضربهما السلطان أمام عساف، ثم دعاهما وأرضاهما.

وادعى النصراني الإسلام، فقتل في طريقه إلى الحجاز، قتله ابن أخيه، ولعل ما أصابه كان انتقاماً من الله للشيخين الكريمين.

وكان من نتيجة هذه الحادثة أن ألف شيخ الإسلام سفره العظيم: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، الذي أصبح مرجعاً يرجع إليه الناس كلما نيل أحد من أنبياء الله ورسله.

السجنة الثانية

كانت في القاهرة، وكانت مدتها سنة ونصف من يوم الجمعة 26/9 رمضان 705هـ إلى يوم الجمعة 23/3 ربيع أول 707هـ؛ كانت بدايتها في سجن "برج"، ثم نقل إلى الجب بقلعة الجبل.

وكان معه في هذه المرة أخواه عبد الله وعبد الرحمن، وتلميذه إبراهيم الغياني، حيث كانوا ملازمين له في سفره إلى القاهرة.

وسببها كما ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" في حوادث 705هـ، كان مسألة العرش، ومسألة الكلام، ومسألة النزول.

وفيها من المواقف البطولية، والصدق في ذات الله ما يملأ النفس بالإيمان والجد في العمل.

عندما أخرجوا من السجن دعا أخوه عبد الله الملقب بالشرف على من تسبب في حبسه ظلماً وعدواناً، فمنعه شيخ الإسلام، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق.

السجنة الثالثة

كانت بمصر أيضاً، ولمدة قليلة، أسبوعين من 3/10/707هـ إلى 18/10/707هـ.

وسببها أنه ألف كتاباً في الاستغاثة، المعروف بالرد على البكري، لهذا استعدى عليه الصوفية السلطة بالقاهرة، فكون له مجلس، فمنهم من برأه ومنهم من أدانه.

السجنة الرابعة

بمصر كذلك، في قاعة "الترسيم"، لمدة شهرين أوتزيد، من آخر شهر شوال 707هـ، إلى أول سنة 708هـ.

وكانت تلك السجنة بسبب مؤامرة تولاها الصوفي الباطني الحلولي نصر المنبجي، مستغلاً صلته بالحاكم الجاشنكير.

السجنة الخامسة

كانت بالإسكندرية من يوم 1/3/709هـ إلى 8/10/ 709هـ، لمدة سبعة شهور، وهي بمكيدة من نصر المنبجي والجاشنكير، عليهما من الله ما يستحقانه.

لقد عزموا أن ينفوه إلى قبرص، وهدِّد بالقتل، فقيل له في ذلك، فقال مقالته المشهورة، وكلمته المشكورة: "إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص دعوتُ أهلها إلى الله فأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبداً، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف"، فيئسوا منه وانصرفوا.

ولكن الله يدافع عن الذين آمنوا، فما هي إلا شهور حتى رجع الملك الناصر محمد بن قلاوون 709هـ، خالفاً الخائن الجاشنكير، فأفرج عن الشيخ، واستدعاه من الإسكندرية إلى القاهرة، وأكرمه، وأجله، واستفتى الشيخ في قتل المشايخ الذين كانوا سعوا به إلى الجاشنكير وأرادوا قتله بعد سجنه، ولكن الشيخ رحمه الله علم مراد السلطان وأنه يريد أن يتخلص منهم انتقاماً لنفسه، فشرع الشيخ في مدحهم والثناء عليهم، وقال: إن هؤلاء أفضل ما في مملكتك، فإن قتلتهم فلا تجد بديلاً عنهم؛ وقال له: أما أنا فهم في حل من جهتي.

ولهذا قال ابن مخلوف قاضي المالكية في زمانه، وكان من المحرضين عليه، بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا.

وبعدها نزل الشيخ القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، وتردد عليه الخلق على اختلاف طبقاتهم يسألونه، ويستفتونه، ويحرضونه على خصومه، وما فتئ يقول: أنا أحللت كل من آذاني، ومن آذى اللهَ ورسوله فالله ينتقم منه.

ثم عاد إلى دمشق بصحبة السلطان لملاقاة التتار في 8/ 10/719هـ بعد غيبة منها دامت سبع سنين، سجن فيها أربع مرات ولمدة سنتين ونصف.

السجنة السادسة

كانت بدمشق لمدة ستة أشهر تقريباً من يوم الخميس 12/7/720هـ إلى يوم الإثنين 10/1/721هـ، بسبب الحلف بالطلاق.

لقد أثمرت هذه السجنة عن العديد من الكتب والرسائل المفيدة، والردود الحافلة على الخصوم والمعاندين، منها "الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق".

السجنة السابعة

بدمشق لمدة عامين وثلاثة أشهر ونصف تقريباً، من يوم الإثنين 6/8/726هـ إلى ليلة الإثنين 20/11/728هـ، حيث أخرجت جنازته من سجن القلعة إلى مثواه الأخير؛ وكانت بسبب مسألة الزيارة، وأنتجت "الرد على الإخنائي".

وقد فتح عليه في هذه المرة من الفتوح الربانية، والعلوم النافعة، والعبادة الخالصة، هذا بجانب العديد من الرسائل والفتاوى، على الرغم من حرمانه من كتبه وأدوات الكتابة، فكان يكتب من حفظه.

لم يزد شيخ الإسلام في مسألة الزيارة هذه إلا أن أورد قولي العلماء، قول مالك الذي ينهى أن تشد الرحال إلا للمساجد الثلاثة، للحديث الصحيح: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.."، وهو الراجح، والقول الثاني لبعض الشافعية والحنابلة بجواز ذلك، فما يدري الإنسان لم قامت الدنيا على ابن تيمية ولم تقم على مالك؟ ليس هناك من سبب سوى الهوى، والتعصب، والتقليد الأعمى.

اللهم اغفر لشيخ الإسلام في الأولين والآخرين، وأكرم نزله، وأعلي شأنه، وأكرم مكانه، وانفع بكتبه ومؤلفاته وآثاره وتلاميذه، الأحياء منهم والميتين، واجزه عن الإسلام وأهله، بل واجز الإسلام عنه خير الجزاء، يا واسع المغفرة يا مجيب الدعاء.

وصلى الله وسلم على محمد وآله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم اللقاء.

--------------------

من غرائب الرؤى وعجائب التعبير وشيء من سيرة إمام المعبرين وأحد سادات التابعين محمد بن سِيرِين المتوفى 110ﻫ

أقسام الرؤى

ما يستحب في الرؤيا

ما يكره في الرؤيا

أمور يغلب تعبيرها بالآتي

قد يقع تأويل الرؤيا بعد حين

ما يُخبر به من الرؤى وما لا يُخبر به

ما ورد من عجائب الرؤى وغرائب التعبير

 

ابن سيرين هو أبوبكر محمد بن سيرين التابعي الكبير، والإمام القدير في التفسير، والحديث، والفقه، وتعبير الرؤيا، والمقدم في الزهد والورع وبر الوالدين، توفي 110هـ بعد الحسن البصري بمائة يوم، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة.

كان ابن سيرين رحمه الله قصيراً، عظيم البطن، به صمم، كثير الضحك والمزاح، عالماً بالحساب، والفرائض، والقضاء، ذا وفرة، يفرق شَعْره ويخضب بالحناء، يصوم يوماً ويفطر يوماً.

تعبير الرؤى من العلوم الشرعية والفراسات الربانية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بعد يوسف عليه السلام بتعبير الرؤى وتأويلها، وقد شرع لأمته أسس وقواعد التعبير، فقال صلى الله عليه وسلم:

1.  "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب".

2.  "أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً".

3.  "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".

4.  "رؤيا الأنبياء حق".

5.  "اللبن فطرة، والقيد ثبات في الدين، والغرق نار، لقوله تعالى: "أغرقوا فأدخلوا ناراً".

6.  "من رآني في المنام - فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي"، هذا إذا رآه على صورته التي كان عليها ولم يخرم منها صفة من صفاته.

أقسام الرؤى

ما يراه الإنسان في النوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1.  رؤيا صادقة لها تعبير وتأويل.

2.  أضغاث أحلام.

3.  حديث نفس وأماني كاذبة.

ما يستحب في الرؤيا

يستحب في الرؤيا ما يأتي:

1.  اللبن ويؤول بالفطرة وبالعِلْم.

2.  الخضرة.

3.  الطيب، ويؤول بالثناء الحسن والعيش الحسن، خاصة الطيب الأسود كالمسك.

4.  الثياب البيض.

5.  القيد في الأرجل، ويؤول بالثبات في الدين.

6.  قطع النهر، ويؤول بتجاوز بلاء وفتنة وأمر صعب.

ما يكره في الرؤيا

1.  الماء والغرق، يؤول بالفتنة وبالنار.

2.  الغل إلى العنق.

3.  ركوب البعير، إن لم ينزل عنه يؤول بالموت.

أمور يغلب تعبيرها بالآتي

1.  الأذان بالحج، إذا رآه رجل صالح وفي أشهر الحج، وقد يؤول بالسرقة وقطع اليد: "فأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون"، وقد يعبَّر بعمل صالح فيه شهرة.

2.  المرأة تعبر بالدنيا.

3.  الطائر الذي يخرج من الرأس بعد حلقه بالروح.

4.  حل الإزار بالزواج.

5.  فَرْج المرأة بالأرض.

6.  عتبة الدار بالزوجة.

7.  سقوط الأضراس بموت الأبناء والإخوان والأنداد.

8.  الخاتم بالمرأة.

9.  أشياء تؤول بضدها: الضحك، البكاء، الغلبة في المصارعة.

قد يقع تأويل الرؤيا بعد حين

قيل لجعفر بن محمد: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن كلباً أبقع يلغ في دمه، فكان شمِر بن ذي الجوشن قاتل الحسين رضي الله عنه، وكان أبرص، فكان تأويل الرؤيا بعد خمسين سنة.

ما يُخبر به من الرؤى وما لا يُخبر به

إذا رأى الإنسان رؤيا طيبة له أولغيره أخبر بها من يحب، وبحث عن تأويلها، وإن رأى رؤيا سيئة تفل عن يساره ثلاثاً، وتحول في نومه إلى الشق الآخر، وإن قام وصلى ركعتين فحسن، ولا يخبر بها أحداً، ولا يعبرها، فإنها لا تضره إن شاء الله.

ما ورد من عجائب الرؤى وغرائب التعبير

أ.  ما روي عنه صلى الله عليه وسلم

1.  قال أبوبكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما زلت أرى كأني أطأ في عذرات الناس؛ قال: لتلين أمور الناس؛ قال: ورأيت في صدري كالرقمتين؛ قال: سنتين؛ قال: ورأيتُ كأن عليَّ حلة حَبْرة؛ قال: ولد تحبر به.

2.  رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل الجنة، وأنه رأى فيها عِذْقاً مدلى فأعجبه، وقال: لمن هذا؟ فقيل: لأبي جهل؛ فشقَّ ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، وقال: ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبداً، فإنها لا يدخلها إلا نفس مؤمنة؛ فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل مسلماً فرح به، وقام إليه، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه.

3.  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ أني دخلت الجنة فسقيت لبناً، فشربت حتى رأيت الرِّي أوقال: اللبن خرج من أظفاري؛ قالوا: فما تأولته يا رسول الله؟ قال: العلم".

ب. ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه

وكان من سادات المعبرين.

1.  مرَّ صهيب بأبي بكر الصديق، فأعرض عنه، فقال أبوبكر: مالك؟ أبلغك عني شيء؟ فقال: لا، إلا رؤيا رأيتها لك كرهتها؛ قال:ما هي؟ قال: رأيتك مجموع اليدين إلى عنقك على باب أبي الحشر الأنصاري؛ قال: نعم ما رأيت، جُمع لي ديني إلى الحشر.

2.  قالت عائشة لأبي بكر الصديق: رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطت في حِجْري؛ فقال لها: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك ثلاثة من خير أهل الأرض؛ فلما دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قال أبوبكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها.

3.  جاء رجل إلى أبي بكر، فقال: رأيتُ كأني أبول دماً؛ قال: أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاتق الله ولا تفعل.

4.  جاء رجل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: رأيتُ كأني أحدث ثعلباً؛ فقال: أنت رجل كذاب، فاتق الله ولا تفعل.

5.  رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا فقصها على أبي بكر، فقال: يا أبابكر، رأيت كأني أنا وأنت نرقى في درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف؛ قال: يا رسول الله، يقبضك الله إلى مغفرته ورحمته، فأعيش بعدك سنتين ونصفاً.

6.  قالت عائشة لأبي بكر: رأيت كأن بقراً نُحِرْنَ حولي؛ قال: إن صدقت رؤياك قتل حولك فئة.

7.  قال رجل لأبي بكر الصديق: إني رأيت الليلة في المنام نوراً عظيماً يخرج من جحر صغير، فجعلت أتعجب من صغر الجحر وعظم النور، ثم إن النور أراد أن يعود في الجحر فلم يقدر؛ فقال أبوبكر: هي الكلمة العظيمة تخرج من الرجل يريد أن يردها فلا يستطيع.

8.  رأى رجل في المنام كأنه يطلب بطة معها ثلاثة أفراخ، فأدرك البطة وفاتته الفراخ، فسئل: فقال: هذا رجل صلى العتمة، ونام عن الوتر حتى أصبح، فقال الرجل: ما تركت الوتر منذ ثلاثين سنة إلا البارحة.

ج.  عمر بن الخطاب رضي الله عنه

كان عمر من المُحَدَّثين الذين لا تكذب لهم فراسة.

1.  قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يقتل بأيام، فقال: إني رأيتُ ديكاً نقرني نقرتين أوثلاثاً؛ فوجأه أبولؤلؤة غلام المغيرة وجئتين أوثلاثاً فقتله.

2.  قال بعض أمراء الشام لعمر: يا أمير المؤمنين! رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا، ومع كل واحد منهما فريق من النجوم، قال: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر؛ قال: مع الآية الممحوة، لا عملتَ لي أبداً؛ فعزله، وقتل مع معاوية بصفين.

د.  ابن سيرين

كان ابن سيرين من أئمة التعبير.

قال الذهبي رحمه الله: (قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول ذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي).

ليس كل ما نسب إلى ابن سيرين يصح عنه، ومن جملة ذلك المؤلف المنسوب إليه في ذلك.

قال هشام بن حسان: كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء، إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم؛ وكان يجيب في خلال ذلك، ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب.

قيل لابن سيرين:  إنك تستقبل الرجل بما يكره؛ قال: إنه علم أكره كتمانه).

1.  قال رجل لابن سيرين: رأيتُ كأني آكل خبيصاً في الصلاة؛ قال: الخبيص حلال طيِّب، ولا يحل الأكل في الصلاة، أنت رجل تقبل امرأتك وأنت صائم؛ قال: نعم؛ قال: فلا تعد.

2.  وقال ابن سيرين في جنازة يتبعها الناس: هذا قائد له أتباع.

3.  قال رجل لابن سيرين: رأيتُ في المنام كأن قرداً يأكل معي على مائدة؛ فقال: هذا غلام أمرد اتخذه بعض نسائك.

4.  قال رجل لابن سيرين: رأيتُ في المنام كأني أطير بين السماء والأرض؛ فقال: أراك تكثر الأماني.

5.  قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن لحيتي بلغت سرتي، وأنا أنظر إليها؛ فقال: أنت رجل مؤذن تنظر في دور الجيران.

6.  سئل ابن سيرين عن الفيل في النوم؛ فقال: أمر جسيم قليل المنفعة.

7.  كان ابن سيرين يستحب الزيت في النوم، ويقول: هو بركة كله، إن أكلته، أوأدخلته بيتك، أوشربته، أوادهنت به، أوتلطخت به، لأنه شجرة مباركة.

8.  كان ابن سيرين يقول: الماء في النوم فتنة، وبلاء في الدين، وأمر شديد، لأن الله تعالى يقول: "إن الله مبتليكم بنهر"، وقال: "ماء غدقاً لنفتنهم فيه".

وقال ابن سيرين: ومن عَبَر نهراً قطع بلاء وفتنة ومشقة، ونجا من ذلك.

9.  أتى رجل ابن سيرين، فقال له: خطبتُ امرأة فرأيتها في المنام؛ فقال له ابن سيرين: كيف رأيتها؟ قال: رأيتها سوداء قصيرة، مكسورة الفم؛ فقال ابن سيرين: أما الذي رأيت من سوادها فإنها امرأة لها مال، وأما ما رأيت من كسر فمها فإنها امرأة فظيعة اللسان، وأما ما رأيت من قصرها، فإنها امرأة قصيرة العمر، فتوشك أن تموت عاجلاً؛ فذهب فتزوجها.

10.  وكان ابن سيرين يعبر الرجل إذا رأى أنه حل إزاره، أوانحل، قال: هذا رجل يرزق امرأة.

11.  وكان ابن سيرين لا يعبر الخاتم في المنام إلا امرأة يستفيدها، وكذلك كان هشام بن حسان لا يعبر الفص في الخاتم، إلا أنه يقول: امرأة فيها قسوة.

12.  قال معمر: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيتُ كأن حمامة التقمت لؤلؤة فخرجت منها أعظم ما كانت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت أصغر مما دخلت، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت؛ فقال ابن سيرين: أما الأولى فذلك الحسن، يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، ويصل فيه من مواعظه، وأما التي صغرت فأنا أسمع الحديث فأسقط منه، وأما التي خرجت كما دخلت فقتادة، فهو أحفظ الناس.

13.  روى ابن المبارك عن عبد الله بن مسلم المروزي قال: كنت أجالس ابن سيرين، فتركته وجالست الإباضية، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيتُ ابن سيرين فذكرته له؛ فقال: مالك جالستَ أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

14.  وعن هشام بن حسان قال: قصَّ رجل على ابن سيرين فقال: رأيتُ كأن بيدي قدحاً من زجاج فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء، فقال له: اتق الله فإنك لم تر شيئاً؛ فقال: سبحان الله؛ قال ابن سيرين: فمن كذب فما عليَّ، ستلد امرأتك وتموت، ويبقى ولدها؛ فلما خرج الرجل قال: والله ما رأيتُ شيئاً؛ فما لبث أن ولد له، وماتت امرأته.

15.  وقال رجل لابن سيرين: كأني وجارية سوداء نأكل في قصعة سمكة؛ فقال: أتهيئ لي طعاماً وتدعوني؟ قال: نعم؛ ففعل، فلما وضعت المائدة فإذا جارية سوداء، فقال له ابن سيرين: هل أصبت هذه؟ قال: لا؛ قال: فادخل بها المخدع؛ فدخل وصاح: يا أبابكر، رجل والله؛ فقال: هذا الذي شاركك في أهلك.

16.  سأل رجل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا؛ قال: هذا الحسن يموت قبلي ثم أتبعه، وهو أرفع مني.

------------------

هكذا فليكن القضاة والحكام محمد بن بشير القاضي (المتوفى 198ﻫ)

القضاء من الوظائف الكبيرة، والمهن الخطيرة، والمسؤوليات الجسيمة، ولهذا اشترط فيمن يتولاه شروطاً لابد من توفرها كلها أوجلها، وحد في ذلك حدوداً يحرم تعديها، وهي:

1.  الإسلام.

2.  الذكورية.

3.  العلم.

4.  العدالة.

5.  سلامة الحواس.

6.  الفطنة.

لم يتول هذا المنصب في صدر الإسلام إلا العدول الأخيار، والعلماء الكبار، أمثال أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي موسى، وغيرهم من الصحابة، وأمثال شريح، وإياس، وأبي يوسف من التابعين وتابعيهم بإحسان، ولا يزال هذا هو ديدن السلف والخلف من الحكام، حتى غشانا هذا العصر، حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فأصبحت القوانين الوضعية بديلاً عن أحكام الشريعة المرضية، وأضحى العلمانيون والنسوان بديلاً عن العلماء والذكران، والدراسات القانونية بديلاً عن الدراسات الإسلامية، والدساتير الفرنسية والهندية والإنجليزية بديلاً عن الشريعة الربانية.

لهذا كان كثير من السلف الصالح يتدافعون القضاء كتدافعهم للإمامة في الصلاة وللأمانات المالية، مع توفر شروط ذلك فيهم، حيث لم يتعين عليهم لتوفر العلماء وكثرة الفقهاء في ذلك الوقت.

ومن هؤلاء من ضرب وحبس وضيِّق عليه بسبب امتناعه عن ذلك، أمثال الإمام أبي حنيفة رحمه الله وغيره.

لقد وجد الإمام أحمد بن حنبل على الإمام الشافعي وجداً شديداً فقط لإشارته على هارون الرشيد وقد استشاره في ذلك، والمستشار مؤتمن بصلاح أحمد لتولي قضاء اليمن.

من أولئك القضاة الهداة الذين لم يجد الزمن بأمثالهم إلا نادراً أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بشير الأندلسي رحمه الله، الذي تولى القضاء في عهد الأمير الحكم خلفاً للقاضي العادل المصعب بن عمران رحمه الله.

قال القاضي عياض: (قال ابن القوطية لما توفي المصعب بن عمران القاضي استشار الأمير الحكم فيمن يستقضيه، فأجمع له وزراؤه وأعلام الناس على محمد بن بشير كاتب المصعب، وكان قد شهر عفافه، واستقلاله بمعهد المصعب، فولاه القضاء، فأثر على المصعب وبعد في الفضل والعدل صيته، وخلدت آثاره بعد، فلم يزل قاضياً إلى أن توفي فولي ابنه سعيد مكانه.

إلى أن قال: قال ابن حارث: من مستفيض الأخبار التي لا يتواطأ على مثلها لسعة الاجتماع عليها، أنه كان أي ابن بشير من عيون القضاة الهداة، ومن أولي السداد والمذاهب الجميلة، وأصالة الرأي والسيرة العادلة، والذكر الجميل الخالد، وكان شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، صلباً في الحق، مؤيداً، لا هوادة عنده لأحد، ولا مداهنة لديه لأحد من أصحاب السلطان، لا يُؤثر غير الحق في أحكامه، جيد الفطنة، حسن الانبساط، صادق الحس، قوي الإدراك).

لما استدعى الأمير الحكم ابن بشير ليوليه القضاء بعد وفاة المصعب، عدل في طريقه إلى صديق له عابد يستشيره في ذلك، وكان ابن بشير في أول الأمير يظن أنه وجه إليه في الكتابة التي قد تخلى عنها، فجرت بينهما هذه المحاورة:

فقال له صديقه: ما أرى بعث فيك إلا للقضاء، فقد مات قاضي قرطبة.

فقال له ابن بشير: فإذا قبلتها فما ترى؟ فانصح لي وأشر عليَّ.

قال له العابد: أسألك عن ثلاثة أشياء فاصدقني فيها، كيف حبكم لأكل الطيب، ولباس اللين، وركوب الفاره؟

فقال ابن بشير: والله ما أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به عورتي، وحملت به رجلي.

فقال: هذه واحدة، فكيف حبك للوجوه الحسان، وشبه هذا من الشهوات؟

قال: هذه حالة والله ما استشرفت نفسي إليها قط، ولا خطرت ببالي.

قال: هذه ثانية، فكيف حبك للمدح والثناء، وكراهتك للعزل، وحب الولاية؟

قال: والله ما أبالي في الحق من مدحني أوذمني، وما أسر للولاية، ولا أستوحش للعزل.

فقال له: اقبل القضاء ولا بأس عليك.

ذكر أن ابن بشير ولي القضاء بقرطبة مرتين، وكان بعض إخوانه يعتب عليه في صلابته في الحكومة، ويقول: أخشى عليك العزل؛ فكان يقول: ليته رأى الشقراء تقطع الطريق إلى ماردة؛ فما قضى إلى يسيراً حتى حدثت حادثة أظهر ابن بشير فيها صلابته، فكانت سبباً لعزله، فانصرف لبلده كما تمنى؛ فما لبث إلا يسيراً حتى كتب له ليعود إلى منصبه، فعدل كذلك وهو في طريقه إلى قرطبة إلى صديق له زاهد فاجتمع به، وقال له: قد أرسل إلي الأمير، أظنه يردني على القضاء ثانية، فما ترى؟

فقال له صديقه: إن كنت تعلم أنك تنفِّذ الحق على القريب والبعيد، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فلست أرى لك أن تحرم الناس خيرك، وإن كنت تخاف أن لا تعدل فترك الولاية أفضل لك.

قال ابن بشير: أما الحق فلست أبالي على من أمررته إذا ظهر لي.

فقال له: لستُ أرى أن تمنع الناس خيرك.

فورد قرطبة وولي القضاء ثانية.

وكان سبب عزله كما قال القاضي عياض: أن يده قصرت عن بعض الخاصة ومنع من الحكم عليهم، فحلف بطلاق زوجته ثلاثاً، وعتق مماليكه، وبصدقة ما يملك على المساكين، إن حكم بين اثنين، فعزل، فلما أراد رده اعتذر إليه بتلك الأيمان، فعزم الأمير عليه، فأعتق، وطلق، وتصدق، وأخرج إليه الأمير جارية من جواريه، ومالاً عوضاً عن ماله، ومماليك عوضاً عن مماليكه، ومع ذلك فقد اشترط على الأمير ثلاثة شروط مضمومة، وقال له: إن التزمتها تقدمت، وإلا فلا أقبل البتة؛ والشروط هي:

1.  نفاذ الحكم على كل أحد ما بينك وبين حارس السوق.

2.  وإن ظهر لي من نفسي عجز استعفيتك فاعفني.

3.  وأن يكون رزقي من الفيء.

فضمنها له، فقبل.

قلت: من الطوام العظام والبلايا الجسام التي ابتلي بها بعض الحكام، وجاراهم فيها بعض القضاة: المحاباة، والمحسوبية، والشفاعة في الصداقات والقربات، سيما في الحدود الواضحات، وذلك على الرغم من تحذير الرسول الكريم لأمته من هذا المسلك المشين، والخلق اللئيم، الذي يورد من سلكه الجحيم، ويوصل من استهان به إلى سواء الحميم، وذلك عندما شق على قريش في أول الأمر إقامة الحد على تلك المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ورفع أمرها إلى الرسول الكريم، فطلب من حبِّه وابن حبِّه أسامة بن زيد أن يشفع فيها، فماذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وبم رد على هذه الشفاعة السيئة، والمحاماة على الإثم والعدوان؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟"، ثم قام فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيُمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها".

لبعض الحكام أساليب غريبة، وطرق مريبة، في حجب بعض القضايا التي يهمهم أمر أصحابها، ومن الحيلولة بينهم وبين المثول أمام القضاء، فأضحت الأحكام تقام فقط وتنفذ على الضعفاء والفقراء، ويعفى من ذلك الخاصة، وأخس من ذلك وأخطر أن يطلب من بعض القضاة أن يعيدوا النظر وأن يغيروا الحكم إذا كان المحكوم عليه ممن يهمهم أمره ويعنيهم شأنه، وأخطر من ذلك وأشد استجابة بعض القضاة لهذا الطلب حرصاً على منصبه وخوفاً من عزله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

نماذج من أعيان أقضيته وأحكامه

لقد شهد العلماء لابن بشير بالعدل، والنزاهة، والصدق، والصرامة، والتجرد، وعدم الخوف من الملامة في الحق، ودون المؤرخون عدداً من قضاياه الفريدة، ومواقفه النبيلة، من ذلك:

1.  حكمه على الوزير ابن فطيس في حق ثبت عنده، دون أن يعرِّفه بالشهود عليه

قال ابن وضاح: حكم ابن بشير على ابن فطيس الوزيـر في حق ثبت عنده، دون أن يعرَّفه بالشهـود عليه، فشكا ابن فطيس ذلك إلى الأمير، وتظلم منه، وأومأ إلى ابن بشير بذلك، وذكر شكوى ابن فطيس من إمضائه الحكم عليه دون إعذار، وهو حق له بإجماع أهل العلم، فكتب إليه ابن بشير: ليس ابن فطيس ممن يُعرَّف بمن شهد عليه، لأنه إذا لم يجد سبيلاً إلى تجريحهم لم يتحرَّج عن أذاهم، فيَدَعُون الشهادة هم ومن ائتسى بهم، ويضيع أمر الناس.

2.  حكمه لمدَّعٍ على الأمير الحكم

قال أحمد بن خالد: كان أولى ما أنفذه ابن بشير من نافذ أحكامه التسجيل على الأمير الحكم في "أرُجي القنطرة" بباب قرطبة، إذ ثبت عنده حق مدعيها، ولم يكن عند الأمير مدفع، فسجل فيها وأشهد على نفسه، فما مضت مديدة حتى ابتاعها ابتياعاً صحيحاً، فسُرَّ بذلك الحاكم، وجعل يقول: رحم الله ابن بشير، فقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا، إذ كان في أيدينا شيء مشتبه فصحَّح ملكنا له.

3. رد ابن بشير لشهادة الأمير الحكم لصالح عمه سعيد الخير

قال ابن وضاح: كان سعيد الخير عم الأمير الحكم، وكّل وكيلاً يخاصم له عند محمد بن بشير في مطلب، وكان في يد سعيد وثيقة فيها شهادات جماعة عدول أتى الموتُ عليهم ما عدا شاهد واحد من أهل القبول، مع شهادة الأمير الحكم ابن أخيه، فاضطر عمه إليها في خصومته لما قبل القاضي شهادة الأخير، وضرب الآجال لوكيله في شاهد ثان، فدخل سعيد على الأمير وعرفه حاجته إلى شهادته، وكان الحكم معظماً لعمه، فقال له: يا عم، اعفني من هذه الكلفة، فقد تعلم أنا لسنا من أهل الشهادة عند حكامنا، إذ تلبسنا من فتن هذه الدنيا بما لا نرضى به عن أنفسنا، ولا نلومهم على مثل ذلك فينا، ونخشى إن توقفنا مع القاضي موقف خزي نفديه بملكنا، وعلينا خلف ما ينقصك وأضعافه؛ فهم سعيد في ذلك وعزم عليه إلى أن وجه شهادته مع فقيهين يؤديانها إلى القاضي، فأدياها إليه، فقال لهما: قد سمعتُ منكما فقوما راشدين؛ وجاءت دولة وكيل سعيد، فتقدم مدلاً واثقاً، فقال: أيها القاضي، لقد نُقلت إليك شهادة الأمير فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة وأعاد النظر فيها، ثم قال: هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بغيرها، فمضى الوكيل إلى سعيد فأعلمه، فركب من فوره إلى الحكم وقال: ذهب سلطاننا، وأهينت عزتنا، يتجرى قاضيك الحروري على رد شهادتك! هذا ما لا يجب أن تتحمله عليه؛ وأكثر من هذا، وأغرى بابن بشير، والأمير مطرق، فلما فرغ من كلامه قال له: يا عم، هذا ما قد ظننته، وقد آن لك أن تقصر عنه، فالحق أولى بك، والقاضي قد أخلص يقينه لله، وفعل ما يجب عليه ويلزمه، و لو لم يفعل ما فعله لأجال الله بصيرتنا فيه، فأحسن الله جزاءه عنا، وعن نفسه، ولستُ والله للقاضي بعد فيما احتاط لنفسه.

فذكر أن بعض أقران ابن بشير أعتبه فيما آتاه في ذلك، فقال له: يا عاجز، ألم تعلم أنه لابد من الإعذار في الشهادات، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها؟! ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه.

قلت: هذه القضايا والأحكام، والمواقف العظام، تدل على فضل ونبل الأمير الحكم، قبل دلالتها على فضل، ونبل، وشجاعة القاضي ابن بشير.

فما أمس حاجة المسلمين اليوم لحكام مثل الحكم، ولقضاة مثل ابن بشير، وهكذا ينبغي لحكامنا التأسي بأئمة الحق والعدل من حكام المسلمين الأخيار، وينبغي لقضاتنا أن يسيروا على نهج ابن بشير ومن سبقه من القضاة العدول الشجعان الذين لم يكن يأخذهم في الحكم بالعدل والثبات عليه لومة لائم، وليحرصوا على مرضاة ربهم، ونجاة أنفسهم من النار.

وليتذكروا قول الصادق المصدوق: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار".

قال أبو هاشم: لولا حديث بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة"، الحديث السابق، لقلنا إن القاضي إذا اجتهد فهو في الجنة.

هذا كله في القضاة الذين يحكمون بشرع الله، أما من يحكم بالقوانين الوضعية فحكمه حكم من لم يحكم بما أنزل الله، وهو معلوم معروف، وهو الكفر والعياذ بالله.

عليك أخي القاضي أن تتقي الله في نفسك أولاً، وفي إخوانك المسلمين، وفي هذا الدين الذي شرفك الله بالانتساب إليه، وعليك أن لا تحكم إلا بالحق، وهو شرع الله المصفى، وعليك أن لا يصرفك عن الحق صارف فتهلك وتهلك من حابيت معك، واحذر الكفر المبين بالتحاكم إلى القانون اللعين، المحادِّ لشرعة رب العالمين، ولما جاء به صادق الوعد المبين، والسلام علينا وعلى سائر عباد الله الصالحين.

---------------------

الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة

سبحان من فاوت بين الخلق تفاوتاً لا تسعه إلاَ قدرة الله العظيمة، وعلمه المحيط، وتدبيره الشامل؛ لقد فاوت بينهم في الخَلْق والخُلُق، وفي الإيمان والكفر، والإيثار والأثرة، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والفطنة والغباء، فقد جمع خلقه بين الأضداد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة".

فإبراهيم عليه السلام عندما أمر بذبح ولده الوحيد الذي جاءه بعد عمر مديد، تلَّه للجبين، وقال له الابن الصالح والولد الفالح: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، ولذلك فُدي بذبح عظيم، وعُدَّ من المحسنين .

بينمـا نجد بني إسـرائيل عندما أمـرهم نبيهم مـوسى عليه السلام بذبح بقرة ، تمنَّعوا :" فذبحوها وما كادوا يفعلون"، فشدّد عليهم من أجل ذلك ، حيث لم توجد أوصافها إلا عند يتيم.

وبينما خرج أبو بكر الصديق من جميع ماله ولم يترك لأهله وعياله إلاَ الله ورسوله، بخل ثعلبة بن حاطب بالزكاة الواجبة بعد أن عاهد الله عليها: "لئن آتانا من فضله لنصدقنّ ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون".

وبينما جاد حاتم الطائي في حضره وترحاله، بخل الحباب بضوء ناره؛ وبينما أقسم عاصم بن ثابت رضي الله عنه أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك، نجد بعض حكام المسلمين يتزلفون للكفار ويخطبون ودهم وما هم بفاعلي؛ وبينما يفر الشيطان من عمر رضي الله عنه، يفر بعض المسلمين من بيوتهم ودورهم بسبب زوالات وخيالات، وقد أخبر تعالى: "إن كيد الشيطان كان ضعيفا".

وبينما يتقلل البعض من المباحات ينغمس كثير من الناس في المحرمات.

وبينما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بأنه أسد الله وأسد رسوله، يرد عليه عمه أبو لهب بأقبح رد: "تباً لك ألهذا جمعتنا؟"، فيرد الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة: "تبت يدا أبي لهب وتب".

وهذا كله يدل على قدرة الله الفائقة، وحكمته البالغة، سبحانه من إله عظيم، ورب خالق حكيم، وصلى الله وسلم وبارك على إمام المتقين، وسيد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

-------------------

تفسير الرازي - (ج 1 / ص 424)

المسألة السادسة عشرة : لقائل أن يقول لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم لقوله : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ، { وقليل ما هم } [ ص : 24 ] ولحديث « الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة » وحديث « الناس أخبر قلة » ، والجواب : أهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة فسموا بالكثير ذهاباً إلى الحقيقة .

---------------------

فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 7 / ص 3074)

رقم الفتوى 53788 شرح حديثين نبويين

تاريخ الفتوى : 08 شعبان 1425

السؤال

سؤالي هو: أنه قد أشكل علي فهم حديثين، أرجو منكم توضيحهما لي:

الأول: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل).

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) أو فيما معنى الحديث؟

الفتوى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن معنى الحديث الأول أن من خاف يعني خاف البيات والإغارة من العدو وقت السحر أدلج أي سار أول الليل، ومن أدلج بلغ المنزل أي وصل إلى المطلب، قال الطيبي رحمه الله : هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك طريق الآخرة فإن الشيطان على طريقه والنفس وأمانيها الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده ومن قطع الطريق بأعوانه.

وأما عن الحديث الثاني فإن الراحلة هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب فهي كاملة الأوصاف فإذا كانت في إبل عرفت، ومعنى هذا كما اختار بعض المحققين أن مرضي الأخلاق من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جداً كقلة الراحلة في الإبل، وقيل في معناه إن الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب بل هم أشباه كالإبل المائة، ولكن المعنى الأول أرجح وقد رجحه النووي وابن حجر والسيوطي، وطالع لمعرفة المزيد في الموضوع شروح الصحيحين.

والله أعلم.

المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

--------------------

المنهاج النبوي تربية و تنظيما وزحفا - (ج 1 / ص 42)

ثم بعد النصرة والهجرة لا بد من مؤمنين ممتازين بإحسانهم وكفاءتهم التربوية، نسميهم نقباء، يكلفون بتربية المؤمنين وتنظيمهم. لا يفيد أن تحدد مقاييس علمية تحصيلية لكل مرتبة، لكن المجموع لا يكون مجموعا صالحا إن لم يجمع في المؤمن الخصال العشر على درجة من الإيمان، من القوة والأمانة، تتدرج من نصرة لهجرة لنقابة. يحكم على صلاح المرشح للعضوية والترقية مجلس المؤمنين. مجلس الشعبة بالنسبة لرتبتي النصرة والهجرة، ومجلس الجهة بالنسبة لرتبة النقابة. وهكذا صعدا إلى مجلس الإرشاد العام أو مجلس الإمامة بعد قيام الدولة الإسلامية.

والجند لا بد أن يرضوا بالرتبة الظاهرة التي أحلهم فيها إخوتهم. مجلس الشعبة برئاسة نقيب الشعبة ونقباء الأسر التي تتكون منها الشعبة -سنحدد مباني الشعبة والأسرة في الفصل التالي إن شاء الله- هو الذي يتصرف في مرتبية الأعضاء والمرشحين للعضوية.

المرء وغناؤه في الإسلام :

من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي) : "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة". عامة الناس لا تحمل إلا هم العيش وهم الدنيا، وقليل من يدفعه هم الآخرة للتحرر من جاذبية الأرض. وأقل منهم من يحمل هم الأمة، وأقل منهم من يجمع إلى هم الأمة الشوق الدائم للموت في سبيل الله، وأقل منهم من يترجم ذلك الهم وذلك الشوق جهادا فيه غناء للأمة.

فلا يدخلن في عضوية الجماعة ونظامها إلا القادرون على حمل هم الأمة، القادرون على بذل النفس والنفيس جهادا في سبيل الله، الأقوياء الأمناء على ذلك، مع شرط التقوى ومحبة الله ورسوله.

حين فضل عمر رضي الله عنه الناس في العطاء بعضهم على بعض، وقد كانوا على عهد الصديق رضي الله عنه سواسية فيه، سألوه عن ميزان التفضيل، فقال : "المرء وغناؤه في الإسلام، المرء وسابقته في الإسلام، والمرء وحظه من الله".

ونحتاج لهذا الميزان، فهو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن نعض بالنواجذ على سنة خلفائه الراشدين. في بعض الأقطار جماعة منظمة نشأت نشأة طبيعية من دعوة رجل أو جماعة موحدة من أول أمرها، وفي أقطار أخرى جماعات وخلافات أو مجرد أفراد من المؤمنين.

فلتأسيس "جماعة المسلمين القطرية"، حيث الأفراد أو الجماعات والخلاف، نرى أن يجتمع ذوو الغناء في الإسلام وهم الذين أفادوا الدعوة وخدموها أو يستطيعون خدمتها، وذوو السابقة وهم الذين برهنوا بسابق جهادهم على صدقهم، وذوو الحظ من الله وهم الصادقون الصالحون العازمون على الجهاد. يجتمعون في مؤتمر إن كان الجبر الذين هم تحته يسمح بالحريات العامة أو يجتمعون سرا إن كان يضطهد. ويختار هؤلاء الأصناف الثلاثة مجلسا قياديا ويختار المجلس مرشدا. ومن هذه القيادة ينبثق البناء الهرمي نزولا ليلتقي باختيار أهل الغناء والسابقة والحظ من الله في القاعدة. وسنرجع إلى البناء الهرمي في الفصل التالي إن شاء الله.

المنهاج النبوي تربية و تنظيما وزحفا - (ج 1 / ص 103)

عصيان أولي الأمر : أخطر الأمراض.

في قصة الملأ من بني اسرائيل إذ طلبوا إلى نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله أكثر من عبرة.

في حديث للبخاري في كتاب المغازي عن البراء رضي الله عنه قال : « ولم يجاوز معه إلا مؤمن». أي مع طالوت الملك الذي عينه لبني اسرائيل نبيهم.

فكانت طاعة الأمير الملك معيارا للإيمان وقد مر ذلك الجند بامتحانات عدة:

امتحان الاستعداد لبذل النفس في سبيل الله. ولم ينجح فيه إلا قليل، قال الله تعالى : «فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم» (القصة كلها في سورة البقرة من الآية 246 إلى الآية 252).

امتحان النزول عن الأنانية الفردية، وهو نزول بدونه لا يمكن جمع الجماعة. قال الله تعالى : «وقال لهم نبيئهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا : أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال ؟ !». ولا شك أن الاستكبار منع طائفة من الدخول في الصف.

ج- امتحان الطاعة الكلية قبل لقاء العدو، فإنه ما لم يغلب ويقهر عدو الأنانية المتمنع على الطاعة لأولي الأمر لا سبيل لغلبة العدو. قال الله تعالى : «فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلا منهم». عصوا الأمير فانتفت عنهم قابلية الجهاد.

د- امتحان الاتكال على الله. قلة لم تشرب وهي قلة من الذين لم يعترضوا على إمارة طالوت، ولم يظنوا أنه دونهم استحقاقا لقلة ثرائه. هم قلة من الذين حدثوا أنفسهم بجهاد حين خاطبوا نبيهم في تأمير ملك عليهم. هذه القلة المنتخبة الالمحصة ثلاث مرات بقي فيها من يقول كما حكى الله عز وجل : «لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده !».

وما لقي العدو واستحق نصر الله والفوز عنده بتوكله على ربه إلا أمثال ذوود عليه السلام، وهم الذين وصفهم الله سبحانه بقوله : « قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين» وهم الذين قالوا عند اللقاء بثقة : «ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين» قال الله تعالى : فهزموهم باذن الله. وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض

كان لا بد من تمحيص العناصر المريضة في الجند وفرزهم. فعندما بقي المؤمنون حق الإيمان جاءهم نصر الله. فكان الدفاع منسوبا لله وكان النصر من عنده. وما الناس في العملية إلا مجلى للمعاني المتصرعة : الكفر والإيمان. فكان لا بد أن يمثل الإيمان رجال صادقون برئت همتهم من مرض القعود (الامتحان الأول). وبرئت أنفسهم من وباء الحسد والأنانية والاستعلاء في الأرض بغير الحق (الامتحان الثاني). وبرئت جوانحهم من آنات العصيان عندما يصدر للتنفيذ في الساعة الحرجة (الامتحان الثالث). وبرئت قلوبهم من مثبطات الاعتماد على غير الله (الامتحان الرابع).

تنبيه : إمارة طالوت جاءت وحيا من الله. لكن لا يقدح في إمارة من ولاه المؤمنون أمرهم وعقدوا معه شرعيا أن يكون مصدر إمارته أرضيا. فإن الله تعالى مع المحسنين، فيؤول أمر عقد عقدوه إلى قداسة أمور السماء.

صدق الله تعالى قال : «وكان حقا علينا نصر المؤمنين»(1).

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» رواه الشيخان. ومعناه أن الناس عند العد مع الرخاء والعافية كثير. فإذا اقتضى الأمر أن يحملوا أعباء الجهاد كما تحمل الراحلة النجيبة من بين الحيوانات السائمة فلا تكاد تجد واحدا بالمائة.

__________

(1) 1 الروم، 47

مرض العصيان - خاصة في الساعات الحرجة- هو الطمة الكبرى. قال الله تعالى بقص نبأ غزوة أحد : «حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون. منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة»(1).

كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للرماة واضحا دقيقا في تلك الغزوة الامتحانية. عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم فقال : «لا تبرحوا ! إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ! وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا» وفي رواية «وإن رأيتمونا تخطفنا الطير

فكان جزاء عصيان المسلمين قائدهم عندما أراهم الله ما يحبون بانكشاف العدو عند الصدمة الأولى أن كانت تلك المقتلة العظيمة المليئة بالعبر.

قال الحافظ ابن حجر : «كان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها تعريف المسلمين عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول ألا يبرحوا منه».

وقد جمع الله لنا سبحانه في سياق سورة آل عمران ذكر أربعة أمراض مترابطة بعضها يغذي بعضا وينتج عنه :

الفشل

التنازع في الأمر، وهو الخلاف الانفعالي.

العصيان ولو بحجة أن الظروف التي صدر فيها الأمر تغيرت.

حب الدنيا وهو رأس البلاء ومعدنه.

دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 5 / ص 350)

 

1 - حتى لا يسود الكفر:

ففي الآية الكريمة: ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ? (الأنفال:39).

إذا توقف القتال ساد الكفر , وانتشر الفتنة وهي الشرك.

2 - لقلة الرجال:

إن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة الرجال الذين يضطلعون بحمل المسؤولية , والقيام بأعباء الأمانة , وكما جاء في الصحيح: ( الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة).

أي لا تجد في كل (مائة جمل) واحدا يحتملك في أسفارك , وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لصفوة من صحبه تمنوا , فتمنى كل واحد منهم شيئا , ثم قالوا: تمن يا أمير المؤمنين , فقال: أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت مثل أبي عبيدة, إن الرجال الذين يعلمون قليلون , والذين يعملون أقل , وإن الذين يجاهدون أندر وأغرب , وإن الذين يصبرون على هذا الطريق لا يكادون يذكرون.

ونحن نأمل من الإخوة الذين لم يستطيعوا أن ينفلتوا من قفص العادات الاجتماعية , ولم ينفضوا عن رؤوسهم ركام التقاليد , ولم يلقوا عن كاهلهم موروثات الأجيال المهزومة تحت ضغط الواقع المرير , وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر الشرير , أقول لهؤلاء الإخوة: إن لم ينفروا إلينا بأنفسهم فلا أقل من أن يدعوا الذين يرفرفون بأرواحهم فوق أرض الجهاد أن يصلوا بأجسادهم إليها.

ولذا فقد آن أوان الرجال , وهذا مقام الفعال دون حال المقال.

فدع عنك نهبا صحيحا في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل

لقد حل بالمسلمين أمور عظيمة , وأرزاء فادحة أليمة , فدع الكلام عن الطعام وعن أساليب الكلام , ولكن حدثني عن هذا الأمر الجلل وماذا قدم له المسلمون.

أمور لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيبُ

أتسبى المسلمات بكل صقع وعيش المسلمين إذا يطيبُ

أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيبُ

----------------

 

الحق بالقافلة

 

بقلم: الدكتور عبد الله عزام

 

مقدمة الطبعة الأولى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد:

فهذه رسالة صغيرة كتبتها للذين يتحرقون للجهاد ويطمعون في الشهادة في سبيله، وهي من فصلين:

أولهما: مبررات الجهاد.

ثانيهما: واإسلاماه.

وختمتها بخلاصة وملاحظات.. نرجو الله أن ينفع بها وأن يصلحنا ويصلح بنا.. إنه سميع قريب مجيب.

وقد أملتها علي  رغبة في الرد على كثير من الرسائل التي تصلني تستشيرني بالقدوم إلى أفغانستان:

فحي على جنات  عدن  فإنها       منازلك الأولى وفيها  المخيم

ولكننا سبى العدو فهل  ترى        نعود  إلى  أوطاننا   ونسلم

 

العبد الفقير

عبد الله عزام

(71) شعبان (7041ه-)-(51) نيسان (7891م)

 

الفصل الأول

مبررات الجهاد

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللهلله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا  عبده ورسوله، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا  وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا  وبعد:

فإن الناظر في واقع المسلمين اليوم يجد أن مصيبتهم الكبرى هي ترك الجهاد (حب الدنيا وكراهية الموت) ولذا تسلط الطغاة على رقاب المسلمين في كل ناحية وفوق كل أرض، وذلك لأن الكفار لا يهابون إلا القتال:

(فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا  وأشد تنكيلا)

(النساء: 84)

ونحن إذ ندعو المسلمين ونستحث خطاهم للقتال لأسباب كثيرة وعلى رأسها:

1- حتى لا يسود الكفر.

2- لقلة الرجال.

3- الخوف من النار.

4- أداء للفريضة واستجابة للنداء الرباني.

5- إتباعا  للسلف الصالح.

6- إقامة القاعدة الصلبة التي تكون منطلقا  للإسلام.

7- حماية المستضعفين في الأرض.

8- طمعا  في الشهادة.

 

1- حتى لا يسود الكفر:

ففي الآية الكريمة:

(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (الأنفال: 39)

فإذا توقف القتال ساد الكفر وانتشرت الفتنة وهي الشرك.

 

2- لقلة الرجال:

إن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة رجال يضطلعون بحمل المسؤولية والقيام بأعباء الأمانة، وكما جاء في الصحيح:  الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلته (1) [أي أن الكامل في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة لقلة الراحلة في الابل والراحلة هي البعير القوي على الاسفار والأحمال النحيب التام الخلق الحسن المنظر ويقع على الذكر والأنثى والهاء فيه للمبالغة].

أي لا تجد في كل (مائة جمل) واحدا  يحتملك في أسفارك، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لصفوة من صحبه تمنوا، فتمنى كل واحد منهم شيئا  ثم قالوا: تمن يا أمير المؤمنين، فقال: أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت مثل أبي عبيدة.

إن الرجال الذين يعلمون قليلون والذين يعملون أقل، وإن الذين يجاهدون أندر وأغرب، وإن الذين يصبرون على هذا الطريق لا يكادون يذكرون.

نظرت ذات مرة في حلقة قرآنية من الشباب العرب الذين وردوا إلى أرض العزة والمجد -أعني أرض أفغانستان-.

والعز في صهوات المجد مركبه        والمجد ينتجه الإسراء والسهر

أقول نظرت في وجوه الشباب، حتى أرى من بينهم من يتقن أحكام التلاوة لأوكل إليه الحلقة، فلم أجد أحدا ، وعندها حق لي أن أقول: ما أنصفنا قومنا، وهو نفس قول النبي ص عندما قتل سبعة بين يديه يوم أحد من شباب الأنصار.

ونحن نقول إن إخواننا المتعلمين والدعاة الناضجين لم يفدوا إلينا، بل إن بعضهم ينصح القادمين بالإستقرار في بلده، ولو كان لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة من ظلم الطغاة وجبروت المتسلطين!! وبعضهم يفتي بلا علم، يقول: إن الأفغان بحاجة إلى مال وليسوا بحاجة إلى الرجال!! وأما أنا ف-م-ن خلال معايشتي اليومية لهذا الجهاد وجدت أن الأفغان بحاجة شديدة إلى المال ولكن حاجتهم إلى الرجال أشد، وعوزهم إلى الدعاة أكثر.. أقرر هذا وأنا أعيش السنة الثامنة بين المجاهدين.

وإن كنت في ريب مما أقول فهيا بنا نعبر أفغانستان لتجد جبهة بكاملها ليس فيها من يتقن قراءة القرآن، وانتقل معي إلى جبهة أخرى لتتأكد أن ليس فيها من يعرف صلاة الجنازة، مما يضطرهم لحمل شهيدهم -لأن الشهيد يصلى عليه في المذهب الحنفي- مسافات بعيدة ليجدوا من يصلي عليه.

أما أحكام الجهاد الفقهية كتوزيع الغنائم ومعاملة الأسرى فحدث عن الجهل بها ولا حرج في جبهات كثيرة، مما يضطرهم إلى تحويلهم إلى منطقة فيها عالم أو علماء ليروا فيهم رأيهم حسب مقتضى الشرع الإسلامي، وإنك لتلمس الحاجة الشديدة للدعاة والأئمة وقراء القرآن والعلماء من خلال الآثار العميقة التي خلفها في الجبهات شباب من العرب ذوي ثقافة بسيطة، قد لا تتجاوز المرحلة الثانوية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الأخوة: عبد الله أنس، أبا دجانة، وأبا عاصم، وطاهر، وغيرهم كثير، ولو حدثتك عن أبي شعيب الأمي العربي وماذا ترك وراءه من آثار معنوية في ولاية بغلان بكاملها لوقفت واجما  مشدوها  لا تحير بكلمة ولا ينقضي منك العجب.

ونحن نأمل من الأخوة الذين لم يستطيعوا أن ينفلتوا من قفص العادات الإجتماعية، ولم ينفضوا عن رؤوسهم ركام التقاليد ولم يلقوا عن كاهلهم موروثات الأجيال المهزومة تحت ضغط الواقع المرير، وأمام الهجوم الإستشراقي الماكر الشرير، أقول لهؤلاء الأخوة: إن لم ينفروا إلينا بأنفسهم فلا أقل من أن يدعوا الذين يرفرفون بأرواحهم فوق أرض الجهاد أن يصلوا بأجسادهم إليها.

قلنا للقاضي (مظلوم) أحد أركان أحمد شاه مسعود -ألمع قائد في أفغانستان بلا منازع- حدثنا عن أبي عاصم قارئ القرآن الذي استشهد بينكم في (أندراب) فقال: لم أر مثله في هيبته وسمته ودله (الوقار والسكينة)، فكان أحدنا لا يجرؤ أن يتكلم في حضرته، ولا أن يمد رجله فضلا  عن أن يهزل أو يضحك، فماذا تقول يا أخي إذا أخبرناك أن أبا عاصم لا يحمل إلا الشهادة الثانوية وعمره دون الثالثة والعشرين ولكنه يحفظ القرآن؟!!

ولذا فقد آن أوان الرجال، وهذا مقام الفعال دون حال المقال.

فدع عنك نهبا  صحيحا  في حجراته        وهات حديثا  ما حديث الرواحل(1) [البيت لامرئ القيس ومعناه الحرفي: أترك الحديث عن الحجرات التي نهبت أمتعتها، وحثني عن قطيع الجمال القوية التي عليها مدار حياتنا.

هذا مثال يقال لمن يتحدث عن الأمور التافهة ويدع الأمور العظيمة].

لقد حل بالمسلمين أمور عظيمة وأرزاء فادحة أليمة، فدع الكلام عن الطعام وعن أساليب الكلام، ولكن حدثني عن هذا الأمر الجلل وماذا قدم له المسلمون.

أمور    لو   تأملهن    طفل       لظهرت في عوارضه المشيب

 

3- الخوف من النار:

يقول الله عزوجل:

(إلا تنفروا يعذبكم عذابا  أليما  ويستبدل قوما  غيركم ولا تضروه شيئا  والله على كل شيء قدير) (التوبة: 39)

قال ابن العربي: العذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة.(2) [تفسير القرطبي 8/142].

وقال القرطبي: وقد قيل أن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.

ويقول الله عزوجل:

(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا  غفورا) (النساء: 97-99)

روى البخاري بإسناده عن عكرمة: أخبرني ابن عباس أن أناسا  من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله ص يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم فيقتله فأنزل الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...) فإذا كان المؤمنون في مكة -القابضون على دينهم ولم يهاجروا وخرجوا حياء وخوفا  من الكفار يوم بدر فكثروا سواد المشركين (عددهم) ثم قتل بعضهم- قد استحقوا جهنم برواية البخاري، فما بالك بالملايين من المتمسلمين الذين يسامون سوء العذاب ويعيشون حياة السوائم، لا يملكون أن يردوا عادية عن أعراضهم أو دمائهم أو أموالهم، بل لا يستطيع أحدهم أن يتحكم في لحيته فيطلقها لأنها تهمة إسلامية ظاهرة، بل لا يستطيع أن ينفرد في لباس زوجته فيطيله حسب الشرع، لأنها جريمة يؤخذ عليا بالنواصي والأقدام، ولا يستطيع أن يعلم القرآن لثلاثة من الشباب المسلم في بيت الله، لأنه تجمع غير مشروع في عرف الجاهلية، بل لا يستطيع في بعض البلدان المسماة الإسلامية أن يغطي شعر زوجته، ولا يستطيع أن يمنع رجال المخابرات أن يأخذوا بيد ابنته بعد وهن من الليل، تحت جنح الظلام الدامس إلى حيث يشاءون!! وهل يستطيع أن يرفض أمرا  يصدر من الطاغوت يقدم فيه هذا الفرد قربانا  رخيصا  على مذبح شهوات هذا الطاغية؟!

أليست هذه الملايين تعيش ذليلة مهينة مستضعفة وتتوفاها الملائكة ظالمة لأنفسها؟ فماذا سيكون جوابها إذا سألتها الملائكة (فيم كنتم) ألا يقولون (كنا مستضعفين في الأرض).

إن الضعف ليس عذارا  عند رب العالمين، بل هو جريمة يستحق صاحبها جهنم، وقد أعذر الله الطاعنين في السن والأطفال الصغار والنساء الذين لا يجدون حيلة للتخلص، ولا يعرفون الطريق إلى أرض العزة ولا يستطيعون الهجرة إلى دار الإسلام ولا الوصول إلى قاعدة الجهاد.

سأصرف وجهي عن بلاد غدا بها      لساني  معقولا    وقلبي   مقفلا

وأن صريح الحزم والرأي  لامرئ        إذا  بلغته  الشمس  أن يتحولا

إن الجهاد والهجرة إلى الجهاد جزء أصيل لا يتجزء عن طبيعة هذا الدين، والدين الذي ليس فيه جهاد لا يستطيع أن يثبت فوق أي أرض ولا أن تستوي شجرته على سوقها، وأصالة الجهاد التي هي من صميم هذا الدين ولها وزنها في ميزان رب العالمين ليست ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة التي تنزل فيها القرآن، وإنما هو ضرورة مصاحبة لهذه القافلة التي يوجهها هذا الدين.

يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال (2-742) في تفسير هذه الآية: لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله ص وفي مثل هذا الأسلوب.

لو كان الجهاد ملابسة طاردة ما قال رسول الله ص تلك الكلمة لكل مسلم إلى قيام الساعة  من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق .(1) [رواه مسلم عن أبي هريرة].

إن الله سبحانه يعلم أن هذا أمرا  تكرهه الملوك! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه لأنه طريق غير طريقهم ومنهج غير منهجهم، ليس في ذلك الزمن فقط ولكن اليوم وغدا  وفي كل أرض وفي كل جيل!.

وأن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفا  ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق سليمة موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطر على الشر ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة! هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية، هذه فطرة! وليست حالة طارئة.

ومن ثم لا بد من الجهاد.. لا بد منه في كل صورة... ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود.. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح... ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة... وإلا كان الأمر انتحارا  أو كان هزلا  لا يليق بالمؤمنين.

أنا لا ألوم المستبد إذا تجبر أو  تعدا       فسبيله أن يستبد وشأننا أن نستعدا

 

4- الإستجابة للنداء الرباني:

قال تعالى:  (انفروا خفافا  وثقالا  وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (التوبة: 41)

وقد أورد القرطبي في تفسيره (8-150) في تفسيرها عشرة أقوال خفافا  وثقالا :

1- روي عن ابن عباس شبانا  وكهولا .

2- روي عن ابن عباس وقتادة نشاطا  وغير نشاطا .

3- الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، قاله مجاهد.

4- الخفيف: الشاب، والثقيل: الشيخ، قاله الحسن.

5- مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتيبة.

6- الثقيل الذي له عيال، والخفيف الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم.

7- الثقيل الذي له صنعة يكره أن يدعها، والخفيف الذي لا صنعة له، قاله ابن زيد.

8- الخفاف: الرجال، الثقال: الفرسان، قاله الأوزاعي.

9- الخفاف الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدمة الجيش بأسره.

10- الخفيف: الشجاع، الثقيل: الجبان، حكاها النقاش.

والصحيح في فهمنا الآية أن الناس أمروا جملة، أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت... روي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله ص وقال له: أعلي  أن أغزو؟ فقال: نعم، حتى أنزل الله تعالى (ليس على الأعمى حرج).

وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال، في الثقل والخفة ولا يشك عاقل أن حالتنا التي نعيشها في أفغانستان وفي فلسطين، بل في معظم أرجاء العالم الإسلامي داخلة تحت نص هذه الآية، فقد اتفق المفسرون والمحدثون والفقهاء والأصوليون على أنه إذا دخل العدو أرضا  إسلامية أو كانت في يوم من الأيام دارا  للإسلام، فإنه يجب على أهل تلك البلدة أن يخرجوا لملاقاة العدو، فإن قعدوا أو قصروا أو تكاسلوا أو لم يكفوا توسع فرض العين على من يليهم، فإن قصروا أو قعدوا فعلى من يليهم، وثم  وثم حتى يعم فرض العين الأرض كلها، ولا يسع (يمكن) أحدا  تركه كالصلاة والصيام بحيث يخرج الولد دون إذن والده والمدين دون إذن دائنه والمرأة دون إذن زوجها والعبد دون إذن سيده، ويبقى فرض العين مستمرا  حتى تطهر البلاد من رجس الكفار (ولكن خروج المرأة لا بد له من محرم).

ولم أجد (وبقدر اطلاعي القليل) كتابا  في الفقه أو في التفسير أو في الحديث إلا ونص على هذه الحالة، ولم يقل أحد من السلف أن هذه الحالة فرض كفاية أو أنه يجب استئذان الوالدين، ولا يسقط الإثم عن رقاب المسلمين ما دامت أية بقعة في الأرض (كانت إسلامية) في يد الكفار ولا ينجو من الإثم إلا الذي يجاهد.

فكل من ترك الجهاد اليوم فهو تارك لفريضة كالمفطر في رمضان بدون عذر أو كالغني الذي يمنع زكاة ماله، بل تارك الجهاد أشد.

وكما يقول ابن تيمية: والعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا ليس أوجب بعد الإيمان من دفعه.

والحق المبين الذي لا محيد عنه قول أبي طلحة عندما قرأ (إنفروا خفافا  وثقالا ) قال: شبابا  وكهولا  ما سمع الله عذر أحد، ثم قال: أي بني جهزوني جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله لقد غزوت مع النبي ص حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: لا... جهزوني، فغزا، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها ولم يتغير رضي الله عنه.

يقول القرطبي (7-151) في تفسيره: (إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر (أصل الدار) فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا  وثقالا ، شبابا  وشيوخا ، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له.

ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم.

وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكن غياثهم لزمه أيضا  الخروج إليهم.

فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتلها سقط الفرض عن الآخرين.

ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا  الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ولا خلاف في هذا).

وما أجمل أبيات النابغة الجعدي وهو يخاطب زوجته التي ترجوه أن يجلس عند عائلته:

باتت    تذكرني      بالله   قاعدة        والدمع  يهطل من   شأنيهما(1) [شأنيهما:طريقا الدمع، سبلا: غزيرا]. سبلا

يا بنت عمي كتاب   الله    أخرجني        كرها  وهل   أمنعن   الله ما    فعلا

فإن  رجعت فرب   الخلق    أرجعني        وإن   لحقت   بربي   فابتغي    بدلا(2) [فابتغي بدلا: تزوجي غيري].

ما كنت أعرج أو أعمى    فيعذرني         أو ضارعا  من ضنى لم يستطع حولا(3)[ضارعا من ضنى: ضغيفا من مرض].

 

5- اتباع للسلف الصالح:

فقد كان الجهاد دينا  للسلف الصالح، وكان ص سيدا  للمجاهدين وقائدا  للغر الميامين، فكانوا إذا اشتد الوطيس يحتمون برسول الله ص فيكون أقربهم إلى العدو، وعدد مغازيه ص التي خرج بنفسه فيها سبع وعشرون، وقاتل في تسع منها بنفسه:  بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف  وهذا على قول من قال: مكة فتحت عنوة، وكانت سراياه التي بعثها سبعا  وأربعين، وقيل أنه قاتل بني النضير.(4) [نهاية المحتاج 8/16].

وهذا يعني أن رسول الله ص كان يخرج في غزوة أو يرسل سرية في كل شهرين أو أقل.

وسار الصحب الكرام على سنة النبي الكريم ص، فلقد كان القرآن الكريم يربي هذا الجيل تربية جهادية ويحميهم من أن ينغمسوا في الدنيا كما يحمي أحدنا لديغه من الماء، فلقد روى الحاكم في المستدرك (2-275) وصححه ووافقه الذهبي، عن أسلم أبو عمران قال: حمل رجل من المهاجرين -بالقسطنطينية- على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله ص وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا ، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ص حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد أثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلنا وأولادنا فنقيم فيها، فنزل فينا:

(وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (البقرة: 195)

فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.

وقد روى عكرمة أن ضمرة بن العيص وكان من المستضعفين في مكة وكان مريضا ، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني فهيء له فراش ثم وضع عليه وخرج فمات في الطريق بالتنعيم -على بعد (6 كم) من مكة(5) [القرطبي/249].

وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود في حمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقيل: عذرك الله، فقال: أتت علينا سورة البحوث (إنفروا خفافا  وثقالا ).

وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: إستنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.

وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا  قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد أعذرك، فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفير خفافا  وثقالا .(1) [القرطبي 18/151].

وهذا إبراهيم بن أدهم عندما أحس بالموت قال أوتروا لي قوسي، وتوفي وهو في كفه، ودفن في إحدى جزائر البحر في بلاد الروم.(2) [تاريخ دمشق لابن عساكر 2/1790].

وهذا عبد الله بن المبارك كان يقطع مسافة ألفين وستمائة كيلو مترا  راجلا  أو راكبا  على دابته ليقاتل في سبيل الله في ثغور المسلمين.(3) [عبد الله بن المبارك/د. المحتسب].

وقال زهير بن قمير المروزي: أشتهي لحما  من أربعين سنة ولا آكلها حتى أدخل الروم فآكله من مغانم الروم.(4)[ ترتيب المدارك للقاضي عياض3/249].

وهذا قاضي الكوفة عروة بن الجعد كان في بيته سبعون فرسا  مربوطة للجهاد.(5) [تهذيب الأسماء واللغات 1/231].

وهذا محمد بن واسع كان من العباد المحدثين الغزاة المرابطين يقول عنه القائد قتيبة بن مسلم الباهلي: لإصبع محمد بن واسع تشير إلى السماء في المعركة أحب إلي  من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير -قوي(6) المشوق في الجهاد 66].

وهذا أحمد بن إسحاق السلمي يقول: أعلم يقينا  أني قتلت بسيفي هذا ألف تركي، ولولا أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي.(7) [تهذيب التهذيب لابن حجر 1/14].

وهذا أبو عبد الله بن قادوس لكثرة قتله من نصارى الأندلس كان النصراني إذا سقى فرسه فلم يقبل على الماء قال له: مالك أرأيت بن مالك أرأيت بن قادوس في الماء(8) [المشوق في الجهاد].

وهذا بدر بن عمار يقتل الأسد بسوطه فيمدحه المتنبي:

أمعف ر الليث الهزبر بسوطه  لمن ادخرت الصارم المصقولا(9) [معفر: ممرغ بالتراب . الهزيز: الأسد، الصارم: السيف].

وهذا عمر المختار يقول عنه غراسياني (القائد الإيطالي): لقد خاض عمر المختار مع جنودنا (263) معركة خلال عشرين شهرا ، أما مجموع معاركه فقد بلغت ألف معركة!!.

وهذا الشيخ محمد فرغلي كان الإنجليز في الإسماعيلية يعلنون حالة الطوارئ في معسكراتهم إذا دخل الفرغلي المدينة، وقد دفع الإنجليز خمسة آلاف جنيه لمن يأتي برأسه حيا  أو ميتا .

وهذا يوسف طلعت كان يسمى (جزار الإنجليز) لكثرة ما قتل منهم في قناة السويس، فأعدمهما عبد الناصر إرضاء لسادته الأمريكان!!.

حدثني محمد بانا -أحد أركان أحمد شاه مسعود:- أنه قد أحرق هو ومجموعته في ممر سالنج أربعمائة ناقلة، ويطلق عليه الروس (الجنرال) وقد غنم مائتي كلاكوف ومائتي كلاشنكوف.

وقد حدثني محمد بانا أنه أحرق ذات مرة مائة وخمسين آلية دفعة واحدة.

 

6- إقامة القاعدة الصلبة لدار الإسلام:

إن إقامة المجتمع المسلم فوق بقعة أرض ضرورية للمسلمين، ضرورة الماء والهواء، وهذه الدار لن تكون إلا بحركة إسلامية منظمة تلتزم الجهاد واقعا  وشعارا  وتتخذ القتال لحمة ودثارا .

وإن الحركة الإسلامية لن تستطيع إقامة المجتمع المسلم إلا من خلال جهاد شعبي عام، تكون الحركة الإسلامية قلبه النابض وعقله المفكر، وتكون بمثابة الصاعق الصغير الذي يفجر العبوة الناسفة الكبيرة، فالحركة الإسلامية تفجر طاقات الأمة الكامنة وينابيع الخير المخزونة في أعماقها.

فالصحابة رضوان الله عليهم كان عددهم قليلا  جدا  بالنسبة لمجموع عامة المسلمين الذين قوضوا عرش كسرى وثلوا مجد قيصر.

بل إن القبائل المرتدة عن الإسلام في أيام الصديق قد سيرهم عمر بن الخطاب -بعد أن أعلنوا توبتهم- إلى قتال الفرس، ولقد أصبح طلحة بن خويلد الأسدي -الذي ادعى النبوة من قبل- أحد أبطال القادسية البارزين، واختاره سعد بمهمة استكشاف أخبار الفرس فأبدى شجاعة فائقة.

أما الحفنة من الضباط التي يمكن أن يتوهم البعض أن بإمكانهم عمل مجتمع مسلم، فهذا ضرب من الخيال أو وهم يشبه المحال لا يعدوا أن يكون تكرارا  لمأساة عبد الناصر مع الحركة الإسلامية مرة أخرى.

والحركة الشعبية الجهادية مع طول الطريق ومرارة المعاناة وضخامة التضحيات وفداحة الأرزاء، تصفى النفوس فتعلوا على واقع الأرض الهابط، وترتفع الإهتمامات عن الخصومات الصغيرة على دراهم، وعن الأغراض القريبة، وسفاسف المتاع وتزول الأحقاد وتصقل الأرواح، وتسير القافلة صعدا  من السفح الهابط إلى القمة السامقة بعيدا  عن نتن الطين وصراع الغابات.

وعلى طول طريق الجهاد تفرز القيادات، وتظهر الكفاءات من خلال العطاء والتضحية، ويبرز الرجال شجاعتهم وبذلهم.

ولا   تحسبن   المجد   زقا    وقينة          فما المجد إلا الحرب والفتكة البكر

ومع ارتفاع الإهتمامات ترتفع النفوس عن الصغائر، وتصبح الأمور العظيمة غاية القلوب وأمل الشعوب.

إذا غامرت في شرف  مروم         فلا  تقنع  بما  دون  النجوم

فطعم الموت في  أمر  حقير         كطعم الموت في أمر  عظيم

يرى الجبناء أن الجبن   عقل          وتلك خديعة الطبع   اللئيم

وطبيعة المجتمعات كالماء تماما ، ففي الماء الراكد تطفو على السطح الطحالب والأعفان، أما الماء المتحرك فلا يحمل العفن فوقه، والقيادات في المجتمعات الراكدة لا يمكن أن تكون على قدر المسؤولية، لأنها لا تبرز من خلال الحركة والتضحية والبذل والعطاء، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما برزوا إلا من خلال الأعمال الجليلة والتضحيات الباهظة، ولذا لم يكن أبو بكر بحاجة إلى دعاية إنتخابية عندما أجمعت الأمة على انتخابه، فما أن فاضت روح رسول الله ص إلى الرفيق الأعلى في الجنة تطلعت العيون إلى الساحة فلم تجد أفضل من أبي بكر رضي الله عنه.

والأمة التي تجاهد تبذل الثمن غاليا  فتجني الثمرة الناضجة، ليس من السهل أن تفرط فيما جنته بالعرق والدم، وأما الذين يتربعون على صدور الناس من خلال البيان الأول في انقلاب عسكري صنع وراء الكواليس في سفارة من السفارات، يسهل عليهم التفريط بكل شيء.

ومن أخذ البلاد بغير حرب          يهون عليه تسليم البلاد

والأمة الجهادية التي يقودها أفذاذ برزوا من خلال الحركة الجهادية الطويلة، ليس من السهل أن تفرط بقيادتها أو تخطط للإطاحة بها، وليس من اليسير على أعدائها أن يشككوها بمسيرة أبطالها، والحركة الجهادية الطويلة تشعر الأمة بأفرادها جميعا  أنهم قد دفعوا في الثمن وشاركوا في التضحية من أجل قيام المجتمع الإسلامي، فيكونون حراسا  أمناء لهذا المجتمع الوليد، الذي عانت الأمة جميعها من آلام مخاضه.

لا بد للمجتمع الإسلامي من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام.

 

7- حماية المستضعفين في الأرض:

إن من بواعث الجهاد الإسلامي حماية المستضعفين في الأرض ورفع المظالم عنهم..

(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وجعل لنا من لدنك وليا  واجعل لنا من لدنك نصيرا). (النساء: 75)

ومعنى الآية وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين.

كيف القرار وكيف يهدأ مسلم         والمسلمات مع العدو المعتدي

وقد اتفق الفقهاء على أن الجهاد يصبح فرض عين بالنفس والمال إذا سبيت امرأة مسلمة، وفي (البزازية) امرأة سبيت في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها.

فليتهم   إذا   لم    يذودوا   حمية     عن الدين ضنوا  غيرة   بالمحارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى   فهل اأتوه  رغبة   في    المغانم

كنت ذات مرة مع حكمتيار في لوجر (ولاية أفغانية) وضرب مركز الولاية ضربة موجعة، فضج أطفال الولاية ولهجت ألسنة نسائها بالدعاء لحكمتيار.

أتسبى المسلمات بكل ثغر        وعيش المسلمين إذا يطيب

أما   لله   والإسلام   حق         يدافع  عنه  شبان  وشيب

لقد جاء الإسلام لإقرار العدل في الأرض

(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25)

 

8- طمعا  بالشهادة والمنازل العلى في الجنة:

جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا :  للشهيد عند الله  سبع خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانا  من أهل بيته .(1) [صحيح الجامع 5058].

وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال ص:  إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس .(2) [فتح الباري 6/9].

9- إن الجهاد حفظ لعزة الأمة ورفع الذل عنها:

ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعا :  إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر سلط الله عليهم ذلا  لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .(3) [صحيح الجامع 688].

01- إن الجهاد حفظ لهيبة الأمة ورد لكيد أعدائها:

(فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذي كفروا والله أشد بأسا  وأشد تنكيلا)

(النساء: 84)

وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داوود عن ثوبان:  يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل يا رسول الله فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت .(4) [صحيح الجامع 8035].

11- في الجهاد صلاح الأرض وحمايتها من الفساد:

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة: 251)

21- في الجهاد حماية للشعائر الإسلامية:

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج: 40)

 

31- وفي الجهاد حماية الأمة من العذاب ومن المسخ والإستبدال:

(إلا تنفروا يعذبكم عذابا  أليما  ويستبدل قوما  غيركم) (التوبة: 92)

 

41- وفي الجهاد غنى الأمة وزيادة ثرواتها:

(وجعل رزقي تحت ظل رمحي).(1) [حديث صحيح رواه أحمد عن ابن عمر صحيح الجامع 2828].

51- والجهاد ذروة سنام الإسلام:

(وذروة سنامه الجهاد) حديث صحيح عن معاذ وهو رهبانية هذه الأمة (وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام).(2) [حديث حسن رواه أحمد في المسند 3/82 عن أبي سعيد الخدري].

61- الجهاد من أفضل العبادات وبه ينال المسلم أرفع الدرجات:

قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر أمر العدو، فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه.

وقال عنه غيره: ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدافعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون وقد بذلوا م ه ج  أنفسهم.

ورد في البخاري (6-9) الحديث:  إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض .

 

الفصل الثاني

وا إسلاماه

أيها المسلمون; السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

فلا يخفى عليكم التضحيات الباهظة التي فرضت على الشعب الأفغاني المسلم، فقد مضى حتى الآن تسع سنوات ونيف على انقلاب نور تراقي الشيوعي في نيسان سنة (1978م)، ومنذ ذلك الحين والمسلمون في أفغانستان يتحملون أقصى ما يمكن أن يتحمله بشر لحماية دينهم وأعراضهم وأطفالهم، ولم يبق بيت في أفغانستان إلا وتحول إلى مأتم وميتم.

وقد أعذر هؤلاء إلى  الله، وأشهدوا الله من خلال الجماجم والأشلاء والأرواح والدماء أنه لم يبق في القوس منزع، وكادت سهام الكنانة تنفد، وخلال هذه الفترة الطويلة كان الأفغان يأملون من إخوانهم المسلمين أن ت ف د  جموعهم، وأن تتحرك إخوة الإسلام في أعماقهم، ولكن لم ي لب   المسلمون نداءهم حتى الآن، وكأن في آذانهم صمت دون أنات الثكالى، وصيحات العذارى وآهات الأيتام، وزفرات الشيوخ، واكتفى كثير من الطيبين بإرسال بعض فضلات موائدهم وفتات طعامهم!!.

ولكن الأمر أكبر من هذا، والخطر جلل، والإسلام والمسلمون في أفغانستان في كرب شديد وخطر مهدد أكيد.

قام هذا الجهاد المبارك على يد حفنة من الشباب تربوا على الإسلام، وعلى يد جماعة من العلماء نذروا أنفسهم لله.

ولكن هذا الجيل الأول معظمه سقط على طريق الشهادة، وتقدم الجيل الثاني الذي لم يحظ بقسط من التربية والتوجيه، ولم يلق يدا  حانية توليه اهتماما  بالتربية والتعليم.

ومثل هؤلاء بحاجة ماسة إلى من يعيش بينهم ليربطهم باللهلله، ثم بالأحكام الشرعية.

ونحن على قدر اطلاعنا القليل وعلمنا اليسير، نعتقد أن الجهاد في مثل هذه الحالة الراهنة في أفغانستان فرض عين بالنفس والمال، كما قرره فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء، ومعهم جمهرة المفسرين والمحدثين الأصوليين.

يقول ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (4-608): إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب... إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا.

ويقول في مجموع الفتاوى (82-358): فإذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا  على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين كما قال تعالى:

(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)  (الأنفال: 72)

كما أمر النبي ص بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال، أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد.

ونصوص فقهاء المذاهب الأربعة صريحة قاطعة بهذا لا تحتمل تأويلا  دون لبس ولا غموض.

يقول ابن عابدين الحنفي في حاشيته (3-238): وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرض عين على من قرب منه، فأما من وراءه ببعد عن العدو فهو فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان قرب العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم -فرض عين- كالصلاة والصوم، ولا يسعهم تركه، وث م وث م إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقا  وغربا  على هذا التدريج.

وبمثل هذا النص الواضح الجلي أفتى الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع (7-72)، وابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (5-72)، وابن الهمام في فتح القدير (5-191).

وراجع إن شئت حاشية الدسوقي المالكي (2-174) ونهاية المحتاج للرملي الشافعي (8-58) والمغني لابن قدامة الحنبلي (8-345).

ولعل بعض الناس يجدون مبررا  لأنفسهم بأن كثيرا  من الأفغان ليسوا على المستوى الإسلامي المقبول من التربية، ويعذرون أنفسهم بالقعود بسبب بعض المخالفات.

ولكن الرد على هذا بأن الفقهاء نصوا على أنه يجب الجهاد ولو مع عسكر كثيري الفجور.

وهذا من أصول أهل السنة والجماعة (الغزو مع كل بر وفاجر)،  فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم ، وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما  وحديثا ، وهي واجبة على كل مكلف.

وعدم الغزو مع الأمراء (ولو كانوا فجارا ) أو مع عسكر كثيري الفجور هو مسلك الحرورية -من فئات الخوارج- وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم (مجموع الفتاوى لابن تيمية 28-506).

وبعض الناس يعذرون أنفسهم بأن مكانهم في بلدهم ضروري للتربية والتعليم، ونحن نورد لهم قول الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل، فقال استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.

فأي الناس منزلته وعمله يداني سيد التابعين ووارث علم النبوة عن طريق صهره والد زوجته -أبي هريرة- رضي الله عنه.

لقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، واشتد الأمر على المسلمين فمتى النفير؟! وإلى متى القرار؟!.

فإن كان الفقهاء يفتون كما جاء في البزازية: امرأة سبيت في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها.

فماذا يفتي علماؤنا بالآلاف من العواتق تنتهك أعراضهن في خدورهن؟

وماذا يجيبون في النساء اللواتي يلقين بأنفسهن في نهر (كونر في لغمان) فرارا  بأعراضهن من الإنتهاك على يد الجنود الحمر، لأن المرأة لا يجوز لها باتفاق العلماء أن تستسلم للأسر إذا خشيت على عرضها.

أوما تخشى أن تدور الدائرة عليك ويصل الأمر إلى عرضك؟  ما من امرئ يخذل امرءا  مسلما  في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلما  في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته (1)[حديث حسن رواه أبو داود عن جابر/صحيح الجامع 5566].  فاتقوا الله في أعراضكم.

وقال حبان بن موسى: خرجنا مع ابن المبارك مرابطين إلى الشام، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا كل يوم التفت إلي  وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وليال وأيام قطعناها في علم (الخلية والبرية) -كنايات الطلاق- وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة!!

هذا ابن المبارك الذي كان يرابط شهرين أو أكثر في السنة، يدع تجارته ومجالس الحديث ويخرج للرباط، لأنه لم يرابط طيلة عمره وانشغل بالعلم عن الرباط، فماذا يقول الذين لم يطلقوا طلقة واحدة في سبيل الله؟!

إذا كان مرض الموت -الذي ألم  برسول الله ص- لم يشغله عن تذكير الصحابة بإنفاذ بعث أسامة رضي الله عنه.

وعندما حاول أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة حاول الصحابة أن يثنوه عن عزمه، فقال كلمته المشهورة: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ص ما رددت جيشا  وجهه رسول الله ص، ولا حللت لواء عقده رسول الله(2) [حياة الصحابة 1/440].

ويشاء الله أن تكون آخر وصايا صاحب رسول الله ص في حث الناس على الجهاد إذ يستدعي أبو بكر عمر في آخر ساعات حياته قائلا : إسمع يا عمر! أقول لك ثم إعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا -وذلك يوم الإثنين- فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، لا يشغلنكم مصيبة -وإن عظمت- عن أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفي رسول الله ص وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله، وباللهلله لو أني تأخرت عن أمر رسوله لخذلنا الله ولعاقبنا، فأضرمت المدينة نارا .(3) [حياة الصحابة 1/141].

فلقد أدرك أبو بكر -خير الناس بعد النبي ص- أن التأخر في تنفيذ أمر الله وأمر رسوله ص بالنفير إلى الجهاد عاقبته الخذلان ومآله الخسران.

هذا كتاب الله يحكم بيننا، وهذه سنة رسوله ص ناطقة شاهدة علينا، وهذا هدي أصحابه في فهمهم لأهمية الجهاد في هذا الدين، فهل لنا من تعقيب على هذه النصوص المتواترة المتوافرة الناصعة الجلية القاطعة؟ لقد وصل اللص إلى داخل خدور المؤمنات، فهل ندعه؟!! ينتهك الأعراض ويمسخ القيم ويجتث المبادئ؟!

رب وامعتصماه   انطلقت      ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم  لكنها       لم تلامس نخوة المعتصم

لقد أخذ الروس مائتين وخمسة آلاف من أطفال المسلمين الأفغان لتربيتهم على العقيدة الشيوعية ولغرس الإلحاد في أعماقهم، وقرر الأمريكان فتح ستمائة مدرسة، وتعهد مائة وخمسة آلاف من أطفال الأفغان في الداخل والخارج بالتربية والتعليم.

فأين دعاة الإسلام؟ وأين المربون المسلمون؟ وماذا أعدو لإنقاذ الجيل المسلم ومن أجل رعاية هذا الجيل المبارك العظيم.

لقد نص الفقهاء على أن بلاد المسلمين كالبلد الواحد، فأي بقعة من بقاع المسلمين تعرضت لخطر وجب أن يتداعى جسد الأمة الإسلامية كلها لحماية هذا الشلو الذي تعرض لغزو الجراثيم.

ماذا على العلماء لو حرضوا الشباب على الجهاد؟ سيما والتحريض فرض.

(وحرض المؤمنين) (النساء: 84)

ماذا على الدعاة لو خصصوا سنة من حياتهم للعيش بين المجاهدين يوجهون ويرشدون؟

ماذا على طلاب الجامعة لو أج لوا سنة من دراستهم لينالوا شرف الجهاد وليسهموا بأنفسهم في إقامة دين الله في الأرض؟

(رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون) (التوبة: 87-88)

ماذا على الأئمة لو أخلصوا النصح لمن يستنصحهم بالخروج في سبيل الله بالدم والروح؟

إلى متى ي ث ب  ط  الشباب المؤمن وي ع و  ق  عن الجهاد؟ الفتية الذين تضطرم أفئدتهم نارا  وتتفجر حماسا  وتلتهب غيرة لتسقي تربة المسلمين بدمهم الطاهر.

إن الذي ينهى شابا  عن الجهاد لا يفرق عن الذي ينهاه عن الصلاة والصوم.

أما يخشى الذي ينهى عن الجهاد أن يدخل -ولو بطريقة غير مباشرة- تحت المعنى العام للآية الكريمة في قوله تعالى:

(قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) (الأحزاب: 18-19)

ماذا على الأمهات لو قدمت الواحدة منهن أحد أبنائها في سبيل الله يكون عزا  لها في الدنيا وذخرا  لها في الآخرة بالشفاعة؟

ماذا على الآباء لو دفعوا بأحد أبنائهم ليشب في مصانع الأبطال وميادين الرجال وساحات النزال؟ وليهب أحدهم أن الله خلقه عقيما ، فمن شكر النعمة أن يؤدي زكاة أولاده شكرا  لربه.

أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها، فلم البخل على رب العالمين؟ البخل على المالك بما يملك، مع العقيدة الراسخة بأنه (لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها).

ماذا على المسلمين لو سطروا في صحائف أعمالهم وديوان حسناتهم أياما  من الرباط، وساعات من القتال؟

وقد ثبت في الحديث الصحيح:  رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ، وفي الحديث الحسن:  رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل يقام ليلها ويصام نهارها ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي في صحيح الجامع (4503):  قيام ساعة في الصف للقتال في سبيل الله خير من قيام ستين سنة .

فيا أخوة الإسلام أقبلوا لحماية دينكم ونصرة ربكم وإعلاء سنة نبيكم.

أيها الأخ الحبيب: إمتشق حسامك وأعل صهوة جوادك وامسح العار عن أمتك، إن لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن؟

أيها الأخ الكريم:

طال  المنام  على  الهوان     فأين   زمجرة    الأسود

واستنسرت فئة  البغاث      ونحن  في  ذل   العبيد

ذل العبيد  من   الخنوع      وليس  من  زرد  الحديد

فيا خيل الله اركبي!!!

أيها الأخ العزيز: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)  (يوسف: 111)

فقصة بخارى الدامية، ورواية فلسطين الجريح، وعدن المحترقة، والأوجادين الأسيرة، وأحاديث الأندلس الأسيفة، وأرتيريا الأليمة، وبلغاريا المكلومة، والسودان مع جرنك المحزنة، ولبنان الممزقة أشلاؤها، والصومال وبورما وتشاد وقفقاسيا بجراحاتها العميقة، وأوغندا وزنجبار وأندونيسيا ونيجيريا...... ذات الملاحم والمآسي خير عبرة لنا، فهل نعتبر فيما مضى قبل فوات الأوان؟ أم تجري علينا السنن ونحن نتجرع الهوان ونندثر كما اندثروا ونضيع كما ضاعوا؟ ونحن نأمل من الله أن يندحر الروس في أفغانستان، ويرتدوا على أعقابهم خائبين، وإن كانت الأخرى، فليت شعري أي داهية تحل بالمسلمين؟

فقد روى أبو داوود بإسناد قوي عن أبي أمامة مرفوعا :  من لم يغزوا أو يجهز غازيا  ولم يخلف غازيا  في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة

(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)   (ق: 54)

ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

خاتمة

 

1- إذا دخل العدو أرض المسلمين يصبح الجهاد فرض عين عند جميع الفقهاء والمفسرين والمحدثين.

2- إذا أصبح الجهاد فرض عين فلا فرق بينه وبين الصلاة والصوم عند الأئمة الثلاثة، أما الحنبلية فيقدمون الصلاة.

جاء في بلغة السالك لأقرب المسالك في مذهب الإمام مالك: الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى كل سنة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين -ويتعين أي يصير فرض عين كالصلاة والصوم- بتعيين الإمام وبهجوم العدو على محلة قوم.

وجاء في مجمع الأنهر في المذهب الحنفي: فإذا لم تقع الكفاية إلا بجميع الناس فحينئذ صار فرض عين كالصلاة.

وجاء في حاشية ابن عابدين الحنفي (2-238): وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرض عين كالصلاة والصوم ولا يسعهم تركه.

3- إذا أصبح الجهاد فرض عين فلا إذن للوالدين كما لا يستأذن الوالدان في أداء فريضة الصبح أو صيام رمضان.

4- لا فرق بين تارك الجهاد بدون عذر إذا تعين (صار فرض عين) وبين مفطر رمضان بدون عذر.

5- لا يغني دفع المال عن الجهاد بالنفس مهما كان المبلغ الذي دفع، ولا تسقط فريضة الجهاد اللازمة في عنقه، فكما أنه لا يجوز أن يدفع مبلغ من المال لفقير حتى يصوم عنه أو يصلي فكذلك الجهاد بالنفس.

6- الجهاد فريضة العمر كالصلاة والصوم، فكما أنه لا يجوز أن يصوم عاما  ويفطر عاما  أو يصلي يوما  ويترك آخر، فكذلك الجهاد لا يجوز أن يجاهد سنة ويترك سنوات قدر طاقته.

7- إن الجهاد الآن فرض عين بالنفس والمال في كل مكان استولى عليه الكفار، ويبقى فرض العين مستمرا  حتى تتحرر كل بقعة في الأرض كانت في يوم من الأيام إسلامية.

8- إن كلمة الجهاد إذا أطلقت إنما تعني القتال بالسلاح كما قال ابن رشد وعليه اتفق الأئمة الأربعة.

9-إن المتبادر من كلمة (في سبيل الله) هو الجهاد كما قال ابن حجو في الفتح (6-22).

10- إن قولهم رجعنا من الجهاد الأصغر -القتال- إلى الجهاد الأكبر -جهاد النفس- الذي يرددونه على أساس أنه حديث، هو حديث باطل موضوع لا أصل له، وإنما هو من قول إبراهيم بن أبي عبلة أحد التابعين، وهو مخالف للنصوص والواقع.

11- إن الجهاد ذروة سنام الإسلام وتسبقه مراحل، فقبله الهجرة ثم الإعداد (التدريب) ثم الرباط ثم القتال، والهجرة ملازمة للجهاد، ففي الحديث الصحيح رواه أحمد عن جنادة مرفوع:  أن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد .(1) [صحيح الجامع/1987].

وأما الرباط وهو السكن على حدود العدو لحماية المسلمين فهو ضرورة من ضرورات القتال، لأن المعارك ليست كل يوم، فقد يرابط الإنسان فترة طويلة ويدخل معركة أو معركتين في هذه الفترة.

12- إن الجهاد اليوم فرض عين بالنفس والمال على كل مسلم، وتبقى الأمة الإسلامية آثمة حتى تتحرر آخر بقعة إسلامية من يد الكفر، ولا ينجو من الإثم إلا المجاهدون.

13- إن الجهاد في زمان رسول الله ص كان أنواعا ، فقد كانت غزوة بدر مندوبة -مستحبة- وكانت غزوة الخندق وتبوك فرض عين على كل مسلم، إستنفر الأمة، وأما الخندق فلأن الكفار غزو المدينة أرض الإسلام، وأما غزوة خيبر (7هـ) فكانت فرض كفاية ولم يأذن رسول الله ص بحضورها إلا لمن شهد الحديبية (6هـ).

14- أما الجهاد في أيام الصحابة والتابعين فمعظم أحواله فرض كفاية، لأنه كان فتوحات جديدة.

15- أما الجهاد بالنفس اليوم فكله فرض عين.

16- لم يعذر الله عزوجل أحدا  بترك الجهاد إلا المريض والأعرج والأعمى، والطفل الذي لم يبلغ الحنث، والمرأة التي لا تعرف طريق الجهاد والهجرة، والطاعن في السن، وحتى المريض مرضا  غير شديد والأعرج، أو الأعمى إذا استطاعوا أن يصلوا معسكرات التدريب لينضموا للمجاهدين ويعلموهم القرآن ويحدثوهم ويشجعوهم فالأولى أن يأتوا كما فعل عبد الله بن أم مكتوم في أحد وفي القادسية.

وغير هؤلاء ليس لهم عذر عند الله، سواء كان موظفا  أو صاحب صنعة أو من أرباب الأعمال أو تاجرا  كبيرا ، فهؤلاء ليسوا معذورين بترك الجهاد بأنفسهم وأن يدفعوا أموالهم.

17- إن الجهاد عبادة جماعية وكل جماعة لا بد لها من أمير وطاعة الأمير في الجهاد من الضرورات، فلا بد من تعويد النفس على التزام طاعة الأمير (عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك).(1) [رواه مسلم عن أبي هريرة].

 

ملاحظات للقادمين للجهاد

1- إن جهاد الشعوب عامة غير جهاد الدعوات الإسلامية... فأبناء الدعوات دائما  أقلية، وهم في العادة صفوة الأمة، ولكنهم بمفردهم لا يستطيعون مواصلة جهاد طويل ولا يقدرون على مواجهة دول، فلا بد أن تشاركهم الأمة، والشعوب تجد فيها كثيرا  من العيوب، فلا يظنن أحد أن شعبا  كله من الأخيار يتسم بطهر الملائكة الأبرار.

2- إن الشعب الأفغاني كبقية الشعوب فيه جهل وفيه عيوب، فلا يظنن أحد أنه سيجد شعبا  كاملا  ليس فيه نقائض، ولكن الفرق بين الشعب الأفغاني وبين بقية الشعوب أنه رفض أن يعطي الدنية في دينه، واشترى عزته ببحر من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء، أما بقية الشعوب فقد خضعت من أول يوم للإستعمار والكفر.

3- إن الشعب الأفغاني أمي تربى على المذهب الحنفي ولم يعايش المذهب الحنفي في أفغانستان مذهب آخر، ولذا فكثير منهم يظن أن كل من يخالف المذهب الحنفي ليس من الإسلام، وعدم وجود مذاهب أخرى في أفغانستان أظهر التعصب للمذهب الحنفي في قلوب الأفغان، فعلى كل من أراد الجهاد مع الشعب الأفغاني أن يحترم المذهب الحنفي.

4- إن الشعب الأفغاني شعب وفي عنده مروءة ورجولة وإباء ولا يعرف المراوغة ولا المداهنة، فإذا أحب شخصا  بذل لأجله دمه ونفسه، وإذا بغض لا يقوم لبغضه شيء.

وترك بعض هيئات الصلاة في بداية الإختلاط بهم، تعطيك فرصة غالية حتى تصل إلى قلوبهم فتوجههم وتربيهم، وتصلح في أمر دينهم ودنياهم، وقد أفتى أحمد بن حنبل ومالك وابن تيمية بمثل هذا.

5- لا بد أن تعلم أن طريق الجهاد شاق وطويل وليس من السهل على الكثيرين أن يواصلوا المسير وإن تحمسوا كثيرا  في البداية، وإن الأشواق مع العاطفة الفياضة للجهاد لا بد أن يصاحبها توطين النفس على احتمال الشدائد وتربيتها على المشاق والمصاعب، فكثير من الشباب جاءوا متحمسين ثم خبا حماسهم تدريجيا ، ثم أصبح يناقش في حكم الجهاد أصلا !!.

6- تكفل الله بعون المجاهدين، فمن خرج في سبيله فإن الله يأخذ بيده ويقوي عزيمتهم، ويربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم  ثلاث حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف .(2) [رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].

7- من أراد القدوم إلى أفغانستان فعليه أن يتصل بأرقام الهواتف التالية في بيشاور: (43203،43708، 42397،) فعندما تصل إلى بيشاور فاتصل بأحد هذه الأرقام واطلب منه أن يأتيك إلى المكان الذي أنت فيه، وعندئذ يأتيك إلى مكانك شخص يتكفل بخدمتك.

أما عنوان المراسلة فهو:

PESHAWAR UNIVERSITY

(977) P.O.BOX

PESHAWAR-PAKISTAN

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

الفصل الثالث

إيضاحات حول حكم الجهاد اليوم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين; أما بعد:

1- فقد تكلمنا طويلا  عن حكم الجهاد اليوم في أفغانستان وفلسطين، وفي كل ما شابهها من أراضي المسلمين المغتصبة، وأكدنا ما قرره السلف والخلف من محدثين ومفسرين وفقهاء وأصوليين أنه  إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على أهل تلك البقعة، تخرج المرأة دون إذن زوجها -بمحرم- والمدين دون إذن دائنه والولد دون إذن والده، فإن لم يكف أهل تلك البقعة أو قصروا أو قعدوا توسع فرض العين على من يليهم، وثم وثم إلى أن يعم فرض العين الأرض كلها فرضا  لا يسعهم تركه كالصلاة والصوم وغيرها .

2- إن فريضة الجهاد اليوم تبقى عينية حتى تتحرر آخر بقعة إسلامية كانت بيد المسلمين واستولى عليها الكفار.

3- بعض العلماء يرون أن الجهاد الآن في أفغانستان وفلسطين فرض كفاية، ونحن معهم أن الجهاد كان بالنسبة للعرب في أفغانستان فرض كفاية، ولكن الجهاد بحاجة إلى رجال ولم يقم أهل أفغانستان بفرض الكفاية -وهو إخراج الكفار من أفغانستان- وهنا ينقلب فرض الكفاية ويصبح فرض عين، ويبقى فرض عين في أفغانستان حتى يتجمع عدد من المجاهدين يكفون لطرد الشيوعيين، وهذا يرجع الحكم من فرض عين إلى فرض كفاية.

4- ليس لأحد إذن أحد في فروض الأعيان لأن القاعدة  لا استئذان في فروض الأعيان .

5- إن الذي يصد عن الجهاد كالذي يصد عن الصيام، ومن نصح مسلما  قادرا  على عدم الذهاب للجهاد فهو في حكمه كمن نصحه بالإفطار في رمضان وهو صحيح مقيم.

6- الأولى هجران الذين يثبطون عن الجهاد وعدم الدخول معهم في نقاش يؤدي إلى جدل يقسي القلوب.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (51-313): وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهجران الفساق وهجران من يخالط هؤلاء أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى ، فالزناة واللوطية ومن ترك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر فهؤلاء كلهم، ومن خالطهم مضرة على دين الإسلام وليس فيهم معاونة على بر ولا تقوى، فمن لم يهجرهم كان تاركا  للمأمور فاعلا  للمحظور.

 

ملاحظات هامة حول تطبيق الحكم:

1- إننا عندما ندعو الناس للجهاد ونبين حكمه لا يعني أننا متكلفون بهم وبتذاكرهم وكفالة أسرهم، إذ أن مهمة العلماء بيان الحكم الشرعي وليس عليهم أن يحملوا الناس إلى الجهاد ويستدينوا من أموال الناس لكفالة أسر المجاهدين، فإذا بين ابن تيمية أو العز بن عبد السلام حكم قتال التتار فلا يعني هذا أنه يجب عليه تجهيز الجيش.

2- إن تنفيذ الفرائض وأدائها مبني على الإستطاعة، فالحج فريضة على المستطيع..

(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (آل عمران: 97)

وكذلك الجهاد أداؤه حسب الإستطاعة، ففي الكتاب العزيز:

(ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا  ألا يجدوا ما ينفقون)  (التوبة: 91-92)

قال ابن العربي (2-995): هذه الآية الثانية أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن التخلف في الجهاد إذا ظهر من حاله صدق الرغبة مع دعوى العجزة.

وقال القرطبي (8-226): الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو عزم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال.

ويفسر هذه الآية قوله تعالى:

(لا يكلف الله نفسا  إلا وسعها) (البقرة: 286)

وفي صحيح مسلم:  إن بالمدينة لرجالا  ما سرتم مسيرا  ولا قطعتم واديا  إلا كانوا معكم حبسهم المرض  وفي رواية (حبسهم العذر .

قال القرطبي والجمهور من العلماء: على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوة أنه لا يجب عليه.

يستدل الطبري (10-112): ليس على أهل الزمانة -المرض المزمن- وأهل العجز عن السفر والغزو ولا على المرضى ولا على من لا يجد نفقة يتبلغ فيها إلى مغزاه حرج -وهو الإثم-.

ويقول ابن تيمية (15-313): وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك فإنه يفعل منه بقدر الإستطاعة.

 

وبناء على ما تقدم من نصوص العلماء:

1- فإن إثم القعود عن الجهاد ساقط عن أصحاب الأعذار ومن أصحاب الأعذار:

أ- من كان له زوجة وأولاد وليس لهم معيل بالنفقة غيره، أو ليس لهم من يقوم على خدمتهم وكفالتهم غيره، فإذا استطاع أن يدبر لهم نفقة أثناء غيابه فإنه آثم بالقعود، وعلى كل مسلم أن يقلل من نفقته ويوفر من راتبه حتى يتمكن من النفير.

ب- من لم يستطع أن يتحصل على تأشيرة قدوم إلى باكستان بعد محاولات كثيرة.

ج من منعته حكومته بأخذ الجواز أو منعته من الخروج من المطار.

د- من له والدان وليس لهما معيل يقوم عليهما بالنفقة أو الخدمة غيره.

 

حكم التخوف من سؤال أجهزة الأمن إذا رجع المجاهد من الجهاد إلى مسقط رأسه:

إن هذا الأمر ليس عذرا  أبدا  لأنه ظن وشك، واليقين لا يزول بالشك، فالجهاد يقيني والخوف من سؤال المخابرات شك، وكذلك لو تيقن أن المخابرات تسأله فهذا ليس عذرا  يرفع به إثم القعود عن الجهاد، لأن العذر بالإكراه المعتبر في الشريعة الذي يسقط به إثم ترك الفرائض هو (الإكراه الملجئ الذي به فوات النفس أو العضو) أي التعذيب فيه موت أو قطع عضو، وكذلك التخوف من أجهزة الأمن في البلدان التي يحمل جوازها -ولو تيقن أنه إذا رجع وأمسكت به قتلته أو قطعت عضوا  من أعضائه- فهذا ليس عذارا  مقبولا  عند الله لأنه في هذه الحالة يجب أن يترك بلده ويعيش في أرض الجهاد:

(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا  غفورا) (النساء: 97-99)

 

حكم جهاد النساء العربيات في أفغانستان:

النساء العربيات لا يجوز لهن أن يأتين بدون محرم وعملهن مختص بالتعليم أو التمريض أو إغاثة المهاجرين، وأما القتال فلا تستطيع العربيات القتال، لأن المرأة الأفغانية حتى الآن لم تقاتل.

 

حكم الذي به عاهة تمنعه عن القتال ولكن لا تمنعه من العمل في مجالات أخرى كالأعرج:

إن فرضية العين لا تسقط عن الأعرج ولا عن المريض مرضا  غير مقعد، لأن بإمكانهم أن يعملوا في مجالات الصحة والتعليم وهو ميدان واسع، والمجاهدون الآن حاجتهم إلى الدعاة أشد من حاجتهم إلى الطعام والسلاح والدواء.

قال ابن الهمام في فتح القدير (5-441): وأما الذي يقدر على الخروج دون الدفع -القتال- ينبغي -يجب- أن يخرج لتكثير السواد فإن فيه إرهابا .

فإذا كان الخروج لتكثير العدد واجب، فكيف بالخروج لتعليم المجاهدين أحكام دينهم؟ إن هذا أشد وجوبا  وأعظم فرضية.

 

نداء إلى ذوي الأسر:

وفي الختام نقول لأصحاب الأسر: لا يجوز أن يتركوا أسرهم وينفروا للجهاد بدون تأمين نفقتهم وبدون تأمين من يقوم على خدمتهم.

فمن أراد الخروج الآن من أرباب الأسر ومعه أسرته، فنحن لا نستطيع كفالته، فعليه أن يبحث مع المركز الإسلامي القريب منه أو مع بعض الأخيار حتى يؤمنوا له نفقة عياله، فعلى الفقراء من أرباب الأسر أن يبحثوا جادين عمن ينفق على أهاليهم أثناء غيابهم ويسعوا سعيا  حثيثا  لتدبير نفقتهم ثم ينفروا للجهاد.

 

اذكار الصباح والمساء

مؤلف: د/ عبد الله عزام

 

 

المقدمة

كل هذه الأحاديث صحيحة، وهي ضرورية لحماية الإنسان من كل الشرور، ولحفظه من الشيطان والأعداء والأمراض والهموم وجميع الأضرار، بالإضافة إلى الثواب العظيم الذي ينتظر قائلها.

ما من علاج أشفى لأمراض القلب من الذكر، والذكر كالماء للسمك وكالماء للزرع، والذكر يصفي القلب، ويشفي الصدر من القلق والضنك ويقوي البدن والروح، ويزيل الهم  والغم  ويطرد الشيطان، وينزل الملائكة والرحمة والسكينة.

وكلما ذكر الإنسان فإن الملائكة تبني له منازل في الجنة، فإذا توقف الذكر توقف البناء، وكذلك الذكر غراس الجنة، فإذا توقف الذكر توقف الغراس.

والذكر يزيل صدأ القلوب ويصف ي الروح ويورث المحبة لله ثم للخلق، ويبني التوكل ويرث الطمأنينة والرضى بالقدر.

والذكر بأنواعه كالصيدلية التي تضم أنواع الدواء لأمراض مختلفة، فمنها ما يشفي من الهم  وآخر من الغم  وثالث من الأرق، ورابع من الخوف، وخامس من الشيطان ...وهكذا، ولقد وصف الطبيب الحكيم صلى الله عليه وسلم بمقدار الجرعة (حبة أو ثلاثة أو سبعة ... الخ).

وأذكار الصباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وأذكار المساء من بعد العصر.

 

الفقير إلى عفو الله تعالى

د. عبد الله عزام

 

1- بعد صلاة الفجر مباشرة وهو على جلسة الصلاة يقول عشر مرات:  لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) [عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله ص قال:  من قال إذا أصبح : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير -عشر مرات- كتب الله له بهن عشر حسنات ومحا بهن عشر سيئات، وكن له عدل عتاقه أربع رقاب، وكن له حرسا  حتى يمسي ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح ].

2- يقرأ آية الكرسي:

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذال الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا ي حيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم).

[عن أبي بن كعب رضي الله عنه: أنه كان له جرن من تمر فكان ينقص، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبه الغلام، فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: ما أنت؟ جن ي أم إنسي؟ قال: جن ي. قال: فناولني يدك، فناوله يده فإذا يده يد الكلب وش ع ر ه شعر كلب. قال: هذا خلق الجن؟ قال: قد علمت الجن أن ما فيهم رجلا  أشد مني. قال: فما جاء بك؟ قال: بلغنا أنك تحب الصدقة، فجئنا نصيب من طعامك. قال: فما ينجينا منكم؟ قال: هذه الآية في سورة البقرة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .. من قالها حين يمسي أجير منا حتى ي صبح، ومن قالها حين ي صبح أجير منا حتى ي مسي، فلما أصبح أتى رسول الله ص، فذكر له ذلك، فقال:  صدق الخبيث.

صحيح رواه النسائي والطبراني].

3- آخر البقرة:

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته كتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا  إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا  كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).

[قال رسول الله ص:  من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) رواه البخاري ومسلم.

ومعنى كفتاه: قيام الليل أو شرور الخلق والشياطين].

4-  قل هو الله أحد، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس  .. كل واحدة (ثلاث مرات).

[قال عبد الله بن خبيب: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي ص ليصلي لنا فأدركناه فقال:  قل  فلم أقل شيئا . ثم قال:  قل ، فلم أقل شيئا . قال:  قل ، فقلت يا رسول الله؟ ماذا أقول؟ قال:  قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح -ثلاث مرات- تكفيك من كل شيء) وهو حديث صحيح. رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح].

5-  سبحان الله ثلاثا  وثلاثين، الحمد لله ثلاثا  وثلاثين، الله أكبر أربعا  وثلاثين.

[قال رسول الله ص:  من سبح في دبر كل صلاة ثلاثا  وثلاثين، وحمد الله ثلاثا  وثلاثين، وكبر الله ثلاثا  وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر). رواه مسلم عن أبي هريرة.].

6- الحديث:  أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا شريك له، لا إله إلا هو وإليه النشور) [رواه البزار وابن السني بإسناد جيد عن أبي هريرة].

7- الحديث:  أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد ص، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا  وما كان من المشركين [رواه أحمد والطبراني عن أبي بن كعب ورجاله رجال الصحيح].

8- الحديث:  اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر .

[(عن عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عن أن رسول الله ص قال:  من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه وهو حسن].

9- الحديث:  يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .

[عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ص حدثهم أن عبدا  من عباد الله قال:  يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك  فعضلت بالملكين -أعيتهما- فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء، فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها.  فقال الله عز وجل -وهو أعلم بما قال عبده- ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربي إنه قد قال: يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله عز وجل لهما: أكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها. رواه أحمد وابن ماجه ورجاله ثقات].

10- الحديث:   رضيت بالله ربا  وبالإسلام دينا  وبمحمد نبيا  ورسولا)

[حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي عن ثوبان، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي

عن ثوبان وغيره أن رسول الله ص قال:  من قال حين يمسي وحين يصبح رضيت بالله ربا  وبالإسلام دينا  وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا  ... كان حقا  على الله أن يرضيه). قال الترمذي: حديث صحيح].

11- الحديث:  سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته  (ثلاث مرات) [رواه مسلم عن جويرية].

عن جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي ص خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم. فقال النبي ص:  لقد قلت بعدك أربع كلمات -ثلاث مرات- لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .

12- الحديث:

عن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال رسول الله ص:  ما من عبد يقول صباح كل يوم ومساء كل ليلة:  بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم -ثلاث مرات- لم يضره شيء) [حديث صحيح رواه الأربعة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].

وكان أبان بن عثمان قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه، فقال أبان: ما تنظر؟ أما إن الحديث كما حدثتك ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله قدره.

13- الحديث:  (اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا  نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه) [رواه أحمد بإسناد جيد عن أبي موسى].

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله ص ذات يوم فقال:  يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء الله أن يقول: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ فقال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا  نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه .

14- الحديث:   أعوذ بكلمات الله التام ات من شر ما خلق  (ثلاث مرات)[رواه مسلم عن أبي هريرة].

من قال حين يمسي -ثلاث مرات- (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) لم يضره لدغة حية في تلك الليلة) [حديث صحيح رواه الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة].

15- الحديث:  اللهم إني أعوذ بك من الهم  والحزن، وأعوذ بكل من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) [رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري].

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله ص ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار ي قال له أبو أمامة، فقال:  يا أبا أمامة مالي أراك جالسا  في المسجد في غير وقت الصلاة؟  قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله.. فقال:  ألا أعلمك كلاما  إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟  قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت:  اللهم إني أعوذ بك من الهم  والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال .

قال: ففعلت ذلك فأذهب الله هم ي وقضى عني ديني. [أخرجه أبو داود بإسناد جيد].

16- الحديث:  اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت) [رواه أبو داود وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي عن أبي بكرة].

17- الحديث:

عن شداد بن أوس مرفوعا : سيد الإستغفار أن تقول:

(اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي  وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)

(من قالها من النهار موقنا  بها، فمات من يومه فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل -وهو موقن  بها- فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)[رواه البخاري].

18- الحديث:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني شيئا  أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل:

(اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه -وفي رواية- وأن أقترف على نفسي سوء  أو أجره إلى مسلم).   قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك....

[قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .قال النووي: وشركه: روي على وجهين: بكسر الشين: وشركه من الشرك .. والثاني بفتح الشين والراء (وشركه) أي مصائده.

19- الحديث:

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لم يكن النبي ص يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح:

(اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي  ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)

[أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وهذا الحديث من دلائل النبوة ومعجزاتها لأن أقرب معى لقوله: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) هو انفجار الألغام من تحت قدميه وهو أخطر الأسلحة وأشدها فتكا].

20- الحديث:  أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي  القيوم وأتوب إليه .

عن أبي مسعود مرفوعا : من قال:  أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت له ذنوبه وإن كان فر  من الزحف (1).[ رواه أبو داود والترمذي والحاكم. وإسناد الحاكم قوي].

21- الحديث:  يا حي  يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين .

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص لفاطمة:  ما يمنعك أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت "يا حي  يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )

[حديث صحيح رواه النسائي والبزار والحاكم].

22-  الصلاة على النبي   عشر مرات.

من صل ى علي  حين يصبح وحين يمسي عشرا  أدركته شفاعتي يوم القيامة [رواه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا بإسنادين أحدهما جيد].

23-  سبحان الله وبحمده مائة مرة.

روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص:  من قال حين يصبح وحين يمسي: (سبحان الله وبحمده) مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثلما قال أو زاد عليه .

24- كفارة المجلس:  سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص:  من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" إلا كف ر الله له ما كان في مجلسه ذلك) قال الترمذي: حسن صحيح الحاكم ووافقه الذهبي والألباني].

25- الحديث:  سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

[أخرجه أبو يعلى عن أبي سعيد مرفوعا ورجاله ثقات].

-------------------------

بين علماء الآخرة وعلماء السوء

إذا أراد الله بالحاكم خيراً هيأ له وزراء صالحين، وأعوان راشدين، ومستشارين ناصحين، وجلساء عالمين.

وإذا أراد به غير ذلك هيأ له وزراء خبثاء غاشين، ومستشارين خائنين تعساء، وعلماء سوء مضلين ومزورين، كاتمين للحق، مزينين للباطل.

ولهذا عندما احتضن المأمون والمعتصم والواثق العباسيين بعض علماء السوء وقرَّبوهم إليهم، أمثال ابن أبي دؤاد وبشر المريسي لا كثر الله من أمثالهم أزاغوهم عن مذهب أهل السنة والجماعة الذي كان عليه آباؤهم، وابتدعوا لهم مذهباً شيطانياً، مذهب الاعتزال، وزينوه لهم حتى تبنوه، وامتحنوا العلماء الأخيار والأئمة الكبار، وسجنوا وعذبوا وقتلوا بعض الأطهار، فعلى مبتدعيه من الله ما يستحقون.

وإليك طرفاً من محنة إمام أهل السنة والجماعة في عصره الإمام المبجل، والخليل المفخم، أحمد بن حنبل رحمه الله، كما رواها أحد تلاميذه وهو سليمان بن عبد الله السجزي، وحكاها عنه القاضي أبو يعلى في طبقات الحنابلة.

قال السجزي رحمه الله: (أتيت إلى باب المعتصم وإذا الناس قد ازدحموا على بابه كيوم العيد، فدخلت الدار، فرأيت بساطاً مبسوطاً وكرسياً مطروحاً، فوقفت بإزاء الكرسي، فبينما أنا قائم فإذا المعتصم قد أقبل، فجلس على الكرسي، ونزع نعله من رجله، ووضع رجلاً على رجل، ثم قال: يحضر أحمد بن حنبل؛ فأحضر، فلما وقف بين يديه وسلم عليه، قال له: يا أحمد تكلم ولا تخف؛ فقال أحمد: والله يا أمير المؤمنين لقد دخلت عليك وما في قلبي مثقال حبة من الفزع؛ فقال له المعتصم: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله، قديم غير مخلوق، قال الله عز وجل: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"؛ فقال له: عندك حجة غير هذا؟ فقال أحمد: نعم يا أمير المؤمنين، قول الله عز وجل: "يس والقرآن الحكيم"، ولم يقل: يس والقرآن المخلوق؛ فقال المعتصم: احبسوه؛ فحبس وتفرق الناس، فلما أصبحتُ قصدتُ الباب، فأدخل الناس فأدخلت معهم، فأقبل المعتصم وجلس على كرسيه، فقال: هاتوا أحمد بن حنبل؛ فجيء به، فلما أن وقف بين يديه قال له المعتصم: كيف كنت يا أحمد في محبسك البارحة؟ فقال: بخير والحمد لله، إلا أني رأيت يا أمير المؤمنين في محبسك أمراً عجباً؛ قال له: وما رأيت؟ قال: قمتُ في نصف الليل فتوضأت للصلاة، وصليت ركعتين، فقرأت في ركعة "الحمد لله"، و"قل أعوذ برب الناس"، وفي الثانية "الحمد لله" و"قل أعوذ برب الفلق"، ثم جلست وتشهدت وسلمت، ثم قمت فكبرت وقرأت "الحمد لله" وأردت أن أقرأ "قل هو الله أحد"، فلم أقدر، ثم اجتهدت أن أقرأ غير ذلك من القرآن فلم أقدر، فمددت عيني في زاوية السجن، فإذا القرآن مسجَّى ميتاً، فغسلته وكفنته وصليت عليه ودفنته؛ فقال له: ويلك يا أحمد، والقرآن يموت؟ فقال له أحمد: فأنت كذا تقول إنه مخلوق، وكل مخلوق يموت؛ فقال المعتصم: قهرنا أحمد، قهرنا أحمد؛ فقال ابن أبي دؤاد وبشر المريسي: اقتله، حتى نستريح منه؛ فقال: إني قد عاهدت الله أن لا أقتله بسيف ولا آمر بقتله بسيف؛ فقال له ابن أبي دؤاد: اضربه بالسياط؛ فقال: نعم؛ ثم قال: أحضروا الجلادين؛ فأحضروا، فقال المعتصم لواحد منهم: بكم سوط تقتله؟ فقال: بعشرة يا أمير المؤمنين؛ فقال: خذه إليك؛ قال سليمان السجزي: فأخرج أحمد بن حنبل من ثيابه، وائتزر بمئزر من الصوف، وشدَّ في يديه حبلان جديداً، وأخذ السوط في يده، وقال: أضربه يا أمير المؤمنين؟ فقال المعصتم: اضرب؛ فضربه سوطاً، فقال أحمد: الحمد لله؛ وضربه ثانياً، فقال: ما شاء الله كان؛ فضربه ثالثاً: فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فلما أراد أن يضربه السوط الرابع نظرت إلى المئزر من وسطه قد انحل، ويريد أن يسقط، فرفع رأسه نحو السماء وحرك شفتيه، وإذا الأرض قد انشقت، وخرج منها يدان فوزرتاه بقدرة الله عز وجل، فلما أن نظر المعتصم إلى ذلك قال: خلوه؛ فتقدم إليه ابن أبي دؤاد وقال له: يا أحمد، قل في أذني إن القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة؛ فقال له أحمد: يا ابن أبي دؤاد، قل في أذني إن القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى أخلصك من عذاب الله عز وجل)

-------------------

من علماء الآخرة أبو إسحاق إبراهيم الحربي رحمه الله

هو إبراهيم بن بشر بن عبد الله أبو إسحاق الحربي، من تلاميذ الإمام أحمد الأوفياء، ومن طلابه النجباء، حسنة من حسناته الكثيرة، وصدقة من صدقاته الجارية الوفيرة، وثمرة من ثماره المفيدة، حيث تربى على يديه منذ الصغر، وأخذ عنه الأدب والسلوك قبل أن يأخذ عنه الحديث والفقه.

كان أبو إسحاق الحربي رحمه الله إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث، قدوة في الزهد والفقر والصبر.

له التصانيف الكثيرة المفيدة، منها "غريب الحديث"، وهو أجلها، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات محققة، و"دلائل النبوة"، و"كتاب الحمام"، و"سجود القرآن"، و"ذم الغيبة والنهي عن الكذب"، و"المناسك"، وغيرها كثير.

o  قال إبراهيم: رأيتُ رجالات الدنيا، فلم أر مثل ثلاثة: رأيتُ أحمد بن حنبل يعجز النساء أن يلدن مثله، ورأيتُ بشر بن الحارث ـ الحافي ـ من قرنه إلى قدمه مملوءاً عقلاً، ورأيتُ أبا عبيد ـ القاسم بن سلام ـ كأنه جبل نفخ فيه علم.

o  وقال: ما شكوتُ إلى أمي، ولا إلى أختي، ولا إلى امرأتي، ولا إلى بناتي حُمَّى قط وجدتها، الرجل هو الذي يدخل غمه على نفسه، ولا يغم عياله.

o  وكانت بي شقيقة خمساً وأربعين سنة قط، ما أخبرت بها أحداً قط.

o  ولي عشر سنة أبصر بفرد عين ما أخبرت بها أحداً قط.

o وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بها أمي أوأختي أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الثانية.

o  وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني به امرأتي أوإحدى بناتي أكلته، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الأخرى.

o  والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة، إن كان برنياً، أونيفاً وعشرين إن كان دَقلاً.

o  ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف ـ يعني إفطاره من الصيام ليلاً.

o  ودخلت الحمام واشتريت لهم صابوناً بدانقين، فقامت نفقة شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانيق ونصف.

o  ما أخذت على علم قط أجراً إلا مرة واحدة، فإني وقفت على باب بقال فوزنت قيراطاً إلا فلساً، فسألني عن مسألة فأجبته، فقال للغلام: أعطه بقيراط ولا تنقصه شيئاً، فزادني فلساً.

o  وقال لجماعة عنده: من تعدون الغريب في زمانكم هذا؟ فقال واحد منهم: الغريب من نأى عن وطنه، وقال آخر: الغريب من فارق أحبابه، وقال كل واحد منهم شيئاً، فقال إبراهيم: الغريب في زماننا رجل صالح عاش بين قوم صالحين، إن أمر بالمعروف آزروه، وإن نهى عن منكر أعانوه، وإن احتاج إلى سبب من الدنيا مانوه، ثم ماتوا وتركوه ـ كأن إبراهيم يعني بذلك نفسه.

o  قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي يقول: امض إلى إبراهيم الحربي حتى يلقي عليك الفرائض.

o  وقال محمد بن صالح القاضي: لا نعلم أن بغداد أخرجت مثل إبراهيم الحربي في الأدب، والحديث، والفقه، والزهد.

o  وقال محمد بن خلف وكيع: كان لإبراهيم الحربي ابن، وكان له إحدى عشرة سنة قد حفظ القرآن، ولقنه من الفقه شيئاً كثيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه، قال: فقال لي: كنت أشتهي موت ابني هذا؛ قلت: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس يسقونهم، وكأن اليوم حار شديد حره، فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، فنظر إلي وقال: لستَ أبي، فقلت: إيش أنتم؟ فقال: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، فخلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.

o  ذكر أبو عبد الرحمن السلمي أنه سأل الدارقطني عن إبراهيم الحربي؟ فقال: كان إماماً، وكان يقاس بأحمد بن حنبل في علمه، وزهده، وورعه.

o  وقال إبراهيم الحربي: ما أنشدت بيتاً من الشعر إلا قرأت بعد: "قل هو الله أحد" ثلاث مرات.

o  وقال: التابعون كلهم خير، وخيرهم أحمد بن حنبل، وهو عندي من أجلهم.

o  وقال: كل شيء أقول لكم "هذا قول أصحاب الحديث" فهو قول أحمد بن حنبل، فهو ألقى في قلوبنا منذ كنا غلماناً اتباع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة والاقتداء بالتابعين.

o  وقال عن أحمد بن حنبل: والله ما أعرف لأحد من التابعين عليه مزية، ولا أعرف أحداً يقدره قدره، ولا نعرف من الإسلام محله، فما لقيته لقاه في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس.

o     وقال: أجمع عقلاء كل أمة أن من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه.

o     وقال: ما كنا نعرف من هذه الطبائخ شيئاً إنما هو باذنجان مشوي أوباقة فجل أونحو هذا.

o  بعث إليه المعتضد الخليفة بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها وردها، فرجع الرسول وقال: يقول لك الخليفة: فرقها على منت عرف من فقراء جيرانك، فقال: هذا شيء لم نجمعه ولا نسأل عن جمعه، فلا نسأل عن تفريقه، قل لأمير المؤمنين: إما أن يتركنا، وإما أن نتحول من بلده.

ألا رحم الله إبراهيم الحربي ورحم من رباه وعلمه من العلماء الأخيار، الربانيين الأطهار.

فعلينا أن نستفيد من هذه السير، وأن نقتدي بهؤلاء الرجال، وأن نتشبه بهم، فإن التشبه بالرجال فلاح، وأن نحبهم، فمن أحب قوما فهو معهم

-------------------------

عبد القادر الجيلاني، الشيخ المفترى عليه

الطوام التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله

الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد الباطلة

مصدر هذه الطوام وغيرها

المآخذ التي أخذت على عبد القادر الجيلاني

أقوال أهل العلم عن الشيخ عبد القادر وما نسب إليه

هو عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي ثم البغدادي، ولد بكيــلان، ووفد بغداد شاباً سنـة 488 هـ، وتفقه على عدد من مشايخها خاصة أبي سعيد المُخَرَّمي، وكان على مذهب الإمام أحمد في صفات الله عز وجل، وبغض الكلام وأهله، وفي القدر، وفي الفروع، خلف شيخه أبا سعيد المُخَرَّمي على مدرسته، ودرَّس فيها وأقام بها إلى أن مات.

قال ابن السمعاني عنه: (إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، ديِّن خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة).

ولد للشيخ عبد القادر تسعة وأربعون ولداً، سبعة وعشرون ذكراً والباقي إناث.

جلس الشيخ عبد القادر للوعظ سنة 520ﻫ، وحصل له القبول من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه.

مما اشتهر عن الشيخ عبد القادر رحمه الله مما يدل على فقهه وثبات قدمه في العلم ما حكاه عنه ابنه موسى كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (سمعتُ والدي يقول: خرجتُ في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثت أياماً لا أجد ماءً، فاشتد بي العطش، فأظلتني سحابة نزل عليَّ منها شيء يشبه الندى، فترويت منه، ثم رأيت نوراً أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، أوقال: ما حرمتُ على غيرك؛ فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين؛ فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر نجوتَ مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق؛ فقلتُ: لربي الفضل والمنة؛ قال: فقيل له: كيف علمتَ أنه شيطان؟ قال: بقوله: وقد أحللتُ لك المحرمات).

قلت: من اعتقد أن شيخاً يحلُّ له ما حرَّم الله، أويرفع عنه ما أوجبه على خلقه كالصلاة مثلاً، فقد كفر.

ومما يدل على تمكنه في الفقه وبراعته فيه ما حكاه عنه ابنه عبد الرزاق قال: جاءت فتوى من العجم إلى علماء بغداد لم يتضح لأحد فيها جواب شافٍ، وصورتها: ما يقول السادة العلماء في رجل حلف بالطلاق الثلاث، أنه لابد أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها، فما يفعل من العبادات؟

قال فأتى بها إلى والدي فكتب عليها على الفور: يأتي مكة، ويُخْلى له المطاف، ويطوف أسبوعاً وحده وتنحل يمينه؛ قال: فما بات المستفتي ببغداد.

ظهرت على يدي الشيخ عبد القادر بعض الكرامات، وتاب وأسلم على يديه العديد من الناس.

الطوام التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله

لقد افتُري على هذا الشيخ افتراء عظيماً، وكُذِّب عليه كذباً مهناً، ونسب إليه من الكرامات والدعاوى الكاذبات ما لا يقبله عقل ولا دين، منها:

1.  ما نسبه صوفية المشرق من أن الشيخ عبد القادر الجيلاني متصرف في الأكوان.

2.  ما نسبوه إليه أنه قال: "قدمي هذه على رقبة كل ولي"!!! بل لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنه قال ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3.  وصفه بأنه هوالقطب والغوث.

4.  نسبة السماع الصوفي المحرم ودق الطبول الذي يمارسه الصوفية إليه.

5.  المبالغة في مدحه والكذب فيه.

6.  نسبة الكثير من الممارسات الصوفية إليه.

7.  زعم أنه هو النائب عن الله في إدارة الكون.

8.  وأنه غياث المستغيثين.

9.  وأنه يمشي على الهواء.

10. وأن مجرد اسمه إذا كُتِبَ في كفن الميت لن تمسه النار.

هذا قليل من كثير، وغيض من فيض مما نسب إليه.

الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد الباطلة

الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد ونسبتها إلى الشيخ عبد القادر زوراً وبهتاناً كثيرة جداً، ولكن سنشير إلى طرف منها لضيق المقام، فنقول:

يقول الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني في مدح عبد القادر الجيلاني:

هو القطب  والغوث الكبيـر هو الذي      أفاض على الأكوان كالبحر والسيل

وعند ظهور الحال يخطو على الهوى       ويُظهـر شيئـاً ليس يُدرك بالعقـل

بأكفان مَنْ قد مــات إن كُتِبَ  اسمُه       يكـون له ستراً من النار والهـول

وكـل ولـي عنـقه تحـت  رجْـله       بأمـر رسول الله يا لها من رجـل

ينوب عن المختار في حضرة العلا       ويحكـم بالإحسان والحق والعـدل

وقال آخر مكذباً على الجيلاني رحمه الله:

وولانـي على الأقطاب  جمعـاً        فحكمـي نافـذ في كل حال

مريـــدي لا تخف واشٍ فإني        عــزوم  قـاتل عند القاتل

طبولي في السماء والأرض دقت        وشـاؤس السعادة قد بدا لي

بـلاد الله ملكي تحـت حكمـي        وأوقـاتي  لقلبي قد صفا لي

نظـرت إلى بـلاد الله  جمعـاً        كخردلـة  على حكم اتصال

أنا الجيلـي محي الدين اسـمي        وأعْلامي على  رأس الجبال

وزعموا أنه قال:

إن أزمَّة أهل الزمان على قلبي، وأنا المتصرف في عطائهم ومنعهم

وزعموا أنه قال:

إن قلوب الناس في يدي، إن أردتُ صرفها عني صرفتها، وإن أردتُ صرفتها إلي.

وقال أحدهم: إن الشيخ الجيلاني هو غوث الأغواث، وإن له حق التثبيت في اللوح المحفوظ، وأنه يملك أن يجعل المرأة رجلاً.

ونقل البريلوي شيخ الطريقة البريلوية بالهند وباكستان وبنقلاديش: أن الشيخ عبد القادر كان يمشي في الهواء على رؤوس الأشهاد في مجلسه، ويقول: ما تطلع الشمس حتى تسلم عليَّ.

وقال البريولي كذلك: إن الشيخ عبد القادر فرش فراشه على العرش، وأنزل العرش على الفرش.

مصدر هذه الطوام وغيرها

مصدر هذه الطوام العظام، والآفات الجسام، وغيرها كثير، كتاب كبير في ثلاث مجلدات في مناقب الشيخ عبد القادر جمعها من غير خطام، ولا زمام، ولا تحرير، ولا اهتمام أبو الحسن الشطنوفي المصري، فهو الذي تحمل بثها وسيبـوء بوزرها، ولا ينقص ذلك من أوزار من اتبعه شيئاً.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (كان الشيخ عبد القادر رحمه الله في عصره معظماً، يعظمه أكثر مشايخ الوقت من العلماء والزهاد، وله مناقب وكرامات كثيرة، ولكن قد جمع المقرئ أبو الحسن الشطنوفي المصري في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، وكَتَبَ فيها الطم والرم، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.

وقد رأيتُ بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه فأنقل منه إلا ما كان مشهوراً معروفاً من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه الشطح، والطامات، والدعاوى، والكلام الباطل، ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبدالقادر رحمه الله، ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوني قد ذكر أن الشطنوفي نفسه كان متهماً فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه).

قلت: مصيبة الصوفية الكبرى، وداهيتهم العظمى أنهم لا يميزون بين الصحيح والموضوع، ولا بين الباطل والحق، بل يتلقون جلَّ عقائدهم عن طريق الهواتف والمكاشفات، والأحاديث الموضوعات، وقد ميز الله هذه الأمة على غيرها من الأمم بالأسانيد العالية، فلا يقبلون خبراً إلا إذا كان مسنوداً، ورجاله ثقات عدول.

ولهذا قال جمع من السادة العلماء: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم،؛ فالعلم لا يؤخذ من أي كاتب ولا كتاب، ولا حاطب ليل لا يميز بين صحيح وسقيم، ولا صاحب بدعة وهوى، كما قال مالك الإمام رحمه الله.

المآخذ التي أخذت على عبد القادر الجيلاني

لأهل العلم مآخذ أخذوها على هذا الشيخ، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

1.  له مصنفان هما "الغنية لطالبي طريق الحق"، و"فتوح الغيب"، ضمنها كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

2. خالف متقدمي المشايخ أمثال الجنيد، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهما، الذين كانوا معتصمين بمنهج أهل السنة والجماعة.

3.  بعض الشطحات إن صحت عنه، نحو قوله: "قدمي هذه على رقبة كل ولي لله"!! ولا إخالها تصح عنه.

4.  السياحة والهيام في البرية، لمخالفة ذلك لما جاء به سيد البرية.

أقوال أهل العلم عن الشيخ عبد القادر وما نسب إليه

قال الإمام الذهبي خاتماً ترجمة الشيخ عبد القادر بقوله: (وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، واللهُ الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه).

وقال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله: (كان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه زهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً، ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنف كتاب "الغنية"، و"فتوح الغيب"، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ).

وقال الحافظ ابن رجب معتذراً لما صدر من الشيخ عبد القادر: (ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه مثلاً من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن والانكسار، والإزدراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف والمحبة والشوق ونحو ذلك، فلا ريب أنه يزدري المتأخرين، ويمقتهم، ويهضم حقوقهم، فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم، وإقامة معاذيرهم، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.

ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف والصدر الأول، قل من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك، وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم، وقسط من مشاركتهم في معارفهم، كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطرائق المتقدمين ويشتد إنكاره عليهم.

وقد قيل: إنه صنف كتاباً ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة.

إلى أن قال: وللشيخ عبد القادر رحمه الله كلام حسن في التوحيد والصفات، والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة.

وله كتاب "الغنية لطالبي طريق الحق"، وهو معروف، وله كتاب "فتوح الغيب"، وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيراً، وكان متمسكاً في مسائل الصفات والقدر ونحوها بالسنة، بالغاً في الرد على من خالفها).

لا شك أن الكمال لله وحده، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي لأحد أن يقلد دينه الرجال، أو أن يقلد أحداً في كل ما يقول سوى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وينبغي للمسلم أن يزن كلام أي إنسان بميزان الشرع، فما وافق الكتاب قبل وما خالف الكتاب والسنة رُدَّ ولا كرامة.

لقد أمرنا الله باتباع الطريقة المحمدية والتمسك بالسنة المرضية ونبذ ما سواها من الطرق الصوفية وغير الصوفية البدعية، وما عداها من المناهج: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله"، وقال رسوله الناصح الأمين: "وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ قيل: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي اليوم"، فمن كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام فهو الناجي، ومن خالف ذلك فهو الهالك الخاسر.

عليك أخي الحبيب بالحنيفية السمحاء، والمحجة البيضاء، والطريقة المثلى، طريقة النبلاء الشرفاء، أتباع الرسل والأنبياء، وإياك إياك أن تنتمي إلى غيرها من هذه الطرق، فكلها والله بدع ومخالفات وعقائد فاسدة ومناهج متحرفة.

قال الحافظ الذهبي رحمه الله في وصف هذه الطريقة المحمدية المثلى: (الطريقة المثلى هي المحمديَّة، وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف، كما قال تعالى: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكني أصومُ وأفطرُ، وأقومُ وأنامُ، وآتي النساء، وآكلُ اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، فلم يشرع لنا الرهبانية، ولا التمزق، ولا الوصال، بل ولا صومَ الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه، كما قال تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته"، وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللحم، والحلواء، والعسل، والشراب الحلو البارد، والمِسْك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى، ثم العابدُ العَرِيُّ من العلم متى زهد، وتبتل، وجاع، وخلا بنفسه، وترك اللحم والثمار، واقتصر على الدقة والكسرة، ضفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطاباً يتولد من الجوع والسهر، ولا وجود لذلك الخطاب ـ والله ـ في الخارج، وولج الشيطانُ في باطنه وخرج، فيعتقد أنه قد وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان، ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي، صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانُه، فالخلوة والجوع أبوجاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء، بل السلوك الكامل هو الورعُ في القوت، والورعُ في المنطق، وحفظُ اللسان، والتلاوةُ بالترتيل والتدبر، ومقتُ النفس وذمُّها في ذات الله، والإكثارُ من الصوم المشروع، ودوامُ التهجد، والتواضعُ للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة، وكثرة البشر، والإنفاقُ مع الخصاصة، وقولُ الحق المر برفق وتؤدة، والأمرُ بالمعروف، والأخذُ بالعفو، والإعراضُ عن الجاهلين، والرباطُ بالثغر، وجهادُ العدو، وحجُّ البيت، وتناولُ الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السَّحَر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين، أماتنا الله على محبتهم).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

المراجع

1.  البداية والنهاية للحافظ ابن كثير.

2.  البريلوية: عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهيري.

3.  سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.

4.  كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي.

5.  وفيات الأعلان لابن خلك

--------------------

من علماء الآخرة الليث بن سعد

   هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن.

   أصله من أصبهان بفارس.

   ولد بقلفشنده جنوب القاهرة، ومات بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى.

   كان إمام وفقيه ومحدث وعالم أهل مصر في زمانه من غير منازع.

   قال الشافعي رحمه الله: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.

   وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك، ولكن الحظوة لمالك رحمه الله.

   قال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان رض الله عنه حتى نشأ فيهم الليث بن سعد فحدثهم بفضائل عثمان فكفوا عنه، وكان أهل حمص ينتقصون علياً رضي الله عنه حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائله فكفوا عن ذلك.

   كان الليث سخياً مضيافاً، وكان من أغنياء العلماء، ومع ذلك لم تجب عليه زكاة قط لكثرة إنفاقه، خاصة على أهل العلم، وكان يقول: لولا هذا ـ يعني المال ـ لتمندل بنا هؤلاء ـ يعني التجار.

   كان لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس.

   قدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار.

   احترقت دار ابن لهيعة فوصله بألف دينار.

   وحج وقدم المدينة وأرسل له مالك طبق رطب، فوضع في الطبق ألف دينار.

   قال شعيب ابنه: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفاً، وفي رواية خمسين ألفاً، تأتي عليه السنة وعليه دين؛ وفي رواية: ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط.

   جاءت امرأة إلى الليث وقالت: إن ابني عليل اشتهى عسلاً، فقال: يا غلام، أعطها مرطاً؛ والمرط عشرون ومائة رطل.

   قـال ابن وهب: كل ما كان في كتب مـالك "وأخبرني من أرضى من أهـل العلـم" فهو الليث بن سعد.

   طلب منه أبو جعفر أن يلي مصر فاعتذر وقال: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي؛ فقال أبو جعفر: ما بك ضعف معي، ولكن ضعفت نيتك في العمل لي.

   قال ابن بكير: كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، فما زال يذكر خصالاً جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرة، لم أر مثله.

   كان الليث حنفي المذهب، وهذا هو سر تقليد بعض المصريين للمذهب الحنفي.

   اشترى منه قوم ثمراً ثم استقالوه، فأقالهم، وأعطاهم خمسين ديناراً، وقال: إنهم كانوا قد أملوا فيها أملاً فأحببت أن أعوضهم عن أملهم.

   ولي القضاء بمصر.

   أعجب أحد الحاضرين من حديثه عن مسألة فقهية، فقال: كأنه سمع مالك بما حدث؛ فقال ابن وهب: بل لعل مالكاً سمع الليث!

   له رسالة لمالك ولمالك رد عليها.

ألا رحم الله الليث وإخوانه من العلماء الأخيار الأبرر

------------------------

رسالة الليث بن سعد لمالك

إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 262)

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ غَزِيرُ الْعِلْمِ جَمُّ الْفَوَائِدِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر الْمَخْزُومِيُّ قَالَ : هَذِهِ رِسَالَةُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .

[ رِسَالَةٌ مِنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ] : سَلَامٌ عَلَيْك ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، أَمَّا بَعْدُ - عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ ، وَأَحْسَنَ لَنَا الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَذْكُرُ فِيهِ مِنْ صَلَاحِ حَالِكُمْ الَّذِي يَسُرُّنِي ، فَأَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكُمْ وَأَتَمَّهُ بِالْعَوْنِ عَلَى شُكْرِهِ وَالزِّيَادَةِ مِنْ إحْسَانِهِ ، وَذَكَرْت نَظَرَك فِي الْكُتُبِ الَّتِي بَعَثْت بِهَا إلَيْك وَإِقَامَتَك إيَّاهَا وَخَتْمَك عَلَيْهَا بِخَاتَمِك ، وَقَدْ أَتَتْنَا فَجَزَاك اللَّهُ عَمَّا قَدَّمْت مِنْهَا خَيْرًا ، فَإِنَّهَا كُتُبٌ انْتَهَتْ إلَيْنَا عَنْك فَأَحْبَبْت أَنْ أَبْلُغَ حَقِيقَتَهَا بِنَظَرِك فِيهَا ، وَذَكَرْت أَنَّهُ قَدْ أَنْشَطَك مَا كَتَبْت إلَيْك فِيهِ مِنْ تَقْوِيمِ مَا أَتَانِي عَنْك إلَى ابْتِدَائِي بِالنَّصِيحَةِ ، وَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدِي مَوْضِعٌ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْك مِنْ ذَلِكَ فِيمَا خَلَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْيُك فِينَا جَمِيلًا إلَّا لِأَنِّي لَمْ أُذَاكِرْك مِثْلَ هَذَا ، وَأَنَّهُ بَلَغَك أَنِّي أُفْتِي بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَكُمْ ، وَأَنِّي يَحِقُّ عَلَيَّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِي لِاعْتِمَادِ مَنْ قَبْلِي عَلَى مَا أَفْتَيْتهمْ بِهِ ، وَأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي إلَيْهَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ ، وَقَدْ أَصَبْت بِاَلَّذِي كُتِبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوَقَعَ مِنِّي بِالْمَوْقِعِ الَّذِي تُحِبُّ ، وَمَا أَجِدُ أَحَدًا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْعِلْمُ أَكْرَهَ لِشَوَاذِّ الْفُتْيَا وَلَا أَشَدَّ تَفْضِيلًا لِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَا آخُذُ لِفُتْيَاهُمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا عَلَيْهِ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ وَمَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ مِنْهُ وَأَنَّ النَّاسَ صَارُوا بِهِ تَبَعًا لَهُمْ فِيهِ فَكَمَا ذَكَرْت ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَرَجُوا إلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَجَنَّدُوا الْأَجْنَادَ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمْ النَّاسُ فَأَظْهَرُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَلَمْ يَكْتُمُوهُمْ شَيْئًا عَلِمُوهُ .

وَكَانَ فِي كُلِّ جُنْدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يُعَلِّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَيَجْتَهِدُونَ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَمْ يُفَسِّرْهُ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ ، وَتَقَدَّمَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ مُضَيِّعِينَ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَافِلِينَ عَنْهُمْ ، بَلْ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي الْأَمْرِ الْيَسِيرِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالْحَذَرِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ، فَلَمْ يَتْرُكُوا أَمْرًا فَسَّرَهُ الْقُرْآنُ أَوْ عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ائْتَمَرُوا فِيهِ بَعْدَهُ إلَّا عَلَّمُوهُمُوهُ ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ عَمِلَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَلَمْ يَزَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى قُبِضُوا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِغَيْرِهِ ، فَلَا نَرَاهُ يَجُوزُ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْدِثُوا الْيَوْمَ أَمْرًا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ سَلَفُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ ، مَعَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اخْتَلَفُوا بَعْدُ فِي الْفُتْيَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ، وَلَوْلَا أَنِّي قَدْ عَرَفْت أَنْ قَدْ عَلِمْتهَا كَتَبْت بِهَا إلَيْك ، ثُمَّ اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ فِي أَشْيَاءَ بَعْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَنُظَرَاؤُهُ أَشَدَّ الِاخْتِلَافِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُمْ فَحَضَرْتهمْ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا وَرَأْسُهُمْ يَوْمَئِذٍ ابْنُ شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مِنْ خِلَافِ رَبِيعَةَ لِبَعْضِ مَا قَدْ مَضَى مَا قَدْ عَرَفْت وَحَضَرْت ، وَسَمِعْت قَوْلَك فِيهِ وَقَوْلَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ وَغَيْرِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ حَتَّى اضْطَرَّك مَا كَرِهْت مِنْ ذَلِكَ إلَى فِرَاقِ مَجْلِسِهِ .

وَذَاكَرْتُك أَنْتَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بَعْضَ مَا نَعِيبُ عَلَى رَبِيعَةَ مِنْ ذَلِكَ ، فَكُنْتُمَا مِنْ الْمُوَافِقِينَ فِيمَا أَنْكَرْت ، تَكْرَهَانِ مِنْهُ مَا أَكْرَهُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ رَبِيعَةَ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، وَعَقْلٌ أَصِيلٌ وَلِسَانٌ بَلِيغٌ ، وَفَضْلٌ مُسْتَبِينٌ ، وَطَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَمَوَدَّةٌ لِإِخْوَانِهِ عَامَّةً وَلَنَا خَاصَّةً رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ وَجَزَاهُ بِأَحْسَنَ مِنْ عَمَلِهِ .

وَكَانَ يَكُونُ مِنْ ابْنِ شِهَابٍ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ إذَا لَقِينَاهُ ، وَإِذَا كَاتَبَهُ بَعْضُنَا فَرُبَّمَا كَتَبَ إلَيْهِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ عَلَى فَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَلَا يَشْعُرُ بِاَلَّذِي مَضَى مِنْ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِي يَدْعُونِي إلَى تَرْكِ مَا أَنْكَرْت تَرْكِي إيَّاهُ .

وَقَدْ عَرَفْت أَيْضًا عَيْبَ إنْكَارِي إيَّاهُ أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ ، وَمَطَرُ الشَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَطَرِ الْمَدِينَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مِنْهُمْ إمَامٌ قَطُّ فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ ، وَفِيهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } وَقَالَ : { يَأْتِي مُعَاذٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ } وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ بِمِصْرَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَبِحِمْصَ سَبْعُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، وَبِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا وَبِالْعِرَاقِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَنَزَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ سِنِينَ ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ كَثِيرٌ ] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَطُّ .

وَمِنْ ذَلِكَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِهِ ، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّامِ وَبِحِمْصَ وَلَا بِمِصْرَ وَلَا بِالْعِرَاقِ ، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إلَيْهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ ، ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ كَمَا قَدْ عَلِمْت فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ وَالْجِدِّ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَالْإِصَابَةِ فِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِمَا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ رُزَيْقُ بْنُ الْحَكَمِ : إنَّك كُنْت تَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّا كُنَّا نَقْضِي بِذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ ، فَوَجَدْنَا أَهْلَ الشَّامِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَلَا نَقْضِي إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ قَطُّ لَيْلَةَ الْمَطَرِ ، وَالْمَطَرُ يَسْكُبُ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بخناصرة سَاكِنًا .

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقْضُونَ فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مُؤَخَّرِ صَدَاقِهَا تَكَلَّمَتْ فَدَفَعَ إلَيْهَا ، وَقَدْ وَافَقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ ، وَلَمْ يَقْضِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا الْمُؤَخَّرِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ فَتَقُومُ عَلَى حَقِّهَا .

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْإِيلَاءِ إنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ حَتَّى يُوقَفَ وَإِنْ مَرَّتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ ، وَقَدْ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرْوَى عَنْهُ ذَلِكَ التَّوْقِيفُ بَعْدَ الْأَشْهُرِ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : لَا يَحِلُّ لِلْمُولِي إذَا بَلَغَ الْأَجَلُ إلَّا أَنْ يَفِيءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ يَعْزِمَ الطَّلَاقَ ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنْ لَبِثَ بَعْدَ الْأَشْهُرِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يُوقَفْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالُوا فِي الْإِيلَاءِ : إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَابْنُ شِهَابٍ : إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ .

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ : إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ ، وَقَضَى بِذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُهُ ، وَقَدْ كَادَ النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَلَاقٌ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُهَا ، إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا فِي مَجْلِسِهِ فَيَقُولُ : إنَّمَا مَلَكْتُك وَاحِدَةً ، فَيَسْتَحْلِفُ وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ .

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ : أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا زَوْجُهَا فَاشْتِرَاؤُهُ إيَّاهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ، وَكَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ ذَلِكَ ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ عَبْدًا فَاشْتَرَتْهُ فَمِثْلُ ذَلِكَ .

وَقَدْ بُلِّغْنَا عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الْفُتْيَا مُسْتَكْرَهًا ، وَقَدْ كُنْت كَتَبْت إلَيْك فِي بَعْضِهَا فَلَمْ تُجِبْنِي فِي كِتَابِي ، فَتَخَوَّفْت أَنْ تَكُونَ اسْتَثْقَلْت ذَلِكَ ، فَتَرَكْت الْكِتَابَ إلَيْك فِي شَيْءٍ مِمَّا أُنْكِرُهُ وَفِيمَا أَوْرَدْت فِيهِ عَلَى رَأْيِك ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك أَمَرْت زُفَرَ بْنَ عَاصِمٍ الْهِلَالِيَّ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ - أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، فَأَعْظَمْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ وَالِاسْتِسْقَاءَ كَهَيْئَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا دَنَا مِنْ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ فَدَعَا حَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ، وَقَدْ اسْتَسْقَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا ، فَكُلُّهُمْ يُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ وَالدُّعَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَاسْتَهْتَرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِعْلَ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرُوهُ .

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ فِي الْخَلِيطَيْنِ فِي الْمَالِ : إنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّدَقَةُ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ ، وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّدَقَةُ وَيَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَكُمْ وَغَيْرِهِ ، وَاَلَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَلَمْ يَكُنْ بِدُونِ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِهِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَصِيرَهُ ابْنُ سَعِيدٍ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ : إذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَقَدْ بَاعَهُ رَجُلٌ سِلْعَةً فَتَقَاضَى طَائِفَةً مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي طَائِفَةً مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ ، وَكَانَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا تَقَاضَى مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا أَوْ أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بِعَيْنِهَا .

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّك تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْنِ وَمَنَعَهُ الْفَرَسَ الثَّالِثَ ، وَالْأُمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ إفْرِيقِيَّةَ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَك - وَإِنْ كُنْت سَمِعْته مِنْ رَجُلٍ مَرْضِيٍّ - أَنْ تُخَالِفَ الْأُمَّةَ أَجْمَعِينَ .

وَقَدْ تَرَكْت أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا ، وَأَنَا أُحِبُّ تَوْفِيقَ اللَّهِ إيَّاكَ وَطُولَ بَقَائِك ؛ لِمَا أَرْجُو لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَمَا أَخَافُ مِنْ الضَّيْعَةِ إذَا ذَهَبَ مِثْلُك مَعَ اسْتِئْنَاسِي بِمَكَانِك ، وَإِنْ نَأَتْ الدَّارُ ؛ فَهَذِهِ مَنْزِلَتُك عِنْدِي وَرَأْيِي فِيك فَاسْتَيْقِنْهُ ، وَلَا تَتْرُكْ الْكِتَابَ إلَيَّ بِخَبَرِك وَحَالِك وَحَالِ وَلَدِك وَأَهْلِك وَحَاجَةٍ إنْ كَانَتْ لَك أَوْ لِأَحَدٍ يُوصَلُ بِك ، فَإِنِّي أُسَرُّ بِذَلِكَ ، كَتَبْت إلَيْك وَنَحْنُ صَالِحُونَ مُعَافُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكُمْ شُكْرَ مَا أَوْلَانَا وَتَمَامَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا ، وَالسَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ .

----------------

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

" لاتخذت أبا بكر خليلا"

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ » . قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّى لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ ، إِلاَّ بَابَ أَبِى بَكْرٍ » رواه البخاري

أبو بكر أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَىَ جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَىُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ « عَائِشَةُ » . فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ فَقَالَ « أَبُوهَا » . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ « ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ » . فَعَدَّ رِجَالاً) رواه البخاري

شهادة الصحابة بأفضلية أبي بكر رضي الله عنه

عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ، ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضى الله عنهم) رواه البخاري

شهادة عليّ رضي الله عنه لأبي بكر

عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْتُ لأَبِى أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ . قُلَتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ . وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ قُلْتُ ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) رواه البخاري

بشارات لأبي بكر رضي الله عنه

عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ دُعِىَ مِنْ أَبْوَابِ - يَعْنِى الْجَنَّةَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ ، وَبَابِ الرَّيَّانِ » . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا عَلَى هَذَا الَّذِى يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ، وَقَالَ هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمُ ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ » رواه البخاري

الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي الخيلاء عن أبي بكر رضي الله عنه

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ ثَوْبِى يَسْتَرْخِى إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّكَ لَسْتَ تَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلاَءَ » رواه البخاري

إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستخلاف أبي بكر

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ . قَالَتْ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ . قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ « إِنْ لَمْ تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ » رواه البخاري

وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال سمعت  عمر ابن الخطاب - وذكر بيعة أبي بكر فقال: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر

وعن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت : من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف ؟ قالت : أبو بكر ، فقيل لها : ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت : عمر ، ثم قيل لها : من بعد عمر ؟ قالت أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا. رواه مسلم بإسناد صحيح

تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس

عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِى مَرَضِهِ « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّى بِالنَّاسِ » . قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِى لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ . فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَهْ ، إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ » . فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لأُصِيبَ مِنْكِ خَيْراً. رواه البخاري

قتال جبريل وميكائيل مع أبي بكر وعلي رضي الله عنهما

عن أبي صالح الحنفي عن علي قال: قيل لعلي ولأبي بكر يوم بدر مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل ، واسرافيل ملك عظيم يشهد القتال أو قال : يشهد الصف. رواه أحمد بإسناد صحيح

وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، ونزل بذلك قوله تعالى ( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )

شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالصديقية

عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم ، فقال ( أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) رواه البخاري

سبق أبي بكر إلى الخيرات

عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي ، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقتُهُ يوما فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أبقيت لأهلك ؟ فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أبقيت لأهلك؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله. قلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا ) رواه أبو داود بإسناد حسن، وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح

فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟

عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذاً بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ » . فَسَلَّمَ ، وَقَالَ إِنِّى كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَىْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِى فَأَبَى عَلَىَّ ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ « يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ » . ثَلاَثاً ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِى بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لاَ . فَأَتَى إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ، فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ . فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِى إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ . وَوَاسَانِى بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِى صَاحِبِى » . مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِىَ بَعْدَهَا

-------------------

ثمار من غرس النبوة

لفضيلة الشيخ محمد الشال - كلية الشريعة

ثم عرف الفُرس من أمر العَرب أنهم جادّون، وأنهم في غزوتهم ليسوا طلاب إغارة للتزوّد بزاد أو التبلّغ  بمقام؛ فقد وضعوا أيديهم على الكثير من سواد العراق، وهم وإن تريّثوا في الغزو فليس ذلك عن ضعف أو بلوغ غاية، ولكنهم يروون رأيهم ويجمعون جموعهم ويتلمسون نبأ أعدائهم، وقد قابل الفرس نبأ غزو العرب باستخفاف المتكبّر وسخرية المستخفّ، فما كان للعرب في ماضيهم دولة ولا كان لهم في حياتهم هدف، بل كان أمرهم مضيّعا مع هوى الفرس تارة وهوى الروم أخرى، وإنهم راضون من حياتهم بانتجاع الكلأ وتلمّس المرعى والرضا بالكفاف وتوسّد الخيال الشعريّ المهدهد على الأمل والمروّض على الحبّ؛ فما بالهم يغِيرون ولا يخافون، ويغزون ولا يتردّدون، ويقيمون ولا يرجعون، ثم تبلغ بهم الجرأة أن يطلعوا النّزال وأن يراجعوا الرأي.

وهل في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ما يحي الموات وينبت الأجادب، ويجمع الشتات ويوحّد الرأي، ويقضي على الهوى ويحدّد الأهداف، ويستخفّ بالملك العريض والجاه الواسع، وما كان لأهله من ملك ولا لجماعته من تاريخ؟‍‍!.

نعم راجع الفرس الرأي فيما بينهم، ثم استقرّ أمرهم على لقاء العرب على كره، ونزالهم على هون؛ فجمعوا الجموع القاضية والجيوش الساحقة؛ حتى يبيدوا من العرب الجمع القليل، ويقضوا على الأمل العريض، ثم يتّبعونهم في ديارهم؛ ليبدّدوا منهم الأحلام ويفرقوا منهم الكلمة، ويعيدوهم إلى سيرتهم الأولى من انتجاع الكلأ وتلمّس المرعى واستجداء ذوي الثراء، والميل مع الأهواء.

وخرجت جيوش الفرس بقيادة أعظم قوادهم (رستم)، يحفّ به أمراء للجند مترفون، واتّخذوا أماكنهم غربيّ الفرات على أبواب القادسيّة، ومن ورائهم الثراء العريض والمدن العامرة، وجعلوا بينهم وبين جيش المسلمين رافدا من روافد الفرات يعلوه جسر؛ لسهل حراسته والذود عنه.

ومن ينظر إلى الجيش الكثيف والجند العديد لا يخال إلا أنهم سيقضون على العرب في غدوة نزال أو روحة منه، ولكنهم يقيمون ويطول بهم المقام حتى ليحار الناظر من عددهم وعدّتهم، والمتطلع إلى جيش العرب وعدته، ويتساءل: ما الذي يمنع الفرس من منازلة العرب وليس لهم في ماضيهم جولة مع الفرس رجعوا منها بهزيمة، أو آبوا منها بنصر؟! نعم ما الذي يمنعهم من نزالهم والعدد العربي قليل والزاد يسير والعتاد خفيف؛ والتردّد في اللقاء إنما يكون عند تعادل الجيشين لكل منهما لا يبدأ بحرب عسى أن لا يصبر الخصم على طول الإقامة مع كمال الأهبة؛ فيرضى من الغنيمة بالسلامة ويسعد من المعركة بالعافية؟!.

ويرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر أن القوم لم يبدأوا بنزال، وقد طال المقام واستمرّ التأهب!، ولكن الخليفة الحكيم يأمر قائده بالتريّث والانتظار، ويطلب منه أن لا يبدأ بعدوان، وألا يَملّ من طول المقام.

ونجد أوامر عمر من نفس سعد ونفوس المسلمين سعة وقبولا؛ فيصابرون العدوّ حتى ينفذ صبره، ويطاولونه حتى يمل مقامه؛ فيرسل إلى سعد أن أرسل إلي مِن رسلك مَن نبادله الرأي، ويجمع سعد مجلس الشورى من خاصته، ويعرض عليهم أن تذهب منهم طائفة إلى رستم؛ يبسطون له دعوتهم ويحددون لهم هدفهم، ويتقدم ربعي بن عامر ويقول لسعد: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتِهم جميعا يرَوْا أنا قد احتفلنا بهم؛ فلا تزدهم على رجل! فوافقه الجمع، وأمره سعد بأن يذهب إلى رستم.

فيركب فرسا له قصيرة غير مظهمة ولا فارِهة، ومعه سيفه المرهف مغمورا في لفافة من ثوب خَلِق، ورمحه غمده من أديم بال، وترسه من أديم البقر، ودرعه وعمامته مما يجلل به فرسه عند امتطائه.

فلما وصل إلى الجسر حبسه حرّاسه حتى يستأذنوا له، وأرسلوا إلى قائدهم، وعرف من أمره أنه رجل واحد، ولكنه جمع له مجلسه ليستشيرهم في لقاء العربي البادي؛ فأشاروا عليه بأن يهيّئ له من المظهر ما يأخذ بالنفوس إن كانت كنفوسهم، ويرهب الأفئدة إن كانت كأفئدتهم، ويعقد الألسنة إن كانت كألسنتهم، ويغشى الأبصار إن كانت كأبصارهم.

وحسبوا أن هذا المظهر المترف سيكون له في نفس العربي الذي لم يألف النعمة ولم يتقلب في مظاهر الثراء وقعٌ أبلغ من وقعه في نفوسهم؛ إن لم يكن من مبالغة التقدير فسوف يكون من غفلة المفاجأة، ويأمر رستم بأن تبسط البسط وأن تصفّف النمارق، وأن يكثروا من مظاهر الثراء وآثار النعمة، وأن يوضع له سرير من ذهب، ثم يلبس القائد زينته ويتكئ على الوسائد المنسوجة من الذهب.

وأقبل ربعي بن عامر يسير، وهو راكب فرسه، في وسط جموع من جند الفرس وحرس القائد، وهم ينظرون إلى مظهره وبزّته وسلاحه وعدّته في كثير من الاستخفاف أو كثير من الإشفاق، ولعلهم كانوا يتهامسون إذا كان هذا رسول العرب فما أخفّ وزنهم وما أقل شأنهم، ولعلّ غاية العرب أن نَكْسوا عريهم البادي، وأن نشبعهم من جوع ونرويهم من ظمأ.

وربعي لا يلتفت إلى الأبصار الشاخصة، ولا يستمع إلى النفوس الهاجسة، ولكنه يسير على سمته لم ترهبه كثرة الجمع ولم يؤخذ بمظاهر الثراء؛ فلما وصل إلى أدنى البسط قيل له: انزل عن فرسك! فأصمّ أذنيه عن الأمر الذليل، وهمز فرسه؛ فسارت على البسط الوثيرة حتى استوت عليها، ثم نزل عنها وربطها بوسادتين من وسائد الحرير المنسوج بالذهب؛ عمد إليهما فشقّهما ثم أدخل الحبل فيهما.

ولقد عقدت المناجأة والجرأة ألسنة القوم وقائدهم؛ فلم يمنعوه وإن أنكروا عليه، وتقدّم إليه أحدهم وقال له: ضع سلاحك! فقال له: إني لم آتيكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني؛ فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت؛ فأخبروا رستم بمقالة ربعي، فقال: ائذنوا له! هل هو إلا رجل واحد؟!.

ونظر ربعي إلى سمات القوم فوجد عليها سحابات من الغيظ المكبوت والحقد المتأجّج؛ فأراد أن يزيد النار ضراما؛ فأقبل يتوكّأ على رمحه يمشي وئيدا قريب الخطو وهو يزجّ النمارق والبسط برمحه؛ فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركه متهتّكا مخرقا، فلما دنا من رستم تعلّق به الحراس؛ فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط؛ فقالوا له: ما حملك على هذا؟ قال: إنّا لا نحبّ القعود على زينتكم هذه.

وعرف القوم أنهم أخطأوا التقدير حينما حسبوا أن مظاهر النعمة ستبهر ابن الصحراء أو تشتّت عليه رأيه أو تروّع منه فؤاده، وعرف ربعي ما يهدف إليه القوم من المبالغة في إظهار مظاهر الثراء وأسباب الترف، وما خرج ربعي بفعله عن آدابه أو حاد عما تدعوه إليه أخلاقه، ولكنه أراد أن يبصر القوم بغايته قبل أن يتكلم بها، وأن يعرفهم أن هذه المظاهر قد رانت على قلوبهم؛ فلم يصل إليها نداء لحرية أو صوت يدعو إلى كرامة، أو دعوة تحثّ على مساواة، وأنّهم واهمون إن ظنوا أن غاية ربعي ومن خلفه طلب شيء من دنياهم أو الظفر بشيء من ديارهم.

ويقول رستم لربعي: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منّا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نقضي إلى موعود الله. قال له رستم: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبّ إليكم؛ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.

وأراد رستم أن يقرب ربعيا منه وأن يدنيه، وأن يحسن له القول ويزيّن له الحديث؛ لعلّه يجد منه إيناسا به أو ركونا إليه؛ فيمنّيه أو يَعده؛ لعله بهذا يرجع إلى قومه بوجه غير الذي جاء به، ولكن ربعيّا يبدّد الوهم بالجد من القول، فيقول: إن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا أن لا نُمكّن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجّلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث؛ فنحن متردّدون عنكم ثلاثا، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكفّ عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، وأنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلي جميع من ترى من قومي! قال: أسيّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد لبعضهم من بعض؛ يجير أدناهم على أعلاهم، وخلا رستم برؤساء قومه وقال لهم: ما ترون؟ هل رأيتم كلاماً قطّ أوضح ولا أعزّ من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى دين هذا الأعرابي الجائع! أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخفّ باللباس والمآكل ويصونون الأحساب، وهم ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون.

وعجب القوم من كلام قائدهم، وظنوا به الظنون في تقديره للعرب مثل هذا التقدير، وأرادوا أن يؤيّدوا ظنهم أو يدفعوا وهمهم؛ فتقدموا إلى ربعي وتناولوا سلاحه وهم يزهّدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم، ثم أخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار، فقال القوم: أغمده! فغمده، ثم رمى ترسا لهم فخرقه، ورموا هم وقايته من الأديم فسلمت، فقال لهم: يا أهل فارس إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب، وإنا صغرناهن.

وعرف الفرس حينما رأوا بريق سيفه أن له مضاء ولصاحبه عزيمة، فأسرعوا إلى طلب إغماده، كما رأوا عندما انخرق ترسهم وسلمت وقايته مع تفاوت الصلابة أن الذي خرق ترسهم إنما هي قوة عزيمة ربعي وصلابة إيمانه بدعوته، وأن الذي حفظ ترسه الجلدي من رميهم إنها رمية الأذلاء المستضعفين، وأنّى للنفوس الذليلة أن يكون لها قوة، وللمستضعفين من الناس أن يكون لهم مضاء.

ثم رجع ربعي إلى أن ينظر إلى الأجل؛ فلما كان من الغد بعثوا: أن ابعثوا إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن؛ فأقبل في بذة صاحبه وهيأته وسمته وسلاحه، وعملوا له كما عملوا لصاحبه، وعمل هو معهم مثل ما عمله صاحبه؛ فلما وقف على رستم قال له: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي، ثم سأله رستم عما جاء بهم؟ فما زاد ولا نقص عن قول ربعي، فسأله الموادعة إلى أجل؟ فقال له: لكم ثلاثة أيام من أمس، فلما لم يجد عنده إلا ذلك ردّه، وأقبل على أصحابه فقال لهم: ويحكم ألا ترون إلى ما أرى؟ جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على ما نحفل به غالي الحرير وربطه به، وقد ذهب إلى قومه في يمن الطائر مع فضل عقله، وجاءنا هذا اليوم فما رأينا منه إلا ما رأينا من صاحب الأمس، ثم رجع كما رجع أخوه؛ فأغضبهم وأغضبوه، فلما كان من الغد أرسل: أن ابعثوا إلينا رجلا آخر منكم؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة، فعملوا له مثل ما عملوا لصاحبيه، وعمل هو معهم مثل ما عمل صاحباه، ثم زاد أن جلس على سرير رستم واتّكأ على وسادته؛ فوثبوا عليه وأنزلوه، وحقروا فعله وشأنه؛ فلم يغضب المغيرة مما فعل به، ولعلّه أراد أن يرى من فعالهم ما يكون فيه الدليل على مهانتهم وذلتهم وسفاهة رأيهم، ثم يريهم من أمر العرب فيما بينهم ما تتوق إليه نفوسهم، وما يؤلّب عامّتهم على خاصّتهم؛ فيكون عمل بعمله هذا فوق ما يعمله جيش قوي العتاد كثير الجند، فلما رأى منهم ما رأى قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء؛ لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، وأنا لم آتكم ولكنكم دعوتموني، اليوم علمت أن ريحكم ذاهبة وأنكم مغلبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول.

وبلغ المغيرة بمقالته ما أراد، وحقّق لنفسه ما قصد، فوصلت مقالته إلى نفوس ظامئة إلى الحرية وإلى قلوب مطوية على ضغينة، وهي وإن تظاهرت بالرضا فما ذلك إلا لضعف حيلتها أو فقدان قيادتها، وقال المستضعفون: صدق والله العربي! وقال السادة: والله لقد رمى العربي بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه! ثم قالوا: قاتل الله من سبق منا؛ ما كان أحمقهم حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمة، ثم مازحه رستم ظنا منه أن المغيرة قد كره ما حصل من قومه، ثم مدّ رستم يده إلى كنانة المغيرة فأخرج منها سهما وقال له: ما هذه المغازل التي معك؟ فقال له المغيرة: ما ضرّ الجمرة ألا تكون طويلة؟! ثم قال: وما بال سيفك رثّا؟ قال: رثّ الكسوة حديد المضربة!، واستنبأه نبأ قومه، فقال مقالة صاحبيه، ولكنه تخير من اللفظ ما يثير الحميّة حتى يفضحه على المطاولة، وما ترك رستم إلا وهو متوعّد ومنذر.

ولما انصرف المغيرة خلا رستم بخاصته بعد أن رأى من أمر العربي الجدّ الجادّ فقال لهم: أما ترون من أمر هؤلاء القوم أنهم لم يختلفوا، وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا؟! هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من أربهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ مما أرادوا منهم، ولئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء.

ولقد ترك المغيرة القوم وقد اختلط عليهم الأمر وتشتت منهم الرأي وتنازع الهوى؛ فالسادة يودّون الإبقاء على أبّهة الحكم والسلطان والرئاسة، والعبيد سمعوا نداء الحرية التي ينزعون إليها، وعرفوا أنهم إن فاتتهم الفرصة المواتية على أيدي المسلمين اليوم فقلّ أن تعود.

ورأى القائد وذوو الرأي معه بوادر التمرّد تسري في جنبات جيشه، فأمر بالقيود والسلاسل فقيدت بها الجند وشدّت بها الرجال، وأنّى لمكره أن يدافع عن ديار؟!، وأنّى لمستعبد أن يدافع عن أوطانه، وليس له في هذا الوطن رأي مسموع ولا حق مصان ولا حياة كريمة؟!.

وما عرف الفرس أن القلوب إذا طويت على ضغن من طول الإذلال فقلّ أن تستجيب لنداء أو تحفّ لنجدة، وما غناء مَن قُيّد بالقيود وقُرِن في السلاسل في الدفاع عن الأوطان والذود عن الحمى؟!.

ولقد كشف ربعي وأخواه للفرس عما يدور في المجتمع الجديد من حرية في الرأي ووحدة في الهدف وسموّ في المقصد، وأعلموهم أنهم وإن لم يكن لهم في التاريخ صفحات، ولا بين الأمم وزن إلا أنهم من اليوم سوف يكون لهم منهج من الحرية الصادقة؛ يأخذون أنفسهم به وينشرونه في الناس، وأنهم إن جاءوا إلى بلادهم اليوم وإن ذهبوا إلى بلاد غيرهم غدا فهم لا يتطلّعون فتحا لاغتصاب أرزاق ولا لاستعباد شعوب ولا لاحتلال ديار، وإنما هم يرفعون راية حرية الإنسان أينما حلّوا، وأنهم لِسموّ ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم - من توحيد الكلمة ونكران الذات وحرية الرأي وأخوة الإنسان لأخيه - لم يرضوا أن يعيشوا ناعمين بالحرية وغيرهم يرسف في أغلال العبودية، وأن الإنسانية التي طال عليها الظلام لا بدّ لها من نور ساطع قويّ ينفذ إلى النفوس المظلومة؛ فيضيء لها السبيل ويوضح الطريق ويحدّد الغاية، وأن العرب قد حملوا الأرواح على الأكفّ في سبيل دعوة الحقّ والعدالة؛ فمن مات في سبيلها مات ونفسه راضية لأنه يدافع عن مبادئ الإسعاد للإنسانية، ومن بقي منهم سرّه أن ينعم الناس بما ينعم به.

ونحن في هذه الآونة التي تمرّ بالعرب والمسلمين نحتاج إلى الكثير من أمثال ربعي وأخويه، والرأي لا ينضج إلى في ظلال الحرية والإيمان لا يقوى إلا في كنف الرحمة، كما نحتاج إلى الكثير من أمثال سعد ممّن يأخذون أمرهم بالشورى المبرّأة من الإرهاب، البعيدة عن الإعجاب بالرأي والاستبداد به؛ لأنه لا يستقيم أمر أمة استبدّ قادتها برأيهم، أو أرهبوا غيرهم حتى لا يجهروا برأي، والطريق لا توضح معالمه إلا إذا كثرت السواعد المتعاونة على تمهيده، وتبودلت الآراء في حرية تامة وأمن كامل.

أما أن نقتل في النفوس حبّ الخير بالإرهاب، أو نقضي على الآراء الناضجة بالإهمال، أو نَحول بين الناس وبين إبداء آرائهم بالقسوة؛ فإن هذا أمر يجعل اليأس يتطرّق إلى القلوب؛ فلا تُخلص النصح ولا تنطوي على محبة، وقلّ أن يرتفع شأن أمة وقلوب بنيها متنافرة من القسوة أو متعادية بسبب الحرمان.

-----------------

 فتح العرب للأندلس

لفضيلة الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي

كلية الدعوة وأصول الدين

بعد أن تمّ لموسى بن نصير فتح بلاد المغرب، وبعد استقرار الإدارة العربية في شمال إفريقيا أخذ يتطلع لفتح أسبانيا، وبدأ يعدّ من مدينة القيروان الخطط لنشر الإسلام في هذه البقعة من أرض أوربا، ويجمع الأخبار عنها، ويستفسر عن أحوالها، وصارت مدينة طنجة مركز عمليات موسى بن نصير في تلك المرحلة الاستطلاعية؛ بسبب قربها من أسبانيا، ولموقعها المباشر على بحر الزقاق (مضيق جبل طريق) المؤدي إلى تلك البلاد الأوربية، وأقام في طنجة منذ تَمّ فتحها أشهر قادة البربر المسلمين؛ وهو طارق بن زياد الذي صار الساعد الأيمن لموسى بن نصير في إعداد خطة فتح أسبانيا، وفي سائر العمليات الحربية الكبرى التي تطلبها تنفيذ تلك الخطة.

وساعد طارقا في تلك المرحلة عاملان: أوّلهما أنه من البربر؛ السكان الأصليين لإفريقية والخبيرين بأحوال أسبانيا، وما حفلت به من خيرات وثروات، وثانيهما: أنه ثمرة من ثمار القوة الجديدة للدولة العربية الإسلامية؛ فهو من قبيلة نفزاوة، ومن أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناق الإسلام؛ إذ أسلم والد طارق أيام عقبة بن نافع الفهري، والتحق هو بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السن، ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدين الإسلامي، الأمر الذي جعله من أشدّ المقرّبين إلى موسى بن نصير، ومن الطبقة الأولى من رجال البربر الذين اختصّهم بسرّه وثقته المطلقة، وأشركه مشاركة عملية في رفع راية الإسلام، وأثبت طارق بن زياد أنه خير أمين على تنفيذ خطط موسى بن نصير التي بدأ يعدّها لفتح أسبانيا؛ ذلك أن موسى بن نصير - بعد أن فتح طنجة - اتجه إلى مدينة سبتة التي كان يحكمها إذ ذاك رجل من الروم يدعى يوليان، ولكن هذه المدينة استعصت عليه؛ فآثر إرجاء الاستيلاء عليها، وكلّف طارق بن زياد الذي عيّنه على طنجة مهمّة الاتصال بهذا الحاكم وجعل مدينة سبتة نافذة يطلّ منها المسلمون على أسبانيا ودراسة أحوالها، وكشف موسى بن نصير بذلك عن مقدرة سياسية فائقة حين آثر العمل في هذه المرحلة بطريق غير مباشر، وتقديم طارق بن زياد للقيام بالعمل في هذه الجبهة؛ ذلك أن طارقا كان أقدر على الاتصال بالبربر التابعين لحاكم سبتة، وكلهم ممن خبروا أسبانيا وانتقلوا بين أرجائها، ولم تلبث تطورات الأوضاع في سبتة أن هيّأت لطارق بن زياد السير قدما في سبيل تنفيذ خطط موسى بن نصير؛ فقد رأى يوليان حاكم سبتة أن الحكمة تفرض عليه التقرّب من القوة الإسلامية الجديدة التي صارت تجاور أملاكه مباشرة، وأن يقيم معها علاقات ودّية تعوّضه عن الضعف الذي دبّ إلى سلطانه في سبتة، وكان يوليان أصلا عاملا من عمّال دولة الروم، وحكم إقليم مرطانية الطنجية بحكم كونه قائدا عامّا مفوّضا من قبل الامبراطور، وتولّى يوليان إدارة هذا الإقليم وهو صغير السن، ثم طال به الزمن دون أن تتمكّن دولة الروم من عزله أو استبدال غيره به؛ بسبب انشغالها بالحروب ضد العرب المسلمين الفاتحين في شمال أفريقيا، وأصبح يوليان مطلق التصرف في ولايته، وله صلات ودّية كثيرة مع أهلها من البربر وزعماء القبائل المجاورة له؛ حتى صار خبيرا بتقاليدهم وعاداتهم، وأجاد القيام بها إلى درجة جعلته يبدو كأحد أبناء البلاد الأصليين، لا تابعا لإمبراطورية الروم، ولا يمكن كشف حقيقة لونه السياسي في سهولة ويسر؛ فاختلط على كثير من المؤرخين أمر يوليان حتى ذكر البعض أنه من البربر، على حين قال البعض الآخر إنه من القوط دون أن يفطنوا إلى تبعيّته أصلا لإمبراطورية الروم، ولما انهار سلطان الروم في إفريقية بعد الفتوح العربية أخذ يوليان يعمل على تقوية روابطه بدولة القوط في أسبانيا على نحو ما فعل مع جيرانه من البربر؛ ليدعم مركزه ويحفظ أملاكه، ورحّب ملك القوط إذ ذاك - واسمه غيطشة - بولاء يوليان؛ بسبب أهمية سبتة لحماية دولته؛ فهي تتمتع بمركز جغرافي فريد يجعلها مفتاح أسبانيا والحارس الذي يحميها من هجوم قد يشنّ عليها من الجانب الإفريقي؛ فهي قبالة الجزيرة الخضراء من أرض أسبانيا، وتسيطر على المياه التي بينها وبين تلك الرقعة الأسبانية، هذا وتتمتع أسبانيا بموقع طبيعي يجعلها حصنا منيعا في استطاعته أن يقاوم زمنا طويلا أيّ هجوم مفاجئ قد تتعرض له؛ فيوجد على بعد ميلين منها جبل موسى (نسبة إلى موسى بن نصير)، كما يحيط ماء البحر بها من ثلاث جهات مما زاد في مناعتها وقوتها، هذا إلى أنه قام على مقربة منها دار لصناعة السفن التي استخدمت في العبور إلى الأندلس.

ورأى يوليان على الرغم من دعم صلاته بدولة القوط في أسبانيا أنّ تطوّر الأوضاع في بلاد المغرب واستقرار الفتوح الإسلامية بها يفرض عليه حسن الجوار مع الإدارة العربية الجديدة وتجنّب الاصطدام بها؛ ولذا رحّب يوليان بسياسة موسى بن نصير الذي آثر عدم الاستمرار في الاستيلاء على سبتة، وكان موسى قد ترك لقائده طارق بن زياد في طنجة مهمة تنظيم علاقة الجوار مع حاكم هذه المدينة الهامّة الذي يعتبر مفتاح بلاد الأندلس، ونجح طارق في دعم صداقته ليوليان، وبدأ يطلّ من هذه المدينة على أسبانيا ويدرس أحوالها دون أن يثير مخاوف القوط أو يبعث الريبة في نفوسهم باستعدادات المسلمين الحربية، وسارت الأمور بعد ذلك في سبتة بما ساعد موسى بن نصير على أن يكمل دراسته الخاصة بفتح أسبانيا ويعرف المزيد من الأخبار التي تهيّئ للمسلمين القيام بفتوحهم في هذا الميدان الجديد؛ وسبب ذلك أن دولة القوط في أسبانيا تعرّضت لاضطرابات شديدة تردّد صداها في مدينة سبتة، ودفعت بحاكمها يوليان إلى الانتقال من سياسة حسن جواره للمسلمين إلى سياسة التحالف والاتّفاق على تحقيق المصالح المشتركة بينهما، ذلك أن أحد كبار رجال القوط - واسمه رودريك، وهو الذي عرفه العرب باسم لوذريق - استطاع أن يطيح بالملك الحاكم وهو غيطشة، ثم اعتلى العرش، ولم يكتف لوذريق بذلك وإنما أخذ يعمل على إنزال أشدّ ألوان الأذى بأبناء غيطشة وسائر آل بيته، وآتت هذه السياسية الخرقاء من جانب لوذريق ثمرة لم يكن يتوقعها على الإطلاق؛ ذلك أن أبناء غيطشة حين اشتدت بهم المتاعب وسدّت في وجوههم السبل أخذوا يلجئون إلى جهة أخرى يستمدون منها العون والمساعدة على استرداد حقّهم المسلوب، وكان موسى بن نصير قد بدأ يتطلّع إلى أسبانيا عن طريق نافذة سبتة، ولم تلبث الأحداث أن جعلت سبتة تقوم بدور مباشر في نقل صورة كاملة عن تلك الأحوال السائدة في أسبانيا إلى موسى بن نصير، فضلاً عن قيامها بدور الوساطة بين أبناء غيطشة وموسى بن نصير، ووجد أبناء غيطشة من يوليان حاكم سبتة رسولا إلى موسى ابن نصير، وساعِدا ومعاضدا لمشاريعهم؛ بسبب سوء العلاقات التي وقعت إذ ذاك بين هذا الحاكم وبين لوذريق، وتذكر المراجع أن سبب سوء العلاقات يرجع إلى اعتداء لوذريق على شرف ابنة يوليان التي كانت تتعلّم في طليطلة، وكانت العادة قد جرت على أن يبعث كبار رجال الدولة من القوط بأبنائهم إلى طليطلة ليتأدّبوا بآداب البيت المالك، وليكون ذلك سبيلا لتأليف القلوب.

وأسهبت المراجع في قصة ابنة يوليان؛ فوصفتها بأنها بارعة الجمال، فلما صارت عند لوذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبّها حبّا شديدا، ولم يملك نفسه حتى أكرهها، فاحتالت حتى أعلمت والدها بذلك سرّا بمكاتبة خفيّة؛ فأحفظه شأنها جدّا واشتدّت حميّته وقال: ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه، ولأحفرنّ تحت قدميه! ورأى يوليان أن يحتال أوّلا لاستدعاء ابنته من بلاط لوذريق؛ فخرج بنفسه في يوم من أيام الشتاء البارد دون أن يأبه بمخاطر الطريق، وعندما وصل إلى طليطلة أوجس منه لوذريق خيفة بسبب حضوره في ذلك الوقت غير الملائم، وسأله عمّا لديه، وما جاء فيه، ولِمَ جاء في مثل وقته؟ فأجاب يوليان بأن سبب حضوره هو أن زوجته مريضة مرض الموت، وأنها في شدّة شوقها لرؤية ابنتها التي هي عنده، وتمنّيها لقاءها قبل الموت وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنه أحبّ إسعافها ورجا بلوغ أمنيتها منه، وانخدع لوذريق بهذه الحجّة وسمح لابنة يوليان بالعودة إلى أبيها بعد أن استوثق منها بألا تطلعه على ما حدث بينهما.

وبعد أن استقرّ يوليان ومعه ابنته في سبتة بدأ يكشف نواياه صراحة، وأخذ يساعد أبناء غيطشة والعناصر المناوئة للوذريق في أسبانيا، فأعدّ يوليان حملة نزلت بأسبانيا، واشتركت مع الثوّار في أعمالهم الحربيّة، لكن قوّات لوذريق استطاعت الحصول على النصر، ودمرت حملة يوليان واضطرّتها للعودة إلى سبتة، وما أن انتهت هذه الحروب في أسبانيا عن فوز لوذريق حتى أيقن يوليان أنه لم يعُد أمامه مفرّ من الاتجاه نحو السلطات العربية في القيروان وطلب مساعدتها ضدّ لوذريق، واتصل يوليان بطارق بن زياد طالبا مساعدة العرب له ضدّ لوذريق، ونقل طارق أخبار المفاوضات التي دارت بينه وبين يوليان إلى موسى ابن نصير الذي وجد أن الوقت قد حان لفتح الأندلس، ثم تحقّق موسى من صدق ما نقله إليه طارق حين ذهب يوليان نفسه إلى القيروان ليعرض وجهة نظره على السلطات العربية هناك؛ إذ أكّد يوليان لموسى بن نصير الخير الوافر الذي سيعود على العرب من القيام بغزو الأندلس ومساعدتهم له ضدّ لوذريق، ووجد موسى بن نصير أن كلّ الظروف قد أصبحت سانحة للانتقال إلى ميدان جديد حافل بالمجد والفخار، وأعلن موافقته على مساعدته ضدّ لوذريق، واستطاع بذلك أن يستفيد من الموقف السياسي الذي ساد حكام الأندلس، وأن يسخره لخدمة الجيوش الإسلامية المجاهدة.

وكتب موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح تلك البلاد، ويشرح له اضطراب أحوالها وأنّ الفرصة غدت مواتية بعد مؤامرة يوليان ضدّ لوذريق، غير أن الخليفة أمر موسى بأن يختبر الأندلس ويدرس أحوالها بنفسه بإرسال حملات استطلاعية إليها، وعهد موسى بن نصير إلى يوليان نفسه القيام بإغارة على جنوب أسبانيا ليتحقّق بذلك من أمرين: أولهما أن يوليان جادّ في دعواه ضدّ لوذريق، وكراهيته له ولحكومته في أسبانيا، وثانيهما: أن يعرف مِن المقاومة التي يتعرض لها يوليان مدى قوّة القوط وما لديهم من استعداد حربي، وقام يوليان فعلا بإغارة سريعة على جنوب أسبانيا، ورجع منها محمّلا بالكثير من الغنائم والسبي.

 

فتح جزيرة طريف:

وأراد موسى بن نصير أن يقف بعد ذلك بنفسه على أحوال أسبانيا؛ فأعدّ حملة من المسلمين جعل على رأسها أحد قادته المشهورين بالمغامرة والشجاعة، وهو أبو زرعة طريف ابن مالك؛ فبعث هذا القائد إلى الأندلس في أربعمائة من خيرة الفدائيين، وذلك على سفن قدّمها لهم يوليان، ونزل المسلمون في جزيرة صغيرة اسمها بالوماس، وهي التي صارت تحمل بعد ذلك اسم القائد المسلم وعرفت بجزيرة طريف، وبادرت قوّة مكونة من أبناء غيطشة التي اشتركت في الحملة إلى مساعدة المسلمين وحراسة المضيق، وذلك في شهر رمضان عام 92هـ يوليو 711م، وشنّ طريف من مركزه بتلك الجزيرة عدّة حملات استطلاعية على سواحل أسبانيا الجنوبية، حيث درس تحصيناتها وعرف الكثير من أحوال أهلها ومدى علاقتهم بحكامها من القوط، وأخيرا عاد طريف إلى بلاد المغرب؛ فقدّم تقريرا مفصّلا عن إغاراته إلى موسى بن نصير، وشرح له في إسهاب أحوال أسبانيا، وقد أكّدت غارة طريف لموسى بن نصير صدق الأقوال التي نقلها إليه يوليان عن انهيار الأحوال في أسبانيا وافتقارها إلى أسباب الدفاع؛ بسبب انشغال القواد بملاذهم وانصرافهم إلى أعمال الطغيان وسلب ثروات البلاد لأنفسهم؛ فلم يلق طريف نوعا من أنواع المقاومة، كما لم يقابل قوّة من قوات القوط أثناء استطلاعه لأحوال جنوب أسبانيا، هذا إلى أن مبادرة أفراد بيت غيطشة إلى مساعدته وحراستهم لخطوط مواصلات المسلمين جاء دليلا واضحا على الانقسام الذي ساد الطبقة الحاكمة من القوط، وأن لوذريق لا يحكم إلا بالعنف والقسوة، وهو أمر لن يكفل له مقاومة المسلمين طويلا عندما يبدأ الفتح الإسلامي للبلاد، هذا إلى أن يوليان برهن مرة أخرى بما قدّمه من مساعدات لحملة طريف على أنه كاره فعلا للوذريق، وأن المؤامرة التي دبّرها مع أبناء غيطشة ضدّ هذا الحاكم المستبدّ مؤامرة لها خطرها، وأن خيوطها صحيحة وسليمة.

وبعودة حملة طريف انتهى موسى بن نصير من دور الحملات الاستطلاعية، وبدأ الإعداد الفعلي للفتح المنظّم لأسبانيا، وأثبت موسى بن نصير مقدرة حربية فائقة في هذا السبيل؛ إذ دارت الاستعدادات الحربية التي قام بها دون أن يتسرّب أمرها إلى القوط، ودون أن يتنبّه يوليان نفسه إلى حقيقة أهدافها وجوهر مراميها؛ فقد استطاع موسى بن نصير أن يوهم يوليان بأن استعداداته الواسعة النطاق التي أعقبت حملة طريف ما هي إلا حملة قوية لمساعدة أبناء غيطشة ضدّ لوذريق، وأخفى عنه تماما أنها ستكون الحلقة الأولى في سلسلة الفتح المنظّم لأسبانيا، وأعدّ موسى بن نصير حملة مكوّنة من خمسة آلاف جندي حتى لا يثير كثرة عددها ريبة يوليان أو مخاوفه، وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير في ذلك الإعداد على النهج الذي سارت عليه الفتوح الإسلامية الكبرى في شتىّ الجهات، وهو القيام أوّلا بإرسال حملة صغيرة العدد يتبعها إمدادات لا تنتهي - سواء من حيث الكثرة أو حسن الاستعداد - حتى يتم تحقيق الأهداف الحربية، وانتدب موسى لقيادة هذه الحملة الأولى على الأندلس أحسن قادة المسلمين إذ ذاك وأشدّهم ثقة به وهو: طارق بن زياد.

جاء اختيار موسى بن نصير لطارق بن زياد لقيادة هذه الحملة خطوة موفّقة، وأكّد بُعد نظر موسى وسعة خبرته الحربية؛ فطارق من البربر الذين عرفوا أرض الأندلس معرفة وثيقة؛ لأنهم يرونها امتدادا لبلادهم لا فارق بين بيئتها وبيئتهم، يضاف إلى ذلك أن طارقا هو الذي تولّى بنفسه جمع المعلومات عن بلاد الأندلس، وتولّى مفاوضات يوليان، وصار خبيرا بالميدان الجديد في سائر نواحيه الحربية والسياسية، وعمل موسى بن نصير على أن يشدّ أزر طارق الذي عهد إليه بالقيادة العليا للحملة؛ إذ ضم إليه هيئة من كبار رجال الحرب من العرب والبربر ليكونوا بمثابة مجلسه الاستشاري ومساعديه في إدارة المعارك، ومن أولئك القادة العرب: عبد الملك بن أبي عامر المغافري، وعلقمة اللخمي، وأحد موالي الخليفة الوليد بن عبد الملك واسمه مغيث الرومي، وكان القائد الأخير يعتبر مندوب الخلافة الحربي في تلك الحملة التي أعدّها موسى بن نصير، وحلقة الاتصال بين السلطات المركزية في دمشق ومقرّ القيادة الإسلامية في القيروان، وكلّف موسى بن نصير بعد ذلك يوليان بأن يقدّم للقوات الإسلامية السفن اللازمة لنقلها إلى أسبانيا، كما يتولى حراستها ويقوم بمهمة الدليل لها، وكان السبب في إصرار موسى بن نصير على الاعتماد في نقل الجند بسفن يوليان هو حرصه الشديد على إخفاء تحركات هذه الحملة عن العيون والجواسيس؛ فالأسطول الإسلامي كان قد تمّ إعداده على عهد موسى بن نصير وصارت له قاعدة هامة في تونس، كما ظهر نشاطه في السيطرة على الجزر الهامة في غرب البحر المتوسط، ولذا كانت تحركات هذا الأسطول محطّ أنظار الجميع ولا يمكن إخفاء أمرها، ولما كان موسى بن نصير يستهدف مفاجأة القوط بالأندلس لم يكن أمامه سوى الاعتماد على سفن يوليان التي لا تثير الريبة في نفوس من يشاهدها وهي تعبر بحر الزقاق (مضيق جبل طارق)، وكان لدى يوليان أربع سفن لا تتّسع لنقل أفراد الحملة مرّة واحدة، ولذا تمت عملية عبور بحر الزقاق على دفعات، وأخذت كل جماعة يتمّ نقلها تختفي في جهات خصّصت لها على الشاطئ الأسباني، حتى انتهى الجميع من العبور وذلك عام 92هـ (711م).

وبادر طارق بن زياد بتحصين القاعدة الأولى التي استولى عليها في جنوب أسبانيا قبل التوغّل في داخل البلاد، ثم استولى على بلدة الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، وصار بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) في قبضة المسلمين وعلى اتصال وثيق بسبتة قاعدة الاتصال الأولى ببلاد المغرب.

وتمت المرحلة الأولى بذلك من نزول الحملة الإسلامية في أسبانيا دون مقاومة تذكر، وكان السبب في ذلك هو أن موسى بن نصير اختار وقت قيام حملة طارق وفق أدقّ المعلومات التي وصلته، وكانت المخابرات الإسلامية تتبع حركات لوذريق وتتحيّن الوقت المناسب لبدء الحملة، وسرعان ما سنحت الفرصة حين ذهب لوذريق إلى أقصى شمال أسبانيا ليخمد ثورة قام بها سكان جبال البرانس المعروفة باسم القبائل البسقاوية، وكانت تلك الجموع القبلية مشهورة بالمراس وقوة الشكيمة، مما جعل لوذريق يأخذ معظم جيشه معه، وأصبح جنوب أسبانيا خاليا تماما من أسباب الدفاع عنها، ولذلك لم تشعر سلطات القوط بنزول المسلمين في جنوب البلاد إلا بعد أن استقرّت دعائمهم ومكّنوا لأنفسهم على بحر الزقاق، فعبأت قوات سريعة وأرسلتها على عجل للهجوم على المسلمين تحت قيادة (بنج) المعروف باسم (بنشو) في المراجع الأسبانية، ولكن القوط لقوا هزيمة فادحة لم ينج منهم إلا واحد استطاع الهرب والذهاب إلى معسكر لوذريق في أقصى الشمال، ونقل إليه أنباء تلك الكارثة وهجوم المسلمين على البلاد، وكان لوذريق يقيم في مدينة بنبلونة بأقصى الشمال حيث يدير الحرب ضد القبائل البسقاوية، ولذا صمّم العودة سريعا إلى الجنوب والهجوم على المسلمين قبل أن يتوغّلوا في داخل البلاد، وكان لوذريق من أشهر رجال القوط في ميدان الحروب؛ إذ قدّر تماما الخطر الذي أحاط بدولته بسبب نجاح المسلمين في اتخاذ قاعدة لهم عند جبل طارق، وأدرك أنهم جاءوا للفتح وليس للإغارة من أجل السلب والنهب والحصول على المغانم كما راجت الإشاعات بذلك، ومن ثم عمد إلى جمع صفوف القوط لمواجهة المسلمين؛ فاتصل بأبناء غيطشة وصالحهم ليكونوا جميعا يدا واحدة، ولكن أعمال لوذريق في تلك السبيل جاءت متأخرة؛ لأن بيت غيطشة ظلّ على ولائه سرّا للخطة التي وضعها يوليان، ولم ينس ما حلّ به من أذى واضطهاد وتشريد على يد لوذريق، وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء هذا البيت في اعتقادهم أن المسلمين لم يأتوا للفتح ولكن للحصول على المغانم مقابل مساعدتهم في القضاء على لوذريق، وزحف لوذريق بجيشه سريعا واحتلّ قرطبة؛ ليحول بين المسلمين وبين الاستيلاء عليها؛ لأنها المفتاح الذي يسيطر على سهول الأندلس الجنوبية الشرقية، ويمكن لصاحبها من الاستقرار في البلاد.

وكان طارق بن زياد يريد فعلا الاستيلاء على قرطبة؛ فقد زحف على هذه المدينة بعد انتصاره في جنوب أسبانيا، وسلك الطريق المارّ بجزيرة طريف (الجزيرة الخضراء) ثم زحف شمالا بعد ذلك حتى اقترب من بحيرة الخندق التي يخترقها نهر صغير يسمى البرباط، وفي ذلك المكان مدينة صغيرة سمّاها المسلمون (بكة) ونسبوا إليها النهر الذي صار يعرف باسم وادي بكة، وحرف بعض المسلمين هذه التسمية إلى وادي لكة، وعند وادي بكة عرف طارق ابن زياد عن طريق عيونه أن لوذريق علم بنبأ الحملة الإسلامية وأنه وصل إلى قرطبة واستولى عليها، كما أنه تابع زحفه جنوبا واتخذ معسكره عند بلدة شذونة في سهل البرباط، وأنه صار بذلك على أهبة القتال، وذكرت بعض المراجع أن جيش القوط بقيادة لوذريق بلغ عدده مائة ألف مقاتل وضمّ عددا عظيما من الفرسان، ويرجح أن هذا العدد مبالغ فيه، وأدرك طارق بن زياد أن العدد الذي معه من جند المسلمين لا يكفي لقتال قوات لوذريق الهائلة؛ ولذا أرسل إلى موسى بن نصير يشرح له الموقف ويطلب إليه إرسال الإمدادات بسرعة، فأمدّه موسى بن نصير بحملة عددها خمسة آلاف مقاتل بقيادة طريف بن مالك الذي قاد أول حركة استطلاعية في أرض أسبانيا، ونقل هؤلاء الجنود مرّة واحدة على سفن الأسطول العربي إلى أسبانيا، ووصلت الإمدادات الإسلامية إلى طارق في اللحظة الحاسمة التي كان القوط على وشك شنّ الهجوم على المسلمين، وأعدّ طارق بن زياد قواته للمعركة، ثم وقف بين جنده خطيبا يحثّهم على الاستبسال في القتال، شأنه في ذلك شأن قادة الفتوح العربية الذين دأبوا على رفع روح جندهم المعنوية بإلقاء خطاب حماسي بينهم قبل نشوب المعركة، وتعتبر خطبة طارق من روائع الأدب العربي، ومما جاء في هذه الخطبة: "أيها الناس! أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر والصدق، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوّضت القلوب عن رعبها فيكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية؛ فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا استمتعتم بالأرفة الألذّ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي؛ فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدرّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقبان، المصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.

أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثل دونه؛ فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة الراحة من المهانة والزلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة فإنكم إن تفعلوا - والله معكم ومفيدكم - تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه؛ فاحملوا بحملتي".

وفي الوقت الذي أثرت فيه خطبة طارق تأثيرا كبيرا في نفوس جنوده ورفعت من روحهم المعنوية كانت العناصر الحانقة على لوذريق تحدث أعمالها وتدفع بكثير من أولئك الغاضبين إلى الانضمام إلى جيش طارق، ووقف الفريقان على ضفتي النهر أخيرا استعدادا للقتال، وكان المسلمون ببساطتهم ويقظتهم موضع الهيبة في النفوس، على حين كان منظر القوط يدعو إلى السخرية والازدراء؛ إذ جلس لوذريق في عربة مطهمة يجرها جوادان وعليه أثواب الحرير البراقة، وهو يحاول عبثا بثّ روح الحماسة في جنده، وكان في جيشه اثنان من إخوة غيطشة، وهما: أبه وششبرت اللذان صالحهما بغية توحيد صفوف القوط، وجعل أحدهما على الخيالة التي كانت عماد جيش القوط، وفي يوم الأحد 28 من رمضان عام 92هـ (19 يوليو 711م) بدأت المناوشات بين الجانبين على وادي البرباط بالقرب من بلدة شذونة، واستمرت المناوشات ثلاثة أيام أظهر فيها كل من الجانبين الكثير من ضروب الشجاعة والبسالة دون أن يحصل أحدهما على نصر يذكر، غير أن أتباع يوليان نشطوا في أثناء القتال وبثّوا رجالاتهم وسط جند لوذريق ليصرفوهم عنه ويؤكدوا لهم أن المسلمين لم يأتوا إلى الأندلس للفتح والاستقرار ولكن للقضاء على هذا الطاغية، وأنه إذا تمّ القضاء على حكم لوذريق عادت البلاد ملكا لهم ينعمون بخيراتها، ونجحت دعايات يوليان بين فرسان القوط، خاصة تلك التي كان يتولى قيادتها أحد إخوة غيطشة ملك القوط السابق الذي قضى عليه لوذريق، وفي اليوم الرابع من المعركة ظهرت نتائج دعايات يوليان بين صفوف جيش لوذريق؛ فقد تخلى عنه جماعات الخيالة التي كانت العامود الفقري للعمليات الحربية، وأدى ذلك إلى وقوع الاضطراب بين سائر جند القوط وهرب الكثيرون منهم طلبا للنجاة، هذا إلى أن غالبية الجيش اشتملت على أعداد كبيرة من العبيد الساخطين على حكم القوط المتمنين زواله، ووجدوا في تلك المعركة فرصتهم للخلاص مما حلّ بهم من ظلم واضطهاد، ولما أخذت مظاهر الفوضى تسود الجيش بسبب انسحاب الخيالة تراخى العبيد عن القتال وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وفرّ لوذريق تاركا عددا كبيرا من القتلى على أرض الميدان، وحسب البعض أن لوذريق غرق في النهر الذي دارت المعركة بقربه؛ لأن الجند وجدوا على الشاطئ بعد انتهاء القتال خفّه دون أن يعثروا له على أثر، غير أن لوذريق أبى الاستسلام بعد الهزيمة الساحقة التي نزلت به، وفرّ إلى داخل البلاد دون أن يكشف أحد أمره، مستهدفا جمع فلول القوط مرة أخرى والانتقام ممن انضمّ من رجاله إلى المسلمين، وبعث طارق بأنباء انتصاراته إلى موسى بن نصير الذي أبلغها بدوره إلى الخليفة الوليد ابن عبد الملك، وبدأت راية الإسلام تعلو خفاقة فوق غرب أوربا للمرة الأولى في التاريخ، وازدادت قوات طارق بن زياد بعد معركة وادي بكة؛ لأن الإمدادات انهالت عليه من المغرب، ورأى طارق أن يتابع زحفه دون إبطاء ليستولي على قرطبة ويقضي على ما بها من بقايا جيش القوط، غير أنه لقي في الطريق إلى هذه المدينة مقاومة عنيفة جعلته يعدل عن خطته ويبادر بالاستيلاء على طليطلة عاصمة دولة القوط ويتوج بذلك انتصاراته في أسبانيا، وكان السبب في هذا التطوّر الجديد هو ما بلغ طارقا من أن أنصار لوذريق حين ترامت إليهم الشائعات بأن ملكهم لم يقتل بدءوا يجمعون صفوفهم مرّة أخرى في طليطلة لمقاومة المسلمين، ومن ناحية أخرى أخذ أنصار الملك السابق غيطشة يجتمعون في طليطلة ويتشاورون فيما بينهم لإعلان أحدهم ملكا مكان لوذريق المهزوم، ولذا عجل طارق بإرسال جزء من جيشه للاستيلاء على قرطبة ليحمي ممتلكاته بجنوب أسبانيا، على حين انطلق بنفسه سريعا إلى طليطلة قبل أن يتمكّن أتباع لوذريق من تحصينها، وقبل أن يصل أبناء غيطشة أيضا إلى قرار يصعب على المسلمين مواجهته، ذلك أن بيت غيطشة ظلّ واهما حتى تلك الأحداث بأن المسلمين ما جاءوا إلا للمغانم مقابل مساعدة أبناء غيطشة للوصول إلى العرش، واستولى طارق بن زياد على مدينة طليطلة في سهولة ويسر؛ لأن القوط آثروا تجنّب لقاء المسلمين انتظارا لما تسفر عنه استعداداتهم، وحاول طارق أن يتتبع فلول القوط الهاربة من طليطلة حتى بلغ مدينة أطلق عليها (المائدة) على مقربة من هنارس، وهناك عثر المسلمون على كنز ثمين، عبارة عن مذبح كنيسة طليطلة المحلى بأغلى ما كان لدى القوط من الذهب والجواهر، غير أن طارقا اضطرّ إلى العودة إلى طليطلة لأن الصيف كان قد انقضى؛ فآثر البقاء في العاصمة دون أن يعرض جنده لبرد الشتاء القارس، وفي طليطلة بلغه أن جيشه الذي بعث به إلى قرطبة قد استولى عليها.

وقد شعر موسى بن نصير أن زحف طارق وراء فلول القوط يوشك أن يعرض الفتوح الإسلامية في البلاد الأسبانية المترامية الأطراف لخطر محقّق، ذلك أن خطوط مواصلات المسلمين فيما بين طليطلة والجزيرة الخضراء وبلاد المغرب صارت غير آمنة؛ لأن المعاقل الكبرى المبعثرة على امتداد تلك الخطوط لم تخضع للمسلمين، ولم يسيطر طارق إلا على قرطبة فقط من بين تلك المعاقل المتعددة، هذا إلى أن قرطبة لم يكن بها سوى حامية صغيرة لا تستطيع أن تؤدي رسالتها كما ينبغي إذا انبعثت أية حركة مقاومة بين صفوف القوط، وأول من شعر بالخطر الذي بات يهدّد المسلمين في أسبانيا هو القائد يوليان الذي قام إذ ذاك في الجزيرة الخضراء ليؤمن خطوط مواصلات المسلمين بين أسبانيا والمغرب، وذلك في الوقت الذي اندفع فيه طارق بن زياد إلى طليطلة عاصمة القوط، فقد بعث يوليان مجموعة من رجاله مع المسلمين عند توغّلهم في البلاد، واستطاعت بفضل خبرتها وأهلها أن تدرك ما يدور في نفوس القوط من غدر، وأنهم يتجمّعون وفق خطة مرسومة لإنزال الهزيمة بالمسلمين، أفضى يوليان إلى طارق بما جاءه من أخبار وطلب منه القيام بعمل حاسم لتأمين ظهر جيوشه، غير أن طارقا آثر البقاء في طليطلة دون القيام بأية أعمال توسيعية، ثم كلّف يوليان بأن يتصل بموسى بن نصير في القيروان ويطلب إليه سرعة المجيء إلى أسبانيا لإنقاذ الموقف.

ولما جاءت استغاثة طارق إلى موسى بن نصير أدرك أن مخاوفه من انطلاق طارق في فتوحه بعد معركة وادي بكة لها ما يسوغها، وأسرع موسى بإعداد جيش مكوّن من ثمانية عشر ألفا من خيرة جنده، وكان معظمهم من العرب والبربر الذين عرفوا بقوّة الشكيمة وشدّة المراس، وممن اشتهروا ببلائهم في ميدان الحروب ببلاد المغرب، وغادر موسى بلاد المغرب على عجل، وقسّم موسى بن نصير جيشه بحسب القبائل ليسهل عبورها إلى الأندلس دون أن تقع فوضى في صفوف الجند، وفي رمضان عام 93هـ (يونيه 712م) كان موسى ابن نصير قد غادر المغرب ووصل إلى الجزيرة الخضراء في الأندلس، وشيّد بها مسجدا وانتظر هناك حتى تمّ عبور سائر الجند واطمأنّ على سلامتهم وحسن ترتيبهم، وفي تلك الأثناء أسرع يوليان إلى لقاء موسى بن نصير وعقد معه مجلسا حربيا للتشاور في هذا الموقف الخطير، وقرر هذا المجلس الحربي أن الضرورة تقضي بالسيطرة أوّلا على المعاقل التي تركها طارق والتي باتت خطرا يتهدد المسلمين، وبعث موسى بن نصير عقب هذا المجلس الحربي الهام رسالة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالانتظار في طليطلة، وألا يقوم بعمل حربي إلا بإشعار آخر.

وردّدت بعض المراجع أن موسى لم يقدم على هذا العمل والعبور إلى الأندلس إلا منافسةً لطارق ورغبة استبدت به لينال بدوره نصيبا كبيرا من الغنائم، وأن الحسد كان يأكل قلبه، وأنه صمّم على محاسبة طارق على أعماله، وأنه رأى أن يتولى بنفسه فتوحا أخرى أعظم مما قام به هذا القائد.

وقد وقعت تلك المراجع في هذا الخطأ الفاحش لأنها صوّرت موسى وطارقا تصوير القائدين المختلفين، وأنّ كلا منهما كان يعمل دون علم الآخر، والمعروف أن طارقا لم يقم بما قام به من أعمال حربية إلا باسم موسى بن نصير الذي تولى القيادة العليا ورسم الخطط، وأمدّ طارقا بكل المساعدات الحربية ولا سيما في ساعة الخطر بعد معركة وادي بكة، هذا إلى أن طارق بن زياد كان يرسل إلى موسى بن نصير عن طريق يوليان أنباء تقدّم المسلمين خطوة خطوة، مما جعل القيادة العليا في القيروان تتابع الأحداث عن كثب، ومن ثمّ لم يكن هناك سبب يدعو موسى لأن يحقد أو يحسد طارقا على ما تم على يديه من فتح؛ لأنه شارك في هذا الفتح وأعدّ خططه، هذا إلى أن موسى لم يكن يتطلع بعبوره إلى الأندلس إلى الحصول على مغانم؛ لأن توزيع الغنائم وغيرها من ممتلكات القوط كان هو المرجع الأخير فيه.

والحقيقة أن موسى بن نصير باعتباره القائد الأعلى قد أفزعه زحف طارق السريع بعد معركة وادي بكة، وتعريضه خطوط مواصلات المسلمين لخطر محقّق؛ بسبب تركه الكثير من المعاقل والمدن الهامة جريا وراء مطاردة القوط، ولذلك بادر موسى برسم خطة للسيطرة أوّلا على المراكز الحربية وغيرها في المدن التي كانت تهدّد خطوط مواصلات المسلمين، وليدعم فتوح المسلمين قبل الذهاب إلى طارق في طليطلة.

وتنهض هذه الخطة التي وضعها موسى دليلا على أنه لم يكن يهدف إلى القيام بفتوح جديدة تغطي أخبارها وعظمتها ما قام به طارق، وأن مجيئه إلى الأندلس كان ضرورة حربية ملحّة وإصلاح خطأ وقع فيه قائده طارق.

 

فتح إشبيلية وماردة:

وعمد موسى بن نصير إلى تأمين خطوط مواصلات المسلمين بين الجزيرة الخضراء التي نزل فيها وبين قرطبة التي تعتبر مفتاح السيادة في جنوب الأندلس؛ فعجل بالسير في بلدة شذونة، ومنها زحف إلى قرمونة ورواق واستولى عليهما، وبذلك أصبحت المحطّات الهامة على الطريق إلى قرطبة في أيدي المسلمين، وصار في استطاعتهم التقدّم من تلك القاعدة نحو الغرب، وفتح مدينة إشبيلية التي كانت أكبر مدن القوط بعد العاصمة طليطلة ومصدر الخطر المباشر على القوات التي كانت تحت قيادة طارق في داخل البلاد، وكانت إشبيلية تعتبر نقطة التقاء للطرق الهامة في جنوب الأندلس، ولا سيما التي تربط الجزيرة الخضراء بداخل البلاد، فكانت هناك طريقان يربطان إشبيلية بالجزيرة الخضراء التي جعلها موسى مركزا لالتقاء جنده في أسبانيا، وكان أحد هذه الطرق بحريا والآخر بريا، وعلى كل منهما محطات كثيرة ومعاقل.

هذا إلى أن إشبيلية اشتهرت بأسوارها الحصينة ومتاجرها الواسعة، وبهذا أصبحت قاعدة كبيرة من قواعد الفتوح الإسلامية في أسبانيا.

وبعد أن استولى موسى بن نصير على مدينة إشبيلية اكتفى بوضع حامية بها، وأسرع إلى الاستيلاء على مدينة ماردة التي كانت معقلا خطيرا في أيدي القوط خلف خطوط المسلمين، ووجد موسى بن نصير مدينة ماردة قوية الحصون وأشدّ منعة من إشبيلية؛ فكان لها أسوار منيعة يعلوها الأبراج والحصون القوية، ثم إن فلول القوط وأنصار لوذريق جعلوا تلك المدينة ملجأ لهم بسبب بعدها عن طريق المسلمين، كما كانت المسالك إليها وعرة صعبة، ولذا استغرق حصار المسلمين لها آخر الصيف والشتاء التالي له دون أن يسيطروا عليها، ودار حولها قتال عنيف سقط فيه كثير من الضحايا، فقد أعدّ موسى بن نصير كمائن كثيرة أخفاها في جهات صخرية مواجهة للمدينة، أنزلت ضربات قاصمة بالقوط كلما رغبوا في الخروج إلى معاقلهم، وقتل كثير من المسلمين أيضا في محاولاتهم ثقب سور المدينة.

ولم يستقرّ الأمر لموسى في ماردة إلا بعد جهد شاق بذل فيه الكثير من الوعود لأهلها الذين سلموا بعدها في شوال عام 94هـ (يونيو 713م).

وبعد أن غادر موسى بن نصير مدينة إشبيلية وبدأ حصار ماردة جمع القوط فلولهم في المدن المجاورة وفاجئوا الحامية الإسلامية في إشبيلية وقتلوا منها ثمانين فردا، وأجبروا الباقين على الخروج من المدينة، وآثر موسى بن نصير الاستمرار في حصار ماردة حتى استولى عليها، ثم بعث بابنه عبد العزيز إلى إشبيلية لطرد القوط منها.

واختار موسى بن نصير بعد ذلك للمدن التي استولى عليها نفرا من خيرة قادته ممن اشتهروا باليقظة والبطولة.

واضطر موسى بن نصير أمام تلك المقاومة العنيفة التي لقيها جيشه إلى أن يريح جنده في مدينة ماردة مدة شهر تقريبا قبل أن يستأنف السير إلى طليطلة لمقابلة طارق، وأدرك موسى بن نصير أن القوط يهدفون إلى الهجوم على المدن التي يستولي عليها؛ من أجل دفع طارق بن زياد إلى مغادرة طليطلة لنجدة موسى بن نصير ثم يستردون مدينة طليطلة في غيبة القوات الإسلامية عنها، ولذا عمد موسى إلى تشتيت خطة القوط بأن يظلّ يقاومهم أطول فترة ممكنة دون أن يطلب إلى طارق مساعدته.

ولكن ما كاد موسى يغادر مدينة ماردة حتى جاءته الأخبار أن لوذريق نفسه - ملك القوط الذي فرّ بعد معركة وادي بكة - بدأ ينظم فلول جيشه ويجمع أتباعه استعدادا للهجوم على المسلمين مرة أخرى، ثم إن لوذريق بعد أن آثر البقاء ساكنا ليضرب ضربته الأخيرة في عنف وشدة، اختار قوات موسى بن نصير لتكون هدفه ليهدم بذلك خطط الفتوح الإسلامية كلها في الأندلس مرة أخرى، واتخذ لوذريق مركز مقاومته في شعاب الهضاب التي تلي وادي آنه إلى الشمال في جبال سيرا دفرانشيا على أبواب قشتالة واستراما دورة في السهل المنبسط الذي يحيط بمدينة سلمنقة.

وأجاد لوذريق إخفاء قواته في تلك الجهة الوعرة حتى إن موسى بن نصير اضطرّ أن يتخلى عن خطته، وأن يطلب من طارق بن زياد الخروج من طليطلة وأن يلقاه في منتصف الطريق بين تلك العاصمة وماردة؛ لينقذ المسلمين إذا ما دهمهم خطر مفاجئ.

وسار طارق نحو مائة وخمسين ميلا، واتخذ مكانه في الجهات المعروفة باسم العرض بين التاجة ونهر التتار، وسار موسى بن نصير مع قواته في طريق روماني قديم يصل ماردة وسلمنقة، وبجوار نهر حمل اسمه فيما بعد، وهو نهر (فاموتا) أي نهر موسى، وذلك بعد أن اتخذ كل الاحتياطات حتى لا يؤخذ على غرة.

ولما وصلت القوات الإسلامية إلى منتصف الطريق السالف الذكر اعتقد لوذريق أن الوقت قد حان ليضرب ضربته الأخيرة، وأن المسلمين لن يجدوا من ينقذهم أو يبادر إلى مساعدتهم، وعند ناحية اسمها السواقي على مقربة من ثمامس شنّ لوذريق هجومه دون أن يدري أن موسى بن نصير قد اتخذ كل الوسائل ليحمي قواته ويجنبها الأخطار، ولذا صمد المسلمون لهجوم القوط وأنزلوا بهم خسائر فادحة، وقتلوا كثيرا منهم من بينهم لوذريق نفسه الذي قتله مروان بن موسى بن نصير، وصار الطريق إلى طليطلة مفتوحا أمام موسى بن نصير فسار حيث التقى بطارق بن زياد وقواته التي كانت قد غادرت تلك المدينة في سبيلها إلى مقابلته في عرض الطريق.

 

استعادة فتح طليطلة:

ولما كان هجوم لوذريق على قوات موسى بن نصير شعبة من مؤامرة مزدوجة استهدف طرفها الثاني السيطرة على طليطلة وانتزاعها من المسلمين إذا ما خرج طارق منها لنجدة إخوانه؛ فإن جماعات من القوط انتهزت خلوّ العاصمة من الحامية الإسلامية واستولت عليها إكمالا لحلقة المقاومة ضدّ المسلمين، غير أن القوات الإسلامية المشتركة بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد تمكنّت من هزيمة القوط والسيطرة على طليطلة مرة ثانية، وبذلك انتهت مقاومة لوذريق وجنده بمجيء قوات موسى بن نصير على عجل، ولولا ذلك لانهارت أعمال طارق وأصيب جنده بكارثة مروعة.

وفي مدينة طليطلة أخذ موسى بن نصير يحاسب طارقا على اندفاعه الذي كاد ينزل بالمسلمين كارثة محقّقة، ولا سيما بعد أن ثبت عمليا أن القوط كانوا قد أعدّوا حركة مقاومة عنيفة، ورددت بعض المراجع أن موسى شدّ وثاق طارق وحبسه وهمَّ بقتله لولا تدخّل مغيث الرومي مندوب الخلافة في الحملة الإسلامية إلى أسبانيا وإسراعه بإبلاغ الحادث إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أمر موسى بعدم إنزال الأذى بطارق، غير أن هذه الرواية استندت إلى شائعات مغرضة ردّدها القائد مغيث الرومي الذي كان بينه وبين موسى بن نصير سوء تفاهم؛ فانتهز فرصة ذهابه إلى دمشق ليبلغ الخليفة أنباء انتصارات المسلمين وأساء إلى هذا القائد، غير أن المقطوع به هو أن موسى بن نصير عنّف طارقا أو حدث عتاب بينهما؛ لأن طارقا كان قد تقدّم في الفتح أكثر مما ينبغي ولما تثبت أقدام المسلمين في البلاد بعدُ متحديا بذلك أوامر مولاه، لكن موسى كان من الحكمة بحيث أنه سرعان ما اتفق مع طارق واشترك الرجلان اشتركا كاملا في العمل.

واستقرّ رأي كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير على القيام بمسح شامل لسائر الأراضي الأسبانية التي لم تفتح بعد، ونشر الإسلام بين ربوعها، وتطيهرها تطهيرا شاملا من جيوب القوط وفلولهم، وأثبت موسى بن نصير بذلك أنه ما زال يولي طارق بن زياد ثقته المطلقة.

وأتبع موسى هذه الخطوة بعمل إداري رائع لتنظيم أحوال البلاد؛ فأمر - وهو في طليطلة - بضرب عملة ذهبية دفع منها رواتب الجند العاملين تحت إمرته، ويعتبر سكّ هذه العملة الذهبية دلالة على سيطرة موسى بن نصير على الأوضاع في تلك البلاد الأوربية الجديدة، وعلى مهارته الفائقة في بناء إدارة عربية مستقرة الأركان في أسبانيا منذ الأيام الأولى للفتح الإسلامي بها، وكانت هذه العملة الذهبية على غرار العملة التي سكّها موسى بن نصير في بلاد المغرب؛ فكان على وجه هذه العملة اسم (محمد رسول الله)، وعلى الوجه الآخر نجمة ذات ثمانية أذرع، وإلى جانب ذلك أمر موسى بن نصير بضرب عملة برنزية صغيرة لمساعدة الناس في تسهيل عملياتهم اليومية.

وبعد أن أتمّ موسى بن نصير تنظيماته الإدارية استأنف الجهاد، واتفق مع طارق ابن زياد على الزحف معا نحو الشمال الشرقي لفتح حوض نهر الإبرو وما فيه من مدن، واشترك طارق مع موسى في هذه الحملة لأن المقاومة الشديدة التي سبق أن أظهرها القوط حملت القيادة الإسلامية على جمع جهودها وتنسيق أعمالها بما يجنب المسلمين الأخطار مرة أخرى.

وقصدت القوات الإسلامية بقيادة موسى بن نصير مدينة سرقسطة، واقتربت منها على حين غفلة من أهلها، وأراد أسقف المدينة ومن معه من الرهبان جمع دخائرهم وكتبهم المقدّسة والفرار بها، غير أن موسى بن نصير بعث إليهم رسولا من قبله أزال مخاوفهم وأعطاهم العهود والمواثيق بالأمان، وبذلك استولى المسلمون على المدينة دون قتال، وشيّدوا بها مسجدا صار فيما بعد أحد المراكز الكبرى لنشر الدين الإسلامي وحضارته في أسبانيا، وقام ببناء هذا المسجد أحد التابعين في جيش موسى بن نصير وهو حنش بن عبد الله السبئي الصنعاني.

 

الزحف شمالا نحو البرانس:

وتابع موسى زحفه بعد ذلك، واستولى على كثير من المدن الهامة في تلك الجهات، وظلّت القوات الإسلامية تتابع زحفها حتى بلغت مشارف جبال البرت (البرانس)، وشاهد المسلمون سكان تلك الجبال من القبائل البسقاوية (البشكنس)، واستمعوا إلى لغتهم الغريبة التركيب والأصوات.

وفي الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير يبذل كل ما لديه من جهد لتأمين ممتلكات المسلمين شمالي مدينة سرقسطة جاءه مندوب الخلافة وهو مغيث الرومي، ومعه أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لكل من موسى بن نصير وطارق بن زياد بالمجيء إلى البلاط ومقابلته شخصيا في دمشق، ورأى موسى بحنكته الحربية ومقدرته السياسية أن هذا الاستدعاء جاء في وقت غير مناسب؛ لأن مطاردة القوط لم تنته بعد، كما أن فتح البلاد يتطلب السيطرة على المعاقل الشمالية الجبلية، أضف إلى ذلك أن موسى أحسّ أن أمرا قد دبّر له في دمشق، ويحتمل أن هذا التدبير هو السرّ في استدعائه إلى عاصمة الخلافة، ولذلك ألَحّ على مغيث الرومي أن يؤجل تنفيد طلب الاستدعاء حتى ينتهي من العمليات الحربية، ومنحه قصرا في قرطبة يقيم فيه ريثما يفرغ المسلمون من مهمّتهم.

وتقدّم موسى بقواته نحو مدينة قشتاله؛ لأنها تعتبر المركز المباشر الذي يمكن أن يهدّد منه القوط مدينة طليطلة وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم إن اقترابها من الجهات الجبلية الوعرة يساعد من يتحصن بها على أن يبقى على المقاومة زمنا طويلا، ولذا قسّم موسى بن نصير قواته قسمين عهد بواحد منهما إلى طارق بن زياد وجعل مهمته السير غربا، على حين قاد هو الشطر الثاني واتجه في البلاد شرقا.

وقصد طارق بن زياد إلى جبال كنتبرية، وأخضع جماعات البسقاوية غربي نهر الأبرو، ودخل كثير من سكان تلك الجهات في الإسلام على يد طارق بن زياد، وصاروا يكوّنون نواة كثير من الأسر الأندلسية الإسلامية التي قدّر لها أن تمثّل دورا هاما في تاريخ البلاد فيما بعد.

وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير على الضفّة الشرقية لنهر إبرو في إقليم قشتالة، ورحّب به زعماء البلاد كذلك، ودخلوا في طاعة المسلمين، غير أن نفرا من فلول القوط آثروا الفرار أمام الزحف الإسلامي إلى المناطق الجبلية الساحلية الشمالية، واعتصموا بمكان اسمه الصخرة، فطارد موسى تلك الفلول حتى بلغ خيخوت، وجعل منها حصنا يحمي ما تم على يديه من فتوح في تلك الجهات القاصية، وصارت تلك الجهات أقصى ما وصل إليه المسلمون في منطقة اشتريس، حيث بدأ موسى بن نصير يعد العدة للعودة من تلك البلاد النائية.

وتمّ في ذلك الوقت أيضا إخضاع المنطقة الساحلية بين مالقة وبلنسية، وإخماد الفتن التي حاول القوط القيام بها، وقام بهذه المهمة عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي اشترك مع والده في إكمال الفتوح الإسلامية في أسبانيا، وسار هذا القائد على نهج والده في معاملة أهالي البلاد المفتوحة بالرفق والتسامح والعدل في فرض الضرائب، ومن ذلك ما حدث حين زحف عبد العزيز بن موسى على مالقة ثم غرناطة ثم أريوله، وهي كلها سلمت دون قتال.

 

ارتياح أهالي الأندلس للحكم الإسلامي:

وقد شعر أهالي الأندلس مع امتداد الفتح الإسلامي طلائع المساواة، وخاصة في الضرائب، وهو أمر لم يألفوه منذ زمن طويل، هذا إلى احترام حرية العقيدة وإزالة الاضطهاد الديني، وردّد كثير من الباحثين في التاريخ الأوربي المظاهر الجديدة التي سادت الشطر العربي من أوربا في بلاد أسبانيا عقب الفتح الإسلامي، وسجلت بهذا الدين الحنيف مظاهر الحياة الجديدة التي نفحها في تلك البلاد، وذكروا أن الفتح العربي كان من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون، وتحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزّعت الأراضي توزيعا عادلا؛ فكان ذلك حسنة سابغة وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم الإسلامي، ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة؛ إذ كان الإسلام أكثر معاضدة لتحرير الرقيق من النصرانية كما فهمها أحبار المملكة القوطية، وكذلك تحسّنت أحوال أرقاء الضياع؛ إذ غدوا من الزرّاع وتمتعوا بشيء من الاستقلال والحرية.

وكان موسى بن نصير حريصا على أن يظلّ المسلمون العاملون تحت رايته - سواء من العرب أو البربر - مثلا أعلى أمام شعب أسبانيا؛ فلم يترفّع أولئك الفاتحون المسلمون على أبناء البلاد، وإنما امتزجوا معهم وصاهروهم وشاركوهم أيضا في مباهج البلاد ومسرّاتها؛ يطلبون العيش في سلام جنبا إلى جنب مع أهلها، وكان شعب أسبانيا من العنصر الأيبيري المسالم المحبّ لحسن العشرة، ومن ثم أنس إلى الفاتحين الجدد سواء من العرب أو البربر، وأقبل عليهم طواعية لا عن ضغط وإرهاب، ووجد فيهم محرّرين من بطش القوط وظلمهم الفاحش، ولم يحاول الفاتحون إدخال أبناء الشعب قسرا في الدين الإسلامي، وإنما حرصوا أوّلا على بيان فضائل هذا الدين حتى يتنبّه الناس ويدخلوا في رحابه إيمانا بأركانه وقواعده.

ثم إن موسى بن نصير عمد إلى تنظيم الأحوال المالية للبلاد حتى يجنبها الاضطرابات ويهيء لها أسباب الاستقرار، وقد طبق على أسبانيا القواعد التي اتبعها المسلمون الفاتحون في شتى الجهات التي استولوا عليها، فالأراضي التي فتحت عنوة قسمت بين الفاتحين بعد أخذ الخمس لبيت المال، أما الجهات التي فتحت صلحا فتركت بيد أصحابها مقابل دفع العشر من نتاجها، ولا شكّ أن هذا التنظيم المالي لم يكن عملا هيّنا بالنسبة لموسى بن نصير، وبخاصة في تلك الجهات من غرب أوربا التي لم تعرف منذ زمن بعيد لونا من ألوان الإدارة العادلة؛ فالمعروف أن القوط كانوا يستبيحون لأنفسهم ثروات البلاد ويعتبرون السكان أقنانا يعملون في الأرض، ولا همَّ لهم إلا إنتاج ما يحتاج إليه سادتهم من القوط، ولذا جاءت تنظيمات موسى بن نصير في أسبانيا وسيلة جيدة لخلق الامتزاج السليم بين الفاتحين وأهل البلاد الأصليين؛ فالأراضي المنبسطة في الجنوب - أي جنوب الوادي الكبير - اعتبرها موسى ابن نصير أرضا مفتوحة عنوة؛ فقد تم الاستيلاء عليها بعد معارك عنيفة ضد لوذريق، وقسم موسى أربعة أخماس هذه الأراضي إلى قطاعات بين الفاتحين، على حين بقي الخمس ملكا للدولة، أما بقية أرض الأندلس فقد اعتبرت أرض صلح وهي الأراضي الواقعة شمال نهر الوادي الكبير من شبه جزيرة ايبريا، فأخذ كل ناحية لأنفسهم عهدا، وهذا العهد يقرر ما عليهم من مال للدولة، وبذلك سار الاستقرار في بلاد أسبانيا سريعا حيث سار موسى بن نصير، وبدأ العرب والبربر ينتشرون في شتى الجهات في طمأنينة وسلام، واستقر العرب دائما في المناطق المنبسطة والمنخفضات، أي في النواحي الدافئة قليلة المطر في الجنوب والشرق والغرب وفي ناحية سرقسطة، أما البربر فاختاروا المناطق الجبلية التي سبق أن ألفوا مثلها في وطنهم ببلاد المغرب، بينما نزل العرب في المناطق الواطئة بجنوب أسبانيا مثل شذونه واستجة، فضَّل البربر منطقة رنده الجبلية واختاروها سكنا لهم، ونزل بعض البربر في مناطق متفرّقة كذلك أو في بعض الهضاب حسبما راق لهم ذلك، واستطاع كل من العرب والبربر الامتزاج بأهالي البلاد الأصليين وارتبطوا معهم برباط الزواج، وكان للبربر خاصة أثر عظيم جدّا في انتشار الإسلام في الأندلس بسبب قرب مزاجهم وطباعهم من أولئك السكان، هذا إلى أن البربر بسبب حداثة عهدهم بالإسلام كانوا شديدي الحماسة للدين الجديد لأنه صار رمز سيادتهم وعزّهم، وحرص موسى بن نصير على ترك حاميات من جيشه في المدن التي فتحها، وهذا هو الأمر الذي جعل معظم أرجاء أسبانيا تعمر بالفاتحين الجدد وتمهد أسبانيا في سرعة ويسر لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف.

واستطاعت الإدارة الإسلامية التي شيّدها موسى بن نصير أن تضع الحجر الأساسي لبناء الحضارة الإسلامية في أسبانيا، وجعلت من تلك البلاد أعظم مركز للإشعاع الحضاري في أوربا في العصور الوسطي، ومن ثم أخذت أسبانيا تخطو سريعا في مضمار الازدهار العلمي وتدخل سجل التاريخ باعتبارها الشريان الذي نقل إلى أوربا ثمار الحضارة الإسلامية ومعارفهم، وهيّأ لسكان غرب أوربا السبيل للخروج من جهالة العصور الوسطي إلى نور الإسلام وضوء الحضارة الإسلامية الساطع.

وقد استغرق الفتح الإسلامي لأسبانيا ثلاث سنوات وبضعة شهور؛ إذ بدأ الفتح الإسلامي لأسبانيا في رجب عام 92هـ وتم في ذي القعدة عام 95هـ.

ويلاحظ أن العرب أطلقوا اسم الأندلس على المناطق التي كانوا يسيطرون عليها من شبه جزيرة أيبريا، ولا زال اسم الأندلس يطلق على الجزء الجنوبي منها.

 

موسى وطارق يقابلان الوليد في عاصمة الأمويين:

سبق أن ذكرنا أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استدعى كلا من موسى بن نصير وطارق بن زياد لمقابلته شخصيا في دمشق، وأن موسى بن نصير أجّل تنفيذ هذا الطلب حتى ينتهي من عملياته الحربية، وبعد أن فرغ موسى بن نصير من إتمام الفتح اختار مدينة أشبيلية حاضرة للبلاد وعيّن ولده عبد العزيز واليا على الأندلس، واستخلف على المغرب الأقصى ابنه عبد الملك، كما استخلف على إفريقية ابنه عبد الله، ثم غادر موسى بن نصير الأندلس وبصحبته طارق بن زياد وكبار الجند في ذي القعدة عام 95هـ (714م)، ويقال إن يوليان كان معهم.

وكان موكب موسى بن نصير إلى دمشق من الموضوعات التي أفاض في وصفها الرواة والإخباريون العرب، ونقلها المؤرخون مثل ابن عبد الحكم وابن قتيبة وابن القوطية والمراكشي وابن عذارى وابن خلكان والمقري وابن الأثير، ويقال إن موكب موسى ابن نصير اشتمل فيما عدا حاشيته الخاصة على أربعمائة من أفراد الأسرة القوطية المالكة وأسر النبلاء؛ تزين رؤوسهم التيجان وتطوق أوساطهم الأحزمة الذهبية، ومعهم جموع من العبيد والأسرى يحملون نفائس الغنائم.

وعندما اقترب موسى من دمشق وصلته رسالتان كان لهما أكبر الأثر في اختتام حياته فيما بعد، أما الرسالة الأولى فكانت من ولي العهد سليمان بن عبد الملك يطلب فيها من موسى بن نصير أن يبطئ في الحضور إلى دمشق لأن الخليفة الوليد بن عبد الملك مريض مرض الموت وفي أيامه الأخيرة، وبذلك يحظى سليمان عندما يعتلي العرش باستقبال أعظم موكب للنصر عرفه الإسلام، ولكن موسى بن نصير رفض الاستجابة لهذا الطلب وتابع سيره إلى دمشق، وبعد ذلك بقليل تسلم الرسالة الثانية وكانت من عند الخليفة الوليد نفسه يأمره فيها بالإسراع بالحضور إلى دمشق حتى لا تحرمه المنية من شرف مشاهدة موكب النصر القادم على عاصمة الخلافة، وليتوج أيامه الأخيرة بهذا النصر المظفر.

ودخل موسى بن نصير مدينة دمشق في السادس والعشرين من يناير عام 715م جمادى الأولى عام 96هـ، أي قبل وفاة الخليفة الوليد بأربعين يوما، وحرص موسى على أن يشرف بنفسه على طريقة سير الموكب وارتداء المشتركين فيه بثيابهم وبطريقة عرض الكنوز والغنائم، وأمر موسى بالأموال والجواهر واللؤلؤ والياقوت والزبرجد والجزع والوطاء والكساء المنسوج بالذهب والفضة المحرشة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وضمّها إلى موكب النصر مع رجاله بأرديتهم الجميلة الزاهية، ثم أقبل موسى بالذين ألبسهم التيجان حتى دخل مسجد دمشق والوليد على المنبر يحمد الله، وكان الخليفة يعاني في تلك الأيام من وطأة المرض ومع ذلك أبى إلا أن يخرج إلى المسجد متحملا لأجل قدوم موسى بن نصير، ولما رأى الخليفة هذا الموكب استولت عليه الدهشة والعجب الشديد وصاح الحاضرون من الناس: موسى موسى!، وأقبل هذا القائد المظفّر حتى سلّم على الخليفة ووقف ثلاثون رجلا من أصحاب التيجان في موكب النصر عن يمين المنبر وشماله، على حين وقف أمام الخليفة سائر أفراد الموكب ومراكب الغنائم المقامة على عجل، وهزّ هذا المنظر الباهر قلوب الحاضرين ومشاعرهم كما أثار ذكرياتهم عن فتوح المسلمين الكبرى، وقالوا إن الدولة الإسلامية لم تشهد منذ فتح فارس مثل هذا الموكب الرائع، ومثل تلك الغنائم الوافرة، وأخذ الخليفة يلقي خطبته في هذا المشهد الحافل وأكثر فيه الحمد لله والثناء عليه والشكر لما أيده الله ونصره، وأذهل موسى الناس بما أتى به من الخيرات والغنائم والأسرى، وكان موكب النصر هذا موكبا مشهودا؛ إذ لم ير الناس من قبل مثل هذا العدد من أمراء الغرب والأسرى الأوربيين، وقد جاءوا يقدمون الولاء والطاعة لأمير المؤمنين.

وكان من أبرز ما قدّمه موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد من الغنائم التذكارية النفيسة مائدة تفوق قيمتها كل تقدير، كان طارق بن زياد قد غنمها من كاتدرائية طليطلة، وكان القوط قد تفننوا  في صنعها فنسبها العرب إلى سليمان بن داود، وإنما أطلق عليها هذا الاسم كناية عن قدمها وعظم شأنها.

واختلفت الروايات كذلك في وصف هذه المائدة وبيان هيئتها وسبب وجودها، فذكرت إحدى الروايات أن الأغنياء والموسرين من القوط دأبوا أن يوصلوا للكنائس بقدر معلوم من ثرواتهم عند الوفاة وكلما تجمع المال الوفير بين المشرفين على تلك الكنائس أمروا بصناعة موائد وكراسي من الذهب والفضة تضع القساوسة عليها الأناجيل في أيام الاحتفالات من أجل المباهاة والتفاخر، ونالت كنيسة طليطلة قدرا كبيرا من مال الوصايا، وخاصة أنها كانت مقرّ البيت المالك، ولذا تأنق الملوك في عمل مائدة لهذه الكنيسة فاقت كل الموائد في سائر أسبانيا؛ إذ حرص كل ملك على أن يزيد في مائدة كنيسة طليطلة إعلاء لذكره وتباهيا بعاصمة ملكه حتى صار لها مركز الصدارة في جميع البلاد وتحدث الجميع بجمالها وعلو قيمتها، فكانت مصنوعة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد.

ومهما يكن من أمر تلك الروايات فمما لا شك فيه أنها أجمعت على شيء واحد هو عظمة هذا الكنز الثمين الذي فاقت أخباره ما عداه في كنوز وجدها الفاتحون في سائر مدن الأندلس، ويرجح أن هذه المائدة كانت مذبح الكنيسة الجامعة في طليطلة، وأنها كانت على درجة خيالية من الجمال حتى تليق بعاصمة القوط، ولتكون رمزا على ثراء دولتهم وغناها الوافر.

وكان مما قدّم للخليفة الدر والياقوت أكيالا والسيوف المحلاة بالجواهر والتيجان الذهبية المرصّعة بالحجارة الثمينة وآنية الذهب والفضة، وغير ذلك مما لا يحيط به وصف.

وقد أغدق الخليفة الخلع على موسى ثلاث مرات تشريفا له، كما أغدق المنح لآل بيته، ولما انتهى الخليفة من منح موسى براءات الشرف والتكريم استأذن منه هذا القائد العظيم في تقديم المشتركين معه في موكب النصر فأدخل عليه موسى ملوك البربر وملوك الروم وملوك الأسبان وملوك الفرنجة، ثم أدخل عليه رؤوس البلاد ممن كان معه من قريش والعرب؛ فأحسن الخليفة لهم العطايا والمنح.

وبانتهاء يوم الاستقبال اختتم موسى بن نصير حياته العامة، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك توفي بعد ذلك اليوم بأربعين يوما فقط، وخلفه سليمان بن عبد الملك عام 96هـ (715م)، وأعفى الخليفة الجديد غداة توليه العرش موسى بن نصير - وكان إذ ذاك قد ناهز الثمانين من عمره - من العودة إلى الأندلس، وأراد الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يختم حياته بالحجّ إلى بيت الله الحرام واصطحب معه إلى مكة والمدينة موسى بن نصير، وقد توفي موسى بن نصير بالمدينة بعد أداء فريضة الحج ودفن بالبقيع في أوائل عام 97هـ.

أما طارق بن زياد فقد انتهت حياته في غموض، ولا تذكر الرواية الإسلامية أين ومتى توفي، ويقال إن مغيث الرومي وشّى به وخوّف الخليفة منه، وكان الخليفة سليمان ابن عبد الملك يريد أن يوليه الأندلس فعدل عن ذلك.

ولكن إهمال المؤرخين لطارق بن زياد لم يحرمه نصيبه من الخلود، فقد شاءت المقادير أن تحمل اسمه أول بقعة في الأندلس وطئتها قدماه وهي جبل طارق، كما سمي بحر الزقاق باسم مضيق جبل طارق، وانتقلت هذه التسمية إلى اللغات الأوربية جميعها بصيغها محرفة تحريفا بسيطا.

ولم تشر الروايات العربية إلى مصير يوليان الذي مهّد لفتح الأندلس، وتذكر بعض الروايات أنه عاد إلى سبتة وأقطع ما حولها من الأرض، وظل أميرا على سبتة نظير خدماته، ولكنه بقي نصرانيا هو وبنوه الأقربون، أما ذريته فيقال إنها دخلت الإسلام بعد ذلك، أما أبناء غيطشة فقد أقطعوا ما كان لأبيهم، كما عين أخ غيطشة حاكما لمدينة طليطلة.

 

بعض مصادر البحث:

1_ الكامل في التاريخ لابن الأثير.

2_ الحلل السندسية طبعة 1936م لأرسلان.

3_ المغرب في ذكر إفريقية والمغرب طبعة 1911م للبكري.

4_ فتوح البلدان طبعة 1900م للبلاذري.

5_ قيام دولة المرابطين طبعة 1957م لحسن محمود.

6_ فتح العرب للمغرب طبعة 1947م لحسين مؤنس.

7_ فجر الأندلس طبعة 1959م لحسين مؤنس.

8_ تاريخ المغرب العربي طبعة 1965م لسعد زغلول عبد الحميد.

9_ الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى طبعة 1804م للسلاوي.

10_ المغرب الكبير (العصر الإسلامي) طبعة 1966م للسيد عبد العزيز سالم.

11_ بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس طبعة 1884م للضبي.

12_ فتوح مصر والمغرب طبعة 1920م لابن عبد الحكم.

13_ العقد الفريد لابن عبد ربه.

14_ الأساطيل العربية طبعة 1957م للعدوى.

15_ البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى.

16_ دولة الإسلام في الأندلس طبعة 1943م لمحمد عبد الله عنان.

17_ الآثار الأندلسية طبعة 1956م لمحمد عبد الله عنان.

18_ تاريخ المغرب الكبير لمحمد علي دبوز.

19_ النجوم الزاهرة طبعة 1928م لأبي المحاسن.

20_ نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب طبعة 1855م للمقري.

21_ معجم البلدان لياقوت الحموي

 

***************************

الباب الثاني عشر - ركن  العبادات

 

ما يُضمُّ بعضُه إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة وما لا يُضمّ

الأموال التي تجب فيها الزكاة

من أنواع المال التي لا تجب فيها الزكاة

ما يُضمُّ بعضُه إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة وما لا يُضمّ

أولاً: الذهب والفضة، والعُمَل التي حلت محلهما

ثانياً: بهيمة الأنعام

ثالثاً: الحبوب والثمار

تنبيهات

رابعاً: من استفاد مالاً في أثناء الحول وعنده أصله أضافه إلى أصله

الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفرض من فروضه، فمن أنكر وجوبها فقد كفر، ومن منع أداءها قوتل حتى تؤخذ منه عَنْوة، وإن أدى ذلك إلى قتله، وهي أخت الزكاة، ولهذا قرن الله بين الصلاة والزكاة في العديد من الآيات: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ"، ولذات السبب قال أبوبكر رضي الله عنه عندما منع البعض إخراج زكاتهم: "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة".

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاثة لا تقبل إلا بثلاثة، قال تعالى: "وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ"، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل الله طاعته، وقال: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ"، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره، وقال: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ"، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة لا تقبل له صلاة)، أوكما قال.

لهذا يجب وجوباً عينياً لمن ملك النصاب في أي مال من الأموال التي تجب فيها الزكاة أن يتعلم أحكام الزكاة، هذا بجانب وجوب تعلمه لأحكام البيوع إن كان يشتغل بالتجارة، وبأحكام المزارعة إن كان يشتغل بالزراعة.

لقد توعد الله عز وجل مانعي الزكاة وعيداً شديداً، وحذرهم تحذيراً مفزعاً، وبشرهم تبشيراً مخيفاً: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ".

وقال رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فيما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يُطوَّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهْزمتيه يعني شدقيه ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" الآية.

ã

والأموال التي تجب فيها الزكاة هي:

   النقدان الذهب والفضة، وما حل محلهما من العُمَل، ونصابها بالعملة السودانية مليونان من الجنيهات فأكثر، أوما يعادل قيمة 85 جراماً من الذهب.

   السائمة من بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم.

   الحبوب، وهي كل ما يُكال ويدخر ويقتات، كالقمح، والشعير، والأرز، والذرة، ونحوها، والقطاني نحو الفول، والعدس، والفاصوليا، واللوبيا، والترمس، وما شاكلها.

أما الثمار فهي قاصرة على التمر والعنب فقط.

   عروض التجارة، وهي كل ما أعد للبيع والشراء.

   المعادن، سيما الذهب والفضة.

   الركاز، وهو ما وجد مدفوناً من الذهب والفضة ونحوهما، وما سواها فلا تجب فيه الزكاة.

وهذه الأموال لا تجب فيها الزكاة إلا إذا توفرت فيها شروط، وهي:

   إكمال النصاب.

   وحولان الحول، إلا في الحبوب والثمار والمعادن.

   تمام الملك.

   القابلية للنماء.

واعلم أخي المسلم أن التعدي في الزكاة بأخذ الزكاة من أموال لم يوجب الشارع فيها الزكاة لا يقل إثماً عن منعها، ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً وقد بعثه إلى اليمن: "وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنها ليست بينها وبين الله حجاب" الحديث.

ã

ومن أنواع المال التي لا تجب فيها الزكاة ما يأتي:

   المعلوفة من بهيمة الأنعام، إذ السوم شرط في وجوب الزكاة فيها، وما ذهب إليه مالك مرجوح، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي سائمة الغنم" الحديث.

   المرتبات مهما بلغت.

   الفواكه، والخضر، والبقوليات بجميع أصنافها، وما ذهب إليه أبو حنيفة من إيجاب الزكاة في كل ما أخرجته الأرض مردود بالسنة العملية، إذ لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها زكاة، ولا خلفاؤه الراشدون، وقد كان الطائف ينتج منها الكم الهائل، ولهذا رجع أبو يوسف إلى قول مالك في هذا، وقال: لقد رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو سمع صاحبي ما سمعت لرجع كما رجعت.

   المال المستفاد ما لم يكن عند صاحبه أصله الذي بلغ النصاب، ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه إذا جاء أحد لأخذ عطائه سأله: ألك مال بلغ النصاب؟ فإن قال: نعم، أخذ زكاته من عطائه، وإلا أعطاه عطاءه كاملاً.

   قصب السكر والقطن.

   العلف كالبرسيم، والقصب، ونحوها.

   الحلي المعد للزينة، بالغاً ما بلغ في أرجح قولي العلماء: مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد.

   أصول الأموال، مثل المصانع، والعقار، والحافلات، ونحو ذلك.

   ما أعد للقنية، أي للاستعمال الخاص وليس للبيع والشراء.

   ما اشتري من العقار والسيارات ونحوها، لا على البائع ولا على المشتري.

   أصحاب المهن والحرف، إلا إذا حال عليهم الحول وبلغ فائض دخلهم النصاب.

   الأموال الموقوفة على الفقراء والمساكين، وسبل الخير المختلفة.

هذا ما عليه العامة من أهل العلم، وما سواه شذوذ وزلات لا ينبغي الالتفات إليها، ولا يحل الأخذ بها، "فمن تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله".

وليحذر الموظفون والعمال المقدرين للزكاة والجابين لها من تلك المقولة: "أنا عبد المأمور"، إذ لا طاعة إلا في المعروف، وليتذكر أنه عبد الله، ولو أمره هذا المأمور بما فيه إجحاف بنفسه أوبمن له به صلة لما نفذ هذا الأمر.

بعد هذه المقدمة والتوطئة التي يغفل عنها كثير من الناس، سيما ونحن مقبلين على شهر رمضان نسأل الله أن يبلغنا إياه وإياكم وكان السلف يستحبون إخراج زكاتهم فيه، وإن كان كل إنسان له شهر زكاة خاص به، أحببت أن أنبه نفسي وإخواني المسلمين على ما سبق، ندلف إلى موضوعنا، وهو بيان ما يضم من الأموال بعضها إلى بعض في الزكاة لإتمام النصاب.

فأقول وبالله التوفيق:

ã

ما يُضمُّ بعضُه إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة وما لا يُضمّ

أولاً: الذهب والفضة، والعُمَل التي حلت محلهما

1.  يضم الذهب بعياراته المختلفة إلى الفضة كذلك بأنواعها المختلفة، سواء كان ذلك بعينها أوقيمتها.

2. العُمَل المختلفة، فمن كان يملك أنواعاً مختلفة من العُمَل نحو الجنيه السوداني، الريال السعودي، الدولا، اليورو، ضم بعضها إلى بعض وأخرج من جميعها الزكاة.

3. قيمة عروض التجارة المعدة للبيع، أما ما أعد للاستثمار والاحتكار فلا يقوم سنوياً، وكذلك أصول الأموال والعقار، لكن إذا باعها أوشيئاً منها أضاف ذلك إلى ما عنده وأخرج الزكاة من الجميع.

4. الدَّيْنُ المضمون، وهو ما كان على مليء غني مقر، أما إن كان الدَّين على معسر أوجاحد فلا يُزكى إلا عند قبضه ولو بعد سنين لعام واحد.

هذه الأموال كلها يضاف بعضها إلى بعض، ويخرج الزكاة من مجموعها، بعملة واحدة أوبعُمَل مختلفة.

ã

ثانياً: بهيمة الأنعام

يضم ما يأتي:

1.  البقر والجاموس صنف واحد.

2.  الماعز والضأن صنف واحد.

3.  جميع أنواع الإبل صنف واحد.

4. مال الخلطاء، سواء كانت الخلطة خلطة أعيان، وهي على الشيوع، أوخلطة أوصاف لكل خليط أنعامه المعلومة، إذا توفرت فيها هذه الشروط:

   إذا كان الخلطاء من أهل الزكاة مسلمين كلهم.

   اتحد الخلطاء في المسرح، والمرعى، والمحلب، والفحل، والمبيت.

فإنها تجعل مال الخلطاء كمال الرجل الواحد، وتؤثر في وجوب الزكاة ومقدارها سلباً وإيجاباً، ولهذا نهى الشارع عن التفرق أوالضم عند مجيء المصدق هروباً من الزكاة بالكلية أوإنقاصاً لقدرها، لا فرق في بهيمة الأنعام بين المهجنة المحسنة والمحلية، فالكل سواء ويكمل بعضه بعضاً في النصاب.

ã

ثالثاً: الحبوب والثمار

يضم منها الآتي:

1.  جميع أنواع التمر جيده ورديئه صنف واحد.

2.  جميع أنواع العنب صنف واحد.

3.  الذرة بأنواعها المختلفة صنف واحد.

4.  الأرز بأنواعه المختلفة صنف واحد.

5.  القمح بأنواعه المختلفة صنف واحد.

6.  القمح والشعير بأنواعهما المختلفة يضم بعضها إلى بعض عند مالك، وهذا هو الراجح، وأبى ذلك الشافعي.

7.  أنواع القطاني كالبسلة، والجلبان، والترمس، والحمص، والفول، والعدس.

قال ابن عبد البر بعد أن ذكر أنواع الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة عند العامة من أهل العلم، سيما مالك والشافعي رحمهما الله: (هذه الحبوب التي تقتات وتدخر تجب فيها الزكاة عند مالك والشافعي، وإنما اختلفا في شيئين، أحدهما أن مالكاً يقول: إن القطاني يضم بعضها إلى بعض في الزكاة، وأن القمح والشعير والسُّلّت يضم بعضها إلى بعض، فمن حصد عند مالك وسقاً من الفول، وحصد وسقاً من الجلبان، وحصد وسقاً من بسيلية، ووسقاً من لوبيا، ووسقاً من حمص، فإنها تجب عليه الزكاة، لأنها خمسة أوسق من جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، يضم بعضها إلى بعض ويخرج من كل نوع بحسبه؛ والشافعي يقول: لا يضم شيء منها إلى شيء، فلا يضم فول إلى لوبيا، ولا ترمس إلى حِمَّص، بل كل في جرابه، وإن حصد خمسة أوسق من واحد وجبت الزكاة، وإلا فلا، كما قال الشافعي: لا يضم قمح إلى الشعير، ولا الشعير إلى القمح، ولا السُّلت إلى واحد منهما).

ã

تنبيهات

   الشركاء في الزرع والوُرَّاث لا تجب الزكاة على واحد منهم إلا إذا ملك نصاباً بمفردته، فالشراكة في الزرع لا تؤثر في الزكاة كما هو الحال في الماشية.

   الحبوب الزيتية كالسمسم، والفول السوداني، والزيتون - عند من يوجب الزكاة فيه وهومالك إذا أخذت الزكاة من حبه لا تؤخذ من زيته، وإن لم تؤخذ من حبه أخذت من زيته، العشر أونصف العشر حسب طريقة السقي، وفي مشهور مذهب مالك الوجوب في الحب والإخراج من الزيت.

   الحبوب والثمار إذا زكيت ثم بيعت فلا يزكى ثمنها.

   الخمسة أوسق تعادل خمسة جوالات سعة مائة كيلو غرام.

ã

رابعاً: من استفاد مالاً في أثناء الحول وعنده أصله أضافه إلى أصله

فيضاف ما يأتي:

1.  نسل بهيمة الأنعام.

2.  الأرباح التجارية.

3.  إذا اشترى صنفاً وعنده أصله من بهيمة الأنعام.

4.  أرباح الأسهم.

الزكاة من أجل العبادات، ومن أفضل القربات فلا ينبغي أن تمارس فيها أساليب الرسوم والجبايات، وإنما ينبغي التشجيع والحض والحث على إخراجها، وخطورة التواني فيها أومنعها.

وليكن لنا في السلف الصالح الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى، فها هو أبوبكر رضي الله عنه كان إذا جاءه أحد ليستلم عطاءه سأله: ألك مال وجبت فيه الزكاة؟ فإن قال: نعم، أخذ منه الزكاة، وإن نفى تركه، ولم يلح عليه، ولا سعى في التجسس والبحث والتفتيش عن صدقه.

وكان عثمان يذكر ولا يلح، ويقول: هذا شهر زكاتكم.

وروى ابن القاسم أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل المدينة أن يضع المَكْس، فإنه ليس بالمَكْس ولكنه البخس، قال تعالى: "وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ"، ومن أتاك بصدقة فاقبلها منه، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه، والسلام.

جاء في ترجمة التابعي الكبير طاوس اليماني كما قال الذهبي: (عن ابن جريج حدثنا إبراهيم ابن ميسرة أن محمد بن يوسف الثقفي استعمل طاوساً على بعض الصدقة، فسألت طاوساً: كيف صنعت؟ قال: كنا نقول للرجل: تزكي رحمك الله مما أعطاك الله؟ فإن أعطانا أخذنا، وإن تولى لم نقل تعال).

أين نحن من هذا الأسلوب، ومن ذاك الرفق؟ ولماذا لم يواجه الذين يمارسون الشركيات، ويضيعون الصلوات المكتوبات، وينتهكون حرمة الصيام، ويقترفون الفواحش والمنكرات، ويتعدون على المال العام بهذا العنف؟ وهم أولى بذلك وأحق.

بل لماذا يكون الكفار أحسن منا ظناً برعاياهم، حيث يكتفون بما يقال لهم، ويصدقون ما يدفع إليهم، اللهم إلا إذا تبين لهم خلاف ذلك.

اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تولِّ علينا شرارنا، اللهم لا تجعل للكافرين والمنافقين علينا ولاية ولا سلطاناً.

اللهم احفظ علينا ديننا، وسوداننا، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الملحمة، ورسول الرحمة، وعلى آله، وصحابته، والتابعين لهم إلى يوم البعث والنشور.

---------------------

العمرة

تعريفها

هي الزيارة، وشرعاً الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة.

حكمها

سنة مؤكدة، وقد أوجبها بعض أهل العلم: أبو حنيفة، والشافعي، وابن حبيب المالكي؛ وهي مرة في العمر.

أركانها

ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة.

واجباتها

الحلق أو التقصي .

وقتها

طول العام، إلا أيام الحج لمن كان حاجاً، ومن أحرم بعمرة في أشهر الحج ونوى الحج فهو متمتع.

وأفضلها في رمضان، وكره بعض أهل العلم تكرارها في العام أكثر من مرة كما قال مالك، وهو الراجح.

وليس على أهل مكة عمرة، وإنما عمرتهم الطواف بالبيت.

فضلها

التكرار بين العمرة مكفر للذنوب إذا اجتنبت الكبائر.

---------------

تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه

 

تعريف الحج

حكمه

دليل الحكم

يجب الحج في العمر مرة على المستطيع

متى فرض الحج ؟

الحج يجب على الفور أم على التراخي؟

فضل الحج

النهي، والتحذير، والترهيب، من التهاون في تأخير الحج، أوتركه

شروط وجوب الحج

المراد بالاستطاعة

المَحْرَم للمرأة

الحج بمال حرام

تعريف الحج

الحج لغة القصد لمن تعظمه.

وشرعاً: قصد مكة المكرمة ، والمشاعر المقدسة للنسك.

حكمه

ركن من أركان الإسلام ، وفرض من فروضه ، من جحد وجوبه فقد كفر.

دليل الحكم

من الكتاب قوله تعالى: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين".

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً"، وقد أجمعت الأم على فرضيته وركنيته.

يجب الحج في العمر مرة على المستطيع

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم".

ودليل الاستطاعة قوله تعالى: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ".

متى فرض الحج ؟

قولان لأهل العلم : في السنة التاسعة من الهجرة، وقيل في السنة السادسة من الهجرة، والراجح القول الأول.

الحج يجب على الفور أم على التراخي؟

قولان كذلك لأهل العلم رحمهم الله، وهو ناتج من اختلافهم في السنة التي فرض فيها الحج، فمن قال: فرض الحج في السنة التاسعة أوجبه فور الاستطاعة، وهو الراجح، ومن قال فرض في السنة السادسة وهم الشافعية فقد قالوا يجب على التراخي.

فضل الحج

ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة، وآثار عديـدة منهـا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسـوله. قيل: ثم مـاذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبـرور."

وقال أبو هريرة كذلك: سمعت رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه".

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة "، هذا الفضل لمن صدقت وصلحت نيته، وطهرت سريرته، وصحت متابعته لرسول الله النبي صلى الله عليه وسلم.

النهي، والتحذير، والترهيب، من التهاون في تأخير الحج، أوتركه

وردت أحاديث تحث على تعجيل أداء هذه الفريضة لمن استطاعها، وتنهى وتحذر من التهاون فيها، خرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: "تعجلوا الحج". وعن الفضل: "من أراد الحج فليتعجل، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، وقال عمر عمن وجب عليه الحج ولم يحج: "إن شاء فليمت يهودياً أونصرانياً"، أوكما قال.

شروط وجوب الحج

ما من عبادة إلا ولها شروط وجوب وصحة، فشروط وجوب الحج هي:

1. الإسلام: لحديث معاذ عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقد رتب فيه أركان الإسلام على كلمة التوحيد، فالكافر والمشرك لا يجب عليهما، وإن أدياه لا يقبل منهما.

2.  التكليف: العقل والبلوغ ، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة ـ وذكر منهم ـ الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق"، وإن حج الصبي قبل منه ولكن لا تجزئه عن حجة الإسلام.

3.    الحرية: الحج لا يجب على المملوك، وإن حج قبل منه إذا أذن له سيده.

4.    الاستطاعة: لا يجب إلا على المستطيع.

هذه الشروط منها ما هو شرط وجوب و صحة، ومنها ما هو شرط وجوب وإجزاء، ومنها ما هو شرط وجوب فقط، فالإسلام والعقل شرطا وجوب و صحة، والحرية والبلوغ  شرطا وجوب و إجزاء، والاستطاعة شرط وجوب فقط.

هذا بالنسبة للرجل، حيث تزيد المرأة على الرجل شرطاً آخر وهو المَحْرَم ، فلا يجب الحج على المرأة إلا إن كان معها أحد محارمها.

المراد بالاستطاعة

الزاد والراحلة، الزاد له في سفره وترحاله حتى يعود ولمن يعول، والراحلة التي تبلغه مكة والمشاعر، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو أنه قام رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ فقال: "الزاد والراحلة".

ونهى الإمام أحمد جماعة من أهل اليمن أرادوا أن يحجوا متسولين مع القافلة, وقالوا نحن المتوكلون. فقال لهم: لو كنتم متوكلين لا تمشوا مع القافلة. فقالوا: لابد لنا من ذلك. فقال لهم: إذاً على جُرُب القوم توكلتم.

وقد ذهب المالكية إلى أنها إمكانية الوصول إلى مكة والمشاعر، دون مشقة زائدة مع الأمن على النفس والطريق.

المَحْرَم للمرأة

المَحْرَم من شروط وجوب الحج ومن شروط صحته كذلك، فلا يحل لها أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم، والمحرم هو زوج المرأة ومن يحرم عليه زواجها على التأبيد، بسبب نسب، أو رضاع، أومصاهرة. وأجاز بعض أهل العلم لمن لم تحج حجة الإسلام أن تسافر مع الرفقة المأمونة كالمالكية، والشافعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، إذا أمنت على نفسها؛ والراجح القول الأول والعلـم عند الله.

الحج بمال حرام

إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد رُفع الحرجُ عن هذه الأمة حيث لم يُفْرَض الحج إلا على المستطيع القادر، فلا يحل لأحد أن يحج بمال حرام، مسروق، أومغصوب، أوحصل عليه عن طريق الربا أوالقمار، واختلف العلماء في سقوط الفريضة عن الذمة لمن حج بمال حرام على قولين، فقد صحح حجه مع الإثم أبوحنيفة، ومالكفي قول عنه، والشافعي؛ وقال أحمد: لا يجزئه.

------------------------

الإحرام: مواقيته، أوجهه، محظوراته وفديتها

 

الإحرام

المواقيت

من تخطى الميقات من غير إحرام

أوجه الإحرام

محظورات الإحرام

فدية محظورات الإحرام

القارن والمتمتع

 

الإحرام

الإحرام ركن من أركان الحج، وهو نية الدخول في النسك مقروناً بعمل من أعمال الحج كالتلبية أوالتجرد، ويخطئ كثير من الناس حيث يعتقدون أن الإحرام هو التجرد من المخيط والمحيط، وهو واجب من واجبات الإحرام على من تركه فدية فقط، إما أن يذبح شاة، أويصوم ثلاثة أيام، أويطعم ستة مساكين.

المواقيت

الزمانية: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، لقوله تعالى: "الحج أشهر معلومات"؛ فيجوز الإحرام في أي وقت فيها.

المكانية: خمسة، وهي: ذو الحليفة، لأهل المدينة ومن يحرم منها، وتعرف الآن بآبار علي؛ والجحفة، وهي ميقات أهل الشام، وقد خُرِّبت، ويحرم الناس الآن من رابغ المحاذية لها؛ وقرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل الكبير، وهو ميقات أهل نجد؛ ويلملم وهي ميقات أهل اليمن والسودان وغرب إفريقيا، وتحاذيها الآن السعدية على بعد 100 كلم جنوب جدة؛ وذات عِرْق لأهل العراق؛ هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون هذه المواقيت فيحرم من مكانه، حتى أهل مكة ومن كان بها يهلون من منازلهم.

تنبيه

جدة ليست ميقاتاً لا لمن جاء بالجو أوبالبحر، إلا لأهلها، فعلى الحاج والمعتمر أن يحرم عند المواقيت التي حددها الشارع عندما يعلمهم ملاحو الطائرات والسفن بذلك، ويكره له أن يحرم قبل الميقات المكاني، وقد ذهب البعض إلى أنها ميقات للسودانيين، وهو قول مردود.

من تخطى الميقات من غير إحرام

عليه دم، إلا أن يرجع إلى ميقاته ويحرم منه.

أوجه الإحرام

ثلاثة، وهي:

1.  الإفراد: أن يحرم بالحج ويقول: "نويت الحج وأحرمت لله به" أو"لبيك حجاً".

2.  التمتع: وهو أن يحرم بالعمرة في أشهـر الحج فيقول: "نويت العمرة وأحرمت لله بها" أو"لبيك عمرة"، ثم يحل، وإذا جاء يوم الثامن من ذي الحجة أحرم من منزلته بالحج.

3. القران: وهو أن يحرم بالحج والعمرة معاً، فيقول: "نويت الحج والعمرة وأحرمت لله بهما" أو"لبيك حجاً وعمرة".

وكل هذه الأوجه جائزة وإن اختلف العلماء أيها أفضل، فذهب المالكية إلى أن الإفراد أفضل لمن يستطيع أن يفرد سفراً للحج وآخر للعمرة، لا كما يفعل الناس اليوم يحجون ويعتمرون في سفرة واحـدة؛ وذهب الأحناف إلى أن القران أفضل، وهو أفضل لمن استطاع أن يسوق معه الهدي وإلا فلا؛ وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن التمتع أفضل لمن لم يسق الهدي ولم يستطع أن يفرد الحج بسفرة والعمر بسفرة، وهذا هو الراجح.

وسبب هذا الاختلاف اختلافهم في حجته النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفرداً، أم قارناً، أم متمتعاً؟ والذي يترجح لدي أنه كان قارناً لسوقه الهدي، والله أعلم.

محظورات الإحرام

من أحرم بحج أو عمرة حُظِرَ عليه الآتي:

1. تغطية الرأس للرجل لأن إحرامه فيه، وتغطية الوجه واليدين للمرأة لأن إحرامها فيهما، إلا إذا مرت برجال فعليها تغطية وجهها بشيء تجافيه عن ملامسة الوجه؛ ولو مات أحدهما كفن في إحرامه وكشف رأس الرجل ووجه المرأة.

2.   حلق الشعور كلها.

3.   تقليم الأظافر.

4.   الطيب.

5.   المخيط والمحيط.

6.   الجماع ومقدماته.

7.   صيد البر أوالإعانة عليه، أوالأكل منه.

8.   أن يخطب، أويتزوج، أويزوِّج غيره، أويحضر عقداً.

فدية محظورات الإحرام

من ارتكب محظوراً من المحظورات الخمسة الأول، وهي تغطية الرأس للرجل، والوجه للمرأة، من غير ضرورة، أوحلق شعراً، أوقلم ظفراً، أومس طيباً، أولم يتجرد من المخيط، متعمداً فعليه فدية، وهو بالخيار إما أن يذبح شاة، أويطعم ستة مساكين، أويصوم ثلاثة أيام في أي مكان شاء، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة رضي الله عنه: "أيوذيك هوام شعرك؟ قال: نعم. قال: احلق رأسك ثم انسك شاة، أوصم ثلاثة أيام، أوأطعم ستة مساكين" أوكما قال.

ومن قتل صيداً برياً فجزاؤه مثل ما قتل من النَّعم، كما أخبرنا ربنا سبحانه و تعالى إن كان له مِثْل، وإن لم يكن للصيد المقتول مثلاً فتجب عليه قيمته، فمثلاً النعامة فيها بدنة، وفي حمار الوحش بقرة  وفي الضبع كبش، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عناق، وفي الحمامة شاة.

تنبيه

إن ارتكب المحرم محظورين فلكل واحد منهما فديته؛ ولا يضر المحرم الشمسية غير ملامسة لرأسه، ولا ركوب سيارة مظللة ولا الاستحمام.

أما الجماع

فمن جامع زوجته قبل عرفة فقد فسد حجهما إجماعاً، سواء كان فرضاُ، أونفلاً، وكذلك العمرة، وعليهما الآتي:

1.   على كل واحد منهما بدنة.

2.   التمادي في حجهما الفاسد.

3.   القضاء من العام القابل.

4.   يفرق بينهما في العام القابل.

من جامع بعد عرفة قبل رمي جمرة العقبة فقولان لأهل العلم: الفساد، وهو قول الجمهور مالك، والشافعي، وأحمد، وعليه شاة؛ والتمام مع ذبح بدنة، عند أبي حنيفة.

وإن جامع بعد رمي جمرة العقبة فقد صح حجه وعليه شاة ، وقيل بدنة.

أما مقدمات الجماع

كالقبلة، والمفاخذة، واللمس، إذا أنزل اختلف العلماء، فقال مالك: فسد حجه إن أنزل، وإذا لم ينزل لا شيء عليه مع الحرمة. وقال أبو حنيفة: حجه صحيح أنزل أم لم ينزل وعليه دم. وقال الشافعية: عليه فدية الأذى. وقال أحمد: إن باشر دون الفرج عليه بدنة إن أنزل، وشاة إن لم ينزل.

أما إذا تزوج ، أوزوَّج أوعقد، أو خطب، فليستغفر الله ولا شيء عليه من الفدية.

القارن والمتمتع

عليهما هدي يذبح بعد صلاة العيد في يوم العيد وأيام التشريق، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ولا يشرع في الصيام إلا بعد هلال ذي الحجة، ومن لم يتمكن صامها في أيام التشريق، والهدي يذبح في أي مكان من الحرم.

------------------------

أركان الحج، وواجباته، وسننه

أركان الحج

أربعة، هي:

1.  الإحرام

وهو نية الدخول في النسك مقروناً بعمل من أعمال الحج كالتلبية أوالتجرد، ويخطئ كثير من الناس حيث يعتقدون أن الإحرام هو التجرد من المخيط والمحيط، وهو واجب من واجبات الإحرام على من تركه فدية فقط، إما أن يذبح شاة، أويصوم ثلاثة أيام، أويطعم ستة مساكين.

2.  الوقوف بعرفة

وهو الركن الثاني من أركان الحج، وهو أصل الحج وأُسُّه لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، ووقته من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم العيد، والسنة أن يجمع بين الليل والنهار وأن يقف بعرفة قبل الزوال، ولا يتحرك منها إلا بعد دخول الليل، وعرفة كلها موقف، وليحذر الحاج الوقوف بوادي عُرَنة، وله أن يقيل فيه، ولكن لابد له أن يتحرك منه بعد الزوال؛ وفي عرفة يقصر و يجمع بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم؛ ولا يصلي الحاج المغرب إلا بمزدلفة جمع تأخير مع العشـاء.

3.  طواف الإفاضة أوالزيارة

وهو الطواف الركن، ووقته من ضحى يوم العيد ولا حد لآخره، والأفضل أن يعمل يوم العيـد، ومن لم يتمكن ففي أيام التشريق، وليجتهد ألا يتعدى به نهاية ذي الحجة إلا لعذر.

4.  السعي بين الصفا والمروة

وهو يقع بعد طواف الإفاضة، أوأي طواف آخر، وللمفرد والقارن أن يقدماه مع طواف القدوم.

 

واجبات الحج

1.   التلبية: وصيغتها: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ووقتها من الإحرام بالحج للقارن والمفرد إلى أن يرمي جمرة العقبة.

2.   طواف القدوم عند مالك و عند الجمهور سُنّة.

3.    طواف الوداع عند الجمهور وعند مالك سنة، وقد رُخِّص فيه للحائض، والنفساء، وأهل مكـة.  وليس على الحاج طواف سوى هذه الأطوفة الثلاثة إلا أن يتنفل.

4.   المبيت بمزدلفة ، وقد رُخِّص لمن له عمل متعلق بالحج، وللعجزة والضعفة بالتحرك بعد متصف الليل.

5.   رمي جمرة العقبة بسبع حصيات يوم العيد من شروق شمس يوم العيد إلى الزوال، ومن لم يتمكن من رميها له أن يرميها إلى ما قبل الغروب، ومن لم يتمكن من رميها قبل الغروب رماها في أول أيام التشريق، وهكذا.

6.  المبيت بمنى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه، والتأخير أفضل من التقديم لأهل مكة ولغيرهم، ومن تعجل فليخرج قبل الغروب وإلا وجب عليه التأخير.

7.  رمي الجمار مُرتَّبة الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى وهي العقبة، كل واحدة بسبع حصيات، يبدأ الرمي من الزوال إلى الغروب فمن لم يتمكن من ذلك فله أن يجمع اليوم الأول و الثاني بعد زوال اليوم الثاني، ومن لم يتمكن من ذلك فله أن يجمع كل ذلك إلى اليوم الثالث، كل هذا أفضل من الرمي ليلاً، أما رميها قبل الزوال فمخالف لمن قال: "لتأخذوا عني مناسككم"، وإن رخص فيه البعض.

8.   ركعتي الطواف خلف المقام أوفي أي مكان في الحرم.

9.   الحلق أوالتقصير.

من ترك واجباً من هذه الواجبات فعليه دم جزاء، لا يأكل منه، ولا يهدي، ولكن يتصدق.

تنبيه

من ترك الرمي أيام التشريق كلها عليه دم، ومن ترك المبيت بمنى أيام التشريق كلها عليه دم، ومن ترك بعضاً من ذلك فعليه أن يتصدق بما دون ذلك.

 

سنن الحج ومستحباته

1.  أن يحرم الرجل في إزار ورداء أبيضين، أما المرأة فلها أن تحرم في أي لون شاءت، والأفضل لها غير البياض، فإن لم يجد الرجل الثياب البيض فله أن يحرم في أي لون وجد، يلبس المحرم النعلين فإن لم يجد الإزار لبس السراويل، وإن لم يجد النعال لبس الخف أوالحذاء ولا يقطعه.

2.   أن يغتسل لإحرامه ولو كانت المرأة حائضاً أونفساء.

3.   أن يحرم عقب صلاة مكتوبة، فإن لم يتمكن أحرم عقب ركعتين.

4.   أن يغتسل لدخول مكة وكذلك ليوم عرفة.

5.   في الطواف يستلم الركنين الحَجَر الأسود، والركن اليماني إن تمكن، وإلا أشار إليهما.

6.   يقول عند بداية كل شوط: بسم الله والله أكبر.

7.  يدعو بين الركنين بـ"اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، وليحذر كل الحذر كتب الأدعية، وعليه أن يشتغل بما تيسر له من ذكر الله، ومن الدعاء له ولإخوانه المسلمين.

8.   له أن يشترط عند إحرامه بأن يقول: "اللهم محلي حيث حبستني"، فإن حبسه حابس تحلل من غير هدي إحصار.

9.   أفضل الحج الثج وهو كثرة الذبح، والعج وهو رفع الصوت بالتلبية للرجال.

10.   الإكثار من الذكر وتلاوة القرآن والتصدق.

11.   أن يتضلع من ماء زمزم.

12.  أن يلتقط الجمار لجمرة العقبة فقط من مزدلفة.

13.  أن يكثر من الذكر والدعاء وقول لا إله إلا الله يوم عرفة.

14.  أن يدعو بعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى أيام التشريق.

15.  من ترك شيئاً من السنن والمستحبات فلا شيء عليه

-------------------------

من شروط حج المرأة واعتمارها

أولاً: إذن الزوج

ثانياً: المحرم

محرم المرأة

يشترط في المحرم

ثالثاً: أن لا تكون معتدة من طلاق ولا وفاة

إن لم تجد المرأة محرماً

 

الحج واجب على المستطيعين من الرجال والنساء، هناك شروط صحة يشترك فيها الرجل والمرأة، وهي:

1.  الإسلام.

2.  الحرية.

3.  العقل.

4.  البلوغ.

5.  الاستطاعة المتمثلة في الزاد، والراحلة، وإذن الوالدين أوأحدهما.

ولكن هناك شروطاً تنفرد بها المرأة عن الرجل، وهي متعلقة باستطاعتها، بحيث إن لم تتوفر لها لا تكون مكلفة بأداء الحج والعمرة، والشروط الخاصة بالمرأة هي:

1. إذن الزوج.

2. المحرم.

3. أن لا تكون معتدة من طلاق أووفاة.

فإن وجد مانع من هذه الموانع فإن الحج لا يجب على المرأة في عامها هذا، ولها أن تؤخره إلى العام القابل أوبعده.

أولاً: إذن الزوج

من أرادت الحج أوالعمرة وعزمت على ذلك عليها أن تستأذن زوجها، وعلى الزوج أن لا يمنعها من حجة الإسلام وعمرته إلا لعذر شرعي، سيما وأن الراجح من قولي العلماء أن الحج يجب على الفور، فإن تعنت ومنعها لغير عذر شرعي فلا طاعة له في ذلك، وعليها أن تذهب من غير إذنه ورضاه إذ استوفت الشروط الأخرى، خاصة المحرم، هذا فيما يتعلق بحجة الفريضة وعمرة الإسلام لمن يقولون بوجوبها، أما التنفل بالحج والعمرة فلا يحل لها أن تتنفل بحج أوعمرة إلا بعد إذن ورضا زوجها، وإن عصته في ذلك ولو لم يكن له عذر شرعي فقد عصت الله ورسوله.

ومما تجدر الإشارة إليه ويجب التنبيه عليه أن تكرار الحج والعمرة والتنفل بهما للمرأة ليس من السنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين بعد حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر" الحديث، ولهذا قالت سودة وزينب بنت جحش: "والذي بعثك بالحق لا تحركنا بعدك دابة"، قال الراوي فلم تخرجا إلا بعد موتهما إلى المقبرة.

قال صاحب "نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب": (ولا تحرم زوجة بنفل حج وعمرة إلا بإذن زوجها، ولا يمنعها من فرض حج وعمرة كملت شروطه).

العذر الشرعي الذي يخول للزوج منع زوجه الذهاب إلى الحج والعمرة المرض الذي يحتاج إلى ملازمة والكبر، إلا إذا وجد من ينوب عن الزوجة كالبنت والأخت والأم ونحوها.

ثانياً: المحرم

من شروط استطاعة المرأة للحج والعمرة وجود المحرم الذي يرافقها ويسافر معها إلى مكة والمناسك، بحيث لا يجوز لها السفر لحج ولا عمرة ومن باب أولى لغير ذلك من غير محرم.

ولهذا فإن العامة من أهل العلم ذهبوا إلى أنه لا يحل للمرأة أن تسافر إلى حجة الفريضة وعمرة الإسلام إلا مع ذي المحرم، دعك عن التنفل بالحج والعمرة، وذلك للأدلة الآتية:

1. "لا تسافر المرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم".

2. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: "إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ قال: انطلق فحج مع امرأتك".

3. وصح عنه أنه قال: "لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم".

ولهذا قال أحمد رحمه الله: (المحرم من السبيل، فلمن لم يكن لها محرم لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنائبها).

وقد أجمع العلماء رحمهم الله أنه لا فرق في ذلك بين سفر وسفر، سواء كان سفر المرأة للحج والعمرة، أولطلب العلم، أولغير ذلك.

محرم المرأة

الزوج وكل ما يحرم عليه زواجها تحريماً مؤبداً، سواء كان سبب التحريم نسب، أورضاع، أومصاهرة، نحو ابنها، وأخيها، وعمها، وخالها، وابن أخيها أوأختها، وزوج أمها، وابن زوجها، أوكأخيها أوأبيها من رضاع.

تنبيه

نفقة المحرم على المرأة إلا إذا تبرع بذلك.

يشترط في المحرم

يشترط في المحرم أن يكون:

1. مسلماً.

2. بالغاً.

3. عاقلاً.

هذا هو المذهب الراجح الذي لا يجوز العدول عنه.

وأجازت طائفة من أهل العلم للمرأة أن تسافر إلى حجة الإسلام مع رفقة مأمونة، وهو قول مرجوح.

ومما يؤسف له أن هذا القول المرجوح أصبح هو الغالب، ليس في حجة الإسلام فحسب، بل في التطوع بالحج والعمرة، وفي ذلك مخالفة وجسارة على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام النووي رحمه الله: (هل يجوز للمرأة أن تسافر لحج التطوع، أولسفر زيارة، أوتجارة، ونحوهما مع نسوة ثقات أوامرأة ثقة، فيه وجهان حكاهما الشيخ أبوحامد، والماوردي، والمحاملي، وآخرون من الأصحاب في باب الإحصار، وحكاهما القاضي حسين والبغوي وغيرهم، أحدهما يجوز كالحج، والثاني وهو الصحيح.. لا يجوز لأنه سفر ليس بواجب).

واستدل على عدم الجواز بالأحاديث السابقة.

وسئل الشيخ العثيمين رحمه الله عن صحة حج المرأة من غير محرم فقال: حجها صحيح، لكن فعلها وسفرها بدون محرم محرَّم ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

إلى أن قال: وهاهنا أمر نأسف له كثير وهو تهاون بعض النساء في السفر بالطائرة بدون محرم.. وتعليلهم لهذا الأمر يقولون إن محرمها يشيعها في المطار.. والمحرم الآخر يستقبلها، وهذه العلة عليلة في الواقع)، ثم ذكر مخاطر ذلك.

وممن أجاز للمرأة السفر لحجة الإسلام مع رفقة مأمونة شيخ الإسلام ابن تيمية، والصواب ما ذهب إليه العامةمن أهل العلم، سواء كانت المرأة شابة أم عجوز، وسواء كان السفر طويلاً أم قصيراً، والله أعلم.

ثالثاً: أن لا تكون معتدة من طلاق ولا وفاة

من الأمور التي أصبح يتهاون فيها بعض النساء خروجهن للحج والعمرة سواء كانت حجة فريضة أم نافلة وهن في عدة وفاة أوطلاق، وهذا لا يحل ولا يجوز، إذ العدة واجبة على المرأة المدخول بها من طلاق أووفاة، وعلى غير المدخول بها من وفاة فقط، فإذا طلق الزوج المرأة بعد العقد وقبل الدخول فليس عليها عدة، لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً".

أما إذا عقد الرجل على المرأة ومات قبل الدخول بها فعليها العدة لأن العدة شرعت لسببين اثنين، هما:

1.  إكراماً لعقد الزوجية.

2.  وتبرئة للرحم.

ومن شروط العدة عدم خروج المرأة من بيت الزوجية إلا لسبب قاهر، ومبيتها في بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، فإذا منعت من المبيت في غير بيت زوجها الذي تركها فيه فكيف يحل لها أن تسافر إلى الحج أوالعمرة؟!

يستوي في هذا الحكم الكبيرة، والصغيرة، والكافرة، والمسلمة.

قال مالك رحمه الله: (لا تخرج له ـ أي الحج ـ معتدة وفاة).

الدليل على أن المعتدة من وفاة لا تخرج من بيت الزوجية حديث الفريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوأمرني فنوديت له، فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله؛ قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به".

قال الحافظ ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث وهو حديث مشهور ومعروف عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج منه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، ومصر، منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن مسعود، وغيرهم).

وخالف في هذه المسألة ابن عباس، وقال: إنما قال الله: تعتد أربعة أشهر وعشراً، ولم يقل في بيتها.

وعائشة رضي الله عنها، حيث خرجت حاجة ومعتمرة بأختها أم كلثوم في عدتها على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.

ولا قول لأحد بعدما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: (أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة).

ولله در القاسم بن محمد ابن أخ عائشة حين قال: أبى الناس ذلك عليها ـ أي على عائشة.

وقال الزهري: أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر.

قلت: لقد نهينا عن الأخذ بزلات وهفوات أهل العلم مهما كانت مكانتهم ومنزلتهم، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تتبع رخص العلماء تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله.

إن لم تجد المرأة محرماً

إن لم تجد المرأة محرماً وتعذرعليها ذلك فعليها أن تنيب من يحج عنها ويعتمر.

-------------------

من حجَّ بمال حرام فليس له حج

مذاهب أهل العلم فيمن حج أواعتمر بمال حرام

من حج أواعتمر بمال حلال وآخر فيه شبهة أومن كسب خسيس

من أمثلة المال الحرام

 

إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم".

اعلم أخي الحاج أن سلعة الله وهي الجنة غالية، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ولا تنال الجنة ولا الحجة المبرورة إلا بالمال الحلال الطيب، فإذا أردت أن يكون حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وعملك مقبولاً فلا تحجن إلا بمال حلال لا حرمة فيه ولا شبهة.

لقد ورد في ذلك حديث فيه مقال ينهى ويحذر من الحج بالمال الحرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أمَّ هذا البيت من الكسب الحرام شخص في غير طاعة الله، فإذا أهلَّ ووضع رجله في الغرز أوالركاب وانبعثت به راحلته قال: لبيك اللهم لبيك؛ ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، كسبك حرام، وزادك حرام، وراحلتك حرام، فارجع مأزوراً غير مأجور، وأبشر بما يسوءك؛ وإذا خرج الرجل حاجاً بمال حلال، ووضع رجله في الركاب، وانبعثت به راحلته، قال: لبيك اللهم لبيك؛ ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، قد أجبتك، راحلتك حلال، وثيابك حلال، وزادك حلال، فارجع مأجوراً غير مأزور، وأبشر بما يسرك".

مذاهب أهل العلم فيمن حج أواعتمر بمال حرام

ذهب أهل العلم في ذلك ثلاثة مذاهب، هي:

1. لا تجزئ هذه الحجة عن حجة الإسلام وعمرته، وهذا مذهب مالك وأحمد.

2. تجزئ ويغرم المال الحرام، هذا إن لم يكن يعلم وقت حجته وعمرته أن ماله حرام، أولم يعلم الحكم وعلم بعد ذلك، وهذا مذهب الجمهور، أبي حنيفة، والشافعي، وبعض المالكية.

3. يجزئ ولا يُقبل، وهذا القول كالمذهب الأول، لأن العبرة بالقبول، فما قيمة الإجزاء من غير قبول؟!

أقوال أهل العلم في ذلك

قال الونشريسي المالكي رحمه الله: (وسئل ابن محرز عمن أراد الحج بمال طيب الكسب، وله ضيعة كانت يد السلطان عليها، وشهد عدول على السماع من الثقات وغيرهم أن بني عبيد غصبوها لأجدادهم وصارت لهم الآن بالشراء أوالميراث، هل هي شبهة يتحرى لأجلها؟

فأجاب: الحج قربة، فلا ينفق فيه إلا الطيب من الكسب، فقد روي عنه في الحديث صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حج بمال حرام فقال لبيك، نودي: لا لبيك ولا سعديك، فارجع مأزوراً غير مأجور"، فأما الضيعة التي كانت يد السلطان عليها وثبت فيها ما ذكر فليس في هذا ما يخشى، وليحج بغلتها وثمنها إن بيعت.

وقال كذلك:

وسئل بعضهم عمن حج بمال حرام، أترى ذلك مجزياً عنه، ويغرم المال لأصحابه؟ فأجاب: أما في مذهبنا فلا يجزئه، وأما في قول الشافعي فذلك جـائز، ويرد المـال، ويطيب له حجه . انتهى.

فإذا قلنا بالإجزاء، فمذهب جماعة من المالكية والشافعية عدم القبول، منهم القرافي والقرطبي من أصحابنا ـ المالكية ـ والغزالي والنووي من الشافعية، قال برهان الدين: ورأيت في بعض الكتب عن مالك رحمه الله عدم الإجزاء، وأنه وقف في المسجد الحرام في الحج ونادى: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، من حج بمال حرام فليس له حج؛ أوكلام هذا معناه.

إلى أن قال:

وقال ابن القاسم: قال مالك رحمه الله: لا بأس أن يحج بثمن ولد الزنا، وفي كتاب الطراز للقاضي أبي الدعائم سند بن عنان المالكي المصري: إذا حج بمال مغصوب ضمنه وأجزأه حجه، وهذا قول الجمهور.

وعن أحمد بن حنبل: لا يجزئه وحجه باطل.

قلت: وأنشد بعضهم في هذا المعنى لبعض الحنابلة، وهو من القول بالموجب:

يحجون بالمال الذي يجمعونه            حراماً إلى البيت العتيق المحرم

ويزعم كل أن تحط رحالهـم            تُحَـطُّ و لكن فوقهم في جهنم).

وقال الإمام النووي الشافعي رحمه الله: (إذا حج بمال حرام، أوراكباً دابة مغصوبة أثم وصح حجه، وأجزأه عندنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك والعبدري، وبه قال أكثر الفقهاء، وقال أحمد: لا يجزئه، ودليلنا أن الحج أفعال مخصوصة، والتحريم لمعنى خارج عنها).

وقال الشيخ عبد الله البسام حفظه الله وهو يتحدث عن فضل الحج والعمرة: (كما ينبغي أن يعد لحجه وعمرته نفقة طيبة حلالاً، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، فإن حج بمال حرام من غير غصب أوربا، عالماً بذلك وقت حجه، لم يصح حجه، وإن كان وقت أداء الحج أوالعمرة لا يعلم عن حرمته، فحجه وعمرته صحيحان، وأما المال الحرام فيخرجه بعينه إن كان موجوداً أومثله إلى صاحب الحق، أويتصدق به، ومثله المكتسب من الربا).

قلت: ليس فيما قال النووي حجة ولا دليل على الإجزاء غير المصحوب بالقبول، وهذا كله لمن لم يعلم بحرمة ماله عند أداء النسك.

من حج أواعتمر بمال حلال وآخر فيه شبهة أومن كسب خسيس

من حج بمال حلال وآخر مشبوه، عليه أن يتخلص من المال المشبوه بإنفاقه على الفقراء والمساكين، وأن لا يدخل منه شيء في نسكه، ولا في إحرامه، ولا في تنقله، ولا في أكله وشربه وهديه، فإن فعل ذلك أجزأه حجه وعمرته، وتقبل منه إن شاء الله، أما ما أنفقه من المال المشبوه فليس فيه ولا أجر المناولة، فقط يكسب التخلص منه، ولكن يؤجر على ما تصدق به من مال من كسب خسيس، والله أعلم.

أقوال العلماء

قال الونشريسي رحمه الله: (ووجد التادلي بخط الشيخ الفقيه الصالح أبي إسحاق إبراهيم بن يحيى المعروف بابن الأمين الشنقيطي من تلامذة ابن رشـد على ظهـر شـرحه لكتاب الموطـأ ما نصه: قال أحمد بن خالد، قال ابن وضاح: يستحب لمن حج بمال فيه شبهة شيء أن ينفقه في سفره، وما يريد من حوائجه، ويتحرى أطيب ما يجد، فينفقه من حين يحرم بالحج فيما يأكل ويلبس من ثياب إحرامه وشبه هذا، ورأيته يستحب هذا ويعجبه.. وذكره عن بعض السلف).

وقال ابن مفلح رحمه الله: (وفي "الرعاية الكبرى" يكره كسب الحجام، والفصد ونحوه، وعسب الفحل، والماشطة ونحوها، والنائحة، والبلان، والمزين، والجرائحي، والصائغ، والصباغ، والحداد، وقيل: البيطار، ونحو ذلك.

وروى الخلال أن امرأة ماشطة جمعت مالاً من ذلك فجاءت إلى أبي عبد الله، وقالت: أريد الحج؛ فقال أبو عبد الله: لا يحج به، وليس هاهنا أحل من الغزل.

وذكر بعضهم أن أحمد سئل عن كسب الماشطة أتحج منه؟ قال: لا، غيره أطيب منه.

وقال المروذي: سمعت امرأة تقول: جاءت امرأة إلى أبي عبد الله من هؤلاء اللاتي يمشطن، فقالت: إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها، أترى أن أحج مما أكتسب؟ فقال: لا، وكره كسبها، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قال ابن عقيل: ويكره تعمد الصنائع الدنيئة مع إمكان ما هو أصلح منها).

هذا لمن لم يجد غير هذه المهن، وإن كانت جميع المهن مباحة، وقد تتعين في بعض الأحيان، لكن من وجد مهنة طيبة فعليه أن لا يتعمد المهن الخسيسة من أجل أن مردودها وعائدها أكبر.

فكسب الماشطة، والمزين، والحجام، ونحوهم حلال، ولكنه ليس بطيب، فمن كان له مال كسبه من غير هذه المهن فعليه أن يحج ويعتمر منه، وينفق هذا المال في معايشه، والله أعلم.

الخلاصة

الذي يترجح لدي من مذاهب وأقوال أهل العلم السابقة الآتي:

1. أن من حج أواعتمر بمال حرام يعلم حرمته قبل الشروع في الحج حجه وعمرته مردودان عليه، ولا يجزيان عن حج وعمرة الإسلام.

2. أن من حج بمال حرام وهو لا يعلم أن ماله هذا حرام عند قيامه بالحج والعمرة أن حجه صحيح وعليه أن يتخلص من هذا المال، من عينه إن وجد أوما يعادله.

3. أن الجهل بعدم قبول وإجزاء الحج والعمرة بمال حرام لا ينفع، لأن من أوجب الواجبات لمن أراد الحج والعمرة تعلم ما لا يصح الحج إلا به، ويعلم مفسداته ومحظوراته.

4.  إذا تبين له بعدما شرع في الحج أن بعض ماله حرام أوبه شبهة أومن كسب خسيس فعليه أن يتخلص منه برده إلى أصحابه أوبالتصدق به إن لم يعلم أصحابه أوتعذر رده إليهم أوإلى ورثتهم.

من أمثلة المال الحرام

على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

1.  المال المسروق، والمغصوب، والمنتهب، وما نيل عن طريق الرشوة، والمكوس، ونحوها.

2.  كسب المرابين والعاملين في المؤسسات الربوية.

3.  كسب الخمارين، والذين يزرعون، ويتاجرون، ويروجون للمخدرات والمسكرات بأنواعها المختلفة.

4.  المال المكتسب من زراعة التبغ، أوبيعه، أوالاتجار فيه: السجائر، والتمباك، والقورو، ونحوها.

5.  كسب المصورين للأنفس، وليس للمستندات والوثائق، لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.

6.  كسب الفنانين، والموسيقيين، والممثلين ونحوهم.

7.  المال المكتسب من البيوع المحرمة، كبيع العِينَة ونحو ذلك.

---------------------

ما على من نوى الحج وعزم عليه؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد إمام المتقين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..

الحج ركن من أركان الإسلام، وفرض من فروضه، وقد أوجبه الله على عباده المستطيعين على الفور مرة في العمر، فقال: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، وتوعد رسوله صلى الله عليه وسلم المستطيع الذي يؤخره من غير عذر، فقد صح عن علي رضي الله عنه يرفعه: "من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أونصرانياً"، وعن ابن عباس يرفعه: "تعجلوا إلى الحج ـ حج الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".

وهو من أجل القربات وأفضلها، فقد روى الترمذي وصححه عن ابن مسعود مرفوعاً: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة".

فمن عزم على الحج أوالعمرة فعليه بالآتي:

أولاً: معرفة أحكام الحج معرفة تامة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إن كان قارئاً فعليه أن يدرس أبواب الحج والمناسك من مظانها، وإن استطاع أن يدرس ذلك على شيخ فهو أفضل، وإن كان أمياً فعليه أن يحرص على الدروس التي تكون في المساجد عن الحج، وعلى البرامج التي تقدم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ثم بعد ذلك عليه أن يلازم من يثق بدينه ويرافقه في الحج ليقلده في ذلك.

ثانياً: عليه تعجيل التوبة من جميع الذنوب والآثام، وليحرص على أن تكون توبته صادقة نصوحاً.

ثالثاً: أن يرد ما عليه من مظالم إلى أهلها، مالية كانت أم غير مالية، وأن يستعفي أصحاب من تعذر عليه رد مظالمهم، خاصة الغيبة، والنميمة، وشهادة الزور.

رابعاً: أن يرد الديون التي عليه.

خامساً: إن كان عنده ودائع فعليه أن يردها لأصحابها.

سادساً: أن يوكل من يرد ويقضي عنه الديون والأمانات التي لم يتمكن من قضائها وأدائها بنفسه.

سابعاً: أن يصحح نيته ويخلصها لله عز وجل بالحج، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.

ثامناً: أن يصافي من كان مخاصماً له ويعافيه.

تاسعاً: أن يكتب وصيته.

عاشراً: أن يؤمن نفقة عياله ومن يعول.

أحد عشر: أن يتخير أطيب ماله، وأن يحذر الحج بمال حرام أوفيه شبهة، حتى يقبل الله منه حجه.

الثاني عشر: يحرص أن يأخذ من المال والزاد ما يكفيه ولا يحوجه إلى السؤال أوالدين.

الثالث عشر: أن يجتنب الجدل والخصومات واللغط، وأن يحفظ لسانه وجوارحه.

الرابع عشر: أن يحذر الابتداع في الحج، ويحرص على الاتباع، ويجتنب سقطات وزلات بعض أهل العلم.

الخامس عشر: لا يشرع في شراء شيء حتى يقضي نسكه.

تقبل الله حجكم، وغفر وزركم، وردكم مقبولين، سالمين، غانمين.

-----------------

مسائل في الحج

 

الحج عن الغير

الاستنابة في رمي الجمار

الحج بالصبيان

زيارة مسجد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم

الحج عن الغير

من حج عن نفسه فله أن يحج عن غيره تطوعاً كان أم بأجرة، خاصة لمن مات ولم يحج، أولعاجز، ويقول في الإحـرام: لبيك عن فلان، وللرجل أن يحج عن المرأة، وللمرأة أن تحج عن الرجل.

الاستنابة في رمي الجمار

لا تجوز إلا لمن كان عاجزاً، وأوجب المالكية على من أناب ولو بعذر هدياً.

الحج بالصبيان

يجوز الحج بهم وأن يلبي ويرمي عنهم، وعلى من اصطحبهم تحمل مخالفتهم، فلهم الحج ولمن حملهم الأجر، ويقع الطواف والسعي عنهم وعمن حملهم من غير تكرار.

زيارة مسجد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم

من قضى حجه يُسن له زيارة مسجد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، لكن ليس واجباً على كل من حج زيارة المدينة، وإن فعل فهو أحسن، لمضاعفة الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وللسلام عليه وعلى صاحبيه.

تنبيه

يستحب لمن ذهب إلى المدينة زيارة مسجد قباء وصلاة ركعتين فيه، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلاة ركعتين في مسجد قباء تعدل عمرة، وكان يزوره كل سبت ويصلي فيه ركعتين.

وزيارة شهداء أحد وزيارة البقيع للرجال.

وما سوى ذلك من المزارات فلا أصل له إلا هوى أصحاب سيارات الأج

---------------------------

الأضحية عبادة شرعية وليست عادة اجتماعية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد...

الأضحية هي الذبيحة من بهيمة الأنعـام ـ البقر والإبل والضأن والماعز ، والضأن أفضلها ـ التي تذبح ضحى يوم العيد، وفي اليومين الأولين من أيام التشريق، بعد صلاة العيد وذبح الإمام إلى الغروب، واختلف في الذبح ليلاً، وقد شرعت إحياء لسنة إبراهيم عليه السلام، عندما فدى إسماعيلَ بذبحٍ عظيم.

وهي سنة مؤكدة على الموسر عند الجمهور، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء".

ويشترط في الأضحية السلامة من العيوب سيما الأربعة التي وردت في حديث البـراء: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقي".

ولا تجزئ العمياء والكسيرة، وما دون ذلك مختلفٌ فيه، قال عبيد بن فيروز: قلت للبراء: "فإني أكره النقص في القرن ومن الذنب؟ فقال: اكره لنفسك ما شئت وإياك أن تضيِّق على الناس".

ولا يجزئ فيها إلا الجَذَع من الضأن، وهو ما أكمل ستة أشهر فأكثر، والثنيُّ من غير الضأن: من الإبل ما أكمل خمس سنين، ومن البقر ما أكمل سنتين، ومن الماعز ما أكمل سنة ودخل في الثانية؛ والبدنة والبقرة تجزئ عن سبعة في أحد قولي العلماء.

وهي سنة للرجال والنساء ، والعبيد والأحرار، سواء كانوا مقيمين أم مسافرين، متزوجين أم غير متزوجين، إلا على الحجاج ولو كانوا من أهل مكة ومنى، وأضحية الرجل تجزئ عنه وعن أهل بيته ولا يشترط لها نصاب.

والأضحية يأكل منها صاحبها، ويهدي، ويتصدق، ويدخر، إلا إذا كانت هناك جائحة فلا يدخر.

هذه العبادة التي شرعها الإسلام على الموسرين والمستطيعين من المسلمين أصبح يتكلَّفها كثير من غير المستطيعين، ويترك من أجلها أموراً قد تكون واجبة، ومن الناس من يستدين لذلك، ومن لم يجد إلى ذبحها سبيلاً تحرَّج من ذلك، وتحولت من عبادة شرعية تقوم على الاستطاعة، إلى ظاهرة اجتماعية يحرص عليها بعض تاركي الصلاة والمتهاونين فيها مثلاً، والمقصرين في كثير من الواجبات الأخرى ، سواء كانوا مستطيعين لها أم لا.

هذا المسلك مخالف ومغاير لما كان عليه السلف الصالح، بل الأئمة الكبـار والعلمـاء الأخيار، حيث كان بعضهم لا يضحِّي وهو من القادرين عليها خشية أن يعتقد البعض أنها واجبة، ويعلن ذلك على الملأ من غير خجل ولا وجل، حدث ذلك من عدد من كبار الصحابة، بل من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، كأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وبلال، وابن عباس، وابن مسعود البدري رضي الله عنهم أجمعين.

روى الإمام البيهقي في السنن الكبرى عدداً من الآثار تدل على ما ذكرنا، وهي:

  قال الشافعي رحمه الله: "وبلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحِّيان كراهة أن يُقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة"، يعني في بعض السنين.

  وعن أبي سريحـة الغفـاري ـ وهو حذيفة بن أسيـد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال: "أدركت، أورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحِّيان ـ في بعض حديثهما كراهية أن يقتدى بهما".

  وعن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن عباس: كان إذا حضر الأضحى أعطى مولى لـه درهمين فقال: اشتر بهما لحمـاً، وأخبر النـاس أنه أضحيـة ابن عباس.

  وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "إني لأدع الأضحية وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتمٌ عليّ".

  وعنه أي أبي مسعود البدري قال: "لقد هممت أن أدع الأضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن تحسب النفس أنها عليها حتمٌ واجبٌ".

وقال النووي رحمه الله: (وصحَّ عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها).

وقد علل النووي رحمه الله ترك الشيخين للأضحية في بعض السنين بفقرهما ، فقد كانا من فقراء المسلمين.

قلت: لو صح هذا في بعض السنين فقد ثبت كذلك أنهما كانا يتركانها عن مقدرة، كي لا يعتقد الناس وجوبها وكي لا يحرجوا الفقراء .

ومن السلف من رأى التصدق على المحتاجين أفضل من الأضحية منهم:

  روى عن بلال رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك، ولأن أضعه في في يتيم قد تُرِب فوه أحبُّ إليَّ من أن أضحي".

    وقالت عائشة رضي الله عنها: "لأن أتصدق بخاتمي هذا أحب إلي من أن أهدي إلى البيت ألفـاً".

    وقال مالك: الصدقة بثمن الأضحية أحب إليّ، وقال مرة: الأضحية أفضل من الصدقة.

   لا شك أن الأضحية أفضل من الصدقة في يوم عيد الأضحى، فإن لكل مقام مقالاً، والأعمال تختلف باختلاف الأوقات، وما قالته عائشة و بلال ربما كان لجائحة أولشدة عمت المدينة ، وإلا فإن الأضحية سنة. وقال ابن قدامة: قول عائشة هذا في الهدي.

ومن أهل العلم من قال بوجوبها، كأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه.

والأضحية يمكن أن تسد مسدَّ الصدقة، بحيث يتصدق بجميعها ، كما له أن يأكل ويهدي ويدخر، خاصة وقد ورد في فضلها عدد من الآثار.

منها ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحبُّ إلى الله من إراقة الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها، وأظلافها، وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً"5.

قلت: الحسنة بين سيئتين ، والأضحية للموسر ممن لا يُقتدى به أفضل من الصدقة، بل هي سنة مؤكدة، وإنما تركها الذين تركوها من أئمة الهدى في بعض السنين لأنهم مقتدىً بهم وأرادوا ألا يحرجوا الناس ويضيقوا عليهم؛ فالذين يتكلفون ويستدينون ويتركون كثيراً من الواجبات عليهم ليضحُّوا خوفاً من المجتمع وجزعاً من ضغطه ولومه مفرِّطون، والموسرون ـ من غير المقتدى بهم ـ الذين لا يضحُّون مفرِّطون.

اعلم أخي الحبيب أن الحرج كل الحرج، والضيق غاية الضيق، في ترك الأوامر الشرعية والسنن المرعية، وأن المعروف ما عرفه الشرع، والمنكر ما أنكره، واحذر كل الحذر من أن تنساق وراء التقاليد والأعراف الاجتماعية، خاصة المخالفة للشرع، وأن تكون عبداً لها أسيراً لما تقوله العامة، فقد جاء في الأثر:

"لا يكن أحدكم إمَّعةً يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم فإنه لا أسوة في الشر".

وإنه لن يشادَّ هذا الدين أحدٌ إلا غلبه، وعليك أن تبدأ بالأهم ثم المهم، فلا يحل لأحد أن يتشاغل بسنة أو مندوب ويترك الفروض، فإن فعل ذلك فإنه سيكون مأزوراً غير مأجور.

واللهَ أسألُ لي ولكم الفقه في الدين، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والاعتصام بسنة من بُعث رحمة للعالمين، والاقتداء بسيرة السلف الصالحين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركات

----------------

التكبير في العيدين وأيام التشريق

أقسام التكبير

أولاً: التكبيرات الزائدات في صلاة العيد والخطبة

عدد التكبيرات الزائدات في صلاة العيد في كل ركعة

مكان التكبرات الزائدات في صلاة العيد

رفع اليدين في التكبيرات الزائدات

الذكر بين التكبيرات الزائدات

من نسي التكبيرات الزائدات حتى شرع في القراءة؟

من نسي التكبيرات الزائدات حتى ركع

من سبقه الإمام بالتكبيرات الزائدات

من قدَّم القراءة على التكبير

حكم التكبيرات الزائدات والذكر فيها

ما على من ترك التكبيرات الزائدات أوبعضها عمداً أوسهواً ؟

التكبير في الخطبة

ثانياً : في عيد الفطر

أ.  التكبير المرسل في الفطر

ب. التكبيرالمقيد في الفطر

ثالثاً : التكبير في الأضحى

1. للحجاج

2. لغير الحجاج

التكبير في الفرض والنفل

التكبير خلف الفوائت المؤديات أيام التشريق

التكبيرات خلف صلاة الجنازة

التكبير خلف صلاة عيد الأضحى

التكبير لمن صلّى فرداً أو في جماعة

التكبير المقيد دبر الصلوات المكتوبات للنساء

المقيم والمسافر سواء في التكبير

إذا نسي المصلي أو المصلون التكبير دبر الصلاة

متى يكبر المسبوق؟

صيغة التكبير

عدد مرات التكبيرات دبر الصلوات

كيفية التكبير

إذا كبر الإمام خلاف اعتقاد المأموم

يستحب جهر الصوت بالتكبير

يكبر مستقبل القبلة

إذا أحدث قبل التكبير المقيد دبر الصلوات

تنبيهات

المراجع

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

وبعد ..

فإن التكبير في العيدين وأيام التشريق من شعارات المسلمين، وسنة من سنن المرسلين، وعلامة من علامات الفرحة لدى الموحدين، وابتهاج بقدوم العيدين، ودليل لإظهار الدين، وفيه قمع وغيظ للكفار والمعاندين؛ فينبغي للمسلمين أن يحافظوا على هذه السنة، وأن يحيوها ولا يميتوها، وأن يظهروها ولا يخفوها.

وهذا بحث عن التكبير في العيدين وأيام التشريق ، عن أقسامه، وأنواعه، ودليله، وصيغته، وكيفيته، ومتى يبدأ، ومتى ينتهي، ونحو ذلك؛ فأقول وبالله التوفيق:

ã

أقسام التكبير

التكبير في العيدين وأيام التشريق ينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:

أولاً ـ التكبيرات الزائدات في صلاة العيد والخطبة.

ثانياً ـ في عيد الفطر.

ثالثا ـ في عيد الأضحى.

ã

أولاً: التكبيرات الزائدات في صلاة العيد والخطبة

عدد التكبيرات الزائدات في صلاة العيد في كل ركعة

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:

1.  سبع تكبيرات في الأولى سوى تكبيرة الإحرام، وخمس في الثانية سوى تكبيرة الرفع، وهذا مذهب أكثر الصحابة، والتابعين، وجمهور الأئمة: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود الظاهري، وقول لمالك، وصاحبي أبي حنيفة.

وهذا هو الراجح، لما صح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً".

2.  سبع تكبيرات في كل ركعة، روي عن بعض الصحابة: ابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وأنس؛ ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والنخعي.

3.  ستاً في الأولى وخمساً في الثانية، وهذا مشهور مذهب مالك ورواية عن أحمد.

4.  ستاً في الأولى، وأربعاً في الثانية، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود.

5.  ثلاثاً في كل ركعة، حكي عن ابن مسعود، وحذيفة، وأبي موسى، وهو مذهب أبي حنيفة.

6.  خمساً في الأولى، واثنتين في الثانية، روي عن الحسن البصري.

7.  ثلاثاً في الأولى، واثنتين في الثانية، روي عن الحسن كذلك.

8. أربعاً في كل ركعة، واستدل لذلك بحديث ضعيف رواه أبو داود، وهو:" أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر ؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً، تكبيره على الجنائز؛ فقال حذيفة: صدق".

ã

مكان التكبرات الزائدات في صلاة العيد

ذهب في ذلك أهل العلم مذاهب، هي:

1.  التكبيرات الزائدات تكون بعد تكبيرة الإحرام ودعاء الاستفتاح، وقبل الفاتحة، هذا مذهب عامة أهل العلم، وهو الراجح، لحديث كُثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم:" كان يكبر في العيدين، في الركعة الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً قبل القراءة".

2.  وقال أبوحنيفة: يكبر في الثانية بعد القراءة .

3.  وقال أبويوسف: يتعوذ قبل التكبيرات.

ã

رفع اليدين في التكبيرات الزائدات

ذهب أهل العلم في رفع اليدين في التكبيرات الزائدات مذاهب، هي:

1.  يستحب أن ترفع الأيدي مع كل تكبيرة من هذه التكبيرات الزائدات، وبهذا قال عطاء، والأوزاعي، وأبوحنيفة، والشافعي، ومحمد، وأحمد، وداود، وابن المنذر، وقول لمالك؛ قال ابن حبيب المالكي: (روى ابن كنانة ومطرف أن مالكاً استحب رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة، وهي أحب إليَّ من رواية ابن القاسم، وكل واسع.

وهذا هو الراجح في كل الصلوات، المكتوبة وغيرها.

2. لا ترفع الأيدي إلا في تكبيرة الإحرام، وهذا مشهور مذهب مالك، قال ابن شاس: (ولا يرفع يديه في شيء من التكبير إلا في الأولى .. وروي عن مالك: وليس رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة سنة، ولا بأس على من فعله، وأحب إليَّ في الأولى فقط).

ã

الذكر بين التكبيرات الزائدات

ذهب أهل العلم في الذكر بين التكبيرات الزائدات في صلاة العيدين مذهبين هما:

1.   يستحب تكبير الله، وتحميده، وتهليله، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، مقدار آية بين كل تكبيرتين منها، وذلك لما رواه البيهقي بإسناد حسن: "أن الوليد بن عقبة خرج يوماً على ابن مسعود، وأبي موسى، وحذيفة، وقال : إن هذا العيد غداً، فكيف التكبير؟ فقال عبد الله بن مسعود: تكبر وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وتدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك؛ فقال الأشعري وحذيفة: صدق".

قال البيهقي رحمه الله معلقاً على قول ابن مسعود هذا: (وهذا من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوف عليه، فنتابعه في الموقوف بين كل تكبيرتين للذكر، إذ لم ير خلافه عن غيره، ونخالفه في عدد التكبيرات وتقديمهن على القراءة في الركعتين جميعاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فعل أهل الحرمين وعمل المسلمين إلى يومنا هذا، وبالله التوفيق).

ما قاله البيهقي هو المنهج الحق، فإذا صح الحديث فلا يلتفت لقول كائن من كان، وأن قول الصحابي إذا لم يخالفه فيه غيره حجة، أما إذا خالفه غيره فليس بحجة، إلا أن يكون ثمة دليل آخر، وهذا كله يدل على أن الخلاف المجرد من الدليل لا قيمة له مع وجود النص الصحيح الصريح.

وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، وابن المنذر .

2.   وقال مالك والأوزاعي ومن وافقهم: لا يقول شيئاً بين التكبيرات الزائدات، قال ابن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة": (وليس بين التكبير قول، بل يتربص بقدر ما يكبر من خلفه).

ã

من نسي التكبيرات الزائدات حتى شرع في القراءة؟

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين، هما:

1.  يأتي بها ما لم يركع، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، وقول الشافعي القديم، رحمهم الله؛ وهو الراجح، لأن التكبير شعار صلاة العيد، ويعيد القراءة ويسجد للسهو.

2.  تفوت ولا يأتي بها، وهذا مذهب الشافعي الجديد، وأحمد، والحسن بن زياد اللؤلؤي تلميذ أبي حنيفة رحمهم الله.

3.  قال ابن شاس المالكي: (وإن تذكر قبل الركوع ما لم يركع كبَّر، لأن التكبيرات الزائدات هذه من خصائص وشعار صلاة العيد، فلا تفوت قبل الركوع، ويأتي بالقراءة بعدها، ويسجد للسهو قبل السلام، وإن سجد بعده فلا حرج عليه).

قال ابن قدامة: (فإن نسي التكبير وشرع في القراءة، لم يعد إليه؛ قاله ابن عقيل، وهو أحد قولي الشافعي، لأنه سنة، فلم يعد إليه بعد الشروع في القراءة، كالاستفتاح؛ وقال القاضي: فيها وجه آخر، أنه يعود إلى التكبير؛ وهو قول مالك، وأبي ثور، والقول الثاني للشافعي، لأنه ذكره في محله فيأتي به كما قبل الشروع في القراءة ، وهذا لأن محله القيام، وقد ذكره فيه، فعلى هذا يقطع القراءة ويكبر، ثم يستأنف القراءة لأنه قطعها متعمداً بذكر طويل، وإن كان المنسي شيئاً يسيراً احتمل أن يبني، لأنه لم يطل الفصل، أشبه ما لو قطعها بقول آمين، واحتمل أن يبتدئ لأن محل التكبير قبل القراءة، ومحل القراءة بعده، فيستأنفها ليأتي بها بعده).

ã

من نسي التكبيرات الزائدات حتى ركع

من نسي التكبيرات الزائدات أو بعضها إلى أن ركع فلا يرجع إليها، فقد فات وقتها قولاً واحداً، قال ابن شاس: (لو نسي التكبيرات في ركعة فلا يتداركها إذا تذكرها بعد الركوع أو فيه، وقيل يتداركها ما لم يرفع رأسه منه).

وقال ابن قدامة: (فإن لم يذكره ـ أي التكبير ـ حتى ركع، سقط وجهاً واحداً، لأنه فات المحل).

ã

من سبقه الإمام بالتكبيرات الزائدات

1.   إن وجد الإمام يقرأ أحرم وكبّر سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية.

2.   إن كان لا يدري أهي الأولى أم الثانية كبّر سبعاً تحوطاً .

3.  إن وجد الإمام في التشهد كبّر للإحرام وجلس، وبعد سلام الإمام يقوم يقضي الصلاة على هيئتها، يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً.

قال ابن قدامة: (وكذلك المسبوق إذا أدرك الركوع، لم يكبر فيه، وقال أبو حنيفة: يكبر فيه، لأنه بمنزلة القيام، بدليل إدراك الركعة به، ولنا أنه ذكرٌ مسنون حال القيام، فلم يأت به في الركوع، كالاستفتاح، وقراءة السورة، والقنوت عنده، وإنما أدرك الركعة بإدراكه، لأنه أدرك معظمها، ولم يفته إلا القيام، وقد حصل منه ما يجزئ في تكبيرة الإحرام.

فأما المسبوق إذا أدرك الإمام بعد تكبيره، فقال ابن عقيل: يكبِّر، لأنه أدرك محله، ويحتمل أن لا يكبر، لأنه مأمور بالإنصات إلى قراءة الإمام، ويحتمل أنه إن كان يسمع قراءة الإمام أنصت، وإن كان بعيداً كبر).

وقال ابن شاس: (ولو أدرك المسبوق الإمام في القراءة، فقال ابن القاسم: يدخل معه، ويكبر سبعاً، وإن وجده قد رفع رأسه، أو قام في الثانية فليكبر خمساً؛ وقال ابن وهب: لا يكبر إلا واحدة، قال ابن حبيب: إن أدرك الإمام وهوفي قراءة الثانية، فليكبر للإحرام، ثم يكبر خمساً، فإذا قضى كبر ستاً، والسابعة قد كبرها للإحرام).

ã

من قدَّم القراءة على التكبير

من قدَّم القراءة على التكبير أعاد القراءة بعد التكبير إستناناً، ما لم يركع ويسجد قبل السلام لسهوه، وإن فعل ذلك متعمداً فعليه السجود قبل السلام مع الإثم.

ã

حكم التكبيرات الزائدات والذكر فيها

التكبيرات الزائدات في صلاة العيد والذكر فيها سنة مؤكدة .

قال ابن قدامة: (والتكبيرات والذكر بينها سنة، وليس بواجب، ولا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً، ولا أعلم فيه خلافاً).

ã

ما على من ترك التكبيرات الزائدات أوبعضها عمداً أوسهواً ؟

من ترك التكبيرات الزائدات كلها أو واحدة منها عمداً أو سهواً عليه سجود السهو قبل السلام.

قال في سبيل السعادة: (كل تكبيرة منها سنة مؤكدة، يسجد الإمام والمنفرد للواحدة منها، لأن المأموم لا شيء عليه في ترك السنن ولو عمداً حيث أتى بها الإمام).

ã

التكبير في الخطبة

تفتتح خطبة العيد بالتكبير، بسبع تكبيرات، وبعد مضي كلمات يكبر ثلاثاً، وكذلك في الثانية، ويكبر بين أضعاف الخطبة، وفي تكبير المأمومين خلف الإمام في الخطبة قولان؛ أرجحهما يكبرون مع تكبيره.

ã

ثانياً : في عيد الفطر

أ.  التكبير المرسل في عيد الفطر

تعريفه

وهو الذي لا يتقيد بحال، يؤتى به في المساجد، والمنازل، والطرقات، ليلاً ونهاراً، فرادى وجماعات، مسافرين ومقيمين، للرجال والنساء، والجنب، والحائض، والنفساء، الكبار والصغار.

حكم التكبير المرسل في عيد الفطر

ذهب أهل العلم في ذلك ثلاثة مذاهب هي:

1.   مشروع مسنون، وهذا مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد.

2. يكبر في الفطر، ولكن يخافت به، وهذا مذهب صاحبي أبي حنيفة، محمد بن الحسن الشيباني، والقاضي أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة .

3.   لا يكبر في الفطر، لا جهراً ولا سراً، وهذا مشهور مذهب أبي حنيفة.

والراجح مذهب الجمهور، أن التكبير المرسل في الفطر مشروع مسنون .

الأدلة على ذلك

قوله تعالى: "لتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".

وقوله تعالى: "ويذكروا اسم الله في أيام معدودات".

وقوله: "وذكر اسم ربه فصلى".

قال البيهقي: (قال الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : لتكملوا عدة صوم شهر رمضان وتكبروا الله عند إكماله على ما هداكم، وإكماله مغيب الشمس من آخر يوم من أيام شهر رمضان).

وروى سعيد بن جبير عن عباس في قوله تعالى: "وذكر اسم ربه فصلى"، قال: "ذكر الله وهو ينطلق إلى العيد" ، وعن نافع عن ابن عمر: "أنه كان يكبر ليلة الفطر حتى يغدو إلى المصلى".

ثم ذكر عدداً من الآثار تدل على مشروعية التكبير المطلق في الفطر، منها :

عن نافع أن ابن عمر كان يغدو إلى العيد من المسجد، وكان يرفع صوته بالتكبير حتى يأتي المصلى، ويكبر حتى يأتي الإمام .

وعن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس، وعبد الله بن عباس ، وعلي، وجعفر، والحسن، والحسين، وأسامة بن زيد بن حارثة، وأيمن بن أم أيمن رضي الله عنهم، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى.

وقد روي ذلك عن علي رضي الله عنه.

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى.

أقوال أهل العلم

قال الإمام النووي رحمه الله: (ويسن التكبير المطلق في الفطر).

وقال الخرقي رحمه الله في مختصره: (ويظهرون التكبير في ليالي العيد، وهو في الفطر آكد لقوله تعالى: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".

وقال ابن قدامة في شرحه لما قاله الخرقي: (وجملته أنه يستحب للناس إظهار التكبير في ليالي العيدين في مساجدهم، ومنازلهم، وطرقهم، مسافرين كانوا أو مقيمين، لظاهر الآية المذكورة.. ومعنى إظهار التكبير رفع الصوت به، واسْتُحِبَّ ذلك لما فيه من إظهار شعائر الإسلام، وتذكير الغير .. قال أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعاً، ويعجبنا ذلك. واختص الفطر بمزيد تأكيد، لورود النص فيه، وليس التكبير واجباً، وقال داود: هو واجب في الفطر لظاهر الآية.

إلى أن قال: ويستحب أن يكبر في طريق العيد، ويجهر بالتكبير، قال ابن أبي موسى: يكبر الناس في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيد جهراً، حتى يأتي الإمام المصلى، ويكبر الناس بتكبير الإمام في خطبته، وينصتون فيما سوى ذلك).

وقال ابن نُجيم الحنفي في شرح ما قاله النسفي في كنز الدقائق: "غير مكبر ولا متنفل فيها": (أي قبل صلاة العيد، أما الأول فظاهر كلامه أنه لا يكبر يوم الفطر قبل صلاة العيد، لا جهراً ولا سراً، وأنه لا فرق بين التكبير في البيت، أوفي الطريق، أوفي المصلى قبل الصلاة، لكن أفاد بعد ذلك أن أحكام الأضحى كالفطر، إلا أنه يكبر في الطريق جهراً).

ã

متى يبدأ التكبير المطلق في الفطر ومتى ينتهي ؟

في بدء التكبير في الفطر قولان:

1.   عند القدوم إلى صلاة العيد، وهذا مذهب الجمهور.

2.   عند غروب شمس ليلة العيد؛ وهو الراجح لما جاء في تفسير الآية : "ولتكملوا العدة.." عن الشافعي وغيره.

وفي نهايته قولان كذلك لأهل العلم:

1.   إلى أن يخرج الإمام إلى الصلاة .

2.   إلى فراغ الإمام من الصلاة.

أقوال أهل العلم

قال ابن شاس المالكي: (ويقطع التكبير بخروج الإمام، واختلف المتأخرون هل بخروجه من محل العيد ماضياً إلى الصلاة، أوبعد حلوله في محل صلاته؟).

وقال النووي: (وأول وقت تكبير الفطر إذا غابت الشمس من ليلة الفطر، لقوله عز وجل: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم"، وإكمال العدة بغروب الشمس من ليلة الفطر، وأما آخره ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال، أحدها: ما روى المزني أنه يكبر إلى أن يخرج الإمام إلى الصلاة، لأنه إذا حضر فالسنة أن يشتغل بالصلاة، فلا معنى للتكبير؛ والثاني: ما رواه البويطي أنه يكبر حتى تفتح الصلاة، لأن الكلام مباح قبل أن تفتتح الصلاة، فكان التكبير مستحباً؛ الثالث قاله في القديم: حتى ينصرف الإمام، لأن الإمام والمأمومين مشغولون بالذكر إلى أن يفرغوا من الصلاة، فسن لمن لم يكن في الصلاة أن يكبر. ومن أصحابنا من قال: هو على قول واحد إلى أنه يكبر إلى أن تفتتح الصلاة.

وقال ابن قدامة: (وأما الفطر فمسنونه غير مقيد، على ظاهر كلام أحمد، وهوظاهر كلام الخرقي، وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس من ليلة الفطر إلى خروج الإمام إلى الصلاة، في إحدى الروايتين، وهو قول الشافعي، وفي الأخرى إلى فراغ الإمام من الصلاة.

وقال في موضع آخر: ويكبر في طريق العيد، ويرفع صوته بالتكبير، وهو معنى قول الخرقي: "مظهرين التكبير"، قال أحمد: يكبر جهراً إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى؛ روي ذلك عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة، وأبي رُهْم، وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو قول عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان ـ ابن عفان ـ، وأبي بكر بن محمد، وفعله النخعي، وسعيد بن جبير، وعبدالرحمن بن أبي ليلى؛ وبه قال الحَكَم، وحماد، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر؛ وقـال أبوحنيفـة: يكبر يوم الأضحى، ولا يكبر يوم الفطر، لأن ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر، فقال: ما شأن الناس؟ فقيل: يكبرون. فقال: أمجانين الناس؟

وقال إبراهيم: إنما يفعل ذلك الحواكون؛ ولنا: أنه فعل مَنْ ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم، وقولهم. قال نافع: كان ابن عمر يكبر في الأضحى والفطر، ويكبر ويرفع صوته. وقال أبو جميلة: رأيت علياً رضي الله عنه خرج يوم العيد، فلم يزل يكبر حتى انتهى إلى الجبانة. فأما ابن عباس فكان يقول: يكبرون مع الإمام ولا يكبرون وحدهم؛ وهذا خلاف مذهبهم، فإذا ثبت هذا فإنه يكبر حتى يأتي المصلى، لما ذكرنا عن علي رضي الله عنه وغيره. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله في الجهر بالتكبير: حتى يأتي المصلى، أوحتى يخرج الإمام؟ قال: حتىيأتي المصلى. وقال القاضي: فيه رواية أخرى: حتى يخرج الإمام).

ã

ب. التكبيرالمقيد في الفطر

التكبير المقيد هو الذي يكون دبر الصلوات، ذهب أهل العلم رحمهم الله في التكبير المقيد في الفطر مذهبين :

1.  مسنون مشروع، لأنه عيد شرع فيه المرسل قياساً على الأضحى.

2.   غير مسنون، لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أقوال العلماء

قال ابن قدامة: (وأما الفطر فمسنونه مطلق غير مقيد).

وقال الشيرازي الشافعي: (ويسن التكبير المطلق في عيد الفطر، وهل يسن التكبير المقيد في أدبار الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يسن لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أنه يسن لأنه عيد يسن له التكبير المطلق، فيسن له التكبير المقيد كالأضحى).

وقال النووي في شرحه لما قال الشيرازي: (وأما التكبير المقيد فيشرع في عيد الأضحى بلا خلاف لإجماع الأمة، وهل يشرع في عيد الفطر؟ فيه وجهان مشهوران، حكاهما المصنف والأصحاب، وحكاهما صاحب "التتمة" وجماعة، قولين، أصحهما عند الجمهور: لا يشرع، ونقلوه عن نصه في الجديد، وقطع به الماوردي، والجرجاني، والبغوي، وغيرهم؛ وصحّحه صاحبا "الشامل" و"المعتمد"، واستدل له المصنف والأصحاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعاً لفعله ولنُقل، والثاني: يستحب، ورجحه المحاملي، والبندنيجي، والشيخ أبو حامد، واحتج له المصنف والأصحاب: بأنه عيد يسن فيه التكبير المرسل فَسُنَّ المقيد كالأضحى، فعلى هذا قالوا: يكبر خلف المغرب، والعشاء، والصبح؛ ونقله المقلي عن نصه في القديم؛ وحكم النوافل والفوائت في هذه المدة على هذا الوجه يقاس بما سنذكره إن شاء الله تعالى في الأضحية).

بداية التكبير المقيد في الفطر ومنتهاه

التكبير المقيد في الفطر لمن قال به يبدأ من صلاة المغرب ليلة الفطر إلى صلاة الصبح، فيكبر خلف المغرب، والعشاء، والصبح، وكذلك خلف النوافل والمقضيات في هذا الوقت .

ã

ثالثاً : التكبير في عيد الأضحى

الناس في الأضحى ضربان :

1.     حجاج.

2.    وغير حجاج.

وسنتحدث بشيء من التفصيل عن حكم التكبير لكل من هذين الضربين .

ã

1.للحجاج

أ. التكبير المطلق ـ المرسل ـ للحجاج

متى يبدأ ومتى ينتهي

يبدأ التكبير المطلق للحجاج بعد رمي جمرة العقبة، لأنهم قبل ذلك يكونون مشغولين بالتلبية، فبعد رمي جمرة العقبة تقطع التلبية ويشرع الحجاج في التكبير، عند رمي الجمار، وفي الخيام، وعلى كل حال، وينتهي بخروجهم من منى قبل الظهر لمن كان متعجلاً في اليوم الثاني، وللمتأخر في اليوم الثالث من أيام التشريق.

أقوال العلماء

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات.." الآية: (ولا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمار، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام، في هذا الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية).

وقال ابن قدامة: (وكان ابن عمر يكبر في قبته بمنى، يسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. قال أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعاً، ويعجبنا ذلك).

ã

ب. التكبير المقيد للحجاج

التكبير المقيد للحجاج هو الذي يكون دبر الصلوات .

متى يبدأ ومتى ينتهي ؟

قال النووي عن التكبير المقيد للحجاج: (فأما الحجاج فيبدأون التكبير عقب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق بلا خلاف، هكذا نقله صاحب "جامع الجوامع" عن نص الشافعي، وصرح به الأصحاب، منهم المحاملي، والبندنيجي، والجرجاني في "التحرير"، وآخرون. وأشار إليه القاضي أبو الطيب في "المجرد" وآخرون، ونقله إمام الحرمين عن العراقيين، وقطع هو به فيما يرجع إلى الابتداء، وتردد في الانتهاء. وسبب تردده أنه لم يبلغه نص الشافعي الذي ذكرناه. وقطع به الرافعي وغيره من المتأخرين، قالوا: ووجهه أن الحجاج وظيفتهم وشعارهم التلبية، ولا يقطعونها إلا إذا شرعوا في رمي جمرة العقبة، وإنما شرع بعد طلوع الشمس يوم النحر، وأول فريضة تلقاهم بعد ذلك الظهر، وآخر صلاة يصلونها بمنى صلاة الصبح في اليوم الأخير من أيام التشريق، لأن السنة أن يرموا في اليوم الثالث بعد الزوال وهم ركبان، ولا يصلون الظهر بمنى وإنما يصلونها بعد نفرهم).

ã

2. لغير الحجاج

فهو أيضاً مطلق ومقيد .

أ. المطلق

وهو الذي يكون في المساجد، والمنازل، والأسواق، والطرقات، وعند اللقاءات.

متى يبدأ ومتى ينتهي ؟

يبدأ بغروب شمس ليلة الأضحى، وفي نهايته قولان:

1.  إلى حضور الإمام إلى صلاة العيد.

2.  حتى الفراغ من صلاة العيد كما هو الحال في الفطر.

ã

ب. المقيد

متى يبدأ ومتى ينتهي ؟

ذهب أهل العلم في بدء التكبير المقيد لغير الحجاج مذاهب، وكذلك في منتهاه.

مذاهبهم في بداية التكبير المقيد في الأضحى

1. من صبح يوم عرفة؛ وهذا مذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس من الصحابة؛ وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وقول للشافعية.

2. خلف صلاة الظهر من ليلة النحر؛ وهو مذهب ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس؛ وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، ومالك، ومشهور مذهب الشافعي.

3.  خلف صلاة المغرب من ليلة النحر، وهو قول للشافعية.

مذاهبهم في نهاية التكبير المقيد في الأضحى

1.  إلى عصر آخر أيام التشريق، وهذا مذهب عمر وابن عباس من الصحابة، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة .

2.  إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس من الصحابة، ومالك والشافعي من الأئمة.

3.  إلى صلاة العصر من يوم النحر، وهذا مذهب ابن مسعود من الصحابة، وأبي حنيفة من الأئمة.

أقوال العلماء في ذلك

قال ابن شاس المالكي :( ويستحب في عيد النحر التكبير عقيب خمس عشرة مكتوبة، أولها ظهر يوم النحر، وآخرها صبح يوم الرابع منه، وقيل يكبر عقيب صلاة الظهر منه أيضاً).

وقال القرطبي: (واختلف العلماء في طرفي مدة التكبير، فقال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.

وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر؛ وخالفه صاحباه، فقالا بالقول الأول، قول عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم؛ فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء.

وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضاً .

وقال زيد بن ثابت: يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.

قال ابن العربي: فأما من قال: يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر لغير دليل، لأن الله تعالى قال: "في أيام معدودات"، وأيامها ثلاثة، وقد قال هؤلاء: يكبر في يومين؛ فتركوا الظاهر لغير دليل. وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق، فقال: إنه قال: "فإذا أفضتم من عرفـات"، فذكر عرفات داخل في ذكر الأيام؛ هذا كان يصح لو كان قال: يكبر من المغرب يوم عرفة، لأن وقت الإفاضة حينئذ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى).

وقال النووي رحمه لله :( وأما غير الحاج فللشافعي رحمه الله في تكبيرهم ثلاثة نصوص)، ملخصها:

أحدها: من ظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق، وهذا هو المشهور من نصوص الشافعي .

والثاني: خلف المغرب ليلة النحر.

والثالث: من صبح يوم عرفة .

أما نهايته عند الشافعية فهو عصر آخر أيام التشريق، كما مرّ.

احتج القائلون بأن التكبير المقيد في الأضحى لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق بالآتي :

1. بماروى الدارقطني في سننه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح يوم عرفة، وأقبل علينا فقال: الله أكبر، الله أكبر؛ ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق، وفي بعضها: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.

2.  وروى ذلك سعيد بن منصور في سننه عن عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم .

3.  وروى ابن أبي شيبة في مصنفه أن علياً كبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق .

4. وقيل لأحمد: أي حديث تذهب إليه، إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ؟ قال: بالإجماع، وبعمل عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم؛ ولأن الله قـال:" واذكروا الله في أيام معلومات "، فالمراد به ذكر الله تعالى على الهدايا، والأضاحي.

واستدل من قال التكبير من فجر عرفة إلى عصر يوم النحر بأن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكبر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى عصر يوم النحر.

ã

التكبير في الفرض والنفل

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين :

1.  يكبر عقب كل فرض ونفل، وهذا مذهب الشافعي.

2.  لا يكبر إلا عقب الفريضة، وهذا مذهب الثوري وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وداود.

قال ابن شاس رحمه الله :( ولا يكبر في دبر النافلة، وروى الواقدي عن مالك أنه يكبر في دبرها كالفريضة).

وقال النووي رحمه الله عن مذاهب العلماء في التكبير خلف النوافل أيام التشريق: (ذكرنا أن مذهبنا استحبابه؛ وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وداود: لا يكبر لأنه تابع فلم يشرع كالأذان والأذان. ودليلنا أن التكبير شعار الصلاة، والفرض والنفل في الشعار سواء).

ã

التكبير خلف الفوائت المؤديات أيام التشريق

قولان لأهل العلم :

1.     يكبر دبر الفوائت المقضيات في هذه الأيام.

2.     لا يكبر خلفها .

قال النووي: (قال الشافعي والأصحاب : ويكبر في هذه المدة خلف الفرائض المؤديات بلا خلاف، فلو فاتته فريضة منها فقضاها في غيره لم يكبر بلا خلاف لأن التكبير شعار هذه الأيام، فلا يفعل في غيرها، ولو فاتته فريضة فيها فقضاها فيها أيضاً فهل يكبر؟ طريقان).

ã

التكبيرات خلف صلاة الجنازة

قولان :

1.  يكبر خلفها، وهذا مذهب من استحب التكبير خلف النافلة.

2.  لا يكبر خلفها، وهذا مذهب من قصر التكبير على المكتوبات فقط.

قال النووي ملخصاً الخلاف فيما يكبر فيه من الصلوات: (اختصار الخلاف فيما يكبر خلفه جاء أربعة أوجه:

أصحها: يكبر خلف كل صلاة مفعولة في هذه الأيام .

والثاني: يختص بالفرائض المفْعُولة فيها مؤداة كانت أو مقضية، فريضة أو نافلة، راتبة أوغيرها.

والثالث: يختص بفرائضها مقضية كانت أومؤداة.

والرابع: لا يكبر إلا عقب فرائضها المؤداة وسننها الراتبة المؤداة).

ã

التكبير خلف صلاة عيد الأضحى

ذهب في ذلك أهل العلم مذهبين :

1.  يكبر خلفها كما يكبر خلف الرواتب والجنازة؛ وهو الأقيس، والله أعلم.

2.  لا يكبر خلفها إذ التكبير قاصر على الفرائض .

ã

التكبير لمن صلّى فرداً أو في جماعة

قولان لأهل العلم:

1.  التكبير دبر الصلوات المكتوبات سنة لمن صلّى في جماعة أو فذاً، وهو مذهب الجمهور، وهذا هو الراجح .

2.  لا يكبر إلا في جماعة .

قال القرطبي رحمه الله :( فالذي عليه فقهاء الأمصار، والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد ـ وخصوصاً في أوقات الصلوات ـ فيكبر عند انقضاء كل صلاة ـ كان المصلي وحده أو في جماعة ـ تكبيراً ظاهراً في هذه الأيام اقتداء بالسلف رضي الله عنهم).

وقال النووي في مذاهب العلماء في تكبير من صلّى منفرداً: (مذهبنا أنه يسن التكبر، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد، وجمهور العلماء؛ وحكاه العبدري عن العلماء كافة إلا أبا حنيفة، وحكى ابن المنذر وغيره عن ابن مسعود، وابن عمر، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد، أن المنفرد لا يكبر).

ã

التكبير المقيد دبر الصلوات المكتوبات للنساء

قولان :

1.  يكبرن سراً كالرجال ، وهذا مذهب الجمهور مالك والشافعي، وهو الراجح.

2.  لا يكبرن ـ وهذا مذهب أبي حنيفة، واستحسنه أحمد، وقول للمالكية.

قال القرطبي: (وفي المختصر: ولا يكبر النساء دبر الصلوات، والأول أشهر، لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل، قاله في المدونة).

وقال النووي عن مذاهب أهل العلم في تكبير النساء خلف المكتوبات في أيام التشريق: (مذهبنا استحبابه لهن، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وأبي يوسف، ومحمد، وأبي ثور. وعن الثوري وأبي حنيفة: لا يكبرن، واستحسنه أحمد).

ã

المقيم والمسافر سواء في التكبير

قولان لأهل العلم في تكبير المسافر :

1.  يكبر كما يكبر المقيم، وهذا قول العامة، وهو الراجح لأن التكبير ليس فيه مشقة.

2.  لا يكبر المسافر، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله .

قال النووي: (مذهبنا أنه يكبر ـ أي المسافر ـ وحكاه ابن المنذر عن مالك، وأبي يوسف، ومحمد، وأحمد، وأبي ثور. وقال أبو حنيفة: لا يكبر).

ã

إذا نسي المصلي أو المصلون التكبير دبر الصلاة

إذا نسي المصلي أو المصلون التكبير، فأقوال لأهل العلم :

1.  يكبر ما دام في مجلسه، فإن قام من مجلسه لا شيء عليه .

2.  يكبر إن كان قريباً ، ولو قام من مجلسه .

3.  يكبر ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج فلا شيء عليه .

4.  يكبر مطلقاً، طال الفصل أم قصر، خرج أم لم يخرج.

قال القرطبي: (ومن نسي التكبير بإثر صلاة كبر إن كان قريباً ، وإن تباعد فلا شيء عليه. قال ابن الجلاب: وقال مالك في المختصر: يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام من مجلسه فلا شيء عليه، وفي المدونة من قـول مالك: إذا نسي الإمـام التكبير فإن كان قريباً قعد فكبر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ـ أي الإمام ـ ولم يكبر، والقوم جلوس فليكبروا).

وقال النووي :( لو نسي التكبير خلف الصلاة فتذكر والفصل قريب استحب التكبير بلا خلاف، سواء فارق مصلاه أم لا، فإذا طال الفصل فطريقان:

الأصح: يستحب التكبير..

والطريق الثاني: يستحب تدارك التكبير وإن طال الفصل، وهذا هو الصحيح ، وبه قطع المتولي وغيره، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين، وفرق المتولي بينه وبين سجود السهو لإتمام الصلاة وإكمال صفتها ، فلا تفعل بعد طول الفصل، كما لا يبنى عليها بعد طول الفصل، وأما التكبير فهو شعار هذه الأيام، لا وصف للصلاة ولا جزء منها، ونقل المتولي عن أبي حنيفة أنه إن تكلم ، أو خرج من المسجد ثم ذكر أنه نسي التكبير لا يكبر، ومذهبنا استحبابه مطلقاً).

ã

متى يكبر المسبوق؟

أقوال لأهل العلم:

1.  بعد الفراغ من صلاته، وهذا مذهب الجمهور، وهو الراجح لأنه ليس من أعمال الصلاة.

2.  يكبر ثم يقضي، وهذا مذهب الحسن البصري.

3.  يكبر ثم يقضي ثم يكبر ، وهذا مذهب مجاهد ومكحول.

قال النووي: (المسبوق ببعض الصلاة لا يكبر إلا بعد فراغه من صلاة نفسه، هذا مذهبنا، ونقله ابن المنذر عن ابن سيرين، والشعبي، وابن شُبْرمة، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي؛ وعن الحسن البصري أنه يكبر ثم يقضي؛ وعن مجاهد ومكحول: ويكبر ثم يقضي ثم يكبر؛ قال ابن المنذر: وبالأول أقول. واحتج الحسن بأن المسبوق يتابع الإمام في سجود السهو فكذا التكبير. واحتج أصحابنا والجمهور بأن التكبير إنما شرع بعد فراغه من الصلاة ولم يفرغ بخلاف سجود السهو فإنه يفعل في نفس الصلاة، والمسبوق إنما يفارق الإمام بعد سلامه).

ã

صيغة التكبير

هناك عدد من صيغ التكبير وردت عن صاحب الشريعة ، فبأي صيغة كبر فلا حرج عليه،  والأمر فيه سعة، وإن كان بعضها أرجح من بعض، ولا ينبغي لأحد أن يحرج على أحد في ذلك.

والصيغ هي :

1.  الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛ هذا مشهور مذهب المالكية والشافعية .

2.  الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد .

3.  الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

وإن زاد الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ونحوها، فلا بأس.

ã

أقوال العلماء في ذلك

قال ابن نُجَيْم الحنفي رحمه الله في شرح ما قاله صاحب "كنز الدقائق": (وقوله "الله أكبر إلى آخره" بيان لألفاظه وهو: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. وقد ذكر الفقهاء أنه مأثور عن الخليل عليه السلام).

وقال ابن شاس: (قال سحنون : قلت لابن القاسم : فهل ذكر مالك التكبير كيف هو ؟ قال: لا، وما كان مالك يحد في هذه الأشياء.

قال ابن حبيب: وأحب إليّ من التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا لك من الشاكرين. وكان أصبغ يزيد: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: وما زدتَ، أونقصتَ، أو قلتَ غيره فلا حرج).

وقال القرطبي: (واختلفوا في لفظ التكبير، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات. رواه زياد بن زياد عن مالك، وفي المذهب رواية: يقال بعد التكبيرات الثلاثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. وفي المختصـر عن مـالك: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد).

وقال النووي رحمه الله :( صفة التكبير المستحبة : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. هذا هو المشهور من نصوص الشافعي في الأم والمختصر وغيرهما، وبه قطع الأصحاب؛ وحكى صاحب "التتمة" وغيره قولاً قديماً للشافعي: أنه يكبر مرتين ويقول: الله أكبر، الله أكبر. والصواب الأول ثلاثاً نسقاً، قال الشافعي في المختصر: وما زاد من ذكر الله فحسن. وقال في " الأم ": أحب أن تكون زيادته الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر. واحتجوا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على الصفا. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخصر من هذا اللفظ. ونقل المتولي وغيره عن نصه القديم: أنه إذا زاد على التكبيرات الثلاث قال: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا وأبلانا).

ã

عدد مرات التكبيرات دبر الصلوات

قولان لأهل العلم :

1.  ثلاث مرات، وهو قول عامة أهل العلم وهو الأرجح.

2.  مرة واحدة، وهذا مذهب الحنفية .

قال صاحب كنز الدقائق الحنفي: "وسن بعد فجر عرفة إلى ثماني مرة: الله أكبر"، قال ابن نجيم في شرحه: (وفي قوله "مرة" إشارة إلى رد ما نقل عن الشافعي أنه يكرر التكبير ثلاثاً).

وقال الشيرازي الشافعي :( والسنة في التكبير أن يقول الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثاً؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: "الله أكبر ثلاثاً"، وعن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: رأيت الأئمة رضي الله عنهم يكبرون أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً، وعن الحسن مثله).

وله أن يزيد على الثلاث، وتراً.

ã

كيفية التكبير

من السنة أن يكبرالجميع معاً، ولا ينتظروا الإمام أومن يبدأ التكبير إلى أن ينتهي ثم يكبروا خلفه، فكان ابن عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى، وإذا سمعه الناس كبروا لتكبيره، وماكانوا ينتظرونه حتى ينتهي ثم يكبرون، وهذا في التكبير المرسل والمقيد، لا يتقيد الناس فيه بأحد.

خرّج البيهقي بسنده إلى تميم بن سلمة قال: خرج ابن الزبير يوم النحر فلم يرهم يكبرون، فقال: مالهم لا يكبرون؟ أما والله فعلوا ذلك، فقد رأيتنا في المعسكر ما يُرَى طرفاه فيكبر الرجل، فيكبر الذي يليه حتى يرتج المعسكر تكبيراً، وإن بينكم وبينهم كما بين الأرض السفلى والسماء العليا).

ولا يكون ارتجاج إلا بتكبير الجميع معاً، أما أن يكبر الإمام وينتظره المأمومون حتى يفرغ من تكبيره ثم يكبرون، ثم يسكت هو حتى ينتهوا ثم يكبر، فلا ثمة ارتجاج كما صح عن ابن عمر وابن الزبير.

فالخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع في دقائق الأمور وجلائلها.

ã

إذا كبر الإمام خلاف اعتقاد المأموم

إذا كبر الإمام خلاف اعتقاد المأموم سواء كان في الصيغة أو عدد المرات، سواء كان في التكبيرات الزائدات في صلاة العيدين والخطبة، أم في التكبير المرسل أوالمقيد، فقد ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين:

1. يتابع الإمام.

2. يتبع اعتقاد نفسه.

والراجح أنه يتابع الإمام، إلا في الكيفية فلا يتابعه.

قال النووي: (لو كبر الإمام على اختلاف اعتقاد المأموم، فكبر في يوم عرفة والمأمـوم لا يراه، أوتركه والمأمـوم يراه، أو كبر في أيام التشريق والمأموم لا يراه، أوتركه والمأموم يراه، فوجهان، أصحهما: يتبع اعتقاد نفسه في التكبير وتركه، ولا يوافق الإمام لأن القدوة انقضت بالسلام، والثاني: يوافقه لأنه من توابع الصلاة).

يستحب جهر الصوت بالتكبير

يستحب الجهر بالتكبير للرجال، وتخافت به النساء.

قال النووي: (ويستحب رفع الصوت بالتكبير بلا خلاف).

ã

يكبر مستقبل القبلة

يستحب في التكبير خارج الصلاة سواء كان مقيداً أو مرسلاً استقبال القبلة، وإن كبر وهو متجه إلى غير القبلة فلا حرج عليه، والله أعلم.

ã

إذا أحدث قبل التكبير المقيد دبر الصلوات

قولان لأهل العلم:

1. يكبر وهو الراجح، لأن الطهارة ليست من شروط صحة التكبير خارج الصلاة.

2. لا يكبر.

حكم التكبير في العيدين وأيام التشريق

ذهب أهل العلم في حكم التكبير في صلاة العيدين وفي الخطبة، وكذلك المقيد والمرسل، مذهبين:

1. سنة، وهو مذهب العامة من أهل العلم؛ وهو الراجح.

2. واجب في الفطر سنة في الأضحى، وهذا مذهب الظاهرية.

قال ابن قدامة رحمه الله: (وليس التكبير واجباً، وقال داود: هو واجب في الفطر لظاهر الآية، ولنا:  أنه تكبير في العيد فأشبه تكبير الأضحى، والأصل عدم الوجوب، ولم يرد في الشرع إيجابه، فبقي على الأصل، والآية ليس فيها أمر، إنما أخبر الله تعالى عن إرادته، فقال :" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم").

ã

تنبيهات

1.  إذا صلّى المسلمون في أيام التشريق صلاة الكسوف، أو الخسوف، أو الاستسقاء، كبروا خلفهما في أرجح قولي العلماء.

2.  الجهر بالتكبير في غير أيام التشريق لا يسن إلا في هذه الحالات، وهي :

   بإزاء العدو أواللصوص .

   لإطفاء الحريق.

   عند المخاطر والمخاوف كلها.

قال ابن نُجَيْم الحنفي :( فالحاصل أن الجهر بالتكبير بدعة في كل وقت إلا في المواضع المستثناة، وصرح "قاضيخان" في فتاواه بكراهة الذكر جهراً، وتبعه على ذلك صاحب "المستصفى" وفي "الفتاوى العلامية"، وتمنع الصوفية من رفع الصوت والصفق، وصرح بحرمته العيني في شرح التحفة، وشنع على من يفعله مدعياً أنه من الصوفية... ثم قال: والتكبير جهراً في غير أيام التشريق لا يسن إلا بإزاء العدو أو اللصوص، وقاس عليه بعضهم الحريق والمخاوف كلها).

قال النووي: (قال إمام الحرمين: جميع ما ذكرناه هو في التكبير الذي يرفع به صوته، ولجعله شعاراً، أما إذا استغرق عمره بالتكبير في نفسه فلا منع منه).

ã

 

المراجع

   البحر الرائق شرح كنز الدقائق في فروع الحنفية للنسفي المتوفى 710هـ، والبحر الرائق لابن نُجَيْم المصري الحنفي المتوفى 970هـ، ضبط وتخريج الشيخ زكريا عميرات، الطبعة الأولى 1418ﻫ، دار الكتب العلمية، بيروت .

   الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، طبع دار الفكر، لبنان.

   سبيل السعادة في معرفة أحكام العبادة على مذهب الإمام مالك، لمحمد بن محمد بن عبد الله الموقت بمدينة مراكش، طبع مكتبة القاهرة .

   السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى 458هـ، وفي ذيله الجوهر النقي لابن التركماني المتوفى 745هـ، طبع دار المعرفة، بيروت.

   عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، تأليف جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس المتوفى 616ﻫ ، تحقيق د. محمد أبو الأجفان، والأستاذ/ عبد العزيز منصور، الطبعة الأولى 1425هـ،  طبع دار الغرب الإسلامي.

   المجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ويليه فتح العزيز شرح الوجيز لأبي القاسم الرافعي المتوفى 623هـ، طبع دار الفكر، بيروت .

   المغني لابن قدامة المقدسي 541 ـ 610 هـ، تحقيق د. عبد الله التركي ود. عبد الفتاح الحلو، الطبعة الأولى 1407 هـ، طبع دار هجر.

---------------------------

مذاهب أهل العلم في صيام ستة شوال

حكم صيام ستة شوال

صفة صيام ستة شوال

صفة صيام ستة شوال

قضاء ستة شوال لمن لم يستطع صيامها في شوال أوغيره

 

الإكثار من النوافل يجبر الفرض ويحبِّب الرب في العبد، سيما السنن الرواتب، وصيام الهواجر، والصدقة التي تطفئ غضب الرب: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه".

أول ما يحاسب به العبد بعد موته الصلاة، فإن صلحت فقد فاز وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ثم ينادي المولى عز وجل: هل لعبدي من نوافل ليتم به ما انتقص من صلاته، وهكذا سائر الأعمال"، كما أخبر الصادق المصدوق.

فينبغي أن يكون لكل مسلم نصيب من ذلك قل أم كثر يداوم عليه ويسارع بالامتثال إليه، لينال أجر ذلك في السفر والحضر، والصحة والمرض: "إذا مرض العبد أوسافر كُتِب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم"، كما ورد بذلك الخبر، وقد كان صلى الله عليه وسلم عمله ديمة، وصح عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، وليس هناك عمل قليل مع القبول، ولا كثير مع الرد والنكول.

وبعد..

فثواب الحسنة الحسنة بعدها، من ذلك إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بصيام ستة أيام من شوال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".

لقد اختلف أهل العلم في صيام هذه الستة من شوال، في حكمها، وكيفية صيامها، وتتابعها وتفرقها، ونحو ذلك، فما مذاهب أهل العلم في ذلك؟ وما دليل كل فريق؟ وما هو الراجح من تلكم الأقوال؟ هذا ما نريد بيانه في تلك العجالة، والله الموفق للصواب، والهادي إلى سواء الصراط، فنقول:

ã

حكم صيام ستة شوال

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:

   يستحب صيامها، وهذا مذهب الجمهور: الشافعي، وأحمد، وداود، وابن المبارك، وغيرهم.

   يستحب إخفاء صيامها، أثِر ذلك عن مالك.

   يكره صيامها حتى لا يتصل ذلك بالصيام الواجب وهو رمضان، وذهب إلى ذلك أبوحنيفة ومالك.

ã

أدلة المستحبين لصيامها من غير قيد ولا شرط

استدل القائلون باستحباب صيام ستة شوال بالآتي:

   بحديث أبي أيوب السابق يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر"، وقال الإمام أحمد: "هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم".

روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان، شهر بعشرة أشهر، وصام ستة أيام من الفطر وذلك تمام سنة".

وهذا القول هو القول الراجح الذي يؤيده الدليل.

ã

أدلة الكارهين لصيام ستة شوال

استدل الكارهون لصيام ستة شوال، وهم مالك وأبوحنيفة ومن وافقهما، وعلل مالك ذلك بشيئين هما:

   أنه لم ير أحداً من أهل الفقه يصومها.

   أنه لم يبلغه عن أحد من السلف.

قال مالك في الموطأ: (وصوم ستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم في وقته كانوا يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان أهل الجفاء والجهالة ما ليس منه، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك).

وهذا قول مردود، وأجاب أهل العلم المستحبون لصيامه بأن السنة ثابتة في ذلك، ولا يمكن أن تترك سنة صحيحة لهذه التوهمات.

وعلل أبوحنيفة كراهته لصيامها مخافة التشبه بأهل الكتاب في زيادة ما أوجبه الله عليهم من الصيام، والرد عليه كالرد على مالك.

ã

أقوال أهل العلم في ذلك

قال النووي: (قال أصحابنا: يستحب صوم ستة أيام من شوال لهذا الحديث.. وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال أحمد وداود، وقال مالك وأبوحنيفة: يكره صومها.

إلى أن قال: وأما قول مالك فلم أر أحداً يصومها فليس بحجة في الكراهة، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لا يضر، وقولهم لأنه قد يخفى ذلك فيعتقد وجوبه ضعيف لأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم على قوله أن يكره صوم يوم عرفة، وعاشوراء، وسائر الصوم المندوب إليه، وهذا لا يقوله أحد).

وقال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم، روي ذلك عن كعب الأحبار، والشعبي، وميمون بن مهران، وبه قال الشافعي، وكرهه مالك، وقال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه).

قال خليل في مختصره: (وكره أي مالك البيض كستة من شوال).

قال الحطاب في شرح مختصر خليل: (فكره مالك رحمه الله ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه عند أهل الجهالة والجفاء، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها.

إلى أن قال: وقال الشبيبي: إنما كرهها مالك مخافة أن تلحق برمضان، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها، واستحب صيامها في غير شوال لحصول المقصود من تضاعف أيامها وأيام رمضان حتى تبلغ عدة الأيام).

وقال ابن رجب الحنبلي: (فاستحب صيام ستة أيام من شوال أكثر العلماء، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، والشعبي، وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأنكر ذلك آخرون.

روي عن الحسن البصري أنه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال: لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلها؛ ولعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها، وأنه لا يكتفي بصيام رمضان عنها في الوجوب، وظاهر كلامه يدل على هذا، وكرهها الثوري، وأبوحنيفة، وأبويوسف، وعلل أصحابهما ذلك بمشابهة أهل الكتاب، يعنون في الزيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليس منه، وأكثر المتأخرين من مشايخنا قالوا: لا بأس به، وعللوا بأن الفضل قد حصل بفطر العيد؛ حكي ذلك عن صاحب "الكافي" منهم، وكان ابن مهدي عبد الرحمن لا يأمر ولا ينهى عنها، وكرهها أيضاً مالك.. وقد قيل إنه كان يصومها في نفسه، وإنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه) .

ã

صفة صيام ستة شوال

الذين استحبوا صيامها وهم الجمهور وهو الراجح اختلفوا في صفة صومها متفرقة ومجتمعة، بعد العيد مباشرة أم يؤخر ذلك على أقوال، هي:

   يستحب صيامها من أول الشهر بعد العيد متتابعة، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، واستدلوا بحديث فيه ضعف: "من صام ستة أيام من الفطر متتابعة، فكأنما صام السنة".

لا فرق بين تتابعها وتفرقها في الشهر كله، وهذا مذهب وكيع وأحمد.

لا تصام بعد العيد مباشرة، فإنها أيام أكل وشرب، ولكن بعد ذلك، وهذا قول عطاء.

القول الراجح والله أعلم أن الأمر فيه سعة، فمن صامها بعد العيد مباشرة فله ذلك، ومن أخرها فله ذلك، ومن تابع بينها فله ذلك، ومن فرَّق بينها فله ذلك، وإن كان التعجيل والتتابع أفضل.

قال النووي: (قالوا: ويستحب أن يصومها متتابعة في أول شوال، فإن فرقها أوأخرها عن أول شوال جاز، وكان فاعلاً لأصل هذه السنة لعموم الحديث وإطلاقه، وبه قال أحمد وداود).

وقال الترمذي: (واستحب ابن المبارك أن يكون ستة أيام من أول الشهر، وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقة فهو جائز).

وقال ابن قدامة: (وإذا ثبت هذا أي صيامها فلا فرق بين كونها متتابعة أومفرقة، في أول الشهر أوفي آخره، لأن الحديث ورد بها مطلقاً من غير تقييد، ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوماً، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوماً، وهي السَّنة كلها، فإذا وُجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله، وهذا معنى يحصل مع التفريق، والله أعلم).

وقال ابن رجب: (وأكثر العلمـاء على أنه لا يكـره صيام ثاني يوم الفطر، ودل عليه حديث عمران بن الحصين: "إذا أفطرتَ فصم").

ã

من كان عليه قضاء قدمه على ستة شوال

من كان عليه قضاء فليعجل بقضائه، وعليه أن لا يقدم صيام ستة شوال عليه، ولو شغل قضاؤه شوال كله، فدين الله أحق بالأداء، وإذا مات العبد سئل عن القضاء إذا فرَّط فيه ولم يُسأل عن ستة شوال، بل الأجر في صيام ستة شوال مترتب على إتمام رمضان.

روي عن أم سلمة أنها كانت تقول لأهلها: من كان عليه رمضان فليصمه الغد من الفطر.

ã

قضاء ستة شوال لمن لم يستطع صيامها في شوال أوغيره

من لم يتمكن من صيام ستة شوال في شوال، لقضاء أوغيره، فله إن شاء أن يقضي ذلك في غيره من الشهور، خاصة إن كان مواظباً على صيامها قياساً على قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لصيام بعض الأيام البيض والاثنين والخميس في شعبان، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، الحديث.

والله الموفق للخيرات، وله الحمد في جميع الحالات، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعباد، في الحياة وبعد الممات.

---------------------

هذه ليست من المفطرات للصائم، وهذه من المذهبات بأجر الصائم

هذه ليست من المفطرات

هذه مذهبات بأجر الصوم

هذه ليست من المفطرات في أرجح قولي العلماء

   بلع الريق والنخامة ولو جمعها.

   الحجامة إلا لمن خشي أن تضعفه عن الصوم.

   الحقن العلاجية في العضل والوريد سوى المغذية.

   نقل الدم.

   قلع الضرس أوالسن.

   جميع أنواع القطرات في الأنف، والأذن، والعين، ولو ذاق طعمها في حلقه.

   بخاخ مرضى الربو.

   الدخان للنساء.

   الحناء على الرأس، أوالأرجل، أواليدين.

   البخور والطيب.

   السواك برطب أويابس، قبل وبعد الزوال.

   الأغبرة المختلفة، بما في ذلك غبار الدقيق والأطعمة وغيره.

   التبرد والاستحمام.

   من أصبح جنباً من جماع أواحتلام.

   الاحتلام في نهار رمضان.

   القبلة لمن يملك إربه نفسه.

   من أكل أوشرب ظاناً أن الفجر لم يطلع أوأن الشمس قد غربت فتبين له عكس ذلك أمسك وليس عليه قضاء.

   من أكل أوشرب ناسياً، فإذا ذكر أوذكِّر أمسك، وليس عليه قضاء.

   ذوق الطعام ومجه في الحال.

   الاكتحال.

   الرعاف وإن كثر.

   خروج المذي والودي من غير استدعاء.

   من أسقطت من لم يتخلق.

ã

هذه مذهبات بأجر الصوم: "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش"،

"ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"

   الغيبة، والنميمة، والبهتان.

   شهادة الزور، وقول الزور، والكذب.

   الاستماع للأغاني والموسيقى.

   النظر إلى النساء الأجنبيات، ومصافحتهن، والاختلاط بهن ليلاً أونهاراً.

   الغش في البيع والشراء وجميع المعاملات.

   الذهاب إلى المسارح والنوادي الليلية.

   صنع الطعام والشراب وبيعه للمفطرين في نهار رمضان.

   أكل الحرام.

   اللعب بالورق "الكتشينة"، والشطرنج، و"الضمنة"، ليلاً أونهاراً، بعوض أوبدون عوض.

   الولوج والخروج في الفضائيات والمواقع الإباحية ليلاً أونهاراً.

   السفور والتبرج.

   السرقة، والغصب، والنهب، والاحتيال.

   الاطلاع على المجلات التي تحوي صور النساء الكاسيات العاريات، ليلاً أونهاراً.

   السب والشتم.

-------------------

سجود القرآن الكريم

حكمه

أدلة الجمهور على أن سجود التلاوة ليس واجباً لا خارج الصلاة ولا داخلها

هل السجود هذا يلزم السامع كما يلزم القارئ والمستمع؟

القارئ كالإمام، فإذا سجد سجد المستمع، وإلا فلا

هل يسجد مع من لا يصح أن يكون إماماً في الصلاة.

شروط سجود القرآن

التكبير لسجود التلاوة

سجود التلاوة في الصلاة

ما يقال في سجود القرآن

سجود القرآن في أوقات الكراهة

إذا زُحِم الساجد عن السجود على الأرض

عدد سجدات القرآن ومذاهب أهل العلم فيها

عزائم السجود

 

المسلم مأمور بالسجود في الصلوات المكتوبة والمسنونة، وفي النفل المطلق، وهو ركن في كل ركعة فيها.

وقد شرع السجود مفرداً في مواطن، هي:

1.  سجود القرآن.

2.  سجود السهو.

3.  سجود الشكر.

ولكل نوع من هذه الأنواع حكم وشروط.

فالسجود عبادة للرب الخالق والإله المعبود، لا ينبغي أن يسجد لأحد سواه مهما كانت مكانته وارتفعت درجته، ولهذا عندما رجع معاذ من الشام وحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسجود أنكر ذلك عليه، وقال له: "ما هذا؟ لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما لهم عليهن من الحقوق"، الحديث، فاعتذر معاذ بأنه وجد الناس يسجدون لملوكهم وعظمائهم، وأنت أحق من يسجد له، فبين له صلى الله عليه وسلم أنه ليس بملك وإنما هو عبد رسول.

لقد أمر الله عباده بالسجود عند بعض آي القرآن، وشرعه رسوله، وعلمه لأصحابه، وبيَّن أحكامه، وشروطه، وآدابه.

وبعد..

فهذا ملخص موجز عن سجود القرآن، عن حكمه، وشروطه، وعدده،ومذاهب أهل العلم فيه، وفعله في الصلاة، ونحو ذلك، والله ولي التوفيق.

ã

حكمه

ذهب أهل العلم في حكم سجود القرآن مذهبين، هما:

1.  أنه سنة، وهذا مذهب الجمهور.

2.  أنه واجب، وهذا مذهب الأحناف.

ã

أدلة الجمهور على أن سجود التلاوة ليس واجباً لا خارج الصلاة ولا داخلها

استدل الجمهور على عدم وجوب سجود التلاوة بالآتي:

1. بما خرجه البخاري في صحيحه بسنده إلى عطاء بن يسار: "أنه سأل زيد بن ثابت رضي الله عنه، فزعم أنه قرأ على النبي والنجم فلم يسجد فيها".

2. وبما صح عن عمر رضي الله عنه أنه: "قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كان الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه؛ ولم يسجد عمر رضي الله عنه".

3.  وزاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء".

4.  وقيل لعمران بن حصين رضي الله عنهما: "الرجل يسمع السجدة ولم يسجد لها؟ قال: أرأيت لو قعد لها، كأنه لا يوجبه عليه".

أما الموجبون له وهم الأحناف فقد سلكوا في ذلك منهجهم في التفريق بين الفرض والواجب، بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب.

ã

هل السجود هذا يلزم السامع كما يلزم القارئ والمستمع؟

قولان لأهل العلم:

1.   يلزم القارئ والمستمع، وهذا مذهب الجمهور، وهو الراجح للأدلة التي سنذكرها.

2.   يلزم القارئ، والمستمع، والسامع، وهو مذهب الموجبون له وهم الأحناف.

ã

أدلة الجمهور

استدل الجمهور بعدد من الآثار التي علقها البخاري في صحيحه ووصلها غيره:

1. "مرَّ عثمان رضي الله عنه بقاصٍّ فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد"، وصله عبد الرزاق في مصنفه.

2. "ومرَّ سلمان بن الإسلام رضي الله عنه على قوم قعود، فقرأوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا"، قال الحافظ: وصله عبد الرزاق وإسناده صحيح.

3.  وكان السائب بن يزيد رحمه الله لا يسجد لسجود القاصّ.

قال الإمام الترمذي معلقاً على ما قال زيد بن ثابت "قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها": (وتأول بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجود لأن زيد بن ثابت حين قرأ فلم يسجد لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: السجدة واجبة على من سمعها، ولم يرخصوا في تركها..

وقال بعض أهل العلم: إنما السجدة على من أراد أن يسجد فيها، والتمس فضلها، ورخصوا في تركها، قالوا: إن أراد ذلك، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد، فقالوا: لو كانت السجدة واجبة لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم زيداً حتى كان يسجد ويسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض أهل العلم إلى هذا، وهو قول الشافعي وأحمد).

وقال الحافظ ابن عبد البر بعد أن ذكر ما روي عن عمر وابنه عبد الله في أن سجود القرآن ليس واجباً: (هذا عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً، لأن الله لم يوجبه، ولا رسوله، ولا اتفق العلماء على وجوبه، والفرائض لا تثبت إلا من الوجوه التي ذكرنا أوما كان في معناه).

وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على تبويب البخاري "باب من رأى أن الله لم يوجب السجود": (أي وحمل الأمر في قوله "اسجدوا" على الندب، أوعلى أن المراد به سجود الصلاة أوفي الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجود التلاوة على الندب، على قاعدة الشافعي ومن تابعه في حمل المشترك على معنييه، ومن الأدلة على أن سجود التلاوة ليس بواجب ما أشار إليه الطحاوي من أن الآيات التي في سجود التلاوة منها ما هو بصيغة الخبر، ومنها ما هو بصيغة الأمر، وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل فيها سجود أولا، وهي ثانية الحج، وخاتمة النجم، واقرأ، فلو كان سجود التلاوة واجباً لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر.

إلى أن قال: الذين يزعمون أن سجود التلاوة واجب لم يفرقوا بين قارئ ومستمع، قال صاحب الهداية من الحنفية: السجدة في هذه المواضع أي مواضع سجود التلاوة سوى ثانية الحج، واجبة على التالي والسامع، سواء قصد سماع القرآن أولم يقصده، انتهى.

وفرق بعض العلماء بين السامع والمستمع بما دلت عليه هذه الآثار، وقال الشافعي في البويطي: لا أؤكده على السامع كما أؤكده على المستمع).

ã

القارئ كالإمام، فإذا سجد سجد المستمع، وإلا فلا

الأدلة على أن القارئ هو بمثابة الإمام فإن سجد سجد المستمعون، وإن لم يسجد لا يسجدون، ما يأتي:

1. خرَّج ابن أبي شيبة في مصنفه مرفوعاً من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم: "أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله، أليس في هذه السجدة سجود، قال: بلى، ولكنك كنت إمامنا فيها، ولو سجدتَ لسجدنا".

2.  وقد روي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: بلغني، فذكر نحوه.

وقال الحافظ في الفتح: وجوز الشافعي أن يكون القارئ المذكور هو زيد بن ثابت.

3.  وخرج البخاري تعليقاً: "وقال ابن مسعود لتميم بن حَذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة، فقال: اسجد، فأنت إمامنا فيها".

4. قال الحافظ: هذا الأثر وصله سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم قال: قال تميم بن حَذلم: قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام، فمررت بسجدة، فقال عبد الله: أنت إمامنا فيها.

ã

هل يسجد مع من لا يصح أن يكون إماماً في الصلاة

قولان لأهل العلم:

1.  يسجد.

2.  لا يسجد، وهذا مذهب مالك.

قال ابن عبد البر: (وسئل مالك رحمه الله عن امرأة قرأت سجدة، ورجل معها يسمع، أعليه أن يسجد معها؟ قال مالك: ليس عليه أن يسجد معها، إنما تجب السجدة على القوم يكونون مع الرجل، فيأتمون به، فيقرأ السجدة، فيسجدون معه، وليس على من سمع سجدة من إنسان يقرأها ليس له بإمام أن يسجد تلك السجدة.

قال أبو عمر بن عبد البر: معنى قوله إنه لا يصلح عنده أن يكون إماماً في سجود التلاوة ويؤتم به فيها فيسجد معه بسجوده إلا من يصلح عنده أن يكون إماماً في الصلاة، ولا تؤم المرأة والغلام عنده في الصلاة.

وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، فقول مالك ما ذكره في موطئه.

وقال ابن القاسم عنه: إذا قرأ السجدة من لا يكون إماماً من رجل، أوامرأة، أوصبي، وأنت تسمعه، فليس عليك سجود، سجد أم لا، إلا أن تكون جلست إليه.

قال أبو عمر: يعني وكان ممن يصلح أن يؤتم به.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يسجد سجود التلاوة القارئ والسامع لها من رجل أوامرأة.

وقال الثوري في الرجل يسمع السجدة من المرأة؟ قال: يقرأها هو ويسجد؛ يعني لا يسجد لتلاوتها.

وقال الليث: من سمع السجدة من غلام سجدها.

وذكر البويطي عن الشافعي قال: إن سمع رجلاً يقرأ في الصلاة سجدة، فإن كان جالساً إليه يسمع قراءته فسجد فليسجد معه، قال: وإن لم يسجد وأحب المستمع أن يسجد فليسجد).

ã

شروط سجود القرآن

يشترط في سجود القرآن شروط، هي:

1.  النية، فهي شرط لصحة جميع العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، الحديث.

2.  استقبال القبلة إلا لمن كان راكباً.

3.  الطهارة عند العامة، وقد روي عن ابن عمر أنه سجد على غير وضوء.

قال مالك رحمه الله في موطئه: "لا يسجد الرجل والمرأة إلا وهما طاهران".

قال ابن عبد البر معلقاً على قول مالك: (فإجماع من الفقهاء أنه لا يسجد أحد سجدة تلاوة إلا على طهارة).

خرج البخاري في صحيحه تعليقاً في كتاب سجود التلاوة: "وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسجد على وضوء"، وفي رواية: "على غير وضوء".

وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: "كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب فيقرأ السجدة وما يتوضأ.

وروى البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح عن الليث عن نافع عن ابن عمر قال: "لا يسجد الرجل إلا وهو على طهارة".

قال الحافظ ابن حجر في الجمع بين ما روي عن ابن عمر: (فيجمع بينهما بأنه أراد بقوله طاهر الطهارة الكبرى، أوالثاني على حالة الاختيار والأول على الضرورة.

إلى أن قال: لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي، أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، وأخرجه أيضاً بسند حسن عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسلم وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي، يومئ إيماء).

ã

التكبير لسجود التلاوة

سجود التلاوة لا يحتاج إلى قيام، ولا إلى تكبيرة إحرام، ولا تشهد، ولا سلام، وإنما يكبر للسجود وللرفع منه في الصلاة وخارجها حتى يعلم من كان معه، لما روي عن ابن عمر: "كان عليه الصلاة والسلام يقرأ عليه القرآن فإذا مر بسجدة كبر وسجد وسجدنا معه".

قال ابن عبد البر: (قول مالك وجمهور الفقهاء أن الساجد سجدة التلاوة يكبر إذا سجد وإذا رفع منها، واختلف قول مالك إذا كان في غير الصلاة).

ã

سجود التلاوة في الصلاة

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين:

1. يسجد للتلاوة خارج الصلاة وداخلها، وهذ مذهب الجمهور، ودليلهم ما صح عن أبي رافع قال: "صليتُ مع أبي هريرة العتمة، فقرأ "إذا السماء انشقت"، فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدتُ بها خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه".

2. فرق المالكية بين السجود للقرآن في الصلاة المكتوبة، فمنعوه، وبين السجود في النافلة فأجازوه، وعن مالك كراهيته في الصلاة السرية دون الجهرية، ولهذا ذهب بعض الأحناف.

وحجة مالك عمل أهل المدينة.

قال الحافظ ابن حجر معلقاً على حديث أبي رافع السابق، وعلى ترجمة البخاري "باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها": (أشار بهذه الترجمة إلى من كره قراءة السجدة في الصلاة المفروضة، وهو منقول عن مالك، وعنه كراهته في السرية دون الجهرية، وهو قول بعض الحنفية أيضاً وغيرهم.

وحديث أبي هريرة المحتج به في الباب.. وبينا فيه بأن سجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها كان داخل الصلاة.. وفيه حجة على من كره ذلك).

ã

ما يقال في سجود القرآن

يقول أحد هذين الدعائين:

1.  عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: "سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته".

2.  وعن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود".

ã

سجود القرآن في أوقات الكراهة

ذهب أهل العلم في سجود القرآن بعد صلاة الصبح وصلاة العصر مذهبين:

1.   يسجد، لأن هذا سجود له سبب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد.

2.   لا يسجد في هذين الوقتين، وهذا مذهب مالك ومن وافقه.

قال ابن عبد البر عن اختلاف العلماء في سجود القرآن في هذين الوقتين: (وأما قوله: "لا ينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح وحتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، والسجدة من الصلاة"، فقول صحيح وحجة واضحة.

وقال ابن القاسم عنه: يسجد في هذين الوقتين ما لم تتغير الشمس أوتسفر، فإذا أسفر واصفرت الشمس لم يسجد، وهذه الرواية قياس على مذهبه في صلاة الجنائز.

وقال الثوري في قوله مثل قول مالك في الموطأ.

وقال أبو حنيفة: لا يسجد عند الطلوع، ولا عند الزوال، ولا عند الغروب، ويسجدها بعد العصر وبعد الفجر؛ قال أبو عمر: وهكذا مذهبه في الصلاة على الجنائز.

وقال زفر: إن سجد عند طلوع الشمس، أوغروبها، أوعند استوائها، أجزأه إذا تلاها في ذلك الوقت.

وقال الأوزاعي، والليث، والحسن بن صالح: لا يسجد في الأوقات التي تكره الصلاة فيها.

وقال الشافعي: جائز أن يسجد بعد الصبح وبعد العصر).

الراجح ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه، لأن هذا من ذوات الأسباب.

هل ينزل الخطيب من المنبر ليسجد سجدة التلاوة؟

روي عن عمر كما مر أنه قرأ سورة النحل على المنبر فنزل وسجد، وقرأها في جمعة أخرى فلم ينزل، وقد كره مالك ذلك.

قال ابن عبد البر: (وقال مالك: ليس العمل على أن ينزل الإمام إذا قرأ السجدة على المنبر، فيسجد؛ وقال الشافعي: لا بأس بذلك.

قال أبو عمر: يحتمل قول مالك على أنه أراد يلزمه النزول للسجود، لأن عمر سجد مرة ومرة لم يسجد).

ã

إذا زُحِم الساجد عن السجود على الأرض

قولان لأهل العلم:

1.    يسجد على ظهور وأقدام من أمامه، وهذا هو الراجح، لأن الضرورات تبيح المحظورات.

2.    وقال مالك: ينتظر حتى يرفعوا، ثم يسجد على الأرض، لأن على مذهبه لا يسجد إلا على الأرض.

ã

عدد سجدات القرآن ومذاهب أهل العلم فيها

مواضع السجود في القرآن خمس عشر موضعاً، أجمع أهل العلم على عشرة منها، وهي في: الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، وسجدة الحج الأولى، والفرقان، والنحل، وألم السجدة، وحم السجدة.

واختلفوا في خمس سجدات، هي: سجدة الحج الثانية، وسجدة "ص"، والنجم، والانشقاق، والعلق.

   أضاف مالك سجدة "ص"، فالسجدات عنده إحدى عشرة سجدة.

   أضاف الشافعي في القديم ثانية الحج فقط، فالسجدات عنده في القديم إحدى عشرة سجدة.

   أضاف الشافعي في الجديد ثانية الحج وثلاثة المفصل، فالسجدات عنده في الجديد أربع عشرة سجدة، وبهذا قال عطاء وأحمد في رواية عنه.

   وفي مشهور مذهب أحمد هذه الأربع عشرة زائداً سجدة "ص"، وبهذا قال الليث، وإسحاق، وابن وهب، وابن حبيب من المالكية، وابن المنذر، وابن سريج من الشافعية.

   وقال أبو حنيفة مثل مشهور قول أحمد إلا أنه نفى ثانية الحج، وبهذا قال داود.

   وقال عطاء الخرساني بجميع سجدات القرآن إلا ثانية الحج والانشقاق.

   وقيل الجميع مشروع ولكن العزائم هي:

ã

عزائم السجود

اختلف أهل العلم في عزائم السجود على أقوال، هي:

1.  العزائم: الأعراف، وسبحان، وثلاثة المفصل، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.

2.  العزائم: ألم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ، وروي هذ عن ابن عباس.

3.  وقال سعيد بن جبير مثل قول ابن عباس، إلا أنه أسقط اقرأ.

4.  وقال عليّ: ما ورد الأمر فيه بالسجود عزيمة.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسل

---------------------

متى يمسك الصائم عن الأكل والشرب وجميع المفطرات؟

استدلال أصحاب القول الأول وهم العامة من أهل العلم

واستدلال أصحاب القول الثاني وهم القائلون أن المراد بالتبين انتشار ضوء الفجر

رد أصحاب القول الأول على هذين الحديثين، وتأويلهما على افتراض صحتهما

أقوال العلماء

الخلاصة

أجمع أهل العلم على أن الصائم يدخل في صومه ويمسك عن الأكل والشرب وجميع المفطرات بطلوع الفجر الصادق، وذلك لقوله تعالى: "وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ" الآية.

ولكن اختلفوا في تأويل "يَتَبَيَّنَ" إلى أقوال هي:

1. المراد بالتبين طلوع الفجر الصادق وهذا مذهب العامة.

2.  المراد بالتبين انتشار ضوء الفجر وذهب إلى ذلك علي وابن مسعود رضي الله عنهما، ومن وافقهما، وهذا قول مرجوح.

3.  المراد بالتبين إلى ما قبل طلوع الشمس - وهذا قول شاذ مردود.

ã

استدل أصحاب القول الأول وهم العامة من أهل العلم بالآتي

1.  حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "لما نزلت "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ"، قلت: يا رسول الله: إني جعلت تحت وسادتي عقالين، عقالاً أبيض وعقالاً أسود، أعرف الليل من النهار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار".

2.  وحديث سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: "أنزلت "وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ"، ولم ينزل "مِنَ الْفَجْرِ"، فكان رجال إذا أرادوا الصيام ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى "مِنَ الْفَجْرِ"، فعلموا أنه يعني به الليل من النهار".

3.  وحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال، ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير".

4.  وحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم أوأحداً منكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن أوينادي بليل، ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم، وليس أن يقول: الفجر أوالصبح، وقال بإصبعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل، حتى يقول: هكذا، وقال بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدهما عن يمينه وشماله".

ã

واستدل أصحاب القول الثاني وهم القائلون أن المراد بالتبين انتشار ضوء الفجر بالآتي

1.  بما رواه أبوداود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه".

2.  وبما رواه النسائي والبيهقي في سننه عن زر قال: قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "هو النهار إلا الشمس لم تطلع".

ã

رد أصحاب القول الأول على هذين الحديثين، وأولوهما على افتراض صحتهما بالآتي

قال ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود عن الحديث الأول: (هذا الحديث أعله ابن القطان بأنه مشكوك في اتصاله، قال: لأن أبا داود قال: أنبأنا عبد الأعلى بن حماد أظنه عن حمـاد عن محمد بن عمر عن أبي هريرة).

وقال البيهقي في سننه الكبرى: (قالوا: وأما حديث حذيفة فمعلول، وعلته الوقف، وإن زراً هو الذي تسحر مع حذيفة، ذكره النسائي).

وقال الخطابي في معالم السنن مؤلاً المراد من الحديث: (هذا على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، أويكون معناه إن سمع الأذان وهو يشك في الصبح، مثل أن تكون السماء متغيمة، فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع، لعلمه أن دلائل الفجر معدومة، ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً، فإذا علم انفجار الصبح فلا حاجة إلى أوان الصباح أذان الصارخ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

وقال في فتح الودود: قال البيهقي: إذا صح هذا يحمل عند الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم قال حين كان المنادي ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبل طلوع الفجر).

أما القول الثالث فقد انعقد الإجماع على شذوذه كما حكى ذلك ابن عبد البر وغيره.

ã

أقوال العلماء

قال الإمام النووي عن مذاهب العلماء في الدخول في الصوم: (هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمـد، وجمـاهير العلماء من الصحـابة والتـابعين ومن بعدهم؛ قـال ابن المنـذر: وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وعلماء الأمصار، قال: وبه نقول.

قال: روينا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حين صلى الفجر: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قال: وروي عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى، وروي معناه عن ابن مسعود، وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق.

قال: وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين، قال إسحاق: ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء؛ هذا كلام ابن المنذر).

وقال ابن قدامة: (والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، روي معنى ذلك عن عمر، وابن عباس، وبه قال عطاء، وعموم أهل العلم، وروي عن علي رضي الله عنه أنه لما صلى الفجر قال: الآن حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وعن ابن مسعود نحوه، وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق، وهذا قول الأعمش، ولنا قول الله تعالى: "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ"، يعني بياض النهار من سواد الليل، وهذا يحصل بطلوع الفجر.

قال ابن عبد البر: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح، وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر، وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده، فشذ ولم يعرج أحد على قوله، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال: هذا قول جماعة على المسلمين).

وقال العلامة أبو الطيب العظيم آبادي في عون المعبود شرح سنن أبي داود: (قال في البحر الرائق: اختلف المشايخ في أن العبرة لأول طلوعه، أولاستطارته، أولانتشاره، والظاهر الأخير لتعريفهم الصادق به.

وقال علي القاري: قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يقضي حاجته منه"، هذا إذا علم أوظن عدم الطلوع.

وقال ابن المَلِك: هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح، أما إذا علم أنه قد طلع أوشك فيه فلا).

ã

الخلاصة

أولاً: إذا بزغ الفجر واستطار في الأفق وجب الإمساك عن الأكل، والشرب، وجميع المفطرات.

ثانياً: إذا علمت أن المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر من باب التحوط فلا مانع من تناول ما كان أمامك.

ثالثاً: السنة تأخير السحور إلى قبيل طلوع الفجر.

رابعاً: لا ينبغي لأحد أن يلتزم بهذه الإمساكيات، ولا يحل لأحد طبعها وتوزيعها، لأنها مناهضة لسنة تأخير السحور.

خامساً: لا يحل التسحير بأي صورة من صوره القولية أوالفعلية.

سادساً: ينبغي أن يكون بين الأذان الأول والثاني مقدار خمس دقائق أوعشر دقائق على الأكثر، سيما في رمضان.

والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام وتسحر وقام، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان.

---------------------

السواك للصائم

أولاً: الوقت

ثانياً: التفريق بين صيام الفرض والنفل

ثالثاً: متى يبدأ وقت الكراهة لمن كره السواك للصائم؟

رابعاً: الرطوبة واليبس

علة مدح الخلوف

الخلاصة

السواك من سنن المرسلين، وهو مستحب في كل وقت وحين، ولكن يتأكد استحبابه عند الوضوء، وإرادة الصلاة، وعند القيام من النوم، وعند تغير رائحة الفم، ودخول المنزل.

وقد عد له العلماء العديد من الفوائد، ولو لم يثبت في فضله إلا أنه مطهرة للفم مرضاة للرب لكفى.

لكن اختلف العلماء في السواك للصائم في أمور، هي:

1.  وقته.

2.  التفريق بين صيام الفرض والنفل.

3.  رطوبته ويبسه.

4.  متى يبدأ وقت الكراهة؟

ã

أولاً: الوقت

ذهب فيه أهل العلم مذهبين:

1.  مستحب من أول النهار إلى آخره، وهذا مذهب العامة من أهل العلم، أبي حنيفة، ومالك، ومن وافقهما.

واستدلوا على ذلك بالآتي:

   "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

   وحديث عامر بن ربيعة: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم".

2.  يكره بعد الزوال، وقد ذهب إلى ذلك الشافعي، وأحمد، وإسحاق.

واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

قال الشافعي رحمه الله: (أحب السواك عند كل وضوء، بالليل والنهار، وعند تغير الفم، إلا أني أكرهه للصائم آخر النهار من أجل الحديث في خلوف فم الصائم).

وقال الترمذي معلقاً على حديث عامر بن ربيعة: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم": (والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بالسواك للصائم بأساً، إلا أن بعض أهل العلم كرهوا السواك للصائم بالعود الرطب، وكرهوا له السواك آخر النهار، ولم ير الشافعي بالسواك بأساً أول النهار وآخره، وكره أحمد وإسحاق السواك آخر النهار).

قال الحافظ العراقي في طرح التثريب معلقاً على ما نقله الترمذي عن الشافعي أنه لم ير بالسواك بأساً أول النهار وآخره: (وهذا قول غريب عن الشافعي لا يعرف نقله إلا في كلام الترمذي، واختاره الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأبو شامة المقدسي، والنووي، وقال ابن المنذر: رخص فيه للصائم بالغداة والعشي النخعي، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، ومالك، وأصحاب الرأي، وروينا الرخصة فيه عن عمر، وابن عباس، وعائشة.

وقال أبو العباس القرطبي: أجاز كافة العلماء للصائم أن يتسوك بسواك لا طعم له في أي أوقات النهار شاء).

ã

ثانياً: التفريق بين صيام الفرض والنفل

فرق بعض أهل العلم بين صيام الفرض والنفل، فمنعوا من استياك الصائم إن كان صومه فرضاً بعد الزوال، وأجازوا ذلك للمتنفل.

قال الحافظ العراقي: (وفرق بعض أصحابنا في ذلك بين الفرض والنفل، فكرهه في الفرض بعد الزوال، ولم يكرهه في النفل لأنه أبعد من الرياء، حكاه صاحب المعتمد من أصحابنا عن القاضي حسين وحكاه المسعودي وغيره من أصحابنا عن أحمد بن حنبل).

ã

ثالثاً: متى يبدأ وقت الكراهة لمن كره السواك للصائم؟

اختلف الكارهون لسواك الصائم في الوقت الذي تبدأ فيه الكراهة إلى أقوال، هي:

1.    آخر النهار من غير تحديد، وهذا قول للشافعي.

2.    من الزوال.

3.    من العصر.

4.    متى تغيرت رائحة الفم.

قال الحافظ العراقي: (استدل به على كراهة السواك بعد الزوال لما فيه من إزالة الخُلُوف المشهود له بأنه أطيب من ريح المسك، لأن ذلك مبدأ الخلوف الناشئ عن خلو المعدة من الطعام والشراب، وبه قال الشافعي في المشهور عنه، وعبارته في ذلك: "أحب السواك عند كل وضوء بالليل والنهار، وعند تغير الفم، إلا أني أكرهه للصائم آخر النهار من أجل الحديث في خُلُوف فم الصائم" انتهى، وليس في هذه العبارة تقييد ذلك بالزوال، فلذلك قال الماوردي: لم يحد الشافعي الكراهة بالزوال، وإنما ذكر العشي، فحده الأصحاب بالزوال.

قال الشيخ شهاب الدين أبوشامة المقدسي: ولو حدوه بالعصر لكان أولى لما في سنن الدارقطني عن أبي عمر كيسان القصاب عن يزيد بن بلال مولاه عن علي قال: "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي"، وفي سنن البيهقي عن عطاء عن أبي هريرة: "لك السواك إلى العصر، فإذا صليت العصر فألقه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، قلت: لا نسلم لأبي شامة أن تحديده بالعصر أولى، بل إما أن يحد بالظهر، وعليه تدل عبارة الشافعي، فإنه يصدق اسم آخر النهار من ذلك الوقت لدخول النصف الأخير من النهار، وإما أن لا يؤقت بحد معين، بل يقال بترك السواك متى عرف أن تغير فمه ناشئ عن الصيام، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، وباختلاف بعد عهده بالطعام وقرب عهده به.

إلى أن قال: وممن وافق الشافعية على التحديد بالزوال في ذلك الحنابلة، وعبارة الشيخ مجد الدين ابن تيمية في المحرر: ولا يسن السواك للصائم بعد الزوال، وهل يكره، على روايتين، انتهى).

الراجح من الأقوال السابقة أن وقت الكراهة يبدأ من الزوال عند من يكرهون السواك للصائم، أما حديث أبي هريرة وما أثر عن علي فضعيفان، فلا يحتج بهما، وذلك أن وقت الزوال هو الوقت الذي يبدأ فيه تغير رائحة الفم، والله أعلم.

ã

رابعاً: الرطوبة واليبس

أجاز بعض أهل العلم للصائم أن يستاك بسواك يابس، وكره له السواك بسواك رطب، لا فرق عندهم بين أول النهار وآخره.

وأجاز العامة من أهل العلم أن يستاك الصائم بما تيسر له من سواك رطب كان أم يابساً، بل الرطب أفضل وأرفق بالفم من اليابس.

قال ابن المنذر: فممن قال لا بأس به: (أيوب السختياني، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وروينا ذلك عن ابن عمر، ومجاهد، وعروة.

وكره ذلك مالك، وأحمد، وإسحاق، ورويناه عن الشعبي، وعمر، وابن شرحبيل، والحكم، وقتادة.

وقال ابن عُلية: السواك سنة للصائم والمفطر، والرطب واليابس سواء، لأنه ليس بمأكول ولا مشروب.

ورواية ابن شاس المالكي في الجواهر: والأخضر أحسن ما لم يكن صائماً).

ã

علة مدح الخلوف

علة مدح الخلوف التحذير من التقزز والتقذر من مكالمة الصائمين بسبب هذه الرائحة المنبعثة من أفواههم، وليس بقاء هذه الرائحة، ولهذا فإن إزالتها لا تنافي مدح الخلوف، والله أعلم.

ã

الخلاصة

أولاً: أن السواك للصائم لا يكره، سواء كان صومه فرضاً أونفلاً.

ثانياً: لا فرق في ذلك بين الرطب واليابس.

ثالثاً: يسن السواك بالأراك أوبأي عود آخر.

رابعاً: يكره استعمال المعجون في نهار رمضان لمذاق المعجون.

خامساً: السواك في نهار رمضان في آخر النهار لا ينافي مدح الخلوف

--------------------

ماذا على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟

إباحة الشارع الحكيم للحامل والمرضع الفطر في رمضان من باب رفع الحرج الذي خص الله به هذه الأمة، وميزها به على سائر الأمم، حيث رخص للحامل والمرضع ولو كانت أجيرة بالفطر في رمضان، في الحالات الآتية:

أولاً: إذا خافتا على أنفسهما.

ثانياً: إذا خافتا على الجنين أوالولد.

ثالثاً: إذا تضرر الرضيع بالصوم، وإن كانت المرضع مستأجرة.

ثم اختلفوا بعد ذلك فيما يجب عليهما على أقوال، هي:

الأول: إذا خافتا على ولديهما فعليهما القضاء والفدية عن كل يوم مسكيناً، وهذا مذهب الجمهور.

الثاني: إذا خافتا على أنفسهما فعليهما القضاء فقط، لأن حكمهما في هذه الحال حكم المريض الجمهور.

الثالث: وإن خافتا على أنفسهما وولديهما قضتا كذلك ولا فدية عليهما.

الرابع: تقضيان ولا فدية، سواء خافتا على أنفسهما أوولديهما، وذهب إلى ذلك عطاء، والحسن، والزهري، وأبو حنيفة.

الخامس: الحامل تقضي ولا فدية عليها، والمرضع تقضي وتفدي، وهذا قول مالك.

السادس: الحامـل والمرضع يطعمان ولا قضـاء عليهما، وبهـذا قـال ابن عمر، وابن عبـاس، وسعيد بن جبير.

ومنهم من قصر ذلك على من توالي عليها الحمل والرضاع، ولم تتمكن من القضاء.

استدل الموجبون للفدية مع القضاء وهم الجمهور بقوله تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ".

وبما رواه أبو داود عن ابن عباس: (كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا).

وبأن هذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، ولا مخالف لهما من الصحابة.

واستدل القائلون بأن لا قضاء عليهما وإنما الفدية، بأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام، وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم".

أقوال العلماء في ذلك

قال الترمذي رحمه الله معلقاً على حديث "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم": (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم.

وقال بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران ويقضيان ويطعمان، وبه يقول سفيان، ومالك، والشافعي، وأحمد.

وقال بعضهم: يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما، وإن شاءتا قضتا، ولا إطعام عليهما، وبه يقول إسحاق).

قال الإمام النووي عن مذاهب العلماء في المرضع والحامل إذا خافتا فأفطرتا: (قد ذكرنا أن مذهبنا أنهما إن خافتا على أنفسهما لا غيره أوعلى أنفسهما وولدهما أفطرتا وقضتا، ولا فدية عليهما بلا خلاف، وإن أفطرتا للخوف على الولد أفطرتا وقضتا، والصحيح وجوب الفدية، قال ابن المنذر: وللعلماء في ذلك أربعة مذاهب:

1.  قال ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن جبير: يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما.

2. وقال عطـاء بن أبي ربـاح، والحسن، والضحـاك، والنخعي، والزهري، وربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يفطران ويقضيان ولا فدية، كالمريض.

3.  وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويقضيان ويفديان، وروي ذلك عن مجاهد.

4.  وقال مالك: الحامل تفطر وتقضي ولا فدية، والمرضع تفطر وتقضي وتفدي، قال ابن المنذر: وبقول عطاء أقول).

وقال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر، وعليهما القضاء فحسب، لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً، لأنهما بمنزلة المريض، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم، وهذا يروى عن ابن عمر، وهو المشهور من مذهب الشافعي، وقال الليث: الكفارة على المرضع دون الحامل، وهو إحدى الروايتين عن مالك، لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل، ولأن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها.

وقال عطاء، والزهري، والحسن، وسعيد بن جبير، والنخعي، وأبو حنيفة: لا كفارة عليهما.

إلى أن قال:

ولنـا قول الله تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ"، وهمـا داخلتان في عمـوم الآية، قال ابن عباس: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا" الحديث، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، ولا مخالف لهما من الصحابة.

إلى أن قال: وخبرهم لم يتعرض للكفارة.

إلى أن قال: وقال ابن عمر وابن عباس: لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام.. والآية أوجبت الإطعام ولم تتعرض للقضاء، فأخذناه من دليل آخر.

وقال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة؛ يعني ولا أقول بقول ابن عباس وابن عمر في منع القضاء).

ومن بلاغات مالك في الموطأ: (أنه بلغه أن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام، قال: تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال مالك: وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله تعالى: "فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"، ويرون ذلك مرضاً من الأمراض مع الخوف على ولدها).

الخلاصة

أولاً: الذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم السابقة أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فحسب أوعلى أنفسهما مع أولادهما فعليهما القضاء دون الإطعام، وإذا كان الخوف على الولد فعليهما القضاء والإطعام، لأن الحديث الذي اعتمد عليه من لم يوجب القضاء لم يتعرض لذلك، وإنما رخص في الفطر.

ثانياً: إذا تأخر القضاء من غير عذر شرعي حتى دخل رمضان الآخر يطعمان أيضاً عن كل يوم مسكيناً، ويتكرر ذلك بتكرر سنوات التأخير.

ثالثاً: النقود لا تجزئ في جميع الكفارات، وإنما الطعام، سواء كان حباً أوطعاماً مصنوعاً، لأن الكفارات من جملة العبادات، والعبادات توقيفية.

قال ابن عبد البر: (اختلف عن أنس في صفة إطعامه، فروي عنه:

1.  مد لكل مسكين.

2.  وروي عنه نصف صاع أي مدان.

3.  وروي عنه أنه كان يجمعهم فيطعمهم، فربما جمع ثلاثمائة فأطعمهم وجبة واحدة.

4. وربما أطعم ثلاثين مسكيناً كل ليلة من رمضان يتطوع بذلك، وكان يصنع لهم الجفان من الخبز واللحم).

والله الموفق للخيرات، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وآله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان.

----------------------

غسل الميت

حكم غسل الميت

دليله

كيفيته وصفته

غسل الميت قد يكون كاملاً أومجزئاً

لا يدفن ميت مسلم من غير غسل

لا يجرد الميت

من يباشر غسل الميت

ما على من غسل ميتاً

هل ينقض شعر الميت، ويحلق، ويرجل، وتقلم أظافره؟

 

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة، وكتب الفناء على كل الخلق، وانفرد بالبقاء: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ"، فقد وقع الله بهذه الآية على خراب الدنيا وزوالها.

فيجب على كل مسلم وجوباً كفائياً أن يتعلم فقه الجنائز نظرياً، ويمارس ذلك عملياً، ولا ينبغي أن يعتمد على الكبار والمحتسبين، فلا يزال الناس بخير ما تعلم الصغار قبل موت الكبار.

فالموت لا يخطئ أحداً: " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ".

كل ابن أنثى وإن طالت سلامتُه       لابد يوماً على آلة حدباء محمول

ولا يخص داراً دون دار، وكأسه مهيمن على الكؤوس، ومصيبته أعظم من كل المصائب.

فقد يختبر الشاب، ويمتحن الجاهل، ويضطر ويواجه الراغب عن تعلم ذلك، فماذا هو فاعل؟

كذلك معرفة البدع والمحدثات التي أحدثها المحدثون لا تقل أهمية عن معرفة فقه الجنائز وأحكامها حتى يتمكن من تجنبها والحذر منها.

وأحكام الجنائز كثيرة، منها تلقين المحتضر كلمة التوحيد، والتعزية، وغسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، وتشييعه، ودفنه، وسؤال الله له بالتثبيت.

وبعدُ..

فهذا تذكير موجز بأهم الأحكام والآداب المتعلقة بغسل الميت، عسى الله أن ينفع به الجاهل، ويذكر به العالم، وينبه به الغافل، وأن يكون حافزاً ومشجعاً للشباب والشابات خاصة، للإحاطة ببقية أحكام الجنائز وبدعها.

والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.

ã

حكم غسل الميت

الوجوب وهذا مذهب جمهور أهل العلم، وقد غُسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر المطهر، فكيف بمن سواه؟! وقيل إنه سنة، وقيل فرض كفاية.

ã

دليله

ما صح عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثاً، أوخمساً، أوأكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر".

ã

كيفيته وصفته

غسل الميت هو كغسل الجنابة تماماً، إلا أنه يضاف إلى الماء السدر والكافور إن وجدا.

قبل الشروع في الغسل يرفع الغاسل رأس الميت قليلاً، ويعصر بطنه برفق، ويغسل الخارج منه.

السنة أن يغسل الميت وتراً كما ورد في الحديث السابق، والواجب غسلة واحدة إن حصل الإنقاء.

قال ابن سيرين، وهو أعلم التابعين بأحكام غسل الميت: (يغسل ثلاثاً، فإن خرج منه شيء بعد فخمساً، فإن خرج منه شيء غسل سبعاً).

وقال الحسن: (يغسل ثلاثاً، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج ولم يزد على الثلاث).

ثم ينشف من الماء.

ã

غسل الميت قد يكون كاملاً أومجزئاً

الغسل إما أن يكون:

أ. كاملاً: وهو المشتمل على الواجبات والسنن، يسمي وينوي الغاسل ، ينظف ويطهر ما بين السرة إلى الركبة، ثم يوضئ الميت وضوء الصلاة ثلاثاً، يكتفي في المضمضة والاستنشاق بمسح الأسنان ومنخريه بإصبعيه مبلولتين أوعليهما خرقة مبلولة، ثم يغسل الرأس ويتأكد من وصول الماء للبشرة، ثم الشق الأيمن، ثم الشق الأيسر، ثم الأرجل.

ب. أومجزئاً: فالمجزئ ينوي ويسمي الغاسل ثم يعمم سائر الجسد بالماء.

السنة عدم الانتقال إلى المجزئ إلا من عذر.

ã

لا يدفن ميت مسلم من غير غسل

إن لم يتمكن من غسل الميت غسلاً كاملاً غسل الغسل المجزئ، نحو محترق أوغريق وجد شائلاً ويخاف عليه يغمس في الماء غمسة بنية الغسل، ثم يكفن ويدفن في أقرب مكان إن خشي إن وصل به المقبرة أن ينفجر جسمه.

وإن مات رجل بين نساء أجنبيات، أوامرأة بين رجال أجانب، أوكان مريضاً بمرض معدي كالجذام والإيدز ونحوهما، قولان لأهل العلم:

1.   ييمم الميت بالتراب، يُمسح وجهه وكفيه من وراء حائل.

2.   يغسل غسلاً مجزياً.

وإن تعذر غسل بعض الميت غسِل ما يمكن غسله ويُمِّم الباقي.

ã

لا يجرد الميت

السنة أن يغسل الميت في قميصه كما غسل صلى الله عليه وسلم، ثم ينزع عند التكفين؛ أوتغطى العورة بخرقة، ويستر الميت بستارة عن أعين غير المباشرين للغسل، ويلف الغاسل يده بخرقة كذلك، ويباشر الغاسل الغسل بيده الشمال.

ã

من يباشر غسل الميت

أولاً: إذا وصى الميت أن يغسله فلان نُفذت وصيته، اللهم إلا إن كان الموصى له من أهل البدع والفسوق المجاهرين ببدعتهم وفسوقهم، فلا تنفذ تلك الوصية؛ فقد أوصى أبوبكر أن تغسله زوجه أسماء بنت عُميس.

ثانياً: الغلام والجارية دون السابعة، يجوز أن يغسل كلاً منهما الرجال أوالنساء، وإن كان الأفضل أن يغسل الغلام الرجال، والجارية النساء.

ثالثاً: إن كان الميت فوق السابعة غسل الرجل الرجال والمرأة النساء.

رابعاً: يجوز للزوج أن يغسل زوجته لغسل علي لفاطمة رضي الله عنهما.

ولقول عائشة رضي الله عنها: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه.

وأن تغسل الزوجة زوجها، لغسل أسماء بنت عميس لزوجها أبي بكر رضي الله عنهما.

خامساً: لا يباشر غسل الميت إلا أهل الفضل والصلاح والمعرفة، من الأهل والأقرباء والعشيرة، فالأب مقدم على الابن، والابن مقدم على الجد، وهكذا فالأقرب والأقرب.

سادساً: لا يغسل الميت حائض ولا جنب، والحائض أشد كراهة من الجنب.

سابعاً: لا يدخل الغرفة التي يغسل فيها الميت جنب ولا حائض، وإن كانت هناك صور معلقة بها تنزل، لأنها تمنع من دخول ملائكة الرحمة، والميت أحوج ما يكون إلى رحمة ربه.

ثامناً: لا يجوز لمسلم أن يغسل كافراً أومرتداً كتارك الصلاة، أومبتدعاً، أويحمله، أويشيعه.

تاسعاً: يحضر الغسيل الغاسل ومن يعينوه.

عاشراً: يغسل الميت بماء طهور بارد، ليس حاراً ولا فاتراً إلا لضرورة.

ã

ما على من غسل ميتاً

يجب على من غسل ميتاً أمران، هما:

أولاً: أن لا يبوح بما رأى من الميت لا لقريب ولا لبعيد، اللهم إلا إن كان رأى خيراً أوشم ريحاً طيبة.

ثانياً: من غسل ميتاً فعليه الوضوء في أرجح قولي العلماء، وقد ذهب الظاهرية إلى أن عليه الغسل.

(سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الحائض أن تغسل المرأة الميتة، قال: لا يعجبني أن تغسل الحائض شيئاً من الميت، والجنابة أيسر من الحيض.

وقال وقد سئل هل على من غسل الميت غسل أم الوضوء؟ قال: يتوضأ وقد أجزأه؛ قال: وسألته: هل على من غسل الميت غسل؟ قال: عليه الوضوء فقط.

واتبع أحمد في ذلك آثار الصحابة، فإنه صح عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة الأمر بالوضوء منه، ولا يحفظ عن صحابي خلافهم، وهو قول حذيفة وعلي أيضاً، وقال الجوزجاني: حدثنا يزيد بن هارون، أنا مبارك بن فضالة، عن بكر بن عبد الله المزني، عن علقمة بن عبد الله المزني قال: "غسل أباك - يعني أبابكر بن عبد الله المزني أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممن بايع نبي الله تحت الشجرة، فما زادوا على أن شمروا أكمتهم، وجعلوا قمصهم تحت حجرهم، وتوضئوا ولم يغتسلوا".

وفي الموطأ عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر غسلت أبابكر الصديق حين توفي، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار، فقالت: إني صائمة، وإن هذا اليوم شديد البرد، فهل عليَّ من غسل؟ قالوا: لا).

ã

هل ينقض شعر الميت، ويحلق، ويرجل، وتقلم أظافره؟

المطلوب وصول الماء إلى البشرة، فإن تمكن من ذلك من غير نقض اكتفى به، وإن دعا الحال إلى نقض الشعر إن كان ملبكاً أوكان غدائر نقض، فقد صح عن أم عطية في غسل بنت رسول الله: "أنهن جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون، نقضنه ثم غسلنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون".

واحتج من منع من نقضه بأنه قد يفضي إلى إنتاف شعره كما جاء في الفتح.

أما حلق الشعر سيما شعر العانة فلا يحل لأنه يؤدي إلى كشف العورة، وكذلك تقليم الأظافر قد يؤدي إلى إدمامها، وإيذاء الميت، فالراجح الكف عنه، والله أعلم.

إن أزيل شيء من الميت كالشعر والأظافر جُعل المأخوذ منه معه في الكفن.

اللهم طيبنا للموت وطيبه لنا، واجعل آخر كلامنا في هذه الحياة الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم لقاك، واختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

-------------------

التبليغ في الصلاة خلف الإمام من غير ضرورة يبطل صلاة المبلغ

دليل التكبير عند كل خفض ورفع، ومذاهب أهل العلم في حكمه

مذاهب أهل العلم في التكبير في الصلاة عند كل خفض ورفع سوى تكبيرة الإحرام

التبليغ في الصلاة خلف الإمام لضرورة

التبليغ والتسميع خلف الإمام لغير ضرورة

مذاهب أهل العلم في صلاة المبلغ من غير ضرورة

أقوال أهل العلم في ذلك

الخلاصة

من سنن الصلاة التكبير عند كل خفض ورفع؛ للإمام، والمأموم، والمنفرد، في الفرض والنفل.

ويسن للإمام أن يجهر به ويرفع صوته حتى يسمع من خلفه، وإن كان صوته ضعيفاً، أوكان المسجد واسعاً، والعدد كبيراً، وليس هناك مكبر صوت طلب الإمام من المؤذن أومن غيره أن يبلغ ويسمع عنه.

دليل التكبير عند كل خفض ورفع، ومذاهب أهل العلم في حكمه

الأدلة على مشروعية التكبير عند كل خفض ورفع للإمام والمأموم والمنفرد في الفرض والنفل كثيرة، منها:

1. خرج البخاري في صحيحه بسنده عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: "صلى مع عليّ رضي الله عنه بالبصرة، فقال: ذكَّرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه كان يكبر كلما رفع وكلما وضع".

2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع، فإذا انصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم".

3. وخرج البخاري في صحيحه بسنده إلى عكرمة قال: "رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أمَّ لك؟".

مذاهب أهل العلم في التكبير في الصلاة عند كل خفض ورفع سوى تكبيرة الإحرام

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:

1.  مندوب: وهذا مذهب الجمهور.

2.  سنة: قول للمالكية.

3.  واجب: وهذا مذهب أحمد وأهل الظاهر.

قال الحافظ ابن حجر في شرح الأحاديث السابقة: (لكن استقر الأمر على مشروعية التكبير في الخفض والرفع لكل مصلٍ، فالجمهور على ندبيته ما عدا تكبيرة الإحرام، وعن أحمد وبعض أهل العلم بالظاهر يجب كله.

إلى أن قال: قوله: "كلما رفع وكلما وضع" هو عام في جميع الانتقالات في الصلاة، لكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع فإنه شرع فيه التحميد).

وقال مؤلف سبيل السعادة المالكي وهو يعدد سنن الصلاة: (وكل تكبيرة من تكبيرات الصلاة سنة إلا تكبيرة الإحرام، أي التكبيرة التي يدخل بها في حرمات الصلاة، فإنها فرض).

الراجح من أقوال ومذاهب أهل العلم أن التكبير في جميع الانتقالات في الصلاة سنة، ومن قال بوجوبه لم يبعد للأدلة السابقة، والله أعلم.

التبليغ في الصلاة خلف الإمام لضرورة

يجوز التبليغ في الصلاة خلف الإمام إن كانت هناك حاجة وضرورة لذلك نحو انخفاض صوت الإمام، أومرضه، أوسعة المسجد، وكثرة المصلين، في هذه الحال على الإمام أن ينيب ويوكل من يبلغ ويسمع عنه، المؤذن أوغيره.

وإذا دعا الحال أن يكون أكثر من مسمِّع جاز، فالضرورات تبيح المحظورات، وإليك الدليل:

خرج البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبابكر فليصل؛ قلت: إن أبابكر رجل أسيف، إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة؛ قال: مروا أبابكر فليصلِّ؛ فقلت مثله، فقال في الثالثة أوالرابعة : إنكن صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصل؛ فصلى، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يُهَادى بين رَجُلين، وكأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض، فلما رآه أبوبكر ذهب يتأخر، فأشار إليه أن صلِّ، فتأخر أبوبكر رضي الله عنه، وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبوبكر يسمع الناس التكبير".

قال الحافظ ابن حجر: (والشاهد فيه قوله: "وأبوبكر يسمع الناس التكبير"، وهذه اللفظة مفسرة عند الجمهور للمراد بقوله في الرواية الماضية: "وكان أبوبكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر".

إلى أن قال: وفيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه، أوصف قدامه يراه متابعاً للإمام).

قال الإمام النووي رحمه الله: (يسن للإمام الجهر بتكبيرات الصلاة كلها، ويقول: سمع الله لمن حمده، لِيَعْلم المأمومون انتقاله، فإن كان ضعيف الصوت لمرض وغيره فالسنة أن يجهر المؤذن أوغيره من المأمومين جهراً يسمع الناس، وهذا لا خلاف فيه، ودليلنا من السنة حديث سعيد بن الحارث قال: "صلى لنا أبوسعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين، حتى قضى صلاته على ذلك، وقال: إني رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هكذا يصلي").

وقال ابن قدامة رحمه الله: (ويسن الجهر به أي التكبير للإمام ليسمع المأمومُ فيقتدي به في حال الجهر والإسرار جميعاً، كقولنا في تكبيرة الإحرام، فإن لم يجهر الإمام بحيث يسمع الجميع استحب لبعض المأمومين رفع صوته ليسمعهم، كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهم في مرضه قاعداً، وأبوبكر إلى جنبه يقتدي به، والناس يقتدون بأبي بكر).

التبليغ والتسميع خلف الإمام لغير ضرورة

لا يحل لأحد أن يجهر بالتكبير من غير ضرورة، وفي حال الضرورة لا يحل لأحد أن يبلغ إلا إذا أمر الإمام بذلك، أوكان صوته ضعيفاً جداً، أوفي حال انقطاع التيار الكهربائي وتعطيل مكبر الصوت، لأن الجهر بالتكبير لغير الإمام، أولمن يأذن له الإمام، أوعند الضرورة، عمل زائد في الصلاة، هذا بجانب ما يحدثه من التشويش على المصلين الذي يحول بينهم وبين الخشوع في الصلاة.

ومن العجيب الغريب أن يصبح التبليغ عادة لا يترك حتى مع مكبر الصوت وعلو صوت الإمام، بل في كثير من الأحيان يكون صوت الإمام أعلى من صوت المبلغ، وفي أحيان أخرى يكون المبلغ هو المؤتم الوحيد، وهو عن يمين الإمام، ومع ذلك يصر على التبليغ.

وأعجب من هذا وذاك اتهام من لا يبلغون في مساجدهم بأنهم تركوا سنة، وأن الصلاة إذا لم يبلغ فيها ولو لم تكن هناك حاجة لذلك فهي صلاة بكماء، وأعجب من ذلك كله تطفل بعض الغرباء على بعض المساجد وإزعاج أهلها بالتبليغ.

مذاهب أهل العلم في صلاة المبلغ من غير ضرورة

ذهب أهل العلم في حكم صلاة المبلِّغ والمسمِّع من غير ضرورة مذاهب هي:

1.    صلاته باطلة لأنه أحدث في الصلاة ما ليس منها وشوش على المصلين.

2.    صلاته صحيحه مع الكراهة، لأن التكبير من أقوال الصلاة.

3.    إن أذن له الإمام فصلاته صحيحة، وإن لم يأذن له فصلاته باطلة.

أقوال أهل العلم في ذلك

قال ابن شاس المالكي في كتابه القيم عن صلاة المسمِّع المبلِّغ والصلاة به: (حكى بعض المتأخرين في صحتها وبطلانها ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث، فيصح مع وجود إذن الإمام، ويبطل مع عدمه.

وفي الحواشي لعبد الحق: سألت الشيخ أبا عمران عن صلاة الناس بالمسمع يكبر لهم إذا كبر الإمام، ويسمعهم السلام إذا سلم الإمـام؟ فقال: قد كان الشيخ أبو القـاسم يفعله؛ قال عبد الحق: أراه يريد ابن شيلون، فقال لي: وقد أجاب الشيخ  أبو الحسن بن محرز باستخفاف ذلك، وأن ابن عبد الحكم أمر المؤذنين به).

لا شك في جواز التبليغ إذا دعت إليه الحاجة، حيث لم تكن في الماضي مكبرات الصوت، أما الآن فقد انتشرت مكبرات الصوت وأغنت عن ذلك.

قال الونشريسي المالكي رحمه الله تحت فصل "المسمِّع في الصلاة" وقد سئل عن هذه المسألة والخلاف الواقع فيها في المذهب المالكي، هل تراه مقيداً بالحاجة إليه؟ أويجوز فعله وإن لم تدع إليه ضرورة؟ وقد يتعدد المسمعون وواحد منهم يكفي.

فأجاب: الخلاف المعلوم في المسألة يحكيه الفقهاء المتأخرون حكاية عامة، وسمعت بعض الشيوخ يخص الجواز بحالة الضرورة، وذلك إذا كثرت الجماعة، ويكون المسمِّع حيث ينقطع صوت الإمام، وكان هذا نظراً منه، وهو موافق لنظر ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب، فإنه قال: أما مع الضرورة فيجوز ذلك ابتداءً، واستشهد بقضية أبي بكر رضي الله عنه إذ كان يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه عليه السلام، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، ثم قال: وأما لغير ضرورة فالقياس بطلان صلاة المسمِّع دون من اقتدى به. انتهى.

والذي يظهر في صحته أنَّ فِعْله مع الضرورة متأكد حفظاً لصلاة الناس، ولا يحسن أن يقتدي بعضهم ببعض، ويؤدي ذلك في الجماعة العظيمة جداً إلى فساد عظم الصلاة، وقد كان ابن عبد الحكم يأمر به المؤذنين لهذه المصلحة، ولا ينبغي فعله من غير حاجة إليه، ولا إشكال حينئذ في كونه منهياً عن الإقدام عليه ابتداءً، ويبقى النظر إذا وقع من غير ضرورة في صحة الصلاة.

فأما المأمومون إذا كانوا يسمعون صوت الإمام فلا كلام في صحة صلاتهم، لأن اقتداءهم حينئذ بصلاة إمامهم، وأما المسمع فالصواب صحة صلاته، لأن الفقهاء قالوا: إن الذكر إذا كان في محله من الصلاة وجهر به المصلي قاصداً للتفهيم فإنه مغتفر، وكذلك القراءة في محلها كاتفاق ادخلوها بسلام آمنين عند من استأذن من أراد الدخول، قالوا لأن التفهيم هنا في حكم التبع، ومسألتنا من هذا القبيل.

وإذا كان الذكر لم يتفق للمصلي في صلاته وإنما استعمله لمجرد التفهيم فالصحيح عند العلماء والمعتمد أن الصلاة لا تبطل بذلك، وقد قال ابن حبيب: ما جاز للرجل أن يتكلم به في صلاته من الذكر والقراءة فيجوز أن يراجع بذلك رجلاً أويوقفه، وقد استأذن رجلٌ ابنَ مسعود وهو في الصلاة فقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين.

فهذا ما ظهر لي في المسألة والله المستعان.

  وقال ابن رشد في "البيان" بعدما حكى اختلاف ابن القاسم وأشهب في ذكر الله وقراءة القرآن إذا رفع المصلي بذلك صوته لإنباء رجل، ثم قال: وانظر في تكبير المكبر في الجوامع هل يدخله هذا الخلاف أم لا؟ والأظهر أنه لا يدخله، لأنه مما يختص بإصلاح الصلاة، ويشهد له حديث صلاة الناس بصلاة أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، فنفى دخول الخلاف وذلك عند الحاجة إليه.

قال بعض الشيوخ في صحة الصلاة بالمسمِّع: وفي صلاة المسمِّع ستة أقوال، ومذهب الجمهور الجواز، بل أعراه ابن رشد من الخلاف في مسألة الرافع صوته بالذكر للإفهام، لأنه من ضروريات الجوامع، وأنكره حماس بن مروان، ورد عليه لقمان بن يوسف بعدم إنكار علماء الأمصار على أهل مكة ذلك، والرجلان من أصحاب سُحنون. انتهى.

قلت: قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله في التعليقة على أحاديث الجوزني: صليت بجامع مصر، وفيه الإمامان أبوبكر الثعالبي وابن شعبان، فصلوا بالمسمِّع بحضرة هذين الإمامين.

  وقال بعض الشيوخ: حضرنا في حج مكة والفقهاء بها فحجوا وصلوا بالمسمِّع فلم ينكر عليه أحد.

وقال أبو الحسن القابسي: صليت بقصر أبي الجعد، فأمره بإعادة الصلاة، وهذا يدل على أن مذهبه أن الصلاة لا تجوز بالمسمِّع إلا أن يكون يتأول ذلك عليه بأن معناه أن المسمِّع سمَّع بغير إذن الإمام فصاروا كأنهم صلوا بغير إمام، وقيل: إنما أمرهم بالإعادة لأنه زاد في الصياح، وفي جهر الصوت حتى خرج إلى الكلام، فزالت الخشية من قلوب الناس برفع صوته، فلهذا أمره بالإعادة، لا أنه لا يجيز الصلاة بالمسمِّع. انتهى.

قال بعض الشيوخ: واختلف الشيوخ في المسمِّع هل هو نائب ووكيل عن الإمام؟ أوهو علم على صلاته؟ أوإن أذن الإمام فنيابة وإلا فعلم؟ فينبني عليه تسميع الصبي والمرأة ومن على غير وضوء، وفي وجيز ابن غلاب أن حكمه حكم الإمام، فلا يجوز التسميع حتى يستوفي شرائط الإمامة، وعلى من يقول إنه علم ومخبر لا يحتاج إلى ذلك، وبالأول كان يفتي أبو محمد الشبيبي. انتهى.

المقرِّي: اختلف المالكية في الزيادة في الكيف هل هي كزيادة أجنبي مستقل توهماً لانفصالهما؟ أولا؟ لأن المكيف لا يتعدد بها، وعليها بطلان من جهر بالسرية عمداً، وصلاة المسمِّع، وزيادة الصفة في قضاء الدَّين، هل هي أصل أومستثناة بحديث البَكْر؟ أما نقصها فلا يتضمن نقص الأصل، فهو معتبر بنفسه. انتهى).

وجاء في فتاوى( اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية وقد سئلت عن حكم التسميع في الصلاة فأجابت: (إذا كان المأمومون لا يسمعون صوت الإمام لضعفه، أولكثرتهم، شرع التسميع، وهو التبليغ عن الإمام، وإلا فلا).

قلت: لقد أكثرت النقل عن علماء المالكية في هذا الأمر للدعوة العريضة التي يرفعها البعض عندما يُنهى عن التبليغ، أوالدعاء الجماعي دبر الصلوات المكتوبة، ونحو ذلك من المخالفات بقولهم: نحن مالكية!!! من إضافة كل رزية، ونطيحة، وبلية إلى مذهب هذا الإمام الذي كان من أكثر الأئمة تمسكاً بالسنة وبعداً عن البدعة، ولو رأى مالك ما أحدثوه لعاقبهم عليه أشد العقوبة.

وفي الحقيقة فإن المقلد لا يصح له أن يقول أنا مالكي، أوشافعي، أوحنفي، أوحنبلي، وعليه أن يقلد من يجده أمامه من أهل العلم أياً كان مذهبه، حيث لا ينبغي لأحد أن يدعي ذلك إلا إذا علم الأصول والقواعد التي بنى عليها الإمام مذهبه، ولهذا قال أحمد: لا يحق لأحد أن يقلدني إلا إذا عرف دليلي.

بل بلغت الجرأة والجهل ببعض الناس أن ينسب بعض البدع التي لم تظهر إلا في القرون المتأخرة كالاحتفال بمولده  صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحوليات، والموالد، والرقص، والتواجد، والسماع الصوفي في المساجد وغيرها، إلى أئمة المذاهب الذين لم تقم مذاهبهم إلا للدفاع عن السنة والذب عنها، والنصح لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

ومرد كل هذا لسكوت العلماء عن بيان الحق، ومنافقتهم للحكام والعامة، ومجاراتهم لما هو سائد في المجتمع، وهذا المسلك مخالف لما كان عليه سلفهم الصالح، حيث كانوا يصدعون بالحق وينهون عن البدع صغيرها وكبيرها، ولا يخافون في الله لومة لائم.

قال أبوجعفر في "سلوة الأنفاس" في ترجمة العلامة عبد الواحد الونشريسي ما نصه: (كانت  له قوة في الدين وصلابة، ومما يحكى عنه أنه خرج يوم عيد ليصلي بالناس صلاة العيد، فانتظر السلطان أبا العباس أحمد المريني، فلم يخرج إلى وقت الظهر، فلما وصل السلطان نظر صاحب الترجمة إلى الوقت فرآه قد فات، فرقى المنبر وقال: يا معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد صارت ظهراً؛ ثم أمر المؤذن فأذن وأقام الصلاة بالناس صلاة ظهر وانصرف، ولم يراع السلطان ولا غيره).

الخلاصة

الذي يترجح لدي أن صلاة المبلغ من غير ضرورة ولا حاجة لذلك، سيما بعد أن يعلم بمخالفة ذلك للسنة ولما قاله أهل العلم، ويصر على ذلك، ويستنكف عن الرجوع عنه، إما باطلة بالكلية، وإن صحت فإنما تصح مع الإثم والكراهة الشديدة، ولا يشفع له رضا الإمام والمأمومين أوبعضهم، والله أعلم.

اللهم أرنا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبيه القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، والقائل: "من قال لأخيه أنصت والإمام يخطب فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

-----------------

الوسوسة سببها، أنواعها، خطرها، علاجها

تمهيد

تعريف الوسوسة

أسباب الوسوسة

مداخل الوسوسة

أولاً: التفكير في ذات الله وصفاته

ثانياً: في العبادات، كالطهارة والصلاة وغيرهما

التحذير من الإسراف والغلو في الوضوء والغسل

ثالثاً: في تزيين المعاصي

رابعاً: النسيان

خطورة الوسوسة ومضارها

علاج الوسوسة

أولاً: فيما يتعلق بالتفكر في ذات الله وصفاته، وتزيين المعصية

المراد بصريح أومحض الإيمان

ثانياً: فيما يتعلق بالعبادات، نحو الطهارة، والصلاة، والتشاغل فيها

أمور يسَّر فيها الشارع الحكيم، شدَّد فيها الموسوسون والمتنطعون

1. نضح الفرج والسراويل بالماء دفعاً للوسوسة

2. لا يعيد الوضوء من مشى حافياً

3. الخف والنعال إذا أصابتهما نجاسة تزال بالدلك

4. الصلاة في النعال

5. الصلاة فيما تيسر سوى المغبرة وأعطان الإبل

شبه الموسوسين ودحضها

عقوبة المتنطعين

من نوادر الموسوسين

أفضل ما ألف في ذم الوسوسة والموسوسين

تمهيد

من سمات هذا الدين العظيم، وصفاته المستديمة التوسط والاعتدال في جميع الأمور، في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والمباحات، إذ لا تفريط فيه ولا إفراط، ولا تشدد وتزمت، ولا تسيب وتفلت، تتمثل هذه السمة أصدق تمثيل عند أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية، نقاوة المسلمين.

لقد نهى الإسلام أتباعه أشد النهي عن التشدد والغلو، وحذرهم من ذلك في آيات تتلى وأحاديث تترى، وآثار تقرأ، وما فتئ أهل العلم في كل وقت وحين وفي كل مصر وعصر ينصحون إخوانهم المسلمين ويذكرونهم بخطورة ذلك على الدين.

الغلو والتنطع والتشدد مردُّه في كثير من الأحيان إلى كيد الشيطان ومكره وخبثه، ولهذا حذرنا ربنا منه، وبين عداوته الدائمة لبني آدم، وأخذه على نفسه المواثيق المغلظة للقيام بذلك، قائلاً: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير"، وبيَّن رسوله الكريم أن للشيطان مداخل على بني آدم لا تحصى ولا تعد، فهو يجري منه مجرى الدم، لا فرق في ذلك بين صالحهم وطالحهم إلا من رحم الله، فقد صح عن صفية بنت حيي رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي؛ فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما سوءاً أوقال شيئاً".

وما من إنسان إلا وله قرين من الشياطين، حتى رسولنا صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله أعانه عليه فأسلم كما أخبر.

مع ذلك بين ربنا سبحانه وتعالى أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وأنه ليس له سلطان إلا على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون ومغرمون، ولهذا ما سلك عمر بن الخطاب فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً غيره كما أخبر الصادق المصدوق.

على الرغم من أن الله عز وجل جعل للعقل البشري حداً لا ينبغي له أن يتجاوزه أويتعداه، من ذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أمته وإرشاده إلى حصر تفكيرهم في مخلوقات الله، وألا يتفكروا في ذاته العلية وصفاته السنية، إلا أن البعض يتطفلون فيقودهم فضول التفكير في أشياء يود أحدهم أن تدق عنقه ولا يخطر بباله شيء منها.

وكذلك حد حدوداً، وفرض فروضاً، وشرع عبادات، أمر بالتزامها، ونهى عن تعديها، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى الحنيفية السمحة، لا يتجاوزها إلا خاطئ ضال.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى عنه مالك: "سُنَّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يميناً وشمالاً".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".

الشيطان له مداخل عدة، وطرق شتى على بني آدم، تختلف باختلافهم، من أخطر هذه المداخل، وأعظمها ضرراً، وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً هي الوسوسة، التي هي طريقه لفريق من المسلمين الذين عجز عن إغوائهم بالطرق الأخرى، ولم تصدهم حبائله المختلفة، عمد إليهم بهذه الوسيلة، وخدعهم بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب، لهذا أمر أن نستعيذ منه ومن وسوسته على وجه الخصوص، وأنزل سورة خاصة بذلك وهي سورة الناس، التي جاء فيها: "من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس".

الوسوسة من الأمراض القديمة والأدواء الخطيرة، ذات المجالات العديدة، والاضرار البليغة، والآثار السلبية الكثيرة.

على الرغم من تحذير الشارع الكريم منها، وتشنيع السلف الصالح على الموسوسين، وتأليف الدواوين، وتخويف أئمة الدين من خطرها، وعظيم ضررها، إلا أنه لا تزال طائفة من المسلمين مبتلاة بذلك، وتسأل وتستفسر عن كيفية الخلاص منها، والفكاك من أسرها، والانعتاق من كيد مدبرها ومتولي كبرها، مما يستوجب على العلماء وطلاب العلم الكشف عن أسبابها، وبيان خطرها ومضارها، والإرشاد إلى طرق علاجها.

فهذا بحث عن الوسوسة، عن أقسامها، وأسبابها، والتنبيه على خطرها، والتوجيه والإرشاد لأسباب دفعها عن المبتلين بها.

والله أسأل أن يعافينا من كيد الشيطان، ويعيذنا من همزه ولمزه، وأن يقوينا على مجاهدته ورد كيده في نحره، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على البشير النذير، الهادي إلى كل خير.

ã

تعريف الوسوسة

هي حديث النفس وما يلقيه الشيطان في الصدر.

قال ابن منظور رحمه الله في مادة "وسس": (الوَسْوَسَة والوَسْواس: الصوت الخفي من ريح، والوسواس: صوت الحَلْي، وقد وَسْوَسَ وَسْوَسة ووِسْواساً بالكسر، والوَسْوسة والـِوسْواس: حديث النفس، يقال: وَسْوَست إليه نفسه وَسْوَسَة وِوسْوَاساً، بكسر الواو المصدر، وبالفتح الاسم، مثل الزِّلزال والزَّلزال، والوَسْوَاس بالفتح هو الشيطان، وكل ما حدثك به ووَسْوَس إليك.. ورجل مُوَسوس إذا غلبت عليه الوَسْوَسة).

ã

أسباب الوسوسة

الوسوسة هي من كيد الشيطان، وهي ناتجة من الغلو والتشدد في أمور نهى الشارع عن الغلو والتشدد فيها، ولهذا فإن مردها إجمالاً إلى أمرين لا ثالث لهما:

1.  خبل في العقل.

2.  أوجهل بالشرع.

كما قال الإمام الغزالي رحمه الله، يضاف إليهما أسباب أخر ترجع إلى هذين السببين، من ذلك:

3. البول في المستحم المكان الذي يستحم فيه - إن لم يكن هناك مخرج للبول، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدُكم في مستحمه ثم يغتسل فيه - قال أحمد: ثم يتوضأ فإن عامة الوسواس منه".

4. المبالغة في استقصاء الطهارة.

فالتحوط مطلوب ما لم يصل إلى درجة الوسوسة فيكون ممقوتاً.

قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب "التبصرة في الوسوسة" كما نقل عنه النووي في المجموع في ذمه للموسوسين: (وهذه طريقة الحرورية الخوارج، ابتلوا بالغلو في غير موضعه، وفي التساهل في موضع الاحتياط، قال: ومن فعل ذلك فكأنه يعترض على أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر المسلمين).

ã

مداخل الوسوسة

المجالات والمداخل التي يدخل منها الشيطان على الغلاة الموسوسين كثيرة جداً لجريان الشيطان من ابن آدم مجرى الدم، كما أخبر الصادق المصدوق، لتحقق كيده لبني آدم إلا المخلصين منهم؛ فالشيطان له مع جميع الخلق مسالك مختلفة تناسب كلاً منهم، أخطرها وأكثرها ولوجاً ووسوسة له ثلاثة هي:

ã

أولاً: التفكير في ذات الله وصفاته

على الرغم من أن العباد نهوا أن يتفكروا في ذات الله، وفي حقيقة صفاته وكيفيتها، وأمروا أن يفكروا في مخلوقات الله الدالة على قدرته، إلا أننا نجد الشيطان يوسوس لبعضهم ويورد عليهم أسئلة تضيق منها صدورهم ويتحرجون منها، مصداقاً لما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حدث ذلك لبعض أصحابه.

فقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؛ قال: وقد وجدتمهوه؟ قالوا: نعم؛ قال: ذلك صريح الإيمان".

وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ قال: تلك محض الإيمان".

وفي رواية: "لأن يكون أحدنا حُمَمَة أي فحماً أحب إليه من أن يتكلم به".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "تسألون حتى تقولوا: هذا الله خلقنا فمن خلق الله"، قال أبوهريرة: "فوالله إني لجالس يوماً إذ قال لي رجل من أهل العراق: هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال أبوهريرة: فجعلت إصبعي في أذني وصحت: صدق رسول الله، الله الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد".

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله؛ فيقول: من خلق السموات والأرض؟ فيقول: الله؛ فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدُكم شيئاً من ذلك فليقل: آمنتُ بالله ورسوله".

قال الحافظ ابن الجوزي في تلبيس إبليس له تحت عنوان "تلبيس إبليس على العوام": (قد بينا أن إبليس إنما يقوى تلبيسه على قدر قوة الجهل، وقد افتن فيما فتن به العوام، وحصر ما فتنهم ولبَّس عليهم فيه لا يمكن ذكره لكثرته، وإنما نذكر من الأمهات ما يستدل به على جنسه، والله الموفق.

فمن ذلك أنه يأتي إلى العامي فيحمله على التفكر في ذات الله عز وجل وصفاته، فيشكك، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..

إلى أن قال: وإنما وقعت هذه المحنة لغلبة الحس، وهو أنه ما رأى شيئاً إلا مفعولاً).

ã

ثانياً: في العبادات، كالطهارة والصلاة وغيرهما

من المجالات التي استحوذ بها الشيطان على بعض بني آدم الوسوسة في الطهارة والصلاة ونحوهما، فهذا من أوسع المجالات ولوجاً للشيطان في نفوس الضعفاء ممن لم يجد لهم مدخلاً غيره.

قال ابن الجوزي تحت باب: "ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات": (اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبَّس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم، وقد قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل).

ثم أخذ يمثل لذلك:

ومن ذلك أنه يأمرهم بطول المكث في الخلاء.

ومنهم من يقوم يمشي ويتنحنح ويرفع قدماً ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي من البول وكلما زاد في هذا نزل البول.

ومنهم من يلبس عليه في النية، فتراه يقول: أرفع الحدث؛ ثم يقول: أستبيح الصلاة؛ ثم يقول: أرفع الحدث؛ وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع لأن النية بالقلب لا باللفظ.

ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به، فيقول: من أين لك انه طاهر؛ وفتوى يكفيه بأن أصل الماء الطهارة، فلا يترك الأصل بالاحتمال.

ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء.. وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أوفات أوله وهو فضيلة، أوفاتته الجماعة.

ã

التحذير من الإسراف والغلو في الوضوء والغسل

وردت أحاديث كثيرة وآثار عديدة تنهى وتحذر من الإسراف في الماء، منها:

1. ما صحَّ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جار".

2. وعن أبَيّ يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوه"، وفي رواية: "فاحذروه".

3. سمع عبد الله بن مغفل ابنه يقول: اللهم إني أسألك الفردوس، واسألك.. فقال عبد الله: "سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الامة قوم يعتدون في الدعاء والطهور".

4. وعن الحسن رحمه الله قال: شيطان الوضوء يدعى الولهان يضحك بالناس في الوضوء.

5. وكان الحسن يعرِّض بابن سيرين، يقول: يتوضأ أحدُهم بقربة ويغتسل بمزادة صباً صباً، ودلكاً دلكاً، تعذيباً لأنفسهم، وخلافاً لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

6. روي عن أبي حازم التابعي الجليل رحمه الله أنه دخل المسجد فوسوس إليه إبليس أنك تصلي بغير وضوء، فقال: ما بلغ نصحك إلى هذا.

7. وعن عثمان بن أبي العاص قال: "قلتُ: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ثلاثاً واتفل عن يسارك؛ ففعلت ذلك فأذهبه الله عني".

8. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدِّد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديورات: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم".

9. وقال أبوالوفاء بن عقيل رحمه الله: أجل محصول عند العقلاء الوقت، وأقل متعبد به الماء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من الماء، وقال في المني: أمطه عنك بإذخرة، وقال في الحذاء طهوره بأن يدلك بالأرض، وفي ذيل المرأة يطهره ما بعده، وقال: يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام، وكان يحمل بنت أبي العاص بن الربيع في الصلاة، ونهى الراعي عن إعلام السائل له عن الماء وما يرده، وقال: ما أبقته لنا طهور، وقال: يا صاحب الماء لا تخبره.

10. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إني لأستنجي من كوز الحُب وأتوضأ، وأفضل منه لأهلي.

11. وقال أحمد رحمه الله: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء.

12. وقال المروزي: وضأت أبا عبدالله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يَبُلُّ الثرى.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (ومن كيده الذي بلغ به من الجهل ما بلغ، الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم من اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أوتنقيصه، ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس، فأهله قد أطاعوه ولبوا دعوته، واتبعوا أمره، ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم يرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أواغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرتفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد.. ويغتسل بالصاع، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصحَّ أنه توضأ مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم، فالموسوس مسيء متعدٍ ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعدٍ فيه لحدوده؟

إلى أن قال:

فهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته جواز الاغتسال من الحياض والآنية، وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحداً أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة.

قال شيخنا ابن تيمية -: ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع.

ودلت هذه السن الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان).

13. وقال البخاري: وكره أهل العلم الإسراف فيه يعني الوضوء وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

14. وقال ابن عمر: "إسباغ الوضوء الإنقاء".

15. وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعرَّ جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل ولا سنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصاداً أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم".

ã

ثالثاً: في تزيين المعاصي

من مداخل الشيطان إلى بعض العباد الوسوسة بالذنوب والآثام وتزيينها لهم وتحسينها في قلوبهم، فلا ينفكون عن ذلك حتى يواقعوها.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (فإن قوله: "من شر الوسواس" يعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته، وأشدها هجراً، وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغاً من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي، وينسي علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مدداً لهم وعوناً، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم، كما قال الله تعالى: "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً"، أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، كلما فتروا وونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة، قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم، وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم، فلم تمنعه النخوة والكبر أن يصير قواداً لكل من عصى الله، كما قال بعضهم:

عجبتُ من إبليس في تيهه        وقبح ما أظهر من نخوته

تـاه على آدم في سجـده        وصـار قـواداً لذريـته

فأصل كل معصية وبلاء إنما هو المعصية).

رابعاً: النسيان

ومن وسائل وسوسة الشيطان للإنسان أن ينسيه ما يريد تذكره ويحرص عليه، قال تعالى على لسان غلام موسى: "وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره"، ولهذا يضاف النسيان إليه.

ã

خطورة الوسوسة ومضارها

للوسوسة مضار كثيرة ومفاسد عظيمة على الموسوس في سلوكه وعبادته، نشير إلى أخطرها، وهي:

1.  طاعة الشيطان.

2.  ضياع الوقت وهو أثمن ما يملكه الإنسان.

3.  التقصير في العبادة.

4.  مخالفة السنة.

5.  من الوسوسة ما يفسد العبادة كالصلاة.

6.  الإسراف في الماء وهو من أجل النعم وأعظمها.

7.  إغراء الناس بذمه والوقيعة فيه.

8.  الموسوس يشغل ذمته بالزائد عن الحاجة، ويقصر عما أوجبه الله ورسوله عليه.

قال العلامة ابن القيم: (ومن أصناف الوسوسة ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: آت آت، التحي التحي، وفي السلام: أسْ أسْ، وقوله في التكبير: أكككبر، ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له.. وتغرير الجاهل الاقتداء به.. كما قال أبوحامد الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خَبَل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب).

ã

علاج الوسوسة

ما من داء إلا وله دواء لمن يسره الله له، فالوسوسة من الأدواء المعضلة، والأمراض القبيحة، فينبغي للمصاب بها أن يسارع بعلاج نفسه، وأن لا يسترسل معها فيضيع عمره، ويشغل وقته فيما لا طائل وراء.

وعلاج الوسوسة والتخلص منها هو مقصودنا من كتابة هذا البحث.

ã

أولاً: فيما يتعلق بالتفكر في ذات الله وصفاته، وتزيين المعصية

1. استصحاب قوله صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله".

2. استشعار عظمة الله وجلاله والاجتهاد في شغل القلب بذلك.

3. التذكر بأن عقولنا البشرية مهما كانت لا يمكنها قط إدراك حقيقة وكيفية صفات الله عز وجل، وإذا كان الإنسان لا يدرك كنه نفسه فكيف بالذات العلية؟

4. تذكر ما آل إليه أئمة علم الكلام من الندم والرجوع صاغرين إلى منهج أهل السنة، وهو التسليم المطلق وتمنيهم إيماناً كإيمان العجائز.

5. الإكثار من التعوذ خاصة من الشك والريب.

قال تعالى: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم".

وقال: "من شر الوسواس الخناس".

قال القرطبي في تفسير قوله: "فاستعذ بالله": (أي اطلب النجاة من ذلك بالله، فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه، والاستعاذة به، ولله المثل الأعلى، فلا يُستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب، وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده؛ قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده؛ قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده؛ قال: هذا يطول، أرأيتَ لو مررتَ بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي؛ قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك).

وصحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه كما خرجه مسلم في صحيحه وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدَكم فيقول له: من خلق كذا وكذا، حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته".

وفي رواية في الصحيح عنه رضي الله عنه: "ذلك صريح الإيمان".

وعن ابن مسعود عند مسلم قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: "تلك محض الإيمان".

ã

المراد بصريح أومحض الإيمان

قال القرطبي: (هذا ليس على ظاهره، إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لإن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى، أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم، فكأنه قال: جزعكم هذا هو محض الإيمان وخالصه، لصحة إيمانكم وعلمكم بفسادها، فسمى الوسوسة إيماناً، لما كان دفعها، والإعراض عنها، والرد لها، وعدم قبولها، والجزع منها صادراً عن الإيمان، وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان).

6. يكثر الموسوس من ترداد قوله تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".

خرج أبوداود في سننه بسنده إلى أبي زميل قال: "سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به؛ قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: "فإن كنتَ في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك"  الآية، قال لي: إذا وجدتَ في نفسك شيئاً فقل: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".

7. الإكثار من ذكر الله، لقوله تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، فالإكثار من ذكر الله يطرد الشكوك ويجلب اليقين ويحرز صاحبه من الشيطان.

فالحرص على أذكار الصباح والمساء وفي كل المناسبات وعلى جميع الأحوال يحول بين وساوس الشيطان وخطراته ونزعاته، نحو:

قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" عشر مرات أومائة، فقد جاء في فضلها: "وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي" الحديث.

عندما يأوي المرء إلى فراشه يقرأ آية الكرسي، فكما صح من حديث أبي هريرة يرفعه: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح".

8. اللهو عنها وعدم الاسترسال معها، والاجتهاد في طردها، هذا أنفع علاج لجميع أنواع الوساوس التي يتعرض لها الإنسان، وإهمال ذلك عامل أساسي يمكن الشيطان من الإنسان.

وهذا العلاج يحتاج إلى شيء من قوة الإرادة، وصادق العزيمة، أما من كان ضعيف الإرادة، خائر العزيمة، فلن تجدي معه هذه الوسيلة شيئاً.

9. الإكثار من الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، والاستعاذة من الشك والشرك.

10. تذكر المرء لعداوة الشيطان الأبدية لبني آدم، وقسمه وإصراره على ذلك، وأن كل ما يلقيه إلى بني آدم فهو الشر المحض.

ã

ثانياً: فيما يتعلق بالعبادات، نحو الطهارة، والصلاة، والتشاغل فيها

من أسباب العلاج لوساوس الشيطان المتعلقة بالطهارة والصلاة والتشاغل عنها بجانب ما سبق ما يأتي:

1. استصحاب القاعدة الفقهية العظيمة: "اليقين لا يزال بالشك"، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.

دليل ذلك ما صحَّ عن أبي هريرة عند مسلم قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أويجد ريحاً".

فمن كان متيقناً أنه توضأ، ثم شك هل أحدث أم لا؟ لم يلتفت إلى هذا الشك، وبنى على ما هو متيقن منه.

لو استصحب الموسوسون هذه القاعدة وعملوا بها لتخلصوا من وساوسهم، ولأراحوا أنفسهم وأرغموا شياطينهم.

2. عدم البول في المستحم، والمراد الماء الراكض، فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: "لا يبولن أحدُكم في مستحمه ثم يغتسل فيه - قال أحمد: ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه".

3. مستنكح الشك لا يبني على شكه شيئاً، وليس عليه سجود سهو، وإنما عليه أن يلهو عن ذلك ويتشاغل عنه وإلا ازداد شكاً على شك، ووجد الشيطان فيه ضالته.

4. تذكر أن الحق هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي جاء بالحنيفية السمحة، وما سواه هو الباطل.

5. الاقتداء والتأسي بمسلك السلف الصالح في هذا الجانب، حيث كانوا يتشددون ويحذرون مما يدخل في بطونهم، وما كانوا يغالون في مسائل الطهارة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً:

روى أبو داود في سننه عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: "قلت يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: أوليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى؛ قال: فهذه بهذه".

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كنا لا نتوضأ من موطِئ"، أي موطوء، يعني إذا وطئ على المكان القذر الجاف لا يجب عليه غسل القدم.

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: "إن كانت يابسة فليس بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه".

وقال حفص: "أقبلتُ مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد، فلما انتهيتُ عدلتُ إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما، فقال عبد الله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطئ الرديء، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب أوقال: النظيف فيكون ذلك طهوراً؛ فدخلنا المسجد فصلينا جميعاً".

وقال أبو الشعثاء: "كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه، ولا يغسل قدميه".

وقال عمران بن حدير: "كنت أمشي مع أبي مِجْلز إلى الجمعة، وفي الطريق عذرات يابسة، فجعل يتخطاها ويقول: ما هذه إلا سودات، ثم جاء حافياً إلى المسجد فصلى، ولم يغسل قدميه".

وقال عاصم الأحول: "أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء، فقال: مالكم، ألستم متوضئين؟ قلنا: بلى، ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها؛ قال: وهل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا؛ فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف، فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم؟".

6. الحرص على صلاة الجماعة والاقتداء بالعقلاء، رأيتُ موسوساً إذا فاتته صلاة الصبح في جماعة لم يصلها إلى شروق الشمس، وإذا فاتته صلاة العصر لم يتمكن من أدائها وحده إلى الغروب.

ã

أمور يسَّر فيها الشارع الحكيم، شدَّد فيها الموسوسون والمتنطعون

هذه الشريعة مبناها على اليسر، ورفع الحرج، وعدم التكليف بما لا يطاق، هذه النعم العظيمة حرمها كثيرمن الناس بسبب تشددهم وتنطعهم وطاعتهم للشيطان، من ذلك:

ã

1.  نضح الفرج والسراويل بالماء دفعاً للوسوسة

قال العلامة ابن القيم: (قال الشيخ أبو محمد: ويستحب للإنسان أن ينضج فَرْجَه وسراويله بالماء إذا بال، ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللاً قال: هذا من الماء الذي نضحته، لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي أوالحكم بن سفيان قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ وينضح"، وفي رواية: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم نضح فرجه"، وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله.

وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه إذا بال، قال: ولا تجعل ذلك من همتك، والهُ عنه.

وسئل الحسن أوغيره عن مثل هذا فقال: الهُ عنه؛ فأعاد عليه المسألة، فقال: أتستدره لا أب لك! الهُ عنه).

لكن الموسوسين استعاضوا عن هذه السنة بأمور ما أنزل الله بها من سلطان هي: السَّلت، والنتر، والنحنحة، والمشي، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والدرجة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وذلك كله وسواس وبدعة، فراجعته المراجع له ابن القيم في السلت والنتر، فلم يره، وقال: لم يصح الحديث، قال: والبول كاللبن في الضرع، إن تركته قرَّ، وإن حلبته درَّ.

قال: ومن اعتاد ذلك ابتلي منه بما عوفي منه من لها عنه.

قال: ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد قال اليهودي لسلمان: "لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرأة؛ فقال: أجل").

ã

2. لا يعيد الوضوء من مشى حافياً

فقد مر أن كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا يتوضأون ويمشون حفاة إلى المسجد، ومن الضروري أن تطأ أقدامهم بعض النجاسات الجافة، ثم لا يغسلون أقدامهم.

ã

3. الخف والنعال إذا أصابتهما نجاسة تزال بالدلك

لما رواه أبوداود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطئ أحدُكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور"، وفي لفظ: "إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب".

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لِمَ خلعتم؟ قالوا: يا رسول الله، رأيناك خلعتَ فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خُبْثاً، فإذا جاء أحدُكم المسجد فليقلب نعليه، ثم لينظر فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض، ثم ليصلي فيهما".

وكذلك ذيل المرأة يطهره ما بعده، لما صح أن امرأة قالت لأم سلمة: "إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؛ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده".

ã

4. الصلاة في النعال

لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة في النعال مخالفة لليهود.

فعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم".

قال ابن القيم: (ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين الصلاة في النعال، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعلاً منه وأمراً، فروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يصلي في نعليه"، وقيل لأحمد: أيصلي الرجل في نعليه؟ فقال: "إي والله".

وترى أهل الوسواس إذا بلي أحدهم بصلاة الجنازة في نعليه قام على عقبيهما كأنه واقف على الجمر، حتى لا يصلي فيهما).

ã

5. الصلاة فيما تيسر سوى المغبرة وأعطان الإبل

قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فليصلِّ".

قال ابن القيم: (وكان يصلي في مرابض الغنم، وأمر بذلك، ولم يشترط حائلاً.

قال ابن المنذر: أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنه قال: أكره ذلك، إلا إذا كان سليماً من أبعارها.

إلى أن قال:

فأين هذا الهدي من فعل مَنْ لا يصلي إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير، ويضع عليها المنديل، ولا يمشي على الحصير ولا على البساط، بل يمشي عليها نقراً كالعصفور؟ فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود: "لأنتم أهدى من أصحاب محمد، أوأنتم على شعبة من ضلالة".

وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حصير قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضح له بالماء وصلى عليه، ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة، وعلى الحصى تارة، وفي الطين تارة، حتى يُرى أثره على جبهته وأنفه، وقال ابن عمر: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك).

ã

شبه الموسوسين ودحضها

يرفع الموسوسون بعض الشبه تبريراً لصنيعهم المنكر هذا، منها:

1. إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا، مستدلين ببعض النصوص: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، "الإثم ما حاك في الصدر"، ونحو ذلك.

وليس في ذلك أدنى حجة لهم، لأن صنيعهم هذا مخالف لقائل ذلك صلى الله عليه وسلم ولصحبه أعلم الخلق بتأويل ما يقول.

فالاحتياط المطلوب هو ما يكون موافقاً للسنة، لا ما يكون مخالفاً لها، وقائماً على أنقاضها.

قال ابن تيمية: (والاحتياط حسن، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط).

2. وبما كان يفعله أبوهريرة، حيث كان إذا توضأ شرع في العَضَد، وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين، وبأن ابن عمر كان يغسل داخل عينيه في الطهارة، ونحو ذلك.

وفعل الصحابي إذا خالفه غيره فليس بحجة، فكيف إذا خالف السنة، وعمل الخلفاء الراشدين؟ فلا حجة لأحد في مخالفة السنة كائناً من كان.

بل كان ابن عمر ينهى عن الاقتداء به في ذلك، قائلاً: "إن بي وسواساً فلا تقتدوا بي".

وكذلك كان ينبه على ذلك سفيان الثوري رحمه الله.

3. دعواهم أن التشدد خير من التقصير والتفريط، ونقول: كل من الإفراط والتفريط مذموم، إذ الحسنة بين سيئتين، ودين الله بين الغالي والجافي.

قال تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط"، وقال: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا".

ã

عقوبة المتنطعين

عقوبة الموسوسين الزجر والتأديب بما يناسب جرمهم، حتى ينتهوا عن تلاعبهم بهذا الدين، وابتداعهم فيه ما لم ينزل به سلطاناً بالقول والفعل.

فقد صح عنه أنه قال: "ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون".

وقال ابن مسعود: "والله الذي لا إله غيره، مارأيتُ أحداً كان أشد على المتنطعين من رسول الله، ولا رأيتُ بعده أحداً كان أشد على المتنطعين من أبي بكر، وإني لأظن عمر رضي الله عنه كان أشد أهل الأرض خوفاً عليهم".

وكان عليه السلام يبغض المتعمقين، حتى أنه لما واصل بهم ورأى الهلال قال: "لو تأخر الهلال لواصلتُ وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم"، كالمنكل بهم.

ã

من نوادر الموسوسين

قال ابن القيم: (ثم إن طائفة من الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته، وقبلوا قوله، وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام، أوصلى كصلاته، فوضوؤه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في مواكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين، أنه قد صار نجساً، يجب عليه تسبيع يده وفمه، كما لو ولغ فيهما كلب أوبال عليهما هر.

ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلاً يشاهده ببصره، ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه، ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه، ثم يشك: هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقيناً، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه، وجحداً ليقين نفسه، حتى تراه متلدداً متحيراً، كأنه يعالج شيئاً يجتذبه، أويجد شيئاً في باطنه يستخرجه، كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته.

ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه، ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك، وربما فتح عينيه في الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.

قلت: ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشكُّ، هل صحَّ لي الغسل أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب، فقط سقطت عنك الصلاة؛ قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ"، ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون.

قال: وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أوأكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ثم يكذب.

قلت: وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته يكرر عقد النية مراراً عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة، فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد، وأقاما متفرقين دهراً طويلاً، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد، ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرق بينهما، وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها.

وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال: أصلي، أصلي، مراراً، صلاة كذا وكذا، وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاء لله؛ فقطع الصلاة رجل إلى جانبه وقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.

قال: ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مراراً.

قال: فرأيت منهم من يقول: الله أكككبر؛ قال: وقال لي إنسان منهم: قد عجزت عن قول: "السلام عليكم"، فقلت له: قل مثل ما قد قلت الآن، وقد استرحت.

وقد بلغ الشيطان أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).

ã

أفضل ما ألف في ذم الوسوسة والموسوسين

أفضل ما ألف في ذم الوسوسة والموسوسين ما يأتي:

1.  تلبيس إبليس لابن الجوزي.

2.  ذم الموسوسين لابن الجوزي.

3.  التبصرة في الوسوسة لأبي محمد الجويني.

4.  ذم الوسواس لأبي محمد المقدسي.

5.  إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم الجوزية.

ã

المراجع

1. إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.

2.  تلبيس إبليس لابن الجوزي.

3.  سنن أبي داود.

4.  المجموع شرح المهذب.

5.  الوسوسة: أسبابها وعلاجها، للدكتور عبادة بن أيوب الكبيسي.

6.  الوسواس القهري، للدكتور طارق الحبيب.

--------------------

الأوقات التي تحرم وتكره الصلاة فيها

الأدلة على النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وما يُستثنى من ذلك

العلة في النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة

أقوال العلماء ومذاهبهم في ذلك

مذاهب أهل العلم في استثناء الصلوات ذات السبب في أوقات الكراهة الثلاثة: من بعد صلاة الصبح حتى الشروق، ومن بعد صلاة العصر حتى الغروب، وعندما يطلع الإمام المنبر يوم الجمعة

 

العبادات توقيفية لا يصح منها شيء إلا ما وافق ما جاء به صاحب الشريعة في:

1. النوع.

2. والكم.

3. والكيف.

4. والوقت.

ولهذا فإن الصلاة وهي من أحب الأعمال إلى الله عز وجل إلا أنه ينهى عنها في بعض الأوقات نهي تحريم أوتنزيه؛ لذا يتعين على المسلم معرفة هذه الأوقات التي تحرم وتكره فيها الصلاة حتى يوقع صلاته في الوقت الذي تقبل فيه، وفي الجملة فإن الأوقات التي تحرم وتكره فيها الصلاة فرضاً كانت أم نفلاً ستة، هي:

1.  عند الشروق.

2.  عندما تضيف الشمس إلى الغروب.

3.  عندما تكون الشمس في كبد السماء.

تحرم الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لمن لم يكن شارعاً فيها سواء كانت فرضاً أونفلاً، قضاء أوأداء، تتراوح فترة التحريم هذه بين خمس وعشر دقائق على الأحوط.

4.  من بعد صلاة الفجر إلى أن تحل النافلة حيث ترتفع الشمس مقدار رمح.

5.  من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

وفي هذين الوقتين يحرم النفل المطلق غير المقيد، ويجوز:

أ.  أداء الصلاة الحاضرة لمن لم يصلها وقضاء الفائتة والمنذورة.

ب. الصلوات ذوات السبب في أرجح قولي العلماء، نحو تحية المسجد، ركعتي الطواف، صلاة الجنازة، والعيد، والكسوف، وسجود التلاوة، والشكر.

6.  عند طلوع الإمام المنبر لخطبة الجمعة إلا لمن جاء المسجد متأخراً فله صلاة تحية المسجد في هذه الحال والإمام يخطب، وعليه أن يتجوز فيها في أرجح قولي العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما".

ã

الأدلة على النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وما يُستثنى من ذلك

1. عن جابر رضي الله عنهما قال: "جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناسَ يوم الجمعة، فقال: أصليتَ يا فلان؟ - يعني تحية المسجد قال: لا؛ قال: قم فاركع".

2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شهد عندي رجال مرضيون أرضاهم عندي عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب".

3. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها".

4. وعنه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب".

5. وعن عقبة بن عامر قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أونقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب".

6. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء، غير أن لا تحرَّوا طلوع الشمس ولا غروبها".

ã

العلة في النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة

سداً لذريعة الشرك وقطعاً لمشابهة الكفار في الظاهر.

عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: قلتُ: "يا رسول الله أخبرني عن الصلاة؛ قال: صلِّ صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الشيطان".

قال الإمام ابن القيم وهو يعدد أصناف عباد الأصنام: (فمنهم عبّاد الشمس، زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل، وهي أصل نور القمر والكواكب، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك فيستحق التعظيم والسجود والدعاء.

ومن شريعتهم في عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنماً بيده جوهرة على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة، من القرى والضياع، وله سدنة وقوَّام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلون، ويدعون، ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات، قطعاً لمشابهة الكفار ظاهراً وسداً لذريعة الشرك وعبادة الأصنام).

ã

أقوال العلماء ومذاهبهم في ذلك

قال ابن القاسم عن مالك في المدونة وهو يتحدث عن أوقات الصلاة على الجنازة: (ويصلي عليها بعد الصلاة ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يسفر، فإذا أسفر أواصفرت الشمس فلا يصلوا حينئذ إلا أن يخافوا عليها، قال مالك: وإن غابت الشمس بدأوا بما أحبوا من المغرب أوالجنازة، وقال عنه ابن وهب: إن صلوا عليها بعد الفريضة فهو أصوب، وإن صلوا عليها قبل فلا بأس).

وقال النووي في شرح ما قال الشيرازي: (أما حكم المسألة فتكره الصلاة في هذه الأوقات الخمسة التي ذكرها المصنف، فالوقتان الأولان فتتعلق كراهيتهما بالفعل، ومعناه أنه لا يدخل وقت الكراهة لمجرد الزمان، وإنما يدخل إذا فعل فريضة الصبح وفريضة العصر، وأما الأوقات الثلاثة فتتعلق الكراهة فيها بمجرد الزمان، هكذا قال المصنف والجمهور: أن أوقات الكراهة خمسة، وقال جماعة: هي ثلاثة: من صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ومن العصر حتى تغرب، وحال الاستواء؛ وهو يشمل الخمسة، والعبارة الأولى أجود لأن من لم يصل الصبح حتى طلعت الشمس يكره له التنفل حتى ترتفع قدر رمح، وكذا من لم يصلِّ العصر حتى اصفرت الشمس يكره له التنفل حتى تغرب، وهذا يفهم من العبارة الأولى دون الثانية.

إلى أن قال: واعلم أن الكراهة عند طلوع الشمس تمتد حتى ترتفع قدر رمح، هذا هو الصحيح وبه قطع المصنف في "التنبيه" والجمهور، وفيه وجه حكاه الخرسانيون: أن الكراهة تزول إذا طلع قرص الشمس بكماله.

إلى أن قال: ولا خلاف أن وقت الكراهة بعد العصر لا يدخل بمجرد دخول العصر، بل لا يدخل حتى يصليها، وأما في الصبح ففيه ثلاثة أوجه:

الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يدخل بطلوع الفجر، بل لا يدخل حتى يصلي فريضة الصبح.

الثاني: يدخل بصلاة سنة الصبح.

والثالث: بطلوع الفجر، وبه قال مالك وأبوحنيفة وأحمد وأكثر العلماء).

ã

مذاهب أهل العلم في استثناء الصلوات ذات السبب في أوقات الكراهة الثلاثة: من بعد صلاة الصبح حتى الشروق، ومن بعد صلاة العصر حتى الغروب، وعندما يطلع الإمام المنبر يوم الجمعة

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين هما:

1. الصلوات ذات السبب نحو ركعتي الطواف، وتحية المسجد، وصلاة الجنازة، والعيدين، والكسوف، والاستسقاء، والضحى، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، مستثناة من هذا النهي فهي تفعل حتى في هذه الأوقات وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد ومن وافقهما.

2.  لم يفرِّق بين ذات السبب والنفل المطلق، فنهى عن الجميع في هذه الأوقات الثلاثة وهو مذهب الجمهور: أبوحنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه.

استدل أصحاب المذهب الأول وهم المجوزون لهذه الصلوات في تلك الأوقات بجانب ما سبق بالآتي:

1. "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يصلي حتى يركع ركعتين".

2. ما صح عن أنس يرفعه: "من نسي صلاة أونام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها".

3. وبما رواه قيس عمر مرفوعاً ومرسلاً قال: "رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال: ما هاتان الركعتان؟ فقلت: لم اكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان".

قال النووي عن مذاهب العلماء في جواز الصلاة التي لها سبب في هذه الأوقات: (قد ذكرنا أن مذهبنا أنهـا لا تكره، وبه قال علي بن أبي طالب، والزبيـر بن العـوام وابنه، وأبو أيـوب، والنعـمان بن بشير، وتميم الداري، وعائشة رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز شيء من ذلك؛ ووافقنا جمهور الفقهاء في إباحة الفوائت في هذه الأوقات، وقال أبو حنيفة: يباح الفوائت بعد الصبح، والعصر، ولا تباح في الأوقات الثلاثة إلا عصر يومه، فتباح عند اصفرار الشمس، وتباح المنذورة في هذه الأوقات عندنا ولا تباح عند أبي حنيفة، قال ابن المنذر: وأجمع المسلمون على إباحة صلاة الجنازة بعد الصبح والعصر، ونقل العبدري في كتاب الجنائز عن الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، أن صلاة الجنازة منهي عنها عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعند استوائها، ولا تكره في الوقتين الآخرين، ونقل القاضي عياض في شرح صحيح مسلم عن داود الظاهري أنه أباح الصلاة لسبب وبلا سببب في جميع الأوقات، والمشهور من مذهب داود منع الصلاة في هذه الأوقات سواء ما لها سبب وما لا سبب لها وهو رواية عن أحمد).

وقال صاحب نيل المآرب الحنبلي: (ويجوز قضاء الفرائض في الأوقات المذكورة، ويجوز فعل منذورة، ولو كان نذرها فيها، لأنها واجبة أشبهت الفرايض، ويجوز فيها ركعتا الطواف، لأنها تبع له، وهو جائز في كل وقت، ويجوز فيها إعادة جماعة أقيمت في المسجد، فإن لم يكن بالمسجد فإنه يستحب له الدخول، ولا يعيدها فيه، وتجوز ركعتا الفجر قبل صلاة الفريضة، فلا تجوز بعدها حتى ترتفع الشمس قدر رمح.

ويحرم في هذه الأوقات الخمسة تطوع بصلاة أوبعضها، ما عدا المذكورات، حتى ما له سبب من التطوع كتحية مسجد، وسجود تلاوة، وصلاة كسوف، وصلاة على قبر، أوغائب، وقضاء راتبة سوى سنة ظهر بعد العصر المجموعة معها سواء كان جمع تقديم أوتأخير كما تقدم، ولا ينعقد النفل إذا ابتدأه في أوقات النهي المذكورة، ولو جاهلاً إلا تحية المسجد حال الخطبة، فتجوز حتى وقت النهي، ولا يجوز فيها صلاة جنازة لم يخف عليها إلا بعد الفجر وعصر دون بقية الأوقات).

وقال الشيخ عبد الله البسام في الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية في ذيل نيل المآرب: (واختلفوا في جواز الصلوات ذوات السبب، كتحية المسجد، وركعتي الوضوء وصلاة الكسوف؛ فذهب الأئمة الثلاثة: أبوحنيفة ومالك وأحمد في المشهور من مذهبه إلى عدم جواز نفل الصلاة  في أوقات النهي مطلقاً، سواء ما كان من ذوات الأسباب أوغيرها، وذهب الإمام الشافعي إلى جواز نفل ذوات الأسباب، وهو رواية قوية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام وغيره من أصحاب أحمد، ومنشأ الخلاف بين الفريقين هو بدو التعارض بين الأحاديث، فطائفة منها عمومها يفيد النهي عن الصلاة مطلقاً في تلك الأوقات، وطائفة أخرى عمومها يفيد استحباب إيقاع الصلاة ذات السبب، ولو في وقت النهي.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: التحقيق أن العموم في الأوقات مقدم على العموم في الصلوات، ولأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة التي تقضى فضعَّف جانب عموم تخصيصها بذلك.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: تجويز ذوات الأسباب في أوقات النهي أرجح من منعها لأن ذوات الأسباب تفوت بفوات أسبابها، بخلاف النوافل المطلقة).

اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، وصلِّ وسلم على عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه والتابعين.

------------------

أيهما أولى لمن جاء ووجد الإمامَ في الجلوس الأخير:الدخول معه؟ أم ينتظر جماعة أخرى؟

 

الأدلة على أن الأولى الدخول مع الإمام على أي حال

من دخل مع الإمام وهو في التشهد الأخير أتمها

 

لأهل العلم في ذلك قولان:

1. يدخل مع الإمام في أي حال وجده عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا" الحديث.

2. ينتظر ولا يحرم معه إن كان حارياً لجماعة أخرى وإلا دخل معه.

وسبب هذا الخلاف اختلافهم فيما يدرك به المصلي فضل الجماعة، فمن قال إن فضل الجماعة يدرك بالدخول مع الإمام قبل السلام وهذا هو الراجح أمره أن يدخل معه، ومن قال إن فضل الجماعة لا يدرك إلا بإدراك ركعة استحب له أن لا يدخل معه وينتظر جماعة أخرى إن كان حارياً لها.

قال الإمام النووي رحمه الله: (إذا أدركه في التشهد الأخير كبَّر للإحرام قائماً وقعد وتشهد معه، ولا يكبر للقعود على الصحيح... وتحصل له فضيلة الجماعة لكن دون فضيلة من أدركها من أولها، هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع المصنف والجمهور من أصحابنا العراقيين والخرسانيين، وجزم الغزالي بأنه لا يكون مدركاً للجماعة إلا إذا أدرك ركوع الركعة الأخيرة، والمشهور الأول، لأنه لا خلاف أن صلاته تنعقد ولو لم تحصل له الجماعة.. فإن قيل: لم يدرك قدراً يحسب له قلنا: هذا غلط، بل تكبيرة الإحرام أدركها معه وهي محسوبة له والله أعلم).

وقال البلباني في "أخصر المختصرات": (ومن كبَّر قبل تسليمة الإمام الأولى أدرك الجماعة).

قال الجبرين في شرحه لهذا المختصر: (هذا من المباحث التي يقال فيها: بأي شيء تدرك الجماعة؟ فيه قولان:

القول الأول: أنها تدرك بإدراك تحريمة قبل السلام، فإذا أتيت والإمام في التشهد الأخير وقلت: الله أكبر قبل أن يسلم، أدركت فضل الجماعة، وإن كان فاتتك تكبيرة الإحرام، وفاتتك فضيلة متابعة الإمام، ولكن تعد مدركاً للجماعة، فهذا قول.

والقول الثاني: ولعله الأرجح أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، ومن أتى وهم قد صلوا أربع ركعات في الرباعية وما بقي عليهم إلا التشهد في آخر ركعة فإنه قد فاتته الجماعة).

ã

الأدلة على أن الأولى الدخول مع الإمام على أي حال

الأدلة على رجحان القول الأول وهو الدخول مع الإمام على أي حال وعدم انتظار جماعة أخرى ما يأتي:

1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعتدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة".

2.  وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".

3. وعن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدُكم إلى الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام".

قال الشوكاني في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار معلقاً وشارحاً لتلك الأحاديث: (الحديث الأول أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح، والحديث الثاني عزاه المصنف إلى الشيخين، وقد طول الحافظ الكلام عليه في "التلخيص" فليراجع. والحديث الثالث قال في التلخيص: فيه ضعف وانقطاع.

قوله: "فاسجدوا" فيه مشروعية السجود مع الإمام لمن أدركه ساجداً.

إلى أن قال: قوله: "فليصنع كما يصنع الإمام"، فيه مشروعية دخول اللاحق مع الإمام في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود، لظاهر قوله: "والإمام على حال" والحديث، وإن كان فيه ضعف كما قال الحافظ لكنه يشهد له ما عند أحمد وأبي داود من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ فقال: لا أجده علىحال أبداً إلا كنتُ عليها ثم قضيتُ ما سبقني؛ قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته قام يقضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا"، وابن أبي ليلى وإن لم يسمع من معاذ فقد رواه أبوداود من وجه آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث..

ويشهد له أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعاً: "من وجدني راكعاً، أوقائماً، أوساجداً، فليكن معي على حالتي التي أنا عليها"، وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة، والظاهر أنه يدخل معه في الحال التي أدركه عليها مكبراً معتداً بذلك التكبير، وإن لم يعتد بما أدركه من الركعة).

وقال الحافظ العراقي رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا": (استدل به على إدراك الجمعة بجزء من الصلاة وإن قلَّ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "فما أدركتم فصلوا"، ولم يفصل بين القليل والكثير، وبهذا قال الجمهور من أصحابنا الشافعية - وغيرهم، وقال ابن حزم: وهذا زائد على الخبر الذي فيه من أدرك من الصلاة مع الإمام ركعة فقد أدرك الصلاة، قال: وروينا عن ابن مسعود أنه أدرك قوماً جلوساً في آخر صلاتهم فقال: أدركتهم إن شاء الله؛ وعن شقيق بن سلمة: من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة؛ وعن الحسن قال: إذا أدركهم سجوداً سجد معهم.

إلى أن قال: استدل به أي الحديث السابق ابن حزم الظاهري على أنه إذا وجد الإمام جالساً في آخر الصلاة قبل أن يسلم وجب عليه أن يدخل معه سواء طمع بإدراك الصلاة من أولها في مسجد آخر أم لا، فحمل الأمر في قوله "فما أدركتم فصلوا" على الوجوب على عادته، ثم ذكر آثاراً عن السلف بالأمر بصلاة ما أدركه يمكن حملها على الاستحباب كما حمل الجمهور هذا الحديث على ذلك).

ã

من دخل مع الإمام وهو في التشهد الأخير أتمها

من دخل مع الإمام وهو في التشهد الأخير أتم فرضه، ولا يجوز له أن يخرج منها أوينتقل منها إلى نافلة، وبعد انقضاء صلاته فله أن يعيدها إن وجد جماعة أخرى إذا كانت الصلاة مما تعاد.

قال الونشريسي المالكي: (وأما مسألة الداخل في صلاة الإمام وهو في التشهد الأخير، فمن الواجب عليه إتمام فرضه الذي أحرم به، ثم إن أدرك جماعة أعاد معهم إن شاء الله وكانت الصلاة مما تعاد، هذا هو المنصوص في المسألة في "العتبية" وغيرها، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، لا بقطع ولا بانتقال إلى نفل، وهو حكم ظاهر لأنه شرع في فرض فلا يبطله لصلاة الجماعة وهي سنة).

وقال الزين العراقي: (وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: إن سمع الإقامة والأذان وهو يصلي المكتوبة، أيقطع صلاته ويأتي الجماعة؟ قال: إن ظن أنه يدرك من المكتوبة شيئاً فنعم؛ وذهب الغزالي من أصحابنا إلى أن الجماعة لا تدرك بأقل من ركعة).

والله الموفق لكل خير والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان

-------------------------

حكم قتل غير المقاتلين من الرهبان، والعجزة،والنساء، والأطفال

أولاً: في دار الحرب

الأدلة على النهي عن قتل غير المقاتلين ولا المحرضين والمعينين من هؤلاء

ثانياً: في دار الإسلام

 

الجهاد شرعه الله لإقامة الحق والعدل وللإصلاح بين الناس، فالقتل وإن كان فيه ضرر وفساد، فالكفر فتنته أكبر، وشره مستطير، ولهذا قال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، وقال: "والفتنة أكبر من القتل".

لقد راعى الإسلام العدل والإنصاف حتى مع أعدائه، ونهى عن التعدي وقتل الأبرياء فقال: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".

فالنهي عن قتل غير المقاتلين من الرهبان، والعجزة، والنساء، والأطفال، يختلف باختلاف الدار والحال.

ã

أولاً: في دار الحرب

ذهب أهل العلم في قتل الرهبان، والعجزة، والنساء، والأطفال في دار الحرب مذاهب هي:

1.  لا يقتل من هؤلاء في دار الحرب إلا المعاونين على القتال.

2.  يُقتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والأطفال.

3.  وفرَّق قوم بين الرهبان المحرِّضين على قتال المسلمين، فهؤلاء أولى بالقتل من غيرهم، وبين المنقطعين للعبادة.

ã

الأدلة على النهي عن قتل غير المقاتلين ولا المحرضين والمعينين من هؤلاء

1.  قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" الآية.

2.  مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه بامرأة مقتولة، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل".

3.  وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "الحق خالداً فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً".

4.  وقال صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة".

5.  وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه موصياً يزيد بن أبي سفيان لما بعثه أميراً لفتح الشام: "وستجدون أقواماً قد حبسوا أنفسهم في الصوامع، فذروهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون أقواماً قد فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضربوا ما فحصوا عنه بالسيف".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإنما نهى عن قتل هؤلاء، لأنهم قوم منقطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يسمى أحدهم "حبيساً"، لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلاً، ولايخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به، فتنازع العلماء في قتلهم، كتنازعهم في قتل من لا يضر المسلمين بيده ولا بلسانه، كالأعمى، والزَّمِن، والشيخ الكبير، ونحوه كالنساء والصبيان.

فالجمهور يقولون: لا يقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال في الجملة، وإلا كان كالنساء والصبيان، ومنهم من يقول: بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل، وإنما استثنى النساء والصبيان لأنهم أموال، وعلى هذا الأصل ينبني أخذ الجزية.

وأما الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه، مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال، أونوع من التحضيض، فهذا يقتل باتفاق العلماء، إذا قدر عليه، وتؤخذ منه الجزية، وإن كان حبيساً منفرداً في معبده، فكيف بمن هم كسائر النصارى في معاشهم ومخالطتهم الناس، واكتساب الأموال بالتجارات والزراعات والصناعات، واتخاذ الديارات الجامعات لغيرهم، وإنما تميزوا على غيرهم بما يغلِّظ كفرهم، ويجعلهم أئمة في الكفر، مثل التعبد بالنجاسات، وترك النكاح، واللحم، واللباس الذي هو شعار الكفر، لا سيما وهم الذين يقيمون دين النصارى بما يظهرونه من الحيل الباطلة التي صنف الفضلاء فيها مصنفات، ومن العبادات الفاسدة، أوقبول نذورهم وأوقافهم.

والراهب عندهم شرطه ترك النكاح فقط، وهم مع هذا يجوِّزون أن يكون بتركاً، وبطرقاً، وقسيساً، وغيرهم من أئمة الكفر الذي يصدرون عن أمرهم ونهيهم، ولهم أن يكتسبوا الأموال، كما لغيرهم مثل ذلك، فهؤلاء لا يتنازع العلماء في أنهم من أحق النصارى بالقتل عند المحاربة، وبأخذ الجزية عند المسالمة، وأنهم من جنس أئمة الكفر الذين قال فيهم الصديق رضي الله عنه ما قال، وتلا قوله تعالى: "فقاتلوا أئمة الكفر".

ويبين ذلك أنه سبحانه وتعالى قال: "إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله"، وقد قال تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون".

فهل يقول عالم: إن أئمة الكفر الذين يصدون عوامهم عن سبيل الله، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويرضون أن يتخذوا أرباباً من دون الله لا يقاتلون ولا تؤخذ منهم الجزية، مع كونها تؤخذ من العامة الذين هم أقل منهم ضرراً على الدين، وأقل أموالاً، لا يقوله من يدري ما يقول، وإنما وقعت الشبهة لما في لفظ الراهب من الإجمال والاشتراك).

قلت: عداوة الرهبان والقسس ومن شاكلهم من أئمة الكفر لا تدانيها عداوة العامة منهم، فهم الذي يحرضون على قتل المسلمين، وعلى جمع الأموال والتبرعات للقضاء على الإسلام والمسلمين، هذا بجانب أن عداوة الكفار لعلماء الأئمة أشد، وحضهم الحكام على التضييق عليهم وعلى حبسهم ومنعهم من قيادة المجتمع وريادته.

ã

ثانياً: في دار الإسلام

أما قتل المدنيين من أئمة الكفر وغيرهم من النساء والأطفال والصحفيين وغيرهم، الغازين لديار الإسلام، كما هو الحال في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وجنوب الفلبين، وجنوب تايلاند "فطاني"، وغيرها من البلاد، فهؤلاء يُقتلون ولا يُستثنون، والأدلة السابقة لا تتناولهم بحال من الأحوال، لأنهم غزاة معتدون مغتصِبون.

إذا كان الكفار اليوم في فلسطين والعراق وغيرهما يقتلون المسلمين وحيواناتهم، ويفسدون الحرث والنسل، ويقلعون الأشجار، ويعيثون في الأرض الفساد، ولا يميزون بين مقاتل وغير مقاتل، فقد طال قتلهم الأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والنساء الحمَّل، والمقعدين، والعجزة، ومن العجيب الغريب أن يصف هؤلاء الكفار والسذج ما يقوم به هؤلاء الأبطال المجاهدين لمن غزاهم في عقر دارهم بأنهم إرهابيون، ويجاريهم في ذلك حكام المسلمين وغيرهم، خوفاً ورهباً من الأمريكان واليهود، وحرصاً على السلطان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الكفرة المعاندين، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين.

----------------

النهي عن الصلب والتمثيل إلا لمن مثل

"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقِبتُم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين"

الأدلة على نهي الإسلام أتباعه عن الإحراق والصلب والتمثيل حتى بالكافرين إلا لمن مثَّل

أقوال أهل العلم في التحريق بالنار والتدخين

الدليل على جواز التمثيل بمن مثَّل، والعفو أفضل

أقوال العلماء في التمثيل والمماثلة في القَوَد

 

الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله عز وجل، ولإعزاز دينه، رحمة للمقاتِلين والمقاتَلين، فرحمته للمقاتِلين لأن لهم إحدى الحُسنيين، النصر أوالشهادة، أما رحمته للمقاتَلين لأن به إنقاذ من أراد الله لهم الهداية من الضلال، وإتاحة الفرصة لمن أسِر منهم بالدخول في الإسلام فيما بعد.

قال صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدُهما الآخر، يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد"، وقال: "عجب الله لقوم يدخلون الجنة بالسلاسل".

قال ابن الجوزي: (معناه أسِروا وقيِّدوا فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعاً فدخلوا الجنة).

لهذا فإن في ترك المسلمين لجهاد الطلب الذي هو ذروة سنام الإسلام ظلم للكافرين أمة الدعوة، فالخير كل الخير لأمة الاستجابة وأمة الدعوة في الجهاد، على الرغم من كره الجميع للقتال: "كتِب عليكم القتالُ وهو كرهٌ لهم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم".

هناك فروق كبيرة وكثيرة بين جهاد المسلمين للكفار، وبين تعدي الكافرين على المسلمين في حروبهم الصليبية التي شنوها في الماضي، وتوجوها بتلك الحرب الظالمة الفاجرة التي تقودها أمريكا وربائبها وعملاؤها الآن، تتجلى هذه الفروق في الآتي:

أولاً: غرض المسلمين من جهاد قوى الشر التي تحول بين الرعايا والإسلام إخراجُ الناس من الظلمات إلى النور، من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأمريكا الآن تريد من المسلمين أن يتركوا دينهم، عقائد ومظاهر، ليكون الجميع في الكفر سواء، مصداقاً لقوله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، وشتان ما بين الغرضين.

ثانياً: الباعث للمسلمين في جهادهم الرحمة، وللكافرين التجبر والتكبر والتسلط والانفراد بالعالم.

ثالثاً: المسلمون في جهادهم ملتزمون بأوامر رسولهم وخلفائه الراشدين، وما سار عليه السلف المتقدمون في فتوحاتهم، والكافرون يقتلون ويغتالون ويمثِّلون، وما حدث ويحدث في فلسطين وأفغانستان والعراق أكبر شاهد على ذلك.

رابعاً: التعتيم الإعلامي والضغط الإجرامي الذي تمارسه أمريكا في حربها الصليبية وعلى حكام المسلمين في التضييق والتدخل في القرارات السيادية والعبادات الشرعية، نحو منع المحسنين من إعطاء الزكاة لمستحقيها من الفقراء والمساكين بحجة أنها تذهب إلى أيدي المجاهدين الشرفاء، لتحرير أوطانهم وصيانة أعراضهم والحفاظ على دينهم، علماً أن الجهاد في سبيل الله من أفضل مصارف الزكاة.

خامساً: نهى الإسلام أتباعه عن قتل الشيوخ والنساء والعجزة، وتفنن الكفار في اغتيال المقعدين والأطفال والعجزة.

سنشير في هذه العجالة إلى أمر مهم، وهو نهي الإسلام أتباعه الفاتحين عن التمثيل والصلب حتى للمحاربين الكافرين، إلا لمن مثل بالمسلمين، لتقارن بينه أخي المسلم وبين تمثيل إسرائيل بالمقعدين، والأمركان والبريطان بالمساجين في سجن أبي غريب، ببول العلوج على المسلمين في روؤسهم.

ã

الأدلة على نهي الإسلام أتباعه عن الإحراق والصلب والتمثيل حتى بالكافرين إلا لمن مثَّل

من القرآن الكريم

   قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين"، ها نحن نرى أن الإسلام لم يكتفِ بالنهي عن التمثيل بل حثَّ على العفو حتى عمن مثَّل بالمسلمين.

ومن السنة

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".

وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المُثلة، حتى الكفار إذا قاتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ونبقر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل، كما قال تعالى: "وإن عاقبتم.." الآية.

وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية، أوجيش، أوفي حاجة نفسه، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم يقول: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا أولا تقتلوا وليداً".

ã

أقوال أهل العلم في التحريق بالنار والتدخين

ذهب أهل العلم في تحريق الكفار بالنار والتدخين مذاهب، هي:

1.  إذا تعيَّن التحريق طريقاً إلى الغلبة على الكفار في الحرب جاز، وإن كان معهم نساء وأطفال.

2.  إذا تعيَّن التحريق طريقاً إلى الغلبة على الكفار جاز ما لم يكن معهم نساء وأطفال.

3. النهي عن التحريق نهي تنزيه، وليس نهي تحريم، بدليل فعل بعض الخلفاء الراشدين لذلك، أبوبكر وعلي رضي الله عنهما.

4.  النهي عن التحريق نهي تحريم، فلا يحلُّ بحال.

خرج البخاري في صحيحه بسنده عن مكرمة: "أن علياً رضي الله عنه حرَّق قوماً بالنار فبلغ ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه".

قال الحافظ ابن حجر معلقاً على تبويب البخاري لهذا الحديث "باب لا يعذب بعذاب الله": (هكذا بت الحكم في هذه المسألة لوضوح دليلها عنده، ومحله إذا لم يتعين التحريق طريقاً إلى الغلبة على الكفار حال الحرب.

ثم بين مذاهب أهل العلم في التحـريق قائـلاً: واختلف السلف في التحـريـق، فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً، سواء كان ذلك بسبب كفر أوفي حال مقاتلة، أوكان قصاصاً، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما.. قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمَّل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرق أبوبكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرَّق خالد بن الوليد بالنار ناساً من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، قاله الثوري والأوزاعي، وقال ابن المنير وغيره: لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العرنيين كانت قصاصاً، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة، إذا تعين طريقاً للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء وصبيان كما تقدم، وأما حديث الباب فظاهر النهي التحريم.

إلى أن قال: وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة، وفي التدخين، وفي القصاص بالنار).

والمراد بالتدخين القتل بالدخان.

ã

الدليل على جواز التمثيل بمن مثَّل، والعفو أفضل

الأدلة على جواز التمثيل بالكفار بمن مثَّل منهم بالمسلمين كثيرة، هذا مع استحباب العفو والصفح، من ذلك:

   قوله: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" الآية.

   وقصة العُرَنيين كما رواها أنس رضي الله عنه: "أن رهطاً من عُكَل ثمانية قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتَوَوا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رِسْلاً؛ قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود؛ فانطلقوا فشربوا من أبوالها حتى صحُّوا وسمنوا، وقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأتى الصريخُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب، فما ترجَّل النهار حتى أتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم أمَرَ بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وطرحهم بالحرة يستسقون فما يُسقون، حتى ماتوا"، قال أبو قِلابة: "قتلوا، وسرقوا، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعوا في الأرض فساداً".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة فأحرقت أمة من الأمم تسبح الله"، يعني هلا أحرقتَ النملة التي قرصتك فقط؟

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن جارية وُجد رأسُها قد رُضَّ بين حجرين، فسألوها: من صَنَع هذا بك! أفلان، أفلان؟ حتى ذكروا يهودياً فأومأت برأسها، فأخِذ اليهودي، فأقرَّ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُرضَّ رأسه بالحجارة"، وفي رواية: "فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين".

وروى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما انصرف المشركون عن قتلى أحُد، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظراً ساءه، رأى حمزة قد شُقَّ بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: "لولا أن يحزن النساء، أوتكون سُنَّة بعدي، لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير، لأمثلن مكانه بسبعين رجلاً".. فلما دفنوا وفرغ عنهم نزلت هذه الآية: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، إلى قوله: "واصبر وما صبرك إلا بالله"، فصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد".

ã

أقوال العلماء في التمثيل والمماثلة في القَوَد

قال القرطبي: (أما النهي عن المُثلة فنقول أيضاً بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة، وقوله: "لا يعذب بالنار إلا رب النار"، صحيح إذا لم يحرِّق، فإن حَرَّق حُرِّق، يدل عليه عموم القرآن، قال الشافعي: إن طرحه في النار عمداً طرح في النار حتى يموت، وذكره الوقار في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن الحكم، قال ابن المنذر: قول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل عليه القَوَد، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أوطرحه في بئر فمات، أوألقاه من جبل أوسطح فمات، لم يكن عليه قصاص، وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفاً بذلك قد خنق غير واحد فعليه القتل؛ قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رضَّّ رأس الجارية بالحَجَر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله أي محمد بن الحسن.

قلت: وحكى هذا القول غير واحد عن أبي حنيفة، فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق، أوبسُمٍّ، أوتردية من جبل، أوبئر، أوبخشبة، أنه لا يُقتل ولا يقتص منه إلا إذا قتل بمحدد، حديد، أوحَجَر، أوخشب، أوكان معروفاً بالخنق والتردية، وكان على عاقلته الدية؛ وهذا معناه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس، فليس منه مناص).

هذا كله يدل على أنه ليس كل خلاف يُعمل به ويُستراح له، وأن تقليد الأئمة من غير دليل يؤدي إلى رد الكتاب والسنة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص).

أرجو أخي الكريم أن تقارن بين شرع الرحمن الرحيم، وشريعة الطغاة المجرمين، بما يمارسونه في فلسطين، حيث يُمثل بالمقعدين، وبالأطفال، إذ القتل بالصواريخ يمثل أسوأ أنواع التمثيل، حيث يتحول الإنسان في الحال إلى أشلاء، وفي أفغانستان حيث نقل الأسرى في شاحنات مغلقة وكبسوا فيها كبساً إلى أن قتلوا وسال دمهم وصديدهم من تلك الشاحنات، وفي العراق حيث أباد الأمريكان أكثر  من ألف قتيل في الفلوجة، مقابل خمسة، وحرقوهم بالقنابل والصواريخ، وحيث مثَّل الغزاة من الأمركان والبريطان بالمحبوسين في سجن أبي غريب، حيث يبال عليهم، ويعلق أحدهم بين برميلين قابلين للالتهاب، وما خفي أعظم، ولولا هذا التعتيم الإجرامي لظهر من تمثيل الغزاة بالمسلمين ما يندي له الجبين.

ألا لعنة الله على الكافرين، على اليهود والنصارى وعلى عملائهم ومرتزقتهم الآثمين، والله نسأل أن ينتقم لأوليائه من أعدائه، وأن يمكر بالطغاة الغاشمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وصلى الله وسلم على محمد وآله ومن والاه

--------------------

مذاهب أهل العلم في جلسة الاستراحة في الصلاة

تعريف جلسة الاستراحة

حُكْمَها

الحِكْمَةُ منها

مذاهب أهل العلم في جلسة الاستراحة

المذهب الأول: غير مستحبة

المذهب الثاني: جلسة الاستراحة مستحبة

المذهب الثالث

أقوال أهل العلم في ذلك

كيفية جلسة الاستراحة

كيف ينهض إلى القيام من جلسة الاستراحة؟

هل ترفع الأيدي عند النهوض من جلسة الاستراحة؟

متى يكبر للنهوض من جلس للاستراحة؟

 

الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه وأزواجه الكرام، وعلى من اتبعهم بإحسان، وبعد..

ينبغي للمسلمين أن يسعهم ما وسع سلفهم الصالح، إذ الخلاف فيه سائغ وممنوع، والسائغ منه راجح ومرجوح، وعلى المسلم أن يدين الله عز وجل بما ترجح لديه، وأن لا يحمله التعصب والتقليد أن ينكر على إخوانه المسلمين ما أداه إليه اجتهادهم، واطمأنت إليه نفوسهم.

من تلكم الأمور التي اختلف فيها السلف الصالح بين مستحب لها وكاره جلسة الاستراحة، ولكل من الفريقين دليله وحججه ومستنده، على الرغم من ذلك نجد البعض ينازع ويجادل في عدم مشروعيتها، أوفي استحبابها، لهذا أحببت أن أوضح مذاهب أهل العلم في هذه المسألة مع ذكر أدلتهم وترجيحاتهم، والله أسأل أن ينفع بذلك الكاتب، والقارئ، والسامع، والمبلِّغ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فأقول:

ã

تعريف جلسة الاستراحة

هي الجلسة التي يجلسها المصلي بعد الرفع من السجدة الثانية من الركعة الأولى في الصلاة الثنائية، ومن الركعة الأولى والثالثة من الصلاة الرباعية قبل النهوض إلى القيام إلى الركعة التي تليها، سواء كانت الصلاة فرضاً أونفلاً.

ã

حُكْمَها

الاستحباب لمن احتاج إليها.

ã

الحِكْمَةُ منها

راحة المصلي المحتاج إليها، واستجمامه قبل النهوض إلى القيام.

ã

مذاهب أهل العلم في جلسة الاستراحة

بعد أن أجمع أهل العلم على عدم وجوبها اختلفوا في استحبابها إلى ثلاثة مذاهب أوأقوال، هي:

المذهب الأول: غير مستحبة

وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.

ذهب إلى ذلك من الصحابة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم.

ومن الأئمـة أبو حنيفة، والثـوري، وأبو الزيـاد، ومالك، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وإسحاق بن راهويه، وقول للشافعي رحمهم الله.

أدلة هذا المذهب

استدل القائلون بعدم استحبابها بالآتي:

1. حديث "المسيء صلاته"، حيث لم يرد ذكر لها.

2. حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا رفع رأسه من السجدة استوى قائماً بتكبيرة".

ã

المذهب الثاني: جلسة الاستراحة مستحبة

وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله.

من الصحابة: مالك بن الحويرث، وأبوحُمَيْد، وأبوقتادة رضي الله عنهم.

ومن التابعين أبو قِلابة رحمه الله.

ومن الأئمة فهو مشهور مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، ومذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه رحمهم الله.

أدلة هذا المذهب

استدل المستحبون لجلسة الاستراحة بالآتي:

1.  عن أبي قلابة قال: جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا، فقال: "إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، أريد أن أريكم كيف رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي"، قال أيوب: قلت لأبي قِلابة: كيف كانت صلاته؟ فقال: مثل شيخنا، يعني عمرو بن سلمة؛ قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، فإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام".

2.  وقال أبو حميد وهو يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم هوى ساجداً ثم ثنى رِجْلَه وقعد حتى رجع كل عظم موضعه، ثم نهض".

ã

المذهب الثالث

وهو وسط بين القولين السابقين، فأجازوا الجلسة واستحبوها لمن احتاج إليها، ومنعوا منها القوي، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومن وافقه.

ã

أقوال أهل العلم في ذلك

قال النعمان بن أبي عياش: أدركتُ غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، أي لا يجلس.

قال الترمذي بعد أن روى هذا الأثر: وعليه العمل عند أهل العلم.

وقال أبو الزناد: تلك السنة، أي ترك جلسة الاستراحة.

وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا، أي على تركها.

قال النووي: (مذهبنا الصحيح المشهور أنها مستحبة كما سبق، وبه قال مالك بن الحويرث، وأبوحُميد، وأبو قتادة، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وأبو قِلابة وغيره من التابعين، قال الترمذي: وبه قال أصحابنا، وهو مذهب داود ورواية عن أحمد.

وقال كثيرون أو الأكثرون: لا يستحب، بل إذا رفع رأسه من السجود نهض، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبي الزياد، ومالك، والثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق.

إلى أن قال: واحتج لهم أي ابن المنذر بحديث "المسيء صلاته"، ولا ذكر لها فيه، وبحديث وائل بن حُجْر المذكور في الكتاب، قال الطحاوي: ولإنه لا دلالة في حديث أبي حُمَيد، قال: ولأنها لو كانت مشروعة لَسُنَّ لها ذكر كغيرها.

واحتج أصحابنا الشافعية بحديث مالك بن الحويرث.

إلى أن قال: والجواب عن حديث "المسيء صلاته" أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علمه الواجبات دون المسنونات، وهذا معلوم سبق ذكره مرات، وأما حديث وائل ولو صح وجب حمله على موافقة غيره في إثبات جلسة الاستراحة، لأنه ليس فيه تصـريح بتركهـا، ولو كان صحيحـاً لكان حديث مالك بن الحويرث وأبي حُميد وأصحابه مقدماً عليه لوجهين.

أحدهما: صحة أسانيدها.

والثاني: كثرة رواتها.

ويحتمل حديث وائل أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت، أوأوقات تبييناً للجواز، وواظب على ما رآه الأكثرون، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث بعد أن قام يصلي معه، ويتحفظ العلم منه عشرين يوماً، وأراد الانصراف من عنده إلى أهله: "اذهبوا إلى أهليكم، ومروهم، وكلموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا كله ثابت في صحيح البخاري من طرق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وقد رآه يجلس للاستراحة، فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد لما أطلق صلى الله عليه وسلم قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي من القوي والضعيف، ويجاب به أيضاً عن قول من لا معرفة له، ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه، وأما قول الإمام أحمد: إن أكثر الأحاديث على هذا ليس فيها ذكر الجلسة إثباتاً لا نفياً، ولا يجوز أن يحمل كلامه على مراده أن أكثر الأحاديث تنفيها، لأن الموجود في كتب الحديث ليس كذلك، وهو أجل من أن يقول شيئاً على سبيل الإخبار عن الأحاديث ونجد فيها خلافه، وإذا تقرر أن مراده أن أكثر الروايات ليس فيها إثباتها ولا نفيها لم يلزم رد سُنَّة ثابتة من جهات عن جماعات من الصحابة، وأما قول الطحاوي: إنها ليست في حديث أبي حُمَيد فمن العجب الغريب، فإنها مشهورة فيه في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما من كتب السنن والمسانيد للمتقدمين، وأما قوله: لو شرعت لكان لها ذكر، فجوابه أن ذكرها التكبير، فإن الصحيح أن يمد حتى يستوعبها ويصل إلى القيام، كما سبق، ولو لم يكن فيها ذكر لم يجز رد السنن الثابتة بهذا الاعتراض، والله أعلم).

وقال ابن قدامة: (اختلفت الرواية عن أحمد، هل يجلس للاستراحة؟ فرُوِيَ عنه: لا يجلس، وهو اختيار الخِرَقي، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وبه يقول مالك، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي.. والرواية الثانية: أنه يجلس، اختارها الخلال، وهو أحد قولي الشافعي، قال الخلال: رجع أبو عبد الله إلى هذا، يعني ترك قوله بترك الجلوس.

إلى أن قال: وقيل إن كان المصلي ضعيفاً جلس للاستراحة، لحاجته إلى الجلوس، وإن كان قوياً لم يجلس، لغناه عنه، وحُمِلَ جلوس النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان في آخر عمره، عند كبره وضعفه، وهذا فيه جمع بين الأخبار، وتوسط بين القولين).

وقال الخرقي: (ولا يجلس للاستراحة).

وقال الشيخ البَسَّام حفظه الله: (لا شك في صحة أدلة الطرفين، ولذا فإن الأفضل هو الجمع بين النصوص، فيكون استحبابها عند الحاجة إليه من كِبَر أومرض أوعجز ونحو ذلك، ويكون تركها وعدم استحبابها عند الاستغناء عنها وعدم الحاجة إليها، وهذا هو نهج جماعة من المحققين.

قال الشيرازي في المهذب: إن كان ضعيفاً جلس لأنه يحتاج إلى الاستراحة، وإن كان قوياً لم يجلس لأنه لا يحتاج إلى الاستراحة. انتهى.

وجاء في حاشية الشيخ أبي القاسم على "الروض": ثبت أن النبي صلى فعلها، ولكن لم يذكرها كل واصف لصلاته، ومجرد فعلها لا يدل على أنها من سنن الصلاة.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -: جلسة الاستراحة من الأشياء العارضة، لا الراتبة، فيكون فعلها من السنة العارضة، لا الراتبة، وبهذا تجتمع الأدلة. انتهى.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أصح الأقوال الثلاثة في جلسة الاستراحة استحبابها عند الحاجة، واستحباب تركها عند عدم الحاجة. انتهى.

إلى أن قال: والقول بهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية).

ã

الخلاصة

أن القول الثالث هو أعدل الأقوال، أنها مستحبة لمن احتاج إليها لكِبَر أومرض أوسمن، وغير مستحبة لمن لا يحتاج إليها.

وإن كان في الأمر سعة فمن ترجح لديه استحبابها فعلها، ومن ترجح لديه عدم استحبابها تركها ولا حرج عليه، والله أعلم.

ã

كيفية جلسة الاستراحة

قولان لأهل العلم:

1. يجلس مفترشاً على صفة الجلوس بين السجدتين، وهذا أرجحهما، لقول أبي حُمَيد السَّاعدي: "ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عضو إلى موضعه، ثم نهض"، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.

2.  يجلس على أليتيه، وهي رواية ثانية عن أحمد، قال الخلال: روي عن أحمد ما لا أحصيه كثرة أنه يجلس على أليتيه.

قال القاضي أبو يَعْلَى: يجلس على قدميه وأليتيه مفضياً بهما إلى الأرض.

ã

كيف ينهض إلى القيام من جلسة الاستراحة؟

قولان لأهل العلم:

1. ينهض معتمداً على يديه، وهذه هي العلة والحكمة من جلسة الاستراحة، وهذا مذهب مالك والشافعي.

2. ينهض على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه، أوواضعاً كفيه على فخذيه، وهذا مذهب أحمد.

قال ابن قدامة: (ينهض إلى القيام على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، ولا يعتمد على يديه، قال القاضي: لا يختلف قوله أي أحمد أنه لا يعتمد على الأرض، سواء قلنا يجلس للاستراحة أولا يجلس، وقال مالك والشافعي: السُّنة أن يعتمد على يديه في النهوض، لأن مالك بن الحويرث قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انه لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعداً ثم اعتمد على الأرض، رواه النسائي، ولأن ذلك أعون للمصلي، ولنا ما روى وائل بن حُجْر قال: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه"، رواه النسائي والأثرم، وفي لفظ: "وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه"، وعن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة"، رواهما أبوداود، وقال علي رضي الله عنه: إن من السنة في الصلاة المكتوبة إذا نهض الرجل من الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض، إلا أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع، رواه الأثرم).

قلت: القولان أدلتهما صحيحة، وهذا من باب خلاف التنوع الجائز، وقد يكون أحدهما أرجح، والله أعلم.

ã

هل ترفع الأيدي عند النهوض من جلسة الاستراحة؟

قولان لأهل العلم، أرجحهما لا ترفع الأيدي إلا في ثلاثة مواضع بعد تكبيرة الإحرام: عند الركوع، والرفع منه، وعند القيام من الجلوس الوسط، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: "وكان لا يفعل ذلك في السجود"، وفي رواية البخاري: "ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود".

وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما: "كان إذا دخل الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه"، ورفع ابن عمر ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى بسند ضعيف كما قال النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يرفع يديه إذا ركع، وإذا سجد".

ã

متى يكبر للنهوض من جلس للاستراحة؟

قولان لأهل العلم:

1.  إذا نهض من جلسة الاستراحة قائماً.

2.  ينهي تكبيره عند انتهاء جلوسه، ثم ينهض من غير تكبير.

3.  ينهض مكبراً.

وقد رجح ابن قدامة القول الثاني، وخطَّأ الثالث.

----------------------

تلقين الإمام أوالفتح عليه في الصلاة إذا ارتجَّ عليه، أوأخطأ

 

أدلة الكارهين والمانعين للتلقين أوالفتح على الإمام في الصلاة، وهم أهل الكوفة

أدلة المستحبين للفتح على الإمام

حكم الفتح على الإمام في الصلاة

أ.  في الفاتحة

ب. في غير الفاتحة

من يتولى الفتح

لا يفتح من هو في صلاة على غير إمامه

غير المصلي يفتح على المصلي

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد..

ذهب أهل العلم رحمهم الله في تلقين الإمام والفتح عليه إذا ارتج عليه أوأخطأ في صلاة الفرض أوالنفل ثلاثة مذاهب، هي:

الأول: التلقين للإمام مستحب، وهذا مذهب عامة أهل العلم.

من الصحابة عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر رضي الله عنهم.

ومن التابعين عطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، وابن معقل، ونافع بن جبير، وأبي أسماء الرحبي، وأبو عبد الرحمن السلمي رحمهم الله.

ومن الأئمة المقتدى بهم مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق رحمهم الله.

الثاني: التلقين للإمام مكروه، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم:

من الصحابة ابن مسعود رضي الله عنه.

ومن التابعين شريح والشعبي رحمهما الله.

ومن الأئمة المقتدى بهم الثوري ومحمد بن الحسن رحمهما الله.

الثالث: التلقين يبطل صلاة من لقن، وهذا مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله.

ã

الأدلة على ما سبق ومناقشتها

أ. أدلة الكارهين والمانعين للتلقين أوالفتح على الإمام في الصلاة، وهم أهل الكوفة

استدل الكارهون والمانعون للفتح على الإمام في الصلاة بما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا عليُّ، لا تفتح على الإمام في الصلاة"، والحديث ضعيف.

قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث: (أبو إسحاق راوي الحديث عن الحارث لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها).

وقال ابن قدامة رحمه الله: (وحديث علي يرويه الحارث، وقال الشعبي: كان كذاباً).

وقال النووي رحمه الله: (وأما حديث النهي الذي احتج به الكارهون فضعيف جداً لا يجوز الاحتجاج به لأن الحارث الأعور ضعيف باتفاق المحدثين، معروف بالكذب).

ويكذب هذا الحديث ما روى عن علي نفسه أنه قال: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه"، يعني إذا تعايى فاردد عليه، رواه الأثرم كما قال ابن قدامة.

ã

ب. أدلة المستحبين للفتح على الإمام

استدل المستحبون للفتح على الإمام وتلقينه إذا ارتج عليه أوأخطأ بالآتي:

1. بما رواه أبوداود بسنده عن المُسَوِّر بن يزيد المالكي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يحيى: وربما قال: شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله تركت آية كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا أذكرتنيها".

قال سليمان في حديثه: كنت أراها نسخت.

وقال سليمان: قال حدثني يحيى بن كثير الأزدي قال: ثنا المُسَـوِّر بن يزيد الأسـدي المـالكي حدثنا يزيد بن محمد الدمشقي، ثنا هشام بن إسماعيل، ثنا محمد بن شعيب، أخبرنا عبد الله بن العـلاء بن زَبْرٍ عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبِّس عليه، فلما انصرف قال لأبي: "أصليتَ معنا"؟ قال: نعم؛ قال: "فما منعك"؟

قال ابن قدامة: قال الخطابي: وإسناده جيد.

2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة في صلاة الصبح، فلم يفتحوا عليه، فلما قضى الصلاة نظر في وجوه القوم، فقال: "ما شهد الصلاة معكم أبي بن كعب؟" قالوا: لا؛ فرأى القوم أنه إنما تفقده ليفتح عليه.

3. قال الحسن البصري: إن أهل الكوفة يقولون: لا تفتح على الإمام، وما بأس به، أليس يقول: سبحان الله؟ يعني إذا سها الإمام يقال له سبحان الله.

ثبت بذلك مشروعية ورجحان الفتح على الإمام في الصلاة إذا ارتج عليه أوأخطأ سواء كانت الصلاة فرضاً أونفلاً.

ã

حكم الفتح على الإمام في الصلاة

بعد أن استحب العامة من أهل العلم الفتح على الإمام في الصلاة، فصَّلوا في حكم هذا الفتح في الفاتحة وغيرها.

أ.  في الفاتحة

الفتح على الإمام في الصلاة واجب، لأن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، إذا ارتج عليه أوأخطأ بتقديم أوتأخير آية.

قال ابن قدامة: (وإذا ارتج على الإمام في الفاتحة لزم مَنْ وراءه الفتح عليه كما لو نسي سجدة لزمهم تنبيهه بالتسبيح، فإن عجز عن إتمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلي بهم، لأنه عذر، فجاز أن يستخلف من أجله، كما لو سبقه الحدث، وكذلك لو عجز في أثناء الصلاة عن ركن يمنع عن الائتمام، كالركوع أوالسجود، فإنه يستخلف من يتم بهم الصلاة، كمن سبقه الحدث، بل هذا أولى بالاستخلاف، لأن من سبقه الحدث قد بطلت صلاته، وهذا صلاته صحيحة، فكان بالاستخلاف أولى، وإذا لم يقدر على إتمام الفاتحة فقال ابن عقيل: يأتي بما يحسن، ويسقط عنه ما عجز عنه وتصح صلاته، لأن القراءة ركن عَجَزَ عنه في أثناء الصلاة فسقط، كالقيام.

فأما المأموم فإن كان أمياً عاجزاً عن قراءة الفاتحة صحت صلاته أيضاً، وإن كان قارئاً نوى مفارقته وأتم وحده، ولا يصح له إتمام الصلاة خلفه، لأن هذا صار حكمه حكم الأمي، والصحيح أنه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة أن صلاته تفسد، لأنه قادر على الصلاة بقراءتها، فلم تصح صلاته بدون ذلك).

لهذا ينبغي أن يلي الإمام أولي الأحلام والنهى، كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا استخلف الإمام أحدهم تمكن من إتمام الصلاة.

ب. في غير الفاتحة

في غير الفاتحة الفتح والتلقين ليس واجباً، ما لم يخطئ الإمام خطأ يغيِّر المعنى.

أما إذا وقف وقوفاً يدل على رغبته في أن يُطعَم، كما قال عليٌّ رضي الله عنه، فيُستحب أن يُطعَم، أي يُلقن ويُفتح عليه.

ã

من يتولى الفتح

يتولى الفتح والتلقين على الإمام في الصلاة من يليه من المصلين، ولا ينبغي لمن كان بعيداً ولو عن يمين الصف الأول أويساره أن يفتح، لأنه غالباً لا يُسمع الإمام.

إذا تخطى الإمام آية أوآيات وتعداها لما بعدها لا يفتح عليه، لأن الفتح في هذه الحال قد يؤدي إلى ارتباك الإمام.

ã

لا يفتح من هو في صلاة على غير إمامه

من كان في صلاة فلا يحل له أن يفتح على غير إمامه، فإن فعل فقد اختلف في بطلان صلاته على قولين، والراجح عدم بطلانها.

قال ابن قدامة: (يكره أنُ يَفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى، أوعلى من ليس في صلاة، لأن ذلك يشغله عن صلاته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلاً"، وقد سئل أحمد عن رجل جالس بين يدي المصلي يقرأ، فإذا أخطأ فتح عليه المصلي، فقال: كيف يفتح إذا أخطأ هذا؟ وتعجب من هذه المسألة، فإن فعل لم تبطل صلاته، لأنه قرآن، وإنما قصد قراءته دون خطاب الآدمي بغيره.

ã

غير المصلي يفتح على المصلي

أما غير المصلي فإنه يجوز له أن يفتح على المصلي إماماً كان أومنفرداً.

قال ابن قدامة: (ولا بأس أن يفتح على المصلي من ليس معه في الصلاة، وقد رَوَى النجَّاد بإسناده قال: كنت قاعداً بمكة، فإذا رجل عند المقام يصلي، وإذا رجل قاعد خلفه يلقنه، فإذا هو عثمان رضي الله عنه).

-----------------

ما يبطل الصلاة من الكلام وما لا يبطلها

الأدلة على أن المصلي ممنوع من الكلام

أولاً: الكلام المبطل للصلاة

ثانياً: الكلام الذي لا يبطل الصلاة

أ. أن يتكلم لصالح الصلاة

(1)  حال سهو الإمام بزيادة أونقصان

(2)  حال الفتح على الإمام

ب. أن يتكلم ساهياً ناسياً

ج. أن يتكلم جاهلاً

د. أن يتكلم وهو نائم

ﻫ. أن يتكلم وهو مُكْرَه على الكلام

و. إن تكلم وهو مغلوب على الكلام

ز. أن يتكلم بكلام واجب

ح. من عطس فحمد الله

ح. من عطس فحمد الله

ط. من رد السلام وهو في صلاته

هل يُسلم الداخل على المصلي؟

ي. إذا أجاب على استفاهم تقريري في القرآن ببلى ونحو ذلك

ك. أن يقرأ القرآن يقصد به تنبيه غيره

ل. من سمع الإمام يقرأ إياك نعبد وإياك نستعين

م. من مر بآية رحمة أو آية عذاب فسأل الله من فضله واستعاذ من عذابه سراً

 

الحمد لله الذي جعل الصلاة على المؤمنين كتاباً موقوتاً، وجعل لها تحريماً وتحليلاً وتسليماً، وجعل فيها شغلاً عن الأكل والشرب والكلام، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، ومناجاة الكريم المنان، والوقوف بين يدي الرحيم الرحمن، وصلى الله وسلم على أفضل من صلى وحج وصام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من اتبعهم بإحسان، وبعد..

فالصلاة لها مفسدات ومبطلات، هي:

(1)  الأكل والشرب.

(2)  والكلام، إلا لصالح الصلاة وعند الضرورة.

(3)  الحدث.

(4)  زوال العقل بجنون ونحوه.

(5)  الضحك والقهقهة، أما التبسم فلا.

(6)  سقوط نجاسة على بدن أوثوب أومكان المصلي.

(7)  انكشاف العورة.

(8)  الحركة الكثيرة لغير صالح الصلاة.

(9)  ترك ركن من أركان الصلاة سهواً أوعمداً إن لم يتداركه، أوزيادة ركن فعلي كركوع أوسجود عمداً.

(10) الحيض والنفاس.

(11) التشاغل عن صلاته حتى لا يدري ماذا قرأ وكم صلى؟

(12) الالتفات بجميع البدن عن جهة القبلة، أما الالتفات اليسير فلا.

(13) الردة.

من تلكم المبطلات التي فيها تفصيل واختلاف في طرف منها، قد تغيب عن كثير منا، فتبطل صلاته التي هي سبب فلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة وهو لا يشعر الكلام، فمتى يبطل الكلامُ الصلاةَ؟ ومتى لا يبطلها؟ هذا ما نود الإشارة إليه والتنبيه عليه في هذه العجالة، لعل الله ينفع به جاهلاً، أويذكر به عالماً، فنقول مستمدين العون من الله عز وجل:

ã

الأدلة على أن المصلي ممنوع من الكلام

كان الكلام مباحاً في الصلاة في أول الأمر ثم منع منه، والأدلة على أن المصلي ممنوع من تعمد الكلام في الصلاة إلا لصالحها أولضرورة ما يأتي:

1.   قوله تعالى: "وقوموا لله قانتين".

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه، حتى نزلت: "وقوموا لله قانتين"، فأمرنا بالسكوت".

2. ما خرجه مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".

3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؛ قال: "إن في الصلاة لشغلاً".

4.   وفي رواية لأبي داود: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة".

قال ابن قدامة رحمه الله: (أما الكلام عمداً، وهو أن يتكلم عالماً أنه في الصلاة، مع علمه بتحريم ذلك لغير مصلحة الصلاة، ولا لأمر يوجب الكلام، فتبطل الصلاة إجماعاً.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة).

ã

أولاً: الكلام المبطل للصلاة

أقل الكلام المبطل للصلاة ما تكون من حرفين، نحو: لا، أب، أم، أخ، أف، أحْ، آه، هاه.

قال ابن قدامة: (والكلام المبطل ما انتظم حرفين، هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي، لأن بالحرفين تكون كلمة، كقوله: أب، وأخ، ودم، وكذلك الأفعال والحروف، ولا تنتظم كلمة من أقل من حرفين، ولو قال: لا، أفسد صلاته، فإنها حرفان لام وألف، وإن ضحك فبان حرفان فسدت صلاته، كذلك إن قهقه ولم يبن حرفان، وبهذا قال جابر بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والنخعي، والاوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة، وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها).

وقال صاحب سبيل السعادة المالكي: (عند إمامنا مالك: الكلام قليله وكثيره لغير صالح الصلاة، أي يبطلها).

فمن تكلم عامداً عالماً بصلاته وبتحريم الكلام فيها، ولم يكن كلامه لصالح الصلاة أولضرورة بطلت صلاته، سواء انتظم كلامه حرفان أوأكثر،و الله أعلم.

ã

ثانياً: الكلام الذي لا يبطل الصلاة

الكلام الذي لا يبطل الصلاة أنواع وله أسباب مختلفة، منها ما يكون لصالح الصلاة، ومنها ما يكون سهواً، ومنه ما يكون بسبب الجهل، ومنها ما يكون لضرورة، وهكذا، وفي المسألة تفصيل نوجز القول فيه:

ã

أ.  أن يتكلم لصالح الصلاة

ويكون ذلك في حالين، هما:

(1)  حال سهو الإمام بزيادة أونقصان

فيتعين على من خلفه وعلم بذلك أن يذكره بالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وإن دعا الحال بالكلام إن لم يجدِ التسبيح والتصفيق، نحو من قام إلى خامسة وسبحوا له فلم يرجع عنها، يقال له: تمت الصلاة، أونسي قراءة الفاتحة وشرع في قراءة السورة، وسُبِّح له فلم ينتبه، يقال له: الحمد لله، ومن سلم من ركعتين في الصلاة الرباعية مثلاً ولم يجدِ معه التسبيح يقال له: بقيت ركعتان، وهكذا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

دليل ذلك حديث ذي اليدين، وتثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه بسؤال أصحابه، وردهم عليه، ثم لم يأمرهم بالإعادة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أوالعصر فسلم، فقال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تقصر ولم أنس؛ فقال: بلى، قد نسيتَ يا رسول الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحق ما يقول؟ قالوا: نعم؛ فصلى ركعتين أخرتين ثم سجد سجدتين".

لقد رد الحافظ ابن عبد البر على من زعم أن حديث أبي هريرة هذا منسوخ بحديثي ابن مسعود وزيد بن أرقم، لأن ذا اليدين قتل ببدر، فبين وهمهم، وأن الذي قتل ببدر ليس ذو اليدين وإنما ذو الشمالين.

ذكر ابن قدامة في صحة وفساد صلاة من تكلم في الصلاة لصالحها ثلاثة أقوال، هي ثلاثة روايات في مذهب أحمد، وهي:

1. أن الصلاة لا تفسد إذا كان الكلام في شأن الصلاة، مثل كلام النبي وأصحابه في حديث ذي اليدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تكلموا، ثم بنوا على صلاتهم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.

2.  تفسد صلاته، وهو قول الخلال وأصحابه من الحنابلة، وأصحاب الرأي وهم الأحناف.

3.  لا تفسد صلاة الإمام وإنما تفسد صلاة من كلم الإمام.

قال ابن قدامة مرجحاً لصحة صلاة المتكلم: (وهو مذهب الأوزاعي، فإنه قال: لو أن رجلاً قال للإمام وقد جهر بالقراءة في العصر: إنها العصر، لم تفسد صلاته، ولأن الإمام قد تطرَّقه حال يحتاج إلى الكلام فيها، وهو ما لو نسي القراءة في ركعة فذكرها في الثانية، فقد فسدت عليه ركعته، فيحتاج أن يُبدلها بركعة هي في ظن المأمون خامسة ليس لهم موافقتهم فيها، ولا سبيل إلى إعلامهم بغير الكلام).

وقال النووي: (قال المتولي: لو سلم الإمام فسلم المأموم معه ثم سلم الإمام ثانياً فقال له المأموم: قد سلمت قبل هذا، فقال الإمام: كنت ناسياً لم تبطل صلاة الإمام لأن سلامه الأول سهو، وتمت صلاته بالسلام الثاني، ولا تبطل صلاة المأموم أيضاً لأن سلامه الأول لم يخرج به من الصلاة، وتكليمه الإمام سهو لأنه ظن أنه تحلل من الصلاة، ويلزمه أن يسلم ثانياً، ويستحب له سجود السهو لأن تكليمه سهو في الصلاة بعد انقطاع القدوة).

ã

(2)  حال الفتح على الإمام

الحال الثانية التي يجوز فيها الكلام لصالح الصلاة حال فتح المأموم على إمامه في الصلاة إذا ارتج عليه خاصة في الفاتحة، أو أخطأ في قراءته فقدم أوأخر ووقف ليفتح عليه.

قال ابن قدامة: (وفي معنى هذا النوع أي الكلام الجائز في الصلاة إذا فتح على الإمام إذا ارتج عليه، أورد عليه إذا غلط فلا بأس به في الفرض والنفل).

ã

ب. أن يتكلم ساهياً ناسياً

إذا تكلم المصلي ساهياً أنه في صلاة، ثم إذا تذكر صلاته أمسك عن الكلام، لا تبطل صلاته، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ولأهل العلم في ذلك قولان في صحة وبطلان صلاة المتكلم ناسياً، أرجحهما صحتها، وفرق بعض أهل العلم بين من تكلم ناسياً لصالح صلاته، أوبكلام دنيوي.

قال ابن قدامة  وهو يعدد أقسام الكلام الذي لا تبطل به الصلاة: (القسم الثاني: أن يتكلم ناسياً، وذلك نوعان، أحدهما أن ينسى أنه في صلاة، ففيه روايتان، إحداهما لا تبطل الصلاة، وهو قول مالك والشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في حديث ذي اليدين.. والثانية تفسد صلاته، وهو قول النخعي، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وأصحاب الرأي، لعموم أحاديث المنع من الكلام، ولأنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة، فلم يسامح فيه بالنسيان، كالعمل الكثير من غير جنس الصلاة.

النوع الثاني: أن يظن أن صلاته تمت، فيتكلم، فهذا إن كان سلاماً لم تبطل الصلاة، رواية واحدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه، وبنوا على صلاتهم، ولأن جنسه مشروع في الصلاة، فأشبه الزيادة فيها من جنسها، وإن لم يكن سلاماً، فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة من أصحابه، إنه إذا تكلم بشيء مما تكمل به الصلاة، أوشيء من شأن الصلاة، مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، لم تفسد صلاته، وإن تكلم بشيء من غير أمر الصلاة، كقوله: يا غلام اسقني ماء، فصلاته باطلة، وقال في رواية يوسف بن موسى: من تكلم ناسياً في صلاته فظن أن صلاته قد تمت، إن كان كلامه فيما تتم به الصلاة، بنى على صلاته، كما كلم النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، وإذا قال: يا غلام اسقني ماء، أوشبهه، أعاد.

وممن تكلم بعد أن سلم وأتم صلاته: الزبير وابناه عبد الله وعروة، وصوبه ابن عباس، ولا نعلم عن غيرهم في عصرهم خلافه.

وفيه رواية ثانية: أن الصلاة تفسد بكل حال، قال في رواية حرب: أما من تكلم اليوم وأجابه أحد أعاد الصلاة..

وفيه رواية ثالثة: أن الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال، سواء كان من شأن الصلاة أولم يكن، إماماً كان أومأموماً، وهذا مذهب مالك والشافعي، لأنه نوع من النسيان فأشبه المتكلم جاهلاً).

ã

ج.   أن يتكلم جاهلاً

من الحالات التي لا تبطل فيها الصلاة كلام المصلي جاهلاً بتحريم الكلام فيها في أرجح قولي العلماء، ودليل ذلك حديث معاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال: "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله؛ فحدقني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكلى أمياه! ما بالكم تنظرون إليَّ؛ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم؛ فلما رأيتهم يصمتوني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" الحديث.

قال ابن قدامة: (أن يتكلم جاهلاً بتحريم الكلام في الصلاة، قال القاضي في "الجامع": لا أعرف عن أحمد نصاً في ذلك، ويحتمل أن لا تبطل صلاته، لأن الكلام كان مباحاً في الصلاة.. ولا يثبت حكم النسخ في حق من لم يعلمه.

إلى أن قال: وقد دل على ذلك حديث معاوية بن الحكم السُّلمي).

وقال الشيرازي الشافعي في المهذب: (وإن فعل ذلك أي تكلم وهو جاهل بالتحريم ولم يُطل، لم تبطل صلاته).

ã

د.  أن يتكلم وهو نائم

من تكلم وهو نائم لا تبطل صلاته في أرجح قولي العلماء، لقوله: "رفع القلم عن ثلاثة"، وذكر منهم: "النائم حتى يستيقظ" الحديث.

قال ابن قدامة: (أن ينام فيتكلم، فتوقف أحمد عن الجواب فيه، وينبغي أن لا تبطل صلاته، لأن القلم مرفوع عنه، ولا حكم لكلامه، فإنه لو طلَّق، أوأقر، أوعتق، لم يلزمه حكم ذلك).

ã

ﻫ.  أن يتكلم وهو مُكْرَه على الكلام

إذا أكْرِه المصلي على الكلام وهدِّد فتكلم لا تبطل صلاته في أرجح قولي العلماء، لأنه رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

قال ابن قدامة: (أن يكره أي المصلي على الكلام، فيحتمل أن يخرَّج على كلام الناسي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في العفو.. وقال القاضي: هذا أولى بالعفو، وصمت الصلاة، لأن الفعل غير منسوب إليه، ولهذا لو أكره على إتلاف مال لم يضمنه، ولو أتلفه ناسياً ضمنه، والصحيح إن شاء الله أن هذا تفسد صلاته، لأنه أتى بما يفسد الصلاة عمداً، فأشبه ما لو أكره على صلاة الفجر أربعاً، أوعلى أن يركع في كل ركعة ركوعين، ولا يصح قياسه على الناسي لوجهين: أحدهما أن النسيان يكثر، ولا يمكن التحرز منه بخلاف الإكراه، والثاني: أنه لو نسي فزاد في الصلاة، أونسي من كل ركعة سجدة لم تفسد صلاته، ولم يثبت مثل هذا في الإكراه).

قلت: ما رجحه ابن قدامة رحمه الله من التفريق بين الإكراه والنسيان فيه نظر، والراجح والله أعلم ما قاله القاضي أبو يَعْلَى بأن المكره أولى بالعفو من الناسي، وإن كان الحديث جمع بينهما.

ã

و.  إن تكلم وهو مغلوب على الكلام

من تكلم في صلاته مغلوباً على الكلام لأي سبب من الأسباب لا تبطل صلاته فيما يترجح لدي، والله أعلم، نحو الذي يحدث في حال التثاؤب، والسعال، والبكاء، والنحيب، والأنين.

قال صاحب سبيل السعادة المالكي: (لو أنَّ لوجع نزل به لا تبطل صلاته، ولو بصوت ملحق بالكلام، لأنه محل ضرورة، والتنهد غلبة مغتفر، وعمداً أوجهلاً مبطل، وسهواً يسجد غير المأموم، ولتذكر الآخرة جائز، كالبكاء لخوف الله والدار الآخرة، فلا تبطل الصلاة ولو بصوت، وأما البكاء لغير الخشوع، فإن كان بلا صوت فيغتفر له وإلا فكلام، وأما التنحنح فإن كان لحاجة فلا يبطل، وإن كان لغير حاجة فقولان، المعتمد الصحة، كما في حاشية الخرشي، وأما التنحنح بأن يقول: أخ، فإن كان لضرورة بلغم فلا يبطل، وإن كان عبثاً فتبطل، والجشاء غلبة غير مبطل، ولغيرها عمداً أوجهلاً مبطل، وسهواً يسجد غير المأموم، وهذا كله إن كان بصوت، فإن كان بلا صوت لغير حاجة فلا بطلان في عمده وكره، ولا سجود في سهوه، أفاده الصفتي، وكذا تبطل الصلاة بالنفخ بالفم عمداً أوجهلاً، إذ هو كالكلام).

وقال ابن قدامة: (أن يتكلم مغلوباً على الكلام، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: أن تخرج الحروف من فيه بغير اختياره، مثل أن يتثاءب فيقول: آه، أويَسْعَل فينطق في السَّلعة بحرفين، وما أشبه هذا، أويغلط في القراءة، فيعدل إلى كلمة من غير القرآن، أويجيئه البكاء ولا يقدر على رده، فهذا لا تفسد صلاته، نص عليه أحمد في الرجل يكون في الصلاة فيجيئه البكاء فيبكي، فقال: إذا كان لا يقدر على رده لا تفسد صلاته، وقال: قد كان عمر يبكي، حتى يسمع له نشيج، وقال مهنا: صليت إلى جنب أحمد، فتثاءب خمس مرات، وسمعت لتثاؤبه: هاه، هاه؛ وهذا لأن الكلام هاهنا لا ينسب إليه، ولا يتعلق به حكم من أحكام الكلام، وقال القاضي فيمن تثاءب، فقال: آه، آه؛ تفسد صلاته، وهذا محمول على من فعل ذلك غير مغلوب عليه، لما ذكرنا من فعل أحمد خلافه).

وقال الإمام النووي رحمه الله: (للمتكلم في الصلاة حالان:

أحدهما: أن يكون غير معذور، فينظر، إن نطق بحرف واحد لم تبطل صلاته، لأنه ليس بكلام، إلا أن يكون الحرف مُفهِماً كقوله: قِ، أوشِ، أوعِ، بكسرهن، فإنه تبطل صلاته بلا خلاف، لأنه نطق بمفهم فأشبه الحروف، وإن نطق بحرفين بطلت صلاته بلا خلاف، سواء أفهم أم لا، لأن الكلام يقع على الفهم وغيره، هذا مذهب اللغويين والفقهاء والأصوليين، وإن كان النحويون يقولون: لا يكون إلا مفهماً ولو نطق بحرف ومده بعده فثلاثة أوجه، حكاها الرافعي (أصحها) تبطل لأنه كحرفين، (والثاني) لا لأنه حرف، (والثالث) قاله إمام الحرمين إن أتبعه بصوت غفل وهو الذي لا تفصح فيه بحيث لا يقع على صورة المد لم تبطل، وإن أتبعه بحقيقة المد بطلت، قال: لأن المد يكون ألفاً، أوواواً، أوياء، وهي وإن كانت إشباعاً للحركات الثلاث فهي معدودة حروفاً، وأما الضحك، والبكاء، والأنين، والتأوه، والنفخ، ونحوها، فإن بان منه حرفان بطلت صلاته، وإلا فلا، وسواء بكى للدنيا أوللآخرة، وأما التنحنح فحاصل المنقول فيه ثلاثة أوجه، الصحيح الذي قطع به المصنف والأكثرون: إن بان منه حرفان بطلت صلاته، وإلا فلا، والثاني لا تبطل وإن بان حرفان، قال الرافعي: وحكى هذا عن نص الشافعي، والثالث: إن كان فمه مطبقاً لم تبطل مطلقاً، وإلا فإن بان حرفان بطلت، وإلا فلا).

وقال ابن قدامة: (فأما النفخ في الصلاة فإن انتظم حرفين أفسد الصلاة لأنه كلام، وإلا فلا يفسدها، وقد قال أحمـد: النفخ عندي بمنزلة الكـلام، وقـال أيضاً: قد فسدت صلاته لحديث ابن عباس: "من نفخ في الصلاة فقد تكلم"، وروي عن أبي هريرة أيضاً وسعيد بن جبير، وقال ابن المنذر: لا يثبت عن ابن عباس، ولا أبي هريرة رضي الله عنهما، وروي عن أحمد أنه قال: أكرهه ولا أقول يقطع الصلاة، ليس هو كلاماً.

إلى أن قال:

أما عن النحنحة فقال أصحابنا: إن بان منها حرفان بطلت الصلاة بها كالنفخ، ونقل المروذي قال: كنت آتي أبا عبد الله فيتنحنح في صلاته، لأعلم أنه يصلي؛ وقال مُهَنَّا: رأيتُ أبا عبد الله يتنحنح في الصلاة.. واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة تنبيه المصلي بالنحنحة في صلاته، قال مرة: لا يتنحنح في الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبح الرجال، ولتصفق النساء".

إلى أن قال: فأما البكاء، والتأوه، والأنين الذي ينتظم منه حرفان فما كان مغلوباً عليه لم يؤثر على ما ذكرنا من قبل، وما كان من غير غلبة، فإن كان لغير خوف الله أفسد الصلاة، وإن كان من خشية الله فقال أبو عبد الله بن بطة في الرجل يتأوه في الصلاة، إن تأوه من النار فلا بأس؛ وقال أبو الخطاب: إذا تأوه، أوأنَّ، أوبكى لخوف الله لم تبطل صلاته؛ قال القاضي: التأوه ذكر، مدح الله تعالى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال: "إن إبراهيم لأواه حليم"، والذكر لا يفسد الصلاة، ومدح الباكين بقوله: "خروا سجداً وبكياً"، وقال: "ويخرون للأذقان يبكون"، وروي عن مُطَرَّف بن الشخير عن أبيه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء"، رواه الخلال، وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، ولم أر عن أحمد في التأوه شيئاً، ولا في الأنين، والأشبه بأصوله أنه متى فعله مختاراً أفسد صلاته).

ã

ز.  أن يتكلم بكلام واجب

نحو إذا خشي على صبي من النار، أوالكهرباء، أوعلى غافل من حية ونحوها، أورأى أعمى قادماً على بئر، لم تبطل صلاته في أرجح قولي العلماء، لأن الضرورات تبيح المحظورات.

قال ابن قدامة: (أن يتكلم بكلام واجب، مثل أن يخشى على صبي أوضرير الوقوع في هلكة، أويرى حية ونحوها تقصد غافلاً أونائماً، أويرى نار يخاف أن تشتعل في شيء، ونحو هذا، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح، فقال أصحابنا: تبطل الصلاة بهذا، وهو قول بعض أصحاب الشافعي كما ذكرنا في كلام المُكره، ويحتمل أن لا تبطل الصلاة به، وهو ظاهر قول أحمد رحمه الله).

وقال النووي: (وأما مسالة الأعمى، فقال أصحابنا: لو رأى المصلي مشرفاً على الهلاك كأعمى يقارب أن يقع في بئر، أوصبي لا يعقل قارب الوقوع في النار ونحوها، أونائم أوغافل قصده سبع أوحية، أوظالم يريد قتله، وما أشبه ذلك، ولم يمكنه إنذاره إلا بالكلام، وجب الكلام بلا خلاف، وهل تبطل صلاته فيه الوجهان).

ã

ح.   من عطس فحمد الله

من عطس فحمد الله سراً لا تبطل صلاته، وإن جهر بذلك كره له ولاتبطل صلاته، أما إذا شمَّت غيره وهو في الصلاة فتبطل صلاته قولاً واحداً.

ã

ط.  من رد السلام وهو في صلاته

لا يجوز للمصلي أن يرد السلام إلا بالإشارة، فإن تكلم بطلت صلاته في أرجح قولي العلماء، ومنهم من قال لا تبطل صلاته.

قال ابن قدامة عن كلام المصلي فيما لا يتعلق بتنبيه آدمي: (مثل من يعطس فيحمد الله، أوتلسعه عقرب فيقول: "بسم الله"، أويسمع أويرى ما يغمه فيقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، أويرى عجباً فيقول: "سبحان الله"، فهذا لا يستحب في الصلاة ولا يبطلها، نص عليه أحمد، في رواية الجماعة، فيمن عطس فحمد الله لم تبطل صلاته، وقال في رواية مهنا فيمن قيل له وهو يصلي: وُلِدَ لك غلام، فقال: الحمد لله، أوقيل له: احترق دكانك، فقال:لا إله إلا الله، أوذهب كيسك، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد مضت صلاته، ولو قيل له: مات أبوك، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلا يعيد صلاته، وذكر حديث علي حين أجاب الخارجي، وهذا قول الشافعي وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة: تفسد صلاته لأنه كلام آدمين وقد روي عن أحمد مثل هذا، فإنه قال فيمن قيل له: ولد لك غلام، فقال: الحمد لله رب العالمين، أوذكر مصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: يعيد الصلاة، قال القاضي: هذا محمول على من قصد خطاب آدمي، ولنا ما روى عامر بن ربيعة قال: عطس شاب من الأنصار خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه حتى يرضى ربنا وبعد ما يرضى من أمر الدنيا والآخرة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من القائل هذه الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً، ما تناهت دون العرش"، رواه أبوداود.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال له رجل من الخوارج وهو في صلاة الغداة، فناداه: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين"، فأنصت له حتى فهم، ثم أجابه وهو في الصلاة: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون"، احتج به أحمد، ورواه أبوبكر النجاد بإسناده، ولأن ما لا يبطل الصلاة ابتداء لا يبطلها إذا أتى به عقيب سبب، كالتسبيح لتنبيه إمامه، قال الخلاف: اتفق الجميع عن أبي عبد الله على أنه يعني العاطس لا يرفع صوته بالحمد، فإن رفع فلا بأس، بدليل حديث الأنصاري، وقال أحمد في الإمام يقول: لا إله إلا الله، فيقول من خلفه: لا إله إلا الله، يرفعون بها أصواتهم، قال: يقولون، ولكن يخفون ذلك في أنفسهم، وإنما لم يكره أحمد ذلك كما كره القراءة خلف الإمام لأنه يسير لا يمنع الإنصات، فجرى مجرى التأمين، قيل لأحمد: فإن رفعوا أصواتهم بهذا؟ قال: أكرهه، قيل: فينهاهم الإمام؟ قال: لا ينهاهم، قال القاضي: إنما لم ينههم لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بمثل ذلك في صلاة الإخفاء، فإنه كان يسمعهم الآية أحياناً).

ã

هل يُسلم الداخل على المصلي؟

أجاز ذلك طائفة من أهل العلم ومنعه آخرون، وإن سلم فعليه أن لا يرفع صوته بالسلام، وعلى المصلي إن رد بالإشارة لا بالكلام فتبطل صلاته.

قال ابن قدامة: (سئل أحمد عن الرجل يدخل على القوم وهم يصلون، أيسلم عليهم؟ قال: نعم، وروى ابن المنذر عن أحمد أنه سلم على مصلٍ، وفعل ذلك ابن عمر، وكرهه عطاء، وأبو مِجْلَز، والشعبي، وإسحاق، لأنه ربما غلط المصلي فرد عليه كلاماً.

وقد روى مالك في موطأه أن ابن عمر سلم على رجل يصلي، فرد عليه السلام، فرجع إليه ابن عمر فنهاه عن ذلك، ومن ذهب إلى تجويزه احتج بقول الله تعالى: "فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم" أي على أهل دينكم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم أصحابه عليه رد عليهم بالإشارة ولم ينكر ذلك عليهم).

ã

ي.   إذا أجاب على استفاهم تقريري في القرآن ببلى ونحو ذلك

إن فعل ذلك في نفسه لا تبطل صلاته، ولكن لا أدري إن جهر بذلك، فإن قال عند سماع قراءة "أليس الله بأحكم الحاكمين": بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، وعند قراءة "أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى": بلى، وعند سماع "فسبح باسم ربك العظيم": سبحان الله.

قال ابن قدامة: (قيل لأحمد رحمه الله: إذا قرأ "أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى" هل يقول: "سبحان ربي الأعلى"؟ قال: إن شاء قاله فيما بينه وبين نفسه، ولا يجهر به في المكتوبة ولا غيرها، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ في الصلاة "أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى"، فقال: سبحانك، وبلى.

وعن موسى بن أبي عائشة قال: "كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ "أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى"، قال: سبحانك، فبكى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود.

ã

ك.  أن يقرأ القرآن يقصد به تنبيه غيره

اختلف أهل العلم رحمهم الله على قولين فيمن قرأ في صلاته شيئاً من القرآن يريد به تنبيه أوإعلام غيره، فمنهم من أبطل صلاة من فعل ذلك، ومنهم من لم يبطلها.

وفصل بعضهم فقال: إن قصد التلاوة دون التنبيه لم تبطل، وإلا بطلت، نحو أن يقول: "ادخلوها بسلام آمنين" يريد الإذن، أولرجل اسمه يحيى أوآدم: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة"، و"يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا".

قال ابن قدامة: (فقد روي عن أحمد أن صلاته تبطل بذلك، وهو مذهب أبي حنيفة، لأنه خطاب آدمي، فأشبه ما لو كلمه، وروي عنه ما يدل على أنها لا تبطل، لأنه قال فيمن قيل له: مات أبوك، فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، لا يعيد الصلاة، واحتج بحديث علي عندما قال للخارجي: "فاصبر إن وعد الله حق"، وروي نحو هذا عن ابن مسعود، وابن أبي ليلى، وروى أبوبكر الخلال بإسناده عن عطاء بن السائب قال: استأذنا على عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو يصلي، فقال: "ادخلوا مصر إن شـاء الله آمنين"، فقلنـا: كيف صنعتَ! فقـال: استـأذنا على عبد الله بن مسعود وهو يصلي فقال: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"؛ ولأنه قرأ القرآن فلم تفسُد صلاته، وإن حصل التنبيه، وإن قصد التنبيه دون التلاوة فسدت صلاته، لأنه خاطب آدمياً، أشبه ما لو لم يقصد التلاوة.

فأما إما أتى بما لا يتميز به القرآن من غيره، كقوله لرجل اسمه إبراهيم: يا إبراهيم، أولعيسى: يا عيسى، ونحو ذلك، فسدت صلاته، لأن هذا كلام الناس، ولم يتميز عن كلامهم بما يتميز به القرآن، فأشبه ما لو جمع بين كلمات مفرقة في القرآن، فقال: يا إبراهيم خذ الكتاب الكبير).

ã

ل.  من سمع الإمام يقرأ "إياك نعبد وإياك نستعين"

من سمع الإمام يقرأ "إياك نعبد وإياك نستعين"، فقال: "استعنتُ بالله"، فسدت صلاته، إلا إن كان متأولاً.

ã

م.  من مر بآية رحمة أو آية عذاب فسأل الله من فضله واستعاذ من عذابه سراً

من مر بآية رحمة أو آية عذاب فسأل الله من فضله واستعاذ من عذابه سراً لا تبطل صلاته.

والحمد لله رب العالمين، اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء.

-------------------

الصلاة على الميت الغائب

أولاً: الغائب عن البلد

أدلة المجيزين للصلاة على الغائب

حجج المانعين للصلاة على الغائب

أقوال العلماء في ذلك

أعدل الأقوال وأرجحها في الصلاة على الغائب عن البلد

ثانياً: الصلاة على الغائب في أحد جانبي المدينة أوأحيائها

 

ذهب أهل العلم في الصلاة على الميت الغائب مذاهب، هي:

أولاً: الغائب عن البلد

1. تجوز الصلاة عليه ما لم يُصَلَّ عليه، وهذا مذهب الشافعي ومشهور مذهب أحمد.

2. تجوز الصلاة عليه، صُلي عليه في بلده أم لم يُصَلَّ عليه، وهذا مذهب طائفة من الشافعية والحنابلة.

3. يُصَلى على من له فضل وسابقة في الإسلام، وإن صُلي عليه في بلده.

4. لا تجوز الصلاة على غائب أصلاً، صُلي عليه أم لم يُصَلَّ عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والرواية الثانية عن أحمد.

ã

أدلة المجيزين للصلاة على الغائب

الدليل العمدة على جواز الصلاة على الغائب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي عندما مات وأوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وهي منقولة بطرق كثيرة صحيحة، وهي:

1. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيــكم".

2. وعن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر أربعــاً".

3. وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنتُ في الصف الثاني أوالثالث".

4. وفي رواية عن جابر عند البخاري: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلموا فصلوا عليه"، فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صفوف".

5.  وفي رواية لمسلم : "إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"، فقمنا فصففنا صفين.

6. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخاً لكم"، وفي لفظ: "إن أخاكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه".

هذا هو الدليل العمدة على الصلاة على الغائب، صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي، ولم يثبت أنه صلى على غائب غيره، إلا في خبر ساقط لا تقوم به حجة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إلا حديث ساقط روي فيه أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي في غزوة تبوك، لكثرة قراءته "قل هو الله أحد"، وهو حديث لا يحتج به).

قال محقق جامع المسائل عن هذا الحديث: (جمع الحافظ ابن حجر طرقه في الإصابة وقواه بالنظر إلى مجموع الطرق في الفتح، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة).

قلت: الحديث الواهي لا يحتج به لا في العقائد والأحكام ولا في غيرها، ومَنْ رُويَ عنه من السلف تجويز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال يعنون بذلك الحديث الحسن، حيث لم تقسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف إلا بعد الترمذي، فهو أول من قسمها هذا التقسيم، وهو من تلاميذ تلميذ الإمام أحمد.

وحتى الذين جوَّزوا العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال كابن الصلاح والنووي اشترطوا لذلك شروطاً،وهي كما قال النووي في الأذكار:

   أن لا يكون ضعيفاً شديد الضعف.

   أن لا يكون فيه أحد الكذابين.

   أن لا يعتقد عند العمل به أن الرسول قد قاله.

   لا يعمل به من يُقتدى به.

ã

حجج المانعين للصلاة على الغائب

احتج المانعون للصلاة على الغائب في الجملة صُلي عليه أم لم يُصَلَّ عليه بحجج ضعيفة، وتأولوا صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي بتأويلات متعسفة.

من تلك الحجج:

1. أنه لم يصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على غائب غير النجاشي: (وقد مات على عهده خلائق من أصحابه في غيبته فلم يصل عليهم، وكذلك لم يصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صلوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة.

ولهذا تنازع العلماء، فقالت طائفة: لا يصلى على الغائب، إذ لو كان سنة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، ولكان المسلمون يعملون بذلك في محياه ومماته).

2.  أن النجاشي كان بين قوم نصارى كفار، فلم يصلِّ عليه أحد، ولذلك جازت الصلاة عليه.

ويرد على ذلك بأن جمهور المانعين للصلاة على الغائب لا يميزون بين من صُلي عليه ومن لم يُصل عليه.

3.  أن النجاشي رفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكان بين يديه أوطُويت له الأرض فصلى عليه.

4.  صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي هذه من خصوصياته.

ã

أقوال العلماء في ذلك

قال النووي رحمه الله عن مذاهب العلماء في الصلاة على الغائب عن البلد: (مذهبنا جوازها، ومنعها أبوحنيفة، ودليلنا حديث النجاشي وهو صحيح لا مطعن فيه، وليس لهم عنه جواب صحيح، بل ذكروا فيه خيالات أجاب عنها أصحابنا بأجوبة مشهورة، منها قولهم: إنه طويت له الأرض فصار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وجوابه أنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انخراق العادة في تلك القضية، مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله.

أما حديث العلاء بن زيدل ويقال بن زيد عن أنس أنهم كانوا في تبوك، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بموت معاوية بن معاوية في ذلك اليوم، وأنه قد نزل عليه سبعون ألف ملك يصلون عليه، فطويت الأرض للنبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب فصلى عليه ثم رجع، فهو حديث ضعيف ضعفه الحفاظ، منهم البخاري في تاريخه، والبيهقي، واتفقوا على ضعف العلاء هذا، وأنه منكر الحديث).

وقال ابن قدامة: (وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية، فيستقبل القبلة ويصلي عليه كصلاته على حاضر.. وسواء كان الميت في جهة القبلة أولم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أولم يكن، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز، وحكى بن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما، لأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها، بدليل ما لو كان في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غيبتها عنه، ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعى النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه، وصلى بهم بالمصلى، فكبر عليه أربعاً، متفق عليه، فإن قيل: فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض، فأري الجنازة، فقلنا: هذا لم ينقل، ولو كان لأخبر به، ولنا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه وإن رئي، ثم لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لاختصت الصلاة به، وقد صف النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، فإن قيل لم يكن بالحبشة من يصلي عليه، قلنا: ليس هذا مذهبكم، فإنكم لا تجيزون الصلاة على الغريق، والأسير، ومن مات بالوادي، وإن كان لم يصل عليه، ولأن هذا بعيد، لأن النجاشي ملك الحبشة، وقد أسلم وظهر إسلامه، فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن صلاة الغائب: (فيها للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي، وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه، والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابن أبي موسى وهو ثبت في نقل مذهب أحمد رجحانها في مذهبه.

إلى أن قال: وقالت طائفة: بل تجوز الصلاة على كل غائب عن البلد وإن كان قد صلي عليه كما ذكرنا عن أصحاب الشافعي، وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هؤلاء: تجوز الصلاة على الغائب عن البلد سواء كان فوق مسافة القصر أودونها، وسواء كان الميت خلف المصلى أوأمـامــه).

قال ابن شاس المالكي رحمه الله: (ويشترط حضور الجنازة فلا يصلى على غائب، وقال ابن حبيب: يصلى على من أكلته السباع أوغرق).

قال الشيخ البسام حفظه الله في اختياراته الجلية في المسائل الخلافية: (اختلف العلماء في الصلاة على الغائب، فذهب أبو حنيفة ومالك وأتباعهما إلى أنها لا تشرع، وجوابهم عن قصة النجاشي والصلاة عليه أن هذه من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم.

وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما إلى أنها مشروعة، وقد ثبتت بحديثين صحيحين، والخصوصة تحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل عليها، وتوسط شيخ الإسلام فقال: إن كان الغائب لم يصل عليه مثل النجاشي، صُلي عليه، وإن كان قد صُلي عليه، فقد سقط فرض الكفاية عن المسلمين.

وهذا القول رواية صحيحة عن الإمام أحمد صححه ابن القيم في الهَدْي، لأنه توفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم أناس من أصحابه غائبين، ولم يثبت أنه صلى على أحد منهم صلاة الغائب.

ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنه قال: إذا مات رجل صالح صلى عليه، واحتج بقصة النجاشي.

ورجح هذا التفصيل شيخنا عبد الرحمن السعدي يرحمه الله تعالى، وعليه العمل في نجد، فإنهم يصلون على من له فضل، وسابقة على المسلمين، ويتركون من عداه، والصلاة هنا مستحبة.

قال ابن القيم: أصح الأقوال هذا التفصيل).

ã

أعدل الأقوال وأرجحها في الصلاة على الغائب عن البلد

أرجح الأقوال وأعدلها في الصلاة على الغائب عن البلد ما يأتي:

1. أنه يصلى على من لم يُصل عليه في بلده لأي سبب من الأسباب.

2. لا يصلىعلى من صُلي عليه في بلده إلا وهو الثالث.

3. إن كان من أهل السابقة والعلم والفضل كما صُلي على بعض المشايخ المعاصرين رحمهم الله في كثير من بلاد المسلمين، كالشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ العثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني، والشيخ إحسان إلهي ظهيري، والشيخ أبو الحسن الندوي، وغيرهم.

4. لا يُصلى على بعض الحكام المحادين لله ورسوله والمعاندين لدينه صلاة الغائب إلا إذا لم يصل على أحد منهم في البلد الذي مات فيه، فيجوز لذويه أن يصلوا عليه في هذا الحال.

تصح الصلاة على الغائب بهذه الشروط، سواء كانت المسافة بين بلده وبلد من يصلون عليه مسافة قصر أم لا، وسواء كان إلى جهة القبلة أم لا، ويتوجه بالصلاة عليه إلى جهة القبلة.

ã

ثانياً: الصلاة على الغائب في أحد جانبي المدينة أوأحيائها

ذهب أهل العلم في الصلاة على الغائب في البلد الواحد مترامي الأطراف نحو شرقي بغداد وغربيها، أونحو الكلاكلة والحاج يوسف في الخرطوم مثلاً، مذهبين:

1.  تجوز الصلاة.

2.  لا تجوز.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وجوز طائفة من أصحاب الإمامين الصلاة على الغائب في البلد الواحد، ثم محققوهم قيدوا ذلك بما إذا مات الميت في أحد جانبي البلد الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد لم يقيدها بالكبيرة، كما إذا مات في أحد جانبي بغداد، فصُلي عليه في الجانب الآخر، وكانت هذه المسألة قد وقعت في عصر أبي حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغـداد، فصلى عليه أبوعبدالله بن حامد وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك الفقهـاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفظ البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على أنه من مات في الجانب الواحد لا يصلى عليه فيه إذا كان غائباً، كما إذا كان الرجل عاجزاً عن حضور الجنازة لمطر، أومرض، فإنه لا يصلى على الغائب وفاقاً، لكن بعض متأخري الخرسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغالب في البلد، وإن أمكن حضوره، وألحق ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا لم يمكن حضوره، فإن فيه وجهاً ضعيفاً بجواز الحكم عليه، فقاس الصلاة عليه في القضاء عليه، وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين الصلاة والحكم، ولا يستريب من له أدنى معرفة أن تشريع مثل هذا حدث وبدعة ظاهرة، وأمثال هذه الوجوه تخرج عند ضيق مناظرة المخالف طرداً لقياس واحترازاً عن نقض، ولا يدان الله بها.

وعلى القول المشهور في المذهبين، وأنه لا يصلى إلا على الغائب عن البلد، لم يبلغني أنهم حدوا البلد الواحد بحد شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارج السور، أوخارج ما يقدر سوراً يُصلى عليه، بخلاف من كان داخله، ولكن هذا لا أصل له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إما أن تكون العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة، والتيمم والجمع بين الصلاتين على قول، فلابد أن يكون منفصلاً عن البلد، بما يعد الذهاب نوع من سفر، وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يَعْلى أنه يكفي خمسين خطوة.

وإما أن يكون الحد ما يجب فيه الجمعة، وهو مسافة فرسخ، حيث يسمع النداء، ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يعد غائباً عنها، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه.

إلى أن قال:

لكن أكثر العلماء كأصحاب أبي حنيفة ومالك وأكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يجوزون الصلاة في أحد جانبي البلد إن كان كبيراً على من مات في الجانب الآخر، حتى صرحوا بأن بغداد مع كونها محالّ كثيرة، ولها جانبان بينهما دخلة، ومع كون الجمعة تقام بها في مواضع من حين بنيت بغداد من زمن أبي جعفر المنصور وإلى الساعة، صرحوا مع ذلك أنه لا يُصلى في أحد جانبيها على من مات في الجانب الآخر).

الراجح والله أعلم من قولي العلماء عدم جواز الصلاة على الغائب في المدينة الواحدة مهما اتسعت، هذا ما كان ولا يزال المسلمون عليه سلفاً وخلفاً

------------------

حقوق الميت وذويه الكفائية على الأهل، والجيران، والمعارف

حقوق للميت

حقوق لأهل الميت وذويه

1. تعزيتهم

صيغة التعزية

حكم التعزية

وقت التعزية

الجلوس للتعزية

2. التعاون على الحفر والتشييع والدفن

3.  صنع الأهل والجيران الطعام لأهل الميت

مخالفات تحدث في التشييع وبعد الدفن

 

الحمد لله الحي الذي لا يموت، ونعوذ بالله من اجتماع حسرتي الموت والفوت، وصلى الله وسلم وبارك على المنعوت بخير النعوت، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد..

إذا مات المسلم فمن حقه على ذويه، وأهله، وإخوانه المسلمين، سيما الأقارب، والجيران، والمعارف، ونحوهم ما يأتي:

ã

أ. حقوق للميت

1. أن يترحموا عليه ويدعوا ويستغفروا له ساعة سماع الوفاة.

2.  أن يصلوا عليه.

   ودليل الصلاة على الميت الكتاب: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً"، أي المنافقين نفاق الاعتقاد الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فهي دليل على أن المؤمن يُصلى عليه، حتى قاتل نفسه ومن قتِل في قصاص، ولكن يعتزل أهل الفضل والصلاح الصلاة على أمثال هؤلاء، وكذلك أهل البدع الكبيرة الداعين لبدعتهم، وأهل الفجور المجاهرين بذلك.

   والسنة، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "صلوا على صاحبكم"، وصح عنه أنه قال: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أربعين إلا شُفِّعوا فيه".

   وأجمع المسلمون على أن صلاة الجنازة من فروض الكفاية.

وهي من خصائص هذه الأمة دون غيرها من الأمم، قال الفاكهي: "الصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة".

فعليك أخي المسلم أن لا تتهاون في الصلاة على ميت شهدت جنازته بحجة أنها فرض كفاية كما يفعل البعض، فالصلاة على الميت فيها أجر جزيل وثواب عظيم لك وللميت، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن من شهد الجنازة حتى يصلي عليها له قيراط من الأجـر، ومن شهدهـا حتى تدفن له قيراطان"، وكان ابن عمر يصلي على الجنازة وينصرف قبل سماع هذا الحديث، وبعدما سمعه أسف على عدم تشييعه لبعض الجنائز، فقال: "لقد ضيعنا قراريط كثيرة"، وقد مُثل القيراط بالجبل العظيم، أوجبل أحُد.

3. أن تشيع جنازته، وتشهد دفنه، إذا تيسر لك ذلك، فقد ورد في التشييع وشهود الدفن الحديث السابق.

4. أن تدعو له بعد الدفن بالثبات والمغفرة، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل".

5.  زيارة المقابر والسلام على الموتى.

ã

ب.  حقوق لأهل الميت وذويه

أما حقوق أهل الميت وذويه فهي:

1. تعزيتهم

صيغة التعزية

التعزية ليس لها لفظ محدد، لكن الأفضل والأحسن أن يقول ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح:

أ. المسلم بالمسلم:

   أحسن الله عزاءك، وأعظم الله أجرك، وغفر لميتك.

   أو: لله ما أخذ، وله ماأعطى، ولتصبر ولتحتسب.

ب. المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك.

ج. الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك.

د. الكافر بالكافر: أخلف الله عليك.

تنبيه

ما يُعزي به في السودان الفاتحة ليس له أصل في السنة، ومن انقلاب الموازين واختلال المفاهيم، التثريب على من يعزي من غير أن يقول الفاتحة أويرفع يديه.

ã

حكم التعزية

مستحبة، ويعزي جميع أهل الميت، الصغار، والكبار، والنساء الصغار من غير مصافحة، والمتجالات، وتكون قبل الدفن وبعده، وقد ورد في فضل التعزية حديث ولكنه ليس بصحيح.

ã

وقت التعزية

أقوال لأهل العلم:

1.  تكره التعزية بعد ثلاثة أيام.

2.  لا بأس بها بعد الثلاثة.

3.  لا حد لها

قال النووي رحمه الله: (والمختار انها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا أوجماعة منهم، وهما إذا كان المعزَّى أوصاحب المصيبة غائباً حال الدفن، واتفق رجوعه بعد الثلاثة).

ولم يذكر الصورة الثانية، ولعلها أن يكون المعزِّي غائباً، والله أعلم.

ã

الجلوس للتعزية

من البدع التي عمت بها البلوى عندنا في السودان جلوس النساء والرجال للتعزية، وإن اختصرت المدة الآن إلى يوم أويومين، بسبب ظروف الحياة، ونصب الصيوانات لذلك، وقفل الطرق.

قال النووي رحمه الله: (قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم؛ ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها مُحدَث آخر، فإن ضُمَّ إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات، فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح أن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة).

قلت: ليس في جلوسه صلى الله عليه وسلم في المسجد عندما جاءه خبر استشهاد الأبطال: زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، في المسجد يُعرَف الحزن في وجهه كما صح عن عائشة، دليل على ما يفعله الناس الآن، فهو لم يجلس ليأتيه الناس للتعزية، وإنما جلس متصبراً، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وإلى المسجد.

أما جلوس بعض الأقارب والجيران، رجالاً كانوا أم نساء، للتسلية على المصابين خاصة عند موت الفجاءة ونحوه، من غير نصب صيوانات، فربما يكون فيه تخلص من تلك البدعة وتخفيف على أهل الميت.

ومن البدع المنكرة التي فيها مشقة على الناس السفر من الأماكن البعيدة للتعزية، ولأعداد كبيرة من الأهل والمجاملين لهم، ولو اقتصر ذلك على الأقربين لكان خيراً للجميع، وفيه مفاداة لأخطار الحوادث المرورية المتكررة، مع العلم أن الجميع يشكون من ذلك ويتضررون منه ومع ذلك يصرون عليه، وهو لا شك داخل في نطاق منافقة بعضنا لبعض، الجالبة للأضرار، الماحقة للأجور.

ã

2. التعاون على الحفر والتشييع والدفن

من حقوق أهل الميت الكفائية على أهلهم، وجيرانهم، ومعارفهم، أن يعينوهم على ذلك.

ã

3.  صنع الأهل والجيران الطعام لأهل الميت

هذه من السنن الحميدة والعادات الفاضلة، ولكنها اندثرت، واستعاض الناس عنها ببدعة صنع أهل الميت الطعام للمعزين، والمبالغة والمفاخرة فيه.

عندما استشهد جعفر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله وجيرانه: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، أوكما قال.

وتزداد حرمة هذا الصنيع إذا كان من مال المتوَفى، حيث أضحى ماله مِلْكاً للورثة، ولا يستحق صاحبه منه إلا سداد دين، أونفاذ وصية، أوتجهيزه.

البدعة دائماً تجر إلى بدع أخر، ففي الغالب لا يفي "الكشف"  بتكاليف تلك الذبائح والولائم وما يتبع ذلك، فيضطر أقارب المتوفى لتغطية ما تبقى منها، وقد يتكلفون ما لا طاقة لهم به.

لوكانت هذه الاموال التي تبذل في "الفراش" تعطى لأولاد الميت ليستعينوا بها في معاشهم لكان أفضل وأحسن، أوأن يسدد بها ما على الميت من ديون لكان أولى.

ã

مخالفات تحدث في التشييع وبعد الدفن

1. رفع الصوت بالتهليل والتسبيح ونحو ذلك، أوقراءة "البراق" ونحوه في المقبرة.

2. التأذين والإقامة داخل القبر، وهذا لا أصل له ويفعله البعض.

3. التلقين بعد الدفن لم يصح فيه خبر كما صح في التلقين عند الاحتضار، وقد استحبه بعض أهل العلم من أهل الشام وخالفهم فيه العامة، فالأولى تركه.

4. الخطب والتأبين الذي يُفعل بعد الدفن، وبعد الأربعين يوماً، أوبعد عام، وأقبح من ذلك وأكثر حرمة حوليات المشايخ.

5. تجصيص القبر، أوالبناء عليه والكتابة، كل هذا ليس من السنة.

6. رفع الصوت بكلام الدنيا، والضحك، والتدخين، والتحدث بالجوالات، وعقد الصفقات، ونحو ذلك في أثناء التشييع، أوساعة الدفن، وقد رأى ابن مسعود رجلاً يضحك في مقبرة فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟ والله لا أكلمك أبداً؛ فهجره حتى الممات

------------------

إلى متى يُصلَّى على الميت قبل، وبعد الدفن؟

أقوال العلماء في ذلك

 

لقد فرق أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة بين الأولياء وغيرهم، فبعد أن اتفقوا على أن الأولياء أولياء الأمر والقرابة يصلون على الميت متى حضروا بعد الصلاة عليه وبعد الدفن، اختلفوا فيمن سوى الأولياء على أقوال، هي:

1. إذا فرغ الناس من الصلاة على الميت فلا يصلى عليها بعد ذلك ولا على القبر، وهذا مذهب مالك رحمه الله.

2. يُصلى على القبر إلى شهر.

3. يُصلى على القبر ما لم يبل الميت، الحنفية وبعض المالكية، وبلى الميت لا ينضبط.

4. يُصلى على القبر أبداً، وهذا قول مردود بعدم الصلاة على قبور النبي والصحابة.

أرجح هذه الأقوال: يصلى على القبر إلى شهر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعد شهر، أما صلاته على شهداء أحد بعد ثماني سنين فهو كالمودع لهم، وهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

ã

أقوال العلماء في ذلك

قال مالك في المدونة: (ومن أتى وقد فرغ الناس من الصلاة على الجنازة فلا يُصَلي عليها بعد ذلك، ولا على القبر، وليس العمل على ما جاء من الحديث في ذلك).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما الميت فتجوز الصلاة عليه، ويصلى على قبرره إلى شهر).

وقال الإمام النووي: (إذا حضر من لم يصل عليه بعد دفنه، وأراد الصلاة عليه في القبر أوأراد الصلاة عليه في بلد آخر جاز بلا خلاف للأحاديث السابقة في المسألة الثانية، وإلى متى تجوز الصلاة على المدفون فيه ستة أوجه، (أحدها) يصلى عليه إلى ثلاثة أيام، ولا يصلى بعدها حكاه الخرسانيون وهو المشهور عندهم، و(الثاني) إلى شهر، و(الثالث) ما لم يبل جسده، و(الرابع) يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم موته، و(الخامس) يصلي عليه من كان من أهل الصلاة عليه يوم موته، وإن لم يكن من أهل الفرض فيدخل الصبي المميز، و(السادس) يصلى عليه أبداً، فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة رضي الله عنهم ومن قبلهم اليوم، واتفق الأصحاب على تضعيف هذا السادس).

وقال ابن قدامة في شرح ما قاله الخرقي: "ولا يصلى على القبر بعد شهر": (وبهذا قال بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يصلى عليه أبداً، واختاره ابن عقيل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنين، حديث صحيح متفق عليه، وقال بعضهم يصلى عليه ما لم يبل جسده، وقال أبوحنيفة: يصلي عليه الولي إلى ثلاث، ولا يصلي عليه غيره بحال؛ قال إسحاق: يصلي عليه الغائب إلى شهر، والحاضر إلى ثلاث؛ ولنا ما روي سعيد بن المسيِّب: أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر، أخرجه الترمذي، وقال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر؛ ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، فجازت الصلاة عليه فيها، كما قبل الثلاث، وكالغائب، وتجويز الصلاة عليه مطلقاً باطل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يصلى عليه الآن اتفاقاً، وكذلك التحديد ببلى الميت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلى، ولا يصلى على قبره).

وقال الشيخ البسام في اختياراته: (أجمع العلماء على استحباب الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت، واختلفوا في المدة التي تجوز فيها الصلاة.

فذهب الحنفية والمالكية إلى جواز الصلاة ما لم يتغير الميت ويتفسخ، والمعتبر في معرفة التفسخ أهل الخبرة والمعرفة من غير تقدير بمدة، وذلك لاختلاف الحال، والزمان، والمكان، وذهب الشافعية إلى تقييدها بما إذا لم يبل الميت، وذهب الحنابلة إلى شهر واحد وتحرم الصلاة بعده، إلا زيادة يسيرة، قال الإمام أحمد: أكثر ما سمعت هذا؛ وقال ابن القيم في الهَدْى: يروى من ثمانية أوجه أن النبي صلاها؛ وقال ابن رشد: الصلاة على القبر ثابتة).

السنة الاستعجال بالصلاة على الميت ودفنه، وعدم تأخير ذلك لولي أوغيره، ما لم يكن قريباً ويرجى حضوره في الحال.

قال الشيرازي الشافعي: (إذا صلى على الميت بودر بدفنه ولا ينتظر حضور من يُصَلِّي عليه إلا الولي، فإنه يُنتظر إذا لم يخش على الميت التغير، فإن خيف عليه التغير لم ينتظر، وإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه، وإن حضر من صلى مرة فهل يعيد الصلاة مع من لم يصلِّ، فيه وجهان، أحدهما يستحب.. والثاني لا يعيد).

------------------

مذاهب أهل العلم في إفراد يوم السبت بصيام

أدلة المجيزين لإفراده

أدلة الكارهين لإفراد السبت بالصوم

أقوال العلماء في ذلك

الخلاصة

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاهم.

وبعد..

فقد كثر اللغط والجدل في الآونة الأخيرة في هذه المسألة، مما يحتم تجلية القول فيها، وبيان حكم الشرع، وتوضيح الراجح والمرجوح من الأقوال والمذاهب فيها، فأقول وبالله التوفيق:

ذهب أهل العلم في إفراد يوم السبت بصيام في غير الفريضة مذاهب، هي:

1. لا يكره إفراده بالصيام في غير الفريضة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، ورواية عن أحمد، ومن وافقهم.

2. يكره صيامه إلا إذا قرن بيوم قبله أويوم بعده، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.

3. يكره إلا إذا وافق عادة له.

4. يكره لمن أفرده بالصيام تعظيماً له، لأنه عيد اليهود، بل قد يحرم.

ã

أدلة المجيزين لإفراده

استدل المجيزون لإفراده بالصيام في غير الفريضة مالك وغيره بأن الحديث الذي ورد في النهي عن إفراد السبت بالصوم لم يثبت، ومنهم من أعله بالشذوذ، وبأحاديث أخر، ومنهم من قال إنه منسوخ، وبالسنة العملية، نحو:

1. عن كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما: "أن ابن عباس وناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً لها؟ قالت: السبت والأحد؛ فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا، فذكر أنك قلت كذا وكذا؟ فقالت: صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم".

2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء، والأربعاء، والخميس".

ã

أدلة الكارهين لإفراد السبت بالصوم

استدل الكارهون لإفراد يوم السبت بصيام من غير الفريضة بالآتي:

1. عن عبد الله بن بُسر عن أخته الصماء ترفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم".

وفي رواية زاد: "وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أوعود شجرة فليمضغه".

2. وردوا على المجيزين بأن الحديث صحيح، وليس معلوماً ولا يثبت نسخه.

ã

أقوال العلماء في ذلك

قال الإمام النووي رحمه الله: (يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن صام قبله أوبعده معه لم يكره، صرح بكراهة إفراده أصحابنا، منهم: الدارمي، والبغوي، والرافعي، وغيرهم، لحديث عبد الله بن بُسْر.

إلى أن قال: وقال أبو داود: هذا حديث منسوخ؛ وليس كما قال، وقال مالك: هذا حديث كذب؛ وهذا القول لا يقبل، فقد صححه الأئمة كما قال الحاكم أبوعبد الله، وهو حديث صحيح على شرط البخاري، قال: وله معارض صحيح وهو حديث جويرية السابق في صوم الجمعة.

ثم ذكر حديث كريب وعائشة السابقين، ثم قال: والصواب على الجملة ما قدمناه من أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له لحديث الصماء، وأما قول أبي داود أنه منسوخ فغير مقبول، وأي دليل على نسخه؟ وأما الأحاديث الباقية التي ذكرناها في صيام السبت فكلها واردة في صومه مع الجمعة والأحد، فلا مخالفة فيها لما قاله أصحابنا من كراهة إفراد السبت، وبهذا يجمع بين الأحاديث).

وقال ابن عبد البر المالكي رحمه الله: (وجائز صيام يوم الجمعة وغيره من أيام الجمعة) يعني الأسبوع.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتحدث عن صيام أيام أعياد الكفار مفردة: (ونذكر أولاً صوم يوم السبت، وذلك أنه روى ثوْر بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أوعودَ شجر فليمضغه"، رواه أهل السنن الأربعة.

وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه:

فقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن صوم السبت يفترد به؟ فيقول: جاء في ذلك حديث الصماء، يعني هذا الحديث المتقدم، ويقول: كان يحيى بن سعيد يتقيه.

قال: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صومه أن الأحاديث كلها مخالفة لهذا الحديث، مثل حديث أم سلمة حيث سئلت: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً لها؟ فقالت: السبت والأحد.

ومثل نهيه عن صوم الجمعة إلا يوم قبله أوبعده، ومثل كان يصوم شعبان، ونحو ذلك، ولا يقال: إن النهي عن إفراده، لأنه قال في الحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم"، فالاستثناء منه يدل على دخول غير المستثنى، بخلاف الجمعة فإنه نهى عن إفراده.

ففهم الأثرم الرخصة في صومه، وذلك أن أحمد علل الحديث بأن يحيى كان يتقيه، وأما أكثر الأصحاب ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث، وحمله على الإفراد، وهؤلاء يكرهون إفراده عملاً بالحديث لجودة إسناده، ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة، فقال ابن عقيل: لأنه يوم يمسك فيه اليهود، ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبهاً بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد؛ وعلله طائفة من الأصحاب: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب، فقصده دون غيره فيه تعظيم لما عظمه أهل الكتاب، فكره ذلك كما كره إفراد عاشوراء وإفراد رجب لما عظمه المشركون، وهذه العلة تعارض بيوم الأحد، فإنه عيد النصارى، وقد يقال: إذا كان يوم عيد فمخالفتهم تكون بالصوم لا بالفطر، ويقوي ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوم السبت والأحد، ويقول: "هما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم"، رواه أحمد والنسائي وصححه بعض الحفاظ، وهو نص في استحباب صوم يوم عيدهم، وليس في ذلك حجة على من كره إفراده، لأنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه، وحصلت المخالفة للمشركين).

وقال الشيخ إبراهيم بن محمد سالم بن ضويان رحمه الله في منار السبيل شرح الدليل على مذهب أحمد: (وكره إفراد رجب بالصوم.. والجمعة والسبت بالصوم لحديث..)، وذكر الحديثين في إفراد الجمعة والسبت بصيام.

ثم قال: (واختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنه لا يكره صوم السبت مفرداً، وأن الحديث شاذ أومنسوخ).

وقال الشيخ الألباني بعد أن خرج وصحح حديث عبد الله بن بُسر السابق في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل له: (ومما سبق يتبين لمن تتبع تحقيقنا هذا أن للحديث عن عبد الله بن بُسر ثلاث طرق صحيحة، لا يشك من وقف عليها على هذا التحرير الذي أوردنا أن الحديث ثابت صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الإسراف في حقه والطعن بدون حق في رواته ما رووا بالإسناد الصحيح عن الزهري أنه سئل عنه؟ فقال: "ذاك حديث حمصي"!

وعلق عليه الطحاوي بقوله: "فلم يعده الزهري حديثاً يقال به، وضعفه"!

وأبعد منه عن الصواب، وأغرق في الإسراف ما نقلوه عن الإمام مالك أنه قال: "هذا كذب"!

وعزاه الحافظ في التلخيصلقول أبي داود في السنن عن مالك، ولم أره في "السنن"، فلعله في بعض النسخ4 أوالروايات منه، قال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" بعد أن ذكر قول مالك هذا5: "قال النووي: لا يقبل هذا منه، وقد صححه الأئمة".

والذي في "السنن" عقب الحديث: "قال أبو داود: هذا حديث منسوخ".

إلى أن قال عن حديث كريب عن ابن عباس السابق: ولهذا قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"6 عقب حديث ابن عباس: وهذا لا يخالف أحـاديث الانفراد بصوم يوم السبت، قال شيخنا يعني ابن تيمية-: ليس في الحديث دليل على إفراد يوم السبت بالصوم، والله أعلم.

قلت القائل الألباني -: وهذا أولى مما نقله المصنف عن ابن تيمية.

واختار الشيخ تقي الدين أنه يكره صوم يوم السبت مفرداً، وأن الحديث شاذ أومنسوخ.

ذلك لأن الحديث صحيح من طرق ثلاثة، كما سبق تحريره، فأنى له الشذوذ؟).

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله في "فتاوى أركان الإسلام"7، وقد سئل إذا كان الإنسان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ووافق يوم صومه يوم الجمعة، فهل يجوز له صيامه أم لا؟: (الجواب: نعم، يجوز للإنسان إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً أن يصوم الجمعة منفرداً، أوالسبت، أوالأحد، أوغيرها من الأيام، ما لم يصادف ذلك أياماً يحرم صومها، فإن صادف أياماً يحرم صومها وجب عليه ترك الصوم، فإذا قدِّر أن رجلاً كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فصار فطره يوم الخميس ويوم صومه يوم الجمعة فلا حرج عليه أن يصوم يوم الجمعة حينئذ.. لأنه صادف اليوم الذي يصوم فيه).

ã

الخلاصة

أولاً: لا يكره إفراد يوم السبت بصيام إن وافق يوماً اعتاد المسلم صيامه، كيوم عرفة، وعاشوراء، ونحوهما.

ثانياً: لا يكره صيام السبت إذا صام يوماً قبله أوبعده.

ثالثاً: لا يكره إفراد يوم السبت بصيام واجب، كقضاء، وكفارة، ونذر، ونحو ذلك.

رابعاً: يكره إفراد يوم السبت بصيام إذا نوى المسلم تعظيمه لأنه من أعياد اليهود، بل يحرم.

خامساً: حديث الصماء رضي الله عنها الذي نهى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إفراد السبت بصوم تطوع صحيح، ولم يثبت نسخه، ولهذا وفق العلماء بينه وبين أحاديث الإباحة بصوم يوم قبله أوبعده.

سادساً: كراهة إفراد السبت بصوم غير واجب دون كراهة إفراد الجمعة.

وأخيراً أحب أن اذكر نفسي وإخواني المسلمين بالآتي:

أولاً: أن الأمر إذا كان فيه توسعة من صاحب الشريعة فلا ينبغي لأحد أن يضيق أويثرب على من خالف في ذلك، سيما إذا اختلف في المسألة من هم خير منا، شريطة أن يكون للمسألة دليل معتبر، أما إذا لم يوجد دليل من الكتاب أوالسنة أوالإجماع فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب الشرع، كما قال مالك رحمه الله.

ثانياً: أنه لا يحل لاحد أن يقلد أحداً في كل ما يقول إلا صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: إذا كانت هناك إمكانية للتوفيق بين الأحاديث الصحيحة الصريحة فلا داعي للاستعجال بالحكم على حديث منها بالنسخ أوالضعف من غير دليل.

رابعاً: ما من عالم وإن سمت منزلته في العلم إلا ويعزب عليه بعض العلم.

خامساً: يجب على كل مسلم أن يدور مع الدليل حيث دار، ويحذر تقليد الرجال وتقديسهم، حيث لا فرق بين بهيمة تُقاد وامرئ يسلم أمره إلى الرجال.

سادساً: تقليد المعاصرين من المشايخ في كل ما ذهبوا إليه أعظم خطراً وأكثر ضرراً من تقليد الأئمة المتبوعين، وفي كل ضرر ليس بعده ضرر.

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والفواحش والآثام، وصلى الله وسلم على خيرته من خلقه، محمد بن عبد الله، الذي ختم الله به الرسل الكرام، والسلام

-------------------

الجمع بين الصَّلوات في الحضر بسبب المطر، والوحل، والبرد، والثلج، ونحوها

أولاً: الأعذار المبيحة للجمع في الحضر في المساجد

شروط صحة الجمع في الحضر في المساجد

ثانياً: الأعذار المبيحة للجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك للأفراد

الأفراد مخيَّرون بين جمع التقديم والتأخير

وقت الوتر لمن جمع بين العشائين

من الكبائر الجمع بين الصلاتين من غير عذر

 

الحمد لله الذي رفع عن هذه الأمة الحرج، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على غيرها من الأمم، وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحابته وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد..

يكثر سؤال الناس واختلافهم في فصل الخريف عادة عن حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء خاصة، ويدور نتيجة لذلك جدل ولغط وشد وجذب في المساجد بسبب ذلك، ولهذا أحببتُ أن أبيِّن الأسباب المبيحة للجمع في الحضر بسبب المطر والوحل وغيرهما، والشروط المتعلقة بذلك، ومذاهب أهل العلم وأقوالهم، وما يتعلق بذلك، واللهَ أسألُ أن يوفقني إلى ذلك، وأن يفقهنا في دينه، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام.

فأقول وبالله التوفيق:

ã

أولاً: الأعذار المبيحة للجمع في الحضر في المساجد

أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها، فمن لم يتمكن من ذلك فلا يؤخرها عن الوقت الاختياري، ولا يحل لمؤمن أن يؤخر الصلاة المكتوبة إلى الوقت الضروري أو يجمع بين صلاتين لغير عذر شرعي، إذ الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر.

لقد رخص الشارع الحكيم والرسول الرحيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لأمته في الجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك، وهي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، للأسباب الآتية:

1.  المطر

المطر الذي يبيح الجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه، أما الطلُّ والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب ولا يحدث مشقة فلا يبيح الجمع.

أ. الجمع بين المغرب والعشاء

أجاز الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر الكثير العامـة من أهل العلم، فمن الصحـابة عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، ونافع، ومروان بن الحكم، وسعيد بن المسيب، وأبان بن عثمان بن عفان، وهو قول فقهاء المدينة السبعة؛ ومن الأئمة مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

ومنع من ذلك الأحناف.

أدلة المجيزين للجمع بسبب المطر بين المغرب والعشاء

استدل المجيزون للجمع بسبب المطر بالآتي:

1. بما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى ينادي مناديه في الليلة المطيرة، أوالليلة الباردة ذات الريح: "صلوا في رحالكم".

2. وقال سلمة بن عبد الرحمن: "من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء".

3. وروى البيهقي بسنده عن بلال بن عقبة: "أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وإن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك.

4. وقال نافع: "إن عبد الله بن عمر كان يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء".

5. وروى هشام بن عروة5 أن أباه عروة، وسعيد بن المسيب، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحـارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانـوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة بين الصلاتين.

6. وقال هشام بن عروة: "رأيت أبان بن عثمان يجمع بين الصلاتين في الليلة المطيرة، المغرب والعشاء، فيصليهما معه عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن، لا ينكرونه، ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان إجماعاً".

ب. الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر

بعد أن أجمع العامة من أهل العلم على جوازا لجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في الليلة المطيرة اختلفوا في جواز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر.

فأجاز ذلك الشافعية ومن وافقهم، ومنع منه الجمهور مالك وأحمد، بجانب الأحناف المانعين للجمع بين المغرب والعشاء.

استدل المجيزون للجمع بين الظهر والعصر بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر".

وقال المانعون لذلك بأن هذا الحديث غير صحيح.

قال ابن قدامة رحمه الله: (فأما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: الجمع بين الظهر والعصر في المطر؟ قال: لا، ما سمعتُ؛ وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد، وقول مالك، وقال أبوالحسن التميمي: فيه قولان، أحدهما أنه لا بأس به، وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي، لما روى يحيى بن واضح عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر، ولأنه معنى أباح الجمع، فأباحه بين الظهر والعصر، كالسفر؛ ولنا أن مستند الجمع ما ذكرناه من قول أبي سلمة والإجماع، ولم يرد إلا في المغرب والعشاء، وحديثهم غير صحيح، فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن، وقول أحمد: ما سمعتُ، يدل على أنه ليس بشيء، ولا يصح القياس على المغرب والعشاء لما فيهما من المشقة لأجل الظلمة والمضرة، ولا القياس على السفر، لأن مشقته لأجل السير وفوات الرُّفقة، وهو غير موجود هاهنا).

2.  الوحل الشديد في الليلة المظلمة

من الأعذار المبيحة للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء خاصة الوحل الشديد في الليلة الظلماء، وإن لم يكن المطر نازلاً في أرجح قولي العلماء، وهو قول مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، ومنع من ذلك الشافعي ومن وافقه.

قال ابن قدامة: (فأما الوحل بمجرده فقال القاضي: قال أصحابنا: هو عذر، لأن المشقة تلحق بذلك في النعل والثياب كما تلحق بالمطر، وهو قول مالك، وذكر أبو الخطاب فيه وجهاً ثانياً، أنه لا يبيح، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، لأن مشقته دون مشقة المطر، فإن المطر يبل النعال والثياب، والوحل لا يبلها، فلم يصح قياسه عليه، والأول أصح، لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويتعرض الإنسان للزَّلق، فيتأذى نفسُه وثيابُه، وذلك أعظم من البلل، وقد ساوى المطر في العذر في ترك الجمعة والجماعة، فدل على تساويهما في المشقة المرعية في الحكم).

3.  الريح الشديدة في الليلة المظلمة

من الأعذار التي تبيح الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء كذلك الريح الشديدة في الليلة المظلمة في أرجح قولي العلماء.

والدليل على ذلك حديث ابن عمر السابق: "كان رسول الله صلى ينادي مناديه في الليلة المطيرة، أوالليلة الباردة ذات الريح: "صلوا في رحالكم".

ومن أهل العلم من منع من الجمع بسبب الريح الشديدة في الليلة المظلمة.

قال ابن قدامة: (فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ففيها وجهان: أحدهما يبيح الجمع، قال الآمدي: وهو أصح، وهو قول عمر بن عبد العزيز، لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة.. والثاني لا يبيحه، لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر، فلا يصح قياسه عليه، ولأن مشقتها من غير جنس مشقة المطـر، ولا ضابط لذلك يجتمعـان فيه، فلم يصح إلحـاقه به).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (يجوز الجمع للوحل الشديد، والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك، وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء، وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت مخالف للسنة، إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوِّزون الجمع، كمالك والشافعي وأحمد).

4.  الظلمة والسيل

من الأعذار المبيحة للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء الظلمة والسيل.

ودليل ذلك حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: "أنه كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلى؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أين تحب أن أصلي؟"، فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

5.  الثلج والجليد

قال الونشريسي: (فالجمع للثلج لاأذكر فيه نصاً في مذهب مالك، واختلف علماء الشافعية فيه، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، لأنه يزول بنفضه من الثياب، والذي يترجح والله أعلم أنه إن كان كثيراً جداً ويتعذر نفضه يجوز).

6.  الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير سفر، ولا مرض، ولا خوف، ولا مطر، رفعاً للحرج

صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة وهو صحيح مقيم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

خرَّج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، من غير خوف، ولا سفر"، وفي رواية: "بالمدينة".

وعلل ذلك بأنه لم يرد أن يحرج أمته، وأوَّل بعضُ أهل العلم جمعه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر في المدينة وبين المغرب والعشاء، أن ذلك بسبب المطر، وقال بعضهم بسبب السفر، ومما يدل على أن في هذا التأويل بعد ونظر ما خرَّجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن شقيق قال: "خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة، الصلاة، قال: فجاء رجل من بني تميم لا يفتر: الصلاة، الصلاة، فقال: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشـاء"، قـال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيتُ أبا هريرة فسألتُه فصدَّق مقالته.

وفي رواية عنه: "قال رجل لابن عباس: الصلاة؛ فسكت، ثم قال: الصلاة؛ فسكت، ثم قال: لا أم لك، أتعلمنا بالصلاة، وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله، فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له، كما قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، ومعلوم أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضاً، فإنه لو كان جمعه للسفر لجمع في الطريق، ولجمع بمكة كما كان يقصر بها، ولجمع لمَّا خرج من مكة إلى منى وصلى بها العصر والمغرب والعشاء والفجر، فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك، ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا.

ثم قال راداً على الإمام البيهقي رحمه الله، وهو من المؤوِّلين لجمعه بالمدينة بالمطر أوالسفر: قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق عن ابن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما، أوعلى ما أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل، فيقال: يا سبحان الله! ابن عباس كان يخطبهم بالبصرة، فلم يكن مسافراً، ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر جمعاً يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أومطر كان ابن عباس أجل قدراً من أن يحتج على جمعه بجمع المطر والسفر.

وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال: لم ينفِ السفر؟ وحبيب بن أبي ثابت من أوثق الناس، وقد روى عن سعيد أنه قال: "من غير خوف ولا مطر".

وأما قوله ـ أي البيهقي ـ أن البخاري لم يخرجه، فيقال هذا من أضعف الحجج، فهو لم يخرِّج أحاديث أبي الزبير، وليس كل من كان من شرطه يخرجه، وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء قريب من رواية أبي الزبير، فإنه ذكر ما أخرجه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء"، وفي رواية البخاري عن حماد بن زيد: "فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسى".

فيقال: هذا الظن من أيوب وعمرو، فالظن ليس من مالك، وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد، ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت الثقة الثبت لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده جواز الجمع بالمدينة في الجملة، وليس مقصوده تعيين سبب واحد.

ثم قال رحمه الله بعد أن فنَّد حجج المتأولين وبعد أن أورد عدداً من الآثار تدلُّ على جواز الجميع بسبب المطر ورفع الحرج ونحوهما: فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة والتابعين أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضاً للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في يالسفر وجمع في المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر، فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفياً منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضاً).

7.  الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء بسبب حظر التجول قبل دخول العشاء

من الأسباب المبيحة للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء حظر التجوُّل الذي يبدأ قبل وقت العشاء، كما يفعل ذلك اليهود لعنهم الله في فلسطين المغصوبة، إذ أن جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم خير من صلاتها أفذاذاً في البيوت في أرجح قولي العلماء، وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالمملكة بعدم جواز ذلك، والراجح ما ذكرنا، والله أعلم.

ã

شروط صحة الجمع في الحضر في المساجد

يشترط لصحة الجمع في الحضر في المساجد بجانب العذر المبيح شروط منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، والشروط هي:

1.  ترتيب الصلاتين المجموعتين

فلا يصلي العصر قبل الظهر ولا العشاء قبل المغرب، وهذا الشرط متفق عليه.

2.  نية الجمع عند إحرامه بالصلاة الأولى

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين، منهم من شرط نية الجمع عند الإحرام بالأولى، ومنهم من لم يشترطها وهو الراجح لعدم وجود الدليل ، وهذا مذهب الجمهور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لم ينقل قط أحدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن المأمومين أوأكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله، كلهم خرج يحجون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر، إما لحدوث عهد بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد لا سيما النساء، صلوا معه ولم يأمر بنية القصر، وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.

وقال: ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية، وإنما هذا من قول الخرقي ومن اتبعه، ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك كما قال جماهير العلماء، وهو اختيار أبي بكر، موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره، بل والأثرم، وأبي داود، وإبراهيم الحربي وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر ولا في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك، سواء نوى القصر أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف، وما علمتُ أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية، لا في قصر ولا في جمع، ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه ركعتين، ولو صلى أربعاً كان ذلك مكروهاً كما لم ينوه).

3. الموالاة بين الصلاتين فلا يفرِّق بينهما إلا بقدر الإقامة

ومن أهل العلم من لم يشترط ذلك.

قال في نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب معدداً شروط صحة الجمع: (الثاني الموالاة بين الصلاتين فلا يفرق بين المجموعتين إلا بقدر إقامة وضوء خفيف، لأن معنى الجمع المقارنة والمتابعة، ولا تحصل مع تفريق بأكثر من ذلك، ولا يضر كلام يسير).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (الصحيح أنه إذا وجد العذر جاز الجمع وأنه لا يشترط موالاة ولا نية، وقول الفقهاء: إن معنى الجمع لا يحصل إلا بالضم والاقتران غير مُسَلم، فإنهم لم يوجبوا الموالاة في جمع التأخير، ولذا فإن معنى الجمع هو كون الوقت صار وقتاً واحداً للصلاتين المجموعتين).

4. وجود العذر المبيح للجمع عند افتتاح الصلاة وعند السلام من الأولى منهما

5. استمرار العذر في غير الجمع بسبب المطر إلى الفراغ من الثانية

قال في نيل المآرب: (فلو أحرم بالأولى لمطر ثم انقطع ولم يعد، فإن حصل وحل لم يبطل الجمع، وإلا بطل، ولو خلفه مرض ونحوه لزوال مبيحه، وإن انقطع سفر بالأولى بطل الجمع والقصر).

وقال ابن شاس المالكي: (ومهما اجتمع المطر والطين والظلمة، أواثنان منهما، أوانفرد المطر، جاز الجمع، ولا يجوز عند انفراد الظلام، وأما انفراد الطين فظاهر "المستخرجة" جواز الجمع من أجله، وظاهر المذهب منعه.

ولو كان المطر موجوداً في أول الصلاتين فانقطع قبل الثانية أوفي أثنائها، جاز التمادي على الجمع إذ لا تؤمن عودته).

6.  يشترط وجود المشقة في الجملة لا لكل فرد

قال في نيل المآرب: (ويجوز الجمع بين العشائين دون الظهرين لمطر يبل الثياب وتوجد معه مشقة، لأن السنة لم ترد بالجمع في المطر إلا في المغرب والعشاء، فإن بل المطر النعل فقط، أوالبدن، أولم توجد معه مشقة فلا يجوز، ويجوز الجمع بين العشائين لوحل، وريح شديدة باردة، وإن لم تكن الليلة مظلمة، فله الجمع لما ذكر، ولو صلى ببيته، أوبمسجد طريقه تحت سباط ونحوه، لأن المعتبر وجود المشقة في الجملة وعدمها كالسفر).

وقال ابن شاس: (ويجمع المعتكف في المسجد لإقامة الصلاة عليه، أما المنفرد في بيته فلا.

ولو صلى الشيخ الضعيف أو المرأة في البيت بالمسمِّع ففي جواز الجمع لهما خلاف)، يعني في مذهب مالك رحمه الله.

وقال ابن قدامة: (هل يجوز الجمع لمنفرد أومن كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع وصول المطر إليه، أومن كان مقامه في المسجد؟ وجهين: أحدُهما الجواز، لأن العذر إذا وجد استوى فيه حالُ وجود المشقة وعدمها، كالسفر، ولأن الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسَّلم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق من لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء.

والثاني: المنع، لأن الجمع لأجل المشقة، فتختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه، كالرخصة في التخلف عن الجمعة والجماعة، يختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه، كمن في الجامع والقريب منه).

والراجح والله أعلم أن المشقة إذا وجدت في الجملة جاز لمن لم تلحقهم مشقة الجمع لفعله صلى الله عليه وسلم، فمن رغب عن سنته فليس منه، ولأنهم لو لم يجمعوا لفاتهم فضل الجماعة ولصلوا فرادى، وفي ذلك ضرر كبير.

7.  تأخير أولى المجموعتين قليلاً عن أول وقتها

اشترط بعضُ أهل العلم للجمع بين الصلاتين إذا وجد العذر المبيح لذلك تأخير الأولى قليلاً في جمع التقديم، والراجح عدم اشتراط ذلك لأنه ربما أوقع في الحرج الذي من أجله أبيح الجمع.

قال ابن شاس المالكي رحمه الله: (والمنصوص اختصاصه ـ أي الجمع في المطر ـ بالمغرب والعشاء، واستقرأ أبو القاسم بن الكاتب والقاضي أبو الوليد الجمع بين الظهر والعصر أيضاً من قول مالك في الموطأ: أرى ذلك في المطر.

وإذا جمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، فهل يفعل المغرب أول وقتها أو يؤخرها قليلاً؟ الرواية المشهورة أنه يؤخرها قليلاً ثم يقدم العشاء إليها، وروي أنه يصليها في أول وقتها، محافظة على الوقت المختار، وبهذه الرواية قال ابن وهب وأشهب).

8. يؤذن للأولى فقط، ويقام للأولى والثانية

إذا جمع بين صلاتين فإنه يؤذن للأولى ويقام لكل منهما.

9. لا يتنفل بينهما

وقال ابن حبيب المالكي: (لا بأس أن يتنفل).

ã

ثانياً: الأعذار المبيحة للجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك للأفراد

الذين يباح لهم الجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك، وهي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من الأفراد هم:

1. المريض

الذي يلحقه بسبب تأدية كل صلاة لوقتها مشقة وضعف، وقد ذهب أهل العلم في إباحة الجمع للمريض مذهبين:

أ.  يجوز له الجمع، وهو مذهب عطاء، ومالك، وأحمد.

ب. لا يجوز له الجمع، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.

استدل المجيزون للجمع للمريض بحديث ابن عباس السابق: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر"، وفي رواية: "من غير خوف ولا سفر".

روي عن أحمد بن حنبل أنه قال في حديث ابن عباس: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع.

وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: المريض يجمع بين الصلاتين؟ فقال: إني لأرجو ذلك إذا ضعف وكان لا يقدر إلا على ذلك.

2.  المستحاضة

وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر، ويجمع بينهما بغسل واحد.

3.  المرضع.

4.  من به سلس بول، أوريح، أومذي.

5.  الشيخ الكبير.

6.  من به رعاف دائم.

7.  من به جرح لا يرقأ دمه.

8.  الخائف.

وقال شيخ الإسلام: (ويجمع المرضى كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين).

ã

الأفراد مخيَّرون بين جمع التقديم والتأخير

الأفراد مخيرون بين أن يجمعوا جمع تأخير أوتقديم، وعليهم أن يفعلوا الأرفق بهم، فإذا جمعوا جمع تقديم عليهم أن يؤخروه حتى يدخل وقت الأخرى، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: "ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء"، "وإن قويتِ على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر" الحديث.

قال ابن شاس وهو يعدد الأعذار المبيحة للجمع: (السبب الثالث المرض، فيجوز للمريض الجمع، وقال ابن نافع: لا يجمع قبل الوقت، ويصلي كل صلاة لوقتها، فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاء.

السبب الرابع الخوف، وفي جواز الجمع به قولان لابن القاسم.

وقال: ولو صلى الشيخ الضعيف أوالمرأة في البيت بالمسمِّع ففي جـواز الجمع لهما خـلاف).

ã

وقت الوتر لمن جمع بين العشائين

ذهب أهل العلم في وقت الوتر لمن جمع بين الصلاتين مذهبين:

1. يوتر بعد الجمع.

2. لا يوتر حتى يدخل وقت العشاء في بيته.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الإجابة على سؤال: وإذا جمع فهل تصلى السنة أوالوتر؟ : (.. وله أن يوتر بعد صلاة العشاء المجموعة مع المغرب جمع تقديم).

قال صاحب سبيل السعادة المالكي: (وليس لمن يريد الجمع أن يتنفل بين الفريضتين ولا بعدهما، ويؤذن ويقيم لكل منهما ويصليهما بلا فصل بينهما).

ã

من الكبائر الجمع بين الصلاتين من غير عذر

روى البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن أبي قتادة العدوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف، والنهب.

قال البيهقي: وقد روي فيه حديث موصول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده من لا يحتج به.

ومن أمثلة الجمع لغير عذر الجمع في البيوت، والجمع لتخزين "القات" الذي أحدثه الشيعة الزيدية باليمن.

--------------------

رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة متى ترفع؟ ومتى لا ترفع؟ وكيفية رفعهما؟

حكم رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة

أ. حكم رفع اليدين في الدعاء المطلق

ب. حكم رفع اليدين في الدعاء المقيد خارج الصلاة

1. رفع اليدين في الاستسقاء

صفة رفع اليدين في الاستسقاء

2. رفع اليدين إثر رمي الجمرة الصغرى والوسطى

3. رفع اليدين في الدعاء في أثناء الخطبة

ج. لا ترفع الأيدي في الدعاء دبر الصلوات المكتوبات

د.  من كره رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة مطلقاً ومقيداً

الخلاصة

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، وأمرنا بطاعته، والتأسي به من غير قيد ولا شرط فقال: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وسوَّى في ذلك بين صغائر الأمور والعظام، إذ ليس في الدين شيء يسير كما قال مالك رحمه الله، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً".

لقد أمرنا الله بالدعاء وتعبدنا بذلك، ووعدنا بالإجابة والله لا يخلف الميعاد: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم"، والدعاء هوالعبادة، والعبادات توقيفية، لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، ولا تصح عبادة إلا بدليل صحيح صريح، ثم أداؤها بصدق وإخلاص لله عز وجل، ومتابعة واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد..

فهذا بحث عن رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة، عن مشروعيته وحكمه، والمواطن التي ترفع فيها الأيدي، والمواطن التي لا ترفع فيها، وعن كيفية رفع اليدين، وصفة ذلك، وعن حكم مسح الوجه بهما إثر الدعاء، وما شاكل ذلك.

ومما دفعني إلى ذلك سؤال البعض واختلافهم في رفع اليدين في الدعاء دبر الصلوات المكتوبة خاصة، وللنزاع الذي ينشأ من حين لآخر في بعض المساجد بسبب ذلك، وقبل الشروع في المطلوب أود التنبيه على الآتي:

أولاً: إذا ثبتت العبادة فلا تصح مع الصدق إلا إذا وافقت هديه صلى الله عليه وسلم أوالإجماع في:

أ.  الكم.

ب.  والكيف.

ج.  والزمن.

د.  والموضع.

ثانياً: التنفل بالصلاة من أجل القربات، ولكن هناك ساعات يحرم فيها التنفل بها، وهناك ساعات يكره التنفل فيها، وكذلك القرآن هو أجلُّ الذكر، ولكن تحرم قراءته في الركوع، والذكر باللسان من أحب الأعمال، ولكن يحرم عند قضاء الحاجة، وهكذا.

ثالثاً: عند التنازع لا يجوز الاستدلال إلا بالدليل الصحيح الصريح، فلا يجوز استدلال بحديث ضعيف أوموضوع، ولا باختلاف لا يقوم على دليل، ولا بأفعال وأقوال الرجال إذا خالفت الدليل.

رابعاً: الحديث الصحيح لا يستدل به إلا إذا كان في موضع النزاع، فالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعة ومن أفضل الذكر، ولكنها تكون مردودة إذا قالها الإنسان إثر العطاس بأن قال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، فالحمد لله هذا مكانه، والصلاة مردودة على صاحبها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس مه فهو رد".

خامساً: عند التنازع لابد من الرد إلى الله والرسول والرضا والتسليم لحكمهما، ولا يتم ذلك إلا بنبذ الهوى والتقليد.

والله أسأل أن يوفقنا لطاعته وعبادته ولاتباع نبيه، وأن يشرح صدورنا للإسلام، وأن يملأها تقوى وإيمان، وصلى الله وسلم على خيرته من ولد عدنان وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان.

ã

حكم رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة

الدعاء ينقسم خارج الصلاة إلى قسمين كبيرين، هما:

أولاً: الدعاء المطلق.

ثانياً: الدعاء المقيد.

ولكل من هذين القسمين أنواع عدة، وحكم هذين القسمين يختلف، وسنفصل القول في ذلك.

ã

أ. حكم رفع اليدين في الدعاء المطلق

حكمه مشروع جائز.

الأدلة على مشروعية رفع اليدين واستحبابه في الدعاء المطلق كثيرة جداً، نذكر منها ما تيسر:

o عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فقام وأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف، قال: إن جبرل عليه السلام أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم".

o  وعن عمر رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني؛ فما زال يهتف بربه ماداً يديه حتى سقط رداءه عن منكبيه".

o  وعن أنس رضي الله عنه قال: "صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بكرة، وقد خرجوا بالمساحي، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: الله أكبر، خربت خيبر"".

o  وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس.. وإن أبا عامر رضي الله عنه استشهد فقال لأبي موسى: يا ابن أخي، ائت النبي صلى الله عليه وسلم فقل له: استغفر لي؛ ومات أبو عامر، قال أبو موسى: فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر؛ ورأيتُ بياض إبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك ومن الناس؛ فقلت: ولي فاستغفر؛ فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً".

o  وعن أبي هريرة رضي الله عنه : "أن رسول الله صلى ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فأنى يستجاب لذلك".

o  وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: "أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم؛ فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت، فالتفتَ أبو بكر رضي الله عنه، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اثبت مكانك، فرفع أبو بكر يديه رضي الله عنه فحمد الله تعالى على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك".

o  عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعاً يديه يقول: إنما أنا بشر فلا تعاقبني، أيما رجل من المؤمنين آذيته أوشتمته فلا تعاقبني فيه".

o  وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وتهيأ ورفع يديه، وقال: اللهم اهدِ دوساً وأتِ بها".

o  وعن جابر رضي الله عنهما أن الطفيل بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة، وذكر الحديث في هجرته مع صاحب له، وأن صاحبه مرض فجزع فجرح يديه فمات، فرآه الطفيل في المنام، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ما شأن يديك؟ قال: قيل لن يصلح منك ما أفسدتَ من نفسك؛ فقصها الطفيل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم وليديه فاغفر، رفع يديه".

o  وعن علي رضي الله عنه قال: جاءت امرأة الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه زوجها أنه يضربها، فقال: اذهبي فقولي: كيت وكيت، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول؛ فذهبت ثم عادت فقالت: إنه عاد يضربني؛ فقال: اذهبي فقولي له: كيت وكيت؛ فقالت: إنه يضربني؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: اللهم عليك بالوليد".

o  وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "رأيت رسول الله صلى رافعاً يديه حتى بدا ضبعاه يدعو لعود عثمان رضي الله عنه".

o  وعن محمد بن إبراهيم التيمي قال: "أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند أحجار الزيت باسطاً كفيه".

o  وعن سلمان بالفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حي كريم سخي، إذا رفع الرجل يديه أن يردهما صفراً خائبتين".

o  وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".

o  وعن عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف: "فانتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يدعو".

o   وعن أبي هريرة في فتح مكة: "فرفع يديه وجعل يدعو".

o  وعن أبي حميد رضي الله عنه في قصة ابن اللتبية: "ثم رفع يديه يدعو حتى رأيت عفرة إبطيه، يقول: اللهم هل بلغت".

o  وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى، فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي".

o  وعن عمر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوماً، ثم سري عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا".

o  وعن أسامة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى".

o  وعن قيس بن سعد عند أبي داود: "ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو وهو يقول: اللهم صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة".

لهذه الأحاديث وغيرها كثير، أجاز أهل العلم رفع اليدين في الدعاء، سيما المطلق خارج الصلاة، لقد بلغت أحاديث رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة درجة التواتر المعنوي.

كما يجوز الدعاء من غير رفع اليدين.

ã

ب. حكم رفع اليدين في الدعاء المقيد خارج الصلاة

يتفاوت حكم رفع اليدين في الدعاء المقيد خارج الصلاة تفاوتاً كبيراً، فبينما أجمع العامة من أهل العلم على تأكيد سنيته في بعض المواطن، منعوا رفعها منعاً مطلقاً في بعضها لعدم وجود الدليل على ذلك، وسنفصل القول في ذلك لأنه هو الدافع لكتابة هذا البحث.

ã

1.  رفع اليدين في الاستسقاء

هذا من آكد المواطن المقيدة التي استحب أهل العلم فيها رفع اليدين في الدعاء، بل كادوا أن يجمعوا على ذلك، بله ومن أهل العلم من منع رفع اليدين في الدعاء إلا في الاستسقاء، وذلك لما صح عن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يكن يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" الحديث، سواء في ذلك كان طلب السقيا بصلاة الاستسقاء أم بغيرها.

الأدلة على ذلك

1.  عن أنس رضي الله عنه قال: "أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بشق المسافر، ومنع الطريق".

2.  وعنه رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع حتى يُرى بياضُ إبطيه".

3.  وفي رواية عنه قال: "أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى، فبنيا النبي صلى يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قَزَعة ـ فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي ـ أوقال غيره ـ فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا؛ فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولاعلينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبَة، وسال الوادي قناة شهراً، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود".

ã

صفة رفع اليدين في الاستسقاء

تختلف صفة رفع اليدين في الدعاء في الاستسقاء عن غيره في الآتي:

1.    يبالغ في رفع اليدين في الاستسقاء ما لا يبالغ في غيره من المواطن، حتى تصير اليدان حذو الوجه مثلاً وفي غيرها حذو المنكبين.

2.  في الاستسقاء الكفان تليان الأرض، وفي غيره تليان السماء، وبذلك يؤول حديث أنس السابق: "لم يكن يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء"، ليوفق بينه وبين الأحاديث المستفيضة التي بينت رفع يديه في الدعاء في غير الاستسقاء.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما "حتى يُرى بياض إبطيه"، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وأما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح؛ قلت: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في "الأذكار"، وفي "شرح المهذب" جملة، وعقد لها البخاري أيضاً في "الأدب المفرد" باباً.

وقال في موضع آخر: وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، إما الرفع البليغ فيدل عليه قوله "حتى يُرى بياض إبطيه"، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يُرى بياض إبطيه، وأما صفة اليدين في ذلك فلما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس: "أن رسول الله صلى استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء"، ولأبي داود من حديث أنس أيضاً: "كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرضَ، حتى رأيتُ بياضَ إبطيه"، قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء، انتهى؛ وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهراً لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، أوهو إشارة إلى صفة المسؤول، وهو نزول السحاب إلى الأرض).

ã

2. رفع اليدين إثر رمي الجمرة الصغرى والوسطى

من مواطن الدعاء المقيدة التي ترفع فيها اليدان إثر رمي الجمرة الصغرى والوسطى أيام التشريق الثلاثة، وذلك لما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان يرمي الجمرة بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يستقبل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيستقبل ويقوم طويلاً ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمى جمرة ذات العقبة ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيتُ رسول الله صلى يفعله".

ã

3. رفع اليدين في الدعاء في أثناء الخطبة

لقد سبق أن الرسول صلى رفع يديه وهو على المنبر يخطب عندما استسقى به بعض الأعراب، ورفع الناس أيديهم معه.

واستحب بعض أهل العلم للإمام في حال الخطبة أن يشير بالسبابة فقط، وذلك لما خرجه مسلم في صحيحه من حديث عمارة بن رُوَيْبة: "أنه رأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك وقال: لقد رأيتُ رسول الله صلى وما يزيد على هذا يشير بالسبابة".

قال الحافظ ابن حجر معلقاً على حديث عمارة هذا: (فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها).

والذي يظهر والله أعلم أن الخطيب له أن يشير بالسبابة وحدها في حال الدعاء، وإذا رفع كلتا يديه فلا حرج عليه.

ã

ج. لا ترفع الأيدي في الدعاء دبر الصلوات المكتوبات

من المواطن التي لم يشرع فيها رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة دبر الصلوات المكتوبة، إذ لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فيها، بل لم يثبت عنه ولا عن خلفائه أنه كان يجلس في مصلاه إلا بمقدار أن يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".

خرَّج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث إذا سلم بمكانه يسيراً"، قال ابن شهاب: "حتى ينصرف النساء فيما نرى".

وروي عن أنس رضي الله عنه قال: "صليت خلف النبي صلى فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليتُ مع أبي بكر فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة"، يعني الحجر المحمى.

وقال ابن وهب: (عن يونس بن يزيد: أن أبا الزناد أخبره قال: سمعتُ خارجة بن زيد بن ثابت يعيب على الأئمة قعودهم بعد التسليم، وقال: إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تنقطع مكانها، قال ابن وهب: وبلغني عن ابن شهاب أنها السنة؛ قال ابن وهب: وقال ابن مسعود: يجلس على الرضف خير له من ذلك؛ قال ابن وهب: وبلغني عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا سلم لمكانه على الرضف حتى يقوم، وأن عمر بن الخطاب قال: جلوسه بعد السلام بدعة").

يستحب الإكثار من الدعاء داخل الصلاة، خاصة في السجود، أما بعد السلام فالمشروع هو الذكر.

قال ابن القيم رحمه الله: (وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أوالمأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن.

أما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر، فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً عن السنة بعدهما، والله أعلم، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، وبالقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه؟! ولا ريب أن عكس هذا الحال هوالأولى بالمصلين إلا أن هاهنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى استحب له الدعاء عقيب ذلك، كما في حديث فضالة بن عبيد: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدعُ بما شاء").

سئلت هيئة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية عدة أسئلة عن مشروعية الدعاء دبر الصلوات المكتوبة وعن رفع اليدين فيه، فأجابت: (ليس الدعاء بعد الفرائض بسنة إذا كان ذلك برفع الأيدي سواء من الإمام وحده، أوالمأموم وحده، أومنهما جميعاً، بل ذلك بدعة، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، أما الدعاء بدون ذلك فلا بأس به لورود بعض الأحاديث في ذلك.

وفي جواب آخر عن نفس هذا السؤال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم أنه رفع يديه بعد السلام من الفريضة في الدعاء، ورفعهما بعد السلام من صلاة الفريضة مخالف للسنة).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سئل عن الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا؟ ومن أنكر على إمام لم يدعُ عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطئ؟ فأجاب: (الحمد له، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة، ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، كذلك أحمد وغيره من الأئمة.

إلى أن قال: ولو دعا الإمام والمأموم أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يكن هذا مخالفاً للسنة، كالذي يداوم على ذلك، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام ويأمر بذلك.

إلى أن قال: وأما دعاء الإمام والمأمين جميعاً عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذاً أن يقول دبر كل صلاة: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، ونحو ذلك، ولفظ دبر الصلاة قد يُراد به آخر جزء من الصلاة، كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد ما بعد انقضائها).

وقال الونشريسي المالكي رحمه الله في "المعيار المعرب، والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس والمغرب" عن رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة: (وسئل فقهاء "بجاية" عن دعاء الإمام بعد فراغه من الصلاة، أوبعد قراءة الحزب، ويمسح بيديه، وكذلك الجماعة إلى أن نُهي عن ذلك ومنع منه، فإذا صح النهي فما وجهه؟

فأجاب الفقيه أبو العباس أحمد بن عيسى منهم بأن ما ذكره السائل من النهي صحيح، وعلل بأن العمل لم يصحبه، وفاعل ذلك لا يبلغ الأمر به إلى التحريم، لأن النهي من قائله نهي تنزيه لا تحريم.

وأجاب الفقيه أبو عزير: الدعاء مأمور به، فمن أراد دعا، ومن أراد ترك، لكن إنما يدعو الداعي وحده، وذكر ابن شهاب في بسط اليد ومسح الوجه به بعد الدعاء حديثاً وضعفه، ولكن الظاهر أنه يجوز.

قلت: قال في العتبية: قال مالك: رأيتُ عامر بن عبد الله يرفع يديه وهو جالس بعد الصلاة يدعو، فقيل لمالك أترى بهذا بأساً؟ قال: لا أرى به بأساً، ولا يرفعهما جداً؛ ابن رشد: إجازة مالك في هذه الرواية لرفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة هو نحو قوله في المدونة، لأن خاتمة الصلاة موضع الدعاء.

إلى أن قال: وقال ابن رشد: إنكار مالك مسح الوجه بالكفين لكونه لم يرد به أثر.

إلى أن قال: وسئل الشيخ الحافظ أبو العباس أحمد بن قاسم القباب من أئمة فاس عن حكم الدعاء إثر الصلاة، فأجاب رحمه الله بما نصه: الحمد لله، الجواب وبالله تعالى التوفيق أن الذي عندي ما عند أهل العلم في ذلك من أن ذلك بدعة قبيحة، ولو لم يتق منها إلا هذا الواقع من أن من ترك ذلك يرى أنه أتى منكراً وينهى عنه، وذلك من علامة الساعة، أن يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

إلى أن قال: وقال مالك في المدونة: إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر، أوفي فنائه).

قلت: القول الراجح أن مالكاً رحمه الله نهى عن رفع اليدين في الدعاء دبر الصلوات المكتوبات، بل روي عن مالك عدم رفع اليدين في الدعاء إلا في الاستسقاء، الذي هو آكد موطن لرفع اليدين، وفي رواية عنه أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء.

قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: (وقال مالك: كان عامر بن عبد الله يرفع يديه بعد الصلاة يدعو، ولا بأس به ما لم يرفع جداً، وفي رواية ابن غانم: ليس رفع اليدين في الدعاء من أمر الفقهاء.

إلى أن قال:

وقال مالك: كان سعيد بن أبي هند ونافع مولى ابن عمر، وموسى بن ميسرة، يجلسون بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ثم يتفرقون وما يكلم بعضهم بعضاً اشتغالاً بذكر الله تعالى.

ولم تكن القراءة في المسجد في المصحف من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج، وأكره أن يقرأ في المصحف في المسجد).

ã

د. من كره رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة مطلقاً ومقيداً

كره بعض أهل العلم رفع اليدين في الدعاء خـارج الصـلاة مطلقاً، منهم: عبد الله بن عمر وجبير بن مطعم من الصحابة، وشريح القاضي التابعي ومالك الإمام.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر، وجبير بن مطعم، ورأى شريحاً رجلاً يرفع يديه داعياً فقال: من تتناول بهما لا أم لك؟ وساق الطبري ذلك بأسانيد عنهم، وذكر ابن التين عن عبد الله بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدونة": ويختص الرفع بالاستسقاء، ويجعل بطونهما إلى الأرض؛ وأما ما نقله الطبري عن ابن عمر فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حَذْوَ صدره؛ كذلك أسنده الطبري عنه أيضاً، وعن ابن عباس: أن هذه صفة الدعاء، وأخرج أبو داود والحاكم عنه من وجه آخر قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعاً).

ã

الخلاصة

1. أن رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة جائز ومشروع في الدعاء المطلق.

2. يتأكد استحبابه في الاستسقاء مع المبالغة في رفعهما وجعل بطونهما إلى الأرض.

3. يستحب رفعهما في الدعاء عقب رمي الجمرتين الصغرى والوسطى أيام التشريق.

4. اختلف في رفعهما بمحاذاة الحجر الأسود، وعند الصفا والمروة، منع من ذلك مالك رحمه الله.

5. ليس من السنة رفع اليدين في الدعاء عقب الصلوات المكتوبة إذ لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته فعله، وكل يُؤخذ من قوله ويُترك، والخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع في الدين: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، أي لم يبتدعه هو وإنما ابتدعه غيره، فكلاهما في الوزر سواء.

6. من البدع القبيحة التي يصر عليها البعض الدعاء الجماعي دبر الصلوات المكتوبات، سواء قام به الإمام أو المؤذن أوغيرهما، وسواء كان سراً أم جهراً، بل يبلغ الأمر ببعض الناس اتهام من لم يلتزم هذا الدعاء الجماعي بالابتداع في دين الله، وهذا والله من انقلاب الموازين واختلال المفاهيم، وجهل بالدين، بحيث يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وذلك كله بسبب سكوت بعض العلماء وطلاب العلم عن ذلك، ومنافقتهم لما تهواه العامة.

وقد أبدع الإمام الشاطبي وأجاد في دفع هذه البدعة القبيحة في كتابه الاعتصام، وأطال الرد في دفع شبه المجيزين لذلك، فيستحسن الرجوع إليه، ولولا خوف الإطالة والخروج عن المقصود لنقلته كله لما فيه من الفوائد الجليلة، والإرشادات العظيمة، والاستنباطات الدقيقة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

---------------------

الأيمان: حكمها، ما يكفر منها وما لا يكفر، كفارتها، اليمين الغموس

تعريف الأيمان ودليل مشروعيتها

حكم الأيمان

الأيمان التي تكفر، والتي لا تكفر

المحلوف به الذي إذا حنث عليه الكفارة

الحلف بالقرآن أو بآية منه

الحلف بالمصحف

قول الرجل هو يهودي، أونصراني، أومجوسي، أوبريء من الإسلام، أومن النبي عليه السلام

الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

الاستثناء في الحلف

من استحلف على حق فإن اليمين على نية المستحلف

من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه

الكفارة

الإطعام

الكسوة

عتق رقبة

صيام ثلاثة أيام

كفارة العبد

من حلف على حال وتغيرت حاله بعد

إذا مات الحالف وقد حنث

تقديم الكفارة قبل الحنث

الخلاصة

 

الحمد لله الذي أمر بحفظ اللسان والأيمان، فقال: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، وقال: "واحفظوا أيمانكم"، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، القائل: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، ولذلك ذم الله الخلاف، ونهى وحذر عن الإفراط في الحلف، فقال :" ولا تطع كل حلاف مهين"، لأن الإكثار والإفراط في الحلف مدعاة إلى الكذب.

من رحمة الله بهذه الأمة أنه رفع عنها كثيراً من الأغلال والآصار التي كانت على غيرها من الأمم، ورفع عنها الحرج، ومن ذلك أنه لم يؤاخذنا بلغو الأيمان، ولكنه يؤاخذنا بما عزمت وعقدت عليه قلوبنا، فقال: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، وما عقدنا عليه الأيمان جعل لنا مخرجاً منه بالكفارات، التي جعلها على التخيير: "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم".

وبعد..

فهذا بحث عن الأيمان، عن تعريفها، وحكمها، وما يُكفّر منها وما لا يكفر، وعن اليمين الغموس، وعن الكفارة، وبيانها، وما يتعلق بذلك.

والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وموافقاً لسنة سيد المرسلين، ونافعاً لمن اطلع عليه من إخواني المسلمين، ومثقلاً لميزان كاتبه يوم تطيش الموازين.

أقول وبالله التوفيق:

ã

أولاً : الأيمان

تعريف الأيمان  ودليل مشروعيتها

الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، قيل مأخوذ من اليمن وهو البركة، لأن اليمين تحفظ بها الحقـوق، وقيل مأخوذ من اليد اليمين، لأنهم كانوا إذا حلفوا وضع أحدهم يمينه في يمين صاحبه، والله أعلم، واليمين تذكر وتؤنث، وتجمع على أيمان وأيمن.

الأيمان مشروعة، ودليل مشروعيتها الكتاب، والسنة، والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" الآية، وقوله تعالى: "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً"، وقد أمر الله نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال: "ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين"، وقال: "قل بلى وربي لتأتينكم"، وقال: "قل بلى وربي لتبعثن".

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إني والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها".

ولهذا أجمعت الأمة على مشروعيتها وثبوت حكمها.

ã

حكم الأيمان

يختلف حكم الأيمان باختلاف المحلوف عليه، ولهذا فإنها تعتريها الأحكام الخمسة، فقد تكون:

1. واجبة : إذا كان الغرض منها تنجية وتخليص نفسه أومسلم معصوم الدم من الهلاك ، نحو أن تتوجه عليه أيمان القَسَـامَة، فيحلف ليبرئ ذمته من دم المقتول بساحته أومحلته، أويحلف ليخلص مسلماً من القتل، فقد روي عن سويد بن حنظلة قال: "خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل ابن حُجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقت، المسلم أخو المسلم"، وكذلك يجب الحلف لمن تعينت عليه شهادة أمام الحاكم ليقول الحق، ففي مثل هذين الحالين فالأيمان تجب على من تعينت عليه.

2. مندوبة : ويندب الحلف للإصلاح بين متخاصمين، أولإزالة حقد، ودفع شر عن بعض المسلمين.

3. مباحة : نحو الحلف على فعل أي شيء مباح أوتركه، نحو من حلف أن كل ما في البخاري صحيح ونحو ذلك.

ويدخل في ذلك الحلف على إثبات حق لك لدى الحاكم أوالقاضي، وتحرُّجُ البعض عن الحلف لنيل حقه في غير محله، وفيه ضياع للحقوق، وربما سوء ظن بالذي أحجم عن الحلف؛ فإن كنت صادقاً ومتيقناً أن الحق معك فلا تتحرج من اليمين، ولو كان على المصحف، وإن كان خلاف الأولى، فكم من حقوق ضاعت بسبب تحرج البعض عن الحلف، وكم من ظلمة تجاسرت على حقوق الآخرين.

قال ابن قدامة رحمه الله: (فأما الحلف على الحقوق عند الحاكم ، ففيه وجهان، أحدهما أن تركه أولى من فعله فيكون مكروهاً ، ذكر ذلك أصحابنا وأصحاب الشافعي، لما روي أن عثمان والمقداد تحاكما إلى عمر، في مال استقرضه المقداد، فجعل عمرُ اليمين على المقداد، فردها على عثمانَ، فقال عمر: لقد أنصفك. فأخذ عثمان ما أعطاه المقداد ولم يحلف، فقال: خفت أن يوافق قدرٌ بلاءً فيقال: يمين عثمان. والثاني أنه مباح فعله كتركه، لأن الله أمر نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع، وروى محمد بن كعب القرظي أن عمر قال على المنبر، وفي يده عصاه: "أيها الناس لا تمنعكم اليمينُ عن حقوقكم، فوالذي نفسي بيده إن في يدي لعصا". وروى عمر بن شيبة في كتاب "قضاة البصرة" بإسناده عن الشعبي : أن عمر وأبياً احتكما إلى زيد في نخل ادعاه أبي ، فتوجهت اليمين على عمر ، فقال زيد : أعف أمير المؤمنين. فقال عمر : ولم يعفي أمير المؤمنين ؟ إن عرفت شيئاً استحققته بيميني، وإلا تركته، والله الذي لا إله إلا هو، إن النخل لنخلي، وما لأبي فيه حق. فلما خرجا وهب النخل لأبي. فقيل له: يا أمير المؤمنين هلا كان هذا قبل اليمين؟ قال: خفت أن لا أحلف، فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فيكون سنة. ولأنه حَلِفُ صدق على حق حق، فأشبه الحلف عند غير الحاكم).

قلت: جزى الله الإسلامَ عن عمر كل خير، فقد كان عمر ناصحاً أميناً لهذه الأمة، وما فعله هو الراجح، وهو الحق، وهو السنة، وما فعله عثمان رضي الله عنه هو من باب الفضل والورع، وهو أهل لذلك كله، خاصة وكان الدين في النفوس حياً، وكانت الضمائر متقدة ، أما الآن فقد ضعف الوازع الديني، وتجاسر كثير من الناس على حقوق الآخرين، بحيث يحلف المرء اليوم على حقه ثم لا ينله ، بسبب بعض الحيل والثغرات يستغلها نفر من المحامين وغيرهم.

4.  مكروهة : وهو أن يحلف على فعل مكروه أوترك مندوب، ومن أمثلة الحلف المكروه الحلف في البيع والشراء ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلف منفق للسلعة ، ممحق للبركة".

5.  حرام : وهو الحلف الكاذب، وهذا من الحرام البين، ومن الكبائر الموبقة، قال تعالى: "ويحلفون على الله الكذب وهم يعلمون"، وقال: "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم".

وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف يميناً فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي اللهَ وهو عليه غضبان".

ومن هذا القسم الحلف على ترك واجب أو فعل محرم.

ã

الأيمان التي تكفر، والتي لا تكفر

الأيمان أربعة أقسام، هي:

1.  قسم لا يحتاج إلى كفارة، وهو لغو الأيمان، مثل قول الرجل: لا والله، وبلى والله. أويحلف على شيء وهو يظن أنه حق أوأنه موجود وهو على غير بذلك، فهو اللغو معفو عنه، قال تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".

2.  قسم لا تمحوه الكفارة، وهي اليمين الفاجر الكاذبة، ولهذا قال العلماء: يمينان لا تكفران، وهما قول الرجل: والله ما فعلت كذا وكذا، وقد فعل؛ ووالله قد فعلت كذا وكذا، ولم يفعل؛ فهو يحلف ويعلم أنه كاذب في حلفه.

3.  وقسم اليمين الغموس ، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار، وهو أن يحلف ليستقطع حقاً من حقوق الناس له أو لغيره فقد يبيع الإنسان دينه بدنيا غيره، وهي يمين المكر والخديعة، والكذب، وهي لا تنعقد ولا كفارة لها إلا بالتوبة الصادقة، وبرد الحقوق إلى أصحابها.

عن ابن مسعود يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان".

وعن أبي أمامة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة. قال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك".

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال عقوق الوالدين. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس. قلت: ما الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب".

فاحذر أخي الكريم أن تبيع آخرتك بدنياك أو دنيا غيرك، واحذر الكذب فإن المؤمن يطبع على كل شيء إلا على الكذب.

4.  وقسم تمحوه الكفارة، نحو قول الرجل: "والله لا أفعل كذا وكذا" ثم يفعل، وقوله: "والله لأفعلن كذا وكذا" ثم لا يفعل، وهذه اليمين تنعقد وشرعت فيها الكفارة.

ã

المحلوف به الذي إذا حنث عليه الكفارة

"من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"، إذ لا يصح الحلف بأي شيء من مخلوقات الله عز وجل، أما الله تجلت قدرته وتقدست أسماؤه فله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته.

فيجوز للحالف أن يحلف بأي اسم من أسماء الله عز وجل، أوبأي صفة من صفاته، نحو: الله، الرحمن، الرحيم، وعزة الله وقدرته.

واعلم أخي الكريم أن حلفك بالله كاذباً خير من حلفك بغير الله صادقاَ، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، فالحذر كل الحذر من الحلف بالآباء، والأمهات، وبالأولياء والصالحين، والأنبياء والمرسلين، فكل ذلك ممنوع محذر منه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قال واللات فليقل لا إله إلا الله".

قال ابن قدامة رحمه الله: (أجمع أهـل العلـم على أن من حلف بالله عز وجل، فقال: والله، أوبالله، أوتالله، فحنث، أن عليه الكفارة، قال ابن المنذر: وكان مالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، يقولون: من حلف باسم من أسماء الله تعالى فحنث فعليه الكفارة، ولا نعلم في هذا خلافاً إذا كان من أسماء الله عز وجل التي لا يسمى بها سواه؛ وأسماء الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام.

ثم فصل ذلك، وملخصها:

1.  أحدها ما لا يسمى به غير الله، نحو الرحمن.

2.  الثاني ما يسمى به غير الله مجازاً، نحو : الخالق، الرازق، الرب.

3.  الثالث ما يسمى به الله تعالى وغيره، نحو: الحي، العالم، الموجود، الكريم.

فهذا إن قصد به اليمين باسم الله تعالى كان يميناً، وإلا فلا.

ثم قال: القسم بصفات الله تعالى، كالقسم بأسمائه وصفاته، تنقسم أيضاً ثلاثة أقسام:

ثم فصل فيها، نلخصها في الآتي:

أحدها: ما هو صفات لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها، نحو وعزة الله، وعظمته، وجلالـه، وكبريائه.

والثاني: ما هو صفة للذات ويوصف بها غيره مجازاً، كعلم الله وقدرة الله.

الثالث: ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بإضافته إلى الله، نحو: العهد، والميثاق، وحكم هذا كحكم القسم الثالث في الأسماء.

إلى أن قال: وإن قال: لعمر الله ، فهي يمين موجبة للكفارة، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي : إن قصد اليمين، فهي يمين، وإلا فلا).

وكذلك إن قال: وأيم الله، وأيمن الله.

ã

الحلف بالقرآن أو بآية منه

ذهب في ذلك أهل العلم مذهبين هما

1.  الحلف بالقرآن، أوبعض آيه وسوره، أوبكلام الله، يمين منعقدة تجب بها الكفارة إذا حنث، وهذا مذهب العامة من أهل العلم: ابن مسعود، والحسن، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد.

2.  ليس بيمين، ولا تجب فيه كفارة.

الحلف بالمصحف

قال أحمد وإسحاق يمين، وكان قتادة يحلف بالمصحف.

وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه.

ã

قول الرجل هو يهودي، أونصراني، أومجوسي، أوبريء من الإسلام، أومن النبي صلى الله عليه وسلم

من قال ذلك ذهب فيه أهل العلم مذهبين إذا حنث

1. عليه الكفارة، وهو قول عطاء، وطاوس، والحسن، والثوري، والشعبي، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت.

2. لا كفارة عليه، وهذا مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، والليث، وأبي ثور، وابن المنذر.

والراجح ما ذهب إليه مالك والشافعي ومن وافقهما، لأن ذلك ليس حلفاً بالله ولا باسم من أسمائه ولا صفة من صفاته، والله أعلم.

ã

الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

لا تنعقد اليمين بالحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: "من كان حالفاً فليحلف بالله أوليصمت"، وهذا ما عليه العامة من أهل العلم، منهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد؛ وانفرد أحمد في رواية عنه بأن من حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه، ويرد ما ذهب إليه أحمد الأخبار الصحاح.

قال القرطبي رحمه الله: (لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه، لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به، فتلزمه الكفارة، كما لو حلف بالله، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"، وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا. ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون"، ثم ينتقض عليه ـ على أحمد ـ بمن قال: وآدم، وإبراهيم، فإنه لا كفارة عليه، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به).

ã

الاستثناء في الحلف

من حلف واستثنى وكان استثناؤه متصلاً بيمينه ثم حنث فلا كفارة، أما إن فصل بين حلفه واستثنائه فعليه الكفارة إن حنث، إلا عند ابن عباس ومن وافقه حيث أجاز الاستثناء ولو بعد حين.

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف وقال: إن شاء الله، فقد حنث"، ولأبي داود: "من حلف، فاستثنى، فإن شاء رجع، وإن شاء ترك"، ولا يكفي الاستثناء بالقلب أوالنية، بل لابد أن يتلفظ به.

قال القرطبي رحمه الله: (إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أوالاستثناء. وقال ابن الماجشون: الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلاً لليمين. قال ابن القاسم: هي حل لليمين. وقال ابن العربي: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح. وشرطه أن يكون متصلاً منطوقاً به لفظاً، إلى أن قال: وقال ابن عباس: يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة، وتابعه على ذلك أبو العالية، والحسن، وتعلق بقوله تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الآية، فلما كان بعد عام نزل: "إلا من تاب"، وقال مجاهد: من قال بعد ستين: إن شاء الله أجزأه. وقال سعيد بن جبير: إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه. وقال طاوس: له أن يستثني ما دام في مجلسه. ثم قال: قال ابن العربي: أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها، لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وفي لوحه، وإنما تأخر نزولها لحكمة).

ومما يدل على أن الاستثناء إذا تأخر عن اليمين لا قيمة له قوله تعالى لأيوب عليه السلام: "وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث"، وكما قيل: فما الذي يمنعه من أن يقول : قل إن شاء الله!

وقال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن الحالف إذا قال: إن شاء الله مع يمينه فهذا يسمى استثناء.. وأنه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها.

إلى أن قال: إذا ثبت هذا ، فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي، ولا يسكت بينهما سكوتاً يمكنه الكلام فيه، فأما السكوت لانقطـاع نَفَسه، أوصوته، أوعيّ، أوعارض، من عطسة أوشيء غيرها، فلا يمنع صحة الاستثناء، وثبوت حكمه، وبهذا قال مالك، والشافعي، والثوري  وأبو عبيد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

إلى أن قال: ويشترط أن يستثني بلسانه، ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو حنيفة، وابن المنذر، ولا نعلم لهم مخالفاً).

ã

من استحلف على حق فإن اليمين على نية المستحلف

اليمين في جميع الحالات على نية الحالف، إلا إذا استحلف فهي على نية المستحلف: "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك"، وفي رواية: "اليمين على نية المستحلِف" بكسر اللام.

قال الإمام النووي رحمه الله: (وهذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي، فإذا ادعى رجل على رجل حقاً فحلّفه القاضي فحلف وورَّى فنوى غير ما نوى القاضي انعقدت يمينه على ما نواه القاضي، ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه. ودليله هذا الحديث والإجماع، فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي، وورى تنفعه التوريـة، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليـف أوحلفه غير القاضي، وغير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي.

وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون على نية المستحلف، وهو مراد الحديث، أما إذا حلف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى فالاعتبار بنية الحالف، وسواء في هذا كله اليمين بالله، أوبالطلاق ، أوبالعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق، أوبالعتاق تنفعه التورية ويكون الاعتبار بنية الحالف، لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلف بالله تعالى.

واعلم أن التورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق مستحق، وهذا مجمع عليه، هذا تفصيل مذهب الشافعي وأصحابه.

ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك اختلافاً وتفصيلاً، فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف، ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله، وأما إذا حلف لغيره في حق أووثيقة متبرعاً، أوبقضاء عليه فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه سواء حلف متبرعاً أوباستحلاف. وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل اليمين على نية المحلوف له، وقيل على نية الحالف، وقيل إن كان مستحلفاً فعلى نية المحلوف له، وإن كان متبرعاً باليمين فعلى نية الحالف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم، وقيل تنفعه فيما لا يقضى به عليه، ويفترق التبرع وغيره فيما يقضى به عليه. وهذا مروي عن ابن القاسم أيضاً. وحكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث ، وما كان على وجه العذر فلا بأس به. وقال ابن حبيب عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له. قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره وإن ورى ، والله أعلم).

وخلاصة ما قاله القاضي عياض والإمام النووي أن اليمين على نية الحالف، إلا إذا استحلف المرء على حق وجب عليه فإنها تكون على نية المستحلف له، سواء كان قاضياً أومن ينوب عنه ، أوصاحب حق، كزوجة تريد نفقتها ونفقة عيالها، أومن له دين على مليّ مماطل.

أما اليمين لغير صاحب حق سواء كان استحلف أو تبرع به لاعتذار ونحوه، فله أن يوري عن ذلك، وله نيته، بأن يحلف أنه لا يملك مالاً ويعني بذلك في جيبه أو بيته، وقد يكون له مال في مكان آخر، ونحو ذلك، والله أعلم.

ã

من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه

من حلف على حرام أو مكروه أو مباح، ثم رأى غيرها خيراً منها، فعليه أن يأتي التي هي خير ويكفر عن يمينه، ولا إثم عليه في ذلك، بل الإثم في إصراره على فعل الحرام وامتناعه عن الحلال.

ودليل ذلك ما خرجه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وإني والله ، إن شاء الله، لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي خير".

وقد ورد هذا الحديث بروايات مختلفة مع اتحاد المعنى.

قال الإمام النووي رحمه الله: (في هذه الأحاديث دلالة على من حلف على فعل شيء أو تركه وكان الحنث خيراً من التمادي على اليمين فحنث فعليه كفارة يمين مع خلاف بين أهل العلم في ذلك.

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الإمام رحمه الله  فإن حلف باسم الله فهي أيمان منعقدة بالنص والإجماع، وفيها الكفارة إذا حنث، وإذا حلف بما يلتزمه لله كالحلف بالنذر، والظهار، والحرام، الطلاق، والعتاق، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي عشـر حجج، أوفمالي صدقة، أوعليّ صيام شهر، أوفنسائي طوالق، أوعبيدي أحرار، أويقول: الحل عليه حرام لا أفعل كذا، أوالطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أوإلا فعلت كذا، وإن فعلت كذا فنسائي طوالق ، أوعبيدي أحرار، ونحو ذلك ، فهذه الأيمان أيمان المسلمين عند الصحابة وجمهور العلماء، وهي أيمان منعقدة، وقالت طائفة: بل هو من جنس الحلف بالمخلوقات فلا تنعقد، والأول أصح، وهو قول الصحابة، فإن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم كنوا ينهون عن النوع الأول، وكانوا يأمرون من حلف بالنوع الثاني أن يكفر عن يمينه، ولا ينهونه عن ذلك، فإن هذا من جنس الحلف بالله والنذر لله، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كفارة النذر كفارة يمين".

فقول القائل: لله عليّ أن أفعل كذا. إن قصد به اليمين فهو يمين، كما لو قال: لله عليّ كذا، أوإن أقتل فلاناً فعلي كفارة. في مذهب  أحمد، وأبي حنيفة، وهو الذي ذكره الخرسانيون في مذهب الشافعي، فالذين قالوا: هذه يمين منعقدة منهم من ألزم الحالف بما التزمه، فألزمه إذا حنث بالنذر، والطلاق، والعتاق، والظهار، والحرام، وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة.

ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق، وبين غيرهما، وهو المعروف عن الشافعي، ومنهم من فرق بين الطلاق وغيره، وهو أبو ثور.

والصحيح أن هذه الأيمان كلها فيها كفارة إذا حنث، ولا يلزمه إذا حنث لا نذر، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا حرام. وهذا معنى أقوال الصحابة، وفقد ثبت النقل عنهم صريحاً بذلك في الحلف بالعتق والنذر، وتعليلهم ، وعموم كلامهم يتناول الحلف بالطلاق، وقد ثبت عن غير واحد من السلف أنه لا يلزم الحلف بالطلاق طلاقاً كما ثبت عن طاوس، وعكرمة، وعن أبي جعفر، وجعفر ابن محمد، ومن هؤلاء من ألزم الكفارة وهو الصحيح، ومنهم من لم يلزمه الكفارة.

فللعلماء في الحلف بالطلاق أكثر من أربعة أقوال، قيل يلزمه مطلقاً كقول الأربعة، وقيل لا يلزمه مطلقاً كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم وغيرهما، وقيل إن قصد به اليمين يلزمه، وهو أصح الأقوال، وهو معنى قول الصحابة اليمين).

ã

ثانياً : الكفارة

تمهيد

لقد خص الله هذه الأمة، كما خص رسولها صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يخص بها أحداً من العالمين، ولم يمنحها لأحد من السابقين، من تلكم الخصائص والميزات التي انفردت بها الأمة الإسلامية على ما سواها الكفارة، حيث لم يكن في شرع من قبلنا كفارة، بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه، ولهذا (أمر الله أيوب عليه السلام أن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به، ولا يحنث، لأنه لم يكن في شرعه كفارة يمين، ولو كان في شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث).

فعلينا أن نعرف لهذه النعم قدرها، وأن نوليها شكرها، ونعمل على نشرها، وأن لا نستهين بفعلها.

الأيمان كما سبق أن ذكرنا يمينان، يمين فاجرة كاذبة، الغرض منها المكر والخديعة والغدر، فهذه لا تنعقد ولا كفارة عليها عند عامة أهل العلم، لأنها أكبر من أن تكفرها أوتمحوها حفنة من طعام ، أو خرقة من لباس، وهي اليمين الغموس التي تستقطع بها حقوق العباد، وينتشر بواسطتها الفساد والحقد في البلاد، وهي أن يحلف وهو موقن أنه كاذب، فاجر، مخادع، مماكر، فهذه ليس لصاحبها إلا التوبة النصوح ورد الحقوق إلى أصحابها، أواستسماحهم إن تيسر، أوالدعاء لهم.

أما اليمين التي تنعقد وتمحوها الكفارة فهي اليمين التي تكون في المستقبل وينوي صاحبها الوفاء بها ، ولكن لم يتمكن من ذلك ، إما لأنه رأى غيرها خيراً منها، وإما لعدم بر المحلوف عليه لقسمه، وإما لضعف وعجز ونحو ذلك.

ومن رحمة الله عز وجل بعباده كذلك أن جعل كفارة اليمين على التخيير ، فالحانث في يمينه بالخيار بين الإطعام، والكسوة، أوالعتق، فبدأ بالأمور التي خيرها متعدٍ على الفقراء والمساكين والمملوكين، لأنهم أولى الخلق بالرحمة والعطف والإنفاق، ثم لم يضيق على عباده، فمن لم يجد سبيلاً إلى الإطعام ولا الكسوة والعتق، فقد رخص له في الصوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كان في كتاب الله "أو" فهو مخير فيه، وما كان "فمن لم يجد" فالأول الأول).

فكفارة اليمين ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمـأن فكفارته إطعام عشـرة مساكين من أوسط ما تطعمـون أهليكـم أوكسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" الآية، ومن السنة الحديث السابق: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك"، ولهذا أجمعت الأمة على مشروعيتها وثبوتها، لهذه الأدلة ولغيرها.

واعلم أخي الكريم أن الكفارة عبادة من العبادات، والعبادات توقيفية، لا مجال للعقل فيها والرأي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال في حجة الوداع: "لتأخذوا عني مناسككم"، فالحذر كل الحذر من إفراغ النصوص من مدلولها، وعليك بمنهج السلف الأذكياء الأخيار، سيما الصحابة الأطهار من المهاجرين والأنصار، فإنهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً ، وأفضلها منهجاً وسبيلاً؛ واحذر واجتنب مسلك المبتدعة المغرورين الأشرار، قديماً وحديثاً، فإنهم على سبل كلها تقود إلى النار، وتوجب غضب الجبار وتورث دار البوار.

ã

كفارة اليمين مرتبة

أولاً : الحر

الإطعام

قال تعالى: "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم" الآية، مسلمين أحراراً، صغاراً كانوا أم كباراً، ذكوراً كانوا أم إناثاً.

والمراد بالأوسط الأعلى والأفضل، وقيل الوسط.

فالإطعام إما أن يعطي كل واحد من العشرة مداً، وقيل مد ونصف؛ وقيل من البر نصف صاع ومن التمر والشعير والذرة ونحوها صاع؛ وإما أن يغدي العشرة ويعشيهم، سواء كان يصنعه لهم في منزله أو يذهب بهم إلى مطعم، شريطة أن يشبعهم.

ولا يجزئ أن يعطيهم مبلغاً من المال ليطعموا أنفسهم، ولا يكفي أن يعطيهم خبزاً بدون إدام، ولا وجبة واحدة.

أما دفع الكفارة لمسكين واحد أو أكثر لمدة أيام فمنع من ذلك مالك والشافعي ومن وافقهم، وأجازه أبو حنيفة، رحم الله الجميع.

ولا يجوز أن يطعم غنياً أوذا رحم تجب عليه نفقته ، واستحب مالك أن لا يطعم ذا رحم لا تجب عليه نفقته.

قال القرطبي رحمه الله: (قال مالك: إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه، وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مداً. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة، يعني غداءاً دون عشاء، أو عشاءاً دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم، قال أبو عمر ـ  ابن عبد البر: وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار، وقال ابن حبيب: ولا يجزئ الخبز قَفَاراً بل يعطي معه إدامه.

إلى أن قال : لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، فمنهم من أجاز ذلك.. وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين).

وقال ابن قدامة رحمه الله: (أن يكونوا أحراراً، فلا يجزي دفعها إلى عبد، ولا مكاتب، ولا أم ولد، وبهذا قال مالك والشافعي... مسلمين، ولا يجوز صرفها إلى كافر ذمياً كان أوحربياً).

ã

الكسوة

أ.  للرجل: قميص وسروال، أوجلابية أوثوب وعمامة.

ب. للمرأة: ما يجزئها فيها الصلاة، وهو درع وخمار، وعباءة وخمار، أوثوب ساتر، أوفستان يغطي جميع بدنها.

ففي الجملة ثوبان لكل مسكين مسلم حر من العشرة، ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً، ويشترط فيهم أن يكونوا مسلمين أحراراً.

والكسوة تكون من أوسط ما يلبس الناس.

لا يجزئ القيمة في الكسوة كما لا تجزئ في الإطعام.

قال القرطبي: (والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد، فأما في حق النسـاء، فأقل ما يجزيهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار، قال ابن القاسم في "العتبية" تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، قياساً على الطعام، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد. وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن، بناءاً على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك... وقال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد، كما أن عليه طعاماً يشبعه من الجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه.

إلى أن قال: قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم: لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً مما قد يتزيى به كالكساء والمِلْحَفة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أورداء أوقميص أوقباء وكساء. وروي عن أبي موسى الأشعري : أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين . وبه قال الحسن وابن سيرين.

إلى أن قال: ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجزئ، وهو يقول تجزئ القيمة في الزكاة، فكيف في الكفارة! قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخَلّة، ورفع الحاجة، فالقيمة تجزئ فيه، قلنا: إذا نظرنا إلى سد الخلة فأين العبادة؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع؟).

وقال الخرقي: "ويجزئه إن أطعم خمسة وكسا خمسة " ، قال ابن قدامة: (بحيث يستوفي العدد أجزأه في قول إمامنا، والثوري، وأصحاب الرأي، وقال الشافعي لا يجزئ).

ã

عتق رقبة

ويشترط أن تكون مؤمنة، كاملة، سليمة من العيوب.

قال القرطبي: (التحرير الإخراج من الرق... لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة، ليس فيها شرك لغيره، ولا عتاقة بعضها، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة، ولا تدبير، ولا تكون أم ولد، ولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة).

ã

صيام ثلاثة أيام

لا ينتقل إلى الصيام إلا من عجز عن الإطعام والكسوة والعتق، والعجز يمكن أن يكون حقيقة أومجازاً، كغني في غير بلده.

وصيام كفارة اليمين لا يشترط فيه التتابع، ومن أهل العلم من اشترط ذلك.

قال القرطبي: (فإن عدم هذه الثلاثة الأشياء صام، والعدم يكون بوجهين: إما بمغيب المال عنه أوعدمه، فالأول أن يكون في بلد غير بلده، فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه، فقيل ينتظر إلى بلده، قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام، لأن الوجوب قد تقرر في الذمة واشتراط العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر، فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة، لقوله تعالى: "فمن لم يجد". وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد، وقيل هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه، وبه قال الشافعي، واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم، قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم ، إلا أن يخاف الجوع ، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد، وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه. وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله وكسوة تكون لكفايتهم ، ثم يكون بعد ذلك مالكاً لقدر الكفارة فهو عندنا واجد، قال ابن المنذر: قول أبي عبيد حسن).

تنبيه

من أكل أو شرب ناسياً في صيامه، فرضاً كان أم تطوعاً فليتم صومه إنما أطعمه الله وسقاه.

ã

ثانياً : كفارة العبد

الراجح والله أعلم أن العبد يكفر بالصوم فقط، لأنه لا يملك شيئاً بل هو ملك لسيده.

قال القرطبي: (هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق، واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث، فكان سفيان الثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي يقولون ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك، واختلف فيه قول مالك، فحكى عن ابن نافع أنه قال: لا يكفر العبد بالعتق لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، وأصوب ذلك الصوم. وحكى ابن القاسم عنه أنه قال: إن أطعم أو كسا بإذن السيد، فما هو بلين، وفي قلبي منه شيء).

ã

من حلف على حال وتغيرت حاله بعد

فالعبرة بوقت الحلف بالنسبة للكفارة .

ã

إذا مات الحالف وقد حنث

ذهب أهل العلم في إخراج الكفارة عنه ثلاثة أقوال:

1. من رأس ماله، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور.

2. تكون في الثلث، وهذا مذهب أبي حنيفة.

3. تكون في الثلث، لكن إذا أوصى بها، وإن لم يوص فلا تخرج عنه، وهذا مذهب مالك.

ã

تقديم الكفارة قبل الحنث

العامة من أهل العلم أجازوا الكفارة قبل وبعد الحنث، منهم عمر، وابنه، وابن عباس، وسليمان الفارسي، ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم، ومن التابعين الحسن، وابن سيرين، وربيعـة، والأوزاعي، ومن الأئمة الثوري، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وقال أصحاب الرأي لا تجوز الكفارة قبل الحنث؛ أما قبل اليمين فقد منع منها الجميع.

ã

الخلاصة

1.  عليك أن تحفظ لسانك من الحلف.

2.  إذا حلفت لا تحلف إلا بالله.

3.  وإذا حنثت فعليك أن تعجل بإخراج الكفارة.

4.  من حلف بغير الله فقد أشرك كما أخبر الصادق المصدوق.

5.  الحلف تعظيم ، فينبغي أن لا يصرف هذا التعظيم إلا لله عز وج

---------------------

مذاهب العلماء في المسح على العمامة، والجوارب، والخمار

أولاً : المسح على الجوارب

ثانياً : المسح على العمامة

ثالثاً : المسح على الخمار

 

الحمد لله الذي رفع عن هذه الأمة الحرج، ووضع عنها الأصرار والأغلال التي كانت على من قبلها، وصلى الله وسلم وبارك على محمد القائل: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان ما تعاقب الملوان وتتابع الحدثان.

ثم أما بعد...

فإن الرخص منها ما هو شرعي، مثل الفطر في رمضان، والقصر والجمع في السفر، والمسح على الخفين؛ ومنها ما هو بدعي، وهو عبارة عن زلات وهفوات وسقطات لبعض أهل العلم، تشبث بها البعض لموافقتها لأهوائهم، من ذلك زلة ابن حزم في إباحة الملاهي والغناء، فلا ينبغي أن يُقلدوا فيها، ولا أن تُذاع و تُنشر عنهم.

من هذه الرخص الشرعية التي أجمع أهل السنة عليها قاطبة وعدُّوا خلافها علامة من علامات أهل الأهواء: رخصة المسح على الخفين، إذ لم ينكرها إلا الشيعة والخوارج، لذا فإنها تُذكر في باب العقائد. حتى قال أحمد: لا يصلى خلف من أنكر المسح على الخفين.

لم يُنقل عن أحد من أهل السنة المقتدى بهم أنه أنكر المسح على الخفين إلا مالكاً، ولم يثبت عنه ذلك.

قال ابن عبد البر: (وكذلك لا أعلم أحداً من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك إلا مالكـاً، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، موطؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر، وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنـة).

من الأمور التي اختلف فيها أهل السنة لاختلاف الآثار فيها: المسح على الجوارب، والعمامة، والخمار؛ فمنهم من منع من ذلك، ومنهم من رخص فيه، وإليك مذاهبهم مع الأدلة والترجيحات، والله الموفق للخيرات، فنقول:

ã

أولاً : المسح على الجوارب

ذهب أهل العلم رحمهم الله في المسح على الجوارب ثلاثة مذاهب، هي:

1. المسح على الجوارب الصفيقة التي تغطي الأرجل إلى الكعبين، الثابتة عند المشي، رخصة لمن شاء إذا لبسهما على طهارة، والمدة في ذلك كالمدة في المسح على الخفين: ثلاثة أيام بلياليها في السفر (72 ساعة)، ويوم وليلة في الحضـر(24 ساعة)، لا تخلعان إلا من جنابة، ذهب إلى ذلك عدد من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين، منهم:

o  اثنا عشر صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ابن المنذر منهم تسعة، هم أبو بكر، وعمر، وابن عباس، وأبو مسعود، وابن عمر، وأنس، وعمار بن ياسر، وبلال، والبراء، وأبو أمامة؛ وسهل بن سعد، وابن أبى أوفى.

o   ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء، والنخعي، والأعمش.

o  ومن الأئمة: سفيان الثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وزفر، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبي أبي حنيفة رحمهم الله.

استدل هذا الفريق بالآتي :

o  بما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين".

o وعن أبي موسى الأشعـري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه مسـح على الجـوربين".

o  قال أبو داود بعد روايته لهذين الحديثين: (ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وأبو مسعود، والبراء بن عـازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس).

o وأورد ابن أبي شيبة في مصنفه عدداً من الآثار عن الصحابة والتابعين على جواز المسح على الجوارب، منها:

أن أبا مسعود البدري كان يمسح على الجوربين.

عن عقبة بن عمرو أنه مسح على جوربين من شعر.

قال الحسن وسعيد بن المسيب : يمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين.

عن إبراهيم النخعي أنه كان يمسح على الجوربين.

عن أنس أنه كان يمسح على الجوربين.

وعن أبي غالب قال : رأيت أنس يمسح على الجوربين.

وعن عطاء قال : المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفين.

وعن ابن عمر قال: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين.

2. المسح على الجوربين لا يجوز إلا إذا كانا منعلين ـ يعني يمسح عليهما مع النعال، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول لمالك رحمهم الله.

واستدل هذا الفريق بعدد من الآثار، منها ما رواه البيهقي في سننه، وهي:

عن عبد الله بن كعب يقول: رأيت علياً بال ثم مسح على الجوربين والنعلين.

وعن خالد بن سعيد يقول: رأيت أبا مسعود الأنصاري يمسح على الجوربين والنعلين.

وعن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: رأيت البراء بن عازب بال ثم توضأ فمسح على الجوربين والنعلين ثم صلى.

قال ابن عبد البر: (ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك، ولمالك قول آخر: لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين).

3.  لا يمسح على الجوربين ولو كانا مجلدين، وهذا مذهب مالك ومن وافقه.

قال النووي رحمه الله وهو يتحدث عن مذاهب العلماء في المسح على الجورب: (الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه، وإلا فلا، وحكى ابن المنذر إباحة المسح على الجورب عن تسعة من الصحابة، قال: وكره ذلك مجاهد، وعمرو بن دينار، والحسن بن مسلم، ومالك، والأوزاعي، وحكى أصحابنا جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً؛ وحكوه عن أبي يوسف، ومحمد، وإسحاق، وداود، وعن أبي حنيفة المنع مطلقاً وعنه أنه رجع إلى الإباحة؛ واحتج من منعه مطلقاً بأنه لا يسمى خفاً فلم يجز المسح عليه كالنعل؛ واحتج أصحابنا بأنه ملبوس يمكن متابعة المشي عليه ساتر لمحل الفرض فأشبه الخف، ولا بأس بكونه من جلد أو غيره بخلاف النعل فإنه لا يستر محل الفرض؛ واحتج من أباحه وإن كان رقيقـاً بحديث المغيـرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "مسح على جوربيه ونعليه"، وعن أبي موسى مثله مرفوعاً، واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة؛ والجواب عن حديث المغيرة من أوجه أحدها أنه ضعيف، ضعَّفه الحفاظ، وقد ضعَّفه البيهقي؛ ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومسلم بن الحجاج، وهؤلاء أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قُدِّم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة).

وقال ابن قدامة رحمه الله: (إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرهما في الخف: أحدهما أن يكون صفيقـاً، لا يبدو منه شيء من القدم؛ الثاني أن يمكِّن من متابعة المشي فيه، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس؛ وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب؛ وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء، ولا يعتبر أن يكونا مجلدين.

إلى أن قال: وقد سئل أحمد عن جورب الخرق، يمسح عليه؟ فكره الخرق؛ ولعل أحمد كرهها، لأن الغالب عليها الخفـة، وأنها لا تثبت بأنفسها؛ فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت، فلا فرق؛ وقد قال أحمد في موضع: لا يجزئه المسح على الجورب، حتى يكون جورباً صفيقاً، يقوم قائماً في رجله، لا ينكسر مثل الخفين، إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف، يقوم مقام الخف في رجل الرجل، يذهب فيه الرجل ويجيء).

والذي يترجح لدي أن المسح على الجوربين جائز ورخصة كما قال أصحاب المذهب الأول لمن شاء أن يسمح عليـه، بالشرطين السابقين:

1.  أن يكونا صفيقين.

2.  أن يثبتا حال المشي ولا ينثنيان بحيث ينكشف الكعبان.

والأدلة على ذلك حديث المغيرة بن شعبة الذي صحَّحه الإمام الترمذي، وعمل العديد من الصحابة، منهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين: أبو بكر، وعمر، وعلي، ومنهم حبر الأمة ابن عباس، رضي الله عن الجميع، فلا ينبغي لأحد أن يحرِّج على أحد اقتدى بأحد عشر من الصحابة، وبعدد من الأئمة الأعلام؛ وهذه الرخصة لا يعرف قيمتها إلا من يعيش في البلاد الباردة، والبلاد التي يغطي فيها الجليد الأرض عدداً من شهور العـام، ويزيد عمق الجليد في بعضها عن المترين، وتبلغ درجة الحرارة في بعضها خمسين درجة تحت الصفر؛ فلك أخي أن تكره لنفسك ما تشاء، ولكن الحذر كل الحذر أن تضيِّق على الناس ما وسِّع عليهم، فأنت لست أفقه، ولا أعلـم، ولا أحرص على هذه الأمـة، من أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وَسِعَ الأمر من هو خير منا أفلا يسعنا نحن؟!

ã

ثانياً : المسح على العمامة

ذهب أهل العلم كذلك في المسح على العمامة ثلاثة مذاهب هي:

1. المسح على العمامة المخالفة لعمامة الكفار بالذؤابة، أوبالتحنيك، المغطية لمعظم الرأس جائز ورخصة لمن شاء، إذا لبسها على طهارة؛ وهذا ما ذهب إليه عدد من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين، منهم: أبوبكر الصديـق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وأبوأمامة، وأبوالدرداء رضي الله عنهم، ومن التابعين وتابعيهم عمر بن عبد العزيز، ومكحول، والحسن، وقتـادة، والأوزاعي، والثـوري، وأحمـد، وإسحـاق، وأبو ثور، ومحمد بن جرير، وداود بن علي الظاهري.

واستدل هؤلاء بالآتي:

   بحديث بلال رضي الله عنه قـال: رأيت رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "مسح على الخفين والخمار".

وبحديث عمر بن أمية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمسح على عمامته وخفيه".

وعن ثوبان قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين".

وعن بلال رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه".

2. لا يمسح على العمامة إلا مع الناصية: يمسح ناصيته ويتم على العمامة، وهذا ما ذهب إليه: علي، و جابر، وابن عمر من الصحابة، ومن التابعين وتابعيهم: عروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي، والقاسم، ومالك، وأصحاب الرأي.

3. لا يمسح على العمامة، لا مع الناصية ولا مفردة، لعدم وجود مشقة في مسحها؛ وهذا هو القول الثاني لمالك.

قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أصحابنا: إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعذر ولغير عذر مسح الناصية كلها ويستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أوحدث، ولو كان على رأسه قلنسوة ولم يرد نزعها فهي كالعمامة فيمسح بناصية، ويستحب أن يُتمَّ المسح عليها... وهكذا حكم ما على رأس المرأة؛ و أما إذا اقتصر على مسح العمامة ولم يمسح شيئاً من رأسه فلا يجزيه بلا خلاف عندنا. وهو مذهب أكثر العلماء، كذا حكاه الخطابي والماوردي عن أكثر العلماء، وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي، والقاسم، ومـالك، وأصحاب الرأي، وحكاه غيره عن علي بن أبي طالب، وجابر، وابن عمر رضي الله عنهم؛ وقالت طائفة: يجوز الاقتصار على العمامة؛ قاله سفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، ومحمد بن جرير، وداود؛ قال ابن المنذر: ممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه قال عمر، وأنس بن مالك، وأبو أمامة؛ وروي عن سعد بن أبي وقاص، وأبي الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والحسن، وقتادة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، ثم شرط بعض هؤلاء لبسها على طهـارة، وشرط بعضهم كونها محنكة، أي بعضها تحت الحنك ، ولم يشترط بعضهم شيئاً من ذلك.

ثم قال في جواب الأحاديث السابقة التي استدل بها الفريق الأول بأجوبة لا يوافَق عليها: فالجواب أنه ثبت بالقرآن وجوب مسح الرأس وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية فكان محتملاً لموافقة الأحاديث الباقية ومحتملاً لمخالفتها فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أولى).

قلت : هذه الأجوبة فيها نظر، ومسح العمامة رخصة مثل المسح على الخفين، وقد ثبت هذا بالأحاديث الصحيحة الصريحة وفعل ذلك كبار الصحابة.

وقال ابن قدامة رحمه الله: (ويجوز المسح على العمامة؛ ثم ذكر ما قاله ابن المنذر وما نقله النووي من قبل، وقال راداً على حجج المانعين من ذلك: لا يمسح عليها لقول الله تعالى: "وامسحوا برؤوسكم"، ولأنه لا تلحقه مشقة في نزعها، فلم يجز المسح عليها كالكمين؛ ولنا ما روى المغيرة بن شعبة قال : توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح؛ وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : مسح على الخفين والخمار؛ قال أحمد: هو من خمسة وجوه عن النبي؛ روى الخلال بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من لم يطهِّره المسحُ على العمامة فلا طهَّره الله؛ ولأنه حائل في محل ورد الشرع بمسحه، فجاز المسح على حائله كالقدمين، والآية لا تنفي ما ذكرناه فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّن لكلام الله مفسِّر له، وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم على العمامة وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على المراد من الآية المسح على الرأس أو حائله، ومما يبين ذلك أن المسح في الغالب لا يصيب الرأس وإنما يمسح على الشعر، وهو حائل بين اليد وبينه، فكذلك العمامة، فإنه يقال لمن لمس عمامته أو قبلها ، قبل رأسه ولمسه؛ وكذلك أمر بمسح الرجلين واتفقنا على جواز مسح حائلهما).

والذي يترجح لدي أن الاقتصار على المسح على العمامة جائز إذا توفرت فيها الشروط الآتية:

1. أن تغطي جميع الرأس أوجله، قصيرة كانت أم طويلة.

2. أن يلبسها على طهارة.

3. أن تخالف عمامة الكفار بأن تكون لها ذؤابة أومحنكة، ولو خالفت الكفار بالذؤابة والتحنيك فهو أفضل، فقد وردت آثار تأمر بالتلحي وتنهى عن الاقتعاط، وهو أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.

وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء، فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقية؟

ã

ثالثاً : المسح على الخمار

اختلف أهل العلم في المسح على الخمار بين مجوز ومانع، والراجح جواز ذلك للأحاديث السابقة ولما صح أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تمسح على خمارها.

ã

تنبيه

1. إذا نزع العمامة، أوطاحت من رأسه، أوخلع الجوربين، أونزعت المرأة خمارهـا، بطل الوضوء.

2. مدة المسح على العمامة والخمار كمدة المسح على الخف: ثلاثة أيام ولياليها للمسافـر، ويوم وليلة للمقيم، إن لم ينزعا؛ إلا إذا أجنب فإنها تنزع ويمسح على الرأس.

1.  يمسح ظاهر الخف دون باطنه، يضع يده اليمنى على رجله اليسرى، واليسرى على اليمنى، لما صح عن علي رضي الله عنه: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه".27

----------------------

صلاة الضحى

عدد ركعاتها

صفتها

وقتها

حكمها

الأدلة على سنية صلاة الضحى

الحكمة في عدم مواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الضحى

قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أنها بدعة لا يدفع سنية ومشروعية صلاة الضحى

ما يستحب أن يقرأ فيها

 

الحمد لله الذي لم يخلق العباد عبثاً، ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لعبادته، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، فبينوا لهم دين الله القويم، وصراطه المستقيم، وتركوهم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

من رحمة الله بعباده، وفضله وامتنانه، أن كثر وعدد لهم طرق الخير، وأسباب الرضى والقبول، ويسَّـر كل إنسان لما خلق له، وفضل بعض الأعمال على بعض، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يصبح على كل سُلامى1 من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".2

وبعد ..

فإن صلاة الأوابين فعلها يسير، وفضلها كبير، وثوابها جزيل، ولو لم يكن لها فضل إلا أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان كل يوم لكفاها فضلاً ، وزاد المرء عليها حرصـاً ، فما صفة هذه الصلاة ؟ وكم عدد ركعاتها؟ وما حكمها وأفضل أوقاتها؟ وما يتعلق بها؟ هذا ما نود الإشارة إليه في هذه العجالة ، فنقول وبالله التوفيق:

ã

عدد ركعاتها

أقل صلاة الضحى: ركعتان.

أفضلها: أربع ركعات، مثنى مثنى.

أكثرها: ثمان ركعات، وقيل اثنتا عشرة ركعة، وقيل لا حدَّ لأكثرها.

خرج البخاري في صحيحه بسنده قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: "ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات"3، وعن عائشة عند مسلم: "كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء"، وعن نعيم بن همار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: ابن آدم، لا تعجزني من أربع ركعات من أول نهارك أكفك آخره".4

وعن جابر عند الطبراني في الأوسط كما قال الحافظ في الفتح5: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات"، وعن أنس مرفوعاً: "من صلى الضحى ثنتي عشرة بنى الله له بيتاً في الجنة".6

قال النووي رحمه الله: (أقلها ركعتان، وأكثرها ثمان ركعات، هكذا قاله المصنف7 والأكثرون، وقال الروياني والرافعي وغيرهما: أكثرها ثنتي عشرة ركعة، وفيه حديث ضعيف.. وأدنى الكمال أربع، وأفضل منه ست، قال أصحابنا: ويسلم من كل ركعتين، وينوي ركعتين من الضحى).8

ã

صفتها

كان صلى الله عليه وسلم يخفف فيها القراءة، مع إتمام الركوع والسجود، فهي صلاة قصيرة خفيفة، فعن أم هانئ رضي الله عنها في وصفها لصلاته لها: "... فلم أر قط أخَـفًّ منها، غير أنه يتم الركوع والسجود".9

وفي رواية عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: "لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجـوده، كل ذلك يتقارب".10

قال الحافظ: (واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم الضحى، فطوَّل فيها أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة).11

ã

وقتها

من ارتفاع الشمس إلى الزوال.

أفضل وقتها

عندما ترمض الفصال، لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال".12

قال النووي رحمه الله: (تَرْمَض بفتح التاء والميم، والرمضاء الرمل الذي اشتدت حرارته من المشمس أي حين يبول الفصلان من شدة الحر في أخفافها).

وقال: قال صاحب الحاوي: وقتها المختار: إذا مضى ربع النهار).13

ã

حكمها

صلاة الضحى سنة مؤكدة، وهذا مذهب الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة مندوبة.

قال مؤلف سبيل السعادة14 المالكي عن صلاة الضحى: (سنة مؤكدة عند الثلاثة ، مندوبة عند أبي حنيفة)، وقال النووي: (صلاة الضحى سنة مؤكدة).15

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وجمع ابن القيم في الهدي16 الأقوال في صلاة الضحى فبلغت ستة)17، ملخصها:

1.  مستحبة.

2.  لا تشرع إلا لسبب.

3.  لا تستحب أصلاً.

4.  يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايات عن أحمد.

5.  تستحب صلاتها والمواظبة عليها في البيوت.

6.  أنها بدعة.

والراجح ما ذهب إليه الجمهور أنها سنة مؤكدة، لما يأتي من الأدلة.

ã

الأدلة على سنية صلاة الضحى

الأدلة على سنية صلاة الضحى كثيرة، نذكر منها ما يأتي:

1.  حديث أم هانئ السابق :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات" الحديث.18

2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر".19

3. وعن عائشة رضي الله عنهـا قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله".20

4. وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: "أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه".21

5. وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه: "رأى قوماً يصلون الضحى، فقال: لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعـة أفضل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال".22

6. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها".23

7. وفي رواية عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم".24

8. وقد وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر وأبا الدرداء، كما وصى أبا هريرة رضي الله عنهم.

9. وحديث أبي هريرة السابق: "يصبح على كل سلامى.." الحديث.

قال الحافظ ابن حجر: (وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، وذكر لغالب هذه الأقوال مستنداً، وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتهـا نحو العشرين نفساً من الصحابة).25

ã

الحكمة في عدم مواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الضحى

العلة والحكمة في عدم مواظبته ومداومته على صلاة الضحى هي نفس العلة التي من أجلها لم يداوم على صلاة التراويح في جماعة، وهي خشية أن تفرض على الأمة، وكان يحب لأمته التخفيف، وبهذا يُجمع بين الأحاديث التي وردت في فضلها والآثار التي نفت مداومته صلى الله عليه وسلم عليها.

قال النووي رحمه الله: ( قال العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على الأمة فيعجزوا عنها كما ثبت هذا في الحديث26، وكان يفعلها في بعض الأوقات كما صرحت به عائشة في الأحاديث السابقة، وكما ذكرته أم هانئ، وأوصى بها أبا الدرداء وأبا هريرة. وقول عائشة: "ما رأيته صلاها"، لا يخالف قولها: "كان يصليها"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكون عندها في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، لأنه صلى الله عليه وسلم في وقت يكون مسافراً وفي وقت يكون حاضراً، وقد يكون في الحضر في المسجد وغيره، وإذا كان في بيته فله تسع نسوة، وكان يقسم لهن، فلو اعتبرت ما ذكرناه لما صادف وقت الضحى عند عائشة إلا في نادر من الأوقات، وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة، فقالت: "ما رأيته"، وعملت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره صلى الله عليه وسلم أوبإخبار غيره، فروت ذلك، فلا منافاة بينهما).27

وقال الحافظ ابن حجر: (وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه).28

ã

قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أنها بدعة لا يدفع سنية ومشروعية صلاة الضحى

خرَّج البخاري في صحيحه عن مُوَرِّق العجلي قال: "قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أتصلي الضحى؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا؟ قلت: فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله".29

وعن أبي بكرة وقد رأى ناساً يصلون الضحى فقال: "إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه".30

وعن قيس بن عبيد قال: كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها، فما رأيته مصلياً الضحى.

وقال الشعبي: سمعت ابن عمر يقول: "ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى".

قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على الأحاديث والآثار التي وردت في صلاة الضحى نفياً وإثباتاً: (فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق، منهم من رجح رواية الفعل على الترك، بأنها مثبتة تتضمن زيادة علم خفيت على النافي، وقالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس، ويوجد عند الأقل، قالوا: وقد أخبرت عائشة، وأنس، وجابر، وأم هانئ، وعلي بن أبي طالب أنه صلاها، قالوا: ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوصية بها، والمحافظة عليها، ومدح فاعلها، والثناء عليه).31

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره... وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الشعبي عن ابن عمر قال: "ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف بالبيت"، أي فأصلي في ذلك الوقت، لا على نية صلاة الضحى، بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معاً، وقد جاء عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك في وقت خاص، كما سيأتي بعد سبعة أبواب من طريق نافع أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا يوم يقدم مكة، فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف بالبيت ثم يصلي ركعتين، ويوم يأتي مسجد قباء.

إلى أن قال:

وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر32 ما يدفع مشروعية صلاة الضحى، لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة... قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المسجد وصلاتها جماعة، لأنها مخالفة للسنة، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يصلونها فأنكر عليهم، وقال: إن كان ولابد ففي بيوتكم).33

مما سبق يتضح لنا الآتي:

1. أن قول ابن عمر وابن مسعود ومن وافقهما أنها بدعة يُراد بذلك البدعة اللغوية لا البدعة الشرعية، بدليل استحسانهما لها، وقولهما هذا شبيه بقول عمر عندما جمع الناس على صلاة القيام واعترض عليه أبي بن كعب بأنها بدعة، فقال: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة هي".

2. أن اعتراض المعترضين ليس على أصل صلاة الضحى وإنما على الصفة التي كانت تؤدى بها، إما في جماعة، أوفي المسجد، وإما عقب الشروق مباشرة، وإما لسبب آخر، والله أعلم.

3. اعتراضهم هذا يدل على أن صلاة الضحى ليست من السنن الرواتب قبل ودبر الصلوات، وإنما هي سنة مؤكدة تؤدى في البيوت.

4. اعتراضهم هذا قائم على عدم مواظبة ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وسبب عدم المواظبة كما ذكرنا خشيته أن تفرض عليهم ثم لا يطيقونها .

5. أن كلاً يؤخذ من قوله ويترك مهما كانت مكانته وعلمه ومنزلته، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

6. من أقوى ما يدل على سنية صلاة الضحى والمحافظة عليها وصيته صلى الله عليه وسلم لثلاثة من خيار أصحابه المشمِّرين للعبادة: أبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وإجزاؤها عن صدقة المفاصل في كل يوم: "يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة.." الحديث.

ã

ما يستحب أن يقرأ فيها

قال الحافظ ابن حجر: (روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسور منها والشمس وضحاها، والضحى"، ومناسبة ذلك ظاهرة جداً).34

واللهَ أسأل أن ييسرنا لليسرى، وأن ينفعنا بالذكرى، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمـة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

---------------------

صلاة المريض

طهارة المريض حسب الطاقة

كيفية صلاة المريض

كيفية القعود

كيفية الصلاة على جنب

أكمل الركوع وأقله

أكمل السجود

السجود على مخدة أو على شيء مرتفع من الأرض

إذا افتتح الصلاة قائماً ثم عجز

من كان في ظهره علة

من كان بظهره علة تمنعه من الانحناء دون القيام

صلاة الجماعة للمريض

من بعينه وجع أو أجريت له عملية  وأمره طبيب موثوق بدينه وطبه أن يصلي مستلقياً

الجمع  للمريض

 

الحمد لله الذي جعل الصلاة على المؤمنين كتاباً موقوتاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله القائل: "بين الرجل وبين الكفر" وفي رواية "وبين الشرك ترك الصلاة".

ولهذا كان آخر ما وصى به أمته وهو مفارق لهذه الحياة: "الصلاة وما ملكت أيمانكم".

فالصلاة المكتوبة لا ترفع عن حي بالغ عاقل قط، إلا عن الحائض و النفساء حال الحيض والنفاس، ولهذا قال الله على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام: "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً".

من أجل ذلك مدح الله عباده المؤمنين بالمداومة والمحافظة على الصلاة بقوله: "إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون... والذين هم على صلاتهم يحافظون".

وذم الساهين عنها المفرطين فيها بقولـه: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون".

فعليك أخي المسلم أن تؤدي الصلاة المكتوبة في الوقت المكتوب لها بالكيفية التي تستطيعها, في حال الصحة والمرض والحضر والسفر، طالما أنك حاضر العقل، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يحل لك أن تؤخرها بحجة المرض أوعدم التمكن من طهارة الحدث والخبث عن وقتها المحدد، فإن فعلت فأنت تارك للصلاة متعمداً، كيف لا وقد أمر الله بأدائها في حال احتدام القتال ومقارعة السيوف سواء كان مستقبل القبلة أومستدبرها راكباً أو راجلاً، قال تعالى: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً".

قال ابن عمر رضي الله عنهما: "مستقبلي القبلة و غير مستقبليها".

وروى نافع عن ابن عمر قال: "إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكباً وقائماً يومئ إيماءاً"، قال الشافعي رحمه الله: "ولا بأس أن يضرب الضربة ويطعن الطعنة" وهو في الصلاة ولا تبطل صلاته.

وبعد...

فهذا بحث مختصر عن كيفية صلاة المريض، كتبته تذكيراً لنفسي ونصحاً لإخواني المسلمين بعظم قدر الصلاة وخطورة التهاون فيها في حال المرض، وقد دفعني لذلك تهاون كثير من المرضى في السودان خاصة بأداء الصلاة المكتوبة سيما لو كان منوماً بمستشفى لإجراء عملية، حيث يترك البعض الصلاة إلى أن يخرج من المستشفى كأنه ضمن أنه سيخرج سليماً ليقضي هذه الصلوات، ولو ضمن ذلك لما حل له أن يؤخر صلاة واحدة عن وقتها إلا في حال ذهاب العقل بإغماء أوجنون أوتخدير، وجهلهم كذلك بكيفية صلاة المريض العاجز عن القيام والركوع والسجود وعن تحقيق طهارة الحدث والخبث.

إن من أوجب الواجبات على أولياء المرضى الملازمين لهم في البيوت والمستشفيات، وعل الأطباء والممرضين في المستشفيات تنبيه المرضى المنوَّمين عندهم وتذكيرهم بالصلاة وبدخول أوقاتها، وإعانتهم على الطهارة ومساعدتهم، وهذا أهم من تناول جرعات الدواء في أوقاتها المحددة، وعلى إدارات المستشفيات أن تحدد القبلة في كل العنابر وغرف المنومين، وأن تعمل وتضع الملصقات التي تبين كيفية صلاة المريض العاجز عن القيام والقعود في الصلاة، وما شاكل ذلك، وهذا من باب النصيحة الواجبة لعامة المسلمين.

فالعجب كل العجب من اهتمام أولياء المرضى بإحضار كل ما يحتاجه المريض من دواء و طعام وغير ذلك وتهاونهم في تذكير المريض وتنبيهه وحمله على أداء الصلاة في وقتها بالكيفية التي يستطيعها، والصبر على ذلك، كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك".

وأمرنا بأن نقي أنفسنا وأهلينا النار، فقال: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد".

وعليك أن تقارن أخي الكريم بين حرص السلف الصالح في هذه الشأن وبين تفريطنا اليوم فيه، يقول ابن عباس رضي الله  عنهما: "لما طُعن عمر رضي الله عنه  احتملته أنا ونفر من الأنصار حتى أدخلناه منزله، فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر، فقلنا: الصلاة يا أمير المؤمنين! ففتح عينيه، فقال: أصلى الناس؟! قلنا: نعم، قال: إما إنه لا حظ في الإسلام لأحد ترك الصلاة، فصلى، وجرحه يثعب دماً".

وفي رواية: فقال رجل: "إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة" وذكر باقي الحديث.

اللهم اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل من صلى وصام وقام ونام وعلى آله وصحبه الغر الكرام.

ã

طهارة المريض حسب الطاقة

من شروط صحة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، للبدن والملابس وموضع الصلاة، فمن استطاع أن يتطهر بالماء فليفعل، فإن كانت به جروح وكسور مجبرة أو مجبسة غسل الأعضاء السليمة في الوضوء والغسل ومسح على الجبائر والجبس، فإن عجز المريض عن استعمال الماء أوفقده انتقل إلى الطهارة الترابية، إلى التيمم بالتراب، فإن عجز عن استعمال الماء والتراب صلى بدون طهارة، ولا إعادة عليه.

وكذلك الأمر بالنسبة لطهارة البدن والملابس وموضع الصلاة، فإن استطاع أن يطهرها فعل، وإلا صلى على حاله مع خروج الغائط والبول منه، فقد صلى عمر رضي الله عنه  كما سلف ودمه يسيل منه وثيابه كلها ملطخة بالدم.

قال في تهذيب المدونة للبراذعي: (وجائز أن يصلي المريض على فراش نجس إذا بسط عليه ثوباً طاهراً كثيفاً).

تنبيه

مقطوع اليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين والأذنين أوعديمهما أووحيدهما غسل أومسح على الباقي وصلى.

ã

كيفية صلاة المريض

يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يستطع فعلى جنب الأيسر، فإن لم يستطع صلى مستلقياً على ظهره، فإن لم يستطع أومأ برأسه، فإن لم يستطع أشار بيده، فإن لم يتذكر لُقن، وهكذا، فإن عجز عن الإشارة بيده أومأ بطرفه، فإن عجز أجرى أفعال الصلاة على قلبه، فإن حبس لسانه وجب أن يجري القرآن والأذكار الواجبة على قلبه كما يجري الأفعال.

هذا ما عليه العامة، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن من عجز عن الإيماء بالرأس سقطت الصلاة عنه، قال: وإن شفي فعليه القضاء؛ وهذا قول شاذ، لأن الصلاة لا ترفع عن أحد إلا إذا ذهب عقله، ورحم الله أبا حنيفة عندما قال: هذا رأيي فمن جاءني برأي خير منه قبلته، والحمد لله الذي لم يجعل في الخلاف المجرد عن الدليل حجة.

وإليك الأدلة

1.  عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شـاكٍ، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف، قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا".

2.  وعن أنس رضي الله عنه قال: "سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس فخدش ـ أوفجحش ـ بشقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى قاعداً فصلينا قعوداً".

3.  وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: "كانت بي بواسير ـ وفي رواية ناسور ـ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب".

4.  وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال: من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد"؛ قال أبو عبد الله البخاري: إنما عندي مضطجعاَ هاهنا.

5.  وعن ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبراني: "يصلي قائماً فإن نالته مشقة فجالساً، فإن نالته مشقة صلى نائماً".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قال الخطابي ـ معلقاً على حديث عمران ـ لعل هذا الكلام كان جواب فتيا استفتاها عمران، وإلا فليست البواسير بمانعة عن القيم في الصلاة على ما فيها من الأذى، انتهى. ولا مانع من أن يسأل عن حكم ما لم يعلمه لاحتمال أن يحتاج إليه فيما بعد، قوله "فإن لم يستطع" استدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام، وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق: لا يشترط العدم بل وجود المشقة، والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام، أوخوف زيادة المرض أوالهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة، ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة وغيره).

ã

كيفية القعود

ذهب أهل العلم في أفضل كيفية لقعود المريض في الصلاة إن عجز عن القيام، بعد أن اتفقوا على جواز أي كيفية  شاء، مذاهب هي:

1. يصلي متربعاً، هذا مذهب مالك، والثوري، والليث، وأحمد، وإسحاق، وقول للشافعية وصاحبي أبي حنيفة.

2. يصلي مفترشاً، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة.

3. يصلي متوركاً.

4. كيف شاء.

قال البراذعي في تهذيب المدونة: (وصلاته ـ أي المريض جالساً ممسوكاً به أحب إلي من المضطجع، ولا يستند إلى حائض ولا جنب).

واختلف العلماء كذلك على قولين: هل صلاته قائماً مع اقتصاره على الفاتحة أفضل؟ أم قاعداً مع قراءة الفاتحة والسورة؟

يبدو لي والله أعلم أن قيامه مع اقتصاره على الفاتحة أفضل من قعوده والإتيان بالفاتحة، لأنه إذا قام أتى بالركن وإذا لم يقرأ السورة ترك سنة.

ã

كيفية الصلاة على جنب

من عجز عن القيام والقعود وصلى على جنب ذهب أهل العلم في استقباله القبلة للآتي:

1.  يستقبل القبلة بوجهه على جنبه الأيمن فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيسر ومقدم بدنه كالميت في اللحد، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود، وهو مروي عن عمر وابنه، وهو الراجح.

2.  يستلقي على ظهره ويستقبل القبلة برجليه، ويرفع رأسه بشيء إلى أعلى وهذا مذهب أبي حنيفة ووجه للشافعية.

3.  يضطجع على شقه الأيمن ويعطف أسفل قدميه إلى القبلة.

ã

أكمل الركوع وأقله

أكمل الركوع لمن قدر عليه هو أن ينحني بحيث توازي جبهته ما وراء ركبتيه من الأرض.

وأقل الركوع أن ينحني بحيث توازي جبهته موضع سجوده.

ã

أكمل السجود

أن يسجد على سبعة أعضاء: الجبهة والأنف و الكفين والركبتين والقدمين.

ومن لم يتمكن من السجود على الأرض سجد على صدغه الأيمن أو الأيسر.

وإن عجز عن ذلك أتى بالممكن من الركوع والسجود بحيث يجعل الركوع أدنى من السجود.

ã

السجود على مخدة أو على شيء مرتفع من الأرض

أجازه طائفة منهم أم سلمة، فقد روى البيهقي عنها أنها سجدت على مخدة لرمد بها ، ومنع منه آخرون.

قال في تهذيب المدونة: (فإن قدر أن يسجد على الأرض سجد، وإلا أومأ بظهره ورأسه، ولا يرفع إلى جبهته شيئاَ يسجد عليه، ولا ينصب بين يديه شيئاً يسجد عليه، فإن فعل وجهل ذلك لم يعد).

و الراجح فعل ذلك لفعل أم سلمة رضي الله عنها، والله أعلم.

ولو ركع المصلي فعجز عن الاعتدال لعلة سقط عنه الاعتدال وخر ساجداً، ولو زالت العلـة قبل الشروع في السجود لزمه الاعتدال، وإن زالت العلة في السجود لم يلزمه الاعتدال.

ã

إذا افتتح الصلاة قائماً ثم عجز

قعد و أتم صلاته، وكذلك الأمر إن عجز عن القعود، اضطجع وأتم صلاته ولا شيء عليه.

والعكس إذا افتتح الصلاة قاعداً ثم قدر على القيام قام وأتم صلاته، وكذلك إن افتتحها مضطجعاً ثم قدر على القعود قعد وأتم صلاته.

ã

من كان في ظهره علة

من كان في ظهره علة تمنعه من الركوع والسجود، ولكنها لا تمنعه من القيام لزمه القيام، ويركع ويسجد حسب الطاعة.

ã

من كان بظهره علة تمنعه من الانحناء دون القيام

حنى صلبه، فإن لم يستطع حنى رقبته ورأسه، وإن احتاج أن يميل إلى شقه الأيمن أوالأيسر أوإلى أي شيء فعل.

وإن لم يستطع الانحاء أصلاً أومأ إلى الركوع والسجود.

ã

من تقوس ظهره لزمانة أو كبر أو عاهة و صار كالراكع

لزمه القيام حسب الطاقة، وزاد في الانحناء في الركوع، وقيل يلزمه أن يصلي قاعداً، والراجح الأول، لأن هذا استطاعته.

ã

صلاة الجماعة للمريض

إن استطاع المريض أن يصلي مع جماعة المسلمين في المساجد فعل ، وإن لم يستطع فعليه أن يصلي مع جماعة المرضى، أو من يقدر منهم .

واختلف العلماء أيهما أفضل للمريض أن يصلي قائماً منفرداً ويخفف القراءة أم يصلي مع الجماعة وإن احتاج إلى القعود قعد على قولين، والراجح من قولي العلماء أن يصلي مع الجماعة وإن احتاج إلى القعود قعد، لفضل صلاة الجماعة، ولأن هذه طاقته.

ã

من بعينه وجع أو أجريت له عملية  وأمره طبيب موثوق بدينه وطبه أن يصلي مستلقياً

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:

1.  يفعل ولا يعيد لخوف الضرر وذهاب البصر، وهذا مذهب الجمهور وهو الراجح لتحصيل أخف الضررين.

2. لا يفعل، وهذا مذهب أم سلمة، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس من الصحابة، ومالك من الأئمة.

3. يفعل ويعيد.

استدل المانعون لذلك كما قال النووي في المجموع بما رواه البيهقي بسند صحيح عن عمرو بن دينار قال: (لما وقع في عين ابن عباس الماء أراد أن يعالج منه فقيل تمكث كذا وكذا لا تصلي إلا مضطجعاً فكرهه؛ وفي رواية قال ابن عباس للمداوي: أرأيت إن كان الأجل قبل ذلك؟!

وأما ما رواه البيهقي عن أبي الضحى بإسناد ضعيف أن عبد الملك أوغيره بعث إلى ابن عباس بالأطباء على البرد وقد وقع الماء في عينيه، فقالوا: تصلي سبعة أيام مستلقياً على قفاك فسأل أم سلمة وعائشة عن ذلك فنهتاه. وفي رواية: أنه استفتى عائشة وأبا هـريرة، قال النووي: أنكره بعض العلماء وقال: هذا باطل من حيث أن عائشة وأم سلمة توفيتا قبل خلافة عبد الملك بأزمان. وهذا الإنكار باطل فإنه لا يلزم من بعثه أن يبعث في زمن خلافته، بل بعث في خلافة معاوية وزمن عائشة وأم سلمة، ولا يستكثر بعث البرد من مثل عبد الملك فإنه كان قبل خلافته من رؤساء بني أمية وأشرافهم وأهل الوجاهة والتمكن وبسطة الدنيا فبعث البرد ليس يصعب عليه ولا على من دونه بدرجات والله أعلم).

قال البراذعي في المالكي في تهذيب المدونة: (ويكره لمن يقدح الماء في عينيه أن يصلي مستلقياً على ظهره اليومين و نحوها فإن فعل أعاد أبداً).

وقال النووي رحمه الله: (قال أصحابنا إذا كان قادراً على القيام فأصابه رمد أوغيره من وجع العين أوغيره، وقال له طبيب موثوق بدينه ومعرفته إن صليت مستلقياً أومضطجعاً أمكن مداواتك وإلا خيف عليك العمى فليس للشافعي في المسألة نص ولأصحابنا فيها وجهان مشهوران.. أصحهما عند الجمهور يجوز له الاستلقاء والاضطجاع ولا إعادة عليه، والثاني لا يجوز، وبه قال الشيخ أبوحامد والبندنيجي ودليلهما في الكتاب ولو قيل له: إن صليت قاعداً أمكنت المداواة قال إمام الحرمين: يجوز القعود قطعاً... وممن جوز له الاستلقاء في أصل المسألة من العلماء أبوحنيفة؛ وممن منعه عائشـة، وأم سلمة، ومالك، والأوزاعي).

ã

الجمع  للمريض

يجوز للمريض إن تعذر عليه أن يصلي كل صلاة لوقتها أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب في أي ساعة من وقتهما المشترك هذا، وبين صلاتي المغرب والعشاء في أي ساعة من وقتهما من الغروب إلى قبيل طلوع الفجر، ويصلي الصبح في وقته، من طلوع الشمس إلى قبيل الشروق.

--------------------

الجهاد بالنفس في سبيل الله

   ذروة سنام الإسلام

   ماضٍ إلى يوم القيامة مع كل إمام، براً كان أم فاجراً

   أقصر الطرق إلى الجنة

   ليس هناك عمل يعدل الجهاد بالنفس

   الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون

الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وبه عزه ونصره، ولهذا أوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة إلى أن تنقضي العدتان، مع كل بر وفاجر: "...والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل"، وفي رواية: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أم فاجراً"، قال الشاطبي: (وكذلك الجهاد مع ولاة الجور، قال العلماء بجوازه، قال مالك: لو ترك ذلك لكان ضرراً على المسلمين، فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضرورة، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم).

ومن بركة الجهاد أن الله سبحانه وتعالى ينصر به الدين ولو كان المجاهد فاجراً، لما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر"، قال ذلك لرجل قاتل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فلم يصبر عليها فقتل نفسه؛ واعلم أخي الكريم أنه ليس هناك عمل يعادل الجهاد، كما صح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؛ قال: لا أجده؛ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟".

واعلم أخي الكريم أن الجهاد أقصر الطرق إلى الجنة، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، كما أخبر الصادق المصدوق، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأنه ما من أحد يود الرجوع إلى الدنيا بعد أن عافاه الله من نكدها ومنغصاتها بدخوله الجنة إلا الشهيد؛ واحذر أخي العازم على الغزو والجهاد الآتي:

   أن تقاتل أو تغزو لأي غرض سوى أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فقد صح عن رسولك الذي أوتي جوامع الكلم، وقد سئل عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

   أن يؤتى إخوانك المسلمون من قبلك بتقصيرك وتفريط منك.

   الفرار من الزحف فهو من الكبائر العظائم، إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، أو كان العدو أكثر من ضعفي المسلمين.

   أن تبوح للكفار بسر عن إخوانك المسلمين إذا أسرت، ولو قطعت إرباً إرباً.

وفقك الله لما يحب ويرضى وتقبل منك؛ اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مذلة؛ والسلام عليكم ورحمة الله  وبركاته

----------------

مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال "

إعداد

أحمد محمد بوقرين

قسم أصول الدين

بالجامعة الأمريكية المفتوحة

" مقدمة البحث "

إن الحمد لله نحمده و نشكره و نستهديه و نستغفره و نعود بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا , من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له , و أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله , اللهم أنا نبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك

و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الرضا إلا عنك و من الطلب إلا منك و من

الذل إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بابك و من الرجاء إلا في يديك الكريمتين و من الرهبة

إلا بجلالك العظيم , اللهم تتابع برك و اتصل خير وعمت فواضلك و تمت نوافلك و بر قسمك و صدق وعدك و حق على أعدائك وعيدك و لم يبقى لنا حاجه هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا يسرتها و أعنتنا على قضائها يا رب العالمين ...

وبعد :

فإني سأحاول بإذن الله تعالى في هذا البحث أن أتناول موضوع " مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال " و قد بدأت بحثي هذا بمقدمة عن مفهوم الجهاد في سبيل الله عز و جل و أربعة أبواب و خاتمة و قد تناولت في الباب الأول من هذا البحث الجهاد لغة ً و شرعاً و قد استطرت في المفهوم الشرعي للجهاد , وفي الباب الثاني تناولت حُكم الجهاد و الحكمة من مشروعيته و في الباب الثالث تحدثت فضل الجهاد في سبيل الله و في الباب الرابع تناولت أحكام الجهاد من خلال سورة الأنفال و بعض أحكام الجهاد الأخرى المستخلصة من بعض سور القرآن الكريم و سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم ثم ختمت البحث ببعض النتائج و الفوائد المستخلصة من هذا البحث .

الباب الأول :

الجهاد لغة ًو اصطلاحا ً

الجهاد في اللغة :

هو بذل الجهد والوسع والطاقة، من الْجُهْد بمعنى الوُسع، أو من الْجَهْد بمعنى المشقة.

أما الجهاد في اصطلاح القرآن والسنة :

يأتي بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها و نواحيها وله كذلك معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله عز و جل .

استطراد في المفهوم الشرعي :

إن مفهوم " الجهاد " في الكتاب والسنة جاء بمعنى القتال و كذلك جاء بمعنى أعم و أشمل من القتال :

قال تعالى: ( فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) (1) .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وجاهدهم به ) أي القرآن تفسير ابن كثير (2)

فالجهاد الكبير هنا ليس هو القتال، إنما هو الدعوة والبيان بالحجة والبرهان وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه، ومعه تفسيره وبيانه الذي هو السنة.

وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ . . ) (3)

وفي هذه الآية ليس المراد بجهاد المنافقين القتال، لأن المنافقين يظهرون الإسلام يتخذونه جُنَّةً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم بل عاملهم بظواهرهم وحتى من انكشف كفره منهم كعبدالله بن أبي بن سلول لم يقتله صلى الله عليه وسلم وقال  لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) ولكن جهاد المنافقين يكون بالوسائل الأخرى، مثل كشف أسرارهم ودواخلهم وأهدافهم الخبيثة، وتحذير المجتمع منهم، كما جاء في القرآن .

وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) (4)

وتفسير هذه الآية : ( الذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا في ذات الله أنفسَهم وشهواتِهِم وأهواءَهم وجاهدوا العراقيلَ والعوائقَ، وجاهدوا الشياطين، وجاهدوا العدو من الكفار المحاربين، فالمقصود الجهادُ في معترك الحياة كلِّها .

وقد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد بمفهومه الشامل فقال: ( ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (5).

والمراد بجهاد القلب في هذا الحديث هو بغضهم وبغض حالهم، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ القلب هذا جهاداً، كما سمَّى فعل اللسان جهاداً، وكما سمى فعل اليد من باب أولى جهاداً .

وأيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجاهد ؟ قال ألك أبوان ؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (6) . فسمَّى النبي صلى الله عليه و سلم بِرَّ الوالدين ورعايتَهُمَا جهاداً في هذا الموقف، فكلٌّ جهادُهُ بحَسَبِِه.

وأمثلة هذا من السنة كثيرة يسمي فيها بعض العمال الصالحة جهاداً أو يجعلها بمنزلة الجهاد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)(7) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد والعمرة تطوع) . وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: (جهادكن الحج) (9) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه) (10) .

وهذا كله يوضح مدى اتساع دائرة الجهاد، وأنها ليست محصورة في القتال، بل هي مرتبطة بمجالات الحياة كلها وبعضنا ربما نظر إلى الجهاد نظرة ضيقة فحصره في جانب القتال، وهذا قصور في فهم نصوص الكتاب والسنة.

الباب الثاني :

حُكم الجهاد و الحِكمة من مشروعيته

حُكم الجهاد في سبيل الله تعالى :

الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين [انظر:المغني لابن قدامة]. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[122]}(11)

ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات (12):

1ـ إذا حضر المسلم القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (13). وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات (14).

2ـ إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[123]}(15)

3ـ إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك.

وجنس الجهاد فرض عين :

وجنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] (16)

الحكمة من مشروعية الجهاد :

بيّنه سبحانه فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[39]} (17). وقال عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[193]} (18). فعلى هذا يكون الهدف والحكمة من الجهاد الأمور التالية:

أولاً: إعلاء كلمة الله تعالى :

لحديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (19)

ثانيًا: نصر المظلومين :

قال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا[75]} (20)

ثالثًا: ردّ العدوان وحفظ الإسلام :

قال الله تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[194]}(21). وقال سبحانه:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]} (22)

الباب الثالث :

فضل الجهاد في سبيل الله

درجات المجاهدين في سبيل الله :

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ] (23)

الجهاد لا يعدله شيء :

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: [لَا أَجِدُهُ] قَالَ: [هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ] قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . (24)

ضيافة الشهداء عند ربهم :

عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْد ِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ] (25). وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف الحور العين: [...وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا] (26)

 

الجهاد في سبيل الله تجارة رابحة :

قال تعالى في تجارة المجاهدين الرابحة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[10]تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[11]يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[12]وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[13]} (27)

وقال سبحانه: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[74]}.(28)

فضل الرباط في سبيل الله تعالى :

الرباط على الثغور التي يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الإسلام له فضل عظيم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ](29)

فضل الحراسة في سبيل الله :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (30)

فضل الغدوة أو الروحة في سبيل الله :

قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا](31) .

فضل من اغبرَّت قدماه في سبيل الله :

قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ] (32)

دم الشهيد يوم القيامة :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ].(33)

ما يجد الشهيد من ألم القتل :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ الْقَرْصَةَ يُقْرَصُهَا](34)

 

فضل النفقة في سبيل الله :

قال تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[261]} (35). وعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ] (36)

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ](37)

الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون :

قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[170] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171]} (38)

الجهاد باب من أبواب الجنة :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ](39)

ما يُبلِّغ منازل الشهداء :

ويحصل هذا الخير العظيم لمن سأل الله الشهادة بصدق، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ] (40)

الباب الرابع :

أحكام الجهاد من خلال سورة الأنفال

بين يدي سورة الأنفال :

سورة الأنفال إحدى السور المدنية التي عُنيت بجانب التشريع , و بخاصة فيما يعلق بأمر الجهاد في سبيل الله عز و جل , فقد عالجت هذه السورة بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات و تضمنت كثيرا من التشريعات و الأحكام الحربية و الإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم الأعداء و تناولت أيضا جانب السلم و الحرب و أحكام الأسر و الغنائم (41)

فمن الأحكام التي نستخلصها من سورة الأنفال ما يلي :

1. الإعداد للجهاد :

لا يُمكن أن يُقاتَل العدو بغير إعداد ولا عدّة ، ولذا قال الله سبحانه في سورة الأنفال : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل ِتُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ )

ومن قاتَل العدو بغير إعداد فإنه قد خالِف ما أُمِرَ به ، ورام النصر من غير بابه .ولذا كانوا يُعوّدون الخيل على الكرّ والفرّ حتى في حال السِّلم حتى تألف ذلك عند القتال .

جاء في سيرة نور الدين زنكي :

أنه كان يُكثر اللعب بالكرة ، فأُنكِرَ عليه فكتب نور الدين لمن أنكر عليه :

والله ما أقصد اللعب ، وإنما نحن في ثغر ، فربما وقع الصوت فتكون الخيل قد أدمنت على الانعطاف والكر والفرّ .

وأول الإعداد في سبيل الله هو الإعداد الإيماني فبالإيمان تقوى صلة المرء بربه، ويستمد منه العون، ويأتيه الفرج بعد الكرب، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}(42) , والإيمان يعتبر أيضا أساس لازم لجميع التكاليف الشاقة كالجهاد ونحوه، فإذا أتم المرء هذا الإعداد صار مؤهلا لأداء هذه الفريضة وصار أهلاً للتأييد والتثبيت الإلهي، ولذا فقد خاطب الله نبيه: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} إلى قوله {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (43) , والإيمان هو المحور الذي تقوم عليه الجماعة المسلمة، ويرتكز عليه أي كيان يريد القيام بفريضة الجهاد في سبيل الله، ويتأتى ذلك بتطبيق الأخلاق الإيمانية من المودة والأخوة والإيثار والتراحم ونحو ذلك داخل الصف المسلم ليكون كما أراد الله "بنياناً مرصوصاً". ,

وبالإيمان يجبر النقص والضعف في العدد والعدة لدى المسلمين أمام أعدائهم، قال تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} (44)، فإن اتصاف هذه الفئة القليلة بالصبر وتحليها به عوضها النقص العددي لديها فنصرها الله تعالى .

2. قتل أسرى بدر أفضل من استعبادهم :

استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بشأن أسرى بدر ، وهم سبعون . فأشار الصديق أن يؤخذ منهم فدية تكون لهم قوة . ويطلقهم لعل الله يهديهم للإسلام . فقال عمر لا والله ما أرى ذلك . ولكني أرى أن تمكننا ، فنضرب أعناقهم . فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديد الشرك فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر . فقال " إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين وإن الله عز وجل ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة . وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، إذ قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) الآية . وإن مثلك يا عمر كمثل موسى ،إذ قال : ( ربنا اطمس على أموالهم و أشدد على قلوبهم ) . وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ثم قال أنتم اليوم عالة . فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق . فأنزل الله تعالى قوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) قال عمر فلما كان من الغد غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد - هو وأبو بكر - يبكيان . فقلت : يا رسول الله أخبرني ما يبكيك ؟ وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما.

فقال أبكي للذي عرض علي أصحابك من الغد من أخذهم الفداء . فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - وقال لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر ).

فكان بنزول آية ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) البيان الشافي للنبي صلى الله عليه و سلم و للمسلمين في أن قتل الأسرى في غزوة بدر كان أفضل من استعبادهم .

ولقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى الحرب على قسمين :

الأول: النساء والصبيان والشيوخ غير القادرين على القتال، والذين لا رأي لهم في الحرب.

الثاني: الرجال البالغون المقاتلون.

وقد جعل الإسلام للحاكم فعل الأصلح بين أمور ثلاثة في أسرى الرجال البالغين المقاتلين المنُّ أو الفداء أو القتل.

والمن : إطلاق سراحهم دون مقابل.

والفداء : قد يكون بالمال، وقد يكون بأسرى من المسلمين، ففي غزوة بدر كان الفداء بالمال، وروى أحمد والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل.

قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) . (45)

وروى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق سراح الذين أخذهم أسرى، وكان عددهم ثمانين، وكانوا قد هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم.

والقتل : كما أنه يجوز له قتل الأسير إذا كانت المصلحة تقتضي قتله، كما ثبت أنه قتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر، وقتل أبا عزة الجمحي يوم أحد

3. الغنائم :

لقد أختلف الصحابة رضوان الله عليهم في أمر الغنائم فقال من جمعها : هي لنا . وقال من هزم العدو لولانا ما أصبتموها ، وقال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأحق بها منا . قال عبادة بن الصامت : فنزعها الله من أيدينا . فجعلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء فكان في ذلك تقوى الله , و طاعة رسوله , و إصلاح ذات البين وأنزل الله تعالى قوله : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) وفي قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل إن كنتم أمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان و الله على كل شئ قدير ) أي أعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتم من أموال المشركين في الحرب سواء قليلا أو كثيرا ( فإن لله خمسه ) قال المفسرون : تقسم الغنيمة خمسة أقسام , فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية , و الباقي يوزع على الغانمين " للرسول " أي سهم من الخمس يعطى للرسول صلى الله عليه و سلم , " ولذي القربى " أي قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم بنو هاشم و بنو عبد المطلب , " و اليتامى و المساكين وابن السبيل " أي و لهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم , و الفقراء من ذوي الحاجة , و المنقطع في سفره من المسلمين .

4 . مهادنة العدو :

من أحكام الجهاد الواردة في سورة الأنفال إمكانية مهادنة العدو كما قال الله تعالى في سورة الأنفال : ( و إن جنحوا للسلم فأجنح لها و توكل على الله ) فهذه الآية الكريمة تبين أن العدو إذا مال للصلح و المهادنة فيمكن الميل إليه و إجابتهم إلى ما طلبوا إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين .

 

5 . الثبات للعدو و ترك الفرار من الزحف :

من أحكام الجهاد التي نستخلصها من سورة الأنفال الثبات و ترك الفرار من الزحف و ذلك لقوله تعالى : ) إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) "الأنفال آية 45" وقوله تعالى : (يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) , ولحديث عبد الله بن أبِى أوفى رضِىَ الله عنهما فِي صحيح البخارِي " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " .

بعض أحكام الجهاد الأخرى من الكتاب و السنة :

إخلاص النية و تجريدها لله عز و جل :

إخلاص النية شرط في قبول العبادات ومن لم يُخلص في جهاده لم يكن لـه من نصيب فيه ، ولم يكن لـه إلا ما نوى إذا نوى أمراً دنيوياً ، أما إذا أظهر للناس أنه يُجاهد في سبيل الله ولم يكن كذلك فهذا أول من تسعر به النار ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت . قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ، فقد قيل . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ... الحديث . (46)

وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال : التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا فمال كل قوم إلى عسكرهم وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه ، فقيل : يا رسول الله ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان . فقال : إنه من أهل النار . فقالوا : أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار ؟ فقال رجل من القوم : لأتبعنه فإذا أسرع و أبطأ كنت معه حتى جرح ، فاستعجل الموت ، فوضع نصاب سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه ، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أنك رسول الله . فقال : وما ذاك فأخبره ، فقال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

أما إذا غزا وهو يُريد غرضا دنيوياً ، فليس له إلا ما نوى ، وإن ذهبت نفسه .

قال عليه الصلاة والسلام : من غزا ولا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .

 

ضرورة وجود إمام أو أمير :

لا يقوم الجهاد إلا بإمام أو أمير ، يُرجع إليه عند الحاجة ، ويُردّ إليه عند الاختلاف ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيّر سرية أو بعث بعثا أو أنفذ جيشاً دون أن يؤمّر عليه أميرا ، وقد أمّـر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة على جيش مؤتة ، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه رضي الله عنهم .

وضوح الهدف و بيان القصد :

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه . فمن في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . (47)

فيُقاتِل المسلم من أجل هدف سام ، وغاية عظيمة ، وهي إعلاء كلمة الله وهو يربأ بنفسه أن يُقاتِل حمية أو عصبية أو لغرض دنيوي زائل قال عليه الصلاة والسلام : من قُتِل تحت راية عُمِّيَّةٍ ، يدعو عصبية أو ينصر عصبية ، فَقِتْلَةٌ جاهلية . رواه مسلم . وفي الحديث الآخر : ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية .(48)

فلا بُد أن يكون المسلم على بيّنة في قتاله وما الهدف من هذا القتال ؟ فإذا كان لإقامة شرع الله فهذا هو المقصد ، أما إذا كان غير ذلك فبئس القصد وبئست النيّة .

استئذان الوالدين :

ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد . (49)

قال جمهور العلماء : يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما ، بشرط أن يكونا مسلمين ، لأن برّهما فرض عين عليه ، والجهاد فرض كفاية ، فإذا تعين الجهاد فلا إذْن .

قال الإمام الصنعاني :

وذهب الجماهير من العلماء إلى أنه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين ؛ لأن برّهما فرض عين والجهاد فرض كفاية ، فإذا تعين الجهاد فلا . فإن قيل : بـرّ الوالدين فرض عين أيضا ، والجهاد عند تعينه فرض عين ، فهما مستويان . ما وجه تقديم الجهاد ؟ قلت : لأن مصلحته أعمّ ، إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين ، فمصلحته عامة مقدمة على غيرها من المصالح الخاصة .وهذا هو القول الصواب لدى جمهور الفقهاء ، جمعاً بين الأدلة ، ويُستثنى من ذلك ما إذا كان لـه أبوان شيخان كبيران وليس لهما عائل سواه ، فحينئذٍ يجوز له التخلف عن الجهاد .

استئذان المدين من غريمه :

روى الإمام مسلم عن أبي قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال . فقام رجل فقال : يا رسول الله ! أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله : كيف قلت ؟ قال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله ، أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر . إلا الدَّين . فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك .

قال ابن قدامة في المغني :

ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز لـه الخروج إلى الغزو إلا بأذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن ، وبهذا قال الشافعي ، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه ؛ لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين . ولنا إن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عني خطاياي ؟ قال : نعم ، إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك . رواه مسلم . وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه ؛ لأنه تعلق بعينه ، فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل .

 

 

خاتمة البحث

 

وبعد أن استعرضنا في الباب الرابع من هذا البحث مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال نسجل أهم النتائج و الفوائد التي تم التوصل إليها :

1. إن مفهوم الجهاد واسع كبير و ما القتال بالسيف إلا نوع من أنواع الجهاد الكثيرة و المتعددة .

2. سورة الأنفال هي إحدى السور المدنية التي عُنيت بجانب التشريع , و بخاصة فيما يعلق بأمر الجهاد في سبيل الله عز و جل , فقد عالجت هذه السورة بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات و تضمنت كثيرا من التشريعات و الأحكام الحربية و الإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم الأعداء و تناولت أيضا جانب السلم و الحرب و أحكام الأسر و الغنائم.

3. يمكن أن نستخلص بعض أحكام الجهاد الأخرى من بعض سور القرآن عدا سورة الأنفال مثل سورة آل عمران و التوبة و محمد و الفتح و الحشر وغيرها من سور القرآن الكريم و كذلك يمكن أن نستخلص بعض أحكام الجهاد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .

4. إن فضائل الجهاد في سبيل الله كثيرة جدا كما تبين ذلك من خلال استعراض الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة .

5. إن الحكمة من مشروعية الجهاد في سبيل الله هو إعلاء كلمة الله عز و جل و نصر المظلومين و رد العدوان و حفظ السلام .

6. من أحكام الجهاد الهامة و التي لم ترد في سورة الأنفال : ضرورة إخلاص النية لله تبارك و تعالى و ضرورة وضوح الهدف و بيان القصد وضرورة وجود الإمام أو الأمير .

و أخيرا الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و أسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحب و يرضى و ما كان من توفيق في هذا البحث فمن الله وحده و ما كان من خطأ فمن نفسي و من الشيطان و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...

فهرس البحث

أولا : فهرس الآيات :

(1) الآية 52 من سورة الفرقان .

(3) الآية 73 من سورة التوبة .

(4) الآية 69 من سورة العنكبوت .

(11) سورة التوبة .

(13) سورة الأنفال .

(15) سورة التوبة .

(17)سورة الأنفال .

(18) سورة البقرة .

(20) سورة النساء .

(21) سورة البقرة .

(22) سورة الحج .

(27) سورة الصف .

(28) سورة النساء .

(35) سورة البقرة .

(38) سورة آل عمران .

(42) الآية 2 من سورة الطلاق .

(43) الآية من 1- 5 من سورة المزمل .

(44) الآية 249 من سورة البقرة .

(45) الآية 4 من سورة محمد .

 

ثانيا : فهرس الأحاديث :

(5)رواه مسلم [في الإيمان/ص70] .

(6)متفق عليه: البخاري [ 10 / 403] ومسلم [ 4 / 1975 ] .

(7)البخاري في النفقات [ 7 / 80 / الحلبي بمصر ].

(8)ابن ماجة [ 2 / ص995 ] وانظر النسائي [ 5 / ص 113-115 ] .

(9)البخاري في الجهاد [ 4 / 93 / الحلبي ].

(10)الترمذي في فضائل الجهاد [ 4 / 165 / الحلبي ].

(14)[رواه البخاري ومسلم] .

(16)رواه أبوداود والنسائي وأحمد .

(19)رواه البخاري ومسلم .

(23)رواه البخاري .

(24)رواه البخاري ومسلم .

(25)رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد .

(26)رواه البخاري .

(29)رواه مسلم .

(30)رواه الترمذي .

(31)رواه البخاري، ومسلم-مختصرا .

(32)رواه البخاري .

(33)رواه البخاري .

(34) رواه النسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد .

(36)رواه النسائي .

(37)رواه مسلم .

(39)رواه أحمد .

(40)رواه مسلم .

(46)رواه مسلم .

(47)متفق عليه .

(48)رواه أبو داود .

(49)متفق عليه .

ثالثا : فهرس المراجع :

(2) تفسير ابن كثير [ 3/337 ] .

(12)[انظر:المغني لابن قدامة] .

(41)( صفوة التفاسير للصابوني ) .

-------------------

أهداف الجهاد في سبيل الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن الهدف الرئيسي هو تعبد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً وإخلاء العالم من الفساد ، ذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم ، هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا ، وهو إنحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله عليه من التوحيد . كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته :" ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمتْ عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطاناً "رواه مسلم [1].

والدليل على هذا قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين }[2]. قال ابن كثير " أمر الله تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ، أي شرك ………… ويكون الدين لله ، أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان "[3]ا.هـ وقال الشوكاني " فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله " [4]ا.هـ

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا في دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " رواه البخاري [5].

وعن جبير بن حيّة قال :فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مُقرِّن حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة : سلْ عما شئت قال : ما أنتم  قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمصّ الجلد والثرى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين _ تعالى ذكره وجلت عظمته _ إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أن من قُتِل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط ومن بقي منا ملك رقابكم " رواه البخاري[6]

وفي حوادث غزوة القادسية " قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه لما بعثه سعد ابن أبي وقاص إلى رستم فدخل ربعي عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعي بثياب صفيقة _ سخيفة رثة _ وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له : ما جاء بكم  فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نقفي إلى موعود الله قالوا : وما موعود الله  قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي ……… " ذكرها ابن كثير [7].

وهذا الهدف السامي الرئيسي موضع اتفاق بين علماء الإسلام .

قال الشافعي " فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران : أحدهما أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه والآخر : أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية " [8]ا.هـ وقال محمد بن الحسن " فرضية القتال المقصود منها : إعزاز الدين وقهر المشركين "[9] ا.هـ وقال ابن القيم " والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله فإن من كون الدين لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة "[10] ا.هـ

وقال ابن عبد البر" يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والغزارية والصقالبة والبربر والمجوس وسائر الكفار من العرب والعجم يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "[11] ا.هـ

وإن هذا الهدف السامي المتضمن لإعلاء كلمة الله وهي الإسلام وإقامة سلطان الله في الأرض وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتج عنه وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام ويُعبِّدونهم لغير الله هو ما يجب أن يسعى إليه المجاهدون في كل مكان وزمان لا تأخذهم في الله لومة لائم .

ومن الأهداف التي تتبع لهذا الهدف الرئيسي :

1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين  {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }[12].

وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأبعث جيشاً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك "رواه مسلم [13].

قال النووي " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده " ا.هـ

2- إزالة الفتنة عن الناس وسواء ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم أو الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة أو فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله .

3- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار وحقيقتها حماية للعقيدة والمنهج وكلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة الإسلامية .

4- قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم كما  {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق }[14] و  {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }[15].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُسارى بدر "والله ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم " [16]ا.هـ

و  {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * وذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء }[17]

وقد قتل أبو جهل على يدي شاب من الأنصار ثم بعد ذلك وقف عليه عبد الله بن مسعود ومسك بلحيته وصعد على صدره حتى قال " لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم " ثم حز رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفى الله به قلوب المؤمنين قال الحافظ ابن كثير " كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة أو أن يسقط عليه سقف منزله أو يموت حتفه والله أعلم "[18]ا.هـ

5- إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وإيهان كيدهم وإغاظتهم كما  { وأعدوا لهم ما استطعتم ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم }[19]

وفي حديث أم مالك البهزية قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقر بها قلت : يا رسول الله من خير الناس فيها  قال :" رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه ورجل آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويُخوفونه "رواه الترمذي[20]

ورواه الحاكم ولقطه "يخيفهم ويخيفونه"وصممه ووافقه الذهبي[21] وصححه الألباني[22].

قال ابن القيم " ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له .

وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله تعالى : {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة }[23]

سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً يراغم به عدو الله وعدوه والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما  { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }[24]

فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة فموافقته فيها من كمال العبودية وعلى قدر محبة العبد لربه ومالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين …"[25] ا.هـ

هذه بعض الأهداف /

وللجهاد أهداف سامية ومصالح كريمة وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين في ذرات أنفسهم متى مارسوا الجهاد ومنها /

1- كشف المنافقين / فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم غيرهم ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية وهم لا يريدون رفع كلمة الله على كلمة الكفر وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين وأكبر كاشف لهم هو الجهاد .

فهو يبذل فيه أغلى ما يملك غير عقيدته وهو روحه والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه والله تعالى يقول { فإذا أنزلت  محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم }[26]

والمنافقون هم العدو الداخلي وكثيراً خطرهم يفوق العدو الخارجي فإذا عرفوا منعوا من الغزو مع المسلمين ولا يستمع المسلمون لما يعرضونه عليهم من أراجيف وتثبيط ومن أقاويل يلبسونها ثياب النصح والإصلاح .

وواجب المؤمنين حينئذ كما  {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }[27]

2- تمحيص المؤمنين من ذنوبهم / كما  { وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين }[28]

قال ابن كثير " وليمحص الله الذين آمنوا أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كان لهم ذنوب وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به وقوله " ويمحق الكافرين

أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم "[29]ا.هـ

2- تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس إذ الركون إلى الراحة والدعة وعدم ممارسة الشدائد والصعاب كورث العبد ذلاً وخمولاً وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا وهكذا خوض المعارك ومقاومة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها ويوجب لها استعداداً للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة لها تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة .

والحمد لله رب العالمين

---------------

[ وقفــة مـع آيــة الجـهاد ]

التاريخ:03/04/1427

 

قال تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )الآية (البقرة 190)

2- قال تعالى :(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ،فإن انتهوا فإن الله غفوررحيم)الآية ( البقرة 192-191).

3- قال تعالى:}وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلاعدوان إلا على الظالمين {الآية (البقرة 193).

الآية الأولى : وفيها مبحثان : 1- الأول: سبب النزول الآية . 2- الثاني : مسائل الآية. -

سبب نزول الآية هو: ما روي عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنها قال" نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ،وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما منع عن البيت هو وأصحابه ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل ، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لاتفي قريش بذلك ،وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله الآية " أ.هـــ. (1). -

مسائل في الآية :وحاصلها أربع مسائل :

1- قوله تعالى:( وقاتلوا ) هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة ثم لما هاجر إلى المدينة أمربالقتال . - وكذلك في النهي عن الاعتداء على من حرم الله الاعتداء عليهم وهم أصناف ستة: 1- النساء ، ولهن قيد هو: أنهن إذا قاتلن أو أعانوا على القتال قتلن . 2- الصبيان ، لأنهم لاتكليف عليم وللنهي الثابت في ذلك ، وثمت قيد هو:أن الصبي لوقاتل قتل. 3- الرهبان . 4- الزمنى - الزمن أي: المبتلى(2)- قال القرطبي " والصحيح أن تعتبر أحوالهم فإن كانت فيهم إذاية قتلوا وإلا تركوا "أ.هــ.(3). 5- الشيوخ ، قال القرطبي " والذي عليه جمهور الفقهاء إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل وبه قال مالك وأبو حنيفة وللشافعي قولان أحدهما مثل قول الجماعة والثاني يقتل هو والراهب والصحيح ألأول لقول أبي بكر ليزيد ولا مخالف له فثبت أنه إجماع" أ.هــ.(4). 6- العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون ،وخالف الشافعي ،قال القرطبي " والأول أصح"أ.هـ.(5).

2- (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الخطاب في الآية عام لجميع المسلمين ممن أعتدي عليه. إلا أن الإمام الطوفي الصرصري الحنبلي قال في (تفسيره) (6) : " هو عام يخص بما إذا اقتضت المصلحة ترك قتال المقاتل مداراة عند الضعف عنه كما في الهدنة والصلح ، أو خديعة له إذ الحرب خدعة أو نحو ذلك " أ.هــــــ.

3- أن الآية على ماسبق من تأويل ، أما المرتد فليس إلا القتل أو التوبة ، قال القرطبي " وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة ومن أسر الإعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق" أ.هــ.(7).

4- الحث على الإخلاص في الجهاد ونهي عن الاقتتال في الفتن المسلمين.(8).

الآية الثانية : وفيها مباحثان : 1- الأول : معنى الفتنة في اللغة و الاصطلاح الشرعي . 2- الثاني : مسائل في الآية.

معنى :الفتنة لغة : قال الإمام الراغب الأصفهاني:" أصل الفتن : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته"أ.هــ(9). وقال الرازي " الإبتلاء والاختبار" أ.هــ.( 10). فالفتنة بمعنى : التمحيص . - قال الراغب " الفتن التي تكون من الأفعال التي تكون من الله كالبلايا والمصائب والقتل والعذاب هي حكمة ربانية ،ومتى كانت من الإنسان على غير وجه حق وبغير أمر الله تكون بضد ذلك أي : مذمومة ، ولهذا ذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان نحو ( والفتنة أشد من القتل ).أ.هــ. وتكون الفتنة بمعنى الكفر كماسيأتي.

والفتنة ثلاثة أنواع :

1- ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم .

2- الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة.

3- فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله .(12). -

مسائل في الآية وحاصلها أربع مسائل :

1- قوله تعالى ( ثقفتموهم ) قال القرطبي: " يقال ثقف يثقف ثقفا وثقفا ورجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور"(13).

2- قوله تعالى :( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) الآية ،قال القرطبي" للعلماء في هذه الآية قولان أحدهما أنها منسوخة والثاني أنها محكمة قال مجاهد الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل وبه قال طاوس وهو الذي يقتضيه نص الآية وهو الصحيح من القولين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه" أ.هــ. (14). - قال السعدي في :(تفسيره 1/89)" يستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ( ترتكب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما )"أ.هــ.

3- قال القرطبي : " قال بعض العلماء في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح " أ.هــ.

4- قوله تعالى:( فإن انتهوا) قال القرطبي : " أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم نظيره قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" أ.هــ .

الآية الثالثة :وفيها مبحثان : 1- الأول :مسائل الآية. 2- الثاني: أهداف الجهاد . -

مسائل الآية وحاصلها مسألتان :

1- الأولى : قوله تعالى:( وقاتلوهم ) قال القرطبي:" أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على من رآها ناسخة ومن رآها غير ناسخة قال المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم فإن قاتلوكم والأول أظهر وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار دليل ذلك قوله تعالى ( ويكون الدين لله) وقال عليه السلام:( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر لأنه قال :(حتى لا تكون فتنة) أي: كفر فجعل الغاية عدم الكفر وهذا ظاهر قال بن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم الفتنة هناك الشرك " أ.هـ .

2- الثانية : قوله تعالى:( فإن انتهوا ) قال القرطبي:" أي : عن الكفر إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب وإلا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان فسمي جزآء العدوان عدوانا كقوله :)وجزاء سيئة سيئة مثلها) والظالمون هم على أحد التأويلين من بدأ بقتال وعلى التأويل الآخر من بقى على كفر وفتنة" أ.هــ (15).

أهداف الجهاد . بهذا العرض المبسط نستطيع أن نلمح بعض حكم تشريعية من شعيرة عظيمة هي ذروة سنام الإسلام كما جاء في الخبر- الجهاد في سبيل:

1- أن المقصود بالجهاد هو أن ( يكون الدين كله لله ) الآية ، وليس سفك الدماء . قاله السعدي في :(تفسيره 1/89)".

2- رد إعتداء المعتدين على المسلمين وهو ظاهر.

3- إزالة الفتنة بأشكالها - وسبقت - عن الناس حتى يستمعوا لدلائل التوحيد والشرع وما مقولة ربعي بن عامر رضي الله عنه المشهورة عنا ببعيد.

4- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار.أخرج الإمام أحمد بسنده في :(مسنده)- عن ابن عبدالله بن أنيس عن أبيه رضي الله عنه قال :(دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال :" إنه قد بلغني أن خال بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فأته فاقتله )(16)" ا.هــ. والله أعلم

كتبه : أحمد الحمدي الخميسي

( 23/12/1426هـ- 25/ ديسمبر/2005م).

إحالات :

1- لباب النقول في أسباب النزول للإمام السيوطي (ص:36-37)ت / عبد المجيد طعمه ،دار المعرفة ،لبنان بيروت ، ط،الثانية ،1419هــ.

2- مختار الصحاح للرازي( 1/116).

3- تفسيرالإمام القرطبي ( ج2/ص:347).

4- المصدرالسابق( ج2/ص:347-348).

5- المصدرالسابق(ج2/ص: 348).

6- الإشارات الإلاهية في المباحث الأصولية (1/ 323)ت/حسن قطب ،الفاروق ،مصر، ط الثانية،2002م. 7- تفسير القرطبي ( ج2/ص:349).

8- تفسير السعدي( 1/89).

9- المفردات للإمام الراغب الأصفهاني (623-624).ت/صفوان داوودي .

10- مختار الصحاح للرازي ( 1/205).

11- المفردات - للراغب ( 624).

12- أهداف الجهاد وغايته د/علي بن نفيع العلياني (ص: 51-69).

13- تفسيرالقرطبي( ج2/ص351).

14- تفسير القرطبي( ج2/ص351).

15- تفسيرالقرطبي (ج2/ص:351-354).

16- أهداف الجهاد وغايته د/علي بن نفيع العلياني (ص:58).

------------

حديث القرآن عن الجهاد في سبيل الله ( 2 )

محمد الأحمد

 

ثالثاً فضائل الجهاد:

قد وردت في الكتاب والسنة فضائل كثيرة للجهاد نجتزئ بذكر طرف مما ورد في كتاب الله منها:

1 - أن حركات المجاهد كلها مكتوبة له من حين يخرج من بيته، قال - تعالى -: ]ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون[[التوبة: 120 121].

 

2 - أنه أفضل من نوافل العبادات، قال - تعالى -: [أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم][التوبة: 19 21]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأخبر - سبحانه وتعالى- أنه لا يستوي عنده عمار المسجد الحرام وهم عُمّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة هذه هي عمارة المساجد المذكورة في القرآن وأهل سقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله، وأخبر أن المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده، وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات، فنفى التسوية بين المجاهدين وعمار المسجد الحرام مع أنواع العبادة، مع ثنائه على عماره بقوله - تعالى -: [إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين]فهؤلاء هم عمار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم" [طريق الهجرتين: 623].

 

3 - أنه سبب للحصول على رحمة الله للآية السابقة.

 

4 - أنه سبب للحصول على رضوان الله للآية السابقة.

 

5 - أنه سبب للفوز بمرتبة الشهادة والتي جعل الله أصحابها في مصاف النبيين فقال - تعالى -: [ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا][النساء: 69]، وأخبر الله عن منزلتهم عنده فقال: [ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين][آل عمران: 169 171].

 

6 - حصول المجاهد على الأجر العظيم، قال - تعالى -: [فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً][النساء: 74، 76]، وقال: [وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، درجات منه ومغفرة ورحمة].

 

7 - أنه سبب لدخول الجنة، قال - تعالى -: [إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم][التوبة: 111]، وقال - تعالى -: [الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبداً، إن الله عنده أجر عظيم][التوبة: 20 22]، وقال: [يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين][الصف: 10 13].

 

8 - أنه سبب لمغفرة الله، لآية الصف السابقة.

 

9 - أنه سبب للنجاة من العذاب الأليم ودليل ذلك آية الصف السابقة.

 

10 - أنه سبب للفلاح، قال - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون][المائدة: 35].

 

11- أنه سبب لتحقق الإيمان، قال - تعالى -: [والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم][الأنفال: 72 74].

 

12 - أنه سبب لحفظ الحق وتمكينه ورفع الباطل، قال - تعالى -: [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد وصلوات يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز][الحج: 40]، [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين][البقرة: 251].

 

هذه جملة من فضائله وما تركناه أكثر من ذلك.

 

مراحل تشريع الجهاد:

مر الجهاد الإسلامي بمراحل قبل أن يصدر إلى حكمه النهائي الآنف الذكر، وهي:

المرحلة الأولى: مرحلة الكف عن المشركين والإعراض عنهم والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق، وقد دلت على ذلك كثير من الآيات المكية، منها قوله - تعالى -: [قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله.. ][الجاثية: 14]. وقال - تعالى -: [فمهل الكافرين أمهلهم رويدا][الطارق: 17]، وقال - تعالى -: [لست عليهم بمسيطر][الغاشية: 22]، وقال - تعالى -: [وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون][الزخرف: 88 89]. وغير ذلك من الآيات المكية.

 

وبينت ذلك بعض الآيات المدنية، قال - تعالى -: [ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب][النساء: 77]، وقال رسول الله r لأصحابه في مكة: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا.. " [رواه النسائي والحاكم، وقالا على شرط البخاري]، ولما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلوا على أهل منى فيقتلوهم قال: "إني لم أومر بهذا" [أخرجه أحمد والطيالسي].

 

ولعل من حكم الكف والله أعلم ما يأتي:

1- تربية الصحابة على الصبر على الظلم الذي يواجهونه من قومهم، فيتعودون على ضبط أعصابهم عند استثارتها، لأنهم تربوا في بيئة لا ترضى بذلك ولا تصبر عليه، وذلك ليتم الاعتدال في طبائعهم، وليكون في ذلك تربية على الانقياد والطاعة للقيادة التي لا يعرفها العرب.

 

2- وقد يكون لأن الدعوة السلمية أكثر أثراً في قبيلة ذات عنجهية وثارات إذ قد يدفعها قتالها إلى زيادة العناد، فتتولد من ذلك ثارات لا تنطفئ أبداً، وتكون مرتبطة بالدعوة إلى الإسلام فتتحول فكرة الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.

 

3- ولو أمروا بذلك وهم ليسوا سلطة منتظمة لوقعت مقتلة في كل بيت فيه مؤمن ثم يقال: هذا هو الإسلام يأمر بقتل الأهل والذرية، فتكون سلاحاً إعلامياً ضد المسلمين.

 

4- ولعلم الله السابق بأن كثيراً من هؤلاء المعاندين سيكونون من جند الله بل من خلصهم وقادتهم، وعمر بن الخطاب خير شاهد على ذلك.

 

5- ولقلة عدد المسلمين وانحصارهم في مكة فلو أمروا بالقتال لكان سبباً إلى فناء المؤمنين ولابد قبل الخوض في معركة مع الباطل من تأسيس القاعدة العريضة التي لا تتأثر بفناء ثلة منها في معركة حاسمة مع الطغاة.

 

6- وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم، وقد وقع ما يدل لهذا، فابن الدغنة ثار لأبي بكر لما رآه خارج مكة يريد مفارقتها، وكذلك خبر نقض الصحيفة الجائرة، والصبر في مثل هذه المواطن يكسب الدعوة والدعاة تعاطفاً شعبياً، ولو أنهم لجأوا إلى القوة لخسروا هذا التعاطف بل قد يزداد الأمر شدة من كل الناس.

 

7- ولأن الصبر في مثل هذه المواطن يدعو إلى تفكر المجتمع في حال هؤلاء المؤمنين وإلى تساؤل مفاده: ما الذي يدعوهم إلى كل هذا التحمل؟ إن الذي يدعوهم إليه حق يحملونه في قلوبهم ويقين بصدق ما هم عليه لا يمكنهم التراجع عنه، فيكون ذلك سبباً في إيمانهم.

 

8- ولم تكن هناك ضرورة ملحة للقتال لأن النبي بعث في أمة تعيش على النظام القبلي، فالقبيلة لا ترضى أن يخلص إلى رجل منها وإن كان على غير دينها من قبيل النخوة، وقد كان رسول الله r محمياً من بني هاشم وكان يقوم بدعوته ولم تقدر قريش على قتله خوفاً من بني هاشم.

هذه هي بعض الحكم المستفادة من تلك المرحلة أطنب في ذكر بعضها سيد قطب في كتابه الظلال (2/713 715].

 

المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض في المدينة، قال - تعالى -: [إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذي أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع.. الآية][الحج: 38 40].

 

المرحلة الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط، قال - تعالى -: [فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً. ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً]النساء: 90 91]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم، بل قال: [فإن تولوا فخذوهم.. الآية[وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله وإن كانت الهدنة عقداً جائزاً غير لازم][الجواب الصحيح: 1/73] وقال أيضاً: "فمن المعلوم من سيرة النبي الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه r لما قدم المدينة لم يحارب أحداً من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصاً بطون الأوس والخزرج فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه، وكان الناس إذا قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون. ومنهم الباقي على دينه وهم متروك لا يحارب ولا يحارب. وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب، حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي على حلفهم" [الصارم المسلول: 99].

 

المرحلة الرابعة: قتال جميع الكفار من كل الأديان ابتداء وإن لم يبدأوا بقتال حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية على الخلاف المعروف فيمن تؤخذ منه، وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة ومن بعد انقضاء العهود المؤقتة، وتوفي رسول الله والعمل على هذه المرحلة وعليها استقر حكم الجهاد، قال - تعالى -: [فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم][التوبة: 5]، وقال: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون][التوبة: 29]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آل حال أهل العهد والصلاح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة" [زاد المعاد 3/160].

 

وهل هذه المرحلة ناسخة لما قبلها من المراحل؟ نقول: إنها ناسخة بالنسبة لأقوام غير ناسخة بالنسبة لآخرين، فمن كان ذا قوة ومنعة ودولة وحاله كالحال التي آلت إليه دولة رسول الله r فإن المراحل السابقة منسوخة في حقه لا يجوز له العمل بها ألبتة، ومن كان في ضعف وذل بل ولا دولة له فإن المراحل السابقة غير منسوخة في حقه بل يعمل بالذي يناسب ظرفه الذي يعيش فيه، كما كان عليه المسملون أول الأمر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "... فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: [الصارم المسلول/221].

 

خامساً: أهداف الجهاد وغايته:

لم يشرع الجهاد عبثاً، ولا لتحقيق أهداف شخصية، أو مطامع مادية، أو مكاسب سياسية، أو لبسط النفوذ وتوسيع الرقعة، ولا لإزهاق النفوس وسفك الدماء، والتسلط على الناس واستعبادهم، وإنما شرع لأهداف جليلة، وغايات نبيلة، نذكر بأهمها بعد ذكر هدفه الأساسي:

أما هدفه الأساسي: فهو تعبيد الناس لله وحده، وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

قال - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين][البقرة: 193]، وقال - سبحانه -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير][الأنفال: 39]، وقال - سبحانه -: [هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون][التوبة/33، الصف/9]. وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" رواه مسلم.

 

ومن أهداف الجهاد:

1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين: قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين][البقرة/190]، وقال - تعالى -: [ألا تقاتلوا قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين][التوبة/ 13].

 

2- إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائق وحتى يروا نظام الإسلام مطبقاً ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر، قال - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة]، والفتنة أنواع:

 

أ - ما يمارسه الكفار من تعذيب المستضعفين من المؤمنين والتضييق عليهم ليرتدوا عن دينهم، قال - تعالى -: [وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والناس والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها.. ][النساء/ 75]، ومن ذلك أيضاً فك أسرى المسلمين كيلا يفتنهم الكفار.

 

ب - الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة فإن هذه من شأنها أن تفتن المسلم عن دينه، وبهذا فسر بعض السلف قوله - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة]، قالوا: إن الفتنة الشرك ونحوه، ولذلك فإن أهل الجزية من أهل الذمة ونحوهم يمنعون من المجاهرة بدينهم والتعامل بالربا وإظهار الزنا والخنا، لأن هذه الأوضاع تفتن المسلم عن دينه.

 

ج - فتنة الكفار أنفسهم وصدهم الناس ومن تحت ولايتهم عن استماع الحق وإقامتهم سياجاً منيعة أمام دين الله لئلا يدخله الناس، فيجب أن يقام على هؤلاء الجهاد حتى يفسح المجال لدين الله يراه الناس ويعرفونه وتقوم عليهم الحجة به، وبهذا يدخل الناس في الإسلام إذ غلب ما يصد الشعوب عن دين الله إقامة دول الكفر والحواجز والسدود أمام دين الله كيلا يدخل إلى الشعوب.

 

3- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار: قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم... ]ومن أجل ذلك شرع الله الرباط على الثغور لحماية دولة الإسلام من المتربصين بها[يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون][آل عمران/ 200].

 

4- تأديب المتمردين والناكثين للعهود المنتهزين سماحة الإسلام وأهله، قال - تعالى - في حق من نقضوا العهود والمواثيق: [وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول][التوبة/ 12، 13]، وكذلك من كان بينه وبين المسلمين عهد وتوجس المسلمون منه شراً وحرباً، فإنه ينبذ إليه عهده ويكشف له حقيقة الأمر ثم يقاتل، قال - تعالى -: [وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين][الأنفال/ 58]، وكذلك البغاة من المسلمين وهم الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، فيقاتلون حتى تذهب ريحهم[فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله][الحجرات/ 9]، ومثل البغاة، من أجمعوا على ترك واجب أو فعل محرم وتواطأوا عليه فيقاتلون حتى يستقيموا، وأشد منهم المرتدون، فيقاتلون حتى يسلموا أو يبادوا كما فعل ذلك أبو بكر الصديق مع المرتدين.

 

5 - دفع الظلم والدفاع عن الأنفس والحرمات والأوطان والأموال قال - تعالى -: [أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله][الحج/ 39، 40].

 

6- إرهاب الكفار وإخراجهم وإذلالهم وإغاظتهم[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم][الأنفال/ 60]، وقال - سبحانه -: [قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين][التوبة/ 14]. وقال: [ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين][الأنفال/ 18]، وقال رسول الله: "خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه، ورجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه" [رواه أحمد]، قال ابن القيم: "... ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، وقد أشار - سبحانه - إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله: [ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة][النساء/100]، سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً، يراغم به عدو الله وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال - تعالى -: [ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار.. ]وقال - تعالى - في مثل رسول الله وأتباعه: [ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار][الفتح/ 29] اهـ [مدارج السالكين 1/266].

تلك بعض أهداف الجهاد التي شرع من أجل تحقيقها، وأما غايته التي يتوقف عندها الجهاد: هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم عقيدة الإسلام من غير أهل الكتاب والمجوس. أما هؤلاء إذا دفعوا الجزية ملتزمين أحكام الإسلام حال كونهم في ذلك وصغار فإن المسلمين يكفون عن قتالهم وبهذا تكون كلمة الله هي العليا ودين الحق والباطل وأهلهما قائم ما وجد في الأرض اثنان، قال: "لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" [متفق عليه]، وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر لقول النبي r: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنم، قال الحافظ: "سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسره بالأجر والمغنم.والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلاً" [فتح الباري 6/42].

--------------

الهدف من الجهاد

________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من كتاب : أهمية الجهاد

لعلي العلياني

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

إن للجهاد حكمًا بالغة وأهدافًا جليلة لأن الذي شرعه هو العليم الخبير ، فما دام الآمر به هو الحكيم فالحكمة والمصلحة ثابتة فيه قطعًا ، وتلمس حكمة الجهاد لا يتوقف القيام به على معرفتها عند المسلم الصادق ، فإن مقتضى العبودية أن ينفذ العبد أمر سيده ، عرف حكمته أو لم يعرف ، ولكن معرفة الحكمة تقوي العزائم وتشحذ الهمم وتيسر أمر التكاليف على المكلفين ونحو ذلك من الفوائد والمصالح ، ولنرجع إلى ما أمرنا الله به بالرجوع إليه "الكتاب والسنة" نأخذ منهما أهداف الجهاد وغايته .

الهدف الرئيسي : هو تعبيد الناس لله وحده وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا ، وإخلاء العالم من الفساد وذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا وهو انحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله عليه من التوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل قال ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ..)) رواه مسلم .

فهدف الجهاد الإسلامي الأكبر هو إرجاع البشر إلى الأصل وهو الملة الحنيفية التي تخضعهم لرب العالمين وتجعلهم يستمدون منه سبحانه وتعالى منهج حياتهم الدنيا ويعبدونه كما أمر الله ولا يعبدون أحدًا غيره ، وهذا الخضوع لله هو الذي يحقق لهم السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة .

يقول سيد قطب رحمه الله تحت عنوان منهج متفرد :

((والآن يقول قائل إذا كان الإسلام وهو منهج الله للحياة البشرية لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس إلا بالجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية ، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في البيئات المختلفة ، فما ميزته إذن على المناهج البشرية التي يضعها البشر لأنفسهم ويبلغون منها ما يبلغه جهدهم في حدود طاقتهم وواقعهم ولماذا يجب أن نحاول تحقيق ذلك المنهج وهو يحتاج إلى الجهد البشري ككل منهج ، فلا يتحقق منه شيء بمعجزة خارقة ، ولا بقهر إلهي ملزم ، وهو يتحقق في حياة الناس في حدود فطرتهم البشرية وطاقتهم العادية وأحوالهم الواقعية .

ونحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج ابتداء لنحقق لأنفسنا صفة الإسلام ، فركن الإسلام الأول أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وشهادة أن لا إله إلا الله معناها القريب : إفراد الله سبحانه بالألوهية وعدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائصها ، وأولى خصائص الألوهية حق الحاكمية المطلقة الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد ، وحق وضع المناهج لحياتهم وحق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة .

فشهادة أن لا إله إلا الله لا تقوم ولا تتحقق إلا بالاعتراف بأن الله وحده حق وضع المنهج التي تجري عليه الحياة البشرية وإلا بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لأسباب تتعلق بالمنهج ذاته فهو وحده المنهج الذي يحقق كرامة الإنسان ويمنحه الحرية الحقيقية ويطلقه من العبودية .. هو وحده الذي يحقق له التحرر الكامل الشامل المطلق في حدود إنسانيته وعبوديته لله ... التحرر من العبودية للناس بالعبودية لله رب الناس ، وما من منهج آخر في الأرض يحقق هذه الخاصية إلا الإسلام .

ونحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لأنه وحده المنهج المبرأ من نتائج الجهل الإنساني والقصور الإنساني براءته من نتائج الضعف البشري ، فواضعه هو خالق هذا الكائن الإنساني العليم بما يصلحه ويصلح له ، وهو المطلع على خفايا تكوينه وتركيبه ، وخفايا الملابسات الأرضية والكونية كلها في مدى الحياة البشرية كذلك) هذا الدين 15-20.

 

والأدلة على أن هدف الجهاد الأكبر "تعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد وإزالة الطواغيت كلها من الأرض وإخلاء العالم من الفساد" كثيرة جدًا .

يقول الله عز وجل ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)) 193 البقرة .

ويقول تعالى ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير))39الأنفال .

قال ابن كثير رحمه الله : (ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة .. أي شرك .. قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم ، ويكون الدين لله : أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان)

ابن كثير 1/329

وقال ابن الجوزي ويكون الدين لله:قال ابن عباس:أي يخلص له التوحيد) زاد المسير 1/200

وقال ابن جرير الطبري : (فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض ، وهو الفتنة ، ويكون الدين كله لله ، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره ) تفسير الطبري 13/537.

وقال الشوكاني : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة : فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله وهو الدخل في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله)فتح القدير1/191.

 

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) رواه مسلم

ويقول صلى الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله )) رواه البخاري

ويقول صلى الله عليه وسلم (( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري )) رواه أحمد وصححه الألباني .

وقد كان هذا الهدف العظيم للجهاد حاضرًا في حس الصحابة رضي الله عنهم أثناء معاركهم مع أعداء الله ، ففي صحيح البخاري عن جبير بن حية قال :

((..فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن ، حتى إذا كنا بأرض العدو ، خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفًا ، فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم .

فقال المغيرة : سل عما شئت

قال : ما أنتم ؟

قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد ، نمص الجلد والنوى من الجوع ، ونلبس الوبر والشعر ، ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيًا من أنفسنا ، نعرف أباه وأمه ، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط ، ومن بقي منا ملك رقابكم) رواه البخاري .

 

وذكر ابن كثير قصة ربعي ابن عامر رضي الله عنه لما بعثه سعد بن أبي وقاص إلى رستم وفيها ..( فدخل عليه و قد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة و الزرابي الحرير، و أظهر اليواقيت و اللآلئ الثمينة، و الزينة العظيمة، و عليه تاجه و غير ذلك من الأمتعة الثمينة. و قد جلس على سرير من ذهب. و دخل ربعي بثياب صفيقة و سيف و ترس و فرس قصيرة، و لم يزل راكبها حتى داس بها طرف البساط، ثم نزل و ربطها ببعض تلك الوسائد و أقبل و عليه سلاحه و درعه و بيضته على رأسه. فقالوا له : ضع سلاحك. فقال : إني لم آتكم، و إنما جئتكم حين دعوتموني فان تركتموني هكذا و إلا رجعت. فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال اللَّه ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، و من ضيق الدنيا إلى سعتهما، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه و رجعنا عنه، و من أبي قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود اللَّه. قالوا : و ما موعود اللَّه : قال : الجنة لمن مات على قتال من أبي، و الظفر لمن بقي .. ) البداية والنهاية 7/39.

وهذا الهدف السامي المتضمن إعلاء كلمة الله وهي الإسلام ، وإقامة سلطان الله في الأرض ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتج عنه ، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام ويعبدونهم لغير الله ، موضع اتفاق بين علماء الإسلام ، وها هي ثلة من أقوالهم :

يقول الإمام الشافعي رحمه الله : (فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران :

أحدهما : أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه.

والآخر : أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يُسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية ) الأم 4/167.

 

ويقول محمد بن الحسن رحمه الله : (فرضية القتال المقصود منها إعزاز الدين وقهر المشركين) السير الكبير للشيباني 1/188

 

ويقول ابن القيم رحمه الله : (والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله ، فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم ، فهذا من دين الله ، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم ، وإقامة دينهم كما يحبون ، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة) أحكام أهل الذمة 1/18.

 

ويقول ابن عبد البر المالكي رحمه الله : (يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والفزارية والصقالبة والبربر والمجوس ، وسائر الكفار من العرب و العجم ، يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)

الكافي في فقه أهل المدينة ص466.

 

ويقول سيد قطب رحمه الله : (إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة الإسلام ذاته ، ودوره في هذه الأرض وأهدافه العليا التي قررها الله ، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات .

إن هذا الدين .. إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ، ومن العبودية لهواه أيضًا وهي من العبودية للعباد ، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين ، إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ، أو بتعبير آخر مرادف الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور .

ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله .

إن هذا الإعلان معناه أن يكون السلطان لله تعالى ، وأن تكون الحاكمية له وحده تعالى ، وطرد المخالفين لذلك الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد .

إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض أو بالتعبير القرآني الكريم ((وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله )) ، (( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم )) ، (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )).

ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم ، هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" أو الحكم الإلهي المقدس ، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله ، وفق ما قرره من شريعة مبينة .

وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي العباد ورده إلى الله وحده وسيادة الشريعة الإلهية وحدها ، وإلغاء القوانين البشرية .

كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال .

إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلانًا نظريًا فلسفيًا سلبيًا ، إنما كان إعلانًا حركيًا واقعيًا إيجابيًا يراد له التحقق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، والواقع الإنساني أمس واليوم وغدًا يواجه هذا الدين بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الناس في لأرض من كل سلطان غير سلطان الله بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية ، عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد .

وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات .. فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى ، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة ، وهما معًا _ البيان والحركة _ يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته ، وهما معًا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض .. الإنسان كله في الأرض كلها .. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى .

إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي وليس رسالة خاصة بالعرب .. إن موضوعه هو الإنسان .. نوع الإنسان .. ومجاله هو الأرض كل الأرض .. إن الله سبحانه وتعالى ليس ربًا للعرب وحدهم ، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم ، إن الله هو رب العالمين ، وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره .

والعبودية الكبرى في نظر الإسلام هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر وهذه هي العبادة التي يقرر أنها لا تكون إلا لله ، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين .

ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي صار بها اليهود والنصارى مشركين مخالفين لما أمروا به من عبادة الله وحده .

أخرج الترمذي بإسناده عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منَّ رسول الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عنقه (أي عدي) صليب من فضة ، وهو (أي النبي صلى الله عليه وسلم) يقرأ هذه الآية ((اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله )) فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم .. فذلك عبادتهم إياهم .

وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه وتعالى نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابًا لبعض ، الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله .

ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان بالبيان وبالحركة مجتمعين ، وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعيد الناس لغير الله ، أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه ، والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق العقيدة بحرية لا يتعرض لها السلطان ، ثم لكي يقيم نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي ، بعد إزالة القوة المسيطرة سواء كانت سياسية بحتة أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد)

في ظلال القرآن (3/1433-1435)

 

ويقول أبو الأعلى المودودي رحمه الله : ( إن دعوة الإسلام إلى التوحيد وعبادة الله الواحد لم تكن قضية كلامية أو عقيدة لاهوتية فحسب ، شأن غيره من الملل والنحل .. بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة ، فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ، ومنهم من أستأثر بالملك والإمرة وتحكم في رقاب الناس ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض وجعل الناس عالة يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به .

فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعًا ، وتستأصل شأفتهم استئصالاً

وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرًا وعلانية وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم وينقادوا لجبروتهم ، مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آباءهم أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها فقالوا ((ما علمت لكم من إله غيري )) و(( أنا ربكم الأعلى )) ، و (( من أشد منا قوة )) إلى غيرها من كلمات الاستكبار ، ودعاوى الألوهية ، التي تفوهوا بها ، وتجاسروا عليها بغيًا وعدوانًا .

وطورًا استغلوا جهل الدهماء وسفههم فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة يدعون الناس ويريدونهم على أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل ، متوارين بأنفسهم من وراءها يلعبون بعقول الناس ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون ، فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد وتنديده بالكفر والشرك بالله واجتناب الأوثان والطواغيت ، كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة التي تستعبد البشر من دون الله ، والعاملين عليها المتصرفين في أمورها والذين يجدون فيها سندًا لهم وعونًا على قضاء حاجاتهم ، وأغراضهم ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة وخاطبهم قائلاً (( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلمًا وعدوانًا ، خرجت تقاومه ونضع في سبيل الدعوة العقبات ، وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات ، وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي ، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه المستبدين بمنابع الثراء ، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام .

إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية وجملة من المناسك والشعائر كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام .. بل الحق أن نظام شامل يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم ، ويقطع دابرها ويستبدل بها نظامًا صالحًا ومنهاجًا معتدلاً يرى أنه الخير للإنسانية من النظم الأخرى وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان ، وسعادة له وفلاحًا في العاجلة والآجلة معًا .

ودعوته في هذا السبيل سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء عامة للجنس البشري كافة لا تختص بأمة دون أمة أو طائفة دون طائفة ، فهو يدعو بني آدم جميعًا إلى كلمته حتى أنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس ، يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلاً : لا تطغوا في الأرض وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم ، وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه ، فإن أسلمتم لأمر الله ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرًا وبركة فلكم الأمن والدعة والسلام ، فإن الحق لا يعادي أحدًا ، وإنما يعادي الحق الجور والفساد والفحشاء ، وأن يتعدى الإنسان حدوده الفطرية ويبتغي ما وراء ذلك ما لا حط له فيه حسب سنن الكون وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن يصير عضوًا في الجماعة الإسلامية أو الحزب الإسلامي لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود ، أو بين الغني والفقير ، كلهم سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأمة على أمة ، أو لطبقة على أخرى ، وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي الذي سُمي حزب الله كما قال الوحي ، وما أن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها ، فمن طبيعته وما يستدعيه وجوده أن لا يألوا جهدًا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام واستئصال شأفتها وأن يستنفذ مجهوده في أن يستبدل بها نظامًا للعمران والاجتماع معتدلاً مؤسسًا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم ((كلمة الله )) فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ، ولم يسع وراء تغيير نظم الحكم ، وإقامة الحق ؛ نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام ، ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل فأتته غايته وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ من أجلها ، فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية وتحقيق هذه البغية ، بغية إقامة نظام الحق والعدل ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد ((كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) .

ولا يظن أحد أن هذا الحزب ((حزب الله)) مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين يعظون الناس في المساجد ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا ..ليس الأمر كذلك وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده ويكون شهيدًا على الناس ، ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم ، أن يقضي على منابع الشر والعدوان ، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض بغير الحق ، وجعلوا أنفسهم أربابًا من دون الله ، ويستأصل شأفة ألوهيتهم ، ويقيم نظامًا للحكم والعمران صالحًا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير ، وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم .

((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله))

((إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))

((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))

فتبين من ذلك كله أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ، ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم ، لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض ، وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح ويؤتى أكله إلا بعد ما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة لا يقدر أن يبقى ثابتًا على خطته متمسكًا بمنهاجه عاملاً وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائمًا على أساس آخر سائرًا على منهاج غير منهاجه ، وذلك أن حزبًا مؤمنًا بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص ، لا يمكن أن يعيش متمسكًا بمبدئه عاملاً حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادئ والغايات التي يؤمن بها ويريد السير على منهاجها فإن رجلاً يؤمن بمبادئ الشيوعية إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا متمسكًا بمبدئه سائرًا في حياته على البرنامج الذي تقرره الشيوعية فلن يتمكن من ذلك أبدًا ، لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية تكون مهيمنة عليه قاهرة بما أوتيت من سلطان فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلاً .

وكذلك المسلم إذا أراد أن يقضي حياته مستظلاً بنظام للحكم مناقض لمبادئ الإسلام الخالدة ويوده أن يبقى متمسكًا بمبادئ الإسلام سائرًا وفق مقتضاه في أعماله اليومية فلن يتسنى له ذلك ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبدًا ، لأن القوانين التي يراها باطلة والضرائب التي يعتقدها غرمًا ونهبًا لأموال الناس ، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتًا على العدل ، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها ، ويرى فيها هلاكًا للأمة ، يجد كل هذه مهيمنة عليه ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها ، وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها فالذي يؤمن بعقيدة ونظام فردًا كان أو جماعة ، مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة ، على فكرة غير فكرته ، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام الحكم مستند إلى الفكرة ، ويعتقد أن فيها سعادة للبشر ، لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق .

وإذا رأيت رجلاً لا يسعى وراء غايته أو يغفل عن هذا الواجب فعلم أنه كاذب

في دعواه ولما يدخل الإيمان في قلبه .

وبهذا المعنى ورد في التنزيل ((عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ، لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، والله عليم بالمتقين ، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون))

وأي شهادة وأي حجة انصع من شهادة القرآن وحجته ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ، ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده ، فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .

لعلك تبينت مما أسلفنا آنفًا أن غاية الجهاد في الإسلام هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها ، وهذه المهمة مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام غير منحصرة في قُطر دون قطر بل مما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة ، هذه غايته العليا ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره إلا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها .

أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل المحيط بجميع أنحاء الأرض وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية بل تدعو الناس جميعًا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين لا يمكنها أصلاً أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قُطر ، بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينيها ، ولا نغفل عنها طرفة عين ، فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافيا واصطلحوا عليها ـ وفق المخططات الاستعمارية ـ ) مقتطفات من كلام المودودي نقلها سيد في الظلال (3/1448-1451)

=====

وهناك أهداف وحكم للجهاد كلها تابعة للهدف الرئيسي الذي تقدم آنفًا وتصب فيه منها على سبيل المثال :

1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين :

قال تعالى ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) 190 البقرة .

وقال تعالى ((ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ، وهم بدأوكم أول مرة ، أتخشونهم ، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)) 13 التوبة .

وقال صلى الله عليه وسلم ((إنما بعثتك لأبتليك و أبتلي بك و أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما و يقظانا و إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال : استخرجهم كما استخرجوك و اغزهم نغزك و أنفق فسننفق عليك و ابعث جيشا نبعث خمسة مثله و قاتل بمن أطاعك من عصاك .. الحديث)) رواه أحمد ومسلم .

وقد تقدم معنا في مقالة (حكم الجهاد وأنواعه) أن علماء الإسلام أجمعوا على أن رد اعتداء الكفار عن المسلمين فرض عين على كل قادر .

 

2- إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائق ، وحتى يروا نظام الإسلام مطبقًا ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر ، وما فيه من سمو في شتى المجالات .. والفتنة ثلاثة أنواع :

النوع الأول : ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم ، وقد ندب الله المسلمين للجهاد لإنقاذ المستضعفين .. قال تعالى (( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا)) 75 النساء.

النوع الثاني: هو الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة فإن هذه من شأنها أنها تفتن المسلم عن دينه ، لذلك صارت إزالتها هي الهدف الرئيسي للجهاد كما سبق أن بينا أن أكثر السلف يفسرون الفتنة في قوله تعالى ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)) بالشرك ، ومن فسر الفتنة بما يمارسه الكفار لصد المسلم عن دينه من أنواع التعذيب فلا منافاة بين قوله وقول الفريق الأول ، فإزالة الشرك مقصودة ، ورفع الفتنة عن المسلمين وإنقاذ المستضعفين مقصود ، كذلك وقد دل على كلا الأمرين الكتاب والسنة وإجماع فقهاء الأمة كما تقدم.

ومن هذا الباب إخضاع أهل الجزية لأحكام الإسلام ومنعهم من المجاهرة بدينهم ومنعهم من التعامل بالربا والزنا ونحو ذلك لأن هذه الأوضاع من شأنها أنها تفتن المسلم عن دينه وقد أمر الله المسلمين بالجهاد حتى تزول الفتنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل نجران أرسل إليهم من الصحابة من يقيم على البلاد حكم الإسلام غلا في أمور النصارى الخاصة بهم داخل كنائسهم ، واشترط عليهم ألا يتعاملوا بالربا فإن تعاملوا به ، فذمة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم بريئة.. انظر الخراج لأبي يوسف.

 

ومن إزالة الفتنة عن المسلمين فك أسراهم ، فإن من شأن الكفار أنهم يفتنون الأسرى عن دينهم ، لذلك قال الفقهاء إن فك الأسير فرض عين على المسلمين ، ويتعين عليهم الجهاد حتى يستنقذوا أسرى المسلمين جميعًا .. (انظر القوانين الفقهية لابن جزي المالكي)

 

فإزالة الفتنة عن المسلمين وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين كلها من مقصود الجهاد .

وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رفع إليه ذمي نخس دابة امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها ، فانكشف بعض عورتها ، فأمـــر بـصـلبــه في الموضع.تفسير القرطبي 8/83.

وقوله تعالى ((حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) دليل على أن إلزام الكفار الذلة والصغار من أهداف الجهاد الإسلامي ، وكذلك إعزاز المسلمين ورفع المهانة عنهم فقد كان من أسباب طرد الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع أن منهم رجلاً كشف عورة امرأة مسلمة ليضحك الناس عليها فقتله رجل من المسلمين كان حاضرًا ، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي رام إذلال المسلمة ، بل كاد أن يقتل بقية يهود بني قينقاع حتى شفع فيهم رأس النفاق بالمدينة لعنه الله وأخزاه ، فترك الرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم لمقاصد شرعية وأجلاهم عن المدينة .

 

النوع الثالث : فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله ، وذلك أن الأنظمة والحكومات الشركية تقيم حاجزًا بين الناس واستماع الحق أو قبوله بتخريبها لفطر الناس بما تشرعه لهم من مناهج في شتى مجالات الحياة ، فإذا فسدت فطر الناس بما تشرعه لهم من مناهج في شتى مجالات الحياة .. فإذا فسدت فطر الناس وعقولهم قل أن يستجيبوا للهدى ، وإذا تربى جيل على الذلة والمهانة والعبودية للخلق من دون الخالق وتربى على الإدمان على الخمر والتمرغ في وحل الجنس والتحلل من الأخلاق الفاضلة ، قل أن يرتفع إلى مستوى النفس البشرية السوية التي تعرف المعروف من المنكر ، وتحب الخير وتبغض الشر ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه ، لذا كان من أهداف الجهاد إزالة الفتنة عن الكفار أنفسهم بالإضافة إلى إزالتها عن المسلمين من باب أولى ، فإذا زالت الفتنة عن الكفار المحكومين من قبل الطغاة المتألهين الذين يشرعون ما يفسد الفطرة البشرية لكي يضمنوا عبوديتها لهم ، رجي إسلامهم واستجابتهم لداعي الهدى ، لا سيما إذا عاشوا في المجتمع الإسلامي الذي يخضع لتشريعات الله العليم الخبير ، خالق النفس البشرية والعالم بما يصلحها ، وهذا طرف من الحكمة الإلهية في تشريع الجزية على أهل الكتاب والمجوس لإعطائهم فرصة تصلح فيها فطرهم بتطبيقها لتشريعات الإسلام العامة ومخالطة المسلمين ، ومعرفة ما في الدين الإسلامي من تكريم للنفس البشرية وانتشالها من القبائح إلى الفضائل ومن عبادة الخلق والشيطان والهوى إلى عبادة الحي القيوم .

 

3ـ حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار ، ومن الأدلة على هذا الهدف العظيم ما رواه الأمام أحمد عن ابن عبدالله بن أنيس عن أبيه رضي الله عنه قال :

((دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد بلغني أن خالد ابن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني ، وهو بعرنة ، فأته فاقتله ، قلت يا رسول الله اعته لي حتى أعرفه ، قال : إذا رايته وجدت له أقشعريرة ، قال فخرجت متوشحًا بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً ، وحين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله عليه وسلم من الاقشعريرة ، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة ، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود فلما انتهيت له ، قال : من الرجل ؟ ، قلت : رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا ، قال : أجل أنا في ذلك .. فمشيت معه شيئًا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته ، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال : أفلح الوجه ، قال : قلت قتلته يا رسول الله ، قال : صدقت ، قال : ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصا ، فقال أمسك هذه عندك يا عبدالله بن أنيس ، قال فخرجت بها على الناس فقالوا ما هذه العصا ، قال : قلت أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها ، قالوا : أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك . قال : فرجعت فقلت يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا ، قال آية بيني وبينك يوم القيامة ، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ يوم القيامة ، فقرنها عبدالله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فصبت معه في كفنه ثم دفنا جميعًا )) رواه أحمد .

 

ومن ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وسلام ابن أبي الحقيق اليهودي ، فإنهما كانا مصدر خطر على الدولة الإسلامية ، فأرسل لهما الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يقتلهما.

 

ومن ذلك حض الرسول صلى الله عليه وسلم على الرباط وحراسة المسلمين والرباط هو المرابطة في الثغور على حدود الدولة الإسلامية وفي مقابلة الأعداء والأحاديث في فضل الرباط كثيرة جدًا منها ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من مات مرابطًا وقي فتنة القبر ، وأمن من الفزع الأكبر ، وغدي عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابطة إلى يوم القيامة)).

 

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب فضل رباط يوم في سبيل الله ، وقول الله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون)) ثم روى بسنده عن سهل بن سهل الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها )) رواه البخاري .

وفيما تقدم دليل جلي على أن حماية الدولة الإسلامية من أهداف الجهاد العظيمة ، ولكن مما ينبغي أن يتنبه له أن الدولة الإسلامية ليست حوزة من الأرض لها حدود معينة يحافظ عليها فقط ، بل كلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة الإسلامية ، فعلى المسلمين المحافظة عليها ، ودفع سلطان الإسلام إلى الأمام في الأراضي المجاورة لكي تتوسع رقعة الدولة الإسلامية ، لأن الإسلام يتطلب الأرض كلها ليخضعها لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فليس دين الله مرادًا به بلدًا معينًا أو جنسًا معينًا من الأجناس البشرية .

يقول سيد قطب رحمه الله : (وحقيقة أن حماية دار الإسلام حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج ، ولكنها هي ليست الهدف النهائي ، وليست حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته ، فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين والأرض هي مجاله الكبير) الظلال3/1441

 

4ـ قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم وذلك لأن الكفر كالسرطان ، بل أشد ، فإذا لم يسلم الكافر أو يخضع للحكم الإسلامي فلا بد من استئصاله حتى لا يفسد المجتمع الذي يوجد فيه ، يقول تعالى ((فإذا لقيتم الذين كفروا ، فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ..الآية))14التوبة .

ويقول جل شأنه ((قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )) التوبة 14، ((فاضربوا فوق الأعناق،واضربوا منهم كل بنان)) الأنفال12

((واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل))البقرة 191، ((ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين))الأنفال7

((ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض))الأنفال 67، ((ليقطع طرفًا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين))آل عمران 127.

ومن ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل الكافرين قوله صلى الله عليه وسلم ((لا يجتمع في النار كافر وقاتله أبدًا)) رواه أبو داود .

ويدل على هذا أيضًا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على قتل أبي جهل وغيره من صناديد الكفر ، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن مقتل أبي جهل ((فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل ، فأصبت يده ، فندر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته ، قال ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنما أقل عن الأرض فأخبرته ، فقال صلى الله عليه وسلم : آلله الذي لا إله إلا هو ؟ فرددها ثلاثًا ، قال فقلت : آلله الذي لا إله إلا هو ، قال فخرج يمشي معي حتى قام عليه ، فقال الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله ، هذا كان فرعون الأمة )) البداية والنهاية3/289.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر (( أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، و تمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، و هؤلاء صناديدهم و أئمتهم و قادتهم))البداية والنهاية3/297

وقد نزل القرآن العظيم حاضًا على هذا الهدف وهو قتل صناديد الكفر حتى يتم الإثخان في الأرض .. قال تعالى ((ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم ، ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم))الأنفال 67-68

 

5ـ إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وإيهان كيدهم وإغاظتهم ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)) الأنفال 59 ((قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ، ويتوب الله على من يشاء ، والله عليم حكيم))التوبة 14-15، ((ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين)) الأنفال 18.

ومما يدل على أن إخافة العدو من مقاصد الجهاد ما رواه أحمد عن أم مالك البهزية رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه ، ورجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه )).

ويقول ابن القيم رحمه الله ((..ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له ، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله تعالى ((ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرة وسعة )) سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغمًا يراغم به عدوه الله وعدوه ، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال تعالى ((ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين)) ، وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه ((ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار)) فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة ، فموافقته فيها من كمال العبودية وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين وقال ((إن كانت صلاته تامة ، كانتا ترغمان أنف الشيطان)) وفي رواية ((ترغيمًا للشيطان)) وسماهما المرغمتين ، فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر ، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ، ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين )) مدارج السالكين1/226.

 

وللجهاد أهداف سامية ومصالح كريمة وفوائد عظيمة ، تتحقق للمسلمين في ذوات أنفسهم إذا مارسوا الجهاد على سبيل المثال :

1ـ كشف المنافقين . . فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم غيرهم ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية وهم لا يريدون رفع كلمة الله على كلمة الكفر ، وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين ، وأكبر كاشف لهم هو الجهاد لأن في الجهاد لأغلى ما يملك الإنسان غير عقيدته وهو روحه ، والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه وليوفر لنفسه ملذاتها ، فإذا دعا داعي الجهاد الذي قد يعرضه لفقد روحه انكشف نفاقه للناس ، يقول تعالى ((ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب))179آل عمران، ويقول تعالى ((فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت))20محمد

ومعرفة المؤمنين للمنافقين فيها فوائد لا تحصى ، فإنهم العدو الداخلي وخطرهم يفوق خطر العدو الخارجي أحيانًا ، فإذا عُرفوا مُنعوا من الغزو مع المسلمين ، ولا يستمع المؤمنون لما يعرضونه عليهم من أراجيف وتثبيط ومن أقوال يلبسونها ثياب النصح والإصلاح ، وجاهدهم المؤمن بما أمرهم الله به ((يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم))73التوبة.

2ـ تمحيص المؤمنين من ذنوبهم ، فإن المجاهد المسلم إذا أخلص النية لله إذا حضر المعركة فقتل الكفار ، نال ثوابًا عظيمًا ، كما جاء في الحديث ((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدًا))رواه أبو داود .. وإذا خالط قلبه الرهج والخوف في سبيل الله تحاتت عنه خطاياه ، وأما إذا قتله الكفار فذلك الفوز الذي لا يعدله فوز .... الشهادة .... وما أدراك ما الشهادة.

يقول صلى الله عليه وسلم ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد ، يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة))رواه البخاري

فالشهادة في سبيل الله وتكفير الذنوب هدف رفيع وفائدة عظيمة تعود على المسلمين من جهادهم .. يقول تعالى ((وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين))140-142 آل عمران.

وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا الهدف الرفيع وهو تمحيص الذنوب وهذه الفائدة العظيمة والمنزلة الرفيعة وهي الشهادة ، فشمروا وتسابقوا للفوز بذلك ..

يقول ابن إسحاق : (ثم مضوا حتى نزلوا معاناً من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، و انضم إليه من لخم و جذام و القين و بهراء و بلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى، ثم أحد أراشة يقال له: مالك بن رافلة، و في رواية يونس عن ابن إسحاق: فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم و مائة ألف من المستعربة، وقيل كان الروم مائتي ألف ومن أعدائهم خمسون ألفا وأقل ما قيل: أن الروم كانوا مائة ألف ومن العرب خمسون ألفا حكاه السهيلي، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، و قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، و أما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة و قال : يا قوم و الله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، و ما نقاتل الناس بعدد و لا قوة و لا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور و إما شهادة، قال: فقال الناس : قد و الله صدق ابن رواحة)

البداية والنهاية 4/243

قال ابن إسحاق : (( و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يناشد ربه ما وعده من النصر و يقول فيما يقول « اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد » و أبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك، و قد خفق النبي صلى الله عليه و سلم خفقة و هو في العريش ثم انتبه فقال : « أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع » يعني الغبار. قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الناس فحرضهم. و قال : « و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة » قال عمير بن الحمام أخو بني سلمة و في يده تمرات يأكلهن : بخ بخ أفما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟ قال: ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله

 

وقال أيضًا (( دنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « قوموا إلى الجنة عرضها السموات و الأرض » قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات و الأرض ؟ قال: « نعم ! » قال: بخ بخ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « ما يحملك على قول بخ بخ ؟ » قال: لا و الله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: « فإنك من أهلها » قال فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة، قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله. و رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة و جماعة عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة به، و قد ذكر ابن جرير أن عميراً قاتل و هو يقول رضي الله عنه :

ركضاً إلــى الله بغيـــرِ زادِ ............. إلا التُّقَــى و عمــل المعـــادِ

والصــبرُ في الله علـى الجهـادِ ............ و كــلُّ زادٍ عُــرضَــة النفاد

غيــرَ التّقى و البِــرِّ و الرشادِ

وقاتلهم رضي الله عنه حتى قتل ..... البداية والنهاية 3/277

 

3ـ تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس وغير ذلك من الفوائد التربوية فإن الركون إلى الراحة والدعة وعدم ممارسة الشدائد والصعاب تورث العبد ذلاً وخمولاً وتشبثًا بمتاع الحياة الدنيا ، وخوض المعارك ومقارعة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها ويوجب لها استعدادًا للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة ، وتتربى في النفس البشرية من الجهاد صفات كثيرة كصفة الشجاعة والنجدة والصبر والأخوة والعفو ونحو ذلك من الصفات المحمودة ويزول من النفس ما يقابلها من الصفات المذمومة كصفة الجبن والشح والأنانية ونحو ذلك .

 

4ـ الحصول على الغنائم والسبي ، وإن لها لموقعًا في النفس البشرية ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعطي القاتل سلب المقتول ، وينقل جزءًا من الغنيمة لبعض الجيش إذا قاموا بعمل حربي بمفردهم ، وقال لبعض أصحابه لما بلغه خبر عير أبي سفيان راجعة من الشام ((هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها))

البداية والنهاية 3/256

وقال صلى الله عليه وسلم حين خروجه من المدينة قاصدًا التعرض لعير قريش ((اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، اللهم إنهم عراة فاكسهم ، اللهم إنهم جياع فأشبعهم))

1003 الصحيحة .

وقال القرطبي (ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة ، لأنها كسب حلال ، وهو يرد على ما كره مالك من ذلك إذ قال :ذلك قتال على الدنيا ، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، دون من يقاتل للغنيمة ، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ) تفسير القرطبي7/376

وقال أيضًا : (ثم قيل الأسباب التي يُطلب بها الرزق ستة أنواع : أعلاها كسب نبينا صلى الله عليه وسلم قال ((جُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي ، وجُعل الذلة والصغار على من خالف أمري)) أخرجه الترمذي وصححه ، فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله ، وخصه بأفضل أنواع الكسب وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه)

تفسير القرطبي 8/108

وقال الشوكاني : (قال ابن أبي جمرة ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصده إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه) نيل الأوطار7/244.

وبهذا يظهر والله أعلم أن قصد الغنيمة يكون من أهداف الجهاد التابعة لا الأصلية ، والذي لا يجاهد إلا للغنيمة فلا خير في جهاده ، لأن الهدف الأصلي للجهاد هو إعلاء كلمة الله ، وخفض كلمة الطاغوت ، ومد سلطان الله في الأرض ، فإذا قصد المسلم بجهاده هذا ، ثم اشتاقت نفسه ورغبت في الحصول على غنيمة من الكفار بعد كسر شوكتهم والاستيلاء عليهم ، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى .

 

وإذا كانت هذه معظم أهداف الجهاد ومقاصده ، فما هي الغاية التي يتوقف عندها الجهاد ؟

 

إن الغاية التي يتوقف عندها الجهاد هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم عقيدة الإسلام من غير أهل الكتاب والمجوس ، أما أهل الكتاب والمجوس فإذا دفعوا الجزية ملتزمين لأحكام الإسلام القضائية حال كونهم في ذلة وصغار ، فإن المسلمين يوقفون جهادهم ويكفون عنهم ويحمونهم من عدوهم ، ولن يتوقف الجهاد الإسلامي مدى الحياة ، لأن الشيطان مستمر في إغواء بعض البشر والصراع بين الحق والباطل سنة إلهية لا تنتهي حتى ينتهي وجود البشر في هذه الأرض .

فعن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سئمت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها ،قلت لا قتال .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس ، يرفع الله قلوب أقوام فيقاتلونهم ، ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك ، ألا إن عقر دار المؤمنين الشام ، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )) رواه أحمد

وقال صلى الله عليه وسلم ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة)) البخاري ومسلم

وقال البخاري في صحيحه : باب الجهاد ماض مع البر والفاجر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود في نواصيها الخير غلى يوم القيامة)

قال ابن حجر : سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة ، وفسره بالأجر والمغنم ، والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد ، ولم يقيد بما إذا كان الإمام عادلاً ، فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر. الفتح6/42.

 

وبهذا يظهر أن الجهاد مستمر إلى قيام الساعة ، وأنه لا ينتهي جهاد الكفار إلا إذا أسلموا أو خضعوا لحكم الإسلام ، ودفعوا الجزية حالة كونهم متلبسين بالذل والصغار

واختلف العلماء رحمهم الله فيمن تؤخذ منه الجزية ؟ .

والقول الراجح ( مختصراً ) هو قول الشافعي والمشهور عن أحمد وهو أن أهل الشرك لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى سواء كانوا عربًا أم غير عرب فتقبل منهم الجزية ، وكذلك المجوس ، وإن كانوا مشركين للأدلة المخصصة لهم من سائر المشركين .وليس هذا موضع التفصيل لهذه المسألة .

 

ختامًا نسأل الله العلي القدير ، أن يثبت المجاهدين و يرزقهم النصر والتمكين ، كما نسأله سبحانه أن يختم لنا ولهم بخاتمة الخير والسعادة ، وأن يجعل موتنا شهادة في سبيله خالصة لوجهه الكريم .

وأن يتقبل من مات من المجاهدين في الشهداء ،وأن يرزقهم الدرجات العلى من الجنة وأن يجعلهم مع سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ...

اللهم واجمعنا وإياهم في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ، واسقنا وإياهم شربة هنيئة من يد نبيك محمد صلى الله عليه وسلم لا نظمأ بعدها أبدًا .

 

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله القوي العزيز ، وبأنك أنت الله الجبار المنتقم أن تدمر أعداء الدين ، وأن تنزل عليهم غضبك وأليم عقابك وشديد عذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، وأن تهلك المنافقين وأن تمكر بهم أجمعين ..

اللهم أهلك اليهود والنصارى والمشركين ومن والاهم أو أعانهم بشيء على عبادك المؤمنين .. وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وحداني العتيبي

---------------

لا يحل لأحد أن يُصَوم أو يُفطّر المسلمين بالحساب فيتقلد إثمهم ويبوء بوزرهم

"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"

 

الأمور التي تتعين فيها مخالفة الكفار

الخلاصة

الدليل على ذلك

 

الاعتداد بالدين، والإفتخار والتمسك بسنة سيد المرسلين، وبغض الكفرة والمنافقين والمبتدعين، وعدم التشبه بهم، سر ظهور هذا الدين وبقائه: "لا تزال طائفة من أمتي  ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة وهم على ذلك"، ولا يتم ذلك إلاّ بمخالفة الكفار في المخبر والمظهر، إذ مخالفتهم قربى وعبادة، حيث أمرنا بمخالفة اليهود والنصارى  ونحوهم في أكثر من ستين حالة وهيئة.

الأمور التي تتعين فيها مخالفة الكفار

مخالفة الكفار واجبة في المخبر والمظهر سيما:

1. الهدي والسمت، لأن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.

2. التحدث  برطاناتهم إلاّ عند الضرورة ـ والتزام العربية الفصحى.

3. في الأعياد، فليس للمسلمين إلاّ عيدان سنويان هما الفطر والأضحى، وعيد أسبوعي هو الجمعة.

4. العمل بتقاويمهم والعمل بالتقويم القمري الغروبي، سيما في الصوم، والحج،  والعدد، والكفارات، وصرف المرتبات، والتأريخ، لأن عزة الأمة في إعتدادها بمظهرها، ولغتها، وتاريخها، وتراثها، ولهذا لا يحل العمل بالتقويم الشمسي إلاّ في معرفة أوقات الصلوات.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله  اثنا عشر شهراً" الآية: (هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط، وإن لم تزد على اثني عشر شهراً، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على الثلاثين، و منها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على الثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج).

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، يعني تمام الثلاثين".

وقال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدد".

ينبغي للمسلمين أن يلتزموا بذلك ولو أصبحوا كلهم  كتاباً حاسبين لأن الإسلام دين الفطرة .

قال أبو العباس القرطبي المالكي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم":  (قوله صلى الله عليه وسلم "إنا أمة أمية..."، أي لا نكلف في تعرف مواقيت صومنا وعبادتناما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم، ثم تمم هذا المعنى وكمله حيث بينه باشارته بيديه، و لم يتلفظ بعبارة عنه نزولاً إلى ما يفهمه الخرسوالعجم،  وحصل من إشارته ثلاث مرات، أن الشهر يكون ثلاثين، ومن خنسه ابهامه في الثالثة: أن الشهر يكون تسعاً وعشرين... وعلى هذا الحديث من نذر أن يصوم شهراً غير معين، فله أن يصوم تسعاً وعشرين).

وعليه يحرم على الحاسب، والمنجم، ومن يعرف منازل القمر أن يصوم أويفطر بذلك  دون  الرؤية أويصّوم غيره فإن فعل فلا يجزئه  .

قال الإمام النووي رحمه الله :( لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الفلكي الحاسب رحمه الله: (فإننا نعلم بالا ضطرار من دين الاسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أوالحج، أوالعدة، أوالإيلاء، أوغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال، بخبر الحاسب أنه يُرى أولا يُرى لا يجوز.

والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه  وسلم بذلك  كثيرة، وقد أجمع  المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، و لا خلاف حديث إلاّ أن بعض المتأخرين  من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة  زعم  أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب  أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب  دل على الرؤية صام وإلاّ فلا، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع وعلى خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أوتعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم).

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء  بالمملكة العربية السعودية وقد سئلت عن جواز العمل في الصوم بالحساب الفلكي: (أولاً القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه و سلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة"، من أن العبرة في بدء شهر رمضان وشوال -  وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام  التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.

ثانياً: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبينه رسوله بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال، ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم، مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال، وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه).

ã

الخلاصة

وعليه فإنه لا يحل لإمام المسلمين ولا لغيره، من قاضٍ، أومجلس فتوى أن يصوِّم المسلمين أويفطِّرهم بالحساب، فإن فعل ذلك فقد باء بإثمهم وتحمل وزرهم، ولا يجزئ صومهم هذا، سواء كان الجو صحواً أم لا.

ولا ينبغي لمسلم أن يطيع أحداً في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ã

والدليل على ذلك ما يأتي:

أولاً: القرآن الكريم

قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً" الآية.

وقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" الآية.

ثانياً: السنة

قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث.

ثالثا: الإجماع

حيث أجمع أهل السنة قاطبة ـ إلا من شذ ـ أهل الحق والعدل على ذلك، ولم يعمل بالحساب إلا أهل الأهواء الرافضة، فبئس حال ومآل من اتخذ الرافضة قدوة له.

وأخيراً نقدم للمتساهلين في هذه المسألة المتهاونين فيها موقف الإمام الشهيد البطل قاضي قضاة مدينة برقة في عهده محمد بن الحُبُلي رحمه الله، الذي رفض أن يفطِّر الناس بالحساب ويتقلد إثمهم ويبوء بوزرهم، وإن أدى ذلك إلى استشهاده رحمه الله:

قال الإمام الذهبي رحمه الله: (الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحُبُلي أتاه أمير برقة ـ عندما كانت تحت وطئة الرافضة ـ فقال: غداً العيد؛ قال: حتى نرى الهلال، ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم؛ فقال: بهذا جاء كتاب المنصور؛ وكان هذا رأي العبيدية يفطِّرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية، فلم ير الهلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهْبَة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي؛ فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فأمر، فعُلِّق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش، فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين) مصحوبة بغضب رب العالمين على الرافضة أجمعين إلى يوم الدين.

قلت: لو كان لهذا الإمام سعة أن يفطر الناس بالحساب لما جاز له أن يفضل القتل عليها، ولأخذ بها لعلمه أن هؤلاء الخبثاء سيقتلونه قطعاً إذا خالف باطلهم، كما قتلوا أسلافه من أئمة أهل السنة المالكيين على يد هؤلاء الطغاة المارقين.

قال الذهبي الحافظ الكبير والمؤرخ القدير: (قال أبو الحسن القابسي صاحب "الملخَّص": إن الذين قتلهم عبيد الله الرافضي الشيعي وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردوهم على الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فقال سهل الشاعر:

وأحل دار النحر في أغلاله                 من كان ذا تقوى وذا صلوات

ودفن سائرهم في "المنستير" وهو بلسان الفرنج المعبد الكبيـر، وكانت دولة هذا بضعاً وعشرين سنة).

وما فعله الشيعة الرافضة المتسمين بالقرامطة بالمسلمين بالمشرق في ذلك العهد فاق ما فعله إخوانهم في الضلال بالمغرب الإسلامي، كما بين ذلك المؤرخان المحدثان الذهبي وابن كثير.

يقول الذهبي في ترجمة القرمطي هذا: (عدو الله ملكُ البحرين أبو طاهر.. القرمطي.. الذي سار إلى مكة 317هـ ، فاستباح الحجيج كلَّهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، في سبعمائة فارس، فاستباح الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة يصيح:

أنا بالله وبالله أنا                 يخلق الخلق وأفنيهم أنا

فقتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وسبى الذرية، واقام بالحرم ستةأيام، بذل السيف في سابع ذي الحجة ولم يُعَرِّف أحد ـ لم يقف أحد بعرفة ولم يحج ـ تلك السنة... دخل القرمطي سكران على فرس، فصفر له فبال عند البيت، وضرب الحجر بدُبوس هَشَّمه ثم اقتلعه، وأقاموا بمكة أحد عشر يوماً، وبقي الحجر الأسود عندهم نيفاً وعشرين سنة).

نقدم ذلك للمخدوعين بالدعايات الشيعية، والتقية الرافضية، الداعين إلى التقارب بين اللاعنين لكبار الصحابة، السابين لخيارهم، القاتلين للمترضين عليهم.

وفق الله المسلمين للعمل بكتابه، والتمسك بسنة نبيه، وعصمهم من تقليد الكفار والتشبه بهم، المفضي بهم إلى غضب الجبار، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

---------------------

مذاهب أهل العلم في اختلاف المطالع

هذه من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم إلى قولين:

الأول: إذا رُؤي الهلال في بلد من بلاد الإسلام لزم جميع المسلمين الصوم أوالإفطار، وهذا مذهب الجمهور أبي حنيفة، والشافعي، والليث، وبعض الشافعية، وأحمد، وفريق من المالكية.

الثاني: إذا ثبت الهلال في بلد لا يلزم الصيام أوالفطر غير أهل البلد الذي رُؤي فيه الهلال، وهذا مذهب ابن عباس، وعكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق بن راهَوَيْه.

قال النووي عن مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم: (نقل ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق بن راهَوَيْه أنه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية، وعن الليث، والشافعي، وأحمد يلزم الجميع، قال: ولا أعلمه إلا قول المدني، والكوفي؛ يعني مالكاً وأبـا حنيفـة).

استدل أصحاب القول الأول بقوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وقد ثبت الهلال بالبينة أوبالرؤيا المستفيضة، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم.

واستدل أصحاب القول الثاني بحديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، وقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية؛ فقال: لكننا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أونراه؛ فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال أبو العباس القرطبي المالكي في شرح قول ابن عباس: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمة تصريح برفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأمره به، فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام والحجاز، أوما قارب ذلك، فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته، إذ المسألة اجتهادية مُخْتلف فيها، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهاده، ولا تحل مخالفته، ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية، وصام الناس بها بالشام، ثم لم يلتفت ابن عباس إلى ذلك، بل بقي على حكم رؤيته.

إلى أن قال:  وإلى هذا صار ابن عباس، وسالم، والقاسم، وعكرمة، وبه قال إسحاق، وإليه أشار الترمذي، حيث بوب: لأهل كل بلد رؤيتهم؛ وحكى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خرسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين؛ قلت: وهذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر بن عبد البر يدل على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد، ولم يكن في حكم القطر الواحد).

وقال ابن قدامة: (وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، وهذا قول الليث، وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة، لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في إحداهما، وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم؛ وهو مذهب القاسم، وسالم، وإسحاق.

إلى أن قال مؤيداً القول الأول: وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين).

قلت: هذه من المسائل الخلافية التي لا ينبغي أن يثرب فيها أحد على الآخر، إذ الاجتهاد فيها سائغ، ولكن الذي يترجح لدي من قولي أهل العلم السابقين القول الأول، وهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، خاصة في هذا العصر الذي أضحى فيه العالم كالقرية الواحدة، لسهولة الاتصال ويسره، ولما في ذلك من مظاهر الوحدة ونبذ الاختلاف والتفرق في الصوم والتعبد؛ هذا كله إذا رؤي الهلال في بلد من بلاد المسلمين بواسطة عدل لهلال رمضان، وعدلين لهلال شوال، أوبرؤية مستفيضة، والله أعلم.

والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلهم يداً على من سواهم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن والاهم

-----------------------

هديه صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح في تلاوة القرآن في شهر الصيام

أ.  الرسول صلى الله عليه وسلم

ب.  هدي السلف الصالح

تنبيه

رمضان هو شهر القرآن: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن".

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنه أنزل جملة واحدة من اللـوح المحفــوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر، ويشهد لذلك قول تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، وقوله: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة".

ولهذا كان جبريل عليه السلام يدارس الرسولَ صلى الله عليه وسلم القرآنَ في كل رمضان مرة، وفي السنة التي مات فيها عليه الصلاة والسلام دارسه القرآن مرتين، قالت فاطمة رضي الله عنها: "إن أباها أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين"، وعن ابن عباس: "أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً".

وكان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والسلف العظام الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته في الصلاة وخارج الصلاة في رمضان، وكان من أراد الإطالة في القراءة في الصلاة في القيام صلى وحده وبمن يطيق.

وإليك نماذج من هديهم في ذلك:

أ.  الرسول صلى الله عليه وسلم

   في الصلاة

كان يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، كما حكى عنه حذيفة رضي الله عنه وقد صلى معه ليلة: "فقرأ بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة"، وذلك لأن ركوعه وسجوده في كل ركعة كان قريباً من قيامه.

وصح عن أبي ذر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا: لو نفلتنا بقية ليلتنا؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته".

   خارج الصلاة

كان يعرض على جبريل القرآن في ليالي رمضان.

ã

ب.  هدي السلف الصالح

   في الصلاة

o  كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في ثلاث ليالٍ.

o  وبعضهم في سبع، منهم قتادة.

o  وبعضهم في عشر، منهم أبو رجاء العطاردي.

   خارج الصلاة

   كان الأسود بن يزيد رحمه الله يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان.

   وكان للإمام الشافعي ختمتان في كل يوم سوى الصلاة.

   وكان النخعي يختم في كل ثلاث ليال في العشرين الأول من رمضان، وفي العشر الأواخر يختم في ليلتين سوى الصلاة.

   وكان لأبي حنيفة كذلك ستون ختمة في رمضان.

   وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.

   وكان مالك كما قال ابن عبد الحكم: إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن في المصحف.

   وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.

   وكانت عائشـة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس - أي ارتفعت - نامت.

   وكان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف، وجمع إليه أصحابه.

ã

تنبيه

النهي عن الختم في أقل من ثلاثة أيام هذا في غير رمضان، أما في رمضان خصوصاً العشر الأواخر منه وفي الأماكن المقدسة نحو مكة والمدينة فيستحب الإكثار من تلاوة القرآن، وذلك لشرف الزمان والمكان.

هذا ما ذهب إليه الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ويدل عليه هديُهم.

ومن أهل العلم من قال إن النهي عام، منهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، حيث قال: (بعض السلف قال: إنه يستثنى من ذلك أوقات الفضائل، وأنه لا بأس أن يختم في كل ليلة، كما ذكروا هذا عن الشافعي وغيره، ولكن ظاهر السنة أنه لا فرق بين رمضان وغيره، وأنه ينبغي له أن لا يعجل، وأن يطمئن في قراءته، وأن يرتل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو فقال: "اقرأه في سبع"، هذا آخر ما أمر به، وقال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"، ولم يقل إلا في رمضان، فجعل بعض السلف هذا على غير رمضان محل نظر).

قلت: يؤيد استثناء رمضان خاصة العشر الأواخر منه والأماكن المقدسة من هذا النهي فعله صلى الله عليه وسلم، حيث كان إذا دخل العشر الأول: "شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيى ليله"، كما صح بذلك الخبر، وما كان يصنع هذا في غير هذه الليالي من العام، والله أعلم.

----------------------

هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في القيام في رمضان

 

الأول: عدد ركعات القيام

ثانياً: مقدار القراءة في القيام

أ. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك

ب. هدي الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك

ج. هدي التابعين رحمهم الله في ذلك

د. أقوال الأئمة وهديهم في ذلك

الخلاصة

 

الحمد لله القائل: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كـان يرجو الله واليوم الآخر"، وصلى الله وسلم على رسوله القائل:" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".

فالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب سيما في العبادات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال في حجة الوداع: "لتأخذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" الحديث.

وبعد..

فإن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدي صحابته الكرام، والسلف العظام، في قيام رمضان معلوم معروف، وينبغي للمسلم أن يتأسى بهم في ذلك لينال الأجر والثواب الذي وعد به: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

والقيام إيماناً واحتساباً كغيره من العبادات له شرطان، هما:

1.  الصدق والإخلاص.

2.  وموافقة السنة.

فإذا فقدت العبادة هذين الشرطين أوأحدهما فسدت، وإن اختل شرط منهما اختلت العبادة بقدر اختلاله.

كثير من الناس لا يؤدون صلاة القيام، والقليل الذي يؤدي هذه الصلاة يخل بها، ويرجع ذلك لأسباب هي:

1.  ضعف الهمم والعزائم.

2.  الجهل بهديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه في القيام.

3.  استجابة كثير من الأئمة لرغبات المصلين في تخفيف الصلاة تخفيفاً مخلاً ومضيعاً لغرض القيام، فبعض الأئمة يكتفي بقراءة آية واحدة تتكون من كلمة نحو "مدهامتان" في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية المداومة على سورة الإخلاص، ومنهم من يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بآيتين وفي الثانية بآية واحدة، ومنهم من يقرأ بعد الفاتحة في الركعات الأول من القيام بالتكاثر إلى الكافرون، وفي الثواني بالإخلاص.

بحيث أن القيام لا يزيد في كثير من الأحيان عن ربع ساعة، ولا زلت أذكر أنَّ أحد المصلين سُبق بركعة، فلم يستطع إدراك الإمام بعد إلى نهاية الصلاة من سرعة قيامه وخفة ركوعه وسجوده، وفي ذلك خلل عظيم، وضياع لخير كثير.

فالأفضل للمرء أن يصلي ركعتين أوأربعاً فيهن شيء من الطمأنينة والخشوع وينصرف بدلاً من ذلك.

وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح في القيام يتمثل في جانبين:

الأول: عدد ركعات القيام.

والثاني: مقدار القراءة فيها.

ã

الأول: عدد ركعات القيام

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:

1. ثماني ركعات غير الشفع والوتر، وهو أفضلها على الإطلاق لفعله صلى الله عليه وسلم، ولقول عائشة رضي الله عنها: "ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إحدى عشرة ركعة في رمضان، ولا في غيره، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن" أوكما قال الحديث، تعني مثنى مثنى.

2. عشر ركعات سوى الشفع والوتر، وهذا مشهور مذهب مالك ورواية عن أحمد، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بعشر، وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأمر بذلك.

3. عشرون ركعة غير الشفع والوتر، وهذا مذهب عمر وجمهور الأئمة، أبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن أحمد.

4. ست وثلاثون ركعة غير الشفع والوتر، وهذا مذهب مالك، إذ كان عمل أهل المدينة في وقته.

5. أربعون ركعة، وهذا مذهب الأسود بن يزيد، وكان يوتر بسبع.

والأمر فيه سعة، وبأي هذه الأعداد أقام أجزأه إن شاء الله، على أن أفضل الجميع الثمانية، وتليها العشرة في الفضل، ولا ينبغي لأحد أن يحرِّج على أحد في ذلك.

وينبغي أن يكون هناك تناسب بين عدد الركعات ومقدار القراءة، فإذا قل عدد الركعات زيد في مقدار القراءة، وإذ زيد في عدد الركعات نقص في مقدار القراءة، كما قال الشافعي رحمه الله.

ã

ثانياً: مقدار القراءة في القيام

أ. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك

كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، وقد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال: "فقرأ بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى ركعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة".

وعند النسائي: "إلا أربع ركعات".

وقد روي عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا: لو نفلتنا بقية ليلتنا؟ فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته".

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين".

ã

ب. هدي الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك

كان عمر رضي الله عنه قد أمر أبيَّ بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصيِّ من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.

وفي رواية: أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها.

وروي أن عمر رضي الله عنه جمع ثلاثة قراء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين.

ã

ج. هدي التابعين رحمهم الله في ذلك

كان الناس في زمن التابعين يقرأون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات أوما يعادلها، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف.

ã

د. أقوال الأئمة وهديهم في ذلك

1. كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات في الركعة الواحدة.

2. وقال ابن منصور: سئل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في قيام شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات؛ فقيل له: إنهم لا يرضون؛ فقال: لا رضوا، فلا تأمهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة، ثم إذا صرت إلى الآيات الخفاف فبقدر عشـر آيـات من البقـرة، يعني في كل ركعة.

3. أكثر الأئمة تخفيفاً في القراءة أحمد رحمه الله.

سئل الإمام عما روي عن عمر كما تقدم ذكره في السريع القراءة والبطيء، فقال: في هذا مشقة على الناس، ولا سيما في هذه الليالي القصار، وإنما الأمر على ما يحتمله الناس؛ وقال أحمد لبعض أصحابه، وكان يصلي بهم في رمضان: هؤلاء قوم ضعفاء، اقرأ خمساً، وستاً، وسبعاً، وقال: فقرأت فختمت في ليلة سبع وعشرين.

4. وروي عن الحسن أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كان يقرأ خمس آيات، ست آيات.

وكلام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين، فلا يشق عليهم، وقاله أيضاً غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم.

ã

الخلاصة

أن الحد الأدنى في القراءة مقدار عشر آيات في كل ركعة، خاصة والناس يصلون عشر ركعات، حتى يكون مقدار قراءتهم مائة آية، وإن كانوا يصلون عشرين فست أوخمس آيات مثلاً.

وليجتهد الإمام في أن يختم في رمضان حتى يسمع الناس جميع القرآن، ومن عسر عليه ذلك لضعف من خلفه فلا أقل من أن يقيم بحزب من القرآن.

أما أن يقتصر في الركعة على آية وآيتين، أوعلى العشرة الأواخر من قصار المفصل في الركعة الأولى، وعلى الإخلاص في الركعة الثانية في سائر القيام، فهذا ليس من السنة، ولا يعد قياماً، والعلم عند الله.

اعلم أخي الكريم أن أفضل أنواع الصبر الصبر على الطاعة، فلابد للمسلم أن يجاهد نفسه على تعود ذلك حتى تستقيم عبادته، وليحذر عدم الاطمئنان في الركوع والسجود المبطل للصلاة، فكم من مصلٍ سبعين أوثمانين سَنَة لا تُقبل له صلاة، كما جاء في الأثر، فربما أتم ركوعها ولم يتم سجودها، والعكس، وربما ضيع ركوعها وسجودها.

والله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا الصدق والصبر على طاعته، وأن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على صفيه من خلقه، وخليله من عباده، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم التناد.

----------------------

صلاة التراويح

تعريف التراويح

حكمها

فضلها

وقتها

عدد ركعاتها

ما يقرأ فيها

أيهما أفضل للمرء، أن يصلي القيام في جماعة أم في بيته ؟

أجر من صلى مع الإمام حتى ينصرف في رمضان

من فاته العشاء

القنوت في قيام رمضان

صيغة القنوت في رمضان

الجهر بالقنوت ورفع الأيدي فيه

 

تعريف التراويح

هي الصلاة التي تصلى جماعة في ليالي رمضان، والتراويح جمع  ترويحة، سميت بذلك لأنهم كانوا أول ما اجتمعوا عليها يستريحون بين كل تسليمتين، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وتعرف كذلك بقيام رمضان.

ã

حكمها

سنة، وقيل فرض كفاية ، وهي شعار من شعارات المسلمين في رمضان   لم ينكرها إلا مبتدع، قال القحطاني رحمه الله في نونيته:

وصيامنا رمضان فرض واجب         وقيامنا المسنون في  رمضـان

إن التراويـح راحـة في ليله           ونشاط كل عويجز كســـلان

والله ما جعل التراويح منكـراً           إلا المجوس و شيعـة الشيطان

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح).

ã

دليل الحكم

قيام رمضان في جماعة مشروع سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يداوم عليه خشية أن يفرض، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصٌلِّي بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عَجَزَ المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف عليِّ مكانكم، ولكني خشيتٌ أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك".

ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأٌمن فرضها أحيا هذه السنة عمر رضي الله عنه، فقد خرج البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرَّهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أٌبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوله".

قلت: مراد عمر بالبدعة هنا البدعة اللغوية، وإلا فهي سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم وأحياها عمر الذي أٌمرنا بالتمسك بسنته: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" الحديث.

وعن عروة بن الزبير أن عمر رضي الله عنه  جمع الناس على قيام شهر رمضان، الرجال على أبي بن كعب ، والنساء على سليمان بن أبي حثمة.

وروي أن الذي كان يصلي بالنساء تميم الداري رضي الله عنه.

وعن عرفجة الثقفي قال: "كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام رمضان ويجعل للرجال إماماً و للنساء، فكنت أنا إمام النساء".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم  يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة".

ورحم الله الإمام القحطاني المالكي حيث قال:

صلى النبي به ثلاثاً رغبة            وروى الجماعة أنها ثنتان

ã

فضلها

لقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض على قيام رمضان ورغب فهي ولم يعزم، وما فتئ السلف الصالح يحافظون عليها، فعلى جميع المسلمين أن يحيوا سنة نبيهم وألا يتهاونوا فيها ولا يتشاغلوا عنها بما لا فائدة منه، فقد قرن صلى الله عليه وسلم بين الصيام والقيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قـال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرمضان من قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

وفي رواية في الصحيح كذلك عنه: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

وزاد النسائي في رواية له: "وما تأخر" كما قال الحافظ في الفتح.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة ، قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة.

إلى أن قال: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر؟ والجواب عن ذلك يأتي في قوله صلى الله عليه وسلم  حكاية عن الله عز وجل أنه قال في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ومحصل الجواب: أنه قيل إنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك. وقيل إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة).

فعليك أخي الكريم ألا يفوتك هذا الفضل، فما لا يدرك كله لا يترك جله، فصل ما تيسر لك إن لم تتمكن من إتمامها مع الإمام.

واحذر أشد الحذر السمعة والرياء، فيها وفي غيرها من الأعمال، فهما مبطلان للأعمال مفسدان لثوابها.

ã

وقتها

من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.

وفعلها في آخر الليل أفضل من فعلها في أوله لمن تيسر لهم، واتفقوا عليه ، لقول عمـر رضي الله عنه: "والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون".

ã

عدد ركعاتها

أفضل القيام في رمضان وغيره إحدى عشرة ركعة، وهو ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم، كما صح عن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت: كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم  في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً".

وإن كان الأمر فيه سعة، وقد أحصى الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح الأقوال في ذلك مع ذكر الأدلة، وهي:

1.  إحدى عشرة ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

2.  ثلاث عشرة  ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

3.  إحدى وعشرون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

4.  ثلاث وعشرون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

5.  تسع وثلاثون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

6.  إحدى وأربعون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

7.  تسع وأربعون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.

لم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم  في عدد ركعات صلاة التراويح إلا حديث عائشة: "أحد عشرة ركعة"، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر" فإسناده ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر.

و الأعداد الأخرى سوى الإحدى عشرة أُثرت عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والقاعدة عندهم في ذلك أنهم كانوا إذا أطالوا القراءة قللوا عدد الركعات وإذا أخفوا القراءة زادوا في عدد الركعات.

ولله در الشافعي ما أفقهه حيث قال، كما روى عنه الزعفراني: (رأيت الناس يقومون بالمدية بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق).

وقال أيضاً: (إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي).

والخلاصة أن أصح وأفضل شيء أن يقام رمضان بإحدى عشرة ركعة مع إطالة القراءة، ولا حرج على من قام بأكثر من ذلك.

واحذروا أيها الأئمة من التخفيف المخل، بأن تقرأوا في الأولى مثلاً بعد الفاتحة بآية نحو "مدهامتان" أو بقصار السور من الزلزلة وما بعدها، وفي الثانية دائماً بالإخلاص، فهذا تخفيف مخل، هذا مع عدم الاطمئنان في الركوع والسجود، والمسابقة حيث يصبح من التجاوز إطلاق القيام على من يفعل ذلك.

وحذار أيها المأموم أن تحتج على إمامك إذا حول أن يطيل في ظنك بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أم الناس فليخفف"، فهذا استدلال مع الفارق والفارق الكبير، حيث قال صلى الله عليه وسلم  ذلك لمعاذ عندما قرأ في الركعة الأولى في صلاة العشاء بالبقرة كلها، وفي الثانية بما يناصف البقرة، فأين هذا مما يفعله الأئمة اليوم؟!

ã

ما يقرأ فيها

لم تحد القراءة فيها بحد، وكان السلف الصالح يطيلون فيها واستحب أهل العلم أن يختم القرآن في قيام رمضان ليسمع الناس كل القرآن في شهر القرآن، و كره البعض الزيادة على ذلك إلا إذا تواطأ جماعة على ذلك فلا بأس به.

فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال : سمعت أبي يقول : كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالسحور مخافة الفجر .

وروى مالك أيضاً عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس وكان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.

وروى البيهقي بإسناده عن أبي عثمان الهندي قال: دعا عمر بن الخطاب بثلاثة قراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس ثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمساً وعشرين آية، وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية.

وقال ابن قدامة: قال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار.

و الأمر على ما يحتمله الناس، وقال القاضي ـ أبو يعلى ـ: (لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر ليسمع الناس جميع القرآن ولا يزيد على ختمة، كراهية المشقة على من خلفه والتقدير بحال الناس أولى).

وقال ابن عبد البر: (والقراءة في قيام شهر رمضان بعشر من الآيات الطوال، ويزيد في الآيات القصار ، ويقرأ السور على نسق المصحف).

عليك أخي المسلم أن تقارن بين قراءة سلفنا الصالح في القيام وبين قراءة أئمتنا في معظم المساجد في السودان بما فيهم الحفظة، ثم احكم لترى البون الشاسع بيننا وبينهم.

ã

أيهما أفضل للمرء، أن يصلي القيام في جماعة أم في بيته ؟

إذا أقيمت صلاة التراويح في جماعة في المساجد،فقد ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب:

1. القيام مع الناس أفضل، وهذا مذهب الجمهور، لفعل عمر رضي الله عنه، ولحرص المسلمين على ذلك طول العصور.

2.  القيام في البيوت أفضل، وهو رواية عن مالك وأبي يوسف وبعض الشافعية، لقوله صلى الله عليه وسلم :" أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

3.  المسألة تختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان حافظاً للقرآن ذا همة على القيم منفرداً ولا تختل الصلاة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، أما إذا اختل شرط من هذه الشروط فصلاته مع الجماعة أفضل.

ã

أجر من صلى مع الإمام حتى ينصرف في رمضان

ليس هناك حد لعدد ركعات القيام في رمضان، فللمرء أن يقيمه بما شاء، سواء كانت صلاته في جماعة أو في بيته ، ولكن يستحب لمن يصلي مع جماعة المسلمين أن ينصرف مع الإمام ويوتر معه، لحديث أبي ذر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم: "إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة".

قال أبو داود رحمه الله: (سمعت أحمد يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه، قال: وكان أحمد يقوم مع الناس ويوتر معهم).

ã

من فاته العشاء

إذا دخل الإنسان المسجد ووجد الناس قد فرغوا من صلاة العشاء وشرعوا في القيام، صلى العشاء أولاً منفرداً أومع جماعة  وله أن يدخل مع الإمام بنية العشاء فإذا سلم الإمام قام وأتم صلاته، واختلاف لا يؤثر، لصنيع معاذ وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم  ويأتي فيصلي بأهل قباء العشاء حيث تكون له هذه الصلاة نافلة، وليس له أن يشرع في التراويح وهو لم يصل العشاء.

ã

القنوت في قيام رمضان

ذهب أهل العلم في القنوت في الوتر مذاهب هي:

1.  يستحب أن يقنت في كل رمضان، وهو مذهب عدد من الصحابة وبه قال مالك ووجه للشافعية.

2.  يستحب أن يقنت في النصف الآخر من رمضان،المشهور من مذهب الشافعي.

3.  لا قنوت في الوتر، لا في رمضان ولا في غيره.

4. عدم المداومة على ذلك، بحيث يقنت ويترك.

5.  عند النوازل وغيرها، متفق عليه.

قال ابن القيم رحمه الله: ولم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم  في قنوت الوتر قبل ـ أي الركوع ـ أو بعده شيء.

وقال الخلال: أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر؟ فقال: ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم  شيء ، ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة.

إلى أن قال: والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر وابن مسعود والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر، والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر أصح من الرواية في قنوت الوتر، والله أعلم).

ã

صيغة القنوت في رمضان

أصح ما ورد في القنوت في الوتر ما رواه أهل السنن عن الحسن قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تعضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت".

وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

ã

الجهر بالقنوت ورفع الأيدي فيه

وله أن يقنت بما شاء من الأدعية المأثورة وغيرها وأن يجهر ويؤمن من خلفه وأن يرفع يديه ، لكن ينبغي أن يحذر التطويل والسجع والتفصيل وعليه أن يكتفي بالدعوات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وليحذر الاعتداء في الدعاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وفقنا الله وإياكم للصيام والقيام، وجعلنا وإياكم من عتقاء هذا الشهر ، ونسأل الله أن يمكن فيه للإسلام والمسلمين وأن يذل فيه الكفر والكافرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

-----------------------

الوتر

تمهيد

تعريف الوتر

حكمه

فضل الوتر

النهي والتحذير عن التهاون في الوتر

وقت الوتر

وقتا الوتر الاختياري والضروري

قضاء الوتر

من ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح

اشتراط النية في الوتر

عدد ركعات الوتر

الفصل، والوصل، في صلاة الليل، والوتر

التطوع بركعة واحدة في غير الوتر

من أوتر ثم أراد أن يتنفل

ما يقرأ في الوتر

الوتر على الدابة في السفر

القنوت في الوتر

أنفس وأشمل ما ألف في الوتر

 

تمهيد

الوتر من أكد السنن الرواتب وأفضلها، ولهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام يتهاونون فيه أو يتركونه لا سفراً ولا حضراً، وقد تنازع العلماء أيهما أفضل الوتر أم ركعتا الفجر؟

قال ابن عبد البر رحمه الله: (واختلف في الأوكد منهما،فقالت طائفة الوتر أوكد،وكلاهما سنة، ومن أصحابنا من يقول: ركعتا الفجر ليستا بسنة، وهما من الرغائب والوتر سنة مؤكدة.

وقال آخرون: ركعتا الفجر سنة مؤكدة كالوتر.وقال آخرون: هما أوكد من الوتر: لأن الوتر ليس بسنة إلاّ على أهل القرآن، ولكل واحد من هذه الطوائف حجة من جهة الأثر).

اختلف أهل العلم في الوتر في أمور كثيرة.

قال ابن حجر رحمه الله: (قال ابن التين: اختلف في الوتر في سبعة أشياء:

1. في وجوبه.

2. وعدده.

3. اشتراط النية فيه.

4. اختصاصه بقراءة.

5. اشتراط شفع قبله.

6. في آخر وقته.

7. صلاته في السفر على الدابة.

وزاد هو:

1. في قضائه.

2. القنوت فيه.

3. محل القنوت منه.

4. فيمن يقال فيه ـ أي في قنوته.

5. وصله وفضله.

6. هل تسن ركعتان بعده؟

7. صلاته من قعود.

8. أول وقته.

9. كونه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه).

وبعد فهذا بحث عن الوتر، عن فضله، وحكمه ووقته وغير ذلك، وما اختلف فيه، مع ترجيح ما يمكن ترجيحه من أقوال العلماء.

فأقول:

تعريف الوتر

لغة: الوتر بالكسرالفرد ،وبالفتح الثأر، وفي لغة مترادفان.

اصطلاحاً: ما يختم به صلاة الليل،وقد يطلق على صلاة الليل.

ã

حكمه

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:

1.  الوتر سنة مؤكدة، وهذا مذهب العامة من أهل العلم من لدن الصحابة ومن بعدهم.

2.  الوتر واجب، وهذا مذهب الأحناف.

3.  واجب على أهل القرآن فقط.

ã

أدلة العامة على سنية الوتر

استدل العامة من أهل العلم على أن الوتر سنة بالآتي:

1.  عن علي رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن".

2.  قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي عندما أمره بالصلوات الخمس وقال: هل علىّ غيرها؟ قال: لا، إلاّ أن تطوع" الحديث.

3.  عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت يؤمئ إيماءة صلاة الليل إلاّ الفرائض، ويوتر على راحلته".

قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث:(واستدل به على أن الوتر ليس بفرض).

ã

أدلة الموجبين للوتر

استدل الموجبون للوتر بأحاديث لا تخلو من مقال فهي ضعيفة منها:

1.  ما رواه الحاكم عن بريدة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم :"الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا".

قال المنادي في فيض القدير في شرح لهذا الحديث: (قال الحاكم صحيح، وأبو منيب ثقة ورده الذهبي بأن البخاري قال عنده مناكير. انتهى. وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح. وقال الهيثمي بعد ما عزاه لأحمد: فيه الخليل ابن مرة ضعفه البخاري وأبو حاتم. وقال: أبو زرعة شيخ صالح.

ثم قال عن توجيه الحديث وتأويله: الحق يجئ بمعنى الثبوت والوجوب، ذهب الحنفية إلى الثاني، والشافعية إلى الأول؛ أي ثابت في السنة والشرع وفيه نوع تأكيد).

2.  وبما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد: "الوتر واجب".

قال الحافظ في الفتح: (ولم يثبت).

ã

أدلة من أوجبه على أهل القرآن دون غيرهم

ما صح عن علي رضي الله عنه: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن" الحديث.

ظهر بذلك أن القول الراجح هو ما ذهب إليه العامة من أهل العلم من أن الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب.

قال ابن عبد البر: (الوتر سنة، وهو من صلاة الليل، لأنه بها سمي وتراً، وإنما هو وترها، وقد أوجبه بعض أهل الفقه فرضاً، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي إنه ليس عليه غير خمس إلاّ أن يطوع ما يرد قوله.)

وقال الحافظ ابن حجر: (وأجاب من ادعى وجوب الوتر من الحنفية بأن الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب، وهذا يتوقف على أن ابن عمر كان يفرِّق بين الفرض والواجب، وقد بالغ الشيخ أبوحامد فادعى أن أبا حنيفة انفرد بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسبب، وأبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم.. ونقله ابن العربي عن أصيغ من المالكية ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه أدِّب، وكان جرحه في شهادته).

ã

فضل الوتر

ورد في فضل الوتر والحث على المحافظة عليه ما يأتي:

1. عن خارجة بن حذافة أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أمركم بصلاة، هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم ـ فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر."

2.  وعن علي يرفعه: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا ياأهل القرآن."

ã

النهي والتحذير عن التهاون في الوتر

لا ينبغي لأحد أن يتهاون في أداء الوتر فمن تهاون في أدائه فسق، ورُدَّت شهادته وأدِّب وعزِّر بما يناسبه كما قال مالك وغيره من أهل العلم: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خشي أحدكم الصبح فليصلِّ ركعة توتر له ما قد صلى".

ã

وقت الوتر

يبدأ وقت الوتر من بعد مغيب الشفق وصلاة العشاء إلى ما قبل طلوع الفجر، وكل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوله ووسطه وآخره، وانتهى وتره إلى السحر.

عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر."

قال الحافظ ابن حجر معلقا على تبويب البخاري: "باب ساعات الوتر"، أي أوقاته ومحصل ما ذكره أن الليل كله وقت للوتر، لكن أجمعوا على ابتدائه من مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر، لكن أطلق بعضهم: أنه يدخل بدخول العشاء، قالوا: ويظهر أثر الخلاف فيمن صلى العشاء وبان أنه بغير طهارة، ثم صلى الوتر متطهراً، أو ظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول، إلى أن قال: ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر في أوله لعله كان وجعاً، وحيث أوتر في وسطه لعه كان مسافراً، وأما وتره في آخره، فكأنه غالب أحواله، لما عرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل والله أعلم).

ã

وقتا الوتر الاختياري والضروري

للوتر وقتان:

1. اختياري، وهو من بعد مغيب الشفق إلى طلوع الفجر.

2. ضروري، وهو من بعد طلوع الفجر إلى ما قبل صلاة الصبح.

فصلاة الوتر في هذين الوقتين تكون أداءاً وليست قضاء، هذا ما لم يتعمد تأخيره إلى ما بعد طلوع الفجر.

هذا في أرجح قولي العلماء، وذهبت طائفة من أهل العلم أن الوتر يخرج وقته بطلوع الفجر مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى).

قال الحافظ ابن حجر: (قوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح" استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبوداود والنسائي وصححه أبوعوانة وغيره من طريق سليمان بن موسى عن نافع أنه حدثه أن ابن عمر كان يقول: (من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الليل فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر).

ثم قال: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم، وقال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح).

وقال ابن عبد البر تحت باب: "الوتر بعد الفجر": (ذكر فيه مالك عن ابن عباس، وعبادة بن الصامت، وعبدالله بن عامر بن ربيعة، والقاسم بن محمد أنهم أوتروا بعد الفجر).

وعن ابن مسعود أنه قال: ما أبالي لو أُقيمت الصلاة وأنا في الوتر.

وعن عبادة بن الصامت أنه أسكت المؤذن بالإقامة لصلاة الصبح حتى أوتر.

وقال مالك بإثر ذلك: إنما يوتر بعد الفجر من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر.

قال أبو عمرـ ابن عبد البر: اختلف السلف من العلماء والخلف بعدهم في آخر وقت الوتر، بعد إجماعهم على أن أول وقته بعد صلاة العشاء، وأن الليل كله حتى يتفجر الصبح وقت له، إذ هو آخر صلاة الليل.

فقال منهم قائلون: لا يصلى الوتر بعد طلوع الفجر، وإنما وقتها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا وتر.

وممن قال هذا: سعيد بن جبير، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح، وهو قول سفيان الثوري، وأبي يوسف ومحمد.

وقال آخرون: يصلى الوتر ما لم يصلى الصبح، فمن صلى الصبح فلا يصلي الوتر.

روى هذا القول عن ابن مسعود، وابن عباس، وعبادة، وأبي الدرداء، وحذيفة, وعائشة.

وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وإسحاق، وجماعة.

وهو الصواب عندي لأني لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفاً من الصحابة، فدل اجماعهم على أن معنى الحديث في مراعاة طلوع الفجر أريد ما لم تصلَ صلاة الفجر.

ويحتمل أيضا أن يكون ذلك لمن قصده واعتمده، وأما من نام عنه وغلبته عينه حتى انفجر الصبح وأمكنه أن يصليه مع الصبح قبل طلوع الشمس مما أريد بذلك الخطاب).

ã

قضاء الوتر

لأهل العلم في قضاء الوتر بعد صلاة الصبح أقوال هي:

1. لا يقضى كغيره من النوافل وهذا مذهب العامة من أهل العلم.

2.  يقضى إلى الزوال.

3.  يقضى من القايلة.

4.  يقضى مطلقاً.

فمن قال يقضى اختلفوا على قولين فمنهم من قال يقضى وجوباً، وهذا قول أبي حنيفة ومنهم من قال يقضى استحباباً.

استدل القائلون بقضائه إلى الزوال بما صح عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة".

واستدل من قال يقضى مطلقاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاته أونسيها فليصلها إذا ذكرها"، قياسا على المكتوبة وبما روى أبو سعيد مرفوعاً: "من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره.

قال الحافظ ابن حجر: (وقال محمد بن نصر ـالمروزي ـ: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر لم يصب.

وعن عطاء والأوزعي: يقضى لو طلعت الشمس، وهو وجه عند الشافعية، حكاه النووي في شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضى من القابلة، وعن الشافعية يقضى مطلقاً).

وقال الحافظ زين الدين العراقي: (قال ابن المنذر: وفيه قول ثالث، وهو أن يصلى الوتر، وإن صلى الصبح، هذا قول طاوس، وكان النعمان يقول: عليه قضاء الوتر، وإن صلى الفجر، إذا لم يكن أوتر، وفيه قول رابع وهو أن يصلي الوتر وإن طلعت الشمس، روي هذا القول عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، الحسن، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، وبه قال الأوزاعي، وأبوثور، وقال سعيد بن جبير: من فاته الوتر يوتر بواحدة من النافلة وهذا قول خامس، انتهى.

وهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الظاهر أنها إنما هي في صلاة الوتر قضاء وما أراد قائلوها استمرار وقتها إلى ذلك الحد أداءاً، وفي عبارة بعضهم التصريح بذلك، ومن لم يصرح به منهم فعبارته محمولة على ذلك والله أعلم.)

وقال ابن عبد البر: (وأما من أوجب قضاء الوتر بعد طلوع الشمس فقد شذ عن الجمهور وحكم للوتر بحكم الفريضة، وقد أوضحنا خطأ قوله فيما مضى من هذا الكتاب، روى ذلك عن طائفة من التابعين منهم طاوس.

وهو قول أبي حنيفة وخالفه صاحباه.

إلاّ أن من أهل العلم من استحب ورأى اعادة الوتر بعد طلوع الشمس.

وقال الثوري: إذا طلعت الشمس فإن شاء قضاءه وإن شاء لم يقضه .

وقال الأوزاعي متى ذكره من يومه حتى يصلي العشاء الآخرة، فإن لم يذكر حتى صلاة العشاء لم يقضه بعد، فإن فعل شفع وتره.

قال الليث: يقضيه بعد طلوع الشمس.

وقال مالك والشافعي: لا يقضيه.)

الراجح مما سبق أنه يستحب قضاء الوتر مطلقاً متى ذكره لحديثي عائشة وأبي سعيد السابقين ولما ورد عن الشارع استحباب المداومة على أعمال الخير والله أعلم.

ã

من ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح

قولان لأهل العلم:

1. يتمادى في صلاته ويقضه بعد فراغه من الوتر، وهو مذهب الجمهور وهو الراجح.

2. يقطع صلاة الصبح ليصلي الوتر قبلها وهذا قول من يوجبون الوتر نحو أبي حنيفة وابن القاسم من المالكية.

قال ابن عبد البر: (واختلف أصحابنا وغيرهم فيمن ذكر الوتر في صلاة الصبح.

واختلف في ذلك أيضا قول مالك على قولين.

فقال مرة: يقطع ويصلي الوتر، واختاره ابن القاسم، فضارع في ذلك قول أبي حنيفة في إيجاب الوتر.

ومرة قال مالك: لا يقطع، ويتمادى في صلاة الصبح ولا شئ عليه، ولا يعيد الوتر.

وهو قول الشافعي والجمهور من العلماء، وهو الصواب، لأن القطع لمن ذكر الصلاة وهو لم يكن من أجل شئ غير الترتيب في صلاة يومه.

ومعلوم أنه لا رتبة بعد الوتر وصلاة الصبح، لأنه ليس من جنسها، وإنما الرتبة في المكتوبات لا في النوافل من الصلوات.

وما أعلم أحداً قال: يقطع صلاة الصبح لمن ذكر فيها أنه لم يوتر إلاّ أبا حنيفة وابن القاسم.

وأما مالك فالصبح عنده لا يقطع.

وقد قال أبو ثور ومحمد ـ بن الحسن ـ لا يقطع.

وهو قول جمهور أصحابنا وتحصيل مذهبنا.

ولولا إيجاب أبي حنيفة الوتر ما رأى القطع،والله أعلم.)

ã

اشتراط النية في الوتر

ذهب أهل العلم في اشتراط النية في الوتر وغيره من النوافل إلى قولين هما:

1.  تشترط فيه النيه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية"، ولأن النية شرعت للتمييز بين الفرض والنفل، وكذلك للتمييز بين الفروض من ناحية وبين النوافل من ناحية أخرى.

2.  لا يشترط فيه النية، واستدل هؤلاء بما صح عن ابن عمر: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى".

قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث السابق: (وقيل معنى قوله: "إذا خشي أحدكم الصبح ـ أي وهو في شفع ـ فلينصرف على وتره"، وهذا يبني على أن الوتر لا يفتقر إلى نية).

ã

عدد ركعات الوتر

يجوز الوتر باحدى عشرة ركعة، وهو أفضلها، وبتسع، وسبع، وخمس، وثلاث، تصلي مثنى مثنى ويوتر بواحدة، وبواحدة، مع اختلاف في الواحدة.

فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة".

وعن أبي أيوب مرفوعاً: "الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة".

ã

الفصل، والوصل، في صلاة الليل، والوتر

اختلف أهل العلم في وصل وفصل صلاة الليل والوتر في جوازه واستحبابه، وهل هناك فرق بين كيفية نوافل الليل والنهار؟ على أقوال:

أولاً: في صلاة الليل كلها بتسليمة واحدة، إحدى عشرة كانت، أم تسعاً، أم سبعاً، أم خمساً، أم ثلاثاً.

ثانياً: في صلاته أربعاً أربعاً، ثم يوتر بثلاث ،أو واحدة.

ثالثاً: في الأيتار بثلاث بتسليمة واحدة.

رابعاً: وهل هناك فرق بين كيفية نوافل الليل والنهار؟

فمنهم من أجاز ذلك كله، ومنهم من منع، ومن أهل العلم من فصَّل.

قال الحافظ العراقي معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى": (فيه أن الأفضل في نافلة الليل أن يسلم من كل ركعتين، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والجمهور، ورواه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن  العباس، وسالم بن عبدالله بن عمر، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وغيرهم؛ وحكاه ابن المنذر عن الليث بن سعد... وقال أبو حنيفة: الأفضل أن يصلي أربعاً أربعاً، وإن شاء ركعتين، وإن شاء ستاً، وإن شاء ثمانية، وتكره الزيادة على ذلك).

وقال ابن عبد البر معلقاً على قول عائشة في صفة صلاته بالليل: "يصلي أربعاً، ثم يصلي أربعاً، ثم يصلي ثلاثاً": (ذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلاّ في آخرها؛ وذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق إلى أن الجلوس كان منها في كل مثنى والتسليم أيضاً.

إلى أن قال: واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل: أن مالكاً، والشافعي، وابن أبي ليلى، وأبايوسف، ومحمد، والليث بن سعد، قالوا: صلاة الليل مثنى مثنى تقتضي الجلوس والتسليم في كل ثنتين.. وقال أبو حنيفة في صلاة الليل إن شئت ركعتين، أوأربعاً، أوستاً، أو ثمانياً، وقال الثوري والحسن بن حي: صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل اثنتين، وتسلم في آخرهن).

وقال الحافظ ابن حجر: (وقد اختلف السلف في الفصل والوصل في صلاة الليل أيهما أفضل، قال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس؛ وقال محمد ابن نصر ونحوه في صلاة الليل قال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلاّ في آخرها إلى غير ذلك من الآحاديث الدالة على الوصل؛ إلاّ أنَا نختار أن يسلم من كل ركعتين، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقاً، وقد تضمن كلامه الرد على الأحاديث الدالة الشارح ومن تبعه في دعواهم أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين.

إلى أن قال: واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلِ ركعة واحدة"، على أن فصل الوتر أفضل من وصله، وتعقب بأنه ليس صريحاً في الفصل.. واحتج بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث على أن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما جمعوا عليه وتركنا مااختلفوا فيه؛ وتعقبه محمد بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب"، وقد صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة، والأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، واسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ومن طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي أيضاً، عن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: لا يشبه التطوع الفريضة؛ فهذه الآثار تقدح في الاجماع الذي نقله.

وأما قول محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً ثابتاً صريحاً أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أومفصولة، انتهى. فيرد عليه ما رواه الحاكم من حديث عائشة أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقصد إلاّ في آخرهن. وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه ولفظه: "يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد ولا يسلم إلاّ في آخرهن).

ã

الخلاصة

أولاً: أن صلاة الوتر تجوز مثنى ورباع والأفضل مثنى مثنى للحديث السابق.

ثانياً: أن الوتر يجوز موصولاً ومفصولاً والفصل أفضل لكثرة أدلته وصحتها.

الوتر بركعة

لأهل العلم قولان في الوتر بركعة، فمنهم أجازه وهو الأرجح وهم الجمهو، ومنهم من منعه وهو قول مرجوح وهم الأحناف.

ودليل الجمهور ما يأتي:

1. حديث أبي أيوب عند أهل السنن مرفوعاً:( الوتر حق،فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة.)

2. وبما خرجه البخاري في صحيحه:( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة.)

3. صحعن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، منهم:

عثمان بن عفان قرأ القرآن كله في ركعة أوتر بها لم يصل غيرها.

وسعد بن أبي وقاص.

وتميم الداري.

وأبو موسى.

وابن عمر.

ومعاوية ابن أبي سفيان وصوبه ابن عباس.

قال الحافظ العراقي معلقاًعلى حديث ابن عمر السابق: (فيه حجة على أبي حنيفة رحمه الله في صفة الوتر بركعة واحدة، ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور جواز الوتر بركعة فردة. ورواه البيهقي في سننه عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وتميم الداري، وأبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي أيوب الأنصاري، ومعاوية، وأبي حليمة معاذ بن الحارث القارئ، قيل له صحبة؛ ورواه ابن أبي شيبة عن أكثر هؤلاء، وعن ابن مسعود، وحذيفة، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وعائشة، وسعيد بن المسيب، والأوزاعي، واسحاق وأبي ثور.

قال: وقالت طائفة يوتر بثلاث، وممن روينا ذلك عنه عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي ابن كعب، وأنس بن مالك، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو أمامة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أصحاب الرأي.

قلت: وليس في كلام هؤلاء الصحابة منع الوتر بركعة واحدة، قال ابن المنذر: وقال الثوري: أعجب إليّ ثلاث.

وأباحت طائفة الوتر بثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، ثم بسط ذلك، وهذا مذهب أصحابنا الشافعية أنه يحصل الوتر بركعة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع، وباحدى عشرة، وهو أكثره، فإن زاد لم يصح وتره).

ã

التطوع بركعة واحدة في غير الوتر

ذهب أهل العلم في جواز التطوع بركعة واحدة فردة غير الوتر إلى قولين:

1.  لا يجوز التطوع بركعة غير الوتر وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد.

2.  يجوز التطوع بركعة وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه.

استدل المجيزون بما روى عنه صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر".

وما رواه البيهقي وغيره أن عمر بن الخطاب مر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع ركعة واحدة ،ثم انطلق فلحقه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما ركعت إلاّ ركعة واحدة؟! قال: هو التطوع، فمن شاء زاد ومن شاء نقص.

ã

من أوتر ثم أراد أن يتنفل

من أوتر ثم أراد أن يتنفل بعد وتره ،لأهل العلم في ذلك قولان هما:

1.  يصلي ما شاء الله له أن يصلي لا يحتاج أن يشفع وتره الأول بركعة ولا يوتر بعد أن تنفله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة"، لما روي عنه: "أنه كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس".

وهذا هو الراجح لأنه أدى وتره في وقته فلا مجال لشفعه ولا لإعادته والله أعلم، وهذا مذهب أكثر أهل العلم.

2.  يشفع وتره بركعة، ثم يصلي ما شاء الله أن يصلي ثم يوتر بعد ذلك.

وهذان القولان رويا عن ابن عمر رضي الله عنهما.

قال الحافظ ابن حجر في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فاركع ركعة توتر لك ما صليت": (اختلف السلف في ذلك في موضعين:

أحدهما: في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس.

والثاني: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول، ويتنفل ما شاء؟ أويشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل ذلك هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟

فأما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس"،وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعلوا الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً"، مختصاً بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وبيان جواز التنفل جالساً.

وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلى شفعاً ما أراد ولا ينقض وتره، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة"، وهو حديث حسن.. وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر، وقد تقدم ما فيه، وروى محمد بن نصر من طريق سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صلِ ما بدا لك ثم أوتر، وإلاّ فصل وترك على الذي كنت أوترت؛ ومن طريق أخرى عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال: أما أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة، فقيل: أرأيت إن أوترت قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس).

وقال الحافظ زين الدين العراقي معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى": (مقتضاه أن يكون الوتر آخر صلاة الليل، فلو أوتر ثم أراد التنفل لم يشفع وتره على الصحيح المشهور عند أصحابنا وغيرهم، وقيل يشفعه بركعة ثم يصلي، وإذا لم يشفعه فهل يعيد الوتر آخراً؟ فيه خلاف عند المالكية، وقال الشافعية: لا يعيده لحديث "لا وتران في ليلة").

وقال أبو عيسى الترمذي: (واختلف أهل العلم في الذي يوتر أول الليل،ثم يقوم من آخره، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقض الوتر وقالوا يضيف إليها ركعة، ويصلي ما بدا له ،ثم يوتر في آخر صلاته، لأنه لا وتران في ليلة، وهو الذي ذهب إليه إسحاق.

وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل، ثم نام، ثم قام من آخره: أنه يصلي ما بدا له ،ولا ينقض وتره، ويدع وتره على ما كان.

وهو قول سفيان الثوري و مالك بن أنس و أحمد و ابن المبارك.

وهذا أصح لأنه روي من غير وجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الوتر.)

ã

ما يقرأ في الوتر

أرجح الأقوال وأفضلها الوتر بثلاث يفصل بينها ،يختم بها صلاة الليل يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ"سبح اسم ربك الأعلى" وفي الثانية بـ"الكافرون" وفي الثالثة بـ"الاخلاص" وقيل الاخلاص والمعوذتين.

وذلك لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ"سبح اسم ربك الأعلى"، و"قل ياأيها الكافرون" و"قل هو الله أحد" في ركعة ركعة."

وعن عبد العزيز بن جريج قال: سألت عائشة: بأي شئ كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قالت:كان يقرأ في الأولى بـ"سبح اسم ربك الأعلى" وفي الثانية بـ"قل ياأيها الكافرون" والثالثة بـ"قل هو الله أحد" والمعوذتين.)

قال أبو عيسى الترمذي: (والذي اختاره أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن يقرأ بـ"سبح اسم ربك الأعلى" و"قل ياأيها الكافرون" و"قل هو الله أحد" يقرأ في كل ركعة من ذلك بسورة.)

ã

الوتر على الدابة في السفر

لقد رُخِّص للمسافر أن يتنفل على دابته فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان يصلي من الليل على دابته وهو مسافر."

وعن ابن جريج قال: حدثنا نافع أن بن عمر كان يوتر على دابته.

وقال ابن جريج: وأخبرني موسى ابن عقبة عن نافع أن ابن عمر كان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك .

هذا ما ذهب إليه الجمهور ولم يجز الأحناف الوتر خاصة على الدابة .

قال الحافظ ابن حجر: (قال الطحاوي ذكر عن الكوفيين أن الوتر لا يصلى على الراحلة، وهو خلاف السنة الثابتة. واستدل بعضهم برواية مجاهد أنه رأى ابن عمر نزل فأوتر، وليس ذلك معارض لكونه أوتر على الراحلة لأنه لا نزاع أن صلاته على الأرض أفضل.)

ومما يدل على أن أكثر فعل ابن عمر الوتر على الراحلة ما قاله ابن عمر لسعيد بن يسار عندما نزل وأوتر على الأرض: "أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير."

قال أبو عيسى الترمذي: (وقد ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى هذا ـ الوتر على الدابة ـ ورأوا أن يوتر الرجل على راحلته. وبه يقول الشافعي وأحمد واسحاق.

وقال بعض أهل العلم: لا يوتر الرجل على راحلته، فإذا أراد أن يوتر، نزل فأوتر على الأرض. وهو قول بعض أهل الكوفة ـ الأحناف ـ).

السفر الذي يبيح القصر والجمع وصلاة النوافل على الدواب هو سفر الطاعة الطويل.

ã

القنوت في الوتر

ذهب أهل العلم في القنوت في الوتر مذاهب هي:

1. يقنت في الوتر في جميع السنة، وهذا مذهب ابن مسعود من الصحابة والأحناف.

ودليلهم ما صح عن الحسن بن على رضي الله عنهما: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر:

(اللهم أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ـ ولا يعز من عاديت ـ تباركت ربنا وتعاليت.)

2. يقنت في الوتر في شهر رمضان فقط. وهذا مذهب الجمهور والشافعي وأحمد.

3. يقنت في النصف الأخير من رمضان وهذا مذهب علي رضي الله عنه.

4. يقنت ويترك في جميع رمضان.

قال أبو عيسى الترمذي:( ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئاً أحسن من هذا)

واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها، واختار القنوت قبل الركوع، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك واسحاق، وأهل الكوفة.

وقد روي عن علي بن أبي طالب: أنه كان لا يقنت إلاّ في النصف الأخير من رمضان وكان يقنت بعد الركوع.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وبه يقول الشافعي وأحمد.)

ã

أنفس وأشمل ما ألف في الوتر

أنفس وأشمل ما ألف في الأحكام المتعلقة بالوتر من الأقدمين كتاب"أحكام الوتر" للإمام محمد بن نصر المروزي قال عنه الحافظ ابن حجر: (وهو كتاب نفيس في مجلدة.)

-----------------------

الاعتكاف وأحكامه

تعريف الاعتكاف

مشروعية الاعتكاف

وقته

حكم الاعتكاف

الاعتكاف ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم

أركان الاعتكاف

مبطلات الاعتكاف

ما يكره للمعتكف فعله اتفاقاً

ما اختلف في كراهيته للمعتكف

ما يباح للمعتكف

ما يستحب للمعتكف

أقل الاعتكاف وأكثره

متى يدخل من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان؟ ومتى يخرج؟

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد..

فإن مواسم الخير، وفرص الفلاح، وطرق النجاح لهذه الأمة كثيرة جداً لمن كانت له همة وعنده عزيمة، فما من شهر من الشهور، بله ولا يوم من الأيام يخلو من تلك الفرص، أويعدم تلك المواسم، سيما شهر الصبر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وتفتح فيه الجنان، وتغلق فيه النيران، وتوصد فيه المردة اللئام، وتعتق فيه الأبدان من النيران.

من تلكم المواسم العظيمة، والفرص النادرة، الاعتكاف، خاصة في العشر الأواخر من رمضان، الذي كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه، ولم يدعه حتى ارتحل إلى الرفيق الأعلى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً".

هذه السنة المؤكدة هجرها كثير من المسلمين، وضيعها جل المصلين، ولله در محمد بن شهاب الزهري حيث قال: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله"، مع حاجتهم الماسة إليها، وتيسر الأسباب لدى كثير منهم عليها، لأنها هي الخلوة الشرعية، والرياضة الروحية لهذه الأمة المرحومة.

قال عطاء رحمه الله: "مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي".

فهلم أمة الإسلام، وإخوة الإيمان، إلى سنة نبيكم التي فيها رضوان ربكم، وإياكم إياكم أن تضيعوها، أوتفرطوا فيها، أوتسوفوا في المبادرة إليها، خاصة وأنتم على أعتاب رمضان، وفي أعتاب عشرته الكرام، هلمُّوا إلى سوق من أسواق الآخرة، وإياكم أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، إياكم أن تستعيضوا عنها بأسواق الدنيا، أوبغرض من أغراضها الفانية، أوبحاجة من حاجاتكم الآنية، هلمَّ إلى موائد الكريم المنان، ودعك من موائد الطعام.

ماذا تأمل في هذه الدنيا؟ وقد أمسك صاحبا الصور بقرنيهما ينتظران الأمر من الله كما أخبر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى منذ أمد بعيد، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبي الصور بأيديهما ـ أوفي أيديهما ـ قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران"، بل ماذا تنتظر؟ "إلا فقراً منسياً، أوغنى مطغياً، أومرضاً مفسداً، أوهرماً مفنداً، أوموتاً مجهزاً، أوالدجال فشر غائب ينتظر، أوالساعة فالساعة أدهى وأمر".

أنسيتَ الموت أخي المسلم، وأنت ونحن من أبناء الموتى، وقد نعاك الله عز وجل، ومن أصدق من الله قيلاً؟ ومن أصدق من الله حديثاً؟ "إنك ميت وإنهم ميتون" الآية.

تذكر أخي الحبيب دائماً وأبداً هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، تذكر من حضر معك رمضان الماضي من الأحبة والأصدقاء أين هم الآن؟ احمد الله الذي أعطاك هذه الفرصة وقد حرمها الكثيرون، ومن أدراك فلعلها تكون آخر الفرص؟

أقول كل هذا ولا أعلم والله أحداً عنده ما عندي من الغفلة، والتسويف، والذنوب، والآثام، ولا أعلم أحداً أشد حاجة إلى الموعظة والذكرى مني، ونعوذ بالله أن نكون ممن وصفهم الله عز وجل بقوله: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" الآية.

وبعد..

فهذه مذكرة تحوي أهم أحكام الاعتكاف، كتبتها تبصرة لغافل مثلي، وتذكرة لمن يطلع عليها من إخواني المؤمنين الموفقين، عسى أن يشفيَ الله بها من الغفلة، وينفع بها من الجهالة، ويمنح بها من الدعوات الصالحات، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ã

تعريف الاعتكاف

الاعتكاف لغة: هو لزوم الشيء والمكث فيه، قال تعالى: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون"، حسناً كان أم قبيحاً.

والاعتكاف شرعاً: لزوم المسجد والمكث فيه بنية التقرب إلى الله عز وجل، سواء صُحب بصوم أم لا، قال تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".

ã

مشروعية الاعتكاف

الاعتكاف مشروع ودليل مشروعيته الكتاب والسنة.

قال تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" الآية.

وقال: "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده" الحديث، كما أخرجه البخاري في صحيحه.

ã

وقته

يصلح الاعتكاف في طول أيام السنة من غير استثناء، ويستحب في رمضان وفي العشر الأواخر منه.

ã

حكم الاعتكاف

الاعتكاف إما أن يكون نذراً أوتطوعاً.

أ. فالنذر حكمه الوجوب، لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؛ قال: أوف بنذرك"، ولحديث عائشة في البخاري: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه".

ب. أما التطوع فقد ذهب فيه أهل العلم ثلاثة مذاهب بعد اتفاقهم على مشروعيته، هي:

1. سنة مؤكدة، وهذا مذهب ابن شهاب، وأبي حنيفة، وأحمد، وابن بطال وابن العربي المالكيين.

2. مستحب، وهذا مذهب العامة من أهل العلم.

3. جائز، وهذا مذهب طائفة من المالكية.

والراجح أنه سنة مؤكدة، لما روته عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده".

ولما صح عن ابن عمر كذلك: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان".

ولما رواه ابن المنذر عن ابن شهاب: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله".

وقال أبوداود عن أحمد: (لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون).

قال ابن بطال رحمه الله: (مواظبته صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف تدل على أنه من السنن المؤكدة).

وقال مالك رحمه الله: (ولم يبلغني أن أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا أحداً من سلف هذه الأمة، ولا ابن المسيِّب، ولا أحداً من التابعين، ولا أحداً ممن أدركت من اقتدي به اعتكف، ولقد كان ابن عمر من المجتهدين، وأقام زماناً طويلاً فلم يبلغني أنه اعتكف، إلا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولست أرى الاعتكاف حراماً؛ فقيل: لم تراهم تركوه؟ فقال: أراه لشدة الاعتكاف عليهم، لأن ليله ونهاره سواء، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقالوا له: إنك تواصل؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني؛ وقد قالت عائشة حين ذكرت القُبلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فقالت: وأيكم أملك لإربه من رسول الله؟ وأنهم لم يكونوا يقوون من ذلك على ما كان يقوى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ما قاله الإمام مالك فيه نظر، فقد ثبت أن عدداً من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين ليس بالقليل قد اعتكفوا وداوموا على هذه السنة، سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويدل على ذلك تعجب الإمام التابعي الجليل محمد بن شهاب الزهري وهو مدني، حيث قال: "عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله"، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة بأبي هو وأمي، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال مالك وغيره رحمهم الله تعالى.

وتعليل مالك رحمه الله لعدم اعتكاف أولئك النفر من الصحابة فيه نظر هو الآخر، إذ كان هؤلاء من أصحاب العزائم النادرة، والقوة الفائقة، والصبر على الطاعات، وربما كانت لهم موانع سوى ذلك من مهام دينية، أودنيوية أخرى، من مرض ونحوه، كما كان لمالك عذر منعه من شهود الجماعة وهو سلس البول، ولم يبح به إلا في آخر أيامه رحمه الله.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله راداً ودافعاً لما قاله مالك رحمه الله: (وأما قول ابن نافع عن مالك: "فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأثر فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته"، وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي، وقال: إنه سنة مؤكدة؛ وكذا قال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكيده؛ وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن العلماء خلافاً أنه مسنون).

وقال الماوردي رحمه الله: (فالاعتكاف سنة حسنة وقربة مأمور بها غير واجبة، ولا لازمة).

ã

الاعتكاف ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم

الاعتكاف عبادة من العبادات لم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن هاجر إلى المدينة حتى توفاه الله، وهذا يدل على عدم نسخه، ويدل على عدم تخصيصه برسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكاف أزواجه بعده كما صح عن عائشة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه بعده" الحديث.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على حديث عائشة هذا: (ومن الثاني أنه لم ينسخ وليس من الخصائص).

ã

شروط صحة الاعتكاف

ما من عبادة إلا ولها شروط صحة، وشروط وجوب، وما من عبادة إلا ولها تحليل وتحريم.

فشروط صحة الاعتكاف هي:

1. الإسلام.

2. العقل.

3. النية.

4. المسجد.

5. الصوم.

6. إذن الرجل لزوجه ومملوكه.

1.  الإسلام

شرط لصحة جميع العبادات، لقوله عز وجل: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك قادم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك في ذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة.." الحديث، فرتب العبادات على الإيمان.

فالكافر مطالب أولاً بتوحيد الله عز وجل، ثم بعد ذلك بأداء العبادات.

قال الإمام الشيرازي: (لا يصح من الكافر كالصوم).

2. العقل

لقد رفع الله القلم عن المجنون حتى يفيق، فالمجنون والمغمى عليه لا يستطيعان التمييز بين ما تحله العبادة وما تحرمه.

وقال الشيرازي رحمه الله: (وأما من زال عقله كالمجنون والمبرسم فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات، فلا يصح منه الاعتكاف كالصوم).

3. النية

شرط في صحة جميع العبادات، لقوله عز وجل: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" الحديث.

4. المسجد

أ. للرجل

هو شرط لصحة اعتكاف الرجل إجماعاً، إذ لا يصح اعتكاف رجل إلا في مسجد، سواء كان جامعاً أم ليس بجامع، لقوله عز وجل: "أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود"، ولقوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".

ولقول عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه إذا أخبية، خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال: آلبِرَّ تقولون بهن؟ ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشراً من شوال"، وفي رواية: "آلبر تردن؟".

ولما صحَّ عن علي بن الحسين رضي الله عنهما: "أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حُيَيّ؛ فقالا: سبحان الله يا رسول الله؛ وكبُر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً".

وبعد إجماعهم على اشتراط المسجد لاعتكاف الرجل اختلفوا في نوعيته إلى مذاهب، هي:

1. في كل مسجد، وهذا مذهب الجمهور أبي حنيفة وأحمد.

2. في المسجد الجامع، وهذا مذهب مالك والشافعي.

3. المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وهذا مذهب حذيفة بن اليمان.

4. المسجد الحرام والمسجد النبوي فقط، وهذا مذهب عطاء.

5. المسجد النبوي، وهذا مذهب ابن المسيب.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على ترجمة البخاري "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها": (أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد، لقوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" الآية، ووجه الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به، لأن الجماع منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها.. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان.

إلى أن قال: وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى المساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه، أما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك، لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري مطلقاً، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة).

وقال مالك: (والأمر الذي لا اختلاف فيه أنه لا ينكر الاعتكاف في كل مسجد تجمَّع فيه هذه الجمعة.. فإن مسجداً لا تجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواء، فإني لا أرى بأساً في الاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: "وأنتم عاكفون في المساجد"، فعم الله المساجد كلها ولم يخص منها شيئاً).

وقال الماوردي: (أما الاعتكاف فلا يصح إلا في مسجد سابل من جامع أوغيره، وحكي عن حذيفة بن اليمان وابن المسيب أن الاعتكاف لا يصح إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد إبراهيم عليه السلام، وهو بيت المقدس، وحكي عن الزهري، وحماد، والحكم: أنه لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة، ودليلهم قوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، فعم بالذكر جميع المساجد).

والخلاصة أن الاعتكاف للرجل يجوز في كل مسجد تقام فيه الصلوات المكتوبة إذا لم تعترض اعتكافه جمعة، فإن اعترضته جمعة فلابد من مسجد جامع إلا لضرورة، ومن نذر أن يعتكف في مسجد معين اعتكف في أي مسجد عدا المسجد الحرام، فمن نذر الاعتكاف فيه لم يف بنذره إلا إذا اعتكف فيه.

ب. للمرأة

ذهب أهل العلم في اشتراط المسجد لاعتكاف المرأة مذاهب:

1. المسجد شرط لصحة اعتكاف المرأة، وهذا ما ذهب إليه المالكية، والجديد من قولي الشافعي.

2. المسجد ليس شرطاً لاعتكافها، بل لها أن تعتكف في مسجد بيتها، وهذا مذهب أبي حنيفة، والقديم من قولي الشافعي.

3. لها أن تعتكف في المسجد مع زوجها، وهذا قول لأحمد ورواية للأحناف.

4. يكره لها أن تعتكف في المسجد الذي تصلى به جماعة، وهو قول الشافعي.

قال سُحنون: (قلت لابن القاسم: ما قول مالك في المرأة تعتكف في مسجد الجماعة؟ فقال: نعم؛ قال: تعتكف في قول مالك في مسجد بيتها؟ فقال: لا يعجبني ذلك، وإنما الاعتكاف في المساجد التي توضع لله).

وقال المــاوردي: (ولا فرق بين الرجل والمرأة، أي في أن اعتكـافهمـا لا يصح إلا في مسجد).

وقال ابن مودود الحنفي رحمه الله: (والمرأة تعتكف في مسجد بيتها، وهو الموضع الذي أعدته للصلاة، ويشترط في حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد، لأن الرجل لما كان اعتكافه في موضع صلاته، وكانت صلاتها في بيتها أفضل، كان اعتكافها فيه أفضل، قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في مسجد بيتها، وصلاتها في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وبيوتهن خير لهن لو كن يعلمن".

ولو اعتكفت في المسجد جاز لوجود شرائطه، ويكره لما رويناه).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على تبويب البخاري "باب اعتكاف النساء": (أي ما حكمه؟ وقد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تصلى فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب، فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة، إلا أن ابن عيينة زاد في الحديث أي حديث الباب- أنهن استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف، لقطعتُ بأن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائز، انتهى؛ وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها، وفي رواية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها، وبه قال أحمد).

الذي يترجح لدي والله أعلم أن المرأة عليها أن تعتكف في مسجد بيتها، أي في عقر دارها، وذلك للآتي:

أولاً: لحديث عائشة رضي الله عنها، الذي جاء فيه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصةً عائشةَ أن تضرب خباء، فأذنت لها فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر، فلما اصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية، فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلبرَّ ترون بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشراً من شوال".

وذلك لعدم إقراره صلى الله عليه وسلم لهن ولتركه الاعتكاف في ذلك الشهر.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً عليه: (فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها).

ثانياً: قياساً واستحساناً على الصلاة المكتوبة، فإن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد الحي، وصلاتها في مسجد الحي أفضل من صلاتها في مسجد الجماعة، وهكذا، سيما أن الاعتكاف يوجب ملازمة المسجد والمكوث فيه لفترة طويلة، والصلاة الواحدة لا تزيد على ربع ساعة.

ثالثاً: ما أحدثه كثير من النساء في هذا العصر من مزاحمة الرجال ومن عدم التحشم والتستر.

رابعاً: إن اضطرت المرأة للاعتكاف في المسجد سيما في العشر الأواخر من رمضان عليها ألا تعتكف إلا مع زوجها وفي خباء ساتر.

قال ابن قدامة: (وإذا اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربت في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال، وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم).

تنبيه: يجوز للعبد، والمرأة، والمسافر، والصبي المميز أن يعتكفوا حيث شاءوا من المساجد لعدم وجوب الجمعة عليهم.

5. الصوم

ذهب أهل العلم في اشتراط الصوم للمعتكف مذاهب:

1. الصوم ليس شرطاً لصحة الاعتكاف، وهو رواية عن أحمد، ومن الصحابة علي وابن مسعود رضي الله عنهما، واستدلوا بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؛ قال: أوف بنذرك".

2. الصوم شرط لصحة الاعتكاف، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأوزاعي، ورواية عن أحمد، ومالك من الأئمة، ومن الصحابة عائشة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، واستدلوا بما روته عائشة رضي الله عنها ترفعه: "لا اعتكاف إلا بصوم".

3. يستحب الصوم وليس شرطاً، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.

قال النووي: (قال الشافعي والأصحاب الأفضل أن يعتكف صائماً، ويجوز بغير صوم، وبالليل، وفي الأيام التي لا تقبل الصوم، وهي العيد وأيام التشريق، هذا هو المذهب وبه قطع الجماهير في جميع الطرق).

وقال مجد الدين أبو البركات ابن تيمية رحمه الله: (ويصح بلا صوم، إلا أن يشترطه بنذره، وعنه لا يصح بدونه).

سئل ابن القاسم: (أيكون الاعتكاف بغير صوم في قول مالك؟ فقال: لا يكون إلا بصوم؛ وقال ذلك القاسم بن محمد، ونافع، لقول الله تعالى: "وأتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، فقيل لابن القاسم: ما قول مالك في المعتكف إن أفطر متعمداً، أينتقض اعتكافه؟ فقال: نعم).

وقال الماوردي رحمه الله: (فأما الصوم فغير واجب فيه، بل إن اعتكف مفطراً جاز، وكذلك لو اعتكف في العيدين وأيام التشريق، أواعتكف ليلاً جاز، وهو قول علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وأبي ثور، والمزني، وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وهو في الصحابة قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، أن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، ولا في الأيام التي لا يجوز صيامها، تعلقاً بما رواه الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا بصوم"، وبما روي عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله إني نذرت اعتكاف يوم في الجاهلية، فقال: اعتكف وصم".)

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث ابن عمر السابق: (قوله: "أن اعتكف ليلة"، استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس ظرفاً للصوم، فلو كان شرطاً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به، وجمع ابن حبَّان بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوماً أراد بليلته، وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحاً لكن إسنادها ضعيف، وقد زاد فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف وصم"، أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف، وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار، ورواية من روى يوماً شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال الآتية بعد أبواب "فاعتكف ليلة"، فدل على أنه لم يزد على نذره شيئاً، وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يشترط له حد معين.. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بعد أبواب "من لم ير عليه إذا اعتكف صوماً"، وترجمة هذا الباب مستلزمة للثانية لأن الاعتكاف إذا ساغ ليلاً بغير نهار استلزم صحته بغير صيام من غير عكس، وباشتراط الصيام قال ابن عمر، وابن عباس، أخرجه عبد الرزاق عنهما بإسناد صحيح، وعن عائشة نحوه، وبه قال مالك، والأوزاعي، والحنفية، واختلف عن أحمد وإسحاق، واحتج عياض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا بصوم، وفيه نظر، لما في الباب بعده أنه اعتكف في شوال لما سنذكره، واحتج بعض المالكية بأن الله تعالى ذكر الاعتكاف إثر الصوم فقال: "ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، وتعقب بأنه ليس فيها ما يدل على تلازمهما، وإلا لكان لا صوم إلا باعتكاف، ولا قائل به).

الراجح من قولي العلماء أن الصوم ليس شرطاً في صحة الاعتكاف لحديث عمر الصحيح الصريح، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتكف ليلة مكان الليلة التي نذرها في الجاهلية ولم يصح أنه أمره بصيام، ولكن يستحب لمن أراد الاعتكاف يوماً فأكثر أن يصوم، والله أعمل.

6. إذن الرجل لزوجه ومملوكه

لا يصح اعتكاف امرأة زوجها حاضر شاهد إلا بإذنه، سواء كان الاعتكاف نذراً واجباً أوتطوعاً.

وإذا أذن لها في الاعتكاف فلا يحق له أن يمنعها من مواصلة الواجب منه، أما التطوع فله ذلك، ويستحب ألا يقطعه عليها.

أما إذا اعتكفت بغير إذنه فله إخراجها من معتكفها واجباً كان الاعتكاف أم تطوعاً.

ودليل ذلك حديث عائشة السابق عندما أمر صلى الله عليه وسلم بإزالة أخبية أزواجه ومنعهن من الاعتكاف.

وكذلك العبد والأمة لا يجوز اعتكافهما إلا بعد إذن سيدهما، سواء كان اعتكافهما نذراً أم تطوعاً.

قال الحافظ ابن حجر: (قال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها، وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج ثم منعها أثم بذلك، وامتنعت، وعن مالك ليس له ذلك، وهذا الحديث حجة عليهم).

وقال الماوردي رحمه الله: (أما المرأة فليس لها أن تعتكف إلا بإذن زوجها لما يملك من الاستمتاع بها، فإن اعتكفت بغير إذنه كان له منعها، ولو أذن لها في الاعتكاف ثم أراد منعها قبل تمام ذلك جاز له، وإن كان الأولى تمكينها من إتمامه، ولم يجــز له ذلك إن كان اعتكـافهـا متتابعاً).

ã

أركان الاعتكاف

1. اللبث في المسجد.

2. تجنب الجماع ومقدماته.

3. اجتناب الكبائر.

4. الإسلام.

5. العقل.

6. الطهارة من الحيض.

وعليه فإن الاعتكاف يفسد ويبطل بارتكاب أواختلاف أي واحد منها.

ã

مبطلات الاعتكاف

هي:

1. الخروج لغير حاجة الإنسان

لا يجوز لمن شرع في الاعتكاف أن يخرج من معتكفه قبل انقضائه إلا للآتي:

1. قضاء الحاجة، البول والغائط، ولو كثر خروجه لإسهال أوبول لا يضر.

2. لغسل الجنابة ولغسل الجمعة.

3. للأكل والشرب إن لم يقدر على الأكل والشرب في معتكفه.

4 . إذا مرض مرضاً لا يستطيع معه البقاء في المعتكف.

5. إذا تعينت عليه شهادة لا يمكن تأجيلها.

6. إن خاف على نفسه من حريق، أوهدم، أوسرقة، أوحاكم، أونحوه في المسجد.

7. إذا أخرجه الحاكم.

8 . إذا حاضت المرأة.

9. إذا مات زوج المرأة أوطلقت تخرج للعدة في أرجح قولي العلماء، وقيل تجلس حتى تتم اعتكافها.

10. إذا خاف المعتكف فوات الحج خرج وبنى إن كان اعتكافه واجباً، واستأنف إن كان تطوعاً بعد الحج.

11. إن خرج من اعتكافه لأداء عمرة سواء كان في العشر الأواخر وفي غيرها، وسواء كان في الحرم المكي أوفي غيره بطل اعتكافه، لأن الاعتكاف عبادة من لوازمها المكث في المسجد فلا يجوز الخروج منه إلا لحاجة الإنسان.

12 . أن يخرج ناسياً لاعتكافه.

13. إن كان مؤذناً وليس هناك مكبر صوت له أن يخرج من المسجد ويصعد المنارة.

14. إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة خرج للجمعة، فإن كان اعتكافه واجباً فقد بطل ويستأنف بعد.

15. إذا جُنَّ المعتكف أوأغمي عليه يُخرَج من المسجد.

قال النووي: (أما إذا جُنَّ فلم يخرجه وليه من المسجد حتى أفاق لم يبطل اعتكافه، قال المتولي: لكن لا يحسب زمان الجنون من اعتكافه).

وذلك لقول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى البيت إلا لحاجة الإنسان"، كناية عن البول والغائط.

فإذا صح المريض وطهرت الحائض رجعا إلى معتكفهما وإلا بطل اعتكافهما، وهكذا فكل من خرج لحاجة لابد له من الخروج لها رجع بعد انقضائها مباشرة وإلا بطل اعتكافه.

قال الشافعي رحمه الله: (ويخرج للغائط والبول إلى منزله وإن بَعُد؛ وقال: وإن كانت عليه شهادة فعليه أن يجيب، فإن فعل خرج من اعتكافه؛ وقال أيضاً: وإن مرض، أوأخرجه السلطان واعتكافه واجب فإذا برئ، أوخلي عنه بنى، فإن مكث بعد برئه شيئاً من عذر ابتدأ).

وقال الماوردي في شرح كلام الشافعي السابق: (.. أن يكون مرضه يسيراً يمكنه من المقام معه في المسجدن كالصداع، ووجع الضرس، ونفور العين، فهو ممنوع من الخروج من المسجد، فإن خرج بطل اعتكافه، ولزمه استئنافه لأنه خرج مختاراً لغير حاجة.

والحالة الثانية: أن يكون مرضه زائداً لا يقدر معه على المقام في المسجد، فهذا يجوز الخروج من المسجد إلى منزله، فإذا برئ عاد إلى المسجد وبنى على اعتكافه لأنه خرج غير مختار فصار كالخارج لحاجة الإنسان).

وقال ابن القاسم: (وسألت مالكاً عن المعتكف أيخرج من المسجد يوم الجمعة للغسل؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك؛ قال: وسئل مالك عن المعتكف تصيبه الجنابة، أيغسل ثوبه إذا خرج فاغتسل؟ فقال: لا يعجبني ذلك، ولكن يغتسل ولا ينتظر غسل ثوبه وتجفيفه.

قال: وسألت مالكاً عن المعتكف أيخرج ويشتري لنفسه طعاماً إذا لم يكن له من يكفيه؟ فقال لي مالك مرة: لا بأس بذلك؛ ثم قال بعد ذلك: لا أرى ذلك له؛ قال: وأحب إليَّ إذا أراد أن يدخل اعتكافه أن يفرغ من حوائجه.

وقال سُحنون: قلت لابن القاسم: أرأيت معتكفاً أخرج في حد عليه، أوخرج فطلب حداً، أوخرج يقتضي له ديناً، أوأخرجه غريم له، أيفسد اعتكافه في هذا كله؟ فقال: نعم؛ فقال: أتحفظه عن مالك؟ فقال: لا).

وعن ابن شهاب وربيعة قالا: (إذا حاضت المعتكفة رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد حتى تقضي اعتكافها فهي التي جعلته عليها).

وقال الشافعي رحمه الله: (وإن هلك زوجها خرجت فاعتدت ثم بنت).

وقال الماوردي: (فإن اعتكفت المرأة ثم وجب عليها العدة بطلاق زوجها أووفاته لزمها الخروج إلى منزلها لتقضي فيه عدتها، وقال مالك: تكمل اعتكافها، ثم تخرج لقضاء عدتها، لأن الحقين إذا وجبا قدِّم أقواهما، والعدة أقوى من الاعتكاف).

وقال ابن قدامة: (إن المعتكفة إذا توفي زوجها لزمها الخروج لقضاء العدة، وبهذا قال الشافعي، وقال ربيعة، ومالك، وابن المنذر: تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه، لأن الاعتكاف المنذور واجب، والاعتداد في البيت واجب، فقد تقدم واجبان فيقدم أسبقهما؛ ولنا أن الاعتداد في بيت زوجها واجب، فلزمها الخروج إليه).

وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لقول عائشة رضي الله عنها: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً" الحديث: (زاد مسلم إلا لحاجة الإنسان، وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لها فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه).

وقال النووي عن مذاهب العلماء في خروج المعتكف من اعتكاف منذور متتابع كصلاة الجمعة، ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا بطلان اعتكافه، وبه قال مالك، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقال سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وأحمد، وعبد الملك من أصحاب أحمد، وابن المنذر، وداود، وأبو حنيفة، في رواية عنه: لا يبطل اعتكافه).

وقال مالك في المطلقة والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة: (تمضي على اعتكافها حتى تفرغ منه، ثم ترجع إلى بيت زوجها وتعتد فيه ما بقي من عدتها).

2. الجماع ومقدماته

أ. الجماع

على المعتكف تجنب الجماع فإنه مفسد للاعتكاف إجماعاً، قال تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون".

قال الحافظ ابن حجر: (نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، وروى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء، فنزلت الآية، إلى أن قال: واتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة؛ وعن مجاهد: يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع، ففي المباشرة أقوال ثالثها: إن أنزل بطل وإلا فلا).

فرق بعض أهل العلم بين جماع العامد والناسي فأبطلوا اعتكاف العامد للجماع، ولم يبطلوا اعتكاف الناسي له، وسوَّى بينهما فريق آخر.

جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن جامع ليلاً أونهاراً في اعتكافه ناسياً أيفسد اعتكافه؟ قال: نعم، ينتقض ويبتدئ، وهو مثل الظهار إذا وطئ فيه).

وقال الماوردي: (فإن في الفرج فضربان عامد وناسي، فإن وطئ ناسياً لم يبطل اعتكافه؛ وقال أبو حنيفة: يبطل كالعامد، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولأن الصوم مع تعليقه بالكفارة لا يبطل بوطء النسيان، فكان الاعتكاف بذلك أولى، فإن وطئ عامداً في قبُل أودبر فقد بطل اعتكافه، أنزل أم لم ينزل، لقوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، وعليه القضاء إن كان واجباً، ولا كفارة عليه، فإن مات قبل القضاء سقط عنه، وهو قول جماعة الفقهاء، وقال الحسن البصري والزهري: عليه كفارة الوطء في رمضان؛ وهذا خطأ، لأن الاعتكاف عبادة، ويتعلق وجوبها بمال، ولا ينوب عنها المال، فوجب ألا تلزم الكفارة بإفسادها كالصلاة).

وقال ابن قدامة: (فإن وطئ في الفرْج متعمداً أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم، حكاه ابن المنذر عنهم، ولأن الوطء إذا حُرِّم في العبادة أفسدها، كالحج والصوم، وإن كان ناسياً فكذلك عند إمامنا، وأبي حنيفة، ومالك، وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه لأنها مباشرة لا تفسد الصوم، فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج، ولنا أن ما حُرِّم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد).

وقال ابن مودود الحنفي: (فإن جامع ليلاً أونهاراً عامداً أوناسياً بطل) أي اعتكافه.

ب. مقدمات الجماع

مقدمات الجماع كالقبلة ونحوها إما أن تكون بشهوة أوبدون شهوة، فإن كانت بشهوة فقد بطل اعتكافه مع تفصيل لأهل العلم في ذلك، وإن لم تكن بشهوة فهو على اعتكافه.

صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً" الحديث.

فدلَّ على أن الملامسة والمباشرة من غير شهوة لا تبطل الاعتكاف.

قال المزني: قال الشافعي: لا يباشر المعتكف، فإن فعل أفسد اعتكافه.

وقال في موضع من مسائل في الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد.

قال المزني: هذا أشبه بقوله، لأنه منهي في الاعتكاف، والصوم، والحج عن الجماع، فلما لم يفسد عنده صوم ولا حج بمباشرة دون ما يوجب الحد أوالإنزال في الصوم كانت المباشرة في الاعتكاف كذلك عندي في القياس).

وقال الماوردي: (وأما المباشرة في غير الفرج فضربان: إحداهما لشهوة، والثاني لغير شهوة؛ فإن كان لغير شهوة كأن مس بدنها لعارض وقبلها عند قدومها من سفر غير قاصد للذة فهذا غير ممنوع).

وقال ابن قدامة: (فأما المباشرة دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها، مثل أن تغسل رأسه، أوتَفْليه، أوتناوله شيئاً.. وإن كانت عن شهوة فهي محرمة).

3. الردة

إذا ارتد المسلم فقد بطل اعتكافه، فإن رجع إلى الإسلام هل يبني على ما مضى أم يستأنف إذا كان اعتكافه واجباً؟ قولان، قـال تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخــاسرين".

4. ارتكاب الكبائر

من ارتكب كبيرة وهو معتكف كالزنا والسرقة فقط بطل اعتكافه، لقوله تعالى: "تلك حدود الله فلا تقربوها" الآية.

قال القرطبي: (والمعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة، قاله ابن خوَيْزمَنْداد عن مالك).

وقال ابن شهاب الزهري: (وإن أحدث ذنباً مما نهي عنه في اعتكافه فإن ذلك يقطع عنه اعتكافه حتى يستقبله من أوله).

وقال الشافعي في كتاب الأم: (وإذا شرب المعتكف نبيذاً فسكر بطل اعتكافه).

وقال النووي: (ببطلان اعتكاف السكران والمرتد جميعاً بطرآن السكر والردة، لأنهما أفحش من الخروج من المسجد).

5. الجنون والإغماء

إذا جُنَّ المعتكف أوأغمي عليه فقد بطل اعتكافه، وإذا فاق بنى.

قال الماوردي: (فأما إذا جُنَّ المعتكف ثم أفاق فلا يختلف المذهب أنه يبني على اعتكافه، سواء خرج من المسجد في حال جنونه أم لا، وكذلك لو أغمي عليه، أونام طول يومه كان على اعتكافه، غير أن مدة الإغماء غير معتد بها، ومدة النوم معتد بها لأن النائم كالمستيقظ في جريان الحكم عليه، والله أعلم).

6. الحيض

إذا حاضت المرأة فسد اعتكافها، وعليها الخروج من المسجد، فإذا طهرت عادت وبنت، وكذلك لو خرجت لقضاء عدة من طلاق أووفاة عادت بعد انقضاء عدتها وبنت على ما كان من اعتكافها، أما المستحاضة فلا تخرج ولكنها تؤمر بأن تتحفظ.

قال الماوردي: (وإذا حاضت المرأة في اعتكافها خرجت من المسجد، فإذا طهرت عادت إلى اعتكافها، وبنت لأنها مضطرة إلى الخروج ممنوعة المقام، فأما المستحاضة فليس لها الخروج من اعتكافها لأن الاستحاضة لا تمنع من المقام في المسجد وإن خرجت بطل اعتكافها).

وقال الشافعي رحمه الله: (وإن هلك زوجها خرجت فاعتدت ثم بنت).

وقال مجد الدين ابن تيمية: (ويسن للمعتكفة إذا حاضت أن تمكث مدة الحيض في خباء تضربه في رحبة المسجد إلا أن تخشى ضرراً، فتمكث في بيتها).

ã

ما يكره للمعتكف فعله اتفاقاً

يكره للمعتكف أن يشتغل بغير ذكر الله وما لا بد له منه من حاجات، سيما:

1. الجدل والمراء.

2. السباب والفاحش من القول.

3. اللغو.

4. الغيبة والنميمة.

5. النظر إلى المحرمات.

6. الصمت عن الكلام يوماً إلى الليل تعبداً.

قال ابن قدامة: (ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام، لأن من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، ويجتنب الجدال، والمراء، والسباب، والفحش، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففيه أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك.

إلى أن قال:

وقال علي: (أيما رجل اعتكف فلا يساب، ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة وهو يمشي، ولا يجلس عندهم، رواه الإمام أحمد).

ã

ما اختلف في كراهيته للمعتكف

1. الاشتغال بالتجارة والاحتراف

اختلف أهل العلم في جواز الاشتغال بالبيع والشراء والاحتراف للمعتكف، فمنهم من أجاز له ذلك ومنهم من كرهه، والراجح كراهة ذلك في المسجد سواء للمعتكف أولغيره، بل المعتكف أولى بالمنع من ذلك من غيره، للحديث عن المساجد: "إنما بنيت المسـاجـد لذكـر الله والصلاة".

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم بيعكم وشراءكم".

قيل لابن القاسم: (ما قول مالك في المعتكف يشتري ويبيع في حال اعتكافه؟ فقال: نعم، إذا كان شيئاً خفيفاً لا يشغله عن عيش نفسه).

أما ما لابد له منه فله أن يشتري أكله وشرابه، ويخيط ثوبه إذا انفتق، وهكذا.

وقال الشافعي: (ولا بأس أن يشتري، ويبيع، ويخيط، ويجالس العلماء، ويحدث بما أحب ما لم يكن مأثماً، ولا يفسده سباب ولا جدال).

وقال النووي عن مذاهب العلماء في بيع المعتكف وشرائه: (قد ذكرنا أن الأصح من مذهبنا كراهته إلا لما لابد منه، قال ابن المنذر: وممن كرهه عطاء، ومجاهد، والزهري، ورخص فيه أبو حنيفة، وقال سفيان الثوري وأحمد: يشتري الخبزإذا لم يكن له من يشتري له، وعن مالك رواية كالثوري، ورواية يشتري ويبيع اليسير، قال ابن المنذر: وعندي لا يبيع ولا يشتري إلا ما لابد له منه إذا لم يكن له من يكفيه لقضاء حاجة الإنسان فباع واشترى في مروره لم يكره، والله أعلم).

وقال الخرقي: (والمعتكف لا يتجر، ولا يكتسب بالصنعة).

قال ابن قدامة في شرح ما قال الخرقي: (وجملته أن المعتكف لا يجوز له أن يبيع ولا يشتري إلا ما لابد له منه، قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: المعتكف لا يبيع ولا يشتري إلا ما لابد له منه، طعام ونحو ذلك، التجارة، والأخذ، والعطاء، فلا يجوز شيء من ذلك.

وقال الشافعي: لا بأس أن يبيع، ويشتري، ويخيط، ويتحدث، ما لم يكن مأثماً؛ ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ورأى عمران القصير رجلاً يبيع في المسجد، فقال: يا هذا، إن هذا سوق الآخرة، فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا؛ وإذا منع من البيع والشراء في غير حال الاعتكاف، ففيه أولى.

فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز منها ما يكتسب به، لأنه بمنزلة التجارة بالبيع والشراء، ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه.

وقد روى المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن المعتكف، ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل؛ وقال القاضي: لا تجوز الخياطة في المسجد، سواء كان محتاجاً إليها أولم يكن، قلَّ أوكثر، لأن ذلك معيشة، أوتشغل عن الاعتكاف، فأشبه البيع والشراء فيه.

والأولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيراً، مثل أن ينشق قميصه فيخيطه، أوينحل شيء يحتاج إلى ربط فيربطه، لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه، فيجري مجرى لبس قميصه وعمامته وخلعهما).

ã

2. زيارة المريض، وشهود الجنائز إذا كانت خارج المسجد وتشييعها

اختلف أهل العلم كذلك في جواز ذلك للمعتكف، فمنهم من منعه عن ذلك وهو الراجح لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه، ومنهم من أجاز له ذلك.

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً".

قال الحافظ ابن حجر: (واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه، ووقع عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه"، قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه البتة؛ وجزم الدارطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: "لا يخرج إلا لحاجة" وما عداه ممن دونها، وروينا عن النخعي والحسن البصري: إن شهد المعتكف جنازة أوعاد مريضاً أوخرج لجمعة بطل اعتكافه؛ وبه قال الكوفيون، وابن المنذر في الجمعة، وقال الثوري، والشافعي، وغسحاق: إن شرط شيئاً من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد).

وقال ابن القاسم: (وسألت مالكاً عن المعتكف أيصلي على الجنائز وهو في المسجد؟ فقال: لا يعجبني أن يصلي على الجنائز وإن كان في المسجد؛ قال ابن نافع: قال مالك: وإن انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون على الجنازة وهو في المسجد فإنه لا يصلي عليها، ولا يعود مريضاً معه في المسجد إلا أن يصلي إلى جنبه فيسلم عليه؛ قال: وقال مالك: لا يعود المعتكف مريضاً ممن هو في المسجد معه، ولا يقوم إلى رجل يعزيه بمصيبة، ولا يشهد نكاحاً يعقد في المسجد يقوم إليه في المسجد، ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر بأساً؛ قال: ولا يقوم إلى الناكح فيهنئه، ولا بأس أن ينكح المعتكف، ولا يشغل في مجالس العلم.

قال: فقيل له: أفيكتب العلم في المسجد؟ فكره ذلك؛ قال سُحنون: وقال ابن نافع في الكتاب: إلا أن يكون الشيء الخفيف، والترك أحب إليه، قال ابن وهب عن مالك: وسئل عن المعتكف يجلس في مجلس العلماء ويكتب العلم؟ فقال: لا يفعل ذلك إلا أن يكون الشيء الخفيف والترك أحب إليَّ؛ قال سُحنون عن ابن وهب عن محمد بن عمر، وعن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: لا باس أن تنكح المرأة وهي معتكفة ويقول إنما هو كلام).

وقال الشافعي: (ولا يعود المريض، ولا يشهد الجنازة إذا كان اعتكافه واجباً).

قال الماوردي: (أما عيادة المريض في المسجد أوحضور جنازة في المسجد فلا يمنع منه المعتكف، فأما إن خرج من المسجد لعيادة مريض أوحضور جنازة من غير شرط كان في نيته لم يخل حاله من أحد أمرين:

o  إما أن يكون من ذوي رحمه، وليس له من يقوم بمرضه أوبدفنه، فهو مأمور بالخروج لأجله، وإذا خرج عاد وبنى على اعتكافه، كالعدة التي تخرج المرأة لأجلها ثم ترجع فتبني، وفيه وجه آخر أنه يستأنف.

o  وإما أن يون بخلاف ذلك، فهو ممنوع من عيادته وحضور جنازته، فإن خرج بطل اعتكافه.

وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: (إذا اعتكف الرجل لا يخرج من اعتكافه إلا لحاجة الإنسان، وأجمعوا على هذا، أنه يخرج لقضاء حاجته للغائط والبول، ثم اختلف أهل العلم في عيادة المريض وشهود الجمعة والجنازة للمعتكف، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن يعود المريض، ويشيع الجنازة، ويشهد الجمعة إذا اشترط ذلك، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك.

وقال بعضهم: ليس له أن يفعل شيئاً من هذا، ورأوا للمعتكف إذا كان في مصر يجمَّع فيه أنه لا يعتكف إلا في المسجد الجامع، لأنهم كرهوا له الخروج من معتكفه إلى الجمعة، ولم يروا له أن يترك الجمعة، فقالوا: لا يعتكف إلا في المسجد الجامع، حتى لا يحتاج إلى أن يخرج من معتكفه لغير قضاء حاجة الإنسان، لأن خروجه لغير قضاء حاجة الإنسان قطع عندهم للاعتكاف، وهو قول مالك والشافعي.

وقال أحمد: لا يعود المريض، ولا يتبع الجنازة على حديث عائشة.

وقال إسحاق: إن اشترط ذلك فله أن يتبع الجنازة ويعود المريض).

وقال ابن قدامة رحمه الله: (في الخروج لعيادة المريض وشهادة الجنازة مع عدم الاشتراط، اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه ليس له فعله، وهو قول عطاء، وعروة، ومجاهد، والزهري، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وروى عنه الأثرم ومحمد بن الحكم أن له أن يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويعود إلى معتكفه، وهو قول علي رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي، والحسن، لما روى عاصم بن حمزة عن علي قال: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليعد المريض، وليحضر الجنــازة، وليأت أهله، وليأمرهم بالحــاجـة وهو قائم).

3. اشتراط المعتكف قطع اعتكافه أوالخروج لما له بد منه

الاشتراط يكون في الخروج منه وفي نذر التطوع في الخروج من المسجد لغير حاجة الإنسان، فهو نوعان:

1. أن يشترط قطع اعتكافه بأن يقول: لله عليَّ اعتكاف عشرة أيام متتاليات إلا أن يعرض لي كذا وكذا فأقطع.

2. أن يشترط الخروج من معتكفه لغير حاجة الإنسان فيقول: لله عليَّ اعتكاف عشرة أيام متتاليات إلا أن يعرض لي كذا وكذا فأخرج ثم أعود.

فمن أهل العلم من أجاز للمعتكف أن يشترط لقطع اعتكافه والخروج من معتكفه لفعل مباح، ومنهم من منع عن ذلك.

قال مالك رحمه الله: (لم أسمع أن أحداً من أهل العلم يذكر أن في الاعتكاف شرطاً لأحد، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال كهيئة الصلاة، والصيام، والحج، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل فيه بما مضى من السنة في ذلك، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه الأمر بشرط يشترطه أوبأمر يبتدعه، وإنما الأعمال في هذه الأشياء بما مضى فيها من السنة، وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنة الاعتكاف)، يعني ولم يشترطوا.

وقال الشافعي رحمه الله: (ولا بأس أن يشترط في الاعتكاف الذي أوجبه بأن يقول: إن عرض لي عارض خرجت).

وقال الماوردي رحمه الله: (وجملة الاعتكاف ضربان: واجب وتطوع، فأما التطوع فلا يفتقر إلى شرط الخيار في المقام على اعتكافه والخروج منه، وأما الواجب فهو النذر وهو على ضربين:

o  مطلق بغير شرط.

o  ومقيد بشرط.

فالمطلق بغير شرط فهو ممنوع فيه من الخروج إلا لحاجة الإنسان، فإن خرج  لغيرها بطل اعتكافه، وأما المقيد بشرط فهو على ضربين:

o  أحدهما أن يشترط قطع اعتكافه.

o  والثاني أن يشترط الخروج منه.

إلى أن قال: فإذا تقرر جواز اشتراط الخروج من الاعتكاف دون ما سواه من العبادات، لم يخل حال ما اشترطه وخرج له من أحد أمرين: إما أن يكون محظوراً أومباحاً، فإن كان مباحاً كاستقبال قادم، أواقتضاء غريم، ولقاء سلطان، أوكان مستحباً كعيادة مريض، وتشييع جنازة، أوكان واجباً كحضور الجمعة، جاز، ولزمه العود إلى اعتكافه والبناء عليه، وتكون مدة خروجه مستثناة بالشرع، وإن كان محظوراً فعلى ضربين:

o  أن ينافي الاعتكاف، كالوطء، فإن خرج من اعتكافه ووطئ بطل اعتكافه ولزمه استئنافه.

o والضرب الثاني: أنه لا ينافي الاعتكاف ولكنه ينقصه كالسرقة وقتل النفس المحرمة، ففي بطلان اعتكافه وجهان: أحدهما قد بطل، والوجه الثاني: لا يبطل وله البناء عليه).

وقال ابن قدامة رحمه الله: (إذا اشترط فعل ذلك في اعتكافه فله فعله، واجباً كان الاعتكاف أوغير واجب، وكذلك ما كان قربة، كزيارة أهله، أورجل صالح، أوعالم، أوشهود جنازة، وكذلك ما كان مباحاً كالعَشَاء في منزله، والمبيت فيه، فله فعله، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله؟ قال: إذا اشترط فنعم؛ قيل له: وتجيز الشرط في الاعتكاف؟ قال: نعم؛ قلت له: فيبيت في أهله؟ قال: إذا كان تطوعاً جاز.

وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن، والعلاء بن زياد، والنخعي، وقتادة، ومنع منه أبو مِجْلَز، ومالك، والأوزاعي.

قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط، ولنا أنه يجب بعقده، فكان الشرط كالوقوف، ولأن الاعتكاف لا يختص بقدر، فإذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه، وإن قال: متى مرضت أوعرض لي عارض خرجت جاز شرطه.

وإن شرط الوطء في اعتكافه، أوالفرجة، أوالنزهة، أوالبيع للتجارة، أوالتكسب بالصناعة في المسجد لم يجز.

ã

ما يباح للمعتكف

يباح للمعتكف ما يأتي:

1. التنظف وتغيير الثياب ولبس ما شاء منها.

2. الأكل والشرب في المسجد.

3. محادثة الإخوان والأنس معهم.

4. أن يخطب ويتزوج.

5. أن يصعد إلى سطح المسجد أوينزل في قبوه.

6. الحلق وتقليم الأظافر.

7. التطيب.

ã

ما يستحب للمعتكف

1. يستحب للمعتكف أن يعتكف في خباء وستر، وإن لم يتمكن من ذلك كما هو الحال في الحرمين الشريفين فعليه أن يلزم مكاناً ساتراً معيناً واحداً لا يتركه إلا لضرورة، وعليه أن يتجنب المداخل، ومناطق الصلاة، والزحام، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

2. المحافظة على الصلوات المكتوبة، والسنن الرواتب، والنوافل.

3. الإكثار من تلاوة القرآن.

4. لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.

5. الصيام في غير رمضان لمن اعتكف نهاراً.

6. الاجتهاد في الطاعات عموماً والإكثار منها.

7. لا يشتغل بما لا حاجة له به.

ã

أقل الاعتكاف وأكثره

لا حدَّ لأقل اعتكاف التطوع ولا لأكثره، ولكن السنة لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان ألا يخرج إلا بعد ثبوت هلال شوال، ولأهل العلم في أقل الاعتكاف مذاهب بعد أن أجمعوا ألا حد لأكثره، فمنهم من قال أقله لحظة، ومنهم من قال ساعة، ومنهم من قال يوم وليلة، ومنهم من قال أقله عشرة أيام، وهكذا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم؛ ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم؛ حكاه ابن قدامة، وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يوم أويومان، ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما يطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود، وقيل يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة.

وروى عبد الرزاق عن يَعْلَى بن أمية الصحابي أنه قال: "إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف".

وقال القرطبي رحمه الله: (أقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله عليَّ اعتكاف ليلة، لزمه اعتكاف ليلة ويوم، وكذلك إذا نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة، وقال سُحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه، كما قال سُحنون؛ وقال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوماً فيوماً؛ قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره.

وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة، وعلى هذا القول فليس من شرطه الصـوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي).

وقال ابن مودود الحنفي رحمه الله: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمته بلياليها متتابعة، ولو نوى النهار خاصة صُدِّق).

ã

متى يدخل من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان؟ ومتى يخرج؟

أ.  متى يدخل معتكفه؟

ذهب أهل العلم في دخول المعتكف العشر الأواخر من رمضان المسجد مذهبين:

الأول: يدخل بعد صلاة فجر يوم واحد وعشرين من رمضان، وهذا مذهب الأوزاعي، والليث، والثوري، وأحمد، وإسحاق من الأئمة، وحجتهم حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه".

وخرَّج البخاري في صحيحه عن عائشة كذلك قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه".

وهذا هو الراجح.

الثاني: يدخل قبيل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وطائفة من أهل العلم، وأولوا حديث عائشة بتأويلات مختلفة، كلها فيها نظر.

قال الحافظ الترمذي معلقاً على حديث عائشة السابق: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، يقولون: إذا أراد الرجل أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه، وهوقول أحمد، وإسحاق بن إبراهيم.

وقال بعضهم: إذا أراد أن يعتكف فلتغب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد وقد قعد في معتكفه، وهو قول الثوري ومالك بن أنس).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث عائشة السابق: (وفيه أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي، والليث، والثوري، وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح).

وقال القرطبي رحمه الله: (اختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين، وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس، وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم؛ وقال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوماً أوأكثر.

إلى أن قال: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال، وهي الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته).

وقال مالك: (.. أن يدخل الذي يريد الاعتكاف في العشر الأواخر حين تغرب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، ويصلي المغرب فيه).

وقال الشافعي رحمه الله: (ومن أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل فيه قبل الغروب، فإذا أهل هلال شوال فقد أتم).

ب.  متى يخرج من معتكفه؟

يخرج المعتكف في العشر الأواخر من رمضان بعد ثبوت هلال شوال، واستحب له طائفة من أهل العلم أن يبقى في معتكفه حتى يصلي العيد.

قـال مـالك رحمـه الله: (ثم يقيم فيخرج حتى يفرغ من العيد إلى أهله، وذلك أحب الأمر إليِّ فيه).

وقال القرطبي: (استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد، وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سُحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزلن بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان.

وقال سُحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه؛ وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرناه من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطاً في صحة الاعتكاف).

تنبيه: أما ما سوى العشر الأواخر فعلى المعتكف إتمام ما نوى وحدد من أيام وليالٍ.

ã

خاتمة

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد..

إن كان تعجب ابن شهاب رحمه الله من ترك المسلمين للاعتكاف مع مداومته صلى الله عليه وسلم عليه منذ أن هاجر إلى المدينة وإلى أن توفاه الله، فتعجبي اليوم أشد من أولئك النفر من إخواننا المسلمين الذين يحرصون على الاعتمار في ليلة سبع وعشرين من رجب، وإحياء ليلة النصف من شعبان، وصوم نهارها، ونحو ذلك من الأمور المحدثة التي لم يصح فيها دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع تركهم وتهاونهم في هذه السنة المؤكدة.

وأعجب من هؤلاء أولئك الذين يكررون العمرة المكية مرات عديدة، وقد تنازع العلماء في صحتها، ويَدَعُون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، مع العلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يعتمر قط في رمضان، مع ما ورد عنه من الاعتمار فيه من فضل وثواب، على أنه لم يترك الاعتكاف قط منذ أن شرعه وإلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.

فليت شعري لِمَ يحرص بعض المسلمين، هدانا الله وإياهم، على المحدثات، ويفرطون ويتهاونون في السنن المؤكدات، هذا على الرغم من التحذير الشديد والوعيد الأكيد في النهي عن الابتداع في الدين، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" الحديث، وقوله: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة" الحديث.

ولله در الإمام مالك، فقد كان كثيراً ما كان ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنة             وشر الأمور المحدثات البدائع

فاعلم أخي الحبيب أن الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الاتباع، وأن عملاً قليلاً في سنة خير من عمل كثير في بدعة، وأن ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وجنبنا الزلل، والابتداع، والردى، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الرحمة والهدى.

------------------------

احذر أخي المسلم .. أهون الصيام ترك الطعام

الحمد لله الذي فرض علينا الصيام، وسن لنا القيام، وجعل ذلك كفارة لما تقدم من الذنوب والآثام، فقال صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وصلى الله وسلم وبارك على خير من صلى وقام، محمد بن عبد الله، خيرته من الملائكة والإنس والجان.

اعلم أخي الكريم الموفق إلى الخيرات أن أهون الصيام ترك الطعام والشراب، وهو صوم العوام، إذ الصوم أنواع ودرجات، هي:

1.  صيام العوام، وهو الصوم عن الأكل، والشرب، والجماع، مع الانغماس فيما سوى ذلك من المحرمات.

2.  صيام خواص العوام، وهو هذا مع اجتناب المحرمات من الأقوال والأفعال.

3.  صيام الخواص، وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته.

4.  وصيام خواص الخواص، وهو الصوم عن غير الله، فلا فطر لهم إلا يوم القيامة.

ولهذا قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، الناصح الأمين: "مَنْ لَمْ يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه".

وقال: "كم من صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والتعب" أوكما قال.

ولهذا شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم بالجُنَّة، فإن الصوم الحقيقي يمنع من قبيح الأقوال والأفعال، كما تمنع الجنة المقاتل من سهام الأعداء، فقال: "الصيام جُنَّة، فلا يرفث ولا يفسق، وإن امرؤ قاتله أوشاتمه فليقل إني صائم مرتين" الحديث، وقال جابر رضي الله عنه: "إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".

ولله در القائل:

إذا لم يكن في السمع مني  تصـاون       وفي بصري غضٌ وفي منطقي صمتُ

حظي إذاً من صومي الجوع والظمأ       فإن قلتُ إني صمتُ يومي فمـا صمتُ

خرج الإمام أحمد في مسنده: أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم ذكرتا له، فدعاهما فأمرهما أن يتقيئا، فقاءتا ملء قدح قيحاً، ودماً صديداً، ولحماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا يأكلان لحوم الناس" الحديث، وهذا بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه".

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (ولهذا المعنى والله أعلم ورد بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار رمضان فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنه محرم بكل حال، لا يباح في وقت من الأوقات).

اعلم أخي الكريم أن من تقرب إلى الله بترك المباحات في غير رمضان- وانغمس فيما حرم الله عليه في طول الأعوام، نحو الكذب، والغيبة، والنميمة، وظلم الناس، مثله كمثل من ترك الفرائض وتقرب إلى الله بالنوافل، فإن تقربه هذا مردود عليه، وكذلك حال من صام عن المباحات واقترف المحرمات في شهر رمضان.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" لا مفهوم له، وهو مثل قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير والتهديد من قول الزور، وهو نحو قوله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا يؤمر بترك الصلاة، وإنما يؤمر بتحسينها وأدائها على الوجه الأكل لتنهاه كما نهت من سلف، فوعد الله حق، وقوله صدق.

ولقد أوَّل أهل العلم هذه الجملة: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" بتأويلات وجيهة ومخيفة كلها، وهي:

1. كناية عن عدم القبول لصيامه.

2. أن فاعل ذلك لا يثاب على صيامه، وإن أدى الواجب في الظاهر.

3. لا ينظر إليه الله نظر قبول.

فعليك أخي المسلم أن لا ترضى بأهون الصيام، وبصيام عوام العوام، وعليك أن تسعى لصيام خواص الخواص.

وأخيراً اسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يبارك لنا ولكم فيما تبقى من شعبان، وأن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يعيد علينا وعليكم رمضان سنين عديدة وأزماناً مديدة، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، وأن يعز الإسلام ويذل المستكبرين المتجبرين من عبدة الأهواء، والصليب، والأوثان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد عدنان، وتقبل الله منا ومنكم الطاعات، والسلام

-------------------------

الممسكون كثير.. والصائمون قليل

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وبعد..

قيل لابن عمر رضي الله عنهما في موسم من المواسم: الحاج كثير! فقال ابن عمر: الركب كثير، والحاج قليل.

وكذلك قال بعض أهل العلم: العلماء كثير، والحكماء قليل!

وأقول: الممسكون كثير، والصائمون قليل!

وذلك لأن الصيام له مفطرات ومفسدات حسية توجب القضاء، ومنها ما يوجب القضاء والكفارة، كالأكل، والشرب، والجماع.

ومنها مفطرات ومفسدات معنوية لا توجب قضاء ولا كفارة، ولكنها تحول دون قبول الصوم، وتبطل أجره أوتنقصه، وهي المعاصي والآثام، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

   "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".

   "كم من صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والتعب".

   "فإن كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، وإن سابَّه أحد أوشاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم".

المفسدات المبطلات التي تحول دون قبول الصوم وتذهب بأجره كله أوبعضه كثيرة جداً، وذلك لأن النهي عن قول الزور كناية وإشارة إلى النهي عن جميع الكبائر والآثام، وسنذكر في هذه العجالة أخطر تلك المفسدات من الكبائر التي عمت بها البلوى، على سبيل المثال لا الحصر، وهي:

   أكل الحرام، نحو الربا، والرشوة، والمال المسروق والمغصوب، وغيرها.

   الغيبة والنميمة.

   قول الزور، وشهادة الزور، والكذب.

   التهاون في صلاة الجماعة، سيما الصبح والعشاء.

   عقوق الوالدين.

   قطيعة الرحم.

   أذى الجار.

   السماع إلى الغناء والموسيقى.

   السماع الصوفي الملحن المصحوب بالآلات الموسيقية، كالنوبة والطار ونحوهما، والرقص فيه، أما إنشاد القصائد الزهدية الخالية من الغلو من غير تلحين فلا غبار عليه.

   خروج المرأة سافرة متعطرة.

   اختلاط النساء بالرجال.

   الخلوة بالمرأة الأجنبية ومصافحتها والنظر إليها.

   مشاهدة المسلسلات الهابطة.

   اللعب بالورق ونحوه.

وعلى هذا قس، وهذه الأمور محرمة في رمضان وفي غير رمضان، وإن كانت حرمتها في رمضان أشد، نسأل الله أن يجعلنا وجميع إخواننا المسلمين من الصائمين القائمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام.

 

***************

الباب الثالث عشر - ركن  المعاملات

 

مَنْ ظُلم ثم وجد فرصة فيمن ظلمه

حقوق الآدميين

أولاً: القصاص والجنايات

ثانياً: الحقوق المالية

إن لم يكن له شيء من الشهود والبينات

أ. إن ظفر بعين ماله

ب. إن لم يظفر بعين ماله

ثالثاً: الحقوق غير المالية

 

الحمد لله الذي حرَّم الظلم وجعله بيننا محرماً، فأمر أن لا نتظالم، وجعل كل المسلم على المسلم حراماً، دمه، وماله، وعرضه، وصلى الله وسلم على من حذر أمته من الظلم والتعدي فقال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".

وقال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوَِّقه من سبع أرضين".

وقال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".

وأمر برد المظالم في الدنيا إلىأهلها والتحلل منها قبل الآخرة، حيث يكون ذلك بالحسنات والسيئات.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أومن شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صـاحبـه فحمـل عليـه".

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يَقْضِي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".

حقوق الآدميين

حقوق الآدميين ثلاثة أنواع، هي:

1.   قصاص وجنايات.

2.   حقوق مالية.

3.   حقوق غير مالية، بأن ينتقص المرء في عرضه، أوماله، أوبدنه، أوأهله، بغيبة أونميمة أوبهتان ونحو ذلك.

أولاً: القصاص والجنايات

أجمع أهل العلم أن أمور القصاص والجنايات هي وقف على الحكام، فلا يحل لأحد أن يقتص من أحد بنفسه، لما في ذلك من المفاسد العظيمة، والأخطار الجسيمة، نحو إثارة النعرات والثارات، أويعفو "فمن عفا وأصلح فأجره على الله".

ثانياً: الحقوق المالية

فللمرء كذلك أن يعفو عن المعتدين الظالمين، وهذا أفضل، أويرفع أمره إلى ولاة الأمر إذا كان عنده من الشهود والبينات ما يثبت بها هذه الحقوق.

إن لم يكن له شيء من الشهود والبينات

أما إن لم يكن للمظلوم المعتدى عليه شيء من البينات والشهود، ثم وجد فرصته في مال وحق من ظلمه، هل يأخذ حقه منه من غير علمه ورضاه أم لا؟

أ. إن ظفر بعين ماله

قولان لأهل العلم هما:

الأول: له ذلك

وإلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، منهم:

1.  ابن سيرين.

2.  إبراهيم النخعي.

3.  سفيان الثوري.

4.  مجاهد.

5.  الإمام الشافعي.

6.  ورواية في مذهب مالك حكاها عنه الداودي.

7.  أبو بكر بن المنذر الفقيه الشافعي.

8.  وأبو بكر بن العربي الفقيه المالكي.

9.  القرطبي المفسر.

واستدل هذا الفريق بالآتي:

1.  قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به".

2.  وقوله تعالى: "والحرمات قصاص".

3.  وقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".

4.  وبقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له في البيعة: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف"، وهو في الصحيح.

5.  وبقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، وأخذ الحق من الظالم نصر له.

الثاني: ليس له ذلك

وهذا مذهب:

1.  أبي حنيفة.

2.  وعطاء الخرساني.

3.  ومالك في المشهور عنه

ومن وافقهم.

واستدل هذا الفريق بالآتي:

1.  قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها".

2.  وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"، الحديث.

3.  سداً للذرائع لأن مثل هذا التصرف قد يؤدي إلى مفاسد عظمى.

قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والحرمات قصاص": (والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع، فـ"الحرمات قصاص" على هذا متصل بما قبله ومتعلق به، وقيل هو مقطوع منه، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال، وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تُعدي عليه في مال أوجرح أن يتعدى بمثل ما تُعدي به عليه إذا خفي له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك، وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"، خرجه الدارقطني وغيره، فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمن عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكاً بهذا الحديث، وقوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، وهو قول عطاء الخرساني، قال قدامة ابن الهيثم: سألتُ عطاء بن ميسرة الخرساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به، وقد أعيا عليَّ البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت، ما كنت صانعاً؟

قلت: والصحيح جواز ذلك كيفما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقاً، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، وأخذ الحق من الظالم نصر له.

وقال القرطبي في موضع آخر من تفسير قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" الآية: (واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؟ فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وسفيان، ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه الدارقطني).

ب. إن لم يظفر بعين ماله

كذلك قولان لأهل العلم.

الذي يظهر والله أعلم أن من ظفر بعين ماله فأخذه أوظفر بغيره فأخذ قدراً مساوياً له من غير أن يعلم به صاحب المال وقد أمن المفسدة فله ذلك إن شاء، نصحاً لأخيه المسلم، هذا وإن تحرَّج عن ذلك وتركه كان خيراً له.

أما إذا علم أن أخذه لعين ماله أوما يساويه يؤدي إلى ضرر أكبر ومفسدة أعظم فلا يجوز له الدخول في ذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وبالقاعدة الفقهية الجامعة "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع"، والله أعلم.

قال القرطبي رحمه الله: (واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم، وللشافعي قولان أصحهما الأخذ، قياساً على ما لو ظفر له من جنس ماله، والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس، ومنهم من قال يتحرى قيمة ماله عليه ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم.

وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقـال الشافعي: لا، بل يأخـذ ماله عليه؛ وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفَلَس، وهو القيـاس، والله أعلم).

ثالثاً: الحقوق غير المالية

كالانتقاص في عرض، أودين، أوبدن، أوأهل، نحو الغيبة، والنميمة، والبهتان، فإما أن يستسمحه منها إجمالاً إن خشي من التفصيل مفسدة كبرى، وإن تعذر ذلك فعليه أن يكثر له من الدعاء والاستغفار، ويصدق في توبته، ويكثر من هذا الدعاء: "اللهم إن لك عليَّ حقوقاً كثيرة، اللهم ما كان لك فاغفره لي، وما كان لخلقك فتحمله عني"، والله أعلم.

-------------------

صاحب الطعام يحبُّ المحل وصاحب الماشية يحبُّ الغيث

يروى أن غلاماً من أهل مكة كان ملازماً للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له: يا بني! مالك وللطعام؟ فهلا إبلاً، فهلاً بقراً، فهلا غنماً! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.

كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يكرهون الاتجار في أقوات الناس مخافة الوقوع في المحذور وهو الاحتكار، من باب سد الذريعة، ولأن التاجر في أي سلعة من السلع يحب غلاء سعر ما يبيع، وغالب الذين يتاجرون في الأقوات كالذرة، والقمح، والأرز، ونحوها يحبون المحل ولا يرغبون في نزول المطر حتى تغلوا أسعار الغُلة، ولا يهمهم الضيق على خلق الله، إلا من رحم الله وقليل ما هم، على العكس والنقيض مما كان عليه التجار في الماضي.

كان أحد السلف "بواسط"، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل السفينة البصرة، ولا تؤخرها إلى غدٍ؛ فوافق سعة في السعر، فقال التجار للوكيـل: إن أخرته جمعة ـ أسبوعاً ـ ربحتَ فيه أضعافه؛ فأخَّره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليَّ ولا لي.

وحكى لي بعض التجار أن أباه حذره من الاتجار في سلعتين، هما الذرة لأنه قوت الناس، و"السجاير" لأنه من الخبائث.

وأعرف رجلاً كان لأبيه كمية من الذرة، وكان هذا في بداية فصل الخريف، وكان يلمح عن تأخير نزول الأمطار وعن شحها في هذا الفصل، فعلم مراد أبيه وحبه للمحل ليغلو سعر ما يخزنه من ذرة، فقال لأبيه: لا تقل هذا يا أبي، بل طمئن الناس وبشرهم، ولا تخوفهم وتنذرهم بالقحط والجفاف؛ فغضب عيله أبوه وزجره لنصحه إياه.

فالاحتكار في كل السلع ممنوع، ومن أهل العلم من منعه في أقوات الناس دون غيرها وهو الراجح، فمن كان عنده شيء من الطعام واحتاجه الناس وجب عليه إخراجه وبيعه بسعر المثل، إذ لا ضرر ولا ضرار، وهذا واجب رجال الحسبة.

فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من احتكر فهو مخطئ"، وفي رواية: "لا يحتكر  إلا خاطئ".

قيل لسعيد بن المسيِّب وهو راوي هذا الحديث عن معمر: فإنك تحتكر؟ـ كان يحتكر الزيت ـ فقال: إن معمراً الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر.

قال الإمام الخطابي رحمه الله: (قوله: "ومعمر كان يحتكر"، يدل على أن المحظور فيه نوع دون نوع، ولا يجوز على سعيد بن المسيِّب في علمه وفضله أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ثم يخالفه كفاحاً، وهو على الصحابي ـ معمر ـ أقل جوازاً وأبعد مكاناً).

هناك فرق بين الاحتكار والادخار، فيجوز للمرء أن يدخر لنفسه ما يكفيه وعياله، فقد صحَّ أن سيد الخلق وهو إمام المتوكلين صلى الله عليه وسلم كان يدخر لنسائه قوت عامهم.

صحَّ عن أنس عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم.

وليس حراماً أن يتاجر الإنسان في الطعام وأن يخزن منه كميات كبيرة أوقليلة، ولكن الحرام أن يحبسه ويخفيه مع حاجة الناس إليه، أما إذا أخرجه عند الحاجة وباعه بسعر المثل ولم يغالي في سعره فليس هذا بمحتكر، والله أعلم.

روى الحسن قائلاً: ثقل معقل بن يسار فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فقال: هل تعلم يا معقل أني سفكت دماً حراماً؟ قال: ما علمت؛ قال: أجلسوني؛ ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئاً لم أسمعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ولا مرتين، سمعته يقول: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة"؛ قال: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غير مرة ولا مرتين.

وعن الحسن كذلك عن الحكم عن عبد الرحمن بن قيس قال: قال قيس: "قد أحرق لي عليٌّ بيادر بالسواد ـ العراق، وذلك لخضرة أشجاره ـ كنتُ قد احتكرتها، لو تركها لربحت بها مثل عطاء الكوفة".

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك , وبفضلك عمن سواك، يا واسع المغفرة، وصلى الله وسلم على إمام الموحدين، وسيد المتوكلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته والتابعين.

--------------------

مذاهب العلماء في توارث من عُمِّي موتُهم، فلم يُعرف أيُّهم مات أولاً

في بعض الأحيان يموت البعض موتاً جماعياً بسبب حرب أووباء، أوحوادث سيارات، أوطائرات، أوقطارات، أوبسبب تفجيرات، أونتيجة حرق، أوغرق، أوهدم، ونحو ذلك، بحيث لا يعرف عن بعض المتوارثين أيهم مات قبل صاحبه، فيحدث مشكلة ونزاعاً، أما إذا عرف موت أحد المتوارثين بعد صاحبه ولو بلحظة ورثه.

لقد كثر الموت الجماعي والفجائي في هذا العصر، لكثرة الهرْج وغيره، كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

ذهب أهل العلم في توارث من عمي موتهم ـ بعضهم من بعض ـ فلم يُعرف أيهم مات أولاً مذهبين، هما:

الأول: لا توارث بينهم، وإنما يرث كلَّ واحد منهم ورثتُه الأحياء.

وهذا مذهب أبي بكر، وزيد بن ثابت، وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب الجمهور من أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، ومن وافقهم، وهذا هو الراجح، لأن من شروط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت الموروث ولم يتحقق ذلك، ولأن قتلى اليمامة، والحَرَّة، وصفين، والجمل لم يورث بعضُهم من بعض.

الثاني: يورَّث كلُّ واحد منهم من الثاني من ماله التليد "القديم"، دون الطريف "وهو ما ورثه من صاحبه"، هذا مذهب عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما من الصحابة، وهو مشهور مذهب أحمد رحمه الله.

واستدل أصحاب هذا القول باستصحاب حياة كل منهما إلى ما بعد موت الآخر، ولأن عمر رضي الله عنه لما وقع الطاعون بالشام، وجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكُتِبَ بذلك إلى عمر، فأمر أن يورَّث بعضُهم من بعض.

ويشترط للتوريث في هذه الحال أن لا يختلف ورثة الموتى المشتبه في ترتيب موتهم، بأن يدعي ورثة كل ميت تأخر موت صاحبهم عن الآخر، وليس هناك بينة، فإن اختلفوا ولم يتوافقوا يتحالفون ولا توارث بينهم حينئذ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم الإمام طيَّب الله ثراه: (فصل: فيمن عمَِّي موتُهم فلم يُعرف أيهم مات أولاً، فالنزاع مشهور فيهم، والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضُهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثتُه الأحياء، وهو قول الجمهور، وقول في مذهب أحمد، لكنه خلاف المشهور في مذهبه.

وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقِط لما جهل حال المالك، كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكاً لما التقطه، لعدم العلم بالمالك.

إلى أن قال:

وأيضاً فالميراث جُعل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله، فإذا مات على هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجعلُ كلِّ واحد منهما وارثاً موروثاً مناقض لمقصود الإرث، فإن كونه وارثاً يوجب أن يكون حياً يخلف غيره، وكونه موروثاً يوجب أن يكون ميتاً مخلوفاً، فكيف يحكم بحكمين متناقضين في حال واحدة؟

وكما أنهم لم يورِّثوه إلا من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور، فيجب أن لا يورثوه مطلقاً لئلا يلزم الدور في نفس الموروث لا في عين الموروث.

وأما إذا عاش أحدُهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم حياتُه بعد الآخر، فإن شرط الإرث ـ وهو العلم بحياته بعده ـ منتفٍ، فلا يجوز توريثه منه)

-------------------

ما أشد حاجة الأمة الإسلامية إلى الورع في البيع والشراء وغيرهما

خرَّج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهما أصح كتابين بعد كتاب الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشترى رجلٌ من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية ـ أي بنت؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".

لا يدري والله المطلع على هذا الحديث أن يعجب أكثر من البائع، أم من المشتري، أم الحكم؟ فكل واحد منهم أشد عجباً وأعظم ورعاً من الآخر.

ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة لأمته إلا لتتخلق بمثل هذه الأخلاق الفاضلة، وتتشبه بهؤلاء الثلاثة: البائع، والمشتري، والحكم، وإلا لتتعامل بالصدق وتحفظ الأمانة، وتحرص على الشرف وحسن السمعة، ولا يستحل أحدُنا ما لا يستحقه، فتحصل الثقة، وتحل البركة، ويخف الطمع، ويصح الورع، وإلا ليحذرنا من سلوك إخوان القردة والخنازير الكفار المعاندين: "من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمتَ عليه قائماً"، وإن كان أهل الكتاب الآن في التعامل الظاهري في البيع والشراء أصدق من كثير من المسلمين، مراعاة لمصالحهم الدنيوية.

نرجو من إخواننا التجار أن يعوا ذلك، وأن يتشبهوا بأسلافهم الأخيار، ولا ينساقوا وراء الطمع والجشع، فيخسروا الدنيا والآخرة، وليعلموا أن الحرام يُذهب الحلال والحرام.

اشترى سليمان عليه السلام الأرضَ التي بنى عليها المسجد الأقصى من رجل، فبعدما لزم البيع قال لصاحب الأرض: اعلم أن أرضك أقيم مما أعطيناك من المال، فهل أنت راضٍ به؟ فما زال الرجل يستزيده ويزيده سليمان إلى أن قنع.

وما فعله سليمان كان يفعله الصحابي حكيم بن حزام، حيث اشترى له غلامه حصاناً بثلاثمائة دينار، فذهب حكيم إلى صاحب الحصان، وقال له: اعلم أن حصانك أقيم عندنا من الثلاثمائة، فاستزاده الرجل فزاده إلى ستمائة دينار.

ورحم الله التاجر القائل:

يا ليتني أبيع الشيء يكسب فيه                   المشتري الربح ديناراً بعشرينا

أحبُّ شيء إلى نفسي معاملـة                  كسب العميـلُ فنأتيه و يأتينـا

نحن لا نطمع من إخواننا التجار، والسماسرة، والوسطاء أن يكونوا بهذا الورع، ولكن نطلب منهم فقط تجنب الحرام البين، وتجنب ما نهى عنه صاحب الشريعة في البيع والشراء من السوم على سوم أخيه المسلم، أوالبيع على بيعه، ومن النجش، وأن يبيع حاضر لبادٍ، ومن الغرر، والخديعة، ومن الغبن الفاحش والغش الواضح، وعن تطفيف المكيال والميزان، ونحو ذلك من المحرَّمات والمنهيات، والله الموفق إلى كل خير، والهادي إلى سواء السبيل.

-------------------

الخيار في البيع

خيار المجلس

خيار الشرط

خيار العيب

خيار التدليس

خيار الغبن

خيار التخيير في الثمن في بيوع الأمانة

 

الإسلام دين العدل والرحمة، والتسامح، والحكمة، ولذلك شرع رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته الخيار في البيع، وحثهم وحضهم على الإقالة فيه وفي غيره، فقال: "من أقال معثراً أقال الله عثرته يوم القيامة" الحديث، لأن الإنسان قد يتعجل في البيع والشراء، أويُخدع، أوتظهر له عيوب في السلعة، فجعل له الرسول الكريم مجالاً للتراجع، ولتدارك ما يمكن تداركه، رفعاً للحرج والمشقة.

فالخيار في البيع هو طلب خير الأمرين، من الإمضاء والفسخ.

وهو أنواع، منها ما هو متفق عليه بين العلماء، ومنها ما هو مختلف فيه، من ذلك:

1.  خيار المجلس

أي المجلس الذي تم فيه العقد.

عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحاً ويُمحقا بركة بيعهما".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا وكانا جميعاً".

ذهب العامةمن أهل العلم أن المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان، وهو الراجح، لتفسير ابن عمر لذلك وهو راوي الحديث، فكان إذا باع أو اشترى وأراد أن يلزم بذلك خرج من المجلس.

وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله أن المراد بالتفرق التفرق بالكلام، يعني: بعني، بعتُك، ولذلك لم يأخذا بخيار المجلس، وما ذهبا إليه مرجوح ومردود بتفسير ابن عمر للمراد، ولأن التفرق عرفاً لا يكون إلا بالأبدان.

وعليه فإذا تبايع رجلان فلكل منهما إمضاء البيع أوفسخه ما داما في المجلس الذي تم فيه البيع، طال هذا المجلس أم قصر، ما لم يشترط أحدهما أوكلاهما إمضاء البيع، ويحرم على أحد المتعاقدين أن يخرج من المجلس بحيلة إسقاط الخيار.

وفي هذا الخيار منافع جليلة وفوائد كثيرة، وفي عدم الالتزام به أضرار بليغة وخسائر فادحة قد تقع بأحد المتعاقدين.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضا الذي شرطه تعالى بقوله: "عن تراضٍ منكم"، فإن العقد يقع بغتة من غير تروٍّ، ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حرماً، يتروى فيه المتبايعان ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منها.

وقال في موضع آخر من الكتاب نفسه:

فلكل من المتبايعين بموجب هذا الحديث الشريف ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان التبايع، فإن أسقطا الخيار بأن تبايعا على أن لا خيار لهما أوأسقطه أحدهما سقط، ولزم البيع في حقهما أوحق من أسقطه منهما بمجرد العقد، لأن الخيار حق للعقد، فيسقط بإسقاطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم يتفرَّقـا أو يخيِّر أحدهما الآخر"، ويحـرم على أحدهما أن يفارق أخاه بقصد إسقاط الخيار، لحديث عمـرو بن شعيـب، وفيه: "ولا يحلُّ له أن يفـارقه خشية أن يستقيله"

2.  خيار الشرط

وهو أن يشترط العاقدان أو أحدهما مدة معلومة، سوى مدة خيار المجلس، وذلك لقوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحلَّ حراماً أوحرَّم حلالاً".

3.  خيار العيب

العيب هو النقص في السلعة.

يحق لكل من المتعاقدين أن يردَّ السلعة إذا ظهر له فيها عيب لم يتبينه عند الشراء، أما إذا علم العيب ساعة الشراء فلا يحل له الخيار.

ويحدد العيب الذي ترد به السلعة العُرف، والمختصون بتلك السلعة.

فإذا ثبت العيب فالعاقد بالخيار، إما فسخ البيع أوأخذ الأرش، وهو الفرق بين قيمة السلعة وهي سليمة، وقيمتها وهي معيبة.

4.  خيار التدليس

والتدليس هو تزيين السلعة المعيبة وإظهارها بمظهر السليمة والحسنة.

وأنواع التدليس كثيرة جداً، منها ما يفعله الباعة في الأسواق المركزية للفاكهة والخضر، حيث يضعون الطيب أعلى والرديء أسفل، وقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحب صبرة فعل ذلك، فأدخل يده فوجد أسفل الطعام مبلولاً، فقال: "من غشَّنا فليس منا"، ومثل طلاء السيارة وصب نوع معين من الزيوت فيها ليخفي خفة محركها، ونحو ذلك.

ومن التدليس تصرية البهائم، ولهذا نهى الشارع عن التصرية، فقال: "لا تصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر".

5.  خيار الغبن

والغبن هو هضم الحق والظلم.

ولخيار الغبن صور عدة نهى الشارع عنها، منها:

o  تلقي الركبان، وهم القادمون من المزارعين من الأقاليم إلى المدينة، يتلقاهم بعض السماسرة والوسطاء، فيشترون منهم بأسعار دون سعـر المثل، لقـوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجَلَب ـ وهم الركبان ـ فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار".

o  النجش، وهو الزيادة في السعر لمن لا يريد شراء السلعة، أونقص السعر عن سعر المثل لمن يريد شراءها، وهو يحدث في بيع من يزيد، أويقول صاحب السلعة: أعطيتُ فيها كذا، وهو لم يُعط هذا المبلغ.

o   بيع المسترسل، والمسترسل هو الذي لا يحسن أن يساوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "غبن المسترسل ربا".

6.  خيار التخيير في الثمن في بيوع الأمانة

وهو إذا كتم البائع السعر الحقيقي وزاد عليه، فالمشتري بالخيار، إما الفسخ وإما الإمضاء

 

***************

الباب الرابع عشر - ركن الترويح عن النفس

 

من نوادر العلماء الإمـــام الأعمــش

سليمان بن مهران، من أعلام التابعين، رأى أنساً وأبابكرة الثقفي، وأخذ بركابه، فقال له يا بني، إنما أكرمك ربك؛ كان لطيف الخُلُق، مزاحاً، لم تفته تكبيرة الإحرام سبعين سنة، وتوفي سنة سبع، وقيل ثمان، وقيل تسع وأربعين ومائة رحمه الله.

وله نوادر منها:

1.  كانت له زوجة من أجمل نساء الكوفة، فجرى بينهما كلام، وكان الأعمش قبيح المنظر، فجاءه رجل يُقال له أبوالبلاد يطلب الحديث منه، فقال له: إن امرأتي نشزت عليَّ، فادخل عليها وأخبرها بمكاني من الناس؛ فدخل عليها، وقال: إن الله تبارك وتعالى قد أحسن قسمتك، هذا شيخنا وسيدنا، وعنه نأخذ أصل ديننا، وحلالنا وحرامنا، فلا يغرنك عموشة عينيه، ولا خموشة ساقيه؛ فغضب الأعمش، وقال له: يا خبيث، أعمى الله قلبك، قد أخبرتها بعيوبي؛ ثم أخرجه من بيته.

2.  ومرة أراد إبراهيم النخعي أن يماشيه، فقال له الأعمش: إن رآنا الناس معاً قالوا: أعور وأعمش؛ فقال النخعي: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟! فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم؟

3.  وجلس يوماً في موضع فيه خليج من ماء المطر، وعليه فروة خَلِقة، فجاءه رجل وقال: قم عدني هذا الخليج، وجذب بيده، فأقامه وركبه، وقال: "سبحان الله سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"؛ فمضى به الأعمش حتى توسط الخليج، ورمى به وقال: "وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين"، ثم خرج وتركه يتخبط.

4.  جاء رجل إلى الأعمش يطلبه فقيل له: خرج مع امرأة إلى المسجد؛ فجاءه ووجدهما في الطريق، فقال: أيكما الأعمش؟ فقال الأعمش: هذه؛ وأشار إلى المرأة.

5.  عاده أقوام في مرضه، فأطالوا الجلوس عنده، فأخذ وسادته وقام، ثم قال: شفى الله مريضكم فانصرفوا.

6.  ذكر عنده يوماً قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن قيام اليل بال الشيطان في أذنه"، فقال: ما عمشت عيناي إلا من بول الشيطان في أذني.

7.  سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث، فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط، وقال: هذا إسناده.

8.  قال رجل للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ فقال: إن ذلك نكاح ما شهدناه!

-------------------------

ملح وطرائف

   سأل الرشيد الأصمعي عن مسألة، فقال: على الخبير سقطت؛ فقال الربيع وزيره: أسقط الله أضراسك، أبهذا يخاطب أمير المؤمنين؟!

   سئل ابن المبارك رحمه الله عن الحديث الذي جاء في العدس أنه قدِّس على لسان سبعين نبياً، فقال: ولا على لسان نبي واحد، وإنه مؤذٍ منفخ، قرين البصل في القرآن، وهو شهوة اليهود التي قدموها على المن والسلوى.

   ملوك الفاكهة هي: العنب، والرطب، والرمان.

   كان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن مسألة فيها أغلوطة، قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس.

   وسأل عمرو بن قيس مالك بن أنس عن مُحْرم نزع نابي ثعلب، فلم يرد عليه شيئاً.

   سأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة يجدها الإنسان في ثوبه، أوفي خفه، أوفي جبهته من حصى المسجد؛ فقال: ارم بها؛ قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد؛ فقال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها؛ فقال الرجل: سبحان الله! ولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح؟

   قيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: يكفيه منها كوكب الجوزاء.

   ذكر الأصمعي رحمه الله رجلاً بالتصحيف، فقال: كان يسمع فيعي غير ما يسمع، ويكتب غير ما يعي، ويقرأ في الكتاب غير ما هو فيه.

   وذكر رجل آخر بالتصحيف، فقال: كان إذا نسخ الكتاب مرتين عاد سُريانياً.

   سأل رجل من أهل العراق ابن عمر رضي الله عنهما عن دم البعوض أنجس هو؟ فقال: سبحان الله، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي، وتسألون عن دم البعوض؟

   سمع عمر رضي الله عنه رجلاً ينبه على تمرة، فقال له: كلها يا تافه الورع.

   مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال له: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده.

   كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله جالساً عند الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد لحاناً، فقــال: يا غلام ادع لي صالح؛ فقال الغلام: يا صالحاً؛ قال له الوليد: انقص ألفاً؛ فقال عمر بن عبد العزيز: فأنتَ يا أمير المؤمنين فزد ألفاً.

   قال الأصمعي رحمه الله: مررتُ بكناس بالبصرة يكنس كنيفاً ويغني:

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا         ليـوم كريهـة وسـداد ثغـر

فقلت: أما سداد الكنيف فأنت مليء به، أما الثغر فلا علم لنا كيف أنت فيه؛ وكنتُ حديث السن وأردتُ العبث به، فأعرض عني ملياً، ثم أقبل عليَّ متمثلاً يقول:

وأكرمُ نفسي إنني إن أهنتها          وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقلت: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له؛ فقال لي: والله إن من الهوان لشراً مما أنا فيه؛ فقلت: ما هو؟ قال: الحاجة إليك وإلى أمثالك.

------------------------

هل تعلم؟

1-هل تعلم أن عبد الله بن عباس، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن شداد بن الهادي رضي الله عنهم أبناء خالات؟

2.  هل تعلم أن خديجة رضي الله عنها كانت متزوجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين، هما:

   عتيق بن عائذ المخزومي فولدت له بنتاً.

   وتزوجت بعده أبو هالـة نبـاش بن زرارة الأسيـدي، مـات بمكة في الجاهلية، وقد ولدت له هند بنت أبي هالة.

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وعمرها خمس وأربعون سنة، رُزق جميع ولده منها، وأنه جلس معها 22 سنة لم يتزوج عليها غيرها وفاء لها.

3.  هل تعلم أن السمك لا رئة له، وأن الجمل لا مرارة له، وأن الفرس لا طحال له، وأن النعامة لا مخ لها؟

4.  وهل تعلم أن أشجع الحيوانات الأسد، وأن أجبنها الجاموس؟

5.  وهل تعلم أن الإمام محمد بن شهاب الزهري حفظ القرآن في ثمانين يوماً؟

6.  وهل تعلم أن زيد بن ثابت تعلم لغة يهود في أسبوعين، عندما طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمها، كما جاء في صحيح البخاري، فكان يترجم له ما يقولون ترجمة فورية، ويكتب له إليهم، ويبين ما يكتبون؟

7.  وهل تعلم أن ثلاثة من أهل البصرة لم يموتوا حتى رأى كل واحد منهم مائة ذكر من صلبه، وهم أنس بن مالك، وأبوبكرة، وخليقة بن بدر، كما قال ابن قتيبة في المعارف والنووي في تهذيب الأسماء واللغات؟

-----------------

اختبر معلوماتك

اختبر معلوماتك

س. كل رسول نبي ليس على إطلاقه، فهناك رسل ليسوا بأنبياء، من هم؟

س. من هم أجمل الصحابة من الرجال؟

س. من هو الصحابي الذي شرب لبن سبع شياه ولم يشبع، وعندما أسلم لم يكمل لبن شاة واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء؟

س. في أي سنة بدأ العمل بالتاريخ الهجري؟ وفي عهد من من الخلفاء؟ وما السبب المباشر لذلك؟

س. في أي سنة جمع عمر المسلمين على صلاة القيام في رمضان؟ ومن قدمه عليهم؟

س. من الصحابي الذي روى عنه صلى الله عليه وسلم؟ وأي شيء رواه عنه؟

س. ما على من نذر أن يطوف على أربع؟

س. سمى الله في القرآن عشرة من الطيور، ما هي؟ وفي أي السور؟

س. هناك خمسة لم يرتكضوا في الرحم، من هم؟

س. لقد أهلك الله عز وجل أمة من الأمم بالنمل، ما هي؟

س. ورد في حديث رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: لا زكاة في الكسعة، والجبهة، والنُّخة، فما المراد بذلك؟

س. هل تعرف كوعك من بوعك؟

س. ثلاثة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم: الابن، والأب، والجد، من هم؟

س. للمدينة المنورة إحدى عشر اسماً، ما هي؟

 

س. "كل رسول نبي" ليس على إطلاقه، فهناك رسل ليسوا بأنبياء، من هم؟

ج. جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فهؤلاء الملائكة رسل وليسوا بأنبياء، قال تعالى: "الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس".    ã

س. من هم أجمل الصحابة من الرجال؟

ج. أجمل الصحابة من الرجال أربعة، هم:

1. جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، الذي وصف بأنه يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً يقل في ذروة البعير من طوله، وكانت نعاله ذراعاً، وطوله ستة أذرع.

2.  دحية الكلبي الذي كان جبريل يتمثل بصورته كثيراً من حسنه.

3.  عُكاشة بن محصن رضي الله عنه الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة.

4.  والزِّبرقان بن بدر رضي الله عنه، وكان اسمه حصن بن بدر، وسمي الزبرقان لجماله، ولهذا كان يقال له قمر نجد.    ã

س. من هو الصحابي الذي شرب لبن سبع شياه ولم يشبع، وعندما أسلم لم يكمل لبن شاة واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"؟

ج. هو جهجـاه بن سعيـد الغفـاري رضي الله عنه، وكان من فقـراء المهـاجرين، وأجيراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.    ã

س. في أي سنة بدأ العمل بالتاريخ الهجري؟ وفي عهد من من الخلفاء؟ وما السبب المباشر لذلك؟

ج. بدأ العمل بالتاريخ الهجري في ربيع الأول سنة 16 ﻫ، في عهد عمر بن الخطاب، وسبب ذلك أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها نعمل، قد قرأنا صكاً منه محله شعبان، فما ندري أي الشعبانين الماضي أم الآتي؛ فعمل عمر على كتب التاريخ، وأراد أن يجعل أوله شهر رمضان، فرأى أن الأشهر الحرم تقع في سنتين فجعله من المحرم وهو آخرها فصيَّره أولاً، لتجتمع كلها في سنة واحدة.    ã

س. في أي سنة جمع عمر المسلمين على صلاة القيام في رمضان؟ ومن قدمه عليهم؟

ج. في رمضان سنة 14ﻫ.

روي أن عمر رضي الله عنه أمر أبا حثمة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أن يصلوا بالناس في شهر رمضان، فسمع الناس يقولون: فلان أقرأ من فلان، وفلان أحسن صوتاً بالقرآن من فلان؛ فنهاهم عن ذلك، وقال: أتفعلون ذلك وأنتم أنتم؟ فكيف بمن جاء بعدكم؟ وكانوا قبل ذلك يصلون في المسجد فرادى، ثم قدم أبياً فصلى بهم.    ã

س. من الصحابي الذي روى عنه صلى الله عليه وسلم؟ وأي شيء رواه عنه؟

ج. هو تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، وهذه منقبة لم يشاركه فيها غيره، وقد روى عنه قصة الجساسة التي خرجها مسلم في صحيحه وغيره.    ã

س. ما على من نذر أن يطوف على أربع؟

ج. يطوف طوافين.    ã

س. سمى الله في القرآن عشرة من الطيور، ما هي؟ وفي أي السور؟

ج. البعوضة في البقرة، والغراب في المائدة، والجراد في الأعراف، والنحلة في النحل، والسلوى في البقرة وطه، والنمل في النمل، والهدهد في النمل أيضاً، والذباب في الحج، والفراش في القارعة، والأبابيل في الفيل.    ã

س. هناك خمسة لم يرتكضوا في الرحم، من هم؟

آدم وحواء عليهما السلام، وناقة صالح، والكبش الذي فدي به إسماعيل، وعصا موسى عندما تحولت ثعباناً مبيناً.    ã

س. لقد أهلك الله عز وجل أمة من الأمم بالنمل، ما هي؟

جُرْهُم الذين جاوروا إسماعيل وأمه عليهما السلام بمكة.    ã

س. ورد في حديث رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: "لا زكاة في الكسعة، والجبهة، والنُّخة"، فما المراد بذلك؟

ج. فسره أبوعبيد وغيره بأن الكسعة الحمير، والجبهة الخيل، والنخة العبيد؛ وقال الكسائي: إنما هي النخة بضم النون، وهي البقر العوامل.

هذه كلها لا زكاة فيها إلا إذا أعدت عروضاً للتجارة.   ã

س. هل تعرف كوعك من بوعك؟

ج. العظم الذي يلي إبهام اليد هو الكوع، والعظم الذي يلي إبهام الرجل هو البوع.   ã

س. ثلاثة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم: الابن، والأب، والجد، من هم؟

ج. هم:

   عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم.

   ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي رضي الله عنهم.   ã

س. للمدينة المنورة إحدى عشر اسماً، ما هي؟

ج. كانت المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم اسمها يثرب، وقد سميت بذلك لأن يثرب أول رجل من العماليق سكنها، وقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم اسم يثرب لما فيه من لفظ التثريب وهو اللوم، وسماها طيبة والمدينة.

وروي أن لها في التوراة أحد عشر اسماً، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمسكينة، والجابرة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، والمجبورة، والعذراء، والمرحومة، والله أعلم.

-------------------

فتاوى

فتاوى

متى؟ وأين ابتدعت ما تعرف بصلاة الرغائب؟

متى يفطر المريض في رمضان؟

ما هي الدواب التي نهى الشارع عن قتلها؟

بمَ يهجر تارك الصلاة؟

ما الأشياء التي لا تُرَدُّ إذا قدمت للإنسان؟

 

متى؟ وأين ابتدعت ما تعرف بصلاة الرغائب؟

ابتدعت في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.

حكى الطرطوشي رحمه الله في أصل صلاة الرغائب عن أبي محمد المقدسي قال: (لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما أحدثت عندنا في سنة 448هـ، قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع، وما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، فشاعت في المسجد وانتشرت في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استمرت كأنها سُنة).

انظر كيف تنتشر البدع وتفشو؟

متى يفطر المريض في رمضان؟

إذا غلب على ظنه زيادة المرض.

أوتأخر البرء.

أوأصابته المشقة بالصوم.

أوأمره الطبيب المسلم الثقة بذلك.

ما هي الدواب التي نهى الشارع عن قتلها؟

هي: الضفدع، والنمل إلا إذا أذى فيجوز قتله، وليس تحريقه بالنار والنحل، والهدهد، والصُّرَد.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد".

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع.

بمَ يهجر تارك الصلاة؟

تارك الصلاة كسلاً كافر كفراً أكبر في أرجح قولي العلماء، يقتل إذا امتنع من أداء صلاة واحدة حتى خرج وقتها عند عامة أهل العلم، فقط منهم من قال يُقتل كفراً، ومنهم من قال يُقتل حداً، وهذا مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، هذا إذا رُفِع أمره إلى القاضي أوالحاكم.

وأقل ما يقابل به تارك الصلاة ما يأتي زجراً له ولأمثاله:

1.  لا يُسلم عليه.

2.  لا تجاب دعوته.

3.  لا يُعاد إذا مرض.

4.  لا يُزار.

5.  لا يؤاكل.

6.  لا يُزَوَّج، وإن كان متزوجاً فرِّق بينه وبين زوجته.

7.  ليست له قوامة على أولاده وبناته.

8.  لا يُصلى عليه إذا مات ولا يستغفر له.

ما الأشياء التي لا تُرَدُّ إذا قدمت للإنسان؟

هي الطيب، والوسادة، واللبن.

روى ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد: الطيب، والوسادة، واللبن".

-------------------

حكم بالغة، وأقوال نافعة، وأمثلة جارية

هذه مجموعة من الحكم الوجيزة، والأقوال المفيدة، والكلمات المضيئة، في أبواب شتى وأغراض عدة، بعضها منثور، والآخر منظوم..

 

عجبت لمبتاع الضـلالة بالهدى        وللمشتري دنياه بالدين أعجب

وأعجب من هذين من باع دينه        بدنيا سواه فهو من ذين أعجب

   قال مالك رحمة الله: الأدب أدب الله، لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله، لا خير الآباء والأمهات.

   من دعاء الإمام أحمد رحمه الله: "اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق، وهو يظن أنه على الحق، اللهم فرده إلى الحق رداً جميلاً حتى يكون من أهله".

   عن سوار بن شبيب أنه قال لابن عمر رضي الله عنهما: ما تقول في فتية شببة ظراف نظاف، يقرأون القرآن، ويقومون الليل، ولكن يكفِّر بعضهم بعضاً؟ يعني بهم الخوارج، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً"، أو كما قال.

   عطس رجل بحضرة ابن عمر فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول اله صلى الله عليه وسلم.

 

***************

نبذة عن مدير الموقع الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد

   ولد في 1947 م بقرية ود البر الخوالدة بولاية الجزيرة بالسودان.

   تخرج في كلية الآداب جامعة الخرطوم في مارس 1969م.

   عمل مدرساً بالمدارس الثانوية بعدد من مدن السودان لمدة تسع سنوات.

   عمل مدرساً بمعهد اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة حرسها الله من 1398هـ إلى 1422 هـ.

   يعمل الآن أستاذاً مشاركاً بمعهد اللغة العربية بجامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم.

   له أكثر من 120 مؤلفاً في العقيدة الإسلامية، والفقه، والتربية، منها ما طبع، ومنها ما هو تحت الطبع.

   هذا بجانب العديد من المقالات الصغيرة والمطويات، جلها بالموقع.

   له ستة دروس أسبوعية بمساجد الخرطوم، في دواوين السنة والفقه والسيرة على عقيدة أهل السنة والجماعة السلف الصالح.

   قدم عدداً من المحاضرات واشترك في عدد من الندوات.

   شارك في إقامة دورات للعلوم الشرعية واللغة العربية في كل من باكستان، وماليزيا، والفلبين، وروسيا.

اللهم اختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها على خير، والحمد لله الذي به تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.

******************* 

الفهرس العام :

الباب التاسع -ركن السلوك
الاستقامة "قل آمنتُ بالله ثم استقم"
السامع شريك المغتاب، والساكتُ أحد المغتابين
لا يمكَّن حتى يُبتلى
البول قائمـاً
حكم الشرب قائماً
متى يجوز تمني الموت؟ ومتى لا يجوز؟
الرِّياء خطره وأنواعه
"لا يُلدغ مؤمنٌ من جحر مرتين" متفق عليه
الخلاف شر
أفضل الصدقة سقي الماء، وأكبر جرم حرمان سقيها
أبخل الناس من بخل بالسلام
"أعجزُ الناس من عجز عن الدعاء" الحديث
إنَّ من الناس من لا يُعاب
أمور هامة في ذكر الله والصلاة على النبي
الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ
كتمان السر وعدم إفشائه
الكريم لا يعدمُ ما يتصدقُ به ألا تحبون أن تكونوا كأبي ضَمْضَمْ ؟
وأي داء أدوى من البخل؟
الحسد
حق المسلم على أخيه المسلم
احذر الثالوث الخطر: الغيبة والنميمة والبهت
الظلم ظلمات في الآخرة ونزع للبركات في الدنيا
احذر أخي الكريم مبطلات الأعمال، فليس كل عمل يتقبل "إنما يتقبل الله من المتقين"
حظوظ النفس
احذروا أبنائي الطلاب والطالبات شهادة الزور
الباب العاشر - ركن العظات والعبر
أيها المسلم ماذا أعددت ليوم رحيلك؟
أخي الحبيب .. قف قبل أن تنزلق في المعصية
العلماء هم الدعاة
الرسل والرسالة
ميراث النبي صلى الله عليه وسلم
خطر الاستهانة بالذنوب وكيفية التوبة الصادقة
الأمة الإسلامية .. والهزائم الداخلية!!
الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي
الدروس والعبر المستفادة من سقوط بغداد عاصمة الخلافة
الاستعداد ليوم الرحيل
عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك
من مناقب حكامنا السابقين
لحوم العلماء مسمومة
الباب الحادي عشر - ركن السير والتراجم
سجن شيخ الإسلام ابن تيمية عدد مراته، مدته، أسبابه، نتائجه وآثاره
من غرائب الرؤى وعجائب التعبير وشيء من سيرة إمام المعبرين وأحد سادات التابعين محمد بن سِيرِين المتوفى 110ﻫ
هكذا فليكن القضاة والحكام محمد بن بشير القاضي (المتوفى 198ﻫ)
الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة
بين علماء الآخرة وعلماء السوء
من علماء الآخرة أبو إسحاق إبراهيم الحربي رحمه الله
من علماء الآخرة الليث بن سعد
رسالة الليث بن سعد لمالك
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
ثمار من غرس النبوة
فتح العرب للأندلس
الباب الثاني عشر - ركن العبادات
ما يُضمُّ بعضُه إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة وما لا يُضمّ
العمرة
تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه
الإحرام: مواقيته، أوجهه، محظوراته وفديتها
أركان الحج، وواجباته، وسننه
من شروط حج المرأة واعتمارها
من حجَّ بمال حرام فليس له حج
ما على من نوى الحج وعزم عليه؟
مسائل في الحج
الأضحية عبادة شرعية وليست عادة اجتماعية
التكبير في العيدين وأيام التشريق
مذاهب أهل العلم في صيام ستة شوال
هذه ليست من المفطرات للصائم، وهذه من المذهبات بأجر الصائم
سجود القرآن الكريم
متى يمسك الصائم عن الأكل والشرب وجميع المفطرات؟
السواك للصائم
ماذا على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟
غسل الميت
التبليغ في الصلاة خلف الإمام من غير ضرورة يبطل صلاة المبلغ
الوسوسة سببها، أنواعها، خطرها، علاجها
الأوقات التي تحرم وتكره الصلاة فيها
أيهما أولى لمن جاء ووجد الإمامَ في الجلوس الأخير:الدخول معه؟ أم ينتظر جماعة أخرى؟
حكم قتل غير المقاتلين من الرهبان، والعجزة،والنساء، والأطفال
النهي عن الصلب والتمثيل إلا لمن مثل
مذاهب أهل العلم في جلسة الاستراحة في الصلاة
تلقين الإمام أوالفتح عليه في الصلاة إذا ارتجَّ عليه، أوأخطأ
ما يبطل الصلاة من الكلام وما لا يبطلها
الصلاة على الميت الغائب
حقوق الميت وذويه الكفائية على الأهل، والجيران، والمعارف
إلى متى يُصلَّى على الميت قبل، وبعد الدفن؟
مذاهب أهل العلم في إفراد يوم السبت بصيام
الجمع بين الصَّلوات في الحضر بسبب المطر، والوحل، والبرد، والثلج، ونحوها
رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة متى ترفع؟ ومتى لا ترفع؟ وكيفية رفعهما؟
الأيمان: حكمها، ما يكفر منها وما لا يكفر، كفارتها، اليمين الغموس
مذاهب العلماء في المسح على العمامة، والجوارب، والخمار
صلاة الضحى
صلاة المريض
الجهاد بالنفس في سبيل الله
مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال "
لا يحل لأحد أن يُصَوم أو يُفطّر المسلمين بالحساب فيتقلد إثمهم ويبوء بوزرهم
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"
مذاهب أهل العلم في اختلاف المطالع
هديه صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح في تلاوة القرآن في شهر الصيام
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في القيام في رمضان
صلاة التراويح
الوتر
الاعتكاف وأحكامه
احذر أخي المسلم .. أهون الصيام ترك الطعام
الممسكون كثير.. والصائمون قليل
الباب الثالث عشر - ركن المعاملات
مَنْ ظُلم ثم وجد فرصة فيمن ظلمه
صاحب الطعام يحبُّ المحل وصاحب الماشية يحبُّ الغيث
مذاهب العلماء في توارث من عُمِّي موتُهم، فلم يُعرف أيُّهم مات أولاً
ما أشد حاجة الأمة الإسلامية إلى الورع في البيع والشراء وغيرهما
الخيار في البيع
الباب الرابع عشر - ركن الترويح عن النفس
من نوادر العلماء الإمـــام الأعمــش
ملح وطرائف
هل تعلم؟
اختبر معلوماتك
فتاوى
حكم بالغة، وأقوال نافعة، وأمثلة جارية
نبذة عن مدير الموقع الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد


 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج13. الصحاح في اللغة الجوهري

      ج13. الصحاح في اللغة الجوهري يقول الراعي لصاحبه من بعيدٍ: ياهِ ياهِ، أي أقبل. قال ذو الرمّة : يُنادي بيَهْياهٍ وياهٍ كأنَّه ...